السيرة النبوية وأخبار الخلفاء

فلما دخلت السنة السادسة والثلاثون
تشاوروا في مسيرهم فقال الزبير: [عليكم بالشام] «5» بها الأموال والرجال، وقال ابن عامر: البصرة فإن غلبتهم عليها فلكم الشام، إن معاوية قد سبقكم إلى الشام وهو ابن عم عثمان، وإن البصرة لي بها صنائع «6» ولأهلها في طلحة هوى، وكانت عائشة تقول: نقصد المدينة، فقالوا لها: يا أم المؤمنين! دعي المدينة فإن [من] «7» معك [لا يقرنون] «7» لتلك الغوغاء، واشخصي معنا إلى البصرة، فإن أصلح الله هذا الأمر كان الذي نريد، وإلا فقد بلغنا ويقضي الله فيه ما أحب، وكلموا حفصة ابنة عمر أن تخرج معهم فقالت: رأيي تبع لرأي عائشة، فأتاها عبد الله بن عمر فناشدها الله أن تخرج، فقعدت وبعثت إلى عائشة أن أخي حال بيني وبين الخروج، فقالت: يغفر الله لابن عمر. ثم نادى منادي طلحة والزبير: من كان عنده مركب وجهاز، وإلا فهذا جهاز ومركب، فحملوا على ستمائة ناقة [سوى] «7» من كان له مركب، وكانوا نحو ألف نفس، وتجهزوا بالمال، وشيعهم
__________
(1) من الفتوح، وفي الأصل: عليه.
(2) من الفتوح، وفي الأصل: قد.
(3) زيد من الفتوح 2/ 279.
(4) زيد بناء على الفتوح.
(5) زيد من الفتوح، وراجع أيضا الطبري 5/ 166.
(6) من الطبري، وفي الأصل: صنايعا.
(7) زيد من الطبري 5/ 167.

(2/532)


نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلهن بمكة حاجّات إلا أم سلمة فإنها سارت «1» إلى المدينة، فلما بلغوا ذات عرق ودعت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبكين وبكى الناس، فما رأوا بكاء أكثر من ذلك اليوم، وسمي يوم النحيب «2» . وجعلن يدعون على قتلة عثمان الذين سفكوا في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم الحرام، ثم انصرفن، ومضت عائشة وهي تقول: اللهم! إنك تعلم أني لا أريد إلا الإصلاح فأصلح بينهم.
وبعثت أم الفضل حين خرجت عائشة ومن معها من مكة إلى علي رجلا من جهينة «3» قالت له: اقتل في كل مرحلة بعيرا «4» وعليّ ثمنه، وهذه مائة دينار وكسوة، وكتبت معه «أما [بعد! فإن] «5» طلحة والزبير وعائشة خرجوا من مكة يريدون البصرة» فقدم المدينة وأعطى عليا الكتاب، فدعا علي محمد بن أبي بكر فقال له:
ألا ترى إلى أختك خرجت مع طلحة والزبير! فقال محمد بن أبي بكر: إن الله معك ولن يخذلك، والناس ناصروك «6» .
ثم قام علي «7» فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، تهيئوا للخروج إلى قتال أهل الفرقة فإني سائر إن شاء الله، إن الله بعث رسولا صادقا بكتاب «8» ناطق وأمر واضح، لا يهلك عنه «9» إلا هالك، وإن في سلطان الله عصمة «10» أمركم فأعطوه طاعتكم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الإسلام ليأرز «11» إلى المدينة كما
__________
(1) في الأصل: سارة- كذا.
(2) من الطبري 5/ 173، وفي الأصل: النجيب.
(3) من الطبري 5/ 167 والفتوح 2/ 286.
(4) من الفتوح، وفي الأصل: بعير.
(5) زيد من الفتوح.
(6) من الفتوح 2/ 287، وفي الأصل: لا يضرك.
(7) وراجع لهذه الخطبة الطبري 5/ 163 و 164 والفتوح 2/ 287.
(8) من الطفري والفتوح، وفي الأصل: كتاب.
(9) من الطبري، وفي الأصل: عليه.
(10) من الطبري والفتوح، وفي الأصل: عظمة.
(11) من كتب الأحاديث، وفي الأصل: ليرزا.

(2/533)


تأرز «1» الحية إلى جحرها» . انهضوا إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم، لعل الله يصلح بكم ذات البين.
وبعث «2» علي الحسن بن علي وعمار بن ياسر إلى الكوفة لاستنفارهم «3» ، فلما قدموا الكوفة [قام] «4» أبو موسى الأشعري في الناس وكان واليا [عليها] «4» وأخبرهم بقدوم الحسن واستنفاره إياهم إلى أمير المؤمنين على إصلاح البين.
وقدم زيد بن صوحان «5» من عند عائشة معه كتابان من عائشة إلى أبي موسى والي الكوفة وإذا في كل كتاب منهما «بسم الله الرحمن الرحيم- من عائشة أم المؤمنين إلى عبد الله بن قيس الأشعري- سلام عليك! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد! فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت، وقد خرجت مصلحة بين الناس، فمر من قبلك بالقرار في منازلهم والرضا بالعافية حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين، فإن قتلة عثمان فارقوا الجماعة وأحلوا بأنفسهم البوار» فلما قرأ الكتابين «6» وثب عمار بن ياسر «7» فقال: أمرت عائشة بأمر، وأمرنا بغيره، أمرت أن تقر في بيتها، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فهوذا تأمرنا بما أمرت، وركبت ما أمرنا به، ثم قال «8» : هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخرجوا إليه، ثم انظروا في الحق ومن الحق معه. ثم قام الحسن بن علي فقال: يا أيها الناس! أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، لعل الله يصلح بينكم. ثم قام هند بن عمرو البجلي فقال: إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا ابنه فاتبعوا قوله وانتهوا
__________
(1) من كتب الأحاديث، وفي الأصل: ترزا.
(2) راجع الطبري 5/ 198 والفتوح 2/ 290.
(3) في الأصل: لاستنقادهم.
(4) زيد من الفتوح.
(5) من الطبري 5/ 188، وفي الأصل: صرحان.
(6) في الأصل: الكتابان.
(7) راجع أيضا الفتوح 2/ 291.
(8) راجع أيضا الفتوح 2/ 292، والطبري 5/ 189.

(2/534)


إلى أمره، فقام حجر بن عدي الكندي فقال: أيها الناس! أجيبوا أمير المؤمنين، وانفروا خفافا وثقالا بأموالكم وأنفسكم «1» . ثم قال الحسن: أيها الناس! إني غاد، فمن شاء منكم فليخرج معي على الظهر، ومن شاء فليخرج في الماء، فأجابوه، وخرج معه تسعة آلاف نفس بعضهم على البر وبعضهم على الماء، وساروا حتى بلغوا ذا قار، وخرج علي من المدينة معه ستمائة رجل، وخلف على المدينة سهل بن حنيف «2» ، فالتقى هو وابنه الحسن مع من خرج معه من الكوفة بذي قار، فخرجوا جميعا إلى البصرة ولم يدخل علي الكوفة، وكتب إلى المدينة إلى سهل بن حنيف أن يقدم «3» عليه ويولي «4» على المدينة أبا حسن المازني «5» ؛ والتقى مع طلحة والزبير وعائشة بالجلحاء»
على فرسخين من البصرة، وذلك لخمس خلون من جمادى الآخرة، وكان علي كثيرا ما يقول: يا عجب كل العجب، من جمادى ورجب! فكان من أمرهم ما كان.
وقتل «7» ابن جرموز الزبير ثم أتى عليا يخبره فقال عليّ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] «8» «قاتل ابن صفية بالنار» فقال ابن جرموز: إن قتلنا معكم فنحن في النار! وإن قاتلناكم فنحن في النار! ثم بعج «9» بطنه بسيفه فقتل نفسه. وأما طلحة «10» فرماه مروان بن الحكم بسهم من ورائه، فأثبته فيه وقتله، وحمله إلى
__________
(1) راجع لكل ذلك الطبري 5/ 189.
(2) راجع الكامل 3/ 110.
(3) في الأصل: تقدم، والتصحيح من طبقات ابن سعد 3/ 1/ 20.
(4) في الأصل: تولى، ومبنى التصحيح على الطبقات.
(5) راجع أيضا تاريخ اليعقوبي 2/ 181.
(6) من الكامل 3/ 120، وفي الأصل: بالحلحاء.
(7) في الأصل: قاتل، وراجع الطبري 5/ 205 والأخبار الطوال 148 والفتوح 2/ 312.
(8) زيد من الفتوح.
(9) أي شق.
(10) راجع أيضا الفتوح 6/ 326.

(2/535)


البصرة فمات بها، فقبر طلحة بالبصرة، وقتل الزبير بوادي السباع؛ وكان كعب بن سور قد علق المصحف في عنقه ثم يأتي هؤلاء فيذكرهم، ويأتي هؤلاء فيذكرهم حتى قتل «1» .
وكان علي ينادي مناديه: «لا تقتل مدبرا، ولا تذفف «2» على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن، ولم يقتل بعد آن واحدا «3» .
فلما اطمأن الناس بعث «4» علي بعائشة مع نساء من أهل العراق إلى المدينة، وأقام بالبصرة خمسة عشر يوما ثم خرج إلى الكوفة، وولى على البصرة عبد الله بن عباس، وولى الولاة في البلدان، وكتب إلى المدن بالقرار والطاعة.
ثم إن أبا مسلم الخولاني «5» قال لمعاوية: على ما تقاتل عليا وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وله من القدم والسابقة ما ليس لك وإنما أنت رجل من الطلقاء؟ فقال له معاوية: أجل! والله ما نقاتل عليا، وأنا [لست] «6» أدعي في الإسلام مثل الذي له، ولكن أقاتله على دم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأنا أطلبه بدمه، فقال أبو مسلم: إني «7» أستخبر لك عن ذلك، فركب راحلته وانتهى إلى الكوفة، ثم نزل عن راحتله وأتى عليا ماشيا والناس عنده ولا يعرفه أحد، فقال: من قتل عثمان؟ فقال علي: الله قتل عثمان وأنا معه، فخرج أبو مسلم ولم يتكلم، ومضى حتى انتهى إلى راحلته فركبها، ولحق بالشام فانتهى إلى معاوية وهو يثقل، فقيل له: هذا أبو مسلم قد جاء، فعانقه معاوية وسأله عن سفره وخاف أن يكون «8» قد جاء بشيء مما يكره،
__________
(1) وراجع أيضا الكامل 3/ 122 و 123 وتاريخ الإسلام 2/ 149.
(2) في الأصل: يدفن، والتصحيح بناء على الطبري 5/ 223، وراجع أيضا الأخبار الطوال 151.
(3) في الأصل: لواحدا.
(4) راجع الطبري 5/ 225.
(5) راجع أيضا الأخبار الطوال 162 وسمط النجوم 2/ 447 وتاريخ الإسلام 2/ 168.
(6) زيد من الأخبار الطوال.
(7) في الأصل: ان.
(8) في الأصل: يكن.

(2/536)


فقال أبو مسلم: والله لتقاتلن عليا أو لنقاتلنه، فإنه قد أقر بقتل أمير المؤمنين عثمان، فقام معاوية فرحا وصعد المنبر واجتمع إليه الناس وحمد الله وأثنى عليه، وقام أبو مسلم خطيبا وحرض الناس على قتال علي؛ فصح خروج أهل الشام قاطبة «1» على علي وطلبهم إياه بدم عثمان.
ثم إن حجر بن الأدبر «2» قدم على علي فقال: يا أمير المؤمنين! الجماعة والعدد والمال مع الأشعث بن قيس بآذربيجان فابعث إليه فليقدم، فكتب إليه «3» علي «بسم الله الرحمن الرحيم- من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس، أما بعد! فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم واحمل ما غللت «4» من المال» . فكتب إليه الأشعث بن قيس «أما بعد! فقد جاءني كتابك بأن أقدم عليك وأحمل «5» ما غللت من مال الله، فما أنت وذاك! والسلام» ، ثم قال الأشعث: والله! لأدعنه بحال مضيعة، ولأفسدن عليه الكوفة، ثم ارتحل من آذربيجان وهو يريد معاوية، وبلغ ذلك عليا وشق عليه خروجه إلى معاوية، فقال حجر بن الأدبر: يا أمير المؤمنين! ابعثني إلى الأشعث بن قيس فأنا أعرف به وأرفق، وإن هو خوشن لم يجب أحدا، قال له علي: سر إليه، فسار حجر إليه فأدركه بشهرزور «6» فقال له حجر: يا أبا محمد! أنشدك الله أن تأتي معاوية وتدع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأشعث: أوما سمعت كتابه إليّ؟ فقال حجر: إنك [إن] «7» أتيت معاوية أقبلنا «8» جميعا إلى الشام، وأنشدك الله ألا نظرت إلى أيتام قومك وأياماهم! فإني لا
__________
(1) في الأصل: قاضية.
(2) هو حجر بن عدي- راجع الإصابة.
(3) وراجع لهذه المكاتبة وما ترتب عليها الفتوح 2/ 267 وما بعده.
(4) في الأصل: عملت، والتصحيح مما سيأتي.
(5) في الأصل: أحل، والتصحيح مما مضى آنفا.
(6) في الأصل: بشهررور، ومبني التصحيح على معجم البلدان.
(7) زيد لاستقامة العبارة.
(8) في الأصل: اقتلنا.

(2/537)


آمن أن يفتضحوا غدا، قال: فما تريد يا حجر؟ قال: تنحدر معي إلى الكوفة، فإنك شيخ العرب وسيدها والمطاع في قومك، وسيصير إليك الأمر، فلم يزل به حجر حتى قال: ليصرفوا «1» صدور الركائب إلى الكوفة، فتقدم «2» على علي فسرّ علي بمجيئه فقال: مرحبا وأهلا بأبي محمد على عجلته، فقال: أمير المؤمنين! إن هذا ليس بيوم عتاب، ثم أقام مع علي بالكوفة. وحج بالناس عبد الله بن عباس بأمر علي ولاه.

فلما دخلت السنة السابعة والثلاثون
كتب معاوية «3» إلى علي بن أبي طالب «أما بعد فإن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم بعلمه، وجعله الأمين على وحيه، والرسول إلى «4» خلقه، واختار [له] «5» من المسلمين أعوانا، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، كان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة «6» بعده وخليفة «7» خليفته والخليفة المظلوم المقتول «8» - رحمة الله عليهم! وقد ذكر لي أنك تنتفي من دمه، فإن كنت صادقا فأمكنا ممن «9» قتله حتى نقتله به، ونحن أسرع إليك إجابة وأطوعهم طاعة، وإلا فإنه ليس لك ولا لأحد من أصحابك عندنا إلا السيف، والذي لا إله غيره! لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال حتى يقتلهم الله أو تلحق أرواحنا بعثمان- والسلام» .
__________
(1) في الأصل: لينصرفوا.
(2) في الأصل: فيقدم.
(3) راجع أيضا الأخبار الطوال 162 والفتوح 2/ 475.
(4) من الفتوح، وفي الأصل: على.
(5) زيد من الفتوح.
(6) من الفتوح، وفي الأصل: للخليفة.
(7) من الفتوح، وفي الأصل: لخليفة.
(8) في الأصل: المنقول.
(9) في الأصل: من، وراجع أيضا الأخبار الطوال 162.

(2/538)


فكتب إليه علي «بسم الله الرحمن الرحيم- من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان «1» - أما بعد فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك يذكر فيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وما أنعم الله عليه من الهدى، والحمد لله على ذلك، وأما ما ذكرت من ذكر الخلفاء فلعمري إن مقامهم «2» في الإسلام كان عظيما، وإن المصاب بهم لجرح عظيم في الإسلام، وأما ما ذكرت من قتلة عثمان فإني قد نظرت في هذا الأمر فلم يسعني دفعهم إليك، وقد كان أبوك أتاني حين ولى الناس أبا بكر فقال لي: يا علي! أنت أحق الناس بهذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهات يدك حتى أبايعك، فلم أفعل مخافة الفرقة في الإسلام، فأبوك أعرف بحقي منك، فإن كنت تعرف من حقي ما كان يعرفه»
أبوك فقد قصدت «4» رشدك، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك- والسلام» .
فلما قرأ معاوية الكتاب تهيأ هو ومن معه على المسير إلى علي ثم سار يريد العراق، وسار علي من العراق، وصلى الظهر بين القنطرة والجسر ركعتين، وبعث «5» على مقدمته شريح بن هانىء وزياد بن النضر بن مالك، أمر أحدهما أن يأخذ على شط دجلة والآخر على شط الفرات، معهما أكثر من عشرة آلاف نفس، واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري «6» ، ثم أخذ على طريق الفرات وجعل يقول: إذا سمعتموني أقول «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» فهو كما أقول، وإذا لم أقل «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» فإنما الحرب خدعة؛ فالتقى علي وأهل الشام بصفين لسبع بقين من المحرم، فقام علي خطيبا في الناس فقال «7» : الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، وإن
__________
(1) راجع أيضا الأخبار الطوال 163 والفتوح 2/ 475.
(2) في الأصل: مقاماتهم.
(3) من الفتوح، وفي الأصل: يعرف.
(4) في الفتوح: أصبت.
(5) راجع الأخبار الطوال 167.
(6) راجع الأخبار الطوال 165.
(7) راجع أيضا الطبري 6/ 7 و 8 والفتوح 3/ 288.

(2/539)


أبرم أمرا لم ينقضه الناقضون، مع أن لله- وله الحمد- لو شاء لم يختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ وقد ساقتنا [و] «1» هؤلاء المقادير حتى جمعت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمنظر ومستمع، ولو شاء الله لجعل الانتقام، وكان منه التغيير «2» حتى يتبين أهل الباطل ويعلم أهل الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة هي دار القرار لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا- الآية، ألا! إنكم تلقون عدوكم غدا فأطيلوا «3» الليلة القيام، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، وسلوه النصر، وعليكم بالجد والحزم وكونوا صادقين.
ثم قعد فوثب الناس إلى سيوفهم يهيؤونها «4» ، وإلى رماحهم يثقفونها، وإلى نبالهم «5» يريشونها، ثم «6» جعل [على] «7» مقدمته شريح بن هانىء الحارثي والأشتر، وعلى الميمنة الأشعث بن قيس، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء، وعلى الساقة زياد بن النضر، وعلى ميمنة الرجالة سليمان بن صرد الخزاعي.
ثم قام «8» معاوية خطيبا في أهل الشام واجتمع الناس فقال: الحمد لله الذي دنا في علوه وعلا في دنوه، وظهر وبطن فارتفع فوق كل منظر أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، يقضي فيفصل، ويقدر فيغفر، ويفعل ما يشاء، وإذا أراد أمرا أمضاه، وإذا عزم على أمر قضاه، لا يؤامر أحدا فيما يملك ولا يسئل عما يفعل وهم
__________
(1) زيد من الطبري.
(2) من الطبري، وفي الأصل: التقيير.
(3) من الطبري، وفي الأصل: فاطلبوا.
(4) في الأصل: يهونها، وفي الفتوح 3/ 289: يستحدونها.
(5) من الطبري، وفي الأصل: نبلهم.
(6) راجع أيضا الأخبار الطوال 171- 173 والفتوح 3/ 31 و 32.
(7) زيد ولا بد منه.
(8) راجع أيضا الفتوح 3/ 290.

(2/540)


يسئلون، والحمد لله رب العالمين على ما أحببنا وكرهنا، ثم كانت من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه الرقعة من الأرض، ولقّت بيننا وبين أهل العراق، فنحن من الله بمنظر ومستمع، وقد قال الله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا- الآية، فانظروا يا أهل الشام، فإنما تلقون غدا العدو، فكونوا على إحدى ثلاث خلال: إما قوما تطلبون «1» ما عند الله بقتالكم «2» قوما بغوا عليكم، [وإما قوما تطلبون بدم الخليفة عثمان فإنه خليفتكم وصهر نبيكم] «3» ، وإما قوما تدفعون عن نسائكم وذراريكم؛ وعليكم بتقوى الله والصبر الجميل! نسأل الله لنا ولكم النصر، وأن يفرغ علينا وعليكم الصبر، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين؛ فأجابه أهل الشام: طب نفسا! نموت معك ونحيى معك، ثم «4» جعل معاوية أبا الأعور عمرو ابن سفيان «5» السلمي على مقدمته، وحبيب بن مسلمة «6» الفهري على ميمنته، وبسر ابن أرطاة على ميسرته، و «7» مسلم بن عقبة «7» على رجالة العسكر؛ فلما كان الغد اقتتلوا قتالا شديدا، فحجز بينهم الليل حتى قاتلوا ثلاثة أيام؛ فقتل من أصحاب علي بالمبارزة: هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن بديل ابن ورقاء، وعمار بن حنظلة الكندي، وبشر بن زهير، ومالك بن كعب العامري، وطالب بن كلثوم الهمداني، والمرتفع [بن] «8» وضاح الزبيدي، وشريح بن طارق البكري، وأسلم بن يزيد الحارثي، والحارث بن اللجاج الحكمي، وعائذ بن كريب الهلالي، وواصل بن ربيعة الشيباني، وعائذ بن مسروق الهمداني، ومسلم
__________
(1) من الفتوح، وفي الأصل: طلبتم.
(2) في الأصل: بقاتلكم، ومبنى التصحيح على الفتوح.
(3) زيد بناء على الفتوح.
(4) راجع أيضا الفتوح 3/ 31 والطبري 6/ 6.
(5) من ترجمته في الاستيعاب، وفي الأصل بياض.
(6) وقع في الأصل: مسلم- خطأ.
(7- 7) من الأخبار الطوال 172 والكامل 3/ 148، وفي الأصل: عقبة بن مسلم.
(8) زيد ولا بد منه.

(2/541)


ابن سعيد الباهلي، ومحارب بن ضرار المرادي، وسليمان بن الحارث الجعفي، وشرحبيل بن يزيد الحضرمي.
وقتل من أصحاب معاوية في المبارزة: شرحبيل بن منصور، وعبد الرزاق ابن خالد العبسي، وشريح بن الحارث الكلابي، وصالح بن المغيرة الجمحي، وحريث بن الصباح الحميري، والحارث بن وداعة الحميري، وروق بن الحارث العكي، والمطاع بن المطلب القيني، وجلهمة بن هلال الكلبي، والوضاح بن أزهر السكسكي، ووزاع بن سلامان الغساني، والمهاجر بن حنظلة الجعفي، وعبد الله بن جرير العكي، ومالك بن وديعة القرشي؛ سوى من قتل من الفريقين [من] «1» غير براز.
ولما «2» قتل عمار أتى عبد الله بن عمرو معاوية فقال: قتل عمار، فقال عمرو ابن العاص: قتل عمار! فما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» ! فقال معاوية: أنحن قتلناه! إنما قتله أهل العراق، جاءوا به فطرحوه في سيوفنا ورماحنا، وقد قيل: إنه قتل بصفين سبعون ألفا: من أهل العراق خمسة «3» وعشرون ألفا، ومن أهل الشام خمسة وأربعون ألفا. فلما «4» اشتدت البلاء بالفريقين، وكثر بينهم القتلى قال عمرو بن العاص لمعاوية: إن هذا الأمر لا يزداد إلا شدة، فهل لك إلى أمر لا يزداد القوم به إلا فرقة، إن أعطونا اختلفوا وإن منعونا اختلفوا؟ فقال معاوية: ما هو؟ فقال: المصاحف نرفعها وندعوهم بما فيها، فإنهم لا يقاتلون إلا على ما قد علمت؛ فقال معاوية: افعل ما رأيت، فأمر بالمصاحف فرفعت في الرماح «5» ثم جعلوا ينادون: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه؛
__________
(1) زيد ولا بد منه.
(2) راجع أيضا تاريخ الإسلام 2/ 180 والطبقات 3/ 1/ 180.
(3) في الأصل: خمس، والتصحيح من البداية والنهاية 7/ 274، وراجع أيضا تاريخ الإسلام 2/ 170.
(4) راجع أيضا الطبري 6/ 27 والبداية والنهاية 7/ 272.
(5) في الأصل: الرياح.

(2/542)


فسر الناس به وكرهوا القتال، وأجابوا إلى الصلح، وأنابوا إلى الحكومة، وقالوا لعلي: إن القوم يدعونك إلى الحق وإلى كتاب الله، فإن كرهنا ذلك فنحن إذا مثلهم، فقال علي: ويحكم «1» ! ما ذلك يريدون ولا يفعلون؛ ثم مشى الناس بعضهم إلى بعض وأجابوا الصلح والحكومة، وتفرقوا إلى دفن قتلاهم، ولم يجد علي «2» بدا من أن «2» يقبل الحكومة لما رأى من أصحابه، فحكم أهل الشام عمرو بن العاص، وأراد على أن يحكم ابن عباس فقال الأشعث بن قيس- وهو يومئذ سيد الناس: لا يحكم في هذا الأمر رجلان من قريش، ولا افترق «3» الفريقان على هذا الجمع على حكومة بعد أن [كان] «4» من القتال بينهما ما كان إلا وأحد الحكمين منا؛ وتبعه أهل اليمن على ذلك، ثم قال الأشعث: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري، وكتبوا بينهم كتابي «5» الصلح «بسم الله الرحمن الرحيم- هذا «6» ما تقاضى [عليه] »
علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي علي على «8» أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المسلمين أنا ننزل على حكم الله وكتابه، فما وجد الحكمان في كتاب الله فبهما يتبعانه، وما «9» لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة «10» تجمعهما، وهما آمنان «11» على أموالهما وأنفسهما وأهاليهما، والأمة أنصار لهما
__________
(1) في الأصل: يحكم.
(2- 2) في الأصل: يدمن لم.
(3) في الأصل: افترقا.
(4) زيد ولا بد منه.
(5) في الأصل: كتابا، وراجع أيضا تاريخ اليعقوبي 2/ 189.
(6) راجع أيضا الطبري 6/ 29 والطوال 194.
(7) زيد من الطبري.
(8) عليه ضرب من الناسخ وهما منه وقوع التكرار.
(9) من الطبري، وفي الأصل: من.
(10) من الطبري، وفي الأصل: عادلة.
(11) من مجموعة الوثائق السياسية- نص إسماعيل التيمي 402، وفي الأصل: أمينان.

(2/543)


على الذي يقضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين- والطائفتان كلتاهما عليهما- عهد الله وميثاقه أن يفيا بما في هذه الصحيفة على أن بين المسلمين الأمن [و] «1» وضع السلاح، [و] «1» على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ليحكما «2» بين الناس بما في هذه الصحيفة، على أن الفريقين جميعا يرجعان سنة، فإذا انقضت السنة إن أحبا أن يردا «3» ذلك ردا، وإن أحبا زادا «4» فيهما ما شاء الله، اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة» «5» .
وشهد على الصحيفة فريق عشرة أنفس، فشهد من أصحاب علي الأشعث بن قيس، وعبد الله بن عباس، وسعيد بن قيس الهمداني، وحجر «6» بن الأدبر الكندي، وعبد الله بن الطفيل العامري، وعبد الله بن محل «7» العجلي، ووقاء بن سمي «8» البجلي، وعقبة بن «9» زيد الأنصاري «9» ، ويزيد بن «10» حجية التيمي «10» ، ومالك بن أوس الرحبي.
وشهد من أهل الشام أبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة الفهري، والمخارق ابن الحارث الزبيدي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وسبيع «11» بن يزيد الحضرمي «12»
__________
(1) زيد من الوثائق.
(2) من الوثائق، وفي الأصل: ليحكمان.
(3) من الوثائق، وفي الأصل: يريدا.
(4) من الوثائق، وفي الأصل: راد.
(5) من الطبري، وفي الأصل: عادلة.
(6) من الطبري 6/ 30، وفي الأصل: هجر.
(7) من الطبري، وفي الأصل: حجل.
(8) من الطبري، وفي الأصل: سفيان.
(9- 9) في الطبري: زياد الخضرمي، وفي الطوال: عامر الجهني.
(10- 10) من الطبري، وفي الأصل: حجر التميمي.
(11) من الطوال، وفي الأصل: شفيع.
(12) من الطوال، وفي الأصل: الحمري.

(2/544)


وزمل «1» بن عمرو العذري «2» ، ويزيد بن الحر «3» العبسي، وحمزة بن مالك الهمداني، وعبد الرحمن «4» بن خالد بن الوليد، وعتبة بن أبي سفيان.
وكتب يوم الأربعاء سنة سبع وثلاثين.
فانصرف علي بمن معه من أهل العراق، وانصرف معاوية بمن معه إلى الشام، فقال عبد الله بن وهب الحرمي «5» - وكان من أصحاب علي: لا حكم إلا لله، فقال علي: هذه كلمة حق أريد بها باطل. فلما دخل علي الكوفة خرج من كان يقول: لا حكم إلا لله، ونزلوا بحروراء وهم قريب من اثني عشر ألفا، فسموا الحرورية، ومناديهم ينادي: أمير القتال «6» شبث بن «6» ربعي التميمي، والأمر بعد الفتح شورى، والبيعة لله. ومات «7» خباب بن الأرت «7» بالكوفة.
فخرج علي من صفين، وولى علي سهل بن حنيف فارس، فأخرجه أهل فارس، فوجه زيادا فرضوا وصالحوه وأدوا إليه الخراج «8» .
ثم «9» إن الخوارج اجتمعت على زيد بن حصين وقالوا له: أنت سيدنا وشيخنا وعامل عمر بن الخطاب على الكوفة، تول أمرنا، وجهروا به فقال: ما كنت لأفعلها، فلما أبى عليهم ذلك ذهبوا إلى يزيد بن عاصم المحاربي «10»
__________
(1) من الطبري، وفي الأصل: زميل.
(2) من الطبري، وفي الأصل: العدوى.
(3) من الطبري، وفي الأصل: المحر.
(4) زيد بعده في الأصل: ابن خلف، ولم تكن الزيادة في الطبري وغيره من المراجع فحذفناها.
(5) كذا وقع في الفتوح 4/ 97 أيضا، والمشهور: الراسبي، وراجع أيضا الطوال 202.
(6- 6) من الكامل 3/ 165، وفي الأصل: شئت من.
(7- 7) من تاريخ الإسلام 2/ 175، وفي الأصل: حسا.. بن الأرث- كذا.
(8) راجع أيضا الطبري 6/ 79.
(9) راجع الطبري 6/ 42.
(10) من الكامل 3/ 169، وفي الأصل: المحارمي.

(2/545)


فعرضوا «1» عليه أمرهم فأبى عليهم ذلك، ثم ذهبوا «2» إلى سعد بن وائل التميمي فأبى عليهم، فأتوا عبد الله بن وهب الراسبي «3» واجتمعوا عنده بقرب النهروان، وخرج إليهم علي في جمعية، فلما أتاهم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم أيها القوم قد علمتم وعلم الله أني كنت للحكومة كارها حتى أشرتم عليّ بها وغلبتموني عليها والله بيني وبينكم شهيد! ثم كتبنا بيننا وبينهم كتابا وأنتم على ذلك من الشاهدين، فقالت طائفة من القوم: صدقت- ورجعوا إلى الجماعة، وبقيت طائفة منهم على قولهم، فقال علي: هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الَّذِينَ ضَلَّ «4» سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ «5» يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ «5» يُحْسِنُونَ صُنْعاً، منهم أهل النهروان ورب الكعبة»
! ثم إنهم عبروا الجسر إلى علي ليحاربوه، فلما عبروا الجسر نادى علي في العسكر: استقبلوهم، فاستقبلوهم والتقطوهم بالرماح، فكان مع علي جميعة يسيرة، إنما جاء علي أن يردهم بالكلام، وقد كانت الخوارج قريبا من خمسة آلاف «7» ؛ فلما فرغوا من قتلهم قال علي: اطلبوا لي المخدع «8» ، فطلبوه فلم يجدوه فقال: اطلبوا المخدع، فو الله ما كذبت ولا كذبت، ثم دعا ببغلته البيضاء فركبها وجعل يقلب القتلى حتى أتى على فضاء من الأرض فقال: قلبوا «9» هؤلاء، فإذا هم برجل ليس له ساعد، بين جنبيه ثدي فيه شعرات، إذا مدت امتدت، وإذا تركت قلصت، فقال علي: الله أكبر! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج قوم
__________
(1) في الأصل: فأعرضوا.
(2) في الأصل: ذهب.
(3) من الكامل 3/ 170، وفي الأصل: الراسي.
(4) من القرآن الكريم سورة 18 آية 104، وفي الأصل بياض.
(5- 5) من القرآن الكريم، وموضع الرقمين في الأصل بياض.
(6) راجع الفتوح 4/ 127.
(7) في الأصل: ألف.
(8) في الطبري 6/ 52 ومروج الذهب 2/ 38: المخدج، وأما الكامل 3/ 176 ففيه كما هنا.
(9) في الأصل: اقلبوا.

(2/546)


فيهم رجل مخدع اليد، «1» ولولا أن تنكلوا عن العمل «1» «2» لأنبأتكم بما «2» وعد الله الذين «3» يقاتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم؛ ثم حج بالناس عبد الله بن عباس «4» .