الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل السّابع عشر الشفقة والرّحمة
وَأَمَّا الشَّفَقَةُ وَالرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:
«عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» «1» .
وَقَالَ تَعَالَى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» «2» .
قَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ فَضْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ اسْمَيْنِ مِنْ أسمائه، فقال: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .
وحكى الإمام «3» أبو بكر بن فورك نحوه.
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ «4» قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم غزوة، وذكر
__________
(1) سورة يونس «128» .
(2) سورة الانبياء «157» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «119» رقم «4» .
(4) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري فقيه محدث من الاعلام التابعين رأى عشرة من الصحابة، كتب عمر بن عبد العزيز الى الآفاق عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه توفي سنة 124 هـ.

(1/251)


حُنَيْنًا، قَالَ: فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صفوان «1» بن أمية مئة من النعم، ثم مئة، ثم مئه،
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ «2» : حَدَّثَنَا سَعِيدُ «3» بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ صَفْوَانَ «4» قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ.
وَرَوِيَ «5» : أَنَّ أَعْرَابِيًا جَاءَهُ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ:
«أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ» ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا، وَلَا أَجْمَلْتَ فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ وَقَامُوا إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا، ثُمَّ قَامَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فأرسل إليه صلّى الله عليه وسلم وَزَادَهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ «أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ» قَالَ: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنك قلت ما قلت، وفي نفس أَصْحَابِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ، حَتَّى يذهب
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «232» رقم «5» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «251» رقم «4» .
(3) سعيد بن المسيب بكسر الياء المشددة امام التابعين وسيدهم جمع بين الفقه والحديث والعبادة والورع. روي عنه أنه صلّى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة، وقال ما فاتتني التكبيرة الاولى وما نظرت إلى قفاء رجل في الصلاة منذ خمسين سنة، ولد لسنتين مضتامن خلافة عمر وتوفي بالمدينة سنة 91 هـ.
(4) تقدمت ترجمته في ص «232» رقم «5» .
(5) رواه البزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بسند ضعيف. وكذا ابن حيان وغيره.

(1/252)


مَا فِي صُدُورِهِمْ عَلَيْكَ» قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، أَوِ الْعَشِيُّ، جَاءَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ قَالَ مَا قَالَ فَزِدْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ رَضِيَ. أَكَذَلِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خيرا.
فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ هَذَا رَجُلٍ لَهُ نَاقَةٌ شَرَدَتْ عَلَيْهِ، فَأَتْبَعَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُهَا: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي فَإِنِّي أَرْفَقُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ، فَتَوَجَّهَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا، فَأَخَذَ لَهَا مَنْ قُمَامِ الْأَرْضِ، فَرَدَّهَا، حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ، وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا وَاسْتَوَى عَلَيْهَا.
وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ فَقَتَلْتُمُوهُ دخل النار» .
وروي «1» عنه صلّى الله عليه وسلم: «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» .
- وَمِنْ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ صلّى الله عليه وسلم تخفيفه وتسهله عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَتُهُ أَشْيَاءَ مَخَافَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.
__________
(1) هو مروي من طريق أبي داوود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(1/253)


كَقَوْلِهِ «1» عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ» «2» .
- وَخَبَرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ «3» ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْوِصَالِ «4» ، وَكَرَاهَتُهُ دُخُولَ الْكَعْبَةِ «5» لِئَلَّا تَتَعَنَّتَ أُمَّتُهُ، وَرَغْبَتُهُ لِرَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَ سَبَّهُ وَلَعْنَهُ لَهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ، وَأَنَّهُ «6» كَانَ يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِهِ.
- وَمِنْ شَفَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ دَعَا رَبَّهُ وَعَاهَدَهُ.
فَقَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ سَبَبْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً ورحمة، وصلاة وطهورا، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» «7»
__________
(1) كما رواه الشيخان.
(2) وفي مسلم عند كل صلاة وهذا الحديث رواه أصحاب الكتب الستة.
(3) لعله أراد خبر الشيخين في قيام الليل: خذوا من العمل ما تطيقون. اذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فان احدكم اذا صلّى وهو ناعس لا يدري لعله يريد يستغفر الله فيسب نفسه ... أو ما روياه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حيث قال: وأما انا فارقد وأقوم واصلي ... ومنعه من قيام الليل.
(4) كما رواه الشيخان.
(5) رواه أبو داوود والترمذي، وصححه.
(6) رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه.
(7) رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وروي هذا الحديث من طرق أخرى.

(1/254)


- وَلَمَّا كَذَّبَهُ «1» قَوْمُهُ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ أَمَرَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ:
مُرْنِي بما شئت، إن شئت أن أطلق عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» .
وَرَوَى «2» ابْنُ الْمُنْكَدِرِ «3» : أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ أَنْ تُطِيعَكَ فَقَالَ: «أُؤَخِّرُ عَنْ أُمَّتِي لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» .
قَالَتْ «4» عَائِشَةُ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اختار أيسرهما.
__________
(1) رواه الشيخان وأصحاب الكتب الستة.
(2) الحديث مرسل، إلا انه مما لا يقال بالرأي، فيكون له حكم الموصول، ولا سيما يعضده الحديث السابق في الصحيحين.
(3) تقدمت ترجمته في ص «231» رقم «1» .
(4) الحديث مر الكلام عليه.
(5) تقدمت ترجمتها في ص (146) رقم (5) .

(1/255)


قال «1» ابْنُ مَسْعُودٍ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
وَعَنْ «3» عَائِشَةَ «4» : أَنَّهَا رَكِبَتْ بَعِيرًا وَفِيهِ صُعُوبَةٌ فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ» .
__________
(1) فيما رواه الشيخان.
(2) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب حليف بني زهرة، اسلم قديما، وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان صاحب نعليه قال بحقه النبي صلّى الله عليه وسلم «تمسكو بعهد ابن ام عبد» توفي سنة 32 هـ بالمدينة المنورة.
(3) هذا الحديث أخرجه البيهقي في سننه عن المقدام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وبعضه في مسلم.
(4) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «5» .

(1/256)