الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل التّاسع عشر التواضع
وَأَمَّا تَوَاضُعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِ وَرِفْعَةِ رُتْبَتِهِ، فَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ تَوَاضُعًا وَأَعْدَمَهُمْ كِبْرًا.
- وَحَسْبُكَ أَنَّهُ «1» خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا، أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، فَقَالَ لَهُ إِسْرَافِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ:
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ بِمَا تَوَاضَعْتَ لَهُ أَنَّكَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ «2» ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ، وأول شافع.
وعن «3» أبي أمامة «4» قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي.
(2) رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
(3) هذا الحديث رواه أبو داوود وابن ماجه مسندا.
(4) الباهلي والسهمي وهو صدي بن عجلان بن وهب أخرج له الستة وهو من بقايا الصحابة بحمص توفي سنة 81 هـ.

(1/262)


مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَا، فَقُمْنَا لَهُ، فَقَالَ: «لَا تقوموا كما يقوم الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» .
وَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» .
- وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَيَعُودُ الْمَسَاكِينَ، وَيُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ، وَيَجْلِسُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مُخْتَلِطًا بِهِمْ، حَيْثُمَا انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ «1» جَلَسَ.
وفي «2» حديث عمر «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ. إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا:
عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» .
وَعَنْ «4» أَنَسٍ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ جَاءَتْهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَّةً، قَالَ اجْلِسِي يا أم فلان، في
__________
(1) كما في حديث هند بن أبي هالة.
(2) على ما روى البخاري.
(3) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(4) رواه مسلم.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .

(1/263)


أَيِّ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسُ إِلَيْكِ حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ» قَالَ:
فَجَلَسَتْ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حاجتها.
قال «1» أنس «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ.
- وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مخطوم «3» بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ «4» ، قَالَ: وَكَانَ يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْإِهَالَةِ «5» السَّنِخَةِ فَيُجِيبُ.
قَالَ «6» : وَحَجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ مَا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دراهم، فقال: «اللهم اجعله حجا مبرورا، لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةً»
- هَذَا، وَقَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ، وَأَهْدَى «7» فِي حَجِّهِ ذَلِكَ مئة بدنة
__________
(1) رواه أبو داوود والبيهقي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) محظوم: أي في رأسه خطام وهو الزمام.
(4) اكاف: بردعة.
(5) الاهالة: كل ما يؤتدم به من إدام. وقيل الشحم والالية المذابه.
(6) اي أنس.
(7) كما روى مسلم عنه.

(1/264)


- وَلَمَّا «1» فُتِحَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ، وَدَخَلَهَا بِجُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ طأطأ على رحله رأسه حتى كاديمس قَادِمَتَهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى.
- وَمِنْ تَوَاضُعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ «2» : «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يونس «3» بن مَتَّى، وَلَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا تُخَيِّرُونِي «4» عَلَى مُوسَى «5» وَنَحْنُ «6» أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْ لَبِثْتُ مَا لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ «7» » .
وَقَالَ «8» : لِلَّذِي قَالَ لَهُ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَعْدَ هَذَا- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى-.
__________
(1) رواه ابن اسحق والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها. والحاكم والبيهقي وأبو يعلى عن أنس رضي الله عنه.
(2) قال الشيخ الجليل جلال الدين السيوطي رحمه الله: لم أقف عليه بهذا اللفظ، والذي في البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بن متى. وفي سنن أبي داوود: ما ينبغي لنبي أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى. وفي الصحيحين (لعبد) بدل (لنبي) .
(3) وهو نبي من أنبياء الله ورسله وهو صاحب الحوت الذي ورد ذكره في القرآن الكريم في مواطن عدة.
(4) رواه الشيخان مع سببه.
(5) تقدمت ترجمته في ص «208» رقم «2» .
(6) رواه الشيخان.
(7) الداعي: هو رسول الملك.
(8) رواه مسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي.

(1/265)


وعن «1» عائشة «2» والحسن «3» وأبي سعيد «4» وغيرهم رضي الله عنهم: في صفته.. وبعضهم يزيد على بعض: كان في بيته في مهنة أهله، يغلي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخْدِمُ نَفْسَهُ، وَيَقُمُّ الْبَيْتَ، وَيَعْقِلُ الْبَعِيرَ وَيَعْلِفُ نَاضِحَهُ، وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ، وَيَعْجِنُ مَعَهَا وَيَحْمِلُ بِضَاعَتَهُ مِنَ السُّوقِ.
وَعَنْ «5» أَنَسٍ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا.
- وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَصَابَتْهُ مِنْ هَيْبَتِهِ رِعْدَةٌ.
فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قريش تأكل القديد» «7» .
__________
(1) رواه البخاري وغيره.
(2) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(3) اي البصري تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» وكان حقه أن يقدم أبا سعيد على الحسن البصري الا أن يكون الحسن بن علي. ولكن قاعدة المحدثين اذا أطلق الحسن اريد به البصري.
(5) رواه البخاري في الأدب تعليقا ووصله ابن ماجه.
(6) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(7) الحديث تقدم.

(1/266)


وَعَنْ «1» أَبِي هُرَيْرَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلْتُ السُّوقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ «3» ، وَقَالَ لِلْوَزَّانِ: زِنْ وَأَرْجِحْ ...
وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. قَالَ «4» : فَوَثَبَ إِلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُهَا، فَجَذَبَ يَدَهُ، وَقَالَ: «هَذَا تَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ بِمُلُوكِهَا، وَلَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ،» .
ثُمَّ أَخَذَ السَّرَاوِيلَ ... فَذَهَبْتُ لِأَحْمِلَهُ فَقَالَ: «صَاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يحمله» .
__________
(1) رواه الطبراني في الاوسط بسند ضعيف.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) فارسي معرب.
(4) أبو هريرة.

(1/267)