الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ
الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا
وَأَمَّا زُهْدُهُ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ
أَثْنَاءَ هَذِهِ السِّيرَةِ مَا يَكْفِي.
وَحَسْبُكَ مِنْ تَقَلُّلِهِ مِنْهَا، وَإِعْرَاضِهِ عَنْ زَهْرَتِهَا،
وَقَدْ سِيقَتْ إِلَيْهِ بِحَذَافِيرِهَا، وَتَرَادَفَتْ عَلَيْهِ
فُتُوحُهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَدِرْعُهُ «1» مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ،
وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ «2» : «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ
قُوتًا» .
عَنْ «3» عَائِشَةَ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا شَبِعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
تِبَاعًا مِنْ خُبْزٍ حَتَّى مَضَى لسبيله.
__________
(1) سبق تفصيله. وهو حديث صحيح رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها.
(2) كما رواه الشيخان. وفي رواية مسلم والترمذي وابن ماجة: اللهم اجعل رزق
آل محمد في الدنيا قوتا.
(3) اخرجه البخاري، وهو في أواخر مسلم، ورواه غيرهما أيضا.
(4) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(1/278)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مِنْ خُبْزِ
شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ متواليين، ولو شاء لأعطاه الله مَا لَا يَخْطُرُ
بِبَالٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «1» : مَا شَبِعَ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ، حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَتْ «2» عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا تَرَكَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا.
وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا.
وَفِي حَدِيثِ «3» عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ «4» : مَا تَرَكَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلا سلاحه وبغلته «5» ، وأرضا جعلها
صدقة.
وقالت «6» عَائِشَةُ «7» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ مَاتَ وَمَا فِي
بَيْتِي شَيْءٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شطر شعير في رف لِي.
وَقَالَ لِي «8» : «إِنِّي عُرِضَ عَلَيَّ أَنْ يجعل لي بطحاء مكة ذهبا
__________
(1) للشيخين.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري عنه.
(4) ابن أبي ضرار بن عائذ المصطلقي أخو جويرية زوج النبي صلّى الله عليه
وسلم ولأبيه صحبه كما روى البخاري.
(5) وهذا مما علقه الحلبي على البخاري.
(6) رواه الشيخان.
(7) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(8) حديث «عرض علي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا..» أخرجه الترمذي عن أبي
أمامة بلفظ: فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك.
(1/279)
فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، أَجُوعُ يَوْمًا،
وَأَشْبَعُ يَوْمًا. فَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي أَجُوعُ فِيهِ،
فَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ وَأَدْعُوكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي أَشْبَعَ
فِيهِ فَأَحْمَدُكَ وَأُثْنِي عَلَيْكَ» .
وَفِي حَدِيثٍ «1» آخَرَ: أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: أَتُحِبُّ
أَنْ أَجْعَلَ هَذِهِ الْجِبَالَ ذَهَبًا، وَتَكُونَ مَعَكَ حَيْثُمَا
كُنْتَ. فَأَطْرَقَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
«يَا جِبْرِيلُ. إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ. وَمَالُ مَنْ
لَا مَالَ لَهُ، قَدْ يَجْمَعُهَا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» .
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: ثَبَّتَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ.
وَعَنْ «2» عائشة «3» رضي الله عنها قالت: إن كنا آل محمد لنمكث
__________
(1) قال الدلجي: لا أدري من رواه بهذا اللفظ. وقال السيوطي رحمه الله لم
أجده هكذا، ولكن البيهقي رحمه الله تعالى أخرجه في الزهد من طريق عطاء عن
ابن عباس رضي الله تعالى عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوما: ما أمسى لآل محمد كف سويق ولا سفة دقيق،
فأتاه إسرافيل عليه الصلاة والسلام فقال؛ ان الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك
بمفاتيح الارض وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمردا
وياقوتا وذهبا وفضة فعلت» ونحوه أخرجه ابن سعد وابن عساكر في تاريخه
والطبراني وأخرج أحمد حديث: الدنيا دار من لا دار له.
(2) رواه الشيخان.
(3) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(1/280)
شَهْرًا مَا نَسْتَوْقِدُ نَارًا إِنْ هُوَ
إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ «1» .
وَعَنْ «2» عَبْدِ الرَّحْمَنِ «3» بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه: هَلَكَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَشْبَعْ هُوَ
وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ «4» وَابْنِ عَبَّاسٍ «5» رضي الله
عنهم: نحوه.
قال «6» ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ هُوَ وَأَهْلُهُ اللَّيَالِيَ
الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا، لَا يَجِدُونَ عَشَاءً.
وَعَنْ «7» أَنَسٍ «8» رضي الله عنه قال: مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ «9» ، وَلَا فِي
سُكُرُّجَةٍ «10» ، وَلَا خبز له مرقق ولا رأى
__________
(1) وفي رواية الاسودان.
(2) رواه الترمذي والبزار بسند حسن.
(3) عبد الرّحمن بن عوف بن عبد عوف القرشي الزهري أبو محمد أحد العشرة
المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى أسلم قديما قبل دخول دار
الأرقم وهاجر الهجرتين وشهد بدرا وسائر المشاهد كان طويلا أبيض مشربا
بالحمرة حسن الوجه توفي سنة 31 هـ ودفن بالبقيع.
(4) أبو أمامة بن ثعلبة الانصاري روى أحاديث منها عند مسلم وأصحاب السنن.
(5) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(6) رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه.
(7) رواه البخاري.
(8) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(9) المائدة المرتفعة.
(10) سكرجة: فارسية.. الاناء الصغير يؤكل فيه الأدم. وأكثر ما يوضع فيه
المخللات والمرغبات.
(1/281)
شَاةً سَمِيطًا «1» قَطُّ.
وَعَنْ «2» عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أَدَمًا،
حَشْوُهُ لِيفٌ.
وَعَنْ «3» حَفْصَةَ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ مِسْحًا
«5» نَثْنِيهِ ثَنْيَتَيْنِ، فَيَنَامُ عَلَيْهِ فَثَنَيْنَاهُ لَهُ
لَيْلَةً بِأَرْبَعٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ «مَا فَرَشْتُمُوا لِيَ
اللَّيْلَةَ» ؟ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «رُدُّوهُ بِحَالِهِ.
فَإِنَّ وَطْأَتَهُ مَنَعَتْنِي اللَّيْلَةَ صلاتي» .
- وكان «6» ينام أحيانا على سرير مرمول «7» بِشَرِيطٍ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِي
جَنْبِهِ.
وَعَنْ «8» عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: لم يمتليء جوف النبي
__________
(1) السميط: المشوي بجلده.
(2) برواية الصحيحين.
(3) رواه الترمذي في الشمائل.
(4) حفصة بنت عمر أم المؤمنين كانت قبل ان يتزوجها النبي صلّى الله عليه
وسلم عند حصن بن حذافة وكان ممن شهد بدرا ثم مات بالمدينة وتوفيت هي
بالمدينة سنة 41 هـ.
(5) مسحا: بلاسا من شعر أبيض، وقيل أسود.
(6) رواه الشيخان، والترمذي وابن ماجه.
(7) مرمول: منسوج بحبل مفتول بسعف.
(8) قال الدلجي: لم ادر من روى هذا الحديث ... لكن روى ابن أبي حاتم في
تفسيره عنها قريبا من هذا المعنى.
(1/282)
صلى الله عليه وسلم سبعا قَطُّ. وَلَمْ
يَبُثَّ شَكْوَى إِلَى أَحَدٍ، وَكَانَتِ الْفَاقَةُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ
الْغِنَى، وَإِنْ كَانَ لَيَظَلُّ جَائِعًا يَلْتَوِي طُولَ لَيْلَتِهِ
مِنَ الْجُوعِ فَلَا يَمْنَعُهُ صِيَامُ يَوْمِهِ. وَلَوْ شَاءَ سَأَلَ
رَبَّهُ جَمِيعَ كُنُوزِ الْأَرْضِ وَثِمَارِهَا، وَرَغَدَ عَيْشِهَا ولقد
أَبْكِي لَهُ رَحْمَةً مِمَّا أَرَى بِهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِي عَلَى
بَطْنِهِ مِمَّا بِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَقُولُ: نَفْسِي لَكَ الْفِدَاءُ،
لَوْ تَبَلَّغْتَ مِنَ الدنيا بما يقوتك.
فيقول: «يا عائشة. مالي وَلِلدُّنْيَا، إِخْوَانِي مِنْ أُولِي الْعَزْمِ
مِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، فَمَضَوْا
عَلَى حَالِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ
وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ، فَأَجِدُنِي أَسْتَحْيِي إِنْ تَرَفَّهْتُ فِي
مَعِيشَتِي أَنْ يُقَصِّرَ بِي غَدًا دُونَهُمْ. وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بِإِخْوَانِي وَأَخِلَّائِي»
قَالَتْ: فَمَا أَقَامَ بَعْدُ إِلَّا شَهْرًا حَتَّى تُوُفِّيَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
(1/283)
|