الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الباب الرابع فيما أظهره الله على يديه منه
الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْكَرَامَاتِ
وَفِيهِ ثلاثون فصلا
(1/479)
الفصل الأوّل مقدّمة
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: حَسْبُ الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ يُحَقِّقَ
أَنَّ كِتَابَنَا هَذَا لَمْ نَجْمَعْهُ لِمُنْكِرِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا لِطَاعِنٍ فِي مُعْجِزَاتِهِ،
فَنَحْتَاجُ إِلَى نَصْبِ الْبَرَاهِينِ عَلَيْهَا، وَتَحْصِينِ
حَوْزَتِهَا «1» حَتَّى لَا يَتَوَصَّلَ الْمُطَاعِنُ إِلَيْهَا،
وَنَذْكُرُ شُرُوطَ الْمُعْجِزِ، وَالتَّحَدِّي وَحْدَهُ، وَفَسَادُ قَوْلِ
مَنْ أَبْطَلَ نَسْخَ الشَّرَائِعِ وَرَدُّهُ.
بَلْ أَلَّفْنَاهُ لِأَهْلِ مِلَّتِهِ الْمُلَبِّينَ لِدَعْوَتِهِ،
الْمُصَدِّقِينَ لِنُبُوَّتِهِ لِيَكُونَ تَأْكِيدًا فِي مَحَبَّتِهِمْ
لَهُ، وَمَنْمَاةً لِأَعْمَالِهِمْ، و «لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ «2» » .
__________
(1) حوزتها: بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وفتح الزاي المعجمة وهي
الناحية والجانب، وتحصينها جعلها حصينه محفوظة كأن عليها حصنا يحميها، وفيه
استعارة تمثيلية تخييلية بجعل المنكر كالعدو القاصد لخراب المملكة.
(2) سورة الفتح رقم 5.
(1/481)
وَنِيَّتُنَا أَنْ نُثْبِتَ فِي هَذَا
الْبَابِ أُمَّهَاتِ مُعْجِزَاتِهِ، وَمَشَاهِيرَ آيَاتِهِ، لِتَدُلَّ
عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ. وَأَتَيْنَا مِنْهَا
بِالْمُحَقَّقِ وَالصَّحِيحِ الْإِسْنَادِ، وَأَكْثَرُهُ مِمَّا بَلَغَ
الْقَطْعَ أَوْ كَادَ، وَأَضَفْنَا إِلَيْهَا بَعْضَ مَا وَقَعَ فِي
مَشَاهِيرِ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ.
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ الْمُنْصِفُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
جَمِيلِ أَثَرِهِ، وَحَمِيدِ سِيَرِهِ، وَبَرَاعَةِ عِلْمِهِ، وَرَجَاحَةِ
عَقْلِهِ وَحِلْمِهِ، وَجُمْلَةِ كَمَالِهِ، وَجَمِيعِ خِصَالِهِ،
وَشَاهِدِ حَالِهِ، وَصَوَابِ مَقَالِهِ، لَمْ يَمْتَرِ «1» فِي صِحَّةِ
نُبُوَّتِهِ، وَصِدْقِ دَعْوَتِهِ.
وَقَدْ كَفَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ فِي إِسْلَامِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ،
فَرَوَيْنَا عَنِ التِّرْمِذِيِّ «2» وَابْنِ قَانِعٍ «3» وَغَيْرِهِمَا
بِأَسَانِيدِهِمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ «4» قَالَ «5» :
«لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمَدِينَةَ جِئْتُهُ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَهُ
عَرَفْتُ أن وجهه ليس بوجه كذّاب» .
__________
(1) أي لم يشك
(2) تقدمت ترجمته في ص (181) رقم (4) .
(3) تقدمت ترجمته في ص (340) رقم (1) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (73) رقم (3) .
(5) رواه عن الترمذي في جامعه في باب الزهد وقال صحيح. وهو في سنن ابن ماجه
أيضا في الصلاة عن محمد بن بشار بسنده وفي مسند أحمد ومستدرك الحاكم.
(1/482)
وَعَنْ «1» أَبِي رِمْثَةَ «2»
التَّيْمِيِّ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَعِي ابْنٌ لِي فَأُرِيتُهُ «3» فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قُلْتُ: هَذَا
نَبِيُّ اللَّهِ.. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ:
أَنَّ ضِمَادًا «4» لَمَّا وَفَدَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ
وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» .
قَالَ لَهُ: «أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هؤلاء فلقد بلغن قَامُوسَ «5»
الْبَحْرِ.. هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ» .
وَقَالَ «6» جَامِعُ «7» بْنُ شَدَّادٍ: كَانَ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ:
طارق «8»
__________
(1) رواه ابن سعد.
(2) أبو رمثة التيمي اسمه رفاعة بن يثري رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروى عنه إياد بن لقيط وثابت بن منقذ وروى له
أصحاب السنن الثلاثة وصحح حديثه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
(3) أريته: بالبناء للمجهول أي أراني إياه وعرفني به غيره.
(4) ضماد بن ثعلبة الأزدي نسبة لأزد شنوءة قبيلة مشهورة وكان صديقا للنبي
صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة- قدم مكة وأسلم في أول الاسلام. وكان عاقلا
يتطبب ويرقى.
(5) أي اشتهرت مقالتك هذه في جميع أقطار الأرض شرقا وغربا وقاموس البحر
وسطه أو لجته أو قعره كما في كتب اللغة من قمسه إذا غمسه ووزنه فاعول وهذه
أشهر الروايات وأصحها وفيه روايات أخرى فروي تاعوس بمثناة فوقية وعين وسين
مهملتين بينهما واو ساكنة وروي فاعوس بفاء بدل القاف.
(6) رواه البيهقي عنه.
(7) وهو ابو ضمرة الأسدي المحاربي الكوفي أخرج له أبو داوود والنسائي ثقة
توفي سنة 118.
(8) طارق بن عبد الله المحاربي من محارب خصفة نزل الكوفة، روى له النسائي:
«قدمت على النبي صلّى الله عليه وسلم واذا هو قائم على المنبر يخطب ويقول:
يد المعطي العليا» .
(1/483)
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ «1» : هَلْ
مَعَكُمْ شَيْءٌ تَبِيعُونَهُ؟
قُلْنَا: هَذَا الْبَعِيرُ. قَالَ: بِكَمْ؟ قُلْنَا: بِكَذَا وَكَذَا
وَسْقًا «2» مِنْ تَمْرٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ «3» وَسَارَ إِلَى
الْمَدِينَةِ.. فَقُلْنَا: بِعْنَا مِنْ رَجُلٍ لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ
وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ «4» فَقَالَتْ: أَنَا ضَامِنَةٌ لِثَمَنِ الْبَعِيرِ..
رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ مِثْلَ القمر ليلة البدر.. لا يخيس «5» بكم.
فَأَصْبَحْنَا فَجَاءَ رَجُلٌ بِتَمْرٍ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رسول الله
صلى الله عليه وسلم إليكم يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا
التَّمْرِ وَتَكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا فَفَعَلْنَا.
وَفِي خَبَرِ الْجُلَنْدِيِّ «6» مَلِكِ عَمَّانَ لَمَّا بَلَغَهُ «7»
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى
الْإِسْلَامِ قَالَ الْجُلَنْدِيُّ: «وَاللَّهِ لَقَدْ دَلَّنِي عَلَى
هَذَا النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ إِلَّا كَانَ
أَوَّلَ آخِذٍ بِهِ، وَلَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ
تَارِكٍ لَهُ.. وَأَنَّهُ يَغْلِبُ فلا يبطر، ويغلب فلا
__________
(1) أي النبي صلّى الله عليه وسلم.
(2) وسقا: بكسر الواو وفتحها وهو ستون صاعا.
(3) بخطامه: بخاء معجمه وطاء مهملة وميم وهو كالزمام وزنا ومعنى، أي رسنه
الذي يقاد به.
(4) ظعينة: بظاء معجمة وعين مهملة وهي المرأة التي تظعن مع زوجها أي ترتحل.
(5) لا يخيس: أي لا يغدر ولا يكذب وهو بخاء معجمة وسين مهملة.
(6) الجلندي بضم أوله وثانيه مع القصر اختلف في اسلامه وجزم به النويري
وكتب النبي صلّى الله عليه وسلم اليه والى اخيه لولايتهما على عمان فأجابا.
(7) تقدمت ترجمته في ص «80» رقم «4» .
(1/484)
يَضْجَرُ، وَيَفِي بِالْعَهْدِ وَيُنْجِزُ
الْمَوْعُودَ.. وَأَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ» .
وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ
وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ «1» » هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَكَادُ
مَنْظَرُهُ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْلُ قُرْآنًا كَمَا
قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ «2» :
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... لَكَانَ مَنْظَرُهُ
يُنْبِيكَ «3» بِالْخَبَرِ
وَقَدْ آنَ أَنْ نَأْخُذَ فِي ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ
وَالرِّسَالَةِ، وَبَعْدَهُ فِي مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ من
برهان ودلالة.
__________
(1) سورة النور رقم (35)
(2) عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري شاعر النبي صلّى الله عليه وسلم
وقائده الثالث بعد زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب في سرية مؤته وبها قتل
بعد صاحبيه في حياته صلّى الله عليه وسلم شهد المشاهد كلها الا الفتح لموته
قبلها سنة 8 هـ.
(3) ينبيك: أصلها ينبؤك بالهمزة فأبدلت ياء وسكنت-
(1/485)
|