الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل السّابع إخباره عن القرون السّالفة والأمم البائدة
الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ «1» ، مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلَّا الْفَذُّ «2» مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَطَعَ عُمُرَهُ فِي تَعَلُّمٍ ذَلِكَ.
فَيُورِدُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَأْتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ، فَيَعْتَرِفُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ بِصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ وَأَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يَنَلْهُ بِتَعْلِيمٍ.
وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَا اشْتَغَلَ بِمُدَارَسَةٍ وَلَا مُثَافَنَةٍ «3» ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ، وَلَا جَهِلَ حَالَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَثِيرًا مَا يَسْأَلُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هذا فينزل عليه
__________
(1) الفذ: الفرد المتوحد المنفرد عن أقرانه.
(2) الداثرة: بدال مهملة وثاء مثلثة من دثر اذا اندرس ولم يبق له أثر.
(3) مثافنة: بضم الميم وتليها مثلثة ثم الف وفاء ونون أي مداومة طلب ومجالسة تحتك فيها الركب بالركب حتى يؤثر فيها الاحتكاك وهو عبارة عن كثرة الجلوس مع أهل العلم بالاخبار والشرائع للتعلم منهم وهو مجاز من ثفن البعير اذا برك.

(1/522)


مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْهُ ذِكْرًا. كَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ قَوْمِهِمْ وَخَبَرِ مُوسَى وَالْخَضِرِ «1» ، وَيُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ، وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ «2» ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ «3» ، وَلُقْمَانَ «4» وابنه، وأشباه ذلك من الأنبياء، وَبَدْءِ الْخَلْقِ، وَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى مِمَّا صَدَّقَهُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ بِهَا، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَكْذِيبِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا، بَلْ أَذْعَنُوا لِذَلِكَ. فَمِنْ مُوَفَّقٍ آمَنَ بِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَمِنْ شَقِيٍّ مُعَانِدٍ حَاسِدٍ..
وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ عَلَى شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَحِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَطُولِ احْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مَصَاحِفُهُمْ، وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وتعينتهم «5» إياه عن أخبار أنبيائهم، وأسرار علومهم،
__________
(1) يقال انه بليا بن ملكان واختلف في نبوته ورسالته وولايته وحياته والصحيح أنه ولي من أولياء الله تعالى ويذكر أنه ما يزال على قيد الحياة وليس في ذلك دليل قاطع وفي صحيح البخاري إنه انما سمي الخضر لانه جلس على فروة فاذا هي تهتز من خلفه خضراء والفروة هي الارض اليابسه او الحشيش اليابس.
(2) ذكرت قصتهم في سورة الكهف والخلاف في أسمائهم وزمانهم وغير ذلك لا طائل وراءه.
(3) وهو اسكندر ذو القرنين ذكرت قصته كذلك في سورة الكهف ولا فائدة من الخلاف فيما هو وراء ذلك.
(4) تقدمت ترجمته في ص «187» رقم «6»
(5) تعنيتهم: تعنيت على وزن تفعيل من العنت وهو المشقة والتعب أي تكليفهم بما هو شاق.

(1/523)


وَمُسْتَوْدَعَاتِ سِيَرِهِمْ، وَإِعْلَامِهِ لَهُمْ بِمَكْتُومِ شَرَائِعِهِمْ، وَمُضَمَّنَاتِ كُتُبِهِمْ.. مِثْلَ سُؤَالِهِمْ عَنِ الرُّوحِ.. وَذِي الْقَرْنَيْنِ.. وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ.. وَعِيسَى.. وَحُكْمِ الرَّجْمِ.. وَمَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ.. وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الأنعام ومن طيبات كانت أُحِلَّتْ لَهُمْ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ بِبَغْيِهِمْ.
وَقَوْلِهِ: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ. وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ «1» » وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ فَأَجَابَهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ ذلك.. فما عرف عن أحد أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ صَرَّحَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ.. وَصِدْقِ مَقَالَتِهِ..
وَاعْتَرَفَ بِعِنَادِهِ وحسده إِيَّاهُ. كَأَهْلِ نَجْرَانَ «2» .. وَابْنِ صُورِيَا «3» وَابْنَيْ أَخْطَبَ «4» .. وغيرهم.
__________
(1) سورة الفتح آية «29» .
(2) طائفة من النصارى حاجوه في عيسى فدعاهم الى المباهلة كما في ايتها فامتنعوا خوفا.
(3) عبد الله بن صوريا الأعور حبر من أحبار اليهود الذين كانوا بالمدينة وهو الذي وضع يده على آية الرجم واختلف فيه قيل انه أسلم وقيل بل مات على كفره ولقب بالاعور لان عبد الله بن سلام قال له حين وضع يده يخفي اية الرجم: «ارفع يدك يا أعور» كما ورد في البخاري.
(4) ابني أخطب هما حيي وأبو ياسر اتا على كفرهما. وحيي هو والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها. وكانت تقول: كان عمي أبو ياسر أحسن رأيا من أبي، كان يقول: ألست تجده في كتبنا فيقول: نعم هو هو. فيقول له فما في نفسك منه. فيقول: معاداته ...

(1/524)


وَمَنْ بَاهَتَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْمُبَاهَتَةِ.. وَادَّعَى أَنَّ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِمَا حَكَاهُ مُخَالَفَةً.. دُعِيَ إِلَى إِقَامَةِ حُجَّتِهِ.. وَكَشْفِ دَعْوَتِهِ.
فَقِيلَ لَهُ: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إلى قوله «الظَّالِمُونَ «1» » .. فَقَرَّعَ وَوَبَّخَ.. وَدَعَا إِلَى إِحْضَارِ مُمْكِنٍ غَيْرِ مُمْتَنِعٍ فَمِنْ مُعْتَرِفٍ بِمَا جَحَدَهُ.. وَمُتَوَاقِحٍ يُلْقِي عَلَى فَضِيحَتِهِ مِنْ كِتَابِهِ يَدَهُ «2» .. وَلَمْ يُؤْثَرْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَظْهَرَ خِلَافَ قَوْلِهِ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَا أَبْدَى صَحِيحًا وَلَا سَقِيمًا مِنْ صحفه.
قال الله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ.. قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ.. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «3» » الآيتين.
__________
(1) سورة آل عمران «93»
(2) أي يضع يده على كتابه وعلى الآية التي فيها ما يخالف دعواه ويكذبه.
(3) أي إلى قوله تَعَالَى: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» سورة المائدة 15- 16.

(1/525)