الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل التاسع روعته في السمع وهيبته فِي الْقُلُوبِ
وَمِنْهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ وَأَسْمَاعَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ، وَالْهَيْبَةُ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِقُوَّةِ حَالِهِ وَإِنَافَةِ «1» خَطَرِهِ..
وَهِيَ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِهِ أَعْظَمُ.. حَتَّى كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَهُ وَيَزِيدُهُمْ نُفُورًا.. كَمَا قَالَ تَعَالَى «2» .. وَيَوَدُّونَ انْقِطَاعَهُ لِكَرَاهَتِهِمْ لَهُ.. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْقُرْآنَ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ وَهُوَ الْحَكَمُ» «3» .
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ.. فَلَا تَزَالُ رَوْعَتُهُ بِهِ وَهَيْبَتُهُ إِيَّاهُ مَعَ تِلَاوَتِهِ تُولِيهِ انْجِذَابًا.. وَتُكْسِبُهُ هَشَاشَةً «4» لِمَيْلِ قَلْبِهِ إِلَيْهِ.. وتصديقه به
قال الله تَعَالَى: «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ،
__________
(1) أي علو مرتبته.
(2) «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» سورة الاسراء «46»
(3) رواه الديلمي وغيره عن الحكم بن عمير مرفوعا.
(4) هشاشة: بفتح الهاء والشين المعجمة أي مسرة وخفة ولينا.

(1/529)


ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ»
» .
وَقَالَ: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «2» ، الآية ويدخل عَلَى أَنَّ هَذَا شَيْءٌ خُصَّ بِهِ أَنَّهُ يَعْتَرِي مَنْ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيهِ. وَلَا يَعْلَمُ تَفَاسِيرَهُ.. كَمَا رُوِيَ عَنْ نَصْرَانِيٍّ: أَنَّهُ مَرَّ بقارىء فَوَقَفَ يَبْكِي.
فَقِيلَ لَهُ- مِمَّ بَكَيْتَ.. قَالَ: للشجا «3» والنظم.. وهذه الروعة قد اعترف جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ.. فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ لَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ.. وَآمَنَ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ..
فَحُكِيَ فِي الصَّحِيحِ «4» .. عَنْ جُبَيْرِ «5» بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ!! أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» إلى قوله «الْمُصَيْطِرُونَ «6»
__________
(1) «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» سورة الزمر «23» .
(2) «لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» سورة الحشر «21» .
(3) الشجا: بفتح الشين المعجمة والجيم مقصور وفي بعض النسخ (الشجي) بفتح معجمة فسكون جيم. والمعنى الحزن الذي أصابه من استماعه فرق قلبه وخشع بدنه.
(4) بل روي في الصحيحين وغيرهما.
(5) تقدمت ترجمته في ص «444» رقم «1»
(6) «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» سورة الطور «35، 36، 37» .

(1/530)


كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ لِلْإِسْلَامِ.. وَفِي رِوَايَةٍ: وذلك أول ما وقر الاسلام فِي قَلْبِي.. وَعَنْ «1» عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ «2» : أَنَّهُ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ فَتَلَا عَلَيْهِمْ «حم فُصِّلَتْ إِلَى قَوْلِهِ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «3» » فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ بِيَدِهِ عَلَى فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ «4» : فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ، وَعُتْبَةُ مُصْغٍ مُلْقٍ يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدٌ عَلَيْهِمَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ عتبة لا يدري بم يراجعه.. ورجع إِلَى قَوْمِهِ حَتَّى أَتَوْهُ فَاعْتَذَرَ لَهُمْ.. وَقَالَ: «وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمَنِي بِكَلَامٍ وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ بِمِثْلِهِ قَطُّ.. فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ لَهُ» .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ رَامَ مُعَارَضَتَهُ. أَنَّهُ اعْتَرَتْهُ رَوْعَةٌ وَهَيْبَةٌ كَفَّ بِهَا عَنْ ذَلِكَ فَحُكِيَ: أَنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ «5» طلب
__________
(1) رواه البغوي في تفسيره عن جابر بلفظ المصنف وأبو يعلى بنحوه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «513» رقم «3» .
(3) سورة فصلت آية «137» .
(4) لابن اسحق في سيرته عن محمد بن كعب القرظي.
(5) عبد الله بن المقفع من أئمة الكتاب. أول من عني في الاسلام بترجمة كتب المنطق أصله من الفرس ولد في العراق مجوسيا «مشركا» وأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح اتهم بالزندقة فقتله في البصرة أميرها سفيان بن معاوية المهلبي سنة 142 هـ.

(1/531)


ذَلِكَ وَرَامَهُ «1» وَشَرَعَ فِيهِ فَمَرَّ بِصَبِيٍّ يَقْرَأُ «وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ «2» » فرجع فمحى مَا عَمِلَ.. وَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ.. وَمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ» وَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ أَهْلِ وَقْتِهِ
وَكَانَ يَحْيَى بْنُ حَكَمٍ «3» الْغَزَّالُ بَلِيغَ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَنِهِ فَحُكِيَ:
أَنَّهُ رَامَ شَيْئًا مِنْ هَذَا.. فَنَظَرَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِيَحْذُوَ عَلَى مِثَالِهَا.. وَيَنْسِجَ بِزَعْمِهِ على منوالها.. قال: فاعترتني منه خشية ورقة حملتني على التوبة والإنابة..
__________
(1) هذا بعيد كما ذكر ذلك الرافعي في كنابة إعجاز القران والبلاغة النبوية وذلك أن القران الكريم كان أول ما يتعلمه مريد الأدب ويحفظه ليستعين بفصاحته على صناعة الأدب فيبعد تماما أن لا ينتبه ابن المقفع الى بلاغة القران إلا حينما سمعه من صبي يقرؤه وهو من هو بلاغة وفصاحة.
(2) «يا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» سور هود «44» .
(3) يحيى بن الحكم الجياني المعروف بالغزال شاعر مطبوع من أهل الاندلس امتاز بحدة خاطره وبصواب رأيه وحسن جوابه ونجدته وإقدامه ودخوله وخروجه من كل باب توفي سنة 250 هـ.

(1/532)