الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل الخامس مَعْنَى الْمَحَبَّةِ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقِيقَتِهَا
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَحَبَّةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَثُرَتْ عِبَارَاتُهُمْ
فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَتْ تَرْجِعُ بِالْحَقِيقَةِ «1» إِلَى اخْتِلَافِ
مَقَالٍ، وَلَكِنَّهَا اخْتِلَافُ أَحْوَالٍ «2» .
فَقَالَ سُفْيَانُ «3» : «الْمَحَبَّةُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .. كَأَنَّهُ الْتَفَتَ إِلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي» «4»
الْآيَةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «مَحَبَّةُ الرَّسُولِ اعْتِقَادُ نُصْرَتِهِ
وَالذَّبُّ «5» عَنْ سُنَّتِهِ، وَالِانْقِيَادُ لَهَا، وَهَيْبَةُ
مُخَالَفَتِهِ» .
__________
(1) وفي نسخة (في الحقيقة)
(2) كما قال القائل:
عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكل الى ذاك الجمال يشير
(3) سفيان: يحتمل ان يكون الثوري او ابن عبينه.. والاول أقرب لطول باعه في
علوم القوم والعلوم الظاهرة أيضا فانه كان مجتهدا وصاحب مذهب مستقل.
(4) «يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» سورة آل عمران
آية «31» .
(5) الذب: بالمعجمة: المنع والطرد
(2/66)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «الْمَحَبَّةُ دَوَامُ
الذِّكْرِ لِلْمَحْبُوبِ» .
وَقَالَ آخَرُ: «إِيثَارُ الْمَحْبُوبِ» .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «الْمَحَبَّةُ الشَّوْقُ إِلَى الْمَحْبُوبِ» .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «الْمَحَبَّةُ مُوَاطَأَةُ «1» الْقَلْبِ لِمُرَادِ
الرَّبِّ يُحِبُّ مَا أَحَبَّ «2» وَيَكْرَهُ مَا كَرِهَ «3» » .
وَقَالَ آخَرُ: «الْمَحَبَّةُ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مُوَافِقٍ لَهُ» .
وَأَكْثَرُ الْعِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى ثَمَرَاتِ
الْمَحَبَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا وَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْمَيْلُ إِلَى
مَا يُوَافِقُ الْإِنْسَانَ وَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لَهُ إما لا ستلذاذه
بِإِدْرَاكِهِ كَحُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْحَسَنَةِ
وَالْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ اللَّذِيذَةِ وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا كُلُّ
طَبْعٍ سَلِيمٍ مائل إليها لموافقتها له ولاستلذاذه بِإِدْرَاكِهِ
بِحَاسَّةِ عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ مَعَانِيَ بَاطِنَةً شَرِيفَةً كحب
الصالحين والعلماء وأهل المعروف. والمأثور عَنْهُمُ السِّيَرُ الْجَمِيلَةُ
وَالْأَفْعَالُ الْحَسَنَةُ.. فَإِنَّ طَبْعَ الإنسان مائل إلى الشغف «4»
بأمثال
__________
(1) مواطأة: بضم الميم وطاء مهملة تليها همزة ومعناها الموافقة وأصله أن
يطأ الرجل برجله موطىء مصاحبه قال الله تعالى «ليواطؤوا عدة ما حرم الله»
سورة التوبة آية «38» أي موافقة القلب.
(2) وفي نسخة (ما يحب) .
(3) وفي نسخة ما يكره.
(4) من شغفه الحب أي وصل الى شغاف قلبه وهو الغلاف المحيط بالقلب.
(2/67)
هَؤُلَاءِ حَتَّى يَبْلُغَ التَّعَصُّبُ
بِقَوْمٍ لِقَوْمٍ. وَالتَّشَيُّعُ مِنْ أُمَّةٍ فِي آخَرِينَ مَا يُؤَدِّي
إِلَى الْجَلَاءِ عَنِ الْأَوْطَانِ، وَهَتْكِ «1» الْحُرَمِ، وَاخْتِرَامِ
«2» النُّفُوسِ.. أَوْ يَكُونُ حُبُّهُ إِيَّاهُ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ مِنْ
جِهَةِ إِحْسَانِهِ لَهُ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ.. فَقَدْ جُبِلَتِ «3»
النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا «4» .. فَإِذَا تقرر لك
هذا نظرت لهذه الْأَسْبَابَ كُلَّهَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَلِمْتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعٌ
لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَحَبَّةِ.
أَمَّا جَمَالُ الصُّورَةِ وَالظَّاهِرِ، وَكَمَالُ الْأَخْلَاقِ
وَالْبَاطِنِ، فَقَدْ قررنا منها قبل فيما مر من الْكِتَابِ مَا لَا
يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ..
وَأَمَّا إِحْسَانُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَى أُمَّتِهِ فَكَذَلِكَ قَدْ مَرَّ
مِنْهُ فِي أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ،
وَرَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ،
وَاسْتِنْقَاذِهِمْ بِهِ مِنَ النَّارِ، «وَأَنَّهُ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ» «5» ..
و «رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» «6» ، «وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً «7»
إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ» «8» ،
__________
(1) هتك الحرم: الهتك هو كشف الستر وتمزيقه.
(2) الاخترام: هو استئصال الشيء وقطعه.
(3) جبلت: طبعت وخلقت.
(4) رواه ابن عدي وأبو نعيم في الحلية والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله
تعالى عنه وصححه وورد في الدعاء: «اللهم لا تجعل لفاجر علي يدا فيحبه
قلبي..» .
(5) في قوله تعالى: «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ»
سورة التوبة آية «128»
(6) في قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ» سورة الأنبياء آية «107»
(7) والنصب على تقدير كونه مبشرا ونذيرا وداعيا أو حكاية عن الاية الكريمة.
(8) في قوله تَعَالَى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ
وَسِراجاً مُنِيراً» سورة الاحزاب اية «45- 46» .
(2/68)
«يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» «1» ،
«وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «2» ..
فَأَيُّ إِحْسَانٍ أَجَلُّ قَدْرًا، وَأَعْظَمُ خَطَرًا «3» ، مِنْ
إِحْسَانِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ!! وَأَيُّ إِفْضَالٍ أَعَمُّ
مَنْفَعَةً وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ إنعامه إلى كَافَّةِ «4»
الْمُسْلِمِينَ!!. إِذْ كَانَ ذَرِيعَتَهُمْ «5» إِلَى الْهِدَايَةِ،
وَمُنْقِذَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ «6» ، وَدَاعِيَهَمْ إِلَى الْفَلَاحِ
وَالْكَرَامَةِ، وَوَسِيلَتَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَشَفِيعَهُمْ،
وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْهُمْ، وَالشَّاهِدَ لَهُمْ، وَالْمُوجِبَ لَهُمُ
الْبَقَاءَ الدَّائِمَ وَالنَّعِيمَ السَّرْمَدَ «7» .
فَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُسْتَوْجِبٌ لِلْمَحَبَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ شَرْعًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ
مِنْ صَحِيحِ الْآثَارِ، وَعَادَةً وَجِبِلَّةً بِمَا ذَكَرْنَاهُ آنفا «8»
لإفاضة الإحسان وعموم الإجمال «9» .
__________
(1) في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا
مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ»
سورة الجمعة اية «2»
(2) «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» سورة المائدة اية «16»
(3) خطرا: بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة أي قدرا او شرفا.
(4) كافة تلزم التنكير والنصب على الحالية واستعمالها على خلاف ذلك خطأ
وسمع عن بعضهم خلاف ذلك.
(5) ذريعتهم: وسيلتهم
(6) العماية: بفتح العين المهملة وهي الغواية والجهالة.
(7) السرمد: أي المستمر الذي لا نهاية له.
(8) آنفا اي قريبا وهو منصوب على الظرفية. وهو من أنف أي تقدم. ومنه الأنف
لأنه مقدم في الوجه.
(9) الاجمال: أي تعميم الجميل منه لكل أحد.
(2/69)
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُحِبُّ مَنْ
مَنَحَهُ فِي دُنْيَاهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ مَعْرُوفًا أَوِ
اسْتَنْقَذَهُ مِنْ هَلَكَةٍ «1» . أَوْ مَضَرَّةٍ «2» مُدَّةُ،
التَّأَذِّي بِهَا قَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ.. فَمَنْ مَنَحَهُ مَا لَا يَبِيدُ
مِنَ النَّعِيمِ وَوَقَاهُ مَا لَا يَفْنَى مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ
أَوْلَى بِالْحُبِّ، وَإِذَا كَانَ يُحَبُّ بِالطَّبْعِ مَلِكٌ لِحُسْنِ
سِيرَتِهِ، أَوْ حَاكِمٌ لِمَا يُؤْثَرُ مِنْ قِوَامِ طَرِيقَتِهِ، أَوْ
قَاصٌّ بَعِيدُ الدار لما يشار مِنْ عِلْمِهِ أَوْ كَرَمِ شِيمَتِهِ،
فَمَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ عَلَى غَايَةِ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ
أَحَقُّ بِالْحُبِّ وَأَوْلَى بِالْمَيْلِ.
وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ»
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَتِهِ «4» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ.. وَمَنْ خَالَطَهُ معرفة أحبه وذكر عَنْ
بَعْضِ الصَّحَابَةِ «5» أَنَّهُ كَانَ لَا يَصْرِفُ بصره عنه محبّة فيه..
__________
(1) هلكة: بفتح الهاء واللام: أي أمر مهلك.
(2) مضرة: بفتح الميم والضاد أمر يضره ويؤذيه.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «541» رقم «4»
(4) في حديث الحلية وقد مر ذكره.
(5) وهو ثوبان رضي الله عنه وهو مولى النبي صلّى الله عليه وسلم وقد مرت
ترجمته في ج 1 ص «403» رقم «7»
(2/70)
|