الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل السّادس وُجُوبِ مُنَاصَحَتِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «1» .
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: «إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» .. إِذَا
كَانُوا مُخْلِصِينَ مُسْلِمِينَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ..
عَنْ تَمِيمٍ «2» الدَّارِيِّ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله
عليه وسلم «إن الدين «3»
__________
(1) سورة التوبة آية «92» .
(2) تميم الداري: نسبة الى جده الدار ويقال له الديري أيضا نسبة الى دير
كان يتعبد به قبل الاسلام. أسلم سنة تسع من الهجرة وكان نصرانيا قبل ذلك
وتوفي سنة أربعين ومن مناقبة الفخام أنه عليه الصلاة والسلام روى عنه حديث
الجساسة على المنبر كما في آخر صحيح مسلم، وفيها رواية الفاضل عن المفضول
والمتبوع عن التابع وقبول خبر الواحد وذكر الدارقطني انه روى عن الشيخين
وروى أيضا عن محرز كما في الصحيح وعن امرأة كما في المسند. وروي عنه في
السنن ومسند أحمد.
(3) وفي رواية: «انما الدين النصيحة» .
(2/71)
النصحية، إِنَّ الدِّينَ «1» النَّصِيحَةُ،
إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ.. قَالُوا:
لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ
وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.»
قَالَ أَئِمَّتُنَا «2» : «النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَأَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ وَاجِبَةٌ «3» » .
قَالَ الإمام أبو «4» سُلَيْمَانُ الْبُسْتِيُّ: «النَّصِيحَةُ» كَلِمَةٌ
يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ،
وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ
تَحْصُرُهَا.. وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ «الْإِخْلَاصُ» مِنْ قَوْلِهِمْ
(نَصَحْتُ الْعَسَلَ) إِذَا خَلَّصْتُهُ مِنْ شَمْعِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بن اسحق «5» الخفّاف: «النصح» فعل الشيء
__________
(1) قد ساق المصنف هذا الحديث بسند أبي داود. وقد اخرجه ابو داود في الادب
ولفظه (الدين النصيحة) من غير تكرار، وأخرجه مسلم في الايمان بنحوه وليس
فيه تكرار ولفظه (الدين النصيحة) بغير (ان) وأخرجه النسائي في البيعة ولفظه
في الطريق الاول (أن الدين النصيحة) من غير تكرار. وفي نسخة (انما الدين
النصيحة) مرة.
(2) أي من المالكية لان المؤلف مالكي المذهب.
(3) أي فرض عين على كل مكاف.. ونقل النووي انها فرض كفاية.
(4) أبو سليمان البستي: نسبة الى بلدة بسجستان. وهو أبو سليمان بن محمد بن
ابراهيم ابن خطاب المعروف بالخطابي الامام المشهور.. واختلف في اسمه فقيل:
أحمد وقيل حمد توفي ببست في ربيع الاول سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة.
(5) ابو بكر بن اسحق الخفاف: هو امام من أئمة اللغة ترجمته مذكورة في
التاريخ وفي نسخة (ابن اسحق) وهو ابو بكر احمد بن عمر بن يوسف الشافعي. وهو
صاحب كتاب الخصال في مذهب الشافعية كما قاله الرافعي.
(2/72)
الَّذِي بِهِ الصَّلَاحُ وَالْمُلَاءَمَةُ
مَأْخُوذٌ مِنَ «النِّصَاحِ» «1» : وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُخَاطُ بِهِ
الثَّوْبُ.
وَقَالَ أبو إسحق «2» الزَّجَّاجُ نَحْوَهُ..
1- فَنَصِيحَةُ اللَّهِ تَعَالَى صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ لَهُ
بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَوَصْفُهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ.. وَتَنْزِيهُهُ
عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ.. وَالرَّغْبَةُ فِي مَحَابِّهِ «3» ،
وَالْبُعْدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ، وَالْإِخْلَاصُ فِي عِبَادَتِهِ..
2- وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ
وَتَحْسِينُ تلاوته.. والتخشع عنده.. والتعظم لَهُ، وَتَفَهُّمُهُ،
وَالتَّفَقُّهُ فِيهِ..
وَالذَّبُّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْغَالِينَ «4» .. وَطَعْنِ
الْمُلْحِدِينَ.
3- وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ، التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِذْلُ
الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ ونهى عنه..
قال أبو سليمان «5» وقال أبو بكر «6» وموازرته «7» ونصرته
__________
(1) النصاح: بكسر النون وتخفيف الصاد.
(2) أبو اسحق الزجاج: امام العربية والتفسير تلميذ المبرد وشيخ أبي علي
الفارسي وهو ابراهيم بن سهل الزجاج منسوب لعمل الزجاج لانه كان حرفته، توفي
في جمادى الاخرة من سنة احدى عشرة وثلاثمئة وقد أناف على الثمانين.
(3) محابه: بفتح الميم جمع محب اسم مفعول أحب بمعنى محبوب أي يرغب في كل ما
يحبه ويرضاه.
(4) الغالين: بالغين المعجمة من الغلو أي المجاوزين عن الحد.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «64» رقم «6»
(6) ابو بكر هو ابن أبي اسحق الخفاف الذي مر ذكره. وهو الظاهر الذي ذكره
الثقات.
(7) موازرته: بواو مفتوحة أو همزة من الازر وهو القوة أن من الوزر وهو
الملجأ أي معاضدته ومعاونته.
(2/73)
وَحِمَايَتُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا،
وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ، وَالذَّبِّ عَنْهَا وَنَشْرِهَا،
وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَآدَابِهِ الْجَمِيلَةِ.
وقال أبو إبراهيم إسحق «1» النجيبي: «نَصِيحَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التصديق بما جاء به والاعتصام بسنتا
وَنَشَرِهَا وَالْحَضُّ عَلَيْهَا، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى
كِتَابِهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، وَإِلَيْهَا. وَإِلَى الْعَمَلِ بِهَا» .
قال أَحْمَدُ «2» بْنُ مُحَمَّدٍ: «مِنْ مَفْرُوضَاتِ الْقُلُوبِ
اعْتِقَادُ النَّصِيحَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ» .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ «3» وَغَيْرُهُ «النُّصْحُ لَهُ
يَقْتَضِي نُصْحَيْنِ.
نُصْحًا فِي حَيَاتِهِ. وَنُصْحًا بَعْدَ مماته.
أ- فَفِي حَيَاتِهِ.. نُصْحُ أَصْحَابِهِ لَهُ بِالنَّصْرِ،
وَالْمُحَامَاةِ عَنْهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُ، وَالسَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ لَهُ.. وَبَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ دُونَهُ.. كَمَا
قَالَ تَعَالَى «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» «4» الاية.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «59» رقم «2»
(2) هو الامام المشهور أحمد بن حنبل. تقدمت ترجمته في ج 1 ص «165» رقم «1»
(3) أبو بكر الاجري تقدم ذكره.
(4) سورة الاحزاب آية «23» وهذه الاية كما في الصحيحين نزلت في أنس بن
النضر وكان شق عليه انه لم يحضر بدرا وقال: «اول مشهد من مشاهد رسول الله
صلّى الله عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله تعالى مشهدا بعده ليرى الله ما
أصنع.» فلما كان من العام المقبل وقعة أحد استقبله سعد بن مالك فقال له: يا
أبا محمد الى أين؟ قال: «واها لريح الجنة اجدها دون أحد» فقاتل حتى قتل رضي
الله تعالى عنه. ووجد فيه بضعا وثمانين ما بين طعنة وضربه..
(2/74)
وقال: «وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
«1» الاية.
ب- وَأَمَّا نَصِيحَةُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَالْتِزَامُ
التَّوْقِيرِ وَالْإِجْلَالِ، وَشِدَّةُ الْمَحَبَّةِ لَهُ،
وَالْمُثَابَرَةُ عَلَى تَعَلُّمِ سُنَّتِهِ، وَالتَّفَقُّهُ فِي
شَرِيعَتِهِ، وَمَحَبَّةُ آلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمُجَانَبَةُ مَنْ
رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ وَانْحَرَفَ عَنْهَا، وَبُغْضُهُ وَالتَّحْذِيرُ
مِنْهُ وَالشَّفَقَةُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَالْبَحْثُ عَنْ تَعَرُّفِ
أَخْلَاقِهِ وَسِيَرِهِ وَآدَابِهِ.. وَالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ.
فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ، تَكُونُ النَّصِيحَةُ إِحْدَى ثَمَرَاتِ
الْمَحَبَّةِ، وَعَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِهَا كما قدمناه..
وَحَكَى الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ «2» الْقُشَيْرِيُّ: أَنَّ عَمْرَو
بْنَ اللَّيْثِ «3» أَحَدَ مُلُوكِ خُرَاسَانَ وَمَشَاهِيرِ الثُّوَّارِ
المعروف بالصفّار «4» رؤي في
__________
(1) سورة الحشر اية «8» نزلت في المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم ابتغاء
رضوان الله.
(2) ابو القاسم القشيري: عبد الملك بن هوازن بن عبد الملك النيسابوري صاحب
الرسالة وشيخ الطريقة فريد دهره علما وعملا وعمدة اهل السنة وفقهاء
الشافعية الجامع بين الشريعة والحقيقة، توفي سنة خمس وستين وأربع مئة وعمره
تسع وثمانون سنة.
(3) عمرو الليث: هو اخو يعقوب الصفار، وكان يعقوب هذا كما قال المسعودي في
خلافة المعتضد بالله صفارا فتغلب وصار له جيوش عظيمة فنسلطن ثم توفي سنة
خمس وستين ومتين، وخلف اموالا كثيرة خلفه عليها اخوه عمرو المذكور..
والصفار الذي يصنع اوان من النحاس.
(4) الصفار: تشديد الفاء أي منسوب لعمل الصفر وهو نوع من النحاس تعمل منه
الاواني.
(2/75)
النَّوْمِ «1» ، فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ
اللَّهُ بِكَ؟!. فَقَالَ: غَفَرَ لِي فَقِيلَ:
بِمَاذَا؟ .. قَالَ: صَعِدْتُ «2» ذُرْوَةَ جَبَلٍ يَوْمًا فَأَشْرَفْتُ
عَلَى جُنُودِي فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ فَتَمَنَّيْتُ أَنِّي
حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَنْتُهُ
وَنَصَرْتُهُ.. فَشَكَرَ اللَّهُ لِي ذَلِكَ وَغَفَرَ لِي.
4- وَأَمَّا النُّصْحُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَطَاعَتُهُمْ فِي
الْحَقِّ وَمَعُونَتُهُمْ فِيهِ وَأَمْرُهُمْ بِهِ، وَتَذْكِيرُهُمْ
إِيَّاهُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَتَنْبِيهُهُمْ على ما غفلوا عنه وكتم
عنه مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ
وَتَضْرِيبِ «3» النَّاسِ وَإِفْسَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمْ..
5- وَالنُّصْحُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، إِرْشَادُهُمْ إِلَى
مَصَالِحِهِمْ، وَمَعُونَتُهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ
بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَنْبِيهُ غَافِلِهِمْ، وَتَبْصِيرُ
جَاهِلِهِمْ، وَرَفْدُ «4» مُحْتَاجِهِمْ، وَسَتْرُ عَوْرَاتِهِمْ،
وَدَفْعُ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وجلب المنافع إليهم..
__________
(1) وفي نسخة في المنام.
(2) بكسر العين في الماضي وبفتحها في المضارع أي ارتقيت وعلوت.
(3) تضريب: بمثناة فوقية مفتوحة وسكون الضاد المعجمة وكسر الراء المهملة
ومثناة ساكنة وموحدة تحتيتين مجرد رأي ترك تضريبهم وهو اغراؤهم وتحريكهم
عليهم يقال ضربه اذا أغراه.
(4) رفد: بفتح الراء المهملة أي أعاننه ويجوز كسرها فان الرفد بمعنى العطاء
والصلة وكل شيء عروته وجعلت له عونا فقد رفدته ومنه الرفادة التي كانت
لقريش في الجاهلية.
(2/76)
|