الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَوُجُوبِ تَوْقِيرِهِ وبرّه وفيه سبعة فصول

(2/77)


الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ
قَالَ الله تَعَالَى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ» «1» .
وقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» «2» و «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» الثلاث آيات.
وَقَالَ تَعَالَى: «لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» »
فأوجب تعالى تعزيره وتوقيره.. وألزم إكرامه وتعظيمه
__________
(1) الفتح آية 7 و 8 هكذا الاية في أكثر النسخ وليس موافقا للتلاوة لأن آية الاحزاب المصدرة بيا أيها النبي ليس فيها لتؤمنوا الخ، والتي في الفتح (انا أرسلناك دون يا أيّها النبي.. وكأن المصنف بدا باية الاحزاب وثنى باية الفتح وسقط الفاصل بينهما
(2) الحجرات آية «1» .
(3) النور آية «63» .

(2/79)


قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «1» : «تُعَزِّرُوهُ» تُجِلُّوهُ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ «2» : «تُعَزِّرُوهُ» تُبَالِغُوا فِي تَعْظِيمِهِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ «3» : تَنْصُرُونَهُ.
وقال الطبري «4» : تعينونه. وقرىء «5» : «تعزّزوه» بزائين مِنَ الْعِزِّ وَنُهِيَ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْقَوْلِ وَسُوءِ الْأَدَبِ بِسَبْقِهِ بِالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ ابن عباس «1» وغيره وهو اختيار ثعلب «6» .
__________
(1) ابن عباس تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «271» رقم «7»
(3) الأخافشة ثلاثة اصغر وهو ابو الحسن علي بن سليمان بن الفضل المعروف بالاخفش (الصغير) النحوي كان عالما. روى عن المبرد وثعلب وغيرهما، وروى عنه الحريري وغيره، وهو ثقة توفي في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمئة فجاة ببغداد. وأما (الاوسط) فهو ابو الحسن سعيد بن مسعده المجاشعي بالولاء النحوي البلخي المعروف بالاخفش النحوي أحد نحاة البصرة من أئمة العربية واخذ النحو عن سيبويه وكان أكبر منه وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئا الا وعرضه علي- رحمه الله تعالى- وكان يرى انه اعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه. وهذا الذي زاد في العروض بحر الخبب، وله تصانيف كثيرة منها (الاوسط) في النحو. وتفسير معاني القرآن. وغير ذلك، توفي سنة خمس عشرة ومائتين أما الاكبر فهو عبد الحميد بن حميد من أهل هجر من مواليهم وكان نحويا لغويا وله ألفاظ لغوية انفرد بنقلها، وأخذ عن سيبويه وأبي عبيدة. ومعنى الاخفش هو الصغير العين مع سوء بصره.. ومراد القاضي هو الاوسط.
(4) محمد بن جرير الطبري تقدمت ترجمته في ج 1 ص «182» رقم «2» .
(5) في الشواذ.
(6) ثعلب: هو العلامة المحدث شيخ اللغة والعربية أبو العباس أحمد بن يزيد الشيبانى مولاهم البغدادي المقدم في النحو على طريقة الكوفيين مولده سنة مئتين توفي سنة احدى وتسعين ومئتين.

(2/80)


قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «1» : لَا تَقُولُوا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ.. وَإِذَا قَالَ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأنصتوا.. ونهوا عن التقدم والنعجل بِقَضَاءِ أَمْرٍ قَبْلَ قَضَائِهِ فِيهِ، وَأَنْ يَفْتَاتُوا «2» بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ مِنْ قِتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ من أمر دينهم إلا بأمره، وَلَا يَسْبِقُوهُ بِهِ وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ قَوْلُ الحسن «3» مجاهد «4» وَالضَّحَّاكِ «5» وَالسُّدِّيِّ «6» وَالثَّوْرِيِّ «7» ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ فَقَالَ «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «8» قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ «9» «اتَّقُوهُ» يَعْنِي فِي التَّقَدُّمِ.
وَقَالَ السُّلَمِيُّ «10» : «اتَّقُوا اللَّهَ» فِي إِهْمَالِ حَقِّهِ، وَتَضْيِيعِ حُرْمَتِهِ، إِنَّهُ سُمَيْعٌ لِقَوْلِكُمْ عَلِيمٌ بِفِعْلِكُمْ ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ وَالْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَجْهَرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ..
وَقِيلَ كَمَا يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِاسْمِهِ.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «58» رقم «6» .
(2) يفتاتوا: أي يستبدوا ويستقلوا.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «60» رقم «8» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «70» رقم «1» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «75» رقم «6» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «112» رقم «3» .
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «186» رقم «3» .
(8) الحجرات: آية «1» .
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «61» رقم «3» .
(10) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «61» رقم «4» .

(2/81)


قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ «1» : أَيْ لَا تُسَابِقُوهُ بِالْكَلَامِ وَتُغْلِظُوا لَهُ بِالْخِطَابِ، وَلَا تُنَادُوهُ بِاسْمِهِ نِدَاءَ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَكِنْ عَظِّمُوهُ وَوَقِّرُوهُ وَنَادُوهُ بِأَشْرَفِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُنَادَى بِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: «لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» «2» وعلى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ لَا تُخَاطِبُوهُ إِلَّا مُسْتَفْهِمِينَ «3» ، ثُمَّ خَوَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَبْطِ أَعْمَالِهِمْ ان هم فعلوا ذلك.. وحذرهم منه.
قيل: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ «4» .
وَقِيلَ: فِي غَيْرِهِمْ.. أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَوْهُ.. يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ. اخْرُجْ إِلَيْنَا. فَذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْجَهْلِ، وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّ أكثرهم لا يعقلون.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(2) النور «63» .
(3) وفي نسخة (الا مشفقين) .
(4) بنو تميم: قبيلة مشهورة وفدت على النبي صلّى الله عليه وسلم عام الوفود سنة تسع. وكان صلّى الله عليه وسلم أرسل لهم سرية فهجموا عليهم واخذوا مواشيهم واسارى قدموا بها المدينة فحبسوا في دار رملة بنت الحارث. فأرسلوا عدة من رؤسائهم فجاؤوا بابه صلّى الله عليه وسلم ونادوا: يا محمد اخرج الينا ... كما فصل في السير.

(2/82)


وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُولَى فِي مُحَاوَرَةٍ كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ «1» وَعُمَرَ «2» بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتِلَافٍ جَرَى بَيْنَهُمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا «3» .
وَقِيلَ: نَزَلَتْ «4» فِي ثَابِتِ «5» بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ خَطِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُفَاخَرَةِ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ فِي أُذُنَيْهِ صَمَمٌ.. فَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ.
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ حَبِطَ عَمَلُهُ..
ثُمَّ أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ هَلَكْتُ.. نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نَجْهَرَ بِالْقَوْلِ.. وَأَنَا امْرُؤٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ثَابِتُ.. أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ..» فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ «6» .
وَرُوِيَ «7» أَنَّ أَبَا بَكْرٍ «1» لَمَّا نَزَلَتْ هذه الاية قال: والله
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «156» رقم «6» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «113» رقم «4» .
(3) كما في البخاري عن الزبير رضي الله عنه.
(4) كما روي عن ابن عباس.
(5) ثابت بن قيس بن شماس بن مالك بن امره القيس الخزرجي الانصاري وكان خطيبا الانصار.
(6) أي وقعة اليمامة زمن أبي بكر الصديق سنة ثنتي عشرة في ربيع الاول وهي وقعة مسيلمة المشهورة. واليمامة اسم مدينة على مرحلتين من الطائف.
(7) رواه طارق بن شهاب.

(2/83)


يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَهَا إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ «1» ..
وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ مَا كَانَ يَسْمَعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
«إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» «2»
وَقِيلَ: نَزَلَتْ «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ» «3» فِي غَيْرِ بَنِي تَمِيمٍ.. نَادَوْهُ بِاسْمِهِ.
وَرَوَى «4» صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ»
بَيْنَا «6» النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم في سفر اذ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٌّ أَيَا مُحَمَّدُ، أيا محمد، أيا محمد «7» ..
فقلنا لَهُ: اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ فَإِنَّكَ قَدْ نُهِيتَ عن رفع الصوت..
وقال الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا
__________
(1) أي كلاما خفيا كالمسارة وهي الكلام بخفية.
(2) الحجرات آية «3» .
(3) الحجرات آية «4» .
(4) رواه الترمذي والنسائي.
(5) صفوان بن عسال: ابن الربض بن زاهد المرادي الكوفي الصحابى المشهور روى عنه الستة.
(6) وفي نسخة (بينما) .
(7) وفي نسخة ناداه مرتين.

(2/84)


«1» راعِنا «2» » قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ لُغَةٌ كَانَتْ فِي الْأَنْصَارِ نُهُوا عَنْ قَوْلِهَا تَعْظِيمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْجِيلًا لَهُ.. لِأَنَّ مَعْنَاهَا ارْعَنَا نَرْعَكَ فَنُهُوا عَنْ قَوْلِهَا إِذْ مُقْتَضَاهَا كَأَنَّهُمْ لَا يَرْعَوْنَهُ إِلَّا بِرِعَايَتِهِ لَهُمْ..
بَلْ حَقُّهُ أَنْ يُرْعَى عَلَى كُلِّ حَالٍ..
وَقِيلَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تُعَرِّضُ بِهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّعُونَةِ «3» فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ قَوْلِهَا قطعا للذريعة «4» ، ومنعا للتشبه بِهِمْ فِي قَوْلِهَا لِمُشَارَكَةِ اللَّفْظَةِ وَقِيلَ: غَيْرُ هذا.
__________
(1) راعنا: كلمة تقال للمتكلم اذا لم يفهم كلامه وهي بمثابة تأن وراع مقامنا فانا لسنا فهما مثلك.. وهي من لغة الانصار في محاوراتهم واستغلها اليهود لانها كانت شتما في لغتهم
(2) البقرة اية «104» .
(3) الرعونة: وهي الخفة والحمافة.
(4) الذريعة: في اللغة هي الوسيلة والسبب. وسد الذرائع قاعدة مشهورة في مذهب الامام مالك وهي ليست مختصة بمذهب مالك كما هو المشهور.

(2/85)