الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الْفَصْلُ الثَّالِثُ حُرْمَتُهُ وَتَوْقِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاعْلَمْ أَنَّ حُرْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَوْقِيرَهُ وَتَعْظِيمَهُ لَازِمٌ كَمَا كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ.. وَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرِ حَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ، وَسَمَاعِ اسْمِهِ وَسِيرَتِهِ، وَمُعَامَلَةِ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ «1» ، وَتَعْظِيمِ أهل بيته وصحابته.
قال أَبُو إِبْرَاهِيمَ «2» التُّجِيبِيُّ «3» : «وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَتَّى ذَكَرَهُ أَوْ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَنْ يَخْضَعَ وَيَخْشَعَ، وَيَتَوَقَّرَ وَيُسَكِّنَ مِنْ حَرَكَتِهِ، وَيَأْخُذَ فِي هَيْبَتِهِ وَإِجْلَالِهِ بِمَا كَانَ يَأْخُذُ بِهِ نَفْسَهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ.. وَيَتَأَدَّبُ بِمَا أَدَّبَنَا الله به.
__________
(1) عترته: بكسر العين وسكون المثناة. وهم نسله ورهطه وعشيرته الأدنون.
(2) وزيد في نسخة (اسحق) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «59» رقم «2»

(2/91)


قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ «1» : «وَهَذِهِ كَانَتْ سِيرَةَ سَلَفِنَا الصَّالِحِ وَأَئِمَّتِنَا الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» .
قال أبو حميد «2» : نَاظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ «3» أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكًا «4» فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ «4» : «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَدَّبَ قَوْمًا فَقَالَ: «لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ «5» » الْآيَةَ. وَمَدَحَ قَوْمًا فَقَالَ:
«إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ «6» » الْآيَةَ وَذَمَّ قَوْمًا فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ.. «7» » الْآيَةَ. وَإِنَّ حُرْمَتَهُ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا.. فَاسْتَكَانَ «8» لَهَا أَبُو جَعْفَرٍ «3» وَقَالَ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ «9» .. أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ القيامة!! بل استقبله «10» واستشفع
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «21»
(2) ابو حميد: بالتصغير هو ابن ثعلبة احد رواة مالك.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «620» رقم «1»
(4) مالك إمام المدينة.
(5) سورة الحجرات آية «2»
(6) سورة الحجرات آية «3» .
(7) سورة الحجرات آية «4»
(8) استكان: خضع وذل.
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7»
(10) وفي هذا الحديث رد على من قال بأن استقبال القبر الشريف في الدعاء عند الزيارة أمر منكر لم يقل به أحد ولم يرو إلا في حكاية مفتراة على الامام مالك يعني هذه

(2/92)


بِهِ فَيُشَفِّعَهُ اللَّهُ» .. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» «1» الْآيَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ «2» وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَيُّوبَ «3» السَّخْتِيَانِيِّ: «مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إِلَّا وَأَيُّوبُ أفضل منه» .. قال: «وَحَجَّ حَجَّتَيْنِ فَكُنْتُ أَرْمُقُهُ وَلَا أَسْمَعُ مِنْهُ.. غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى حَتَّى أَرْحَمُهُ.. فَلَمَّا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا رَأَيْتُ وَإِجْلَالَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبْتُ عَنْهُ «4» » .
وَقَالَ مُصْعَبُ «5» بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «كَانَ مَالِكٌ إِذَا ذُكِرَ «6» النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ وَيَنْحَنِي حَتَّى يَصْعُبَ ذَلِكَ عَلَى جُلَسَائِهِ» . فَقِيلَ
__________
القصه وقد اوردها المؤلف ولله الحمد بسندها الصحيح وذكر أنه تلقاها عن عدة من من ثقات مشايخه. فهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي رضي الله عنهم استحباب استقبال القبر الشريف في السلام والدعاء وهو مسطر في كتبهم، وصرح به النووي في اذكاره وايضاحه.. وقال السبكي: (صرح اصحابنا بأنه يستحب أن يأتي القبر ويستقبله ويستدبر القبلة بعيدا من رأس القبر نحو اربع أذرع فيسلم عليه صلّى الله عليه وسلم ثم يتأخر ويسلم على أبي بكر رضي الله عنه ثم يتأخر ويسلم على عمر رضي الله عنه ثم يرجع لموقفه الاول مستقبلا للقبر ويدعو بما أراد..) وعن أبي حنيفة رضي الله عنه انه يستقبله صلّى الله عليه وسلم في الزيارة ثم يستقبل القبلة بعده ويدعو كما ذكره السروجي.
(1) «جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» النساء آية «64» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(3) ايوب السختياني: (هو الامام أبو بكر البصري التابعي سيد الفقهاء والمحدثين) روى عنه مالك والثوري وغيره. والسختياني نسبة لعمل السختيان وهو الجلد المدبوغ معرب.. اخرج له الستة، وتوفي سنة احدى وثلاثين ومئة وقيل غير ذلك.
(4) وهذا يدل على تدقيق مالك رحمه الله وورعه في كتابة الحديث.
(5) مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت الزبيري يروي عن مالك وغيره وعنه الشيخان وغيرهما.
(6) وفي نسخة بصيغة المعلوم، وفي نسخة اخرى (فاذا ذكر عنده النبي) .

(2/93)


لَهُ يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ: «لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَمَا أَنْكَرْتُمْ عَلَيَّ مَا تَرَوْنَ» .
وَلَقَدْ كُنْتُ أَرَى مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ «1» وَكَانَ سَيِّدَ الْقُرَّاءِ، لَا نَكَادُ نَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثٍ أَبَدًا إِلَّا يَبْكِي حَتَّى نَرْحَمَهُ.. وَلَقَدْ كُنْتُ أرى جعفر بن محمد «2» .. وَكَانَ كَثِيرَ الدُّعَابَةِ وَالتَّبَسُّمِ فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْفَرَّ وَمَا رَأَيْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إلا على طهارة.. ولقد اخْتَلَفَتْ إِلَيْهِ زَمَانًا، فَمَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلَّا عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ.. إِمَّا مُصَلِّيًا وَإِمَّا صَامِتًا، وَإِمَّا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ.. وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ.. وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ..
وَلَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ «3» يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنْظَرُ إِلَى لَوْنِهِ كَأَنَّهُ نَزَفَ مِنْهُ الدَّمُ، وَقَدْ جَفَّ لِسَانُهُ فِي فَمِهِ هَيْبَةً مِنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
وَلَقَدْ كُنْتُ آتِي عَامِرَ «4» بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بن الزبير، فإذا ذكر
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «231» رقم «1» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «55» رقم «6» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «3» .
(4) عامر بن عبد الله بن الزبير: بن العوام الكبير القدر سمع اباه وجماعة. وعنه: مالك وطائفة.. قال ابن عينيه: «اشترى نفسه من الله تعالى ست مرات» . توفي بعد عشرين ومئة.

(2/94)


عِنْدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى حَتَّى لَا يَبْقَى فِي عَيْنَيْهِ دُمُوعٌ.
وَلَقَدْ رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ «1» وَكَانَ مِنْ أَهْنَإِ النَّاسِ وَأَقَرَبِهِمْ، فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ مَا عَرَفَكَ وَلَا عَرَفْتَهُ.
وَلَقَدْ كُنْتُ آتِي صَفْوَانَ «2» بْنَ سُلَيْمٍ، وَكَانَ مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى يَقُومَ النَّاسُ عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ.
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ «3» : «أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ أَخَذَهُ الْعَوِيلُ «4» وَالزَّوِيلُ «5» » . وَلَمَّا كَثُرَ عَلَى مَالِكٍ النَّاسُ قِيلَ لَهُ: «لَوْ جَعَلْتَ مُسْتَمْلِيًا «6» يُسْمِعُهُمْ» فَقَالَ: (قَالَ الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» «7» وَحُرْمَتُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا سَوَاءٌ) .
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ «8» ربما يضحك.. فإذا ذكر عنده حديث
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص 251 رقم «4» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «196» رقم «5» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «62» رقم «3» .
(4) العويل: بكاء مع الصوت.
(5) الزويل: الانزعاج والقلق. يقال زال زويله في الدعاء أي ذهب ذعره مأخوذ من الزوال وهو التغير.
(6) مستمليا: أي رجلا يملي عليه الحديث ويقوم بتبليغه.
(7) سورة الحجرات آية «2» .
(8) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «456» رقم «7» .

(2/95)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَشَعَ. وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ «1» بْنُ مَهْدِيٍّ إِذَا قَرَأَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالسُّكُوتِ وَقَالَ: «لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» .. وَيَتَأَوَّلُ أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ مِنَ الْإِنْصَاتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ حَدِيثِهِ مَا يَجِبُ لَهُ عِنْدَ سَمَاعِ قوله..
__________
(1) عبد الرحمن بن مهدي: بن حسان ابو سعيد الحافظ الثقة البصري المعروف باللؤلؤي احد أعلام الحديث. وقال ابن المديني: «اعلم الناس بالحديث ابن مهدي» . وقال الزهري: «ما رأيت في يده كتابا» . يعني كان حافظا. روى عنه احمد. وأخرج له أصحاب الكتب الستة توفي سنة ثمان وتسعين ومئة.

(2/96)