الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل السّادس دفع بعض الشبهات
وقد توجهت ههنا لبعض الطاعنين سؤالات:
منها ما رُوِيَ «1» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قرأ سورة «النجم» وَقَالَ:
«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ «2» وَالْعُزَّى «3» وَمَناةَ «4» الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «5» ..»
قَالَ: «تِلْكَ الْغَرَانِيقُ «6» الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لِتُرْتَجَى» وَيُرْوَى تُرْتَضَى.. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى وَإِنَّهَا لَمَعَ الْغَرَانِيقِ الْعُلَى وَفِي أُخْرَى وَالْغَرَانِقَةُ العلى، تلك الشفاعة ترتجى.. فلما ختم
__________
(1) أي فيما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وأبو حاتم بسند منقطع عن سعيد بن جبير
(2) اللات: صنم كان لثقيف بالطائف أو بنخلة.
(3) العزى: تأنيث الاعز كانت لغطفان تعبدها بعث اليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها.
(4) مناة: بالقصر ويمد صخرة كانت لهذيل وخزاعة تعبدها وتتقرب بها وتعتكف لديها
(5) سورة النجم الايتان (19 و 20) .
(6) الغرانيق: جمع غرنوق ويقال غرنيق، وهي في الاصل الذكور من طير الماء طويل العنق.. قيل: هو الكركي، ويقال للشاب الممتلىء شبابا وحسنا وبياضا، أريد بها ههنا الاصنام فشبهوها بالطير الذي يعلو في الهواء ويرتفع الى السماء لانها تقربهم الى الله زلفى.

(2/288)


السورة سجد وسجد الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ لَمَّا سَمِعُوهُ أَثْنَى عَلَى آلِهَتِهِمْ.
وما وقع في بعض الروايات أن شيطانا أَلْقَاهَا عَلَى لِسَانِهِ. وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُ- وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام جاءه فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ..
فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ لَهُ: مَا جِئْتُكَ بِهَاتَيْنِ، فَحَزِنَ لِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَسْلِيَةً لَهُ: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ «1» ..» الاية وقوله: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ «2» .. الاية.
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ لَنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى مُشْكَلِ هَذَا الْحَدِيثَ مَأْخَذَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي تَوْهِينِ أَصْلِهِ وَالثَّانِي عَلَى تَسْلِيمِهِ..
أَمَّا الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ: فَيَكْفِيكَ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ «3» لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصِّحَّةِ «4» وَلَا رَوَاهُ ثِقَةٌ بِسَنَدٍ سَلِيمٍ مُتَّصِلٍ «5» ..
وَإِنَّمَا أُولِعَ بِهِ وَبِمِثْلِهِ المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب
__________
(1) «.. إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. الحج (52) .
(2) «.. عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. الاسراء (73) .
(3) حديث منكر من جهة الرواية والدراية.
(4) أي من أصحاب الكتب الستة.
(5) بل رواه جماعة باسانيد ضعيفة واهية مقطوعة او موضوعة أو مرفوعة.

(2/289)


الْمُتَلَقِّفُونَ «1» مِنَ الصُّحُفِ كُلَّ صَحِيحٍ وَسَقِيمٍ «2» .
وَصَدَقَ الْقَاضِي بَكْرُ «3» بْنُ الْعَلَاءِ «4» الْمَالِكِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَقَدْ بُلِيَ النَّاسُ بِبَعْضِ «5» أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالتَّفْسِيرِ.. وَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْمُلْحِدُونَ مَعَ ضَعْفِ نَقَلَتِهِ، وَاضْطِرَابِ رِوَايَاتِهِ «6» ، وَانْقِطَاعِ إِسْنَادِهِ «7» ، وَاخْتِلَافِ كَلِمَاتِهِ فَقَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَآخَرُ يَقُولُ. قَالَهَا فِي نَادِي قَوْمِهِ حِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ، وَآخَرُ يَقُولُ: قَالَهَا وَقَدْ أَصَابَتْهُ سِنَةٌ وَآخَرُ يَقُولُ بَلْ حَدَّثَ نَفْسَهُ فَسَهَا، وَآخَرُ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَهَا عَلَى لِسَانِهِ.. وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَضَهَا عَلَى جِبْرِيلَ قَالَ: مَا هَكَذَا أَقْرَأْتُكَ وَآخَرُ يَقُولُ: بَلْ أَعْلَمَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قَالَ:
وَاللَّهِ مَا هَكَذَا أنزلت.
- إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.
__________
(1) وفي نسخة (الملفقون) .
(2) وان ابا الفتح اليعمري قال في سيرته الكبرى ما لفظه (بلغني عن الحافظ عبد العظيم المنذري انه كان يرد هذا الحديث من جهة الرواة بالكلية) وذكر الحلبي انه قال بعض شيوخي فيما قرأته عليه حين ذكر هذا الكلام انه باطل لا يصح منه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل.
(3) وفي نسخة (أبو بكر) .
(4) أبو بكر بن العلاء المالكي: وهو المشهور بابن العربي.
(5) وفي نسخة (ببغض) وفي أخرى (بتقصي) .
(6) وفي نسخة (روايته) .
(7) وفي نسخة (أسانيده) .

(2/290)


- وَمَنْ حُكِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ «1» وَالتَّابِعِينَ «2» لَمْ يُسْنِدْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا رَفَعَهَا إِلَى صَاحِبٍ. وَأَكْثَرُ الطُّرُقِ عَنْهُمْ فِيهَا ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ.
وَالْمَرْفُوعُ فِيهِ «3» حَدِيثُ شُعْبَةَ «4» عَنْ أَبِي بِشْرٍ»
عَنْ سَعِيدِ «6» بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «7» قَالَ: فِيمَا أَحْسَبُ «8» - الشَّكُّ فِي الْحَدِيثِ «9» أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بِمَكَّةَ- وَذَكَرَ الْقِصَّةَ-.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ «10» الْبَزَّارُ: هذا لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا هَذَا.. وَلَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ شُعْبَةَ «4» إِلَّا أُمَيَّةُ «11» بْنُ خَالِدٍ. وَغَيْرُهُ يُرْسِلُهُ عَنْ سَعِيدِ «6» بْنِ جبير.. وإنما
__________
(1) أي المعتبرين كابن جرير وأبي حاتم وابن المنذر.
(2) أي المعتمدين كالزهري وقتادة وأمثالهما.
(3) وفي نسخة (فيها) وفي أخرى (منه) .
(4) شعبة: هو ابن الجراح أحد الائمة الفضلاء.
(5) أبو بشر: هو جعفر بن أبي وخشية اياس التابعي الثقة توفي سنة خمس وعشرين ومئة واخرج له أصحاب الكتب الستة، وله ترجمة في الميزان.
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «58» رقم «4» .
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(8) أي أظن، ومثله يستعمل للشك فيما فاته.
(9) أي في متنه واصله لا في سنده.
(10) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «355» رقم «4» .
(11) امية بن خالد: وهو ثقة اخرج له مسلم وغيره وتوفي سنة احدى وثمانين وترجمته في الميزان.

(2/291)


يُعْرَفُ عَنِ الْكَلْبِيِّ «1» عَنْ أَبِي صَالِحٍ «2» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «3» .
فَقَدْ بَيَّنَ لَكَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ سِوَى هَذَا، وَفِيهِ مِنَ الضَّعْفِ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ مَعَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ وَلَا حقيقة معه.
أما حديث الكلبي «1» فمما لا تجوز الرواية عَنْهُ «4» وَلَا ذِكْرُهُ لِقُوَّةِ ضَعْفِهِ وَكَذِبِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَزَّارُ «5» رَحِمَهُ اللَّهُ.
- وَالَّذِي مِنْهُ فِي الصَّحِيحِ. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ «وَالنَّجْمِ» وَهُوَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ مَعَهُ المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا
__________
(1) الكلبي: نسبة لكلب قبيلة معروفة، وهو أبو النصر محمد بن السائب المفسر النسابة الاخباري الراوي المشهور. والاكثرون على أنه غير ثقة خصوصا اذا روى
(2) أبو صالح: وهو باذان وهو يروي عن مولاته أم هانىء وعلي كرم الله وجهه، وروى عنه السدي وغيره، اخرج عنه أصحاب السنن الاربعة وقال أبو حاتم: انه لا يحتج به.. وهو لم يسمع من ابن عباس هذا الحديث فالحديث منقطع.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «355» رقم «4» .
(4) أي عن الكلبي.
(5) فانه وغيره من المحدثين قالوا: انه كذاب وضاع لا يوثق به وان كان اماما في اللغة والتفسير، وقد قال الجرجاني وابن معين وغيرهما: انه يضع الاحاديث وكذاب لا يحتج به، وروى عن أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح لم يرو عن ابن عباس. وقال ابن حبان: انه في الدين غير متين وكذبه أظهر من أن يذكر، ولم يسمع من أبي صالح.

(2/292)


توهينه «1» من طريق النقل.
- أما مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَاهَتِهِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ إِمَّا مِنْ تَمَنِّيهِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا مِنْ مَدْحِ آلِهَةٍ غَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كُفْرٌ أَوْ يَتَسَوَّرَ «2» عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيُشَبِّهَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ حَتَّى يَجْعَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَيَعْتَقِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى يُنَبِّهَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
أَوْ يَقُولُ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ عَمْدًا وَذَلِكَ كُفْرٌ..
أَوْ سَهْوًا وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ.
وَقَدْ قَرَّرْنَا بِالْبَرَاهِينِ وَالْإِجْمَاعِ عِصْمَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَرَيَانِ الْكُفْرِ عَلَى قَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا.. أَوْ أَنْ يَتَشَبَّهَ عَلَيْهِ مَا يلقيه الملك مما يُلْقِي الشَّيْطَانُ، أَوْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، أو
__________
(1) قد قال الحافظ ابن حجر: قول أبي بكر بن العربي ان طرق هذا الحديث كلها باطلة. وقول عياض في الشفاء انه لم يخرجه أحد من أهل الصحة وليس له سند متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وان من نقله من المفسرين وغيرهم لم يسنده أحد منهم ولا يرفعه لصاحب.. لا وجه له.. فان له طرقا متعددة كثيرة متتابعة المخارج وكل ذلك يدل على أن له أصلا، ومن هذه الاسانيد ما هو على شرط الصحيح، وهي وان كانت مراسيل يحتج بها من يحتج بالمرسل كما لك ومن لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض فتبين بهذا ان المبالغة من المصنف رحمه الله غير مرضية. وانظر أيضاص (295) لتحليل هذا الموضوع
(2) يتسور: أصلها التسلق والصعود وجاءت هنا بمعنى التسلط.

(2/293)


أَنْ يَتَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ «1» ..» الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: «إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ «2» » ووجه ثان: هو اسْتِحَالَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ نَظَرًا وَعُرْفًا. وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَوْ كَانَ كَمَا رُوِيَ لَكَانَ بعيد الالتئام، مُتَنَاقِضَ الْأَقْسَامِ، مُمْتَزِجَ الْمَدْحِ بِالذَّمِّ، مُتَخَاذِلَ التَّأْلِيفِ وَالنَّظْمِ، وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَصَنَادِيدِ «3» الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ.. وَهَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى مُتَأَمِّلٍ فَكَيْفَ بِمَنْ رَجَحَ حِلْمُهُ، وَاتَّسَعَ فِي بَابِ الْبَيَانِ وَمَعْرِفَةِ فَصِيحِ الْكَلَامِ عِلْمُهُ!!
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَمُعَانِدِي الْمُشْرِكِينَ، وَضَعَفَةِ الْقُلُوبِ، والجهلة من المسلمين، نفور هم لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَتَخْلِيطُ الْعَدُوِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَقَلِّ فِتْنَةٍ، وَتَعْييرُهُمُ الْمُسْلِمِينَ، وَالشَّمَاتَةُ «4» بِهِمُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ. وَارْتِدَادُ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرْضٌ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لِأَدْنَى شُبْهَةٍ..
وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة
__________
(1) «.. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ.. الحاقة الايتان 44 و 45.
(2) «.. ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً. الاية «75» .
(3) صناديد: جمع صنديد وهو السيد الشجاع والحليم والجواد والشريف والمراد خواص رؤسائهم.
(4) وفي نسخة (والشمات) .

(2/294)


الْأَصْلِ.. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَدَتْ قُرَيْشٌ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الصَّوْلَةَ «1» وَلَأَقَامَتْ بِهَا الْيَهُودُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، كَمَا فَعَلُوا مُكَابَرَةً فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، حَتَّى كَانَتْ فِي ذَلِكَ لِبَعْضِ الضُّعَفَاءِ رِدَّةٌ.
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْقَضِيَّةِ «2» ، وَلَا فِتْنَةَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ لَوْ وُجِدَتْ، ولا تشغيب «3» المعادي حِينَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ لَوْ أَمْكَنَتْ.
فَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَانِدٍ فِيهَا كَلِمَةٌ، وَلَا عَنْ مُسْلِمٍ بِسَبَبِهَا بِنْتُ «4» شَفَةٍ.. فَدَلَّ عَلَى بُطْلِهَا، وَاجْتِثَاثِ «5» أَصْلِهَا..
- وَلَا شَكَّ فِي إِدْخَالِ بَعْضِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى بَعْضِ مُغَفَّلِي الْمُحَدِّثِينَ لِيُلَبِّسَ بِهِ عَلَى ضعفاء المسلمين «6»
__________
(1) الصولة: الاستطالة والقهر.
(2) أي قضية الحديبية وانه صلّى الله عليه وسلم رأى انه دخل هو واصحابة مكة.. وكانت هذه الرؤيا فتنة للناس والقصة في السير وفي شروح البخاري.
(3) تشغيب: هو تهييج الشر.
(4) بنت شفه: هي الكلمة شبه اخراجها من الشفة باخراج المولود من بطن امه.
(5) اجتثاث: هو قلع الشجرة من اصلها.
(6) وقد قال القرافي في شرح الاربعين للامام الرازي ان الجواب السديد فيه على تسليم صحته مع ان الله تعالى قد عصمه، وان الله أمره بترتيل القرآن وكان يفعل ذلك فتمكن من ترصده من الشياطين في حال سكوته بين الايات من دس ما اختلقه من هذه الكلمات محاكيا صوته صلّى الله عليه وسلم، وقد سجد من دنا من الكفار معه فظنوها من كلامه صلّى الله عليه وسلم واشاعوها.. فلم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظهم السورة على ما نزلت قبل ذلك ومعرفتهم من حاله صلّى الله عليه وسلم ما علم من ذم الاوثان.. وحزن

(2/295)


وَوَجْهٌ رَابِعٌ: ذَكَرَ الرُّوَاةُ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنَّ فيها نزلت «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ.. «1» الْآيَتَيْنِ.
وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تَرُدَّانِ الْخَبَرَ الَّذِي رَوَوْهُ.. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَادُوا يَفْتِنُونَهُ حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكادير كن إِلَيْهِمْ.
فَمَضْمُونُ هَذَا وَمَفْهُومُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُ مِنْ أَنْ يَفْتَرِيَ، وَثَبَّتَهُ حَتَّى لَمْ يَرْكَنْ إِلَيْهِمْ قَلِيلًا فَكَيْفَ كَثِيرًا وَهُمْ يَرْوُونَ في أَخْبَارَهُمُ الْوَاهِيَةَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى الرُّكُونِ وَالِافْتِرَاءِ بِمَدْحِ آلِهَتِهِمْ. وَأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ وَقُلْتُ مَا لَمْ يَقُلْ.. وَهَذَا ضِدُّ مَفْهُومِ الْآيَةِ وَهِيَ تُضْعِفُ «2» الْحَدِيثَ لَوْ صَحَّ فَكَيْفَ وَلَا صِحَّةَ لَهُ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
«3» »
__________
صلّى الله عليه وسلم من هذه الاشاعة والقاء الشبهة وهو مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ.. الى قوله.. القى الشيطان في امنيته) وقوله (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) فالقصة كما قدم ابن حجر لها أصل ثابت في الجملة لكنها ليس فيها ما ينقص من مقامه صلّى الله عليه وسلم، فابطالها بالكلية كما قاله المصنف رحمه الله تعالى لا ينبغي.
(1) «.. عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. الاسراء «73» .
(2) وعند المحدثين اذا ورد في الحديث ما ينافي القرآن ولم يكن تأويله ولا الجمع بينه وبينه حكم بضعفه وقد علمت أن الحديث رواه مسلم.
(3) «.. النساء آية (113) وقد استشهد المصنف بها استشهادا لان الاية لم تنزل في هذه الحادثة وانما نزلت في بني ظفر.

(2/296)


وَقَدْ رُوِيَ «1» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «2» : كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ «كَادَ» فَهُوَ مَا لَا يَكُونُ «3» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «يَكادُ سَنا «4» بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ «5» » وَلَمْ يَذْهَبْ وَ «أَكَادُ أُخْفِيهَا» وَلَمْ يَفْعَلْ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ «6» الْقَاضِي: وَلَقَدْ طَالَبَهُ «7» قُرَيْشٌ وَثَقِيفٌ إِذْ مَرَّ بِآلِهَتِهِمْ أَنْ يُقْبِلَ بِوَجْهِهِ إِلَيْهَا وَوَعَدُوهُ الْإِيمَانَ بِهِ إِنْ فَعَلَ فَمَا فَعَلَ، وَلَا كَانَ «8» لِيَفْعَلَ..
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ «9» : مَا قارب الرسول ولا ركن.
__________
(1) الراوي له ابن أبي حاتم وغيره.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «22» رقم «6» .
(3) وفي نسخة (لا يكون) بحذف (ما) و (فهو) .
(4) سنا: بالقصر الضوء وبالمد العلو والشرف.
(5) النور آية «43» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «470» رقم «5» .
(7) ويروي (ولقد طالبته) .
(8) وفي نسخة (وما) .
(9) ابن الانباري: هو الامام الحافظ أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار النحوي كان من أعلم الناس بالادب والنحو ولد سنة احدى وسبعين ومائتين، روى عنه الدارقطني وابن حيوة والبزار وغيرهم، كان صدوقا دينا من أهل السنة. صنف التصانيف الكثيرة وصنف في القرآن والغريب والمشكل والوقف والابتداء، روي عنه انه قال: احفظ ثلاثة عشر صندوقا، وقيل: انه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا بأسانيدها، وقيل انه يحفظ ثلاثمائة شاهد في القرآن، وقد أملى كتاب غريب الحديث قيل انه خمس وأربعون الف ورقة، وكتاب شرح الكافي وهو نحو الف ورقة، وكتاب الاضداد وهو كبير جدا، وكتاب الجاهليات وهو سبعمائة ورقة، وكان رأسا في نحو الكوفيين توفي ليلة عيد النحر ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.

(2/297)


وَقَدْ ذُكِرَتْ «1» فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ تَفَاسِيرُ أُخَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ اللَّهِ عَلَى عِصْمَةِ رَسُولِهِ تَرُدُّ سِفْسَافَهَا «2» .
فَلَمْ يَبْقَ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَى رسوله بعصمته وتثبيته بما كَادَهُ بِهِ الْكُفَّارُ وَرَامُوا مِنْ فِتْنَتِهِ.
وَمُرَادُنَا مِنْ ذَلِكَ تَنْزِيهُهُ وَعِصْمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَفْهُومُ الْآيَةِ.
- وَأَمَّا الْمَأْخَذُ الثَّانِي فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيمِ الْحَدِيثِ لَوْ صَحَّ.. وَقَدْ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ صِحَّتِهِ. وَلَكِنْ عَلَى كل حال فقد أجاب عن ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا الْغَثُّ وَالسَّمِينُ..
فَمِنْهَا مَا رَوَى قَتَادَةُ «3» وَمُقَاتِلٌ «4» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْهُ سِنَةٌ «5» عِنْدَ قِرَاءَتِهِ هَذِهِ السُّورَةَ فَجَرَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى لِسَانِهِ بِحُكْمِ النَّوْمِ.
- وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَلَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ، وَلَا يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عليه في
__________
(1) وفي نسخة (ذكر) .
(2) سفسافها: أي رديئها. وأصله ما يطير من غبار الدقيق اذا نخل والتراب اذا أثير.. وفي الحديث (ان الله يحب معالي الامور ويبغض سفسافها) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «62» رقم «3» .
(4) مقاتل: هو ابن حبان الخراساني العابد المفسر الثقة، روى عنه أصحاب السنن وغيرهم. توفى قبل خمسين ومئة.. ولهم مقاتل آخر وهو مقاتل بن سليمان، وهو محدث مفسر الا انه اتهم بالكذب.. والظاهر هنا انه الاول.
(5) سنة: وهو فتور مع أوائل النوم قبل الاستغراق فيه المانع عن الحس والادراك وهي قريبة من النعاس وليسا بمعنى..

(2/298)


نَوْمٍ وَلَا يَقَظَةٍ لِعِصْمَتِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ جَمِيعِ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ..
وَفِي قَوْلِ الْكَلْبِيِّ «1» : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ نَفْسَهُ فَقَالَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ «2» عَنْ أَبِي بَكْرِ «3» بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:
وَسَهَا.. فَلَمَّا أُخْبِرَ «4» بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ..
وَكُلُّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سَهْوًا وَلَا قَصْدًا وَلَا يَتَقَوَّلَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ.
وَقِيلَ: لَعَلَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم قاله أَثْنَاءِ تِلَاوَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْكُفَّارِ.. كقول إبراهيم عليه السلام «هذا رَبِّي «5» » عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ وَكَقَوْلِهِ «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «6» » بعد
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «292» رقم «1» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «251» رقم «4» .
(3) أبو بكر بن عبد الرحمن: وفي نسخة (أبو عبد الرحمن) وكلاهما صحيح، وهو أبو بكر بن عبد الرحمن بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي التابعي الامام احد الفقهاء السبعة على قول، وهو من سادات قريش ويسمى (الراهب) لزهده. قيل: اسمه أبو بكر وكنيته (أبو عبد الرحمن) . وقال النووي: اسمه محمد وكنيته أبو عبد الرحمن والصحيح أن اسمه كنيته، وتوفي سنة أربع وتسعين.. وقيل غير ذلك.
(4) وفي نسخة (أحس) .
(5) «.. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. الانعام «76» .
(6) الاية: قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ. الانبياء «63» .

(2/299)


السكت وبيان الفصل بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تِلَاوَتِهِ وَهَذَا ممكن مع بيان الفصل وَقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَتْلُوِّ.
وَهُوَ أَحَدُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ «1» .. وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ قَبْلُ فِيهَا غَيْرَ مَمْنُوعٍ..
وَالَّذِي يَظْهَرُ وَيَتَرَجَّحُ «2» فِي تَأْوِيلِهِ عِنْدَهُ «3» وَعِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ- عَلَى تَسْلِيمِهِ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «4» ، وَيُفَصِّلُ الْآيَ تَفْصِيلًا فِي قِرَاءَتِهِ «5» ، كَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ «6» عَنْهُ- فَيُمْكِنُ تَرَصُّدُ الشَّيْطَانِ لِتِلْكَ السَّكَتَاتِ وَدَسُّهُ فِيهَا مَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، مُحَاكِيًا نَغْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ مَنْ دَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ فَظَنُّوهَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشَاعُوهَا.. وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِحِفْظِ السُّورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَتَحَقُّقِهِمْ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَمِّ الْأَوْثَانِ وَعَيْبِهَا ما عرف منه.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «385» رقم «1» .
(2) كما اختاره القرافي.
(3) أي عند القاضي أبي بكر.
(4) والترتيل قراءة القرآن بتؤده.
(5) وفي نسخة (في تلاوته) .
(6) كما قالت عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عن قراءته عليه الصلاة والسلام (لو أراد سامع أن يعد حروفه عدها) لتأنيه فيها وتجويد حروفها وبيان حركاتها ومدها.

(2/300)


وَقَدْ حَكَى مُوسَى «1» بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ نَحْوَ هَذَا وَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْمَعُوهَا، وَإِنَّمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ وَقُلُوبِهِمْ، وَيَكُونُ مَا رُوِيَ مِنْ حُزْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذِهِ الْإِشَاعَةِ وَالشُّبْهَةِ وَسَبَبِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ «2» ..» الْآيَةَ فَمَعْنَى «تَمَنَّى» تَلَا «3» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ «4» » أَيْ تِلَاوَةً وَقَوْلُهُ: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ «5» أَيْ يُذْهِبُهُ وَيُزِيلُ اللَّبْسَ بِهِ، وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا يَقَعُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّهْوِ إِذَا قرأ
__________
(1) موسى بن عقبة: وفي بعض النسخ (محمد بن عقبة) وهذا خطا صريح. وقال الحافظ الحلبي انه مما لا شك فيه هو موسى بن عقبة ابن عباس مولى آل الزبير، وقيل مولى ام خالد روى عنه خلق كثير وهو ثبت ثقة توفي سنة احدى او اثنين واربعين ومائة، وأخرج له الستة ومغازيه من أصح المغازي كما قاله الامام مالك وقد ألف كتابا في مغازي النبي صلّى الله عليه وسلم. ومحمد بن عقبة أخو موسى. ولعقبة أولاد كلهم فقهاء محدثون لكل واحد منهم حلقة فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وترجمتهم مشهورة.
(2) «.. إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. الحج (52) .
(3) وقد قال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل
(4) الاية: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» البقرة «78»
(5) الاية.. الحج «52» .

(2/301)


فَيَنْتَبِهُ لِذَلِكَ، وَيَرْجِعُ عَنْهُ، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ الْكَلْبِيِّ «1» فِي الْآيَةِ أَنَّهُ حَدَّثَ نَفْسَهُ وَقَالَ «إِذَا تَمَنَّى» أَيْ حَدَّثَ نَفْسَهُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ «2» بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَحْوُهُ
وَهَذَا السَّهْوُ فِي الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ تَغْيِيرَ الْمَعَانِي، وَتَبْدِيلَ الْأَلْفَاظِ، وَزِيَادَةَ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلِ السَّهْوُ عَنْ إِسْقَاطِ آيَةٍ مِنْهُ أَوْ كَلِمَةٍ وَلَكِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى هَذَا السَّهْوِ بَلْ يُنَبَّهُ عَلَيْهِ، وَيُذَكَّرُ بِهِ لِلْحِينِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ السَّهْوِ وَمَا لَا يَجُوزُ وَمِمَّا يَظْهَرُ فِي تَأْوِيلِهِ أَيْضًا أَنَّ مُجَاهِدًا «3» رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ «وَالْغَرَانِقَةُ الْعُلَى» فَإِنْ سَلَّمْنَا الْقِصَّةَ قُلْنَا لَا يَبْعُدُ أَنَّ هَذَا كَانَ قُرْآنًا وَالْمُرَادُ بِالْغَرَانِقَةِ الْعُلَى وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى «الْمَلَائِكَةُ» عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
وَبِهَذَا فَسَرَّ الْكَلْبِيُّ «1» «الْغَرَانِقَةَ» أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ.. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ كانوا يعتقدون أنّ الْأَوْثَانَ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ.
كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «292» رقم «1» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «299» رقم «3» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «70» رقم «1» .

(2/302)


وَلَهُ الْأُنْثى «1» فَأَنْكَرَ اللَّهُ كُلَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ، وَرَجَاءُ الشَّفَاعَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ صَحِيحٌ.. فَلَمَّا تَأَوَّلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذِّكْرِ آلِهَتَهُمْ، وَلَبَّسَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ، وَرَفَعَ تِلَاوَةَ تِلْكَ اللَّفْظَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَجَدَ الشَّيْطَانُ بِهِمَا سَبِيلًا لِلْإِلْبَاسِ.. كَمَا نُسِخَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَرُفِعَتْ تِلَاوَتُهُ.. وَكَانَ فِي إِنْزَالِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ حِكْمَةٌ وَفِي نَسْخِهِ حِكْمَةٌ «لِيُضِلَّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وما يضلّ به إلّا الفاسقين «2» » لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ.. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ «3» » الْآيَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما قرأ هذه السورة ذِكْرَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، خَافَ الْكُفَّارُ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَمِّهَا فَسَبَقُوا إِلَى مَدْحِهَا بِتِلْكَ الْكَلِمَتَيْنِ لِيُخَلِّطُوا فِي تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُشَنِّعُوا عَلَيْهِ على عادتهم
__________
(1) «.. النجم آية «21»
(2) الصواب: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» سورة البقرة
(3) «.. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي.. الحج الايتان «53 و 54» .

(2/303)


وَقَوْلِهِمْ «لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «1» » وَنُسِبَ هَذَا الْفِعْلُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِحَمْلِهِ لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَشَاعُوا ذَلِكَ وَأَذَاعُوهُ.. وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَحَزِنَ لِذَلِكَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ.. فَسَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ «2» ..» الْآيَةَ وَبَيَّنَ لِلنَّاسِ الْحَقَّ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْبَاطِلِ وَحَفِظَ الْقُرْآنَ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ، وَدَفَعَ مَا لَبَّسَ بِهِ الْعَدُوُّ.. كَمَا ضَمِنَهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «3» » .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنْ «4» قِصَّةِ يُونُسَ عليه السلام أنه وَعَدَ قَوْمَهُ الْعَذابَ عَنْ رَبِّهِ، فَلَمَّا تَابُوا كُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فَقَالَ:
لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا فَذَهَبَ مُغَاضِبًا.
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنْ «5» لَيْسَ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُكُمْ وَإِنَّمَا فِيهِ أنه دعا عليهم بالهلاك.. والدعاء ليس بخير يُطْلَبُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ، لَكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إن العذاب مصبّحكم وقت كذا وكذا..
__________
(1) سورة فصلت آية 267» .
(2) «.. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. الْحَجِّ: 52.
(3) سورة الحجر آية «9» .
(4) وفي نسخة (في) .
(5) وفي نسخة (انه) .

(2/304)


فَكَانَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ.. ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَتَدَارَكَهُمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ «1» » الْآيَةَ..
وَرُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ. أَنَّهُمْ رَأَوْا دَلَائِلَ الْعَذَابِ وَمَخَايِلَهُ «2» ..
قَالَهُ «3» ابْنُ مَسْعُودٍ «4» .
وَقَالَ سَعِيدُ «5» بْنُ جُبَيْرٍ: غَشَّاهُمُ الْعَذَابُ كَمَا يُغَشِّي الثَّوْبُ «6» الْقَبْرَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى مَا رُوِيَ «7» أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ «8» بْنَ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يكتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا وَصَارَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي كُنْتُ أصرّف محمدا حيث أريد.. كان
__________
(1) «.. فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ يونس «98» .
(2) مخايله: جمع مخيلة وهي المظنة من خاله بمعنى ظنه.
(3) رواه عنه ابن مردويه مرفوعا وابن أبي حاتم موقوفا.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «214» رقم «2» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «58» رقم «4» .
(6) وفي نسخة (كما يغشي النوء القمر) .
(7) رواه ابن جبير عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
(8) عبد الله بن أبي سرح: وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث العامري القرشي الصحابي كاتب النبي صلّى الله عليه وسلم، اسلم قبل الفتح وهاجر ثم ارتد واسلم بعد ذلك وحسن اسلامه كما تقدم وولي في خلافة عثمان فلما قتل اعتزل الناس والتزم العبادة ودعا الله تعالى أن يتوفاه بعد الصلاة فمات بعد تسليمه من صلاة الصبح كما ذكره السهيلي.

(2/305)


يُمْلِي عَلَيَّ «عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فَأَقُولُ أَوْ «عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ كُلٌّ صَوَابٌ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «1» فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتُبْ كَذَا فَيَقُولُ:
أَكْتُبُ كَذَا؟ فَيَقُولُ اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ. وَيَقُولُ اكْتُبْ «عَلِيمًا حَكِيمًا» فَيَقُولُ أَكْتُبُ «سَمِيعًا بَصِيرًا» ؟ فَيَقُولُ لَهُ اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ.
وَفِي الصَّحِيحِ «2» عَنْ أَنَسٍ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ نَصْرَانِيًّا «4» كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم بعد ما أَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ «5» ، وَكَانَ يَقُولُ:
مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ.
فَاعْلَمْ ثَبَّتَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ عَلَى الْحَقِّ، وَلَا جَعَلَ لِلشَّيْطَانِ وَتَلْبِيسَهُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِلَيْنَا سَبِيلًا، أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَوَّلًا لَا تُوقِعُ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ رَيْبًا.. إِذْ هِيَ حِكَايَةٌ عَمَّنِ ارْتَدَّ وَكَفَرَ بِاللَّهِ.
وَنَحْنُ «6» لَا نَقْبَلُ خَبَرَ الْمُسْلِمِ المتّهم فكيف بكافر افترى هو ومثله
__________
(1) أي في رواية اخرى لهذا الحديث رواها السدي.
(2) أي في الحديث الذي رواه البخاري والصحيح اذا اطلق أريد به صحيح البخاري
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «47» رقم «1» .
(4) قال البرهان: لا أعرفه باسمه.. وفي مسلم انه رجل من بني النجار.
(5) ومات مرتدا فدفنوه فلفظته الارض فقالوا: هذا من فعل محمد فحفروا واعمقوا فلفظته ثانيا. وفعلوه ثالثا فلفظته.. فتركوه..
(6) أي علماء الدين او الحديث.

(2/306)


على الله ورسوله مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا.
وَالْعَجَبُ لِسَلِيمِ الْعَقْلِ يَشْغَلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ سِرَّهُ، وَقَدْ صَدَرَتْ مِنْ عَدُوٍّ كَافِرٍ مُبْغِضٍ لِلدِّينِ.. مُفْتَرٍ على الله ورسوله..
ولم يرد عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ شَاهَدَ مَا قَالَهُ وَافْتَرَاهُ على نبي الله، «وإِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ «1» » .
وَمَا وَقَعَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَظَاهِرِ حِكَايَتِهَا. فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَاهَدَهَا، وَلَعَلَّهُ حَكَى مَا سَمِعَ..
وَقَدْ عَلَّلَ الْبَزَّارُ «3» حَدِيثَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: رَوَاهُ ثَابِتٌ «4» عَنْهُ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ.. ورواه حميد «5» عن أنس «2» ، قال: وأظن حميدا إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ ثَابِتٍ «4» .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: وَلِهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ حَدِيثَ ثَابِتٍ «4» وَلَا حُمَيْدٍ «6» .
__________
(1) «.. وصوابها: إِنَّما يَفْتَرِي.. النحل (105) .
(2) تقدم آنفا.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «355» رقم «4» .
(4) أحد الرواة.
(5) حميد: بن عبد الرحمن وكان له طول في يديه توفي وهو قائم يصلي سنة اثنين وأربعين ومائة ووثقوه وقيل انه مدلس، اخرج له الستة.. ولا يخفى ان حديثه الذي رواه المصنف رواه البخاري.
(6) بل روى حديثه البخاري ورد المصنف له غير صحيح، والذي ينبغي له ان يقول: ان من قاله كذب وافترى ولا يقدح في أصل القصة وصحتها فانها مروية في الصحيحين

(2/307)


والصحيح حديث عبد الله «1» بن عزيز بْنِ رَفِيعٍ عَنْ أَنَسٍ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الَّذِي خَرَّجَهُ أَهْلُ الصِّحَّةِ، وَذَكَرْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ «2» قَوْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ إِلَّا مِنْ حِكَايَتِهِ عَنِ الْمُرْتَدِّ النَّصْرَانِيِّ..
وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا كَانَ فِيهَا قَدْحٌ، وَلَا تَوْهِيمٌ «3» لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلَا جَوَازٌ لِلنِّسْيَانِ وَالْغَلَطِ عَلَيْهِ، وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا بَلَّغَهُ، وَلَا طَعْنٌ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. إِذْ لَيْسَ فِيهِ- لَوْ صَحَّ- أَكْثَرُ مِنْ أن الكاتب قال له: «عليم حكيم» أو كتبه فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ هُوَ.. فَسَبَقَهُ لِسَانُهُ أَوْ قَلَمُهُ لِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ مِمَّا نَزَلَ عَلَى الرَّسُولِ قَبْلَ إِظْهَارِ الرَّسُولِ لَهَا.. إِذْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَمْلَاهُ الرَّسُولُ يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَيَقْتَضِي وُقُوعَهَا بِقُوَّةِ قُدْرَةِ الْكَاتِبِ عَلَى الْكَلَامِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَجَوْدَةِ حِسِّهِ وَفِطْنَتِهِ، كَمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ لِلْعَارِفِ إِذَا سَمِعَ الْبَيْتَ أَنْ يَسْبِقَ إِلَى قَافِيَّتِهِ، أَوْ مُبْتَدَأَ الْكَلَامِ الْحَسَنِ إِلَى مَا يَتِمُّ به.. ولا يتفق ذلك في جملة الكلام
__________
(1) عبد الله بن عزيز بن رفيع: تابعي جليل ثقة روى عن ابن عباس وابن عمرو عنه شعبة وأبو بكر بن عياش توفي سنة ثلاث ومائة وأخرج له الائمة الستة.
(2) تقدم ذكره.
(3) وفي نسخة (توهين) .

(2/308)


كَمَا لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فِي آيَةٍ وَلَا سُورَةٍ.. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن صح «كل صواب» فقد يكون هذا فيما فِيهِ مِنْ مَقَاطِعِ الْآيِ «1» وَجْهَانِ وَقِرَاءَتَانِ أُنْزِلَتَا جَمِيعًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأملى إحداهما، وَتَوَصَّلَ الْكَاتِبُ بِفِطْنَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ إِلَى الْأُخْرَى، فَذَكَرَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَوَّبَهَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَحْكَمَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحْكَمَ، وَنَسَخَ مَا نَسَخَ، كَمَا قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ في بعض مقاطيع الْآيِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» » وَهَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ «3»
وَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ «4» «فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُصْحَفِ وَكَذَلِكَ كَلِمَاتٌ جَاءَتْ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي غَيْرِ الْمَقَاطِعِ قرأ بهما معا الْجُمْهُورُ، وَثَبَتَتَا فِي الْمُصْحَفِ مِثْلَ: «وَانْظُرْ إِلَى العظام كيف ننشرها «5» .. وَنُنْشِزُهَا «6» ، «وَيَقْضِي «7» الْحَقَّ» «وَيَقُصُّ الْحَقَّ «8» » وَكُلُّ هَذَا لا يوجب ريبا، ولا يسبب
__________
(1) وفي نسخة (الايات) .
(2) سورة المائدة آية (18) .
(3) وهي القراءة المتواترة.
(4) وهي قراءة شاذة.
(5) ننشرها: من النشر أي نحييها وهي قراءة أبي عمرو وغيره.
(6) ننشزها: أي نحركها ونرفع بعضها على بعض من النشز وهو المكان المرتفع.
(7) يقضي الحق: وهي قراءة أبي عمرو وغيره.
(8) وهي قراءة نافع وغيره أي يتبع الحق.

(2/309)


لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَطًا وَلَا وَهْمًا.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَكْتُبُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ غَيْرَ الْقُرْآنِ فَيَصِفُ الله ويسمّيه في ذلك كيف شاء..

(2/310)