الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل السّابع حالته صلّى الله عليه وسلّم في أخبار الدّنيا
هَذَا الْقَوْلُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ.. وَأَمَّا مَا ليس سبيله سبيل البلاغ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا إِلَى الْأَحْكَامِ، وَلَا أَخْبَارِ الْمَعَادِ، وَلَا تُضَافُ إِلَى وَحْيٍ، بَلْ فِي أُمُورِ «1» الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ نَفْسِهِ.
فَالَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ تَنْزِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عن أَنْ يَقَعَ خَبَرُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ رضاه، وفي حال سَخَطِهِ، وَجَدِّهِ، وَمَزْحِهِ «2» ، وَصِحَّتِهِ، وَمَرَضِهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ اتِّفَاقُ السَّلَفِ وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ أَنَّا نَعْلَمُ مِنْ دِينِ الصَّحَابَةِ وَعَادَتِهِمْ مُبَادَرَتَهُمْ إِلَى تَصْدِيقِ جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَالثِّقَةِ بِجَمِيعِ أَخْبَارِهِ فِي أَيِّ باب كانت وعن «3» أي
__________
(1) وفي نسخة (أحوال) .
(2) وكان صلّى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول الا حقا كقوله للعجوز (لا تدخل الجنة عجوز) . وقوله للاعرابي (أحملك على ابن الناقة) . وقوله للمرأة (وهل زوجك في عينيه بياض) .
(3) وفي نسخة (وفي أي شيء) .

(2/311)


شَيْءٍ وَقَعَتْ، وَأَنَّهُ «1» لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَوَقُّفٌ وَلَا تَرَدُّدٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا اسْتِثْبَاتٍ عَنْ حَالِهِ عِنْدَ ذَلِكَ.. هَلْ وَقَعَ فِيهَا سَهْوٌ أَمْ لَا وَلَمَّا احْتَجَّ ابْنُ أَبِي «2» الْحُقَيْقِ الْيَهُودِيُّ «3» عَلَى عُمَرَ «4» حِينَ أَجْلَاهُمْ مِنْ خَيْبَرَ بِإِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لهم، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ؟! فَقَالَ الْيَهُودِيُّ:
كَانَتْ هَزِيلَةً «5» مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ.. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ «6» : كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَخْبَارَهُ وَآثَارَهُ، وَسِيَرَهُ وَشَمَائِلَهُ، مُعْتَنًى بِهَا مُسْتَقْصًى تَفَاصِيلُهَا.. وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا اسْتِدْرَاكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَلَطٍ فِي قَوْلٍ قَالَهُ، أَوِ اعْتِرَافُهُ بِوَهْمٍ فِي شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ.. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ «7» مِنْ قِصَّتِهِ «8» عليه السلام ورجوعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَشَارَ بِهِ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي تَلْقِيحِ النَّخْلِ.. وَكَانَ ذَلِكَ رأيا لا خبرا..
__________
(1) وفي نسخة (وانهم) .
(2) ابن أبي الحقيق: من يهود بني خيبر وليس هو كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق زوج صفية بنت حبي بن أخطب ام المؤمنين رضي الله عنها لأن هذا قتل في زمنه صلّى الله عليه وسلم.
(3) هذا الحديث رواه البخاري في حديث اجلاء يهود خيبر عن ابن عمر. ورواه مسلم أيضا.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «113» رقم «4» .
(5) هزيلة: تصغير هزلة وهي المرة من الهزل ضد الجد كما في النهاية.
(6) تقدم ذكره.
(7) فيما رواه مسلم عن طلحة وأنس وغيرهما.
(8) وفي نسخة (من قصة رجوعه عليه الصلاة والسلام) .

(2/312)


وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ هذا الباب.
كقوله «1» : «وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا فَعَلْتُ الَّذِي حَلَفْتُ عَلَيْهِ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي» .
وَقَوْلِهِ «2» : «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ» .. الْحَدِيثَ «3» .
وَقَوْلِهِ «4» : «اسْقِ «5» يَا زُبَيْرُ «6» حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ «7» الْجَدْرَ «8» » ..
كَمَا سَنُبَيِّنُ كُلَّ مَا فِي هذا الحديث مِنْ مُشْكِلِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ وَالَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ أَشْبَاهِهِمَا «9» .
- وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَذِبَ مَتَى عُرِفَ مِنْ أَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَى أي وجه كان، استريب بخبره، واتّهم
__________
(1) عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الشيخان عن أبي موسى الاشعري رضي الله تعالى عنه في غزوة تبوك لما سأله صلّى الله عليه وسلم بعض الصحابة أن يحملهم فقال: (والله ما عندي ما احملكم عليه) فأتي بعد ذلك بإبل فأعطاها السائل وقال: ما أنا حملتكم ولكن الله تعالى حملكم) ثم قال: والله لا أحلف الحديث.
(2) في حديث رواه الشيخان عن ام سلمة رضي الله عنها.
(3) وتمامه (ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئا فكأنما اقتطع له قطعة من النار) .
(4) فيما رواه الائمة الستة عن الزبير.
(5) أسق: بفتح الهمزة.
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «591» رقم «5» .
(7) الجدر: بفتح الجيم وكسرها وسكون الدال المهملة وبالراء لفة في الجدار والمراد ههنا أصل الحائط كما ذكره النووي. وفي نسخة الجدر بضمتين وهو جمع الجدار..
(8) وكان رجل من الانصار تخاصم مع الزبير بسبب ماء السقي.. وحكم بينهما الرسول صلّى الله عليه وسلم فقال الرجل ان كان ابن عمتك.. فتلون وجه النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: الحديث.. وفي هذا الرجل نزل قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) .
(9) ويروي (اشباهها) .

(2/313)


فِي حَدِيثِهِ، وَلَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعًا..
وَلِهَذَا تَرَكَ الْمُحَدِّثُونَ وَالْعُلَمَاءُ الْحَدِيثَ عَمَّنْ عُرِفَ بِالْوَهْمِ وَالْغَفْلَةِ، وَسُوءِ الْحِفْظِ، وَكَثْرَةِ الْغَلَطِ مَعَ ثِقَتِهِ «1» ..
- وَأَيْضًا فَإِنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مَعْصِيَةٌ..
وَالْإِكْثَارَ مِنْهُ كَبِيرَةٌ بِإِجْمَاعٍ، مسقط المروءة، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ مَنْصِبُ النُّبُوَّةِ..
والمرة الواحدة منه فيما يستبشع ويستشنع مما يخلّ بصاحبها ويزري بقائلها لا حقة بِذَلِكَ..
وَأَمَّا فِيمَا لَا يَقَعُ هَذَا الْمَوْقِعَ، فَإِنْ عَدَدْنَاهَا مِنَ الصَّغَائِرِ فَهَلْ تَجْرِي عَلَى حُكْمِهَا فِي الْخِلَافِ فِيهَا؟!. مُخْتَلَفٌ فِيهِ..
وَالصَّوَابُ تنزيه النبوة عن قليله وكثيره، وسهوه وَعَمْدِهِ..
إِذْ عُمْدَةُ النُّبُوَّةِ الْبَلَاغُ وَالْإِعْلَامُ وَالتَّبْيِينُ، وَتَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَجْوِيزُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا قَادِحٌ في ذلك ومشكك فيه مناقض للمعجزة..
__________
(1) وقد حكي ان البخاري قصد رجلا في مكان بعيد لاخذ حديث عنه فلما وصله بعد السفر الطويل وجده آخذا بذيله وهو يشير الى دابته النافرة تحديبا لها وموهما اياها ان في حجره شعيرا ولم يكن به ذلك فرجع عنه البخاري ولم يأخذ منه حديثا لانه رآه يكذب على دابة.

(2/314)


فَلْنَقْطَعْ عَنْ «1» يَقِينٍ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ خُلْفٌ «2» فِي الْقَوْلِ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَا بِقَصْدٍ وَلَا بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا نتسامح «3» مع من تسامح في تجويز ذلك عليهم حال السهو فيما «4» لَيْسَ طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ.. نَعَمْ «5» وَبِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا الِاتِّسَامُ بِهِ فِي أُمُورِهِمْ، وَأَحْوَالِ دُنْيَاهُمْ.. لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يزري ويريب بهم، وَيُنَفِّرُ الْقُلُوبَ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ بَعْدُ.
وَانْظُرْ أَحْوَالَ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَسُؤَالِهِمْ عَنْ حَالِهِ فِي صِدْقِ لِسَانِهِ، وَمَا عُرِفُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِهِ مِمَّا عُرِفَ، وَاتَّفَقَ النَّقْلُ «6» عَلَى عِصْمَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْآثَارِ فِيهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي أَوَّلَ الْكِتَابِ مَا يبين لك صحة ما أشرنا «7» اليه..
***
__________
(1) وفي نسخة (على) .
(2) وفي نسخة (تخلف)
(3) وفي نسخة (لا يتسامح) بالمبني للمجهول.
(4) وفي نسخة (مما) .
(5) جواب سؤال تقديره: هل هذا شامل لما قبل النبوة؟.
(6) ويروى (واتفق أهل النقل)
(7) ومن جملته قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يقولون فانهم لا يكذبونك) بالتشديد والتخفيف أي لا ينسبونك الى الكذب.

(2/315)