الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الثَّامِنُ رَدُّ بَعْضِ
الِاعْتِرَاضَاتِ
فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي حَدِيثِ «1» السَّهْوِ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ الْفَقِيهُ أبو إسحق
«2» إبراهيم بن جعفر..
قال أبو هريرة «3» رضي الله عنه: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ «4» فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ..
فَقَامَ ذُو اليدين «5» فقال: يا رسول
__________
(1) هذا الحديث رواه الشيخان ومالك والترمذي وغيرهم، ولم يرده المصنف رحمه
الله من طريق الصحيحين بل من طريق غيرهما.. وأخرجه المصنف من الموطأ لان
بينه وبين مالك سبعة اشخاص. وكذلك في مسلم ولكن الموطأ مقدم عند المغاربة.
ولو أخرجه من النسائي كان يقع له أعلى من الموطأ عن أبي هريرة.
(2) هو ابراهيم بن جعفر المكنى بأبي اسحاق اشتهر في التضلع بالفقه، وهو
عالم مشهور تقي ورع
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «5» .
(4) وقيل الظهر كما في رواية مسلم.
(5) ذو اليدين: وسمي به لان في يديه او في احداهما طولا.. ووهم هنا الزهري
مع سعة علمه فقال: ذو الشمالين ولا يصح لان ذا الشمالين استشهد ببدر وذو
اليدين شهد قصة أبي هريرة واسلام أبي هريرة بعد خيبر.. وقد تأخر موته حتى
روى عنه متأخر والتابعين كمطير. والقول بأنهما واحد لا يصح لان ذا الشمالين
خزاعي وذا اليدين سلمي
(2/316)
أقصرت «1» الصلاة أم نسيت؟. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ
يَكُنْ.»
وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «ما قصرت الصلاة وما نسيت-» الحديث بقصته
فأخبر بِنَفْيِ الْحَالَتَيْنِ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَقَدْ كَانَ أَحَدُ
ذَلِكَ، كَمَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ «2» . «قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ..»
فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ
أَجْوِبَةً بَعْضُهَا بِصَدَدِ الْإِنْصَافِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بِنِيَّةِ
«3» التَّعَسُّفِ «4» وَالِاعْتِسَافِ..
وَهَا أَنَا أَقُولُ: أَمَّا على القول الأول.. بتجويز الوهم والغلط مما
لَيْسَ طَرِيقُهُ مِنَ الْقَوْلِ الْبَلَاغُ وَهُوَ الَّذِي زَيَّفْنَاهُ
«5» مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
فَلَا اعْتِرَاضَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَشِبْهِهِ..
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ السَّهْوَ والنسيان فِي أَفْعَالِهِ
جُمْلَةً وَيَرَى أَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا عَامِدٌ لِصُورَةِ النِّسْيَانِ
لِيَسُنَّ، فَهُوَ صَادِقٌ فِي خَبَرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسَ وَلَا
قَصُرَتْ، وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَعَمَّدَ هَذَا الْفِعْلَ في
هذه الصورة ليسنه لِمَنِ اعْتَرَاهُ مِثْلُهُ.. وَهُوَ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ
عَنْهُ،
__________
(1) اقصرت: روي بفتح القاف بمعنى النقص، وروي بضم القاف من القصر ضد
الاتمام وقال النووي كلاهما صحيح.. والثاني أشهر واصح.
(2) تقدم ذكره آنفا.
(3) وفي نسخة (بتيه) .
(4) التعسف هو الخروج عن الجادة وركوب الامر بالمنقة وفي معناه الاعتساف
وانما جمع بينهما للمبالغة.
(5) أي ضعفناه.
(2/317)
نذكره «1» فِي مَوْضِعِهِ.. وَأَمَّا عَلَى
إِحَالَةِ السَّهْوِ عَلَيْهِ.. فِي الْأَقْوَالِ وَتَجْوِيزِ السَّهْوِ
عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ الْقَوْلَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ «2»
فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ:
مِنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ
عَنِ اعْتِقَادِهِ وَضَمِيرِهِ، - أَمَّا إِنْكَارُ الْقَصْرِ فَحَقٌّ
وَصِدْقٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَأَخْبَرَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اعْتِقَادِهِ وَأَنَّهُ لَمْ ينس في ظنه
فكأنه قصد الخبر بهذا عَنْ ظَنِّهِ وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، وَهَذَا «3»
صِدْقٌ أَيْضًا.
وَوَجْهٌ ثَانٍ: «أَنَّ قَوْلَهُ «وَلَمْ أَنْسَ» رَاجِعٌ إِلَى السَّلَامِ
أَيْ إِنِّي سَلَّمْتُ قَصْدًا وَسَهَوْتُ عَنِ الْعَدَدِ.. أَيْ لَمْ
أَسْهُ فِي نَفْسِ السَّلَامِ..
وَهَذَا مُحْتَمَلٌ.. وَفِيهِ بُعْدٌ» ..
وجه ثالث: (وهو أبعدها.. مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَإِنِ
احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ قَوْلِهِ، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ.. أَيْ
لَمْ يَجْتَمِعِ الْقَصْرُ وَالنِّسْيَانُ بَلْ كَانَ أَحَدُهُمَا..
وَمَفْهُومُ اللَّفْظِ خِلَافُهُ مَعَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
الصَّحِيحَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ «مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ وَمَا «4» نَسِيتُ»
) .
- هَذَا مَا رَأَيْتُ فِيهِ لِأَئِمَّتِنَا.. وَكُلٌّ مِنْ هذه الوجوه
محتمل
__________
(1) وفي نسخة (ونذكره) .
(2) أي على القول الاصح.
(3) ويروى (وهو) .
(4) وفي نسخة (ولا نسيت) .
(2/318)
لِلَّفْظِ «1» عَلَى بُعْدِ بَعْضِهَا «2»
، وَتَعَسُّفِ الْآخَرِ «3» مِنْهَا
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ «4» وَفَّقَهُ اللَّهُ: وَالَّذِي أَقُولُ
وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الوجوه كلها أن قوله: «لَمْ
أَنْسَ» إِنْكَارٌ لِلَّفْظِ الَّذِي نَفَاهُ عَنْ نفسه وأنكره على غيره
بقوله «5» : «بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا
وكذا، ولكنه نسّي «6» .» وبقوله في في بعض «7» رواية، الحديث الاخر: «لست
أنسى ولكن «8» أنسّى» ..
فَلَمَّا قَالَ لَهُ السَّائِلُ.. أَقْصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ..
أَنْكَرَ قَصْرَهَا كَمَا كَانَ وَنِسْيَانُهُ هُوَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ..
وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ جَرَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ نَسِيَ حَتَّى
سَأَلَ غَيْرَهُ، فَتَحَقَّقَ أَنَّهُ نَسِيَ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ
لِيُسَنَّ.
فَقَوْلُهُ عَلَى هَذَا «لَمْ أَنْسَ» «وَلَمْ تَقْصُرْ» ، «وَكُلُّ «9»
ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ» ، صِدْقٌ وَحَقٌّ، لَمْ تَقْصُرْ، وَلَمْ يَنْسَ
حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ نُسِّيَ.
__________
(1) وفي نسخة (اللفظ) .
(2) وهو الوجه الثاني.
(3) وهو الوجه الثالث.
(4) أبو الفضل المصنف.
(5) فيما رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنهما.
(6) ولأبي عبيد (بئسما لاحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، ليس هو نسي ولكنه
نسي) . ولكن ظاهر الحديث يخص النسيان بأي القرآن فلا يعم سائر الاقوال
والافعال.
(7) وفي نسخة (في رواية الحديث الاخر) بدون (بعض) .
(8) وفي نسخة (ولكني) .
(9) وفي نسخة (اذ كل ذلك) .
(2/319)
وَوَجْهٌ آخَرُ اسْتَثَرْتُهُ «1» مِنْ
كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْهُو وَلَا
يَنْسَى وَلِذَلِكَ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ النِّسْيَانَ قَالَ: لِأَنَّ
النِّسْيَانَ غفلة وآفة، والسهو إنما هو شغل «2» .. قَالَ:
فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي
صِلَاتِهِ وَلَا يَغْفَلُ عَنْهَا.. وَكَانَ يَشْغَلُهُ عَنْ حَرَكَاتِ
الصَّلَاةِ مَا فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا بِهَا لَا غَفْلَةً عَنْهَا..
فَهَذَا إِنْ تَحَقَّقَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.. لَمْ يَكُنْ فِي قوله «ما
قصرت» و «ما نَسِيتُ» خُلْفٌ فِي قَوْلٍ.
وَعِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ: «مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ وَمَا نَسِيتُ»
بِمَعْنَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ وَجْهَيِ النِّسْيَانِ أَرَادَ-
وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنِّي لَمْ أُسَلِّمْ مِنْ رَكْعَتَيْنِ تَارِكًا
لِإِكْمَالِ الصَّلَاةِ. وَلَكِنِّي نَسِيتُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ
تِلْقَاءِ نَفْسِي.. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إني لا أنسى أو أنسى
لأسنّ» والله الموفق «3» للصواب. أما قصة كلمات إبراهيم المذكورة «4» أنها
__________
(1) استثرته: أي استخرجته ومنه قوله تعالى (فأثرن به نقعا) وأصله استثار
الغبار حركه حتى يضطرب.
(2) ولذا قال تعالى (فلا تنسى) أي باختيارك (الا ما شاء الله) بان ينسيك من
غير تقصير منك.
(3) هذه الجملة ساقطة من بعض النسخ وموجودة في أخرى.
(4) وفي نسخة (الواردة في الحديث) أي الصحيح الذي رواه الشيخان عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ (انه لم يكذب ابراهيم الا ثلاث كذبات) الخ.
(2/320)
كِذْبَاتُهُ الثَّلَاثُ الْمَنْصُوصَةُ فِي
الْقُرْآنِ مِنْهَا اثْنَتَانِ قوله «إِنِّي سَقِيمٌ «1» » «بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا «2» » وَقَوْلُهُ «3» لِلْمَلِكِ عَنْ زَوْجَتِهِ إِنَّهَا
أُخْتِي.
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ
الْكَذِبِ، لَا فِي الْقَصْدِ وَلَا فِي غَيْرِهِ.. وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي
بَابِ الْمَعَارِيضِ «4» الَّتِي فِيهَا مَنْدُوحَةٌ «5» عَنِ الْكَذِبِ
«6» .. أَمَّا قَوْلُهُ «إِنِّي سَقِيمٌ «7» »
فَقَالَ الْحَسَنُ «8» وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ «سَأَسْقَمُ» أَيْ إِنَّ
كُلَّ مَخْلُوقٍ مُعَرَّضٌ لِذَلِكَ فَاعْتَذَرَ لِقَوْمِهِ مِنَ
الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى عِيدِهِمْ بِهَذَا.
وَقِيلَ: «بَلْ سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ» .
وَقِيلَ: «سَقِيمُ الْقَلْبِ بِمَا أُشَاهِدُهُ «9» مِنْ كُفْرِكُمْ
وَعِنَادِكُمْ» .
وَقِيلَ: بَلْ كَانَتِ الْحُمَّى تَأْخُذُهُ عِنْدَ طُلُوعِ نجم معلوم..
فلما
__________
(1) «.. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ. الصافات آية رقم «89» .
(2) «.. قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا
يَنْطِقُونَ. الانبياء (63) .
(3) وهذه الذي ذكرت في الحديث.
(4) معاريض: جمع معراض وهو من التعرض خلاف التصريح. وهو نوع من الكناية
كالتورية بأن يتكلم ما يوهم خلاف مراده
(5) مندوحة: أي سعة من ندح أي توسع وهي بكسر الميم
(6) وفي الحديث الذي رواه البخاري في الادب المفرد مسندا موقوفا (أي في
معاريض الكلام مندوحة عن الكذب) واخرجه الطبراني والبيهقي من طريق آخر عن
قتادة مرفوعا. وحسنه العراقي.
(7) الصافات آية رقم «89» .
(8) تقدمت ترجمته في ج 1 «60» رقم «8» .
(9) وفي نسخة بما (شاهدته) .
(2/321)
رَآهُ اعْتَذَرَ بِعَادَتِهِ» . وَكُلُّ
هَذَا لَيْسَ فِيهِ كذب.. بل خَبَرٌ صَحِيحٌ صِدْقٌ..
وَقِيلَ: «بَلْ عَرَّضَ بِسَقَمِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَضَعْفِ مَا
أَرَادَ بَيَانَهُ لَهُمْ، مِنْ جِهَةِ النُّجُومِ الَّتِي كَانُوا
يَشْتَغِلُونَ بِهَا، وأنه أثناء نظره في ذلك» .. وقيل: «اسْتِقَامَةِ
حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ سَقَمٍ وَمَرَضٍ» ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ
يَشُكَّ هُوَ، وَلَا ضَعُفَ إِيمَانُهُ.. وَلَكِنَّهُ ضَعُفَ فِي
اسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِمْ.. وَسَقِمَ نَظَرُهُ.. كَمَا يُقَالُ: (حُجَّةٌ
سَقِيمَةٌ) (وَنَظَرٌ مَعْلُولٌ) .. حَتَّى أَلْهَمَهُ اللَّهُ
بِاسْتِدْلَالِهِ وَصِحَّةِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْكَوَاكِبِ
وَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، مَا نَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّمْنَا
بَيَانَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «1» » الاية..
فإن عَلَّقَ خَبَرَهُ بِشَرْطِ نُطْقِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ
يَنْطِقُ فَهُوَ فِعْلُهُ..
عَلَى طَرِيقِ التَّبْكِيتِ لِقَوْمِهِ.. وَهَذَا صِدْقٌ أَيْضًا وَلَا
خُلْفَ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «أُخْتِي» .. فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ «2»
وَقَالَ:
فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ.. وَهُوَ صِدْقٌ.
والله تعالى يقول: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «3» » .
__________
(1) «.. قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا
يَنْطِقُونَ. الانبياء آية «63»
(2) الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) «.. فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ» . الحجرات آية «10»
(2/322)
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَمَّاهَا كِذْبَاتٍ.
وَقَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ «1» »
وَقَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «2» وَيَذْكُرُ كِذْبَاتِهِ..
فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلَامٍ صُورَتُهُ صُورَةُ
الْكَذِبِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الْبَاطِنِ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَاتِ.
وَلَمَّا كَانَ مَفْهُومُ ظَاهِرِهَا خِلَافَ بَاطِنِهَا أَشْفَقَ
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام بمؤاخذته «3» بِهَا.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ «4» : «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا.»
فَلَيْسَ فِيهِ خُلْفٌ فِي الْقَوْلِ.. إِنَّمَا هُوَ سَتْرُ مَقْصِدِهِ
لِئَلَّا يَأْخُذَ عَدُوُّهُ حِذْرَهُ.. وَكَتَمَ وَجْهَ ذَهَابِهِ
بِذِكْرِ السُّؤَالِ عَنْ مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَالْبَحْثِ عَنْ أَخْبَارِهِ وَالتَّعْرِيضِ بِذِكْرِهِ. لَا أَنَّهُ
يَقُولُ: تَجَهَّزُوا إِلَى غَزْوَةِ كَذَا، أَوْ وِجْهَتُنَا إِلَى
مَوْضِعِ كَذَا خِلَافَ مَقْصِدِهِ، فَهَذَا لَمْ يكن.
__________
(1) وفي مسلم: «اثنتين في ذات الله وواحدة في شأن سارة» .
(2) يشير الى ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم يأتون ابراهيم
عليه الصلاة والسلام ويقولون: انت نبي الله وخليله اشْفَعْ لَنَا إِلَى
رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ
اليوم غضبا لم يغضب قبله ولا بعده مثله واني قد كنت كذبت ثلاث كذبات
(ويذكرهن) اذهبوا الى غيري، الحديث:
(3) وفي نسخة (من مؤاخذته) .
(4) الحديث الذي رواه الشيخان عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه وفي نسخة
(وكذلك الحديث) .
(2/323)
والأول ليس فيه خبر يدخله الخلف.
وَالْأَوَّلُ لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ يَدْخُلُهُ الْخُلْفُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ
سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ «1» ؟ .. فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ..
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ!
الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ بَلْ عَبْدٌ «2» لَنَا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ
أَعْلَمُ مِنْكَ.
وَهَذَا خبر قد أنبأ الله أنه ليس كذلك، فاعلم أنه وَقَعَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ عَنِ ابْنِ «3» عَبَّاسٍ.
«هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟»
فَإِذَا كَانَ جَوَابُهُ عَلَى عِلْمِهِ فَهُوَ خَبَرُ حَقٍّ وَصِدْقٍ لَا
خُلْفَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ.
وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ فَمَحْمَلُهُ عَلَى ظَنِّهِ وَمُعْتَقَدِهِ،
كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ لِأَنَّ حَالَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالِاصْطِفَاءِ
يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ إِخْبَارُهُ بِذَلِكَ أَيْضًا عَنِ
اعْتِقَادِهِ وَحُسْبَانِهِ صِدْقًا لَا خُلْفَ فِيهِ.
وَقَدْ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: «أَنَا أعلم» بما تقتضيه وظائف النبوة من
__________
(1) الحديث مروي في الصحيح عن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه. ورواه الشيخان
(2) والعبودية أعلى مراتب الاصطفاء لقوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى
بِعَبْدِهِ) . الاسراء آية (1) وذكر الخفاجي بيتين للقاضي عياض رحمه الله.
ومما زادني شرفا وتيها ... وكدت بأخمصي اطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وجعلك خير خلقك لي نبيا
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(2/324)
عُلُومِ التَّوْحِيدِ، وَأُمُورِ
الشَّرِيعَةِ، وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَيَكُونُ الْخَضِرُ «1» أَعْلَمَ
مِنْهُ بِأُمُورٍ أُخَرَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِعْلَامِ
اللَّهِ مِنْ عُلُومِ غَيْبِهِ، كَالْقَصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي
خَبَرِهِمَا. فَكَانَ مُوسَى أَعْلَمَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِمَا تَقَدَّمَ،
وَهَذَا أَعْلَمُ عَلَى الْخُصُوصِ بِمَا أُعْلِمَ.. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ:
قَوْلُهُ تعالى «وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً «2» » .
وعتب «3» الله عَلَيْهِ- فِيمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ- إِنْكَارُ هَذَا
الْقَوْلِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ.. كَمَا
قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ «لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا «4» »
أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ قَوْلَهُ شَرْعًا.. وَذَلِكَ- وَاللَّهُ
أَعْلَمُ- لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ من لم يبلغ كما له فِي
تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَيَهْلِكَ
لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ مَدْحِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَيُورِثُهُ ذَلِكَ
مِنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالتَّعَاطِي وَالدَّعْوَى، وَإِنْ نُزِّهَ
عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْأَنْبِيَاءُ فَغَيْرُهُمْ بِمَدْرَجَةِ
سَبِيلِهَا، وَدَرْكِ لَيْلِهَا، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ الله.
فالتحفظ منها أولى لنفسه، وليقتدى به،
ولهذا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَفُّظًا مِنْ مِثْلِ
هَذَا مِمَّا قَدْ عُلِمَ بِهِ «5» : «أَنَا سيد
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «523» رقم «1» .
(2) «.. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا
وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً الكهف «6» .
(3) عتب: بفتح العين المهملة وسكون التاء المثناة الفوقية.
(4) «.. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ البقرة «32» .
(5) ورواية الصحيحين «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» .
(2/325)
وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَهَذَا
الْحَدِيثُ إِحْدَى حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِنُبُوَّةِ الْخَضِرِ لِقَوْلِهِ
فِيهِ: «أَنَا أَعْلَمُ مِنْ مُوسَى» وَلَا يَكُونُ الْوَلِيُّ أَعْلَمَ من
مِنَ النَّبِيِّ.
وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَيَتَفَاضَلُونَ فِي الْمَعَارِفِ..
وَبِقَوْلِهِ «وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي «1» » .
- فَدَلَّ أَنَّهُ يوحي.. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ قَالَ:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ بِأَمْرِ نَبِيٍّ آخَرَ.. وَهَذَا
يَضْعُفُ لِأَنَّهُ مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى نَبِيٌّ
غَيْرُهُ إِلَّا أَخَاهُ هَارُونَ. وَمَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ..
- وَإِذَا جَعَلْنَا «أَعْلَمَ مِنْكَ» لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ،
وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَفِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ، لَمْ
يَحْتَجْ إِلَى إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ الْخَضِرِ.
- وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: كَانَ مُوسَى أَعْلَمَ مِنَ
الْخَضِرِ فِيمَا أَخَذَ عَنِ اللَّهِ، وَالْخَضِرُ أَعْلَمُ فِيمَا دُفِعَ
إِلَيْهِ من موسى..
وقال آخر إنما ألجىء موسى إلى الخضر للتأديب لا للتعليم..
***
__________
(1) «.. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» الكهف آية رقم
«82» .
(2/326)
|