الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل العاشر عصمتهم من المعاصي قبل
النبوّة
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ النُّبُوَّةِ
فَمَنَعَهَا قَوْمٌ وَجَوَّزَهَا آخَرُونَ.
وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَنْزِيهُهُمْ مَنْ كُلِّ عَيْبٍ
وَعِصْمَتُهُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُوجِبُ الرَّيْبَ.. فَكَيْفَ
وَالْمَسْأَلَةُ تَصَوُّرُهَا كَالْمُمْتَنِعِ.. فَإِنَّ الْمَعَاصِي
وَالنَّوَاهِي إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَقَرُّرِ الشَّرْعِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَالِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ..
هَلْ كَانَ مُتَّبِعًا لِشَرْعٍ قَبْلَهُ، أَمْ لَا؟؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ
لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِشَيْءٍ.. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
فَالْمَعَاصِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَلَا
مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّهِ حِينَئِذٍ، إِذِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ
إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بالأوامر والنواهي،
(2/335)
وَتَقَرُّرِ «1» الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ
اخْتَلَفَتْ حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَيْهَا..
فَذَهَبَ سَيْفُ السُّنَّةِ وَمُقْتَدَى فِرَقِ الْأُمَّةِ الْقَاضِي أَبُو
بَكْرٍ «2» إِلَى أَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ النَّقْلُ، وَمَوَارِدُ
الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ..
وَحُجَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَنُقِلَ، وَلَمَا أَمْكَنَ
كَتْمُهُ وَسَتْرُهُ فِي الْعَادَةِ..
إِذْ كَانَ مِنْ مُهِمِّ أَمْرِهِ وَأَوْلَى مَا اهْتُبِلَ «3» بِهِ مِنْ
سِيرَتِهِ، وَلَفَخَرَ بِهِ أَهْلُ تِلْكَ الشريعة ولا حتجوا بِهِ
عَلَيْهِ.. وَلَمْ يُؤْثَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً.. وَذَهَبَتْ
طَائِفَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ عَقْلًا.. قَالُوا:
لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا مَنْ عُرِفَ تَابِعًا
وَبَنَوْا «4» هَذَا عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ «5» ، وَهِيَ
طَرِيقَةٌ غَيْرُ سَدِيدَةٍ.
وَاسْتِنَادُ ذَلِكَ إِلَى النَّقْلِ- كَمَا تَقَدَّمَ لِلْقَاضِي أَبِي
بَكْرٍ- أَوْلَى وَأَظْهَرُ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: «بِالْوَقْفِ فِي
أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ قَطْعِ الْحُكْمِ
عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ إِذْ لَمْ يُحِلْ أحد الوجهين منها العقل ولا
__________
(1) أي تحققها وظهورها
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «385» رقم «1» . وانما مدحه المؤلف اشارة الى
ترجيح هذا المذهب وان لا ينبغي العدول عنه وهو أيضا على مذهبه لأنه مالكي
لا شافعي كما قد يتوهم من اشعريته.
(3) اهتبل: بهاء وتاء مثناة فوقية موحدة ومبني للمجهول من الاهتبال وهو شدة
الاعتناء.
(4) (وبنوا) في بعض النسخ غير موجودة.
(5) أي على التحسين والتقبيح العقليين وهو مذهب المعتزلة وهو عبارة عن تعلق
المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا. وأهل السنة يقولون: لا يعرف حسن
امر او قبحه الا من جهة الشرع اذ لا دخل للعقل فيه.
(2/336)
استبان عندها فِي أَحَدِهِمَا طَرِيقُ
النَّقْلِ.. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْمَعَالِي «1»
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: «إِنَّهُ كَانَ عَامِلًا بشرح مَنْ
قَبْلَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا- هَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الشَّرْعُ أَمْ
لَا؟. فَوَقَفَ بَعْضُهُمْ عَنْ تَعْيِينِهِ وَأَحْجَمَ وَجَسَرَ
بَعْضُهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ وَصَمَّمَ» .
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْمُعَيَّنَةُ فِيمَنْ كَانَ يَتْبَعُ فَقِيلَ:
نُوحٌ «2» وَقِيلَ:
إِبْرَاهِيمُ «3» . وَقِيلَ: مُوسَى «4» . وَقِيلَ: عِيسَى «5» صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
وَالْأَظْهَرُ فِيهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ «6»
وَأَبْعَدُهَا مَذَاهِبُ الْمُعَيَّنِينَ.. إِذْ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا قدمناه، وَلَمْ يَخْفَ جُمْلَةً.. وَلَا حُجَّةَ
لَهُمْ فِي أَنَّ عِيسَى آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ فَلَزِمَتْ شَرِيعَتُهُ مَنْ
جَاءَ بَعْدَهَا.. إِذْ لَمْ يَثْبُتْ عُمُومُ دَعْوَةِ عِيسَى «7» .. بَلِ
الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ إِلَّا
لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولا حجة
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «475» رقم «3» .
(2) لانه اول الرسل اصحاب الدعوة العامة في الجملة كما في البخاري.
(3) لانه أفضل الرسل غير النبي صلّى الله عليه وسلم بالاتفاق وأبو الانبياء
وعليهم الصلاة والسلام.
(4) لان كتابه أجل الكتب قبل القرآن.
(5) لانه اقرب الرسل زمانا اليه صلّى الله عليه وسلم.
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «382» رقم «1» .
(7) لقوله تعالى (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) . سورة الصف آية رقم (6) .
(2/337)
أيضا للاخرين «1» فِي قَوْلِهِ: «أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «2» » وَلَا لِلْآخَرِينَ «3» فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً «4»
» فمجمل «5» هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ «6» » ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مَنْ لَمْ يبعث،
ولم تكن له شريعته تَخُصُّهُ، كَيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ- عَلَى قَوْلِ مَنْ
يَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ-..
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى جَمَاعَةً مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
شَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا فَدَلَّ
أَنَّ الْمُرَادَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ
اللَّهِ تَعَالَى..
وَبَعْدَ هَذَا فَهَلْ يَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِمَنْعِ الِاتِّبَاعِ هَذَا
الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يخالفون بينهم؟ ..
أَمَّا مَنْ مَنَعَ الِاتِّبَاعَ عَقْلًا فَيَطَّرِدُ أَصْلُهُ في كل رسول
بلا مرية..
__________
(1) القائلين باتباعه لشريعة ابراهيم عليه السلام.
(2) «.. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» النمل آية (123) .
(3) القائلين بانه صلّى الله عليه وسلم كان على شريعة نوح.
(4) «.. شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» الشورى آية (13)
(5) وفي نسخة (مجمل) .
(6) «.. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى
لِلْعالَمِينَ» الانعام آية (90) .
(2/338)
وأما من قال إِلَى النَّقْلِ فَأَيْنَمَا
تُصُوِّرَ لَهُ وَتُقُرِّرَ اتَّبَعَهُ وَمَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ فَعَلَى
أَصْلِهِ..
وَمَنْ قَالَ بوجوب الاتباع لمن قبله يلتزمه بمساق صحبته في كل نبي «1» ..
__________
(1) وفي نسخة (في كل شيء) .
(2/339)
|