الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل الحادي عشر السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ
فِي الْأَفْعَالِ
هَذَا حُكْمُ مَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ
قَصْدٍ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً وَيَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ..
وَأَمَّا مَا يَكُونُ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ، كَالسَّهْوِ،
وَالنِّسْيَانِ فِي الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ، مِمَّا تَقَرَّرَ
الشَّرْعُ بِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ، وَتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ
عَلَيْهِ.. فَأَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ
وَكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ لَهُمْ مَعَ أُمَمِهِمْ سَوَاءٌ.
ثُمَّ ذَلِكَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
- مَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ وَتَقْرِيرُ الشَّرْعِ وَتَعَلُّقُ
الْأَحْكَامِ وَتَعْلِيمُ الْأُمَّةِ بِالْفِعْلِ وَأَخْذُهُمْ
بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ.
- وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِنَفْسِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَحُكْمُهُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ حُكْمُ
السَّهْوِ فِي الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ.. وَقَدْ ذَكَرْنَا
الِاتِّفَاقَ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ فِي حَقِّ
(2/340)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعِصْمَتَهُ مِنْ جَوَازِهِ عَلَيْهِ قَصْدًا أَوْ سَهْوًا،
فَكَذَلِكَ قَالُوا: الْأَفْعَالُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَجُوزُ طُرُوُّ
الْمُخَالَفَةِ فِيهَا، لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى
الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ التَّبْلِيغِ وَالْأَدَاءِ.. وَطُرُوُّ هَذِهِ
الْعَوَارِضِ عَلَيْهَا يُوجِبُ التَّشْكِيكَ، وَيُسَبِّبُ الْمَطَاعِنَ..
وَاعْتَذَرُوا عَنْ أَحَادِيثِ السَّهْوِ «1» بِتَوْجِيهَاتٍ نَذْكُرُهَا
بَعْدَ هذا.
وإلى هذا مال أبو اسحق «2» وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْأَفْعَالِ
الْبَلَاغِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، سَهْوًا وعن غير قصد منه،
جائز عَلَيْهِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَحَادِيثِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ
«3» وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ
لِقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ.. وَمُخَالَفَةُ
ذلك تناقضها، فأما السَّهْوُ فِي الْأَفْعَالِ فَغَيْرُ مُنَاقِضٍ لَهَا
وَلَا قَادِحٍ فِي النُّبُوَّةِ.. بَلْ غَلَطَاتُ الْفِعْلِ، وَغَفَلَاتُ
الْقَلْبِ مِنْ سِمَاتِ الْبَشَرِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «4» «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا
نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» نَعَمْ «5» .. بَلْ حالة النسيان والسهو
__________
(1) الثابتة في صلاته صلّى الله عليه وسلم.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «584» رقم «2» .
(3) الذي ذكر في الصحيحين.
(4) في حديث رواه الشيخان عن ابن مسعود.
(5) العرب كثيرا ما تزيد (نعم) في كلامهم اذا القي لمصغ له وكأنه جواب سؤال
مقدر كقول جحدر: نعم وارى الهلاك كما تراه.
(2/341)
هُنَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَبَبُ إِفَادَةِ عِلْمٍ وَتَقْرِيرِ شَرْعٍ، كَمَا قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» «إِنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى
لِأَسُنَّ» بَلْ قَدْ رُوِيَ: «لَسْتُ أَنْسَى ولكن أنسّى لأسن»
وهذه الحالة زيادة له فِي التَّبْلِيغِ، وَتَمَامٌ عَلَيْهِ فِي
النِّعْمَةِ.. بَعِيدَةٌ عن سمات النقص «2» ، وأغراض الطَّعْنِ.
فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ أَنَّ الرُّسُلَ
لَا تُقَرُّ عَلَى السَّهْوِ وَالْغَلَطِ.. بَلْ يُنَبَّهُونَ عَلَيْهِ،
وَيَعْرِفُونَ حُكْمَهُ بِالْفَوْرِ- عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ- وَهُوَ
الصَّحِيحُ «3» .. وَقَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ- عَلَى قَوْلِ الاخرين- أما مَا
لَيْسَ طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ، وَلَا بَيَانَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَفْعَالِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا يختص به من أمور دينية، وأذكار
قلبية، مِمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ لِيُتَّبَعَ فِيهِ فَالْأَكْثَرُ مِنْ
طَبَقَاتِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ
عَلَيْهِ فِيهَا، وَلُحُوقِ الْفَتَرَاتِ «4» وَالْغَفَلَاتِ بِقَلْبِهِ،
وَذَلِكَ بِمَا كُلِّفَهُ مِنْ مُقَاسَاةِ الْخَلْقِ، وَسِيَاسَاتِ
الْأُمَّةِ، ومعاناة «5» الأهل،
__________
(1) فى حديث رواه في الموطأ.
(2) ولهذا قال بعض المشايخ الحنفية أن هذه السجدة سجدة سهو للامة وسجد شكر
له صلّى الله عليه وسلم ومدح في حقه وان لم يمدح بها سواه.
(3) عند أئمة الاصول.
(4) الفترات: جمع فترة وهي كما قال الراغب سكون بعد حدة، ولين بعد شدة وضعف
بعد قوة.
(5) معاناة: من العناية أو العناء وهو الاشتغال بهم.
(2/342)
وَمُلَاحَظَةِ الْأَعْدَاءِ.. وَلَكِنْ
لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ، وَلَا الِاتِّصَالِ.. بَلْ عَلَى
سَبِيلِ النُّدُورِ.
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» : «إِنَّهُ لَيُغَانُ
عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ..»
وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ يَحُطُّ مِنْ رُتْبَتِهِ، وَيُنَاقِضُ
مُعْجِزَتَهُ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ: إِلَى مَنْعِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ
وَالْغَفَلَاتِ وَالْفَتَرَاتِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جُمْلَةً.. وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ «2» .
وَأَصْحَابِ عِلْمِ الْقُلُوبِ وَالْمَقَامَاتِ «3» . وَلَهُمْ فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ مَذَاهِبُ نَذْكُرُهَا بعد هذا إن شاء الله..
__________
(1) في حديث تقدم.
(2) المتصوفة: هذه الصيغة يراد بها احيانا تكلف الشيء ولكنها هنا للمبالغة
كالمتوحد
(3) المقامات: المراتب التي يقطعها الانسان في اخلاص قلبه وسيره الى الله.
(2/343)
|