الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل الثاني عشر الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورِ فِيهَا السَّهْوُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ قَبْلَ هَذَا مَا يَجُوزُ فِيهِ عَلَيْهِ السَّهْوُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَمْتَنِعُ.. وَأَحَلْنَاهُ «1» فِي الْأَخْبَارِ جُمْلَةً وَفِي الْأَقْوَالِ الدِّينِيَّةِ قَطْعًا وَأَجَزْنَا وُقُوعَهُ فِي الْأَفْعَالِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَتَّبْنَاهُ وَأَشَرْنَا إِلَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ ونحن نبسط القول فيه.
والصحيح من الأحاديث الوارة في سهوه «2» صلّى الله عليه وسلم ثلاثة «3» أحاديث.
أولها: حديث ذو الْيَدَيْنِ «4» فِي السَّلَامِ مِنَ اثْنَتَيْنِ «5» .
الثَّانِي: حَدِيثُ ابن بحينة «6» في القيام من اثنتين.
__________
(1) احلناه: جعلناه محالا.
(2) في الصلاة.
(3) وقال المصنف في الاكمال: احاديث السهو كثيرة، الصحيح منها خمسة
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «316» رقم «5» .
(5) وقد تقدم الحديث عنه.
(6) ابن بحينة: عبد الله بن بحينه، وبحينة أمه، وقيل بحينة زوجة مالك والد عبد الله الازدي وعبد الله هذا حليف بني المطلب اسلم هو وابوه، ولهما صحبة. وأنكر الحافظ الدمياطي صحبه مالك والد عبد الله وأن يكون له رواية واسلام، وانما ذلك لعبد الله، وفي تجريد الذهبي: «مالك بن بحينة أبو عبد الله روى عنه حديث.» وصوابه عبد الله الازدي وأمه بحينة قريشية. وبحينة أم عبد الله زوج مالك لا ام مالك.

(2/344)


الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «2» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى انظهر خَمْسًا «3» ..
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّهْوِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ..
وَحِكْمَةُ اللَّهِ فِيهِ لِيُسْتَنَّ بِهِ، إِذِ الْبَلَاغُ بِالْفِعْلِ أَجْلَى مِنْهُ بِالْقَوْلِ، وَأَرْفَعُ لِلِاحْتِمَالِ.. وَشَرْطُهُ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى السَّهْوِ بَلْ يَشْعَرُ بِهِ لِيَرْتَفِعَ الِالْتِبَاسُ وَتَظْهَرَ فائدة الحكمة كما قدمناه..
وأنّ النِّسْيَانَ وَالسَّهْوَ فِي الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُضَادٍّ لِلْمُعْجِزَةِ، وَلَا قَادِحٍ فِي التَّصْدِيقِ..
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» : «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» .
وَقَالَ «5» : «رَحِمَ اللَّهُ فُلَانًا «6» لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا «7» وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أسقطتهن» ويروى «أنسيتهن» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «214» رقم «2» .
(2) الذي رواه عنه الشيخان مسندا.
(3) .. فقيل له: أزيد في الصلاة؟! .. فقال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمسا. فسجد بعد ما سلم ... » وليس قوله (بعد ما سلم) في رواية البخاري.
(4) فى الحديث الذي تقدم بيانه.
(5) في حديث رواه الشيخان عن عائشة.
(6) كناية عن علم لم يرد التصريح باسمه. وهذا الرجل هو عباد بن بشر الصحابي. وقيل: هو عبد الله بن يزيد الانصاري رضي الله عنه.
(7) كذا وكذا كناية عن عدد. والعدد هنا مجهول، وللفقهاء خلاف في مقداره كما لو قال علي كذا وكذا درهما لفلان. فبعضهم قال: يلزمه احد وعشرون وبعضهم قال: درهمان

(2/345)


وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» : إِنِّي لَأَنْسَى- أَوْ أُنَسَّى- لِأَسُنَّ.
قِيلَ: هَذَا اللَّفْظُ «2» شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. وَقَدْ رُوِيَ إِنِّي لَا أَنْسَى وَلَكِنْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ.
وَذَهَبَ ابْنُ نَافِعٍ «3» وَعِيسَى «4» بن دينار إنه ليس بشك، وأن مَعْنَاهُ التَّقْسِيمُ، أَيْ أَنْسَى أَنَا أَوْ يُنْسِينِي اللَّهُ..
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ «5» الْبَاجِيُّ: «يَحْتَمِلُ ما قالاه وأن يُرِيدَ أَنِّي أَنْسَى فِي الْيَقَظَةِ وَأُنَسَّى فِي النَّوْمِ «6» .. أَوْ أَنْسَى عَلَى سَبِيلِ عَادَةِ الْبَشَرِ من الذهول عن الشيء والسهو، أو أنسّى مَعَ إِقْبَالِي عَلَيْهِ وَتَفَرُّغِي لَهُ. فَأَضَافَ أَحَدَ النِّسْيَانَيْنِ إِلَى نَفْسِهِ إِذْ كَانَ لَهُ بَعْضُ السَّبَبِ فِيهِ، وَنَفَى الْآخَرَ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ هُوَ فِيهِ كَالْمُضْطَرِّ» .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَعَانِي «7» وَالْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْهُو فِي الصلاة ولا ينسى «8» .. لأن النسيان
__________
(1) وقد تقدم ان الحديث في الموطأ.
(2) اي لفظ (أو أنس) .
(3) ابن نافع: عبد الله بن الصايغ المالكي وليس هو قانع بقاف ونون.. وهو مع اشهب يقال لهما (القرينان) كما يقال لمطرف وابن الماجشون (الاخوان) كما قاله ابن مرزوق
(4) عيسى بن دينار: الفقيه الزاهد العابد الطليطلي الذي تفقه به أهل الاندلس، واخذ الفقه عن ابن القاسم، وتوفي بطليطلة سنة اثنتي عشرة ومائتين.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «201» رقم «3» .
(6) وهو قول بعيد لانه صلّى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه.
(7) الذين تقيدوا ببيان معاني الحديث وشرحه كالبفوي والخطابي.
(8) بناء على قول من فرق بين السهو والنسيان.

(2/346)


ذُهُولٌ وَغَفْلَةٌ وَآفَةٌ قَالَ «1» : وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْهَا، وَالسَّهْوُ شُغْلٌ..
فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي صِلَاتِهِ، وَيُشْغِلُهُ عَنْ حَرَكَاتِ الصَّلَاةِ مَا فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا بِهَا لَا غَفْلَةً عَنْهَا.
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ «2» فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «3» : «إِنِّي لَا أَنْسَى» وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ «4» إِلَى مَنْعِ هَذَا كُلِّهِ عَنْهُ. وَقَالُوا: «إِنَّ سَهْوَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَمْدًا وَقَصْدًا لِيَسُنَّ» .. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ مُتَنَاقِضُ الْمَقَاصِدِ «5» لَا يُحْلَى «6» مِنْهُ بِطَائِلٍ.. لِأَنَّهُ
كَيْفَ يَكُونُ مُتَعَمِّدًا سَاهِيًا فِي حَالٍ؟! وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُ أُمِرَ بِتَعَمُّدِ صُورَةِ النِّسْيَانِ لِيَسُنَّ لِقَوْلِهِ إِنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى» ..
وَقَدْ «7» أَثْبَتَ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ وَنَفَى مُنَاقَضَةَ التَّعَمُّدِ وَالْقَصْدِ وَقَالَ:
«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ.»
وَقَدْ مَالَ إِلَى هَذَا عَظِيمٌ مِنَ المحققين من أئمتنا وهو أبو «8» المظفر
__________
(1) وفي نسخة (قالوا) .
(2) صلّى الله عليه وسلم.
(3) لهذا الحديث.
(4) منهم الصوفية كما صرح به في آخر الفصل الذي قبل هذا.
(5) لانه لو فعل ذلك في صلاته عمدا بطلت صلاته فكيف يسن بما لا يجوز.
(6) يحلى: يقال ما حليت وما حلوت منه بطائل اي ظفرت والطائل الفائدة
(7) وفي نسخة (فقد) .
(8) أبو المظفر الاسفرائيني، كذا في الشرح الجديد بناء على أن أبا المظفر هو أبو اسحق ابراهيم وان المصنف رحمه الله تعالى كناه بذلك بغير كنيته المشهورة وقد تقدمت ترجمته في ج 1 ص «584» رقم «2»

(2/347)


الإسفرائيني وَلَمْ يَرْتَضِهِ غَيْرُهُ مِنْهُمْ.. وَلَا أَرْتَضِيهِ. وَلَا حُجَّةَ لِهَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ «إِنِّي لَا أَنْسَى وَلَكِنْ أُنَسَّى» .. إِذْ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ حُكْمِ النِّسْيَانِ بِالْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا فِيهِ نَفْيُ لَفْظِهِ.. وَكَرَاهَةُ لَقَبِهِ
كَقَوْلِهِ «1» : «بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ نسيت آية كذا ولكنه نُسِّيَ «2» » .. أَوْ نَفْيُ الْغَفْلَةِ وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ عَنْ قَلْبِهِ لَكِنْ شُغِلَ بِهَا عَنْهَا «3» وَنَسِيَ بَعْضَهَا بِبَعْضِهَا كَمَا تَرَكَ الصَّلَاةَ «4» يَوْمَ الْخَنْدَقِ «5» حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا وَشُغِلَ «6» بِالتَّحَرُّزِ مِنَ الْعَدُوِّ عَنْهَا فَشُغِلَ بِطَاعَةٍ عَنْ طَاعَةٍ «7»
وَقِيلَ «8» : «إِنَّ الَّذِي تُرِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ الظهر والعصر والمغرب والعشاء «9» » .
__________
(1) صلّى الله عليه وسلم في حديث مشهور.
(2) نسي بالتشديد.. ورواه مسلم مخففا مع ضم النون. ومعناه نسيه الله.
(3) وقيل: ان هذه المرتبة لا تليق بارباب التمكين.
(4) كما ثبت ذلك في الصحيحين.
(5) وتسمى الغزوة غزوة الاحزاب وسميت بالخندق لان سلمان أشار بحفره حول المدينة ليمنعها من المشركين وخندق تعريب كنده وهي الحفرة. وحدثت الغزوة سنة أربع أو خمس من الهجرة.
(6) ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت بعد.
(7) ولم يكن صلّى الله عليه وسلم ساهيا في هذه الحالة وانما بدأ بدرء المفسدة عن جلب المصلحة.
(8) القائل له ابن مسعود كما رواه الترمذي والنسائي.
(9) والصحيح على ما في الصحيحين انها صلاة العصر، وفي الموطأ انه صلّى الله عليه وسلم فاتته صلاتان الظهر والعصر. وقال النووي: «يجمع بين الروايات بالخندق كانت في أيام وتعدد تركه للصلاة فيها» . وقيل: «ان تأخرها كان نسيانا كما في رواية عند أحمد» ولكنها ضعيفة.

(2/348)


وَبِهِ احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ فِي الْخَوْفِ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهَا إِلَى وَقْتِ الْأَمْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّامِيِّينَ «1» وَالصَّحِيحُ أَنَّ حُكْمَ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَانَ بَعْدَ هَذَا فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ «2» ..
فَإِنْ قُلْتَ فَمَا تَقُولُ فِي نَوْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» عَنِ الصَّلَاةِ «4» يَوْمَ الْوَادِي «5» وَقَدْ قَالَ «6» : «إِنَّ عَيْنِي تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» .
فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةً..
مِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بأن هذا حكم قلبه عند نومه وغيبته «7» فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ.. وَقَدْ يَنْدُرُ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ.. كَمَا يَنْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ خِلَافُ عَادَتِهِ.
وَيُصَحِّحُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ «8» «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أرواحنا» وقول بلال «9» : «مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ.
وَلَكِنْ مِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ وَتَأْسِيسِ سُنَّةٍ وَإِظْهَارِ شرع.
__________
(1) وهم يروون ان صلاة الخوف كانت مشروعة قبل ذلك.
(2) وهو مذهب أبي حنيفة والجمهور.
(3) كما رواه البخاري وغيره.
(4) الصلاة هي صلاة الصبح.
(5) الوادي بطريق مكة، وقيل ببطن تبوك.. وكان بلال موكلا بايقاظ القوم فنام. وقد تقدم الحديث.
(6) كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها.
(7) وفي نسخة (وعينيه) فتكون معطوفة على (قلبه) .
(8) أي في حديث الوادي.
(9) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «53» رقم «6» .

(2/349)


وكما قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «1» : «لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَيْقَظَنَا وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ» .
الثَّانِي: أَنَّ قَلْبَهُ لَا يَسْتَغْرِقُهُ النَّوْمُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ الْحَدَثُ فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مَحْرُوسًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَنَامُ حَتَّى يَنْفُخَ وَحَتَّى يُسْمَعَ غَطِيطُهُ «2» ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ.
وحديث ابن عباس «3» المذكور «4» فيه وضوؤه عِنْدَ قِيَامِهِ مِنَ النَّوْمِ فِيهِ نَوْمُهُ مَعَ أهله «5» فلا يمكن الاحتجاج به على وضوءه بِمُجَرَّدِ النُّوَّمِ.. إِذْ لَعَلَّ ذَلِكَ لِمُلَامَسَةِ الْأَهْلِ.. أَوْ لِحَدَثٍ آخَرَ.
فَكَيْفَ وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ.. ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ.. ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وَقِيلَ: «لَا يَنَامُ قَلْبُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ في النوم» ..
وليس قصة الوادي إلا نوم عينيه عَنْ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ القلب.
__________
(1) الوارد في النوم عن الصلاة.
(2) الغطيط: كالخطيط وهو اخراج النائم صوتا متواليا مع نفسه.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(4) روي في الصحيحين.
(5) وهي في هذا الحديث زوجه ميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس رضي الله تعالى عنهم وأهل معناه في الاصل الاقارب والاتباع ثم اطلق على الزوجة اطلاقا صار به حقيقة عرفية.

(2/350)


وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا وَلَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هَذَا» .
فَإِنْ قِيلَ فَلَوْلَا عَادَتُهُ مِنَ اسْتِغْرَاقِ النَّوْمِ لَمَا قَالَ لِبِلَالٍ «اكْلَأْ «1» لَنَا الصُّبْحَ» .
فَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: «إِنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّغْلِيسُ «2» بِالصُّبْحِ.
وَمُرَاعَاةُ أَوَّلِ الْفَجْرِ لَا تَصِحُّ مِمَّنْ نَامَتْ عَيْنُهُ إِذْ هُوَ ظَاهِرٌ يُدْرَكُ بالجوارح الظاهرة فَوَكَّلَ بِلَالًا بِمُرَاعَاةِ أَوَّلِهِ لِيُعْلِمَهُ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ شُغِلَ بِشُغْلٍ غَيْرِ النَّوْمِ عَنْ مُرَاعَاتِهِ» ..
فَإِنْ قِيلَ: «فَمَا مَعْنَى نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقَوْلِ «نَسِيتُ» وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي.» !! وَقَالَ:
لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا؟.
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ..
أَمَّا نَهْيُهُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: نَسِيتُ آيَةَ كذا فمحمول على ما نسخ فعله «3» مِنَ الْقُرْآنِ.. أَيْ إِنَّ الْغَفْلَةَ فِي هَذَا لَمْ تَكُنْ مِنْهُ.. وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اضْطَرَّهُ إليها ليمحو ما يشاء ويثبت..
__________
(1) إكلأ: من الكلأة وهي المراقبة والحفظ.
(2) التغليس: من الغلسة وهي ظلمة تخالط أفول ضوء الفجر في آخر الليل.
(3) وفي نسخة (حفظه) . أي لفظه وتلاوته. وفي نسخة اخرى (نقله) .

(2/351)


وَمَا كَانَ مِنْ سَهْوٍ أَوْ غَفْلَةٍ مِنْ قِبَلِهِ تَذَكَّرَهَا صَلَحَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَنْسَى..
وقد قيل: «إن هذا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ أَنْ يُضِيفَ الْفِعْلَ إِلَى خَالِقِهِ، وَالْآخَرَ عَلَى طَرِيقِ الْجَوَازِ لِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ فِيهِ، وَإِسْقَاطُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَسْقَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ جَائِزٌ عَلَيْهِ بَعْدَ بَلَاغِ مَا أُمِرَ بِبَلَاغِهِ، وَتَوْصِيلِهِ إِلَى عِبَادِهِ، ثُمَّ يَسْتَذْكِرُهَا «1» مِنْ أُمَّتِهِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، إِلَّا مَا قَضَى اللَّهُ نَسْخَهُ وَمَحْوَهُ مِنَ الْقُلُوبِ وَتَرْكَ اسْتِذْكَارِهِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَذَا سَبِيلُهُ كَرَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُنَسِّيَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْبَلَاغِ مَا لَا يُغَيِّرُ نَظْمًا وَلَا يُخَلِّطُ حُكْمًا «2» مِمَّا لَا يُدْخِلُ خَلَلًا فِي الْخَبَرِ ثُمَّ يُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ.. وَيَسْتَحِيلُ دَوَامُ نِسْيَانِهِ لَهُ لَحِفْظِ الله كتابه «3» وتكليفه بلاغه «4» ..
__________
(1) وفي نسخة (يتذكرها.) وفي أخرى (يستدركها) .
(2) كحرام بحلال.
(3) لقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .
(4) لقوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك.)

(2/352)