الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل الثالث عشر الردّ على من أجاز عليهم
من الصّغائر
فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ وَالْكَلَامِ
عَلَى مَا احْتَجُّوا بِهِ فِي ذَلِكَ. اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ
لِلصَّغَائِرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ
وَمَنْ شَايَعَهُمْ «1» عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ «2»
احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِظَوَاهِرَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ
وَالْحَدِيثِ.. إِنِ الْتَزَمُوا ظَوَاهِرَهَا أَفْضَتْ «3» بِهِمْ إلى
تجويز الكبائر وخرق الإجماع، وما لَا يَقُولُ بِهِ مُسْلِمٌ.
فَكَيْفَ وَكُلُّ مَا احتجو بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي
مَعْنَاهُ وَتَقَابَلَتِ «4» الاحتمالات في مقتضاه، وجاءت أقاويل «5» فيها
__________
(1) وفي نسخة (تابعهم) .
(2) المتكلمين: من علم الكلام وهو العلم الباحث عن العقائد الدينية، وسمي
علم الكلام اما لان الكلام من اجل مباحثه أو لكثرة دوران الكلام فيه بين
السلف وغيرهم أو لانهم تعرضوا لصفة الكلام بالنسبة لله تعالى، أو لان لديهم
من الحجج القوية ما يعجب والعربي اذا اعجب بالكلام قال: «هذا هو الكلام. أي
لا كلام غيره» .
(3) أفضت: من الافضاء وهو الادخال وأصل معناه من الفضاء ثم شاع فيما ذكر.
(4) أي تخالفت وتعارضت.
(5) اقاويل: جمع أقوال وأقوال جمع قول.
(2/353)
للسلف بخلاف ما التزموا مِنْ ذَلِكَ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهُمْ إِجْمَاعًا وَكَانَ الْخِلَافُ فِيمَا
احْتَجُّوا بِهِ قَدِيمًا، وَقَامَتِ الدَّلَالَةُ «1» عَلَى خَطَأِ
قَوْلِهِمْ، وَصِحَّةِ غَيْرِهِ، وَجَبَ تَرْكُهُ وَالْمَصِيرُ إِلَى مَا
صَحَّ.
وَهَا نَحْنُ نَأْخُذُ فِي النَّظَرِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ: فَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2»
وقوله: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ «3» »
.
وَقَوْلُهُ: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ «4» »
.
وَقَوْلُهُ: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «5» » .
وَقَوْلُهُ: «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما
أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «6» » .
وقوله: «عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى «7» » الْآيَةَ.
وَمَا قَصَّ مِنْ قَصَصِ غَيْرِهِ مِنَ الأنبياء.
كقوله: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «8» » .
__________
(1) وفي نسخة (الادلة) وفي اخرى (الدلائل) .
(2) «.. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً.» الفتح آية «20»
(3) (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْواكُمْ) . سورة محمد آية «19»
(4) سورة الانشراح آية «2 و 3» .
(5) «.. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ
الْكاذِبِينَ» التوبة آية «43»
(6) سورة الانفال آية «68» .
(7) سورة عبس آية «2 و 3»
(8) سورة طه آية (121) .
(2/354)
وَقَوْلِهِ: «فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً
جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما.. «1» »
وقوله عنه: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا.. «2» » الاية.
وَقَوْلِهِ عَنْ يُونُسَ: «سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ..
«3» » .
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِصَّةِ دَاوُدَ وَقَوْلِهِ: «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما
فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ «4» » إلى قوله
«ماب» .
وقوله: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها.. «5» » .
وَمَا قَصَّ مِنْ قِصَّتِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ.
وَقَوْلِهِ عَنْ مُوسَى: «فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ، قالَ هذا مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطانِ «6» »
وقوله النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ «7» :
«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ
وَمَا أَعْلَنْتُ..» وَنَحْوِهِ مِنْ أَدْعِيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَوْقِفِ ذُنُوبَهُمْ- فِي
حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «8» -
وَقَوْلِهِ: «إِنَّهُ ليغان على قلبي فأستغفر الله «9» » .
__________
(1) «.. فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» الاعراف آية «19»
(2) «.. قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا
وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» الاعراف آية «23» .
(3) الانبياء آية «87» .
(4) ص آية 24 و 25 «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى
وَحُسْنَ مَآبٍ» .
(5) يوسف آية «24» .
(6) «.. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» القصص آية «15»
(7) وهو من دعاء طويل رواه الشيخان.
(8) وحديث الشفاعة مشهور طويل رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
(9) تقدم شرح الحديث.
(2/355)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «1» :
«إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ
مِنْ سَبْعِينَ «2» مَرَّةً» .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: «وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي «3»
» الْآيَةَ.
وَقَدْ كَانَ قَالَ اللَّهُ لَهُ: «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ «4» » .
وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: «وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي
خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ «5» .
وقوله عن موسى: «تُبْتُ إِلَيْكَ «6» » .
وقوله: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ «7» » .
إِلَى مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ..
فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «8» » فَهَذَا قَدِ اخْتَلَفَ
فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ.
فَقِيلَ: «الْمُرَادُ ما كان قبل النبوة وبعدها» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «5» .
(2) وروي مائة مرة فالعدد ليس على ظاهره وانما المراد الكثرة.
(3) «.. أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» هود اية «47» .
(4) هود آية «37» .
(5) الشعراء آية «82» .
(6) «.. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ» الاعراف آية «143»
(7) «.. وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ» ص آية «34» .
(8) الفتح آية «2»
(2/356)
وَقِيلَ: «الْمُرَادُ مَا وَقَعَ لَكَ مِنْ
ذَنْبٍ وَمَا لَمْ يَقَعْ.. أَعْلَمَهُ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ» .
وَقِيلَ: ( «الْمُتَقَدِّمُ» مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ،
وَالْمُتَأَخِّرُ عِصْمَتُكَ بَعْدَهَا) حَكَاهُ أَحْمَدُ «1» بْنُ نَصْرٍ.
وَقِيلَ: «المراد بذلك أمته صلّى الله عليه وسلم» .
وَقِيلَ: «الْمُرَادُ مَا كَانَ عَنْ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ وَتَأْوِيلٍ»
حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ «2» وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ «3» .
وَقِيلَ: ( «مَا تَقَدَّمَ» لِأَبِيكَ آدَمَ «وَمَا تَأَخَّرَ» مِنْ
ذُنُوبِ أُمَّتِكَ) حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ «4» وَالسُّلَمِيُّ «5»
عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ «6» وَبِمِثْلِهِ وَالَّذِي قَبْلَهُ يُتَأَوَّلُ
قَوْلُهُ: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وللمؤمنين والمؤمنات»
قَالَ مَكِّيٌّ «7» «: مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم ههنا هِيَ مُخَاطَبَةٌ لِأُمَّتِهِ» ..
وَقِيلَ: (إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
أُمِرَ أَنْ يَقُولَ: «وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ «8» »
سرّ بذلك الكفار) .
__________
(1) احمد بن نصر: الخزاعي الزاهد الشهيد قتله الواثق في محنة خلق القرآن
سنة احدى وثلاثين ومائتين.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «182» رقم «1» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «470» رقم «5» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «51» رقم «2» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «61» رقم «4» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «63» رقم «6» .
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «67» رقم «7» .
(8) «.. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ
مُبِينٌ» الاحقاف آيه «9»
(2/357)
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» » الْآيَةَ.
وَبِمَآلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بَعْدَهَا «2» قَالَهُ
«3» ابْنُ عَبَّاسٍ «4» فَمَقْصِدُ الْآيَةِ إِنَّكَ مَغْفُورٌ لَكَ غَيْرُ
مُؤَاخَذٍ بِذَنْبٍ أَنْ لَوْ كَانَ «5»
قال بعضهم: «المغفرة ههنا تَبْرِئَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ»
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ
«6» »
فَقِيلَ: «مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ» وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ زَيْدٍ «7» وَالْحَسَنِ «8» وَمَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ «9» .
وَقِيلَ: «مَعْنَاهُ أَنَّهُ حُفِظَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ مِنْهَا وَعُصِمَ
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَثْقَلَتْ ظَهْرَهُ «10» » حَكَى مَعْنَاهُ
السَّمَرْقَنْدِيُّ «11» .
وَقِيلَ: «الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا أَثْقَلَ ظهره من أعباء الرسالة حتى
__________
(1) الفتح اية «2» .
(2) أي قوله تعالى «لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ..
الاية» .
(3) وهو قول قتادة والحسن وغيرهما.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(5) أي وجد فهي تامة.
(6) الانشراح آية «2 و 3» .
(7) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «246» رقم «3» .
(8) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «60» رقم «8» .
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «62» رقم «3» .
(10) وفي نسخة (ظهرك) .
(11) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «51» رقم «2» .
(2/358)
بَلَّغَهَا» حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ «1»
وَالسُّلَمِيُّ «2» .
وَقِيلَ: «حَطَطْنَا عَنْكَ ثقل الْجَاهِلِيَّةِ» حَكَاهُ مَكِّيٌّ «3» .
وَقِيلَ: «ثِقَلُ شُغْلِ سِرِّكَ وَحَيْرَتِكَ وَطَلَبِ شَرِيعَتِكَ حَتَّى
شَرَعْنَا ذَلِكَ لَكَ» حكى معناه القشيري «4» .
وقيل: «معناه.. خَفَّفْنَا عَلَيْكَ مَا حُمِّلْتَ بِحِفْظِنَا لِمَا
اسْتُحْفِظْتَ وَحُفِظَ عَلَيْكَ» .
- وَمَعْنَى «أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» أَيْ كَادَ يَنْقُضُهُ «5» فَيَكُونُ
الْمَعْنَى عَلَى مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ لما قبل النبوة.. اهتمام النبي
بِأُمُورٍ فَعَلَهَا قَبْلَ نُبُوَّتِهِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ
النُّبُوَّةِ فَعَدَّهَا أَوْزَارًا وَثَقُلَتْ عَلَيْهِ وَأَشْفَقَ
مِنْهَا.
- أَوْ يَكُونُ «الْوَضْعُ» عِصْمَةَ اللَّهِ لَهُ وَكِفَايَتَهُ مِنْ
ذُنُوبٍ لَوْ كَانَتْ لَأَنْقَضَتْ ظَهْرَهُ.
- أَوْ يَكُونُ مِنْ ثِقَلِ الرِّسَالَةِ.
- أَوْ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ وَشَغَلَ قَلْبَهُ مِنْ أُمُورِ
الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِعْلَامِ الله
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «61» رقم «3» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «61» رقم «4» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «67» رقم «7» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «470» رقم «5» .
(5) ينقضه: أي يعيبه ويثقله.
(2/359)
تَعَالَى لَهُ بِحِفْظِ مَا اسْتَحْفَظَهُ
مِنْ وَحْيِهِ..
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» » .
فَأَمْرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَهْيٌ فَيُعَدُّ معصية..
ولا عده الله تعالى مَعْصِيَةً.. بَلْ لَمْ يَعُدَّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ
مُعَاتَبَةً وَغَلَّطُوا مَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ.
قَالَ نِفْطَوَيْهِ «2» : «وَقَدْ حَاشَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ..
بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَمْرَيْنِ.
قَالُوا: «وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ «3» فِيمَا لَمْ
يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ.. فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ الله تعالى:
«فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «4» » فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ أَعْلَمَهُ
اللَّهُ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ سِرِّهِمْ.. أَنَّهُ لَوْ لَمْ
يأذن لَقَعَدُوا وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَ.
وليس «عفا» هنا بمعنى غفر.. بل قال النبي صلّى الله عليه وسلم «5» :
__________
(1) «.. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ
الْكاذِبِينَ» التوبة آية «43» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «80» رقم «4» .
(3) مما يرى انه مناسب، لانه اذن له في الاجتهاد كما تقرر في الاصول.
(4) «.. وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»
النور اية «62» .
(5) في حديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن علي كرم الله وجهه والمصنف
رحمه الله رواه بهذا اللفظ أما ما رواه هؤلاء فهو «قد عفوت لكم زكاة الخيل
والرقيق فهاتوا صدقة الرقيقة..» ومثل المصنف رحمه الله لا يقرع له بالعصا.
فاندفع قول من قال: لم أقف على هذه الرواية» .
(2/360)
«عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ
الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ قَطُّ. أَيْ لَمْ
يُلْزِمْكُمْ ذَلِكَ وَنَحْوُهُ لِلْقُشَيْرِيِّ «1» قَالَ: «وَإِنَّمَا
يَقُولُ «الْعَفْوُ» لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ مَنْ لَمْ يعرف كلام
العرب قال: وَمَعْنَى «عَفَا» اللَّهُ عَنْكَ» أَيْ لَمْ يُلْزِمْكَ ذنبا»
.
قال الداودي «2» : «روي أنها كانت تكرمه» .
قال مَكِّيٌّ «3» : «هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ مِثْلَ- أَصْلَحَكَ
اللَّهُ- وَأَعَزَّكَ» وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ «4» : «أَنَّ مَعْنَاهُ-
عَافَاكَ اللَّهُ-..»
وأما قوله في أسارى بدر «5» : «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
«6» » الايتين. فَلَيْسَ فِيهِ إِلْزَامُ ذَنْبٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
بَلْ فِيهِ بَيَانُ مَا خُصَّ بِهِ وَفُضِّلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ
الْأَنْبِيَاءِ. فَكَأَنَّهُ قال: ما كان هذا لنبي غيرك
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «470» رقم «5» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «206» رقم «3» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «67» رقم «7» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «51» رقم «2» .
(5) بدر: مكان معروف على طريق المدينة وسميت بدرا من اسم رجل من قريش حفر
فيها بئرا فسميت باسمه.
(6) «.. حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا
وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . الانفال اية
«67» .
(2/361)
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «1» : «أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ «2» .. وَلَمْ تَحِلَّ
لِنَبِيٍّ قَبْلِي» .
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا. «3» »
الْآيَةَ. قِيلَ: الْمَعْنَى الْخِطَابُ لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ منهم،
وتجرّد غرضه لعرض الدُّنْيَا وَحْدَهُ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا. وَلَيْسَ
الْمُرَادُ بِهَذَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا
عِلْيَةَ «4» أَصْحَابِهِ بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ «5» :
«أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ
وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِالسَّلْبِ «6» وَجَمْعِ الْغَنَائِمِ عَنِ
الْقِتَالِ حَتَّى خَشِيَ عُمَرُ «7» أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ»
.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ» «8» .
فَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ..
فَقِيلَ: مَعْنَاهَا «9» : «لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنْ لَا
أُعِذِّبَ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ لَعَذَّبْتُكُمْ.. فَهَذَا
يَنْفِي أن يكون أمر الأسرى معصية» .
__________
(1) في الحديث الصحيح.
(2) وروي (المغانم) .
(3) «.. وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» .
الانفال اية (67)
(4) علية: بكسر العين المهملة وسكون اللام وفتح التحتية جمع علي كصبي يجمع
على صبية أي أشرافهم ورؤساؤهم.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «75» رقم «6» .
(6) السلب: بسين مهملة ولام مفتوحتين ما يسلب أي يؤخذ من القتيل من لباسه
وما معه. وقد بينه الفقهاء واختلفوا فيمن يستحقه ممن له حق في الغنيمة أو
القاتل مطلقا أو أن شرط له الامام.
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (113) رقم (4)
(8) «.. لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» الانفال اية (68) .
(9) كما نقل الطبري ما قاله مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيِّ بن أبي طالب.
(2/362)
وَقِيلَ الْمَعْنَى: «لَوْلَا إِيمَانُكُمْ
بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الْكِتَابُ السَّابِقُ فَاسْتَوْجَبْتُمْ بِهِ
الصَّفْحَ لَعُوقِبْتُمْ عَلَى الْغَنَائِمِ «1» » .
ويزداد هَذَا الْقَوْلُ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا.
بِأَنْ يُقَالَ: «لَوْلَا مَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ
وَكُنْتُمْ مِمَّنْ أُحِلَّتُ لَهُمُ الْغَنَائِمُ لَعُوقِبْتُمْ كَمَا
عُوقِبَ مَنْ تَعَدَّى» .
وَقِيلَ: «لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهَا
حَلَالٌ لَكُمْ لَعُوقِبْتُمْ فَهَذَا كُلُّهُ يَنْفِي الذَّنْبَ
وَالْمَعْصِيَةَ.. لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا أُحِلُّ لَهُ لَمْ يَعْصِ» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «2»
» .
وَقِيلَ: بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
خُيِّرَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: خَيِّرْ أَصْحَابَكَ في
الأسارى إن شاؤوا القتل وإن شاؤوا الفداء على أن يقتل فِي الْعَامِ
الْمُقْبِلِ مِثْلُهُمْ.. فَقَالُوا: الْفِدَاءَ وَيُقْتَلُ مِنَّا «4» ..»
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا
إِلَّا مَا أُذِنَ لَهُمْ فيه.. لكن بَعْضَهُمْ مَالَ إِلَى أَضْعَفِ
الْوَجْهَيْنِ مِمَّا كَانَ الأصلح غيره
__________
(1) وهذا حكاه ابن عطية في تفسيره.
(2) «.. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . الانفال اية
(69) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (54) رقم (4) .
(4) رغبة في الشهادة.
(2/363)
مِنَ الْإِثْخَانِ وَالْقَتْلِ فَعُوتِبُوا
عَلَى ذَلِكَ، وَبُيِّنَ لَهُمْ ضَعْفُ اخْتِيَارِهِمْ وَتَصْوِيبُ
اخْتِيَارِ غَيْرِهِمْ، وَكُلُّهُمْ غَيْرُ عُصَاةٍ وَلَا مُذْنِبِينَ.
وَإِلَى نَحْوِ هَذَا أَشَارَ الطَّبَرِيُّ «1» . وَقَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ «2» :
«لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ «3»
» إِشَارَةً إِلَى هَذَا مِنْ تَصْوِيبِ رَأْيِهِ وَرَأْيِ مَنْ أَخَذَ
بِمَأْخَذِهِ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ، وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِ، وَإِبَادَةِ
عَدُوِّهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ لَوِ اسْتَوْجَبَتْ عَذَابًا نَجَا
مِنْهُ عُمَرُ «3» وَمِثْلُهُ «4» - وَعَيَّنَ عُمَرَ- لِأَنَّهُ أَوَّلُ
مَنْ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ «5» وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ
عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عَذَابًا لِحِلِّهِ لَهُمْ فِيمَا سَبَقَ.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ «6» وَالْخَبَرُ بِهَذَا لَا يَثْبُتُ، وَلَوْ
ثَبَتَ لَمَا جَازَ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ مِنْ نَصٍّ، وَلَا
جُعِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَيْهِ وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ
ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَاضِي بَكْرُ «7» بْنُ الْعَلَاءِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ تَأْوِيلَهُ وَافَقَ مَا كَتَبَهُ
لَهُ مِنْ إِحْلَالِ الْغَنَائِمِ وَالْفِدَاءِ وقد
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (182) رقم (2) .
(2) وفي نسخة (في هذه القصة) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (113) رقم (4) .
(4) ومثل عمر في رأيه وهو سعد بن معاذ رضي الله عنه.
(5) كما في صحيح مسلم عند ما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا
ابن الخطاب؟ فقال: ما أرى رأي أبي بكر ولكن أرى ان نختار ضرب أعناقهم
الحديث
(6) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (216) رقم (3) .
(7) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (234) رقم (4) .
(2/364)
كَانَ قَبْلَ هَذَا فَادَوْا فِي سَرِيَّةِ
عَبْدِ اللَّهِ «1» بْنِ جَحْشٍ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا ابْنُ الحضرمي «2»
والحكم بْنِ كَيْسَانَ «3» وَصَاحِبِهِ «4» فَمَا عَتَبَ اللَّهُ ذَلِكَ
عليم.. وَذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ بِأَزْيَدَ مِنْ عَامٍ «5» .
فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الْأَسْرَى كَانَ عَلَى تَأْوِيلٍ
وَبَصِيرَةٍ. وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ مِثْلُهُ.. فَلَمْ يُنْكِرْهُ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ.. لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ لِعِظَمِ
أَمْرِ بَدْرٍ، وَكَثْرَةِ أَسْرَاهَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- إِظْهَارَ
نِعْمَتِهِ، وَتَأْكِيدَ مِنَّتِهِ بتعريفهم ما كتبه في فِي اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ مِنْ حِلِّ ذَلِكَ لَهُمْ، لَا عَلَى وَجْهِ عِتَابٍ
وَإِنْكَارٍ وَتَذْنِيبٍ.. هَذَا معنى كلامه.
وأما قوله: «عَبَسَ وَتَوَلَّى «6» ..» الْآيَاتِ فَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ
ذَنْبٍ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ إِعْلَامُ اللَّهِ
أَنَّ ذلك المتصدّى «7» له ممن لا يتزكى
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (643) رقم (2) .
(2) عمرو بن الحضرمي كان مع المشركين ضد سرية المسلمين بقيادة سيدنا عبد
الله ابن جحش وقد قتله الصحابي وافد بن عبد الله بسهم رماه به.
(3) الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي أسر في هذه السرية أسره
المقداد بعد قتل ابن الحضرمي فأراد عبد الله بن جحش قتله فقال المقداد دعه
يقدم به عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما قدم
أسلم وحسن اسلامه وقتل ببئر معونة.
(4) وهو عثمان بن عبد الله أسر ومات كافرا.
(5) وهذا سهو لان غزوة بدر بعد هذه السرية بثلاثة أشهر فقط.
(6) سورة عبس اية «1» .
(7) المتعدي: أي بصيغة اسم المفعول ونائب فاعله قوله له. أي المتعرض له
بالتوجه والاقبال وأصل التعدي مقالة الشيء كما يقابله الصدى وهو الصوت
الراجع اليه من جبل ونحوه وفي التعبير به نكتة وهي أن كلام هؤلاء لا عبرة
به.
(2/365)
وَأَنَّ الصَّوَابَ وَالْأَوْلَى كَانَ-
لَوْ «1» كُشِفَ لَكَ «2» حَالُ الرَّجُلَيْنِ- الْإِقْبَالُ عَلَى
الْأَعْمَى «3» .
وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فَعَلَ،
وَتَصَدِّيهِ لذاك الْكَافِرِ، كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَتَبْلِيغًا
عَنْهُ، وَاسْتِئْلَافًا لَهُ، كَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، لَا
مَعْصِيَةً ومخالفة لَهُ.
- وَمَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إِعْلَامٌ بِحَالِ
الرَّجُلَيْنِ، وَتَوْهِينِ أَمْرِ الْكَافِرِ عِنْدَهُ، وَالْإِشَارَةِ
إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: «وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى»
.
وَقِيلَ: (أَرَادَ «بِعَبَسَ» «وَتَوَلَّى» الْكَافِرَ الَّذِي كَانَ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ: أَبُو تَمَّامٍ «4»
) .
وَأَمَّا قِصَّةُ آدَمَ عليه السلام وقوله تعالى: «فَأَكَلا مِنْها «5» »
__________
(1) وفي نسخة ما لو كشف.
(2) وفي نسخة له.
(3) وهو عبد الله بن أم مكتوم أسلم قديما بمكة قبل الهجرة وكان مع النبي
صلّى الله عليه وسلم بمكة والمدينة وكان فقد البصر.
(4) أبو تمام: حبيب بن أوس الطائي.. ولد بقرية جاسم من اعمال حوران ثم ذهب
الى مصر وصار يعمل في مسجد عمرو بن العاص ساقيا للماء ومستمعا لحلقات العلم
والادب حتي نبغ في الشعر وكان حاضر البديهة سريع البادرة درس العلوم وتعمق
فيها فظهر اثر ذلك على شعره حتى قيل عنه (أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر
البحتري) . وهو اظهر من هز عمود الشعر.. وله اختيار جميل من أشعار العرب
سماه (الحماسة) قيل عنه أن أبا تمام في اختياره اشعر منه في اشعاره)
والمصنف ينقل عن عالم من علماء طليطلة يسمى الابهري ويلقب بأبي تمام
والاكثر انه المقصود هنا لا الشاعر الاديب
(5) «فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ.. سورة طه اية (121)
(2/366)
بَعْدَ قَوْلِهِ: «وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ «1» »
وقوله: «أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ «2» » وَتَصْرِيحُهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَعَصى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوى «3» » أَيْ جَهِلَ. وَقِيلَ: (أَخْطَأَ) . فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِعُذْرِهِ بِقَوْلِهِ: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى
آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «4» »
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ «5» : «نَسِيَ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لَهُ، وَمَا عَهِدَ
اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ» .
بِقَوْلِهِ: «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ «6» ..» الاية.
قيل: «نَسِيَ ذَلِكَ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمَا» .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «7» : (إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا
لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ) .
وَقِيلَ: «لَمْ يَقْصِدِ الْمُخَالَفَةَ اسْتِحْلَالًا لَهَا،
وَلَكِنَّهُمَا اغْتَرَّا بِحَلِفِ إِبْلِيسَ لَهُمَا «إِنِّي لَكُما
لَمِنَ النَّاصِحِينَ «8» » وتوهما أن
__________
(1) سورة البقرة الاية «35»
(2) سورة الاعراف الاية «22»
(3) سورة طه الاية «121»
(4) سورة طه الاية «115»
(5) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «246» رقم «3» .
(6) سورة طه الاية «117»
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(8) سورة الاعراف الاية «21»
(2/367)
أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللَّهِ حَانِثًا.
وَقَدْ رُوِيَ عُذْرُ آدَمَ بِمِثْلِ هَذَا فِي بَعْضِ الْآثَارِ
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ «1» : «حَلَفَ بِاللَّهِ لَهُمَا حَتَّى غرّهما..
والمؤمن يخدع «2» .
وقيل: (نسي ولم يَنْوِ الْمُخَالَفَةَ فَلِذَلِكَ قَالَ: «وَلَمْ نَجِدْ
لَهُ عَزْمًا «3» » أَيْ قَصْدًا لِلْمُخَالَفَةِ) ..
وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أن «العزم» هنا الحزم وَالصَّبْرُ.
وَقِيلَ: «كَانَ عِنْدَ أَكْلِهِ سَكْرَانَ وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ «3» » .
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ خَمْرَ الْجَنَّةِ أَنَّهَا لَا تُسْكِرُ
«4» .. فَإِذَا كَانَ نَاسِيًا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ
كَانَ مُلَبَّسًا عَلَيْهِ غَالِطًا إِذِ الِاتِّفَاقُ عَلَى خُرُوجِ
النَّاسِي والساهي عن حكم التكليف.
وقال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ «5» بْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُ: (إِنَّهُ
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَدَلِيلُ ذلك قوله:
«وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ
وَهَدى «6» » فذكر أن
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «58» رقم «4» .
(2) كما قيل: «ان الكريم اذا خادعته انخدعا» .
(3) لان خمر الاخرة لا تسكر كخمور الدنيا وهذا القول في غاية الضعف والاولى
تركه الا انه قول سعيد بن المسيب كما نقله عنه البغوي. ولكن ما ذكره غير
مسلم به.
(4) لقوله تعالى (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) فسر بأنها لا تنزف
عقولهم، من نزف عقله اذا ذهب.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «119» رقم «4» .
(6) سورة طه الاية «122»
(2/368)
الِاجْتِبَاءَ وَالْهِدَايَةَ كَانَا
بَعْدَ الْعِصْيَانِ) .
وَقِيلَ: «بَلْ أَكَلَهَا مُتَأَوِّلًا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا
الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا.. لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ نَهْيَ اللَّهِ
عَنْ شَجَرَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا عَلَى الْجِنْسِ» .
وَلِهَذَا قِيلَ: «إِنَّمَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنْ تَرْكِ التَّحَفُّظِ
لَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ»
وَقِيلَ: «تَأَوَّلَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهَا نَهْيَ
تَحْرِيمٍ» .
فَإِنْ قِيلَ: (فَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «وَعَصى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «1» » .
وقال: «فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى «2» » .
وقوله في حديث الشفاعة «3» : «- ويذكر ذنبه- وإني نُهِيتُ عَنْ أَكْلِ
الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ» . فَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ وَعَنْ
أَشْبَاهِهِ مُجْمَلًا آخِرَ الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا قِصَّةُ يُونُسَ «4» : فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِهَا
آنِفًا «5» ، وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ يُونُسَ نَصٌّ عَلَى ذَنْبٍ وَإِنَّمَا
فِيهَا (أَبَقَ) (وذهب مغاضبا) وقد تكلمنا عليه..
__________
(1) سورة طه آية «121»
(2) سورة طه آية «122»
(3) وقد تقدم الحديث.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (265) رقم (3) .
(5) آنفا: أي قريبا من قوله استأنفت الشيء اذا بدأته، وآتف اسم فاعل منه
بمعنى قريب.
(2/369)
وقيل: (إنما نقم الله خُرُوجَهُ عَنْ
قَوْمِهِ فَارًّا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ)
وَقِيلَ: «بَلْ. لَمَّا وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ، ثُمَّ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ قَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَلْقَاهُمْ بِوَجْهِ كَذَّابٍ أَبَدًا» .
وَقِيلَ: «بَلْ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَنْ كَذَبَ فَخَافَ ذَلِكَ» .
وَقِيلَ: «ضَعُفَ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ.»
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْهُمْ «1» .. وَهَذَا
كُلُّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ إِلَّا عَلَى قَوْلٍ
مَرْغُوبٍ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: «أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
«2» ْمَشْحُونِ «3» قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
تَبَاعَدَ «4» .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «5» » «5»
«فَالظُّلْمُ» وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ «6» فَهَذَا اعتراف
منه عند بعضهم بذنبه..
__________
(1) بل صدق لهم وقد شاهدوا صدق كلامه باثار العذاب ومقدمة العقاب فامنوا
فارتفع الحجاب كما اخبر الله تعالى عنه بقوله: «فلولا كانت قرية آمنت
فنفعها ايمانها الا قوم يونس آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي..»
(2) الفلك: يكون مفردا وجمعا ومعناه السفينة والمشحون بمعنى المملوء.
(3) الصافات آية «140» .
(4) تفسير أبق بتباعد مذهب المبرد.
(5) الاية
(6) حتى قيل عن وضع حب غير ربه في صدره وقلبه هو ظالم لنفسه ومنه قول
العارف ابن الفارض:
عليك بها صرفا وان شئت مزجها ... فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم
بل عد الصوفية رضي الله تعالى عنهم الغفلة عن الله تعالى وارادة ما سواء
ظلما وشركا وقد قال الله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) سورة
لقمان آية «13» . وقال العارف ابن الفارض أيضا.
ولو خطرت لي في سواك ارادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي
(2/370)
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِخُرُوجِهِ عَنْ
قَوْمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ أَوْ لِضَعْفِهِ عَمَّا حُمِّلَهُ، أَوْ
لِدُعَائِهِ بِالْعَذَابِ عَلَى قَوْمِهِ.
وَقَدْ دَعَا نُوحٌ هلاك قَوْمِهِ فَلَمْ يُؤَاخَذْ.
وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ «1» فِي مَعْنَاهُ: «نَزَّهَ رَبَّهُ عَنِ
الظُّلْمِ، وَأَضَافَ الظُّلْمَ إِلَى نَفْسِهِ اعْتِرَافًا
وَاسْتِحْقَاقًا» .
وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ آدَمَ وحواء: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «2» »
إِذْ كَانَا السَّبَبُ فِي وَضْعِهِمَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي
أُنْزِلَا فِيهِ وَإِخْرَاجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، وإنزالهما إلى الأرض.
وأما قصة داوود «3» عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَلَا يَجِبُ «4» أَنْ يُلْتَفَتَ
إِلَى ما سطره فيه الإخباريون عن أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَدَّلُوا
وَغَيَّرُوا، وَنَقَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.. وَلَمْ يَنُصَّ اللَّهُ
عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ. وَالَّذِي نص
الله عليه
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (91) رقم (4) .
(2) سورة الاعراف اية (23) .
(3) وذلك قولهم: ان داود صلّى الله عليه وسلم كتب الى أيوب قائد جيشه ان
ابعث (أورياء) اي زوج المرأة الحسناء التي راها داود وهو يصلي في محرابه
فتعلق قلبه بها فأمر بتقديم زوجها الى وجه العدو قبل التابوت وكان من يتقدم
على التابوت لا يجوز له ان يرجع حتى يفتح على يديه أو يستشهد فقدمه ففتح
على يديه فكتب له ثانيا ابعثه لموضع كذا مرة بعد مرة حتى قتل فتزوج امرأته.
(4) الاحسن أن يقال فلا يجوز أو لا يصح او فيجب أن لا يلتفت.
(2/371)
قوله: «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ
«1» ..» إلى قوله: «وحسن ماب» وقوله فيه: «أوّاب» فمعنى (فتناه) اختبرناه و
«أواب»
قال قتادة «2» : «مطيع» .. وهذا التفسير أولى.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ «3» وَابْنُ مَسْعُودٍ «4» : «مَا زَادَ دَاوُدُ أَنْ
قَالَ لِلرَّجُلِ: انْزِلْ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ وأكفلينها فَعَاتَبَهُ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَنَبَّهَهُ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَ علة شُغْلَهُ
بِالدُّنْيَا» . وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ مِنْ
أَمْرِهِ.
وَقِيلَ: «خَطَبَهَا عَلَى خِطْبَتِهِ «5» » وَقِيلَ: «بَلْ أَحَبَّ
بِقَلْبِهِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ «6» » .
وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ «7» : «أَنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي اسْتَغْفَرَ
مِنْهُ قَوْلُهُ لأحد الخصمين «8» : «لقد ظلمتك «9» » فظلّمه «10» بقول
__________
(1) سورة ص اية «24- 25» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (62) رقم (3) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (52) رقم (6) .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (214) رقم (2) .
(5) خطبته: بكسر الخاء المعجمة وهي طلب الزوجة وهي من الخطابة بالضم، وكان
داود عليه السلام لم يعلم بخطبته فلا ذنب أصلا.
(6) ليتزوج بامرأته لانه صرح به وباشر أسبابه كما مر وهو ميل قلبي لا يؤخذ
به.
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (51) رقم (2) .
(8) أي اللكين اللذين أتياه في صورة رجلين متخاصمين له.
(9) بسؤال نعجتك الى نعاجه.
(10) فظلمه: بتشديد اللام أي نسبه للظلم.
(2/372)
خصمه «1» وقيل لَمَّا خَشِيَ عَلَى
نَفْسِهِ، وَظَنَّ مِنَ الْفِتْنَةِ بِمَا بُسِطَ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ
وَالدُّنْيَا، وَإِلَى نَفْيِ مَا أُضِيفَ فِي الْأَخْبَارِ إِلَى دَاوُدَ
ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ «2» وَأَبُو تَمَّامٍ «3» وَغَيْرُهُمَا من
المحققين.
قال الدَّاوُدِيُّ «4» : «لَيْسَ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَأُورِيَا خَبَرٌ
يَثْبُتُ، وَلَا يُظَنُّ بِنَبِيٍّ مَحَبَّةُ قَتْلِ مُسْلِمٍ» .
وَقِيلَ: «إِنَّ الْخَصْمَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ رَجُلَانِ
فِي نِتَاجِ «5» غَنَمٍ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ» .
وَأَمَّا قصة يوسف وإخوته فليس على يوسف منها تَعَقُّبٌ، وَأَمَّا
إِخْوَتُهُ، فَلَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُمْ فَيَلْزَمُ الْكَلَامُ عَلَى
أَفْعَالِهِمْ.. وَذِكْرُ الْأَسْبَاطِ وَعَدُّهُمْ فِي القرآن عند ذكر
الأنبياء.
__________
(1) أي بمجرد قوله من غير كشف لحال خصمه وتثبت في أمره وهو خلاف الاولى.
وقد قال ابن العربي: «انه لا يجوز في ملة من الملل فما قاله السمرقندي لا
يجدي هنا» فأجيب عنه: «فانه انما قاله لانه رأى خصمه مسلما له مقالته ولم
ينكر عليه فظنه رضي بما قاله وكلام الله مبني على غاية الايجاز فكأنه قال
تمهل وعلم بسكوته رضاه او هو بتقدير ان كان كما تقول فقد ظلمك.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (357) رقم (1) .
(3) ابو تمام: قال البرهان: أبو تمام حبيب بن اوس الشاعر المعروف، ولكن لم
تر من عده من علماء الحديث والتفسير فهو غلط من اشتراط الاسم، وقد نقل
المصنف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب كثيرا عن الأبهري من علمه المالكية
من أهل طليطلة وهو ملقب بابي تمام وهو المراد هنا ويؤيده قوله بعد ذلك
(وغيرهم من المحققين) .
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (216) رقم (3) .
(5) وفي نسخة (نعاج) .
(2/373)
قال المفسرون: «يريد من نبىء مِنْ
أَبْنَاءِ الْأَسْبَاطِ» .
وَقَدْ قِيلَ: «إِنَّهُمْ كَانُوا حِينَ فَعَلُوا بِيُوسُفَ مَا فَعَلُوهُ
صِغَارَ الْأَسْنَانِ وَلِهَذَا لَمْ يُمَيِّزُوا يُوسُفَ حِينَ
اجْتَمَعُوا بِهِ، ولهذا قالوا:
«أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ «1» .» وإن ثبتت لهم نبوة
فبعد هذا الفعل- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-.
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ
بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ «2» » .
فعلى مذهب كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّ هَمَّ
النَّفْسِ لا يؤاخذ به وليست سَيِّئَةً.
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ «3» : «إِذَا
هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ..»
فَلَا مَعْصِيَةَ فِي هَمِّهِ إذن.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ «4» مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُتَكَلِّمِينَ: فَإِنَّ الْهَمَّ إِذَا وُطِّنَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ
سَيِّئَةٌ.. وأما مالم تُوَطَّنْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ هُمُومِهَا
وَخَوَاطِرهَا فَهُوَ المعفو عنه.. وهذا هُوَ الْحَقُّ.
فَيَكُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هَمُّ يوسف من هذا.
__________
(1) سورة يوسف آية (2) .
(2) سورة يوسف آية (24) .
(3) أي في الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه وهو حديث طويل.
(4) كأبي بكر الباقلاني والذين رأوا تعارض النصوص فدققوا النظر في التوفيق
فيها
(2/374)
ويكون قوله: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي «1»
..» الْآيَةَ.. أَيْ مَا أُبَرِّئُهَا مِنْ هَذَا الْهَمِّ.
أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ والاعتراف بمخالفة
النفس لما زكّي قبل وبرىء.. فَكَيْفَ وَقَدْ حَكَى أَبُو حَاتِمٍ «2» عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ «3» أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَهُمَّ وَأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
أَيْ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ.. وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ
لَهَمَّ بِهَا.
ولقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمَرْأَةِ «وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ
نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ «4» » .
وقد قال تعالى: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ «5» »
وَقَالَ تَعَالَى: «وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ،» قالَ
مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ «6» » الْآيَةَ.
قِيلَ: فِي «رَبِّي» اللَّهُ وَقِيلَ: الْمَلِكُ.
وَقِيلَ: «هَمَّ بِهَا» أَيْ بِزَجْرِهَا وَوَعْظِهَا وَقِيلَ: «همّ بها»
__________
(1) سورة يوسف آية (53) .
(2) ابو حاتم: قيل: ولعله ابن أبي حاتم- وأبو حاتم الرازي هو الامام الحافظ
الجليل محمد بن ادريس بن المنذر الحنظلي احد الاعلام في التفسير والحديث،
ولد سنة خمس وتسعين ومائة وتوفي في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين.
(3) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (237) رقم (2) .
(4) سورة يوسف آية (32) .
(5) سورة يوسف آية (24) .
(6) سورة يوسف آية (23) .
(2/375)
أَيْ غَمَّهَا «1» امْتِنَاعُهُ عَنْهَا
وَقِيلَ: «هَمَّ بِهَا» نَظَرَ إِلَيْهَا وَقِيلَ: هَمَّ بِضَرْبِهَا
وَدَفْعِهَا وَقِيلَ: «هَذَا كُلُّهُ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ» .
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ: «مَا زَالَ النِّسَاءُ يَمِلْنَ إِلَى يُوسُفَ
مَيْلَ شَهْوَةٍ حَتَّى نَبَّأَهُ اللَّهُ فَأَلْقَى عَلَيْهِ هَيْبَةَ
النُّبُوَّةِ فَشَغَلَتْ هَيْبَتُهُ كُلَّ مَنْ رَآهُ عَنْ حُسْنِهِ» .
وَأَمَّا خَبَرُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَتِيلِهِ
«2» الَّذِي وَكَزَهُ «3» .. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مِنْ
عَدُوِّهِ.
وَقِيلَ: «كَانَ مِنَ الْقِبْطِ «4» الَّذِينَ عَلَى دِينِ فِرْعَوْنَ،،
وَدَلِيلُ السُّورَةِ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ قَبْلَ «5» نُبُوَّةِ
مُوسَى» .
وَقَالَ قَتَادَةُ «6» : «وَكَزَهُ بِالْعَصَا وَلَمْ يَتَعَمَّدْ
قَتْلَهُ، فَعَلَى هَذَا لَا مَعْصِيَةَ فِي ذلك» .
__________
(1) أي عن معاملتها بما أرادته فهو من الهم بمعنى الغم والباء للتعدية
بمعنى أهمها اذا أوقعها في هم وحزن وهو بعيد وان كان فيه مشاكلة وتجنيس.
للتعقيد المعنوي فيه، وقيل انه بعيد من اللغة لانه متعد بنفسه يقال: همه
الامر اذا أحزنه.
(2) وهو رجل كافر كان طباخ فرعون لعنه الله تعالى وكان يسخر الناس لحمل
الحطب لمطبخ فرعون فسخر رجلا من بني اسرائيل فاستغاث منه بموسى عليه السلام
وكان موسى قويا في جسمه فنهاه عن تسخيره فلم ينته فضربه بيده لدفع ظلمه
فمات.
(3) الوكز واللكز بمعنى واحد وهو الدفع.
(4) القبط بكسر القاف هم نبط مصر وقوم فرعون وهم جيل من الناس معروفون
(5) فانه لما قتله فر خائفا فكان ما كان له مع شعيب عليه السلام وتزوج
ابنته ثم تنبا لما فارقه كما قصه الله تعالى وقبل النبوة لم يكن معصوما من
الخطأ فصدر عنه مثل هذا وان لم يكن معصية لانه لم يعذبه بالة جارحة فهو خطأ
شبه عمد ولم يكن ثمة شرع
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (62) رقم (3) .
(2/376)
وقوله: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «1» »
وقوله: «ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي «2» » .
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ «3» : «قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا
يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ حَتَّى يُؤْمَرَ» .
وَقَالَ النَّقَّاشُ «4» : (لَمْ يَقْتُلْهُ عَنْ عَمْدٍ مُرِيدًا
لِلْقَتْلِ، وَإِنَّمَا وَكَزَهُ وَكْزَةً يُرِيدُ بِهَا دَفْعَ ظُلْمِهِ)
.
قَالَ «5» وَقَدْ قِيلَ: (إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ
مُقْتَضَى التِّلَاوَةِ) وَقَوْلُهُ تعالى في قصته: «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً
«6» » أَيِ ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً بَعْدَ ابْتِلَاءٍ.
قِيلَ: «فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا جَرَى لَهُ «7» مَعَ فِرْعَوْنَ.
__________
(1) القصص آية (15) .
(2) القصص آية (16) .
(3) ابن جريج: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو الوليد او أبو خالد
القرشي مولاهم احد الفقهاء الاعلام.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص () رقم () .
(5) أي النقاش
(6) سورة طه آية (40) .
(7) وذلك ان فرعون لعنه الله تعالى رأى رؤيا هالته فعبرها المعبرون والكهان
بمولود من بني اسرائيل يكون على يديه زوال ملكه ودينه فأمر القوابل بان كل
ذكر ولد منهم يأتونه به ويذبحونه ففعلوا ذلك حتى وقع في بني اسرائيل موتان
عظيمان فقال له القبط نخشى فناء بني اسرائيل فلا يبقى لنا خدم فتحتاج الى
استخدامنا فأمر ان يقتل الذكور منهم سنة ويتركون سنة فولد هارون في سنة
العفو ثم ولد موسى في سنة الذبح فخافت عليه أمه فأوحي اليها وحي الهام وقيل
وحيا جاءها فيه جبريل عليه السلام وإن لم تكن نبية لان الملك كان يراه غير
الانبياء كمريم عليها السلام ثم ارتفع ذلك بعد مجيء
(2/377)
وَقِيلَ: «إِلْقَاؤُهُ فِي التَّابُوتِ «1»
وَالْيَمِّ «2» » وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا «3» قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ
«4» وَمُجَاهِدٌ «5» مِنْ قَوْلِهِمْ: «فَتَنْتَ الْفِضَّةَ فِي النَّارِ»
إِذَا خَلَّصْتَهَا. وَأَصْلُ «الْفِتْنَةِ مَعْنًى» الِاخْتِبَارُ
وَإِظْهَارُ مَا بَطَنَ إِلَّا أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي عُرْفِ الشرع في
اختيار أَدَّى إِلَى مَا يُكْرَهُ.
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ «6» مِنْ أَنَّ مَلَكَ
الْمَوْتِ جَاءَهُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا..
الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ ما يحكم على موسى عليه السلام بالتعدي وفعل ما لا
يجب.. إِذْ هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ، بَيِّنُ الْوَجْهِ، جَائِزُ الْفِعْلِ،
لِأَنَّ مُوسَى دَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ أَتَاهُ لِإِتْلَافِهَا..
وَقَدْ تُصُوِّرَ لَهُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنَّهُ
عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ ملك
__________
النبي صلّى الله عليه وسلم وضعته أمه في صندوق وألقته في النيل فدخل بيت
فرعون فالنقطه ال فرعون واستوهبته امرأته آسية وكان له معه ما اشتهر من ذلك
وهو المراد بالفتون أي ما وقع له من الشدائد حتى نبأه الله واتخذه كليما
وصفيا وسمته اسية حين اتخذته وليدا موسى ومعناه ماء شجر بالقبطية لانه وجد
في صندوق ملقى في الماء.
(1) التابوت: أي الصندوق التي اتخذته له أمه من خشب والذي صنعه لها حزقيل
وهو مؤمن آل فرعون.
(2) اليم: البحر والمراد به النيل.
(3) أي ابتليناه بأمور شاهدتها قدرة الله تعالى ولطفه حتى صار صفوة له
خالصا من كل أمر لا يليق برسله عليهم السلام فقربه واصطفاه لان الفتنة أصل
معناها أن يذاب الذهب حتى يصفى.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (58) رقم (4) .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (70) رقم (1) .
(6) الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه كما قاله السيوطي رحمه
الله تعالى
(2/378)
الْمَوْتِ، فَدَافَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ
مُدَافَعَةً. أَدَّتْ إِلَى ذَهَابِ عَيْنِ تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي
تُصُوِّرَ لَهُ فِيهَا الْمَلَكُ، امْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ، فَلَمَّا
جَاءَهُ بَعْدُ وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَيْهِ
استسلم.
وللمتقدمين وللمتأخرين عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَجْوِبَةٌ. هَذَا
أَسَدُّهَا عِنْدِي، وَهُوَ تَأْوِيلُ شَيْخِنَا الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ «1» الْمَازِرِيِّ.
وَقَدْ تَأَوَّلَهُ قَدِيمًا ابْنُ عَائِشَةَ «2» وَغَيْرُهُ عَلَى صَكِّهِ
«3» وَلَطْمِهِ بِالْحُجَّةِ وَفَقْءِ عَيْنِ حُجَّتِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ
مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ فِي اللغة ومعروف.
وَأَمَّا قِصَّةُ سُلَيْمَانَ وَمَا حَكَى فِيهَا أَهْلُ التَّفَاسِيرِ
مِنْ ذَنْبِهِ وَقَوْلُهُ: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ «4» » فمعناه
ابتليناه، وابتلاؤه
__________
(1) أبو عبد الله المازري: امام الرحلة الفقيه المحدث البارع في سائر
العلوم وهو مالكي المذهب واسمه أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي
شارح المحصول، وله شرح مسلم الذي بنى عليه المصنف رحمه الله تعالى شرحه
المسمى بالاكمال، وله تاليف كثيرة مفيدة جليلة وهو منسوب الى مازر بفتح
الزاي وكسرها توفي في ثامن ربيع الاول من سنة ست وثلاثين وخمسمائة وعمره
ثلاث وثمانون سنة رحمه الله تعالى.
(2) ابن عائشة: هو عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله بن
معمر القرشي التميمي البصري المعروف بالعيشي نسبة لعيشة وهي لغة فى عائشة،
أو من تفسيرات النسب لانه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبد الله وهو احد
العلماء الاشراف المحدثين المحتشمين وهو ثقة روى عنه البغوي وخلق كثير،
توفي سنة مائتين وثمان وعشرين، فهو متقدم على المازري بزمان كثير فلذا قال
المصنف رحمه الله تعالى (قديما)
(3) اصل الصك واللطم الضرب بالوجه او بشيء عريض وجاء بمعنى مطلق الضرب
(4) سورة ص اية (34) .
(2/379)
مَا حُكِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم «1» أنه قال: (لأطوفن الليلة على مئة «2» امْرَأَةٍ أَوْ
تِسْعٍ وَتِسْعِينَ «3» كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ «4» : قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
فَلَمْ يَقُلْ.. فَلَمْ تحمل منهن إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ
بِشَقِّ رُجُلٍ قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بِيَدِهِ.
لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ) .
قَالَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي «5» : «وَالشِّقُّ» هُوَ الْجَسَدُ «6»
الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ.. وَهِيَ
عُقُوبَتُهُ وَمِحْنَتُهُ.
وَقِيلَ: «بَلْ مَاتَ فَأُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ مَيِّتًا» .
وَقِيلَ: «ذَنْبُهُ حِرْصُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَمَنِّيهِ «7» ..»
وَقِيلَ: «لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ لِمَا اسْتَغْرَقَهُ مِنَ الْحِرْصِ
وَغَلَبَ عَلَيْهِ من التمني» .
__________
(1) الحديث صحيح روي في الصحيحين وغيرهما.
(2) وفي عدد النساء خلاف في الروايات.
(3) كان قد تزوج بهن وكان ذلك جائزا في شريعته.
(4) أي ملك كان معه أو قرينة أو رجل كان يصحبه وقيل هو خاطره وهو بعيد وقيل
هو آصف بن برخيا بفتح الموحدة وسكون الراء المهملة وكسر الخاء المعجمة
ومثناة تحتية تليها الف.
(5) والمراد باصحاب المعاني الذين يفسرون الحديث ويقفون على معانيه.
(6) وهو ولده الذي ولد ميتا.
(7) على ان يرزقه الله مائة ولد يجاهدون في سبيل الله وليس مثله ذنبا
حقيقيا كما توهموه.
(2/380)
وقيل: عقوبته أن سلب «1» ملكه وذنبه أنه
أَحَبَّ بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِأَخْتَانِهِ «2» عَلَى خصمهم.
وَلَا يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الْأَخْبَارِيُّونَ مِنْ تَشَبُّهِ
الشَّيْطَانِ بِهِ وَتَسَلُّطِهِ عَلَى مُلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي
أُمَّتِهِ بِالْجَوْرِ، فِي حُكْمِهِ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا
يُسَلَّطُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَقَدْ عُصِمَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ
مِثْلِهِ «3» .
وَإِنْ سُئِلَ لِمَ لَمْ يَقُلْ سليمان في القصة المذكور إن شاء الله؟؟
فعنه «4» أجوبة «5» : أحدهما: مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
أَنَّهُ نَسِيَ أَنْ يَقُولَهَا، وَذَلِكَ لِيَنْفُذَ مُرَادَ «6» اللَّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ صَاحِبَهُ «7» وَشُغِلَ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: «وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي «8»
»
__________
(1) أي حكمه في رعيته وفي هذا امتحان من الله تعالى لأرباب الجاه.
(2) أختانه: جمع ختن بزته جبل وهو الصهر أو كل ما يكون من قبل المرأة كالأب
والاخ وذلك كما قيل انه كانت له امرأة يقال لها جرادة وكان مغرما بحبها
فقالت له: إن فلانا من أهلي له حق عند آخر وأنا أحب أن تحكم له اذا جاءك
فأجابها عليه السلام لذلك ولكنه لم يفعل فعاقبه الله تعالى على مجرد الميل
فكان ما كان من زوال ملكه عقوبة على هذا الميل.
(3) قال السيوطي رحمه الله «ما قال المصنف أنه من خرافات الاخباريين أخرجه
ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس موقوفا لكنه مأخوذ من الاسرائيليات»
وفيه نظر لان اول كلامه ينافي آخره.
(4) وفي نسخة (ففيه) .
(5) وفي نسخة (جوابان) وهو الصحيح لانه لم يذكر غيرهما.
(6) وفي نسخة «أمر» .
(7) أي الذي قال له قل ان شاء الله تعالى.
(8) سورة ص آية «35» .
(2/381)
لَمْ يَفْعَلْ هَذَا سُلَيْمَانُ غَيْرَةً
«1» عَلَى الدُّنْيَا، وَلَا نَفَاسَةً «2» بِهَا، وَلَكِنْ مَقْصِدُهُ فِي
ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنْ لَا يُسَلَّطَ عَلَيْهِ
أَحَدٌ كَمَا سُلِّطَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ الَّذِي سَلَبَهُ إِيَّاهُ
مُدَّةَ امْتِحَانِهِ- عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ «3» - وَقِيلَ: بَلْ
أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ اللَّهِ فَضِيلَةٌ، وَخَاصَّةٌ يَخْتَصُّ
بِهَا، كَاخْتِصَاصِ «4» غَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
بِخَوَاصَّ «5» مِنْهُ.
وَقِيلَ: «لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ
كَإِلَانَةِ الْحَدِيدِ لِأَبِيهِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعِيسَى،
وَاخْتِصَاصِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّفَاعَةِ،
وَنَحْوِ هَذَا» ..
وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَظَاهِرَةُ الْعُذْرِ،
وَأَنَّهُ أَخَذَ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ، وَظَاهِرِ اللفظ لقوله تعالى
«وأهلك «6» » فَطَلَبَ مُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ، وَأَرَادَ عِلْمَ مَا
طوي عنه مِنْ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ شَكَّ فِي وَعْدِ الله.
__________
(1) غيرة: بفتح الغين المعجمة وتكسر في لغة وهي محبة أمر يأبى ان يكون
لغيره
(2) نفاسة: بفتح النون رغبة.
(3) وهم الذين اخذوا هذا من الاسرائيليات. وفي صحة الاسرائيليات كلام
للمحدثين
(4) أي كَاخْتِصَاصِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
بِخَوَاصَّ كالخلة لابراهيم وكالتكليم لموسى وكالمحبة لمحمد صلّى الله عليه
وسلم ونحو ذلك وما خص الله به نبيا من الانبياء دون غيره لا ينافي الافضلية
لانه قد يكون في المفضول ما ليس في الفاضل.
(5) وقد تقرر انه لم يكن لنبي من الانبياء معجزة وخاصة الا لنبينا صلّى
الله عليه وسلم مثلها وأعظم منها كما فصله الامام الخيضري فى الخصائص وهو
من أجل ما ألف في هذا الباب.
(6) «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها
مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» . سورة هود آية
«40»
(2/382)
فَبَيَّنَ «1» اللَّهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ لِكُفْرِهِ،
وَعَمَلِهِ، الَّذِي هُوَ غَيْرُ صَالِحٍ، وَقَدْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ
مُغْرِقُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَنَهَاهُ عَنْ مُخَاطَبَتِهِ فِيهِمْ،
فَأُوخِذَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَعَتَبَ عَلَيْهِ، وَأَشْفَقَ هُوَ مِنْ
إِقْدَامِهِ عَلَى رَبِّهِ لِسُؤَالِهِ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي
السُّؤَالِ فِيهِ.
وَكَانَ نُوحٌ- فِيمَا حَكَاهُ النقاش «2» - لا يعلم بكفرابنه وَقِيلَ فِي
الْآيَةِ: غَيْرُ هَذَا.. وَكُلُّ هَذَا لَا يَقْضِي عَلَى نُوحٍ
بِمَعْصِيَةٍ سِوَى مَا ذكرناه من تأويله وإقدامه بالسؤال فيمن «3» لَمْ
يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ وَلَا نُهِيَ عَنْهُ..
وَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ «4» مِنْ أَنَّ نَبِيًّا قَرَصَتْهُ «5»
نَمْلَةٌ فَحَرَقَ قَرْيَةَ «6» النَّمْلِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:
أَنْ «7» قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأمم تسبّح «8»
؟!!.
__________
(1) بين لا تتعدى (بعلى) فلعله ضمن بين معنى نبه أو بنى أو هو تحريف من
الناسخ
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «90» رقم «1» .
(3) وفي نسخة (فيما)
(4) كما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه.
(5) وفي رواية البخاري (لدغته) .
(6) قرية: أصله محل الاجتماع مطلقا من قرى الماء في الحوض اذا جمعه فهو
حقيقة لغوية ويقال لمقر الانسان وطن وبلد. ومقر الابل عطن، وللاسد عرين
وغابة، وللظباء كماس، والمذئب والضبع وجاء وللطائر والزنبور عش ووكر،
ولليربوع والنمل قرية
(7) أن: بفتح الهمزة وسكون النون أي لان.
(8) وذلك لقوله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» سورة الأنعام آية «28»
«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» سورة الاسراء آية «44»
(2/383)
فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا
الَّذِي أَتَى مَعْصِيَةً بَلْ فَعَلَ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً وَصَوَابًا
بِقَتْلِ مَنْ يُؤْذِي جِنْسُهُ وَيَمْنَعُ الْمَنْفَعَةَ بما أَبَاحَ
اللَّهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ كان نازلا تحت الشجرة. فلما آذته انملة
تحول برحله عَنْهَا مَخَافَةَ تَكْرَارِ الْأَذَى عَلَيْهِ..
وَلَيْسَ فِيمَا أوحى الله إليه ما يوجب عليه مَعْصِيَةً.. بَلْ نَدَبَهُ
إِلَى احْتِمَالِ الصَّبْرِ، وَتَرْكِ التَّشَفِّي.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: «وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ
«1» » إِذْ ظَاهِرُ فِعْلِهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهَا آذَتْهُ
هُوَ فِي خَاصَّتِهِ فَكَانَ انتقساما لِنَفْسِهِ، وَقَطْعَ مَضَرَّةٍ
يَتَوَقَّعُهَا مِنْ بَقِيَّةِ النَّمْلِ هناك، ولم يأت في كل هذا أمرا
نُهِيَ عَنْهُ فَيُعَصَّى بِهِ، وَلَا نَصَّ فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ-
وَاللَّهُ أَعْلَمُ-
فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «2» : مَا مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا أَلَمَّ بِذَنْبٍ أَوْ كَادَ، إِلَّا يَحْيَى بْنَ زكريا أو
كما قال «3» عليه السلام فَالْجَوَابُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِ
الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعَنْ سَهْوٍ وغفلة.
__________
(1) سورة النحل آية «126»
(2) وهذا الحديث رواه الامام احمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا
بلفظ (ما من احد الا وقد اخطأ او هم بخطيئة) وسنده ضعيف، وأخرجه البزار عن
ابن عمر مرفوعا كما قاله السيوطي في (مناهل الصفا) .. ويقول الخفاجي:
ومتابعته تقويه في الجملة فلا عبرة بمن أنكره.
(3) اشارة الى انه وقع فيه روايات مختلفة كما قال الخفاجي عن تقويه
بالمتابعة.
(2/384)
|