الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل الخامس عشر فائدة مامرّ من الفصول
التي بحثت مسألة العصمة
قد استبان لك أيها الناظر بما «1» قَرَّرْنَاهُ مَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ
عِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَهْلِ بِاللَّهِ،
وَصِفَاتِهِ، أَوْ كَوْنِهِ عَلَى حَالَةِ تُنَافِي الْعِلْمَ بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ جُمْلَةً بَعْدِ النُّبُوَّةِ عَقْلًا وإجماعا، وقبلها
سماعا ونقلا، ولا بشي مما قرره مِنْ أُمُورِ الشَّرْعِ، وَأَدَّاهُ عَنْ
رَبِّهِ مِنَ الْوَحْيِ قَطْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا، وَعِصْمَتِهِ عَنِ
الْكَذِبِ، وَخُلْفِ الْقَوْلِ، مُنْذُ نَبَّأَهُ اللَّهُ، وَأَرْسَلَهُ
قَصْدًا أَوْ غَيْرَ قَصْدٍ، وَاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ شَرْعًا
وإِجْمَاعًا وَنَظَرًا وَبُرْهَانًا، وَتَنْزِيهِهِ عَنْهُ قَبْلَ
النُّبُوَّةِ قَطْعًا، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْكَبَائِرِ إِجْمَاعًا «2»
وَعَنِ الصَّغَائِرِ تَحْقِيقًا، وَعَنِ اسْتِدَامَةِ السَّهْوِ
وَالْغَفْلَةِ، وَاسْتِمْرَارِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ عَلَيْهِ فِيمَا
شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ، وَعِصْمَتِهِ فِي كل حالاته من رضا، وغضب، وجد،
ومزح،
__________
(1) وفي نسخة (ما) .
(2) ولا ينافي الاجماع تجويز الحشوية له كما قيل لعدم الاعتداد بخلافهم.
(2/393)
فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَلَقَّاهُ
بِالْيَمِينِ «1» ، وَتَشُدَّ عَلَيْهِ يَدَ الضَّنِينِ «2» ، وَتُقَدِّرَ
«3» هَذِهِ الْفُصُولَ حَقَّ قَدْرِهَا، وَتَعْلَمَ عَظِيمَ فَائِدَتِهَا
وَخَطَرِهَا، فَإِنَّ مَنْ يَجْهَلُ مَا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يجوز، أَوْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْرِفُ
صُوَرَ أَحْكَامِهِ، لَا يَأْمَنُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي بَعْضِهَا خِلَافَ
مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَلَا يُنَزِّهُهُ عَمًّا لَا يَجِبُ «4» أَنْ يُضَافَ
إِلَيْهِ، فَيَهْلِكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَيَسْقُطَ فِي هُوَّةِ «5»
الدَّرْكِ «6» الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.. إِذْ ظَنَّ الْبَاطِلَ بِهِ
وَاعْتِقَادُ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ يُحِلُّ بِصَاحِبِهِ دَارَ البوار،
ولهذا احْتَاطَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ
رَأَيَاهُ لَيْلًا وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ صَفِيَّةَ «7»
.. فقال لهما: «إنها صفية» .. ثم قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ
ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدم وإني
__________
(1) أي بالقبول واليمن والبركة والعرب تقول لما تمدح به اخذه بيمينه كما
قال الشماخ:
اذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
(2) الضنين: بضاد معجمة ونونين كالبخيل وزنا ومعنى من الضنة وهي شدة البخل
والمعنى: أي البخيل الممسك للشيء الثمين وهذا نظير ما يقال عضوا عليه
بالنواجذ من قبيل الاستعارة التمثيلية.. والضنين فيه مع اليمين مراعاة
النظير.
(3) تقدر: بكسر الدال المهملة من القدر وهو المنزلة الرفيعة كما في قوله
تعالى: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)
(4) وفي بعض النسخ (عما لا يجوز) وهو الاحسن.
(5) هوة: بضم الهاء وتشديد الواو الوهدة العميقة.
(6) الدرك: بفتحتين وقد تسكن الراء وهو ما ينزل به الى الاسفل ضد الدرج.
(7) صفية: بنت حيي بن الاخطب بن سعيه وكانت تحت أبي الحقيق اليهودي فلما
قتله النبي صلّى الله عليه وسلم واسلمت فتزوجها عليه الصلاة والسلام.
(2/394)
خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا
شَيْئًا فَتَهْلِكَا «1» » ..
- هَذِهِ أَكْرَمَكَ اللَّهُ إِحْدَى فَوَائِدِ مَا تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ
فِي هَذِهِ الْفُصُولِ.
وَلَعَلَّ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ بِجَهْلِهِ.. إِذَا سَمِعَ شَيْئًا
مِنْهَا يَرَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا جُمْلَةً مِنْ فُضُولِ الْعِلْمِ،
وَأَنَّ السُّكُوتَ أَوْلَى..
وَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ أَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْفَائِدَةِ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا وَفَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ يُضْطَرُّ إِلَيْهَا فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ، وَيُبْتَنَى «2» عَلَيْهَا مَسَائِلُ لَا تَنْعَدُّ «3» مِنَ
الْفِقْهِ، وَيَتَخَلَّصُ بِهَا مِنْ تشغيب «4» مُخْتَلِفِي الْفُقَهَاءِ
فِي عِدَّةٍ مِنْهَا، وَهِيَ:
- الْحُكْمُ فِي أَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَفْعَالِهِ، وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ، وَأَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ
الْفِقْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بِنَائِهِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْبَارِهِ وَبَلَاغِهِ وَأَنَّهُ لَا
يَجُوزُ عَلَيْهِ السَّهْوُ فِيهِ، وَعِصْمَتُهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي
أَفْعَالِهِ عَمْدًا، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُقُوعِ الصَّغَائِرِ
وَقَعَ خِلَافٌ «5» فِي امْتِثَالِ الْفِعْلِ بُسِطَ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ
ذَلِكَ الْعِلْمِ، فَلَا نُطَوِّلُ بِهِ..
وَفَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ: يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْحَاكِمُ «6» وَالْمُفْتِي
فِيمَنْ أَضَافَ إِلَى
__________
(1) والحديث في الصحيحين عن صفية.
(2) وفي نسخة (وينبني) .
(3) تنعد: لغة في تعد ولكنها ضعيفة.
(4) تشغيب: في الخصومة تفعيل من الشغب بفتح الغين المعجمة وسكونها وهو
تهييج الشر والصياح.
(5) وفي نسخة (اختلاف) .
(6) أي القاضي.
(2/395)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَوَصَفَهُ بِهَا فَمَنْ لَمْ
يَعْرِفْ مَا يَجُوزُ، وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، وَمَا وَقَعَ
الْإِجْمَاعُ فِيهِ، وَالْخِلَافُ كَيْفَ يُصَمِّمُ فِي الْفُتْيَا فِي
ذَلِكَ!! وَمِنْ أَيْنَ يَدْرِي هَلْ مَا قاله فيه نقص أو مدح!!. فإما أن
يجترىء عَلَى سَفْكِ دَمِ مُسْلِمٍ حَرَامٍ، أَوْ يُسْقِطَ حقا ويضيّع
حُرْمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» ..
وَبِسَبِيلِ هَذَا مَا قَدِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْأُصُولِ وَأَئِمَّةُ
العلماء والمحققين في عصمة الملائكة..
__________
(1) وقد قال صاحب العقائد العضدية: (لا تكفر احدا من أهل القبلة الا بما
فيه نفي الصانع المختار، او بما فيه شرك، أو انكار النبوة، او انكار ما علم
من الدين بالضرورة أو انكار مجمع عليه قطعا، أو استحلال محرم.. واما غير
ذلك فالقائل به مبتدع وليس بكافر.. وقد قال عليه الصلاة والسلام: «من كفر
مسلما بغير حق فقد كفر» ) .
(2/396)
|