الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الباب الثّاني في ما يخصتهم الْأُمُورِ
الدُّنْيَوِيَّةِ وَيَطْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ
وفيه تسعة فصول
(2/405)
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ حَالَةُ
الْأَنْبِيَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرَ
الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ..
وَأَنَّ جِسْمَهُ وَظَاهِرَهُ خَالِصٌ لِلْبَشَرِ يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ
الْآفَاتِ وَالتَّغْيِيرَاتِ وَالْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَتَجَرُّعِ
كَأْسِ الْحِمَامِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْبَشَرِ. وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ
بِنَقِيصَةٍ فِيهِ.. لِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يُسَمَّى نَاقِصًا
بِالْإِضَافَةِ إلى ما هو أتم فيه وأكمل من نوعه وقد كتب الله عَلَى أَهْلِ
هَذِهِ الدَّارِ فِيهَا يَحْيَوْنَ، وَفِيهَا يَمُوتُونَ، وَمِنْهَا
يُخْرَجُونَ.
وَخَلَقَ جَمِيعَ الْبَشَرِ بِمَدْرَجَةِ «1» الْغِيَرِ «2» .
فَقَدْ مَرِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاشْتَكَى وَأَصَابَهُ
الْحَرُّ وَالْقَرُّ، وَأَدْرَكَهُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَلَحِقَهُ
الْغَضَبُ وَالضَّجَرُ، وَنَالَهُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ، وَمَسَّهُ
الضَّعْفُ وَالْكِبَرُ، وَسَقَطَ فَجُحِشَ «3» شِقُّهُ» وَشَجَّهُ
الْكُفَّارُ «4»
__________
(1) مدرجة: اسم مكان بمعنى الطريق.
(2) الغير: حوادث الدهر المتغيرة.
(3) جحش: أي خدش. وقال الخليل هو كالخدش أو أكثر.
(4) والذي شجه هو ابن قميئة والفعل للواحد وأسنده للكل.
(2/406)
وَكَسَرُوا رُبَاعِيَّتَهُ «1» ، وَسُقِيَ
السُّمُّ «2» ، وَسُحِرَ «3» ، وَتَدَاوَى «4» وَاحْتَجَمَ «5» ،
وَتَنَشَّرَ «6» وَتَعَوَّذَ، ثُمَّ قَضَى نَحْبَهُ فَتُوُفِّيَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى،
وَتَخَلَّصَ مِنْ دَارِ الِامْتِحَانِ «7» وَالْبَلْوَى.
وَهَذِهِ سِمَاتُ الْبَشَرِ الَّتِي لَا مَحِيصَ عَنْهَا. وَأَصَابَ
غَيْرَهُ مِنَ الأنبياء ما هو أعظم فَقُتِّلُوا قَتْلًا «8» ، وَرُمُوا فِي
النَّارِ «9» ، وَنُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ «10» ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَاهُ
اللَّهُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَهُ كَمَا
عُصِمَ «11» بَعْدُ «12» نبينا «13» من الناس.
__________
(1) الرباعية: هي السن التي بين الثنية والناب.
(2) وذلك بعد خيبر اهدت له زينب بنت الحارث اليهودية شاة مسمومة واكثرت
السم في الذراع لما كانت علمت من محبته لها. وقد مات في هذه الحادثة بشر بن
البراء فقد أكل منها.
(3) الساحر هو لبيد بن الاعصم وكان ذلك في مرجعه من الحديبية سنة سبع. وقد
أخبره جبريل عن مكان السحر فاستخرجه.
(4) كما في مسند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عند ما لدغنه عقرب في اصبعه
صلّى الله عليه وسلم فوضع عليها ماء وملحا.
(5) في كنفه لما أكل من الشاة المسمومة.
(6) تنشر: بمعنى الرقية والتعوذ والتحقيق ان النشرة ما يقرأ عليه ادعية
وتعاويذ ثم يغسل بها من به مرض ونحوه وسميت نشرة لنشر الماء فيها.
(7) وفي نسخة (المحن) .
(8) كما وقع ليحيى عليه السلام.
(9) كما وقع للخليل صلّى الله عليه وسلم.
(10) كما وقع لزكريا عليه الصلاة والسلام.
(11) وفي نسخة (عصموا) .
(12) وفي نسخة (بعض) .
(13) وفي نسخة (الانبياء) .
(2/407)
فَلَئِنْ لَمْ يَكْفِ نَبِيَّنَا رَبُّهُ
يَدَ ابْنِ قميئة «1» يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَا حَجَبَهُ عَنْ عُيُونِ عِدَاهُ
عِنْدَ دَعْوَتِهِ أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَقَدْ أَخَذَ عَلَى عُيُونِ
قُرَيْشٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى ثَوْرٍ «2» ، وَأَمْسَكَ عَنْهُ سَيْفَ
غَوْرَثٍ «3» ، وَحَجَرَ أَبِي جَهْلٍ «4» ، وَفَرَسَ سُرَاقَةَ «5» .
وَلَئِنْ لَمْ يَقِهِ مِنْ سِحْرِ ابْنِ الْأَعْصَمِ «6» ، فَلَقَدْ
وَقَاهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سُمِّ الْيَهُودِيَّةِ..
وَهَكَذَا سَائِرُ أَنْبِيَائِهِ، مُبْتَلًى وَمُعَافًى، وَذَلِكَ مِنْ
تَمَامِ حِكْمَتِهِ لِيُظْهِرَ شَرَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ،
وَيُبَيِّنُ أَمْرَهُمْ، وَيُتِمُّ كَلِمَتَهُ فِيهِمْ، وليحقق بامتحانهم
بشربتهم، ويرتفع «7» الالتباس عن أهل الضعف
__________
(1) ابن قمئة: قمئة بكسر القاف وسكون الميم فهمزة وقيل بفتح أوله وكسر
ثانيه وزيادة ياء فيه على وزن سفينة وهو من قميء بمعنى ذليل وصغير، وهو عبد
الله بن قمئة الذي جرح وجهه الشريف صلّى الله عليه وسلم لما رماه وقال له:
خذها وأنا ابن قمئة. فقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. أقماك الله. أي أذلك، فرماه الله من شاهق جبل معروف لما انصرف
فتقطع قطعا. وقصته في السير.
(2) ثور: جبل معروف على يمين مكة.
(3) غورث: بن الحارث الفطفاني الاعرابي كما في البخاري أنه عليه الصلاة
والسلام نزل بمكان كثير العضاة فعلق سيفه بشجرة ونام في ظلها فجاء غورث
فاخترطه وقال للنبي عليه الصلاة والسلام من يمنعك مني فقال الله فسقط السيف
من يده، وقد أسلم بعد ذلك وتقدمت ترجمته في ج ص «681» رقم «7» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «270» رقم «3» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «130» رقم «5» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «224» رقم «4» .
(7) وفي نسخة (ويرفع) .
(2/408)
فِيهِمْ لِئَلَّا يَضِلُّوا بِمَا يَظْهَرُ
مِنَ الْعَجَائِبِ على أيديهم، ضلال «1» النصارى بعيسى بن مريم، وليكون في
محنتهم تَسْلِيَةٌ لِأُمَمِهِمْ وَوُفُورٌ لِأُجُورِهِمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ.. تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: «وهذه الطواريء والتغييرات الْمَذْكُورَةُ
إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِأَجْسَامِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ الْمَقْصُودِ بِهَا
مُقَاوَمَةُ الْبَشَرِ وَمُعَانَاةُ بَنِي آدَمَ لِمُشَاكَلَةِ الْجِنْسِ.
وَأَمَّا بَوَاطِنُهُمْ فَمُنَزَّهَةٌ غَالِبًا عَنْ ذَلِكَ مَعْصُومَةٌ
مِنْهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَلَأِ «2» الْأَعْلَى وَالْمَلَائِكَةِ
لِأَخْذِهَا عَنْهُمْ.. وَتَلَقِّيهَا الْوَحْيَ مِنْهُمْ» قَالَ:
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» : «إِنَّ عَيْنَيَّ
تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» .
وَقَالَ «4» : «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ.. إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي
رَبِّي وَيَسْقِينِي..» وَقَالَ «5» : «لَسْتُ أَنْسَى وَلَكِنْ أُنَسَّى
لِيُسْتَنَّ بِي» .
فَأَخْبَرَ أَنَّ سِرَّهُ وَبَاطِنَهُ وَرُوحَهُ بِخِلَافِ جِسْمِهِ
وَظَاهِرِهِ وَأَنَّ الْآفَاتِ الَّتِي تَحِلُّ ظَاهِرَهُ مِنْ ضَعْفٍ
وَجُوعٍ وَسَهَرٍ وَنَوْمٍ، لَا يَحِلُّ مِنْهَا شَيْءٌ بَاطِنَهُ
بِخِلَافِ غيره من البشر في حكم الباطن.
__________
(1) وقد الفت كتب كثيرة عن ضلالهم.
(2) وفي نسخة (بالرفيق) .
(3) والحديث تقدم.
(4) في حديث رواه البخاري في وصاله الصوم ونهي غيره عنه.
(5) وقد تقدم الحديث.
(2/409)
لِأَنَّ غَيْرَهُ إِذَا نَامَ اسْتَغْرَقَ
النَّوْمُ جِسْمَهُ وَقَلْبَهُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي نَوْمِهِ حَاضِرُ الْقَلْبِ كَمَا هُوَ فِي يَقَظَتِهِ.. حَتَّى قَدْ
جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ كان محروسا من الحدث في نومه ليكون
قَلْبِهِ يَقْظَانَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ إِذَا جَاعَ ضَعُفَ لِذَلِكَ جِسْمُهُ، وَخَارَتْ
قُوَّتُهُ، فَبَطَلَتْ بِالْكُلِّيَّةِ جُمْلَتُهُ.. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر أنه لا يعتر به ذلك، وأنه بخلافهم.
لقوله: «إني لست كهيئكم.. إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»
.
وَكَذَلِكَ أَقُولُ: «إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، مِنْ
وَصَبٍ «1» ومرض، وسحر «2» وغضب، لم يجر على باطنه ما يخلّ بِهِ، وَلَا
فَاضَ مِنْهُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، كَمَا
يَعْتَرِي «3» غَيْرَهُ مِنَ الْبَشَرِ مِمَّا نَأْخُذُ بَعْدُ فِي
بَيَانِهِ» ..
__________
(1) الوصب: الالم الدائم او التعب.
(2) وفي نسخة (وضجر) .
(3) وفي نسخة (كما يتعرض لغيره) .
(2/410)
|