الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ السَّادِسُ حَدِيثُ الْوَصِيَّةِ
فَإِنْ قُلْتَ قَدْ تَقَرَّرَتْ عِصْمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ
مِنْهُ فِيهَا خُلْفٌ وَلَا اضْطِرَابٌ فِي عَمْدٍ وَلَا سَهْوٍ، وَلَا
صِحَّةٍ وَلَا مَرَضٍ، وَلَا جد ولا مزح، وَلَا رِضًى وَلَا غَضَبٍ.
وَلَكِنْ مَا مَعْنَى الْحَدِيثِ «1» فِي وَصِيَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فعن ابْنِ عَبَّاسٍ «2» قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا
لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ» .. فَقَالَ بَعْضُهُمْ «3» : «إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ»
الْحَدِيثَ
وَفِي رِوَايَةٍ: «آتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا
بَعْدِي أبدا»
__________
(1) الذي روي عنه صلّى الله عليه وسلم في الصحيحين.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «2» .
(3) هو عمر رضي الله تعالى عنه كما سيأتي.
(2/431)
فتنازعوا.. فقالوا «1» : «ماله؟ أهجر؟
إستفهموا «2» فَقَالَ: «دَعُونِي فَإِنَّ الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ» .
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَهْجُرُ «3» .
وَفِي رِوَايَةٍ: هَجَرَ وَيُرْوَى: أَهْجُرٌ؟ وَيُرْوَى: أَهُجْرًا؟ ..
وَفِيهِ فَقَالَ عُمَرُ «4» : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ
حَسْبُنَا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ «5» فَقَالَ: قُومُوا عَنِّي «6» .
وَفِي رِوَايَةٍ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عمر «4»
قال أئمتنا في هذا الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَمَا يَكُونُ مِنْ
عَوَارِضِهَا مِنْ شِدَّةِ وَجَعٍ وَغَشْيٍ «7» وَنَحْوِهِ مِمَّا يَطْرَأُ
عَلَى جِسْمِهِ.
- مَعْصُومٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ أَثْنَاءَ ذَلِكَ مَا
يَطْعَنُ فِي
__________
(1) كما في البخاري.
(2) استفهموا: بكسر الهاء أي استخبروا القائل بمنعه او النبي صلّى الله
عليه وسلم عما أراده أفعله أولى أم تركه.
(3) يهجر: الهجر هو الهذيان.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «113» رقم «4» .
(5) اللغط: بفتحتين هو ارتفاع الاصوات واختلافها حتى لا تكاد تفهم.
(6) وقال ابن عباس: ان الرزية كل الرزية ما حال بين رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ ان يكتب لاختلافهم ولفظهم.
(7) غشي: بفتح فسكون هو اغماء خفيف.
(2/432)
مُعْجِزَتِهِ وَيُؤَدِّي إِلَى فَسَادٍ فِي
شَرِيعَتِهِ مِنْ هذيان أو اختلال في كَلَامٍ.
- وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ ظَاهِرُ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى فِي الْحَدِيثِ
«هَجَرَ» إِذْ مَعْنَاهُ هَذَى، يُقَالُ: «هَجَرَ هُجْرًا» إِذَا هَذَى،
«وَأَهْجَرَ هُجْرًا» إِذَا أَفْحَشَ. «وَأَهْجَرَ» تَعْدِيَةُ «هَجَرَ» ..
وَإِنَّمَا الْأَصَحُّ وَالْأَوْلَى أَهَجَرَ؟ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ
عَلَى مَنْ قَالَ:
لَا يَكْتُبُ..
وَهَكَذَا رِوَايَتُنَا فِيهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «1» مِنْ
رِوَايَةِ جَمِيعِ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ «2»
الْمُتَقَدِّمِ.
وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ «3» بن سلام عن ابن عُيَيْنَةَ «4» وَكَذَا
ضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ «5» بِخَطِّهِ فِي كِتَابِهِ «6» ، وَغَيْرُهُ مِنْ
هَذِهِ الطُّرُقِ.
وَكَذَا رَوَيْنَاهُ عَنْ مسلم «7» في حديث «8» شفيان وغيره وقد
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «158» رقم «3» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «251» رقم «4» .
(3) محمد بن سلام: هو الامام الحافظ الذي روى عنه البخاري وغيره، وتوفي سنة
خمس وعشرين وثمانمائة. وسلام بتخفيف اللام عند الاكثر كما قاله الذهبي
والمزي وغيرهما، وجوز بعضهم تشديدها أيضا.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «191» رقم «5» .
(5) عبد الله بن ابراهيم ابو محمد الأموي المعروف بالأصيلي عالم بالحديث
والفقه من أهل أصيله في المغرب رحل في طلب العلم فطاف في الأندلس والمشرق
ومات بقرطبة سنة 392 هـ له كتاب «الدلائل على أمهات المسائل» في اختلاف
مالك والشافعي وأبي حنيفة
(6) كنايه: أي صحيح البخاري الذي رواه وضبطه بقلمه.
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «158» رقم «2» .
(8) كما رواه البخاري
(2/433)
تُحْمَلُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ
«هَجَرَ» ؟ عَلَى حَذْفِ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ وَالتَّقْدِيرُ «أَهَجَرَ»
.. أَوْ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْقَائِلِ هَجَرَ أَوْ أَهَجَرَ دَهْشَةً
مِنْ قَائِلِ ذَلِكَ.. وَحَيْرَةً لِعَظِيمِ مَا شَاهَدَ مِنْ حَالِ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشدّة وجعه والمقام الَّذِي
اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي هَمَّ بِالْكِتَابِ فِيهِ،
حَتَّى لَمْ يَضْبِطْ هَذَا الْقَائِلُ لَفْظَهُ وَأَجْرَى «الْهُجْرَ»
مَجْرَى شِدَّةِ الْوَجَعِ.. لَا أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ
عَلَيْهِ الْهُجْرُ..
كَمَا حملهم الإشفاق على حراسته والله يقول: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ «1» » وَنَحْوِ هَذَا.
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ «أَهُجْرًا» وَهِيَ رواية أبي إسحق «2» المستملى
في الصحيح حَدِيثِ ابْنِ جُبَيْرٍ «3» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «4» مِنْ
رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ «5» . فَقَدْ يَكُونُ هَذَا رَاجِعًا إِلَى
الْمُخْتَلِفِينَ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَمُخَاطَبَةً لَهُمْ مِنْ بَعْضِهِمْ.. أَيْ جِئْتُمْ بِاخْتِلَافِكُمْ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ يديه
هجرا ومنكرا من القول!!.
__________
(1) الاية: 67 سورة المائدة.
(2) ابو اسحق المستملي: احد رواة الصحيح. وفي نسخة (السلمي) ولم يبينوه
والمعروف انما هو الاول.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «58» رقم «4» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (52) رقم (6) .
(5) قتيبة: ابن سعيد احد شيوخ البخاري.
(2/434)
و «الهجر» بِضَمِّ الْهَاءِ الْفُحْشُ فِي
الْمَنْطِقِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ
وَكَيْفَ اخْتَلَفُوا بعد أمره صلّى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتُوهُ
بِالْكِتَابِ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَامِرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُفْهَمُ إِيجَابُهَا مِنْ ندبها من إباحتها بقرائن.
فلعل قَدْ ظَهَرَ مِنْ قَرَائِنِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِبَعْضِهِمْ مَا فَهِمُوا أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ عَزْمَةٌ
بَلْ أَمْرٌ رَدَّهُ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ. وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَفْهَمْ
ذَلِكَ فَقَالَ: اسْتَفْهِمُوهُ.. فلما اختلفوا كفّ عنه إذ لَمْ يَكُنْ
عَزْمَةً وَلِمَا رَأَوْهُ مِنْ صَوَابِ رَأْيِ عُمَرَ «1» .
ثُمَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: «وَيَكُونُ امْتِنَاعُ عُمَرَ «1» إِمَّا
إِشْفَاقًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
تَكْلِيفِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ إِمْلَاءَ الْكِتَابِ. وَأَنْ تَدْخُلَ
عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عليه وسلم اشتد عليه الْوَجَعُ..
وَقِيلَ: (خَشِيَ عُمَرُ «1» أَنْ يَكْتُبَ أُمُورًا يَعْجِزُونَ عَنْهَا
فَيَحْصَلُونَ فِي الْحَرَجِ بِالْمُخَالَفَةِ.. وَرَأَى أنّ الأرفق
بِالْأُمَّةِ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ سَعَةُ الِاجْتِهَادِ، وَحُكْمُ النظر،
وطلب الصواب، فيكون المصيب والمخطيء مأجورا وقد علم عمر «1» تقرّر الشرع،
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «113» رقم «4» .
(2/435)
وَتَأْسِيسَ الْمِلَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1» » وَقَوْلُهُ
«2» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوصِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ
وَعِتْرَتِي «3» » .
وَقَوْلُ عُمَرَ «4» : «حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ» رَدٌّ عَلَى مَنْ
نَازَعَهُ لَا عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ قِيلَ: «إِنَّ عُمَرَ «4» خَشِيَ تَطَرُّقَ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ
فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ لِمَا كُتِبَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ في الخلوة، وأن
يتقولوا في ذلك الأوقاويل.. كَادِّعَاءِ الرَّافِضَةِ الْوَصِيَّةَ «5»
وَغَيْرِ ذَلِكَ..
وَقِيلَ: «إِنَّهُ كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لهم على طريق المشورة «6» والاختيار، وهل يَتَّفِقُونَ عَلَى
ذَلِكَ أَمْ يَخْتَلِفُونَ.. فَلَمَّا اخْتَلَفُوا تَرَكَهُ» ..
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: «إِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان مُجِيبًا فِي هَذَا الْكِتَابِ لِمَا طُلِبَ مِنْهُ، لا أنه
ابتدأ بالأمر به.. بل
__________
(1) الاية: 3 سورة المائدة.
(2) حديث صحيح رواه مسلم.
(3) عترته: أهل بيته الذين تحرم عليهم الزكاة.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «113» رقم «4» .
(5) أي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أوصى لعلي كرم الله وجهه وتسمينهم له
الوصي لذلك وان بعض الصحابة كتب ذلك.
(6) المشورة: بفتح الميم وضم الشين المعجمة وسكون الواو بزنة مثوبة في
الافصح ويجوز سكون الشين المعجمة وفتح الواو. وهي من شرت العسل: اذا
اجتنيته.
(2/436)
اقْتَضَاهُ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ،
فَأَجَابَ رَغْبَتَهُمْ، وَكَرِهَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ لِلْعِلَلِ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا» .
وَاسْتَدَلَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِقَوْلِ الْعَبَّاسِ «1»
لَعَلِيٍّ «2» : (انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِينَا عَلِمْنَاهُ،
وَكَرَاهَةِ عَلِيٍّ «2» هَذَا وَقَوْلِهِ: «وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ»
الْحَدِيثَ «3» .
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: «دَعُونِي فَإِنَّ الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ»
.. أَيِ الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنْ إِرْسَالِ الْأَمْرِ،
وَتَرْكِكُمْ وَكِتَابَ «4» اللَّهِ وَأَنْ تَدَعُونِي مِمَّا طَلَبْتُمْ..
وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِي «طُلِبَ» كِتَابَةُ أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (181) رقم (1) .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (54) رقم (4) .
(3) رواه البخاري مسندا.
(4) منصوب على انه مفعول معه أي مصاحبين بكتاب الله والتمسك به فاياكم أن
تختلفوا فتهلكوا كمن كان قبلكم من الامم وتفشلوا ان تنازعتم فيه.
(2/437)
|