الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل الثامن أفعاله الدّنيويّة
قال القاضي رحمه الله تعالى: وَأَمَّا أَفْعَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الدُّنْيَوِيَّةُ فَحُكْمُهُ فِيهَا مِنْ تَوَقِّي الْمَعَاصِي
وَالْمَكْرُوهَاتِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَمِنْ جَوَازِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ
فِي بَعْضِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكُلُّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي النُّبُوَّةِ
بَلْ إِنَّ هَذَا فِيهَا عَلَى النُّدُورِ، إِذْ عَامَّةُ أَفْعَالِهِ
عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ، بَلْ أَكْثَرُهَا أَوْ كُلُّهَا جَارِيَةٌ
مَجْرَى الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. إِذْ كَانَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا لِنَفْسِهِ إِلَّا
ضَرُورَتَهُ وَمَا يُقِيمُ رَمَقَ جِسْمِهِ، وَفِيهِ مَصْلَحَةُ ذَاتِهِ
التي يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيُقِيمُ شَرِيعَتَهُ، وَيَسُوسُ أُمَّتَهُ، وَمَا
كَانَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ فَبَيْنَ مَعْرُوفٍ
يَصْنَعُهُ، أَوْ بِرٍّ يُوَسِّعُهُ، أَوْ كَلَامٍ حَسَنٍ يَقُولُهُ أَوْ
يُسْمِعُهُ، أَوْ تَأَلُّفِ شَارِدٍ، أَوْ قَهْرِ مُعَانِدٍ، أَوْ
مُدَارَاةِ حَاسِدٍ، وكل هذا لا حق بصالح أعماله، منتظم في وظائف عباداته.
(2/445)
وَقَدْ كَانَ يُخَالِفُ فِي أَفْعَالِهِ
الدُّنْيَوِيَّةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَيُعِدُّ لِلْأُمُورِ
أَشْبَاهَهَا، فَيَرْكَبُ فِي تَصَرُّفِهِ لِمَا قَرُبَ الْحِمَارَ وَفِي
أَسْفَارِهِ الرَّاحِلَةَ، وَيَرْكَبُ الْبَغْلَةَ فِي مَعَارِكَ الْحَرْبِ
دَلِيلًا عَلَى الثَّبَاتِ وَيَرْكَبُ الْخَيْلَ وَيُعِدُّهَا لِيَوْمِ
الْفَزَعِ وَإِجَابَةِ الصَّارِخِ.. وَكَذَلِكَ فِي لِبَاسِهِ وَسَائِرِ
أَحْوَالِهِ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ مَصَالِحِهِ وَمَصَالِحِ أُمَّتِهِ.
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْفِعْلَ من أُمُورِ الدُّنْيَا مُسَاعَدَةً
لِأُمَّتِهِ وَسِيَاسَةً وَكَرَاهِيَةً لِخِلَافِهَا.. وإن كان قديرى
غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ، كَمَا يَتْرُكُ الْفِعْلَ لِهَذَا، وَقَدْ يَرَى
فِعْلَهُ خَيْرًا مِنْهُ.. وَقَدْ يَفْعَلُ هَذَا فِي الْأُمُورِ
الدِّينِيَّةِ مِمَّا لَهُ الْخِيَرَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ..
كَخُرُوجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِأُحُدٍ وَكَانَ مَذْهَبُهُ التَّحَصُّنَ
بِهَا. وَتَرْكِهِ قَتْلَ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ
أَمْرِهِمْ مُؤَالَفَةً لِغَيْرِهِمْ، ورعاية للمؤمنين من قرابته،
وَكَرَاهَةً لِأَنْ يَقُولَ النَّاسُ: «إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ
أَصْحَابَهُ» كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «1» .
وَتَرْكِهِ بِنَاءَ الكعبه على قواعد إبراهيم، مراعاة القلوب قريش،
وتعظيمهم لتغيّرها، وحذارا مِنْ نِفَارِ قُلُوبِهِمْ لِذَلِكَ، وَتَحْرِيكِ
مُتَقَدِّمِ عَدَاوَتِهِمْ للدين وأهله.
__________
(1) رواه البخاري في عبد الله بن أبي بن سلول.
(2/446)
فَقَالَ لِعَائِشَةَ «1» فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ «2» : «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَأَتْمَمْتُ
الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ» .
وكان يفعل الْفِعْلَ ثُمَّ يَتْرُكُهُ لِكَوْنِ غَيْرِهِ خَيْرًا مِنْهُ،
كَانْتِقَالِهِ مِنْ أَدْنَى مِيَاهِ بِدْرٍ إِلَى أَقْرَبِهَا لِلْعَدُوِّ
مِنْ قُرَيْشٍ.
وَكَقَوْلِهِ «3» : «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمري ما استدبرت اسقت
الْهَدْيَ «4» » .
وَيَبْسُطُ وَجْهَهُ لِلْكَافِرِ وَالْعَدُوِّ رَجَاءَ اسْتِئْلَافِهِ
وبصبر لِلْجَاهِلِ وَيَقُولُ «5» : «إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ
اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ..» وَيَبْذُلُ لَهُ الرَّغَائِبَ «6»
لِيُحَبِّبَ إِلَيْهِ شَرِيعَتَهُ وَدِينَ رَبِّهِ..
وَيَتَوَلَّى فِي مَنْزِلِهِ مَا يَتَوَلَّى الْخَادِمُ مِنْ مِهْنَتِهِ،
وَيَتَسَمَّتُ «7» فِي ملاءته «8»
__________
(1) تقدمت ترجمتها في ج 1 ص «146» رقم «5» .
(2) الذي رواه الشيخان وغيرهما.
(3) صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما رواه الشيخان.
(4) وذلك انه صلّى الله عليه وسلم كان محرما بالحج مفردا وقد ساق الهدي
بينما كان الصحابة متمتعين فأصابهم شىء من الذم عند ما رأوا أنفسهم خلاف
رسول الله صلّى الله عليه وسلم متمتعين فلما شعر عليه الصلاة والسلام
بكراهيتهم لتمتعهم قال الحديث.. «أي وددت أني مثلكم متمتعا لو لم بمعني سوق
الهدي والنية» ، والامران جائزان.. وفي أيهما أفضل خلاف في كتب الفقه.
(5) كما في حديث رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها.
(6) الرغائب: جمع رغيبة وهي ما يرغب فيه من العطايا.
(7) يتسمت: من السمت وهي الهيئة أي يتخذ هيئة حسنة
(8) وفي نسخة في (ملائه) أي في جمع من الناس.
(2/447)
حتى لا يبدو منه شيء من أطرافه، وحتى كأن
على رؤوس جُلَسَائِهِ الطَّيْرَ. وَيَتَحَدَّثُ مَعَ جُلَسَائِهِ بِحَدِيثِ
أَوَّلِهِمْ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَيَضْحَكُ «1»
مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ.
وَقَدْ وَسِعَ النَّاسَ بِشْرُهُ وَعَدْلُهُ. لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ،
وَلَا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ، وَلَا يُبْطِنُ عَلَى جُلَسَائِهِ.
يَقُولُ: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ
«2» » .
فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ «3» لِعَائِشَةَ «4» رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا فِي الدَّاخِلِ عَلَيْهِ «5» : «بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ» ..
فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ وَضَحِكَ مَعَهُ، فَلَمَّا خرج
سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ
النَّاسُ لِشَرِّهِ» . وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ خِلَافَ مَا
يُبْطِنُ، وَيَقُولُ فِي ظَهْرِهِ مَا قَالَ؟.
فَالْجَوَابُ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
اسْتِئْلَافًا لِمِثْلِهِ. وتطبيقا لِنَفْسِهِ لِيَتَمَكَّنَ إِيمَانُهُ،
وَيَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ بِسَبَبِهِ أَتْبَاعُهُ، وَيَرَاهُ مِثْلُهُ
فَيَنْجَذِبَ بِذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، ومثل هذا على هذا الوجه قد
__________
(1) وضحكه صلّى الله عليه وسلم هو التبسم.
(2) أي لا ينبغي له ان يغمز ويشير بطرف عينيه لاحد أن يفعل شيئا اخفاه ولم
يتكلم به والحادثة كانت عند الفتح بسبب ابن أبي سرح الذي كان مهدر الدم ثم
جاء ليبايع النبي صلّى الله عليه وسلم.
(3) في الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما.
(4) تقدمت ترجمتها في ج 1 ص «146» رقم «5» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «701» رقم «7» .
(2/448)
خَرَجَ مِنْ حَدِّ مُدَارَاةِ الدُّنْيَا
إِلَى السِّيَاسَةِ الدينية، وقد كان يَسْتَأْلِفُهُمْ بِأَمْوَالِ اللَّهِ
الْعَرِيضَةِ فَكَيْفَ بِالْكَلِمَةِ اللَّيِّنَةِ.
قَالَ صَفْوَانُ «1» : «لَقَدْ أَعْطَانِي وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ
إِلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى صَارَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيَّ»
.
وَقَوْلُهُ فِيهِ: «بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ هُوَ» غَيْرُ غِيبَةٍ، بَلْ
هُوَ تَعْرِيفُ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لِيَحْذَرَ
حَالَهُ وَيُحْتَرَزَ مِنْهُ، وَلَا يُوثَقَ بِجَانِبِهِ كُلَّ الثِّقَةِ،
لا سِيَّمَا وَكَانَ مُطَاعًا مَتْبُوعًا.
وَمِثْلُ هَذَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ
بِغِيبَةٍ، بَلْ كَانَ جَائِزًا، بَلْ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ
كَعَادَةِ الْمُحَدِّثِينَ فِي تَجْرِيحِ الرُّوَاةِ، وَالْمُزَكِّينَ فِي
الشُّهُودِ «2» .
فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى الْمُعْضِلِ «3» الْوَارِدِ فِي حَدِيثِ «4»
بِريرَةَ «5» مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ
«6» وَقَدْ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ موالي بريرة أبوا بيعها إلا
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «232» رقم «5» .
(2) وقد جمع بعضهم الصور التي تجوز فيها الغيبة في قوله:
القدح ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر
ولمظهر فسقا ومستفت ومن ... طلب الاعانة في ازالة منكر
(3) المعضل: اسم فاعل من أعضل أي أشكل.
(4) الذي رواه الشيخان.
(5) تقدمت ترجمتها في ج 1 ص «187» رقم «3» .
(6) تقدمت ترجمتها في ج 1 ص «146» رقم «5» .
(2/449)
أن يكون لهم الولاء «1» ، فقال لها صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَرِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ»
.. فَفَعَلَتْ ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ
يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ.. كُلُّ شَرْطٍ
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَهَا بِالشَّرْطِ لَهُمْ.. وَعَلَيْهِ
بَاعُوا، وَلَوْلَاهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لَمَا بَاعُوهَا مِنْ عَائِشَةَ
كَمَا لَمْ يَبِيعُوهَا قَبْلُ حَتَّى شَرَطُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا، ثُمَّ
أَبْطَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَدْ حَرَّمَ
الْغِشَّ وَالْخَدِيعَةَ!!
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ.. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَقَعُ فِي بَالِ الْجَاهِلِ مِنْ هَذَا،
وَلِتَنْزِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ
مَا قَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قوله: «إشترطي لهم الولاء»
إذ ليس فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ «2» .
وَمَعَ ثَبَاتِهَا «3» فَلَا اعْتِرَاضَ بِهَا، إِذْ يَقَعُ «لَهُمْ»
بِمَعْنَى «عَلَيْهِمْ» .
قال الله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ «4» » وقال: «وَإِنْ
أَسَأْتُمْ فَلَها «5» » .. فَعَلَى هَذَا اشْتَرِطِي عَلَيْهِمُ
الْوَلَاءَ لَكِ وَيَكُونُ قِيَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَوَعْظُهُ لما سلف لهم مِنْ شَرْطِ الْوَلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ
قَبْلَ ذَلِكَ.
وَوَجْهٌ ثَانٍ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إشترطي
لهم الولاء» ليس على
__________
(1) الولاء: أي ولاء العتاقة.
(2) هذا ما ذكره الخطابي.
(3) وهذا ما عليه الاكثر ورواه الثقات من طرق متعددة صحيحة فلا وجه
لانكارها
(4) الاية: 25 سورة الرعد.
(5) الاية: 7 سورة الاسراء.
(2/450)
مَعْنَى الْأَمْرِ، لَكِنْ عَلَى مَعْنَى
التَّسْوِيَةِ وَالْإِعْلَامُ، بِأَنَّ شَرْطَهُ لَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ
بَعْدَ بَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ
قَبْلُ أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ..
فَكَأَنَّهُ قَالَ: «اشْتَرِطِي أولا تَشْتَرِطِي، فَإِنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ
نَافِعٍ» . وَإِلَى هَذَا ذهب الداوودي «1» وَغَيْرُهُ.
وَتَوْبِيخُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ
وَتَقْرِيعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِمْ بِهِ قَبْلَ هَذَا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «اشْتَرِطِي لَهُمُ
الْوَلَاءَ» أَيْ أَظْهِرِي لَهُمْ حكمه، وبيّني عندهم سنته أن الْوَلَاءَ
إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَعْتَقَ ثُمَّ بَعُدَ هَذَا قَامَ هُوَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا ذَلِكَ، وَمُوَبِّخًا عَلَى
مُخَالَفَةِ مَا تَقَدَّمَ منه.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى فِعْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَخِيهِ
إِذْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِهِ وَأَخَذَهُ بِاسْمِ سَرِقَتِهَا،
وَمَا جَرَى عَلَى إِخْوَتِهِ في ذلك وقوله «إنكم لسارقون» وَلَمْ
يَسْرِقُوا؟.
فَاعْلَمْ: أَكْرَمَكَ اللَّهُ، أَنَّ الْآيَةَ تدلّ على أن فعل يوسف كان
من أَمْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا
كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
«2» » فإذا كان كذلك فلا
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «219» رقم «3» .
(2) الاية 76 سورة يوسف.
(2/451)
اعْتِرَاضَ بِهِ، كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ
«1» وَأَيْضًا فَإِنَّ يُوسُفَ كَانَ أَعْلَمَ أَخَاهُ بِأَنِّي أَنَا
أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ.. فَكَانَ مَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا مِنْ
وَفْقِهِ «2» وَرَغْبَتِهِ، وَعَلَى يَقِينٍ مِنْ عُقْبَى الْخَيْرِ لَهُ
بِهِ، وَإِزَاحَةِ السُّوءِ وَالْمَضَرَّةِ عَنْهُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ «3» إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» «4» ،
فَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ جَوَابٌ يَحِلُّ
شُبَهَهُ، وَلَعَلَّ قَائِلَهُ إِنْ حُسِّنَ لَهُ التَّأْوِيلُ كَائِنًا
مَنْ كَانَ، ظَنَّ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ ذَلِكَ.
وَقَدْ قِيلَ «: قَالَ ذَلِكَ لِفِعْلِهِمْ قَبْلُ بِيُوسُفَ وَبَيْعِهِمْ
لَهُ» .
وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ نُقَوِّلَ الْأَنْبِيَاءَ مَا
لَمْ يَأْتِ أَنَّهُمْ قَالُوهُ حَتَّى يُطْلَبَ الْخَلَاصُ مِنْهُ، ولا
يلزم الاعتذار عن زلات غيرهم..
__________
(1) وبه استدل من الائمة من ذهب الى جواز الحيل كأبي حنيفة وأصحابه خلافا
للشافعية.
(2) وفقه: أي اتفاقه.
(3) العير: الدواب والابل من عار بمعنى ذهب وجاء
(4) سورة يوسف آية: «70» .
(2/452)
|