الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل الرابع حكم الذمّي في ذلك
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: هَذَا حُكْمُ الْمُسْلِمِ.
فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا صَرَّحَ بِسَبِّهِ أَوْ عَرَّضَ أَوِ اسْتَخَفَّ بِقَدْرِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ.
فَلَا خِلَافَ عِنْدِنَا فِي قَتْلِهِ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، لِأَنَّا لَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّةَ أَوِ الْعَهْدَ عَلَى هَذَا.
وَهُوَ قَوْلُ عامة العلماء إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ «1» ، وَالثَّوْرِيَّ «2» ، وَأَتْبَاعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الكوفة فإنهم قالوا: لا يقتل.. لأن مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ وَلَكِنْ يؤدّب ويعذّر.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (499) رقم (6) .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (186) رقم (3) .

(2/565)


وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَلَى قَتْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ «1» ..» الْآيَةَ.
وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ الْأَشْرَفِ «2» وَأَشْبَاهِهِ وَلِأَنَّا لَمْ نُعَاهِدْهُمْ، وَلَمْ نُعْطِهِمُ الذِّمَّةَ عَلَى هَذَا.. ولا يجوز أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَهُمْ.
فَإِذَا أَتَوْا مَا لَمْ يُعْطَوْا عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَلَا الذِّمَّةَ، فَقَدْ نقضوا ذمتهم، وصاروا كفارا أهل حرب يُقْتَلُونَ لِكُفْرِهِمْ.. وَأَيْضًا..
فَإِنَّ ذِمَّتَهُمْ لَا تُسْقِطُ حُدُودَ الْإِسْلَامِ عَنْهُمْ مِنَ الْقَطْعِ فِي سَرِقَةِ أَمْوَالِهِمْ وَالْقَتْلِ لِمَنْ قَتَلُوهُ مِنْهُمْ.. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا عِنْدَهُمْ.
فَكَذَلِكَ سَبُّهُمُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتَلُونَ بِهِ. وَوَرَدَتْ لِأَصْحَابِنَا ظَوَاهِرُ تَقْتَضِي الْخِلَافَ إِذَا ذَكَرَهُ الذِّمِّيُّ بِالْوَجْهِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ سَتَقِفُ عَلَيْهَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ «3» الْقَاسِمِ وَابْنِ «4» سُحْنُونٍ بَعْدُ..
وَحَكَى أَبُو «5» الْمُصْعَبِ الْخِلَافَ فِيهَا عَنْ أَصْحَابِهِ الْمَدَنِيِّينَ وَاخْتَلَفُوا إذا سبه ثم أسلم.
__________
(1) الاية: 14 سورة التوبة.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (621) رقم (7) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (153) رقم (6) .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (629) رقم (10) .
(5) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (99) رقم (2) .

(2/566)


فَقِيلَ: يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ قَتْلَهُ. لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.. بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ تَابَ.. لِأَنَّا نَعْلَمُ بَاطِنَةَ الْكَافِرِ فِي بُغْضِهِ لَهُ، وَتَنَقُّصِهِ بِقَلْبِهِ، لَكِنَّا مَنَعْنَاهُ مِنْ إِظْهَارِهِ.. فَلَمْ يَزِدْنَا مَا أَظْهَرَهُ إِلَّا مُخَالَفَةً لِلْأَمْرِ، وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ.. فَإِذَا رَجَعَ عَنْ دِينِهِ الْأَوَّلِ إِلَى الْإِسْلَامِ سَقَطَ مَا قَبْلَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ «1» » وَالْمُسْلِمُ بِخِلَافِهِ.. إِذْ كَانَ ظَنُّنَا بِبَاطِنِهِ حُكْمَ ظَاهِرِهِ وَخِلَافَ مَا بَدَا مِنْهُ الْآنَ فَلَمْ نَقْبَلْ بَعْدُ رُجُوعَهُ وَلَا اسْتَنَمْنَا إِلَى بَاطِنِهِ إِذْ قَدْ بَدَتْ سَرَائِرُهُ وَمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ من الأحكام باقية عليه لم يُسْقِطُهَا شَيْءٌ.
وَقِيلَ: لَا يُسْقِطُ إِسْلَامُ الذِّمِّيِّ السَّابِّ قَتْلَهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ عَلَيْهِ لِانْتِهَاكِهِ حُرْمَتَهُ، وَقَصْدِهِ إِلْحَاقَ النَّقِيصَةَ وَالْمَعَرَّةَ بِهِ.. فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالَّذِي يُسْقِطُهُ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ إِسْلَامِهِ مِنْ قَتْلٍ وَقَذْفٍ.
وَإِذَا كُنَّا لَا نَقْبَلُ تَوْبَةَ المسلم فأن لا نقبل توبة الكافر أولى.
__________
(1) الاية: 40 سورة الانفال.

(2/567)


قال مَالِكٌ «1» فِي كِتَابِ ابْنِ «2» حَبِيبٍ وَالْمَبْسُوطِ «3» ، وَابْنِ «4» القاسم، وابن الماجشون «5» وابن «6» عبد الحكم، وأصبغ «7» :
فِيمَنْ شَتَمَ نَبِيَّنَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أحدا من الأنبياء عليهم السلام إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ.
وَقَالَهُ ابْنُ «8» الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ «9» . وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ «10» وَابْنِ سُحْنُونٍ «11» . وَقَالَ سُحْنُونٌ وَأَصْبَغُ: لَا يُقَالُ لَهُ «أَسْلِمْ» وَلَا «لَا تُسْلِمْ» وَلَكِنْ إِنْ أَسْلَمَ فَذَلِكَ لَهُ تَوْبَةٌ.
وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَصْحَابُ مَالِكٍ أَنَّهُ قال: «من سبّ
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (341) رقم (7) .
(2) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (153) رقم (1) .
(3) المبسوط: اسم كتاب في الفقه.
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (153) رقم (6) .
(5) ابن الماجشون: عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون التميمي الفقيه صاحب مالك- توفي سنة اثنين أر أربع عشرة ومائتين. وأخرج له الستة، واسمه ميمون أو يعقوب ومعنى الماجشون الابيض المشرب بالحمرة معرب ماه كون معناه لون القمر.
(6) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «144» رقم «5» .
(7) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «5» .
(8) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «6» .
(9) العتبية: كتاب مشهور في فقه مالك.
(10) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «144» رقم «2» .
(11) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «3» .

(2/568)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ
وَرُوِيَ لَنَا عَنْ مَالِكٍ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ الْكَافِرُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ «1» وَهْبٍ عَنِ ابْنِ «2» عُمَرَ أَنَّ رَاهِبًا تَنَاوَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
«فَهَلَّا قَتَلْتُمُوهُ!» .
وَرَوَى عِيسَى «3» عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِي ذَمِّيٍّ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْنَا إِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ. وَإِنَّمَا نَبِيُّنَا مُوسَى أَوْ عِيسَى. وَنَحْوُ هَذَا.. لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ.. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَرَّهُمْ عَلَى مِثْلِهِ.
وَأَمَّا إِنْ سَبَّهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِنَبِيٍّ.. أَوْ لَمْ يُرْسَلْ.. أَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ.. وإنما هو شيء تقوّله أو نحو هذا.. فيقتل.
قال ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِذَا قَالَ النَّصْرَانِيُّ: دِينُنَا خَيْرٌ من دينكم، إنما دِينُكُمْ دِينُ الْحَمِيرِ، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْقَبِيحِ.. أَوْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: كَذَلِكَ يُعْطِيكُمُ اللَّهُ.. فَفِي هَذَا.. الْأَدَبُ الْمُوجِعُ، وَالسِّجْنُ الطَّوِيلُ.
قَالَ: وَأَمَّا إن شتم النبي صلى الله عليه وسلم شتما يعرف فإنه يقتل إلا أن
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «332» رقم «1» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «182» رقم «1» .
(3) عيسى بن ابراهيم الغافقي الامام الفقيه المحدث توفي سنة احدى وستين ومائتين

(2/569)


يُسْلِمَ قَالَهُ مَالِكٌ «1» غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَقُلْ يُسْتَتَابُ قَالَ ابْنُ «2» الْقَاسِمِ:
وَمَحْمَلُ قَوْلِهِ عِنْدِي.. إِنْ أَسْلَمَ طَائِعًا.
وَقَالَ ابْنُ سُحْنُونٍ «3» فِي سؤالات سليمان «4» بن سالم الْيَهُودِيِّ يَقُولُ لِلْمُؤَذِّنِ إِذَا تَشَهَّدَ «كَذَبْتَ» يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ مَعَ السِّجْنِ الطَّوِيلِ.
وَفِي النَّوَادِرِ «5» مِنْ رِوَايَةِ سُحْنُونٍ «6» عَنْهُ «7» مَنْ شَتَمَ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي بِهِ كَفَرُوا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَتَلْتَهُ فِي سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ دِينِهِ سَبُّهُ وَتَكْذِيبُهُ؟! .. قِيلَ: لِأَنَّا لَمْ نُعْطِهِمُ الْعَهْدَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا عَلَى قَتْلِنَا، وَأَخْذِ أَمْوَالِنَا.. فَإِذَا قَتَلَ وَاحِدًا مِنَّا قَتَلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ دِينِهِ اسْتِحْلَالُهُ فَكَذَلِكَ إِظْهَارُهُ لسب نبينا صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «341» رقم «7» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «6» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «609» رقم «10» .
(4) سليمان بن سالم اليهودي.
(5) النوادر: اسم كتاب لابن أبي زيد صاحب الرسالة المالكي.
(6) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «3» .
(7) عنه أي عن مالك.

(2/570)


قَالَ سُحْنُونٌ: «كَمَا لَوْ بَذَلَ لَنَا أَهْلُ الْحَرْبِ الْجِزْيَةَ عَلَى إِقْرَارِهِمْ عَلَى سَبِّهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ قَائِلٍ.
كَذَلِكَ يَنْتَقِضُ عَهْدُ مَنْ سَبَّ مِنْهُمْ وَيَحِلُّ لَنَا دمه.. وكما لَمْ يُحْصِنِ الْإِسْلَامُ مَنْ سَبَّهُ مِنَ الْقَتْلِ كَذَلِكَ لَا تُحْصِنُهُ الذِّمَّةُ.
قَالَ الْقَاضِي «1» أَبُو الْفَضْلِ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سُحْنُونٍ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَبِيهِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَا خَفَّفَ عُقُوبَتَهُمْ فِيهِ مِمَّا بِهِ كَفَرُوا فَتَأَمَّلْهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ «2» خِلَافَ مَا رُوِيَ عَنِ الْمَدَنِيِّينَ «3» فِي ذَلِكَ فَحَكَى أَبُو الْمُصْعَبِ «4» الزُّهْرِيُّ قَالَ: أُتِيتُ بِنَصْرَانِيٍّ قَالَ: وَالَّذِي اصْطَفَى عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ، فَاخْتُلِفَ عَلَيَّ فِيهِ، فَضَرَبْتُهُ حَتَّى قَتَلْتُهُ، - أَوْ عَاشَ يَوْمًا وَلَيْلَةً-.. وَأَمَرْتُ مَنْ جَرَّ بِرِجْلِهِ، وَطُرِحَ عَلَى مَزْبَلَةٍ، فَأَكَلَتْهُ الْكِلَابُ.
وَسُئِلَ أَبُو الْمُصْعَبِ عَنْ نَصْرَانِيٍّ قَالَ: عِيسَى خلق محمدا..
فقال: يقتل..
__________
(1) أبو الفضل: المصنف
(2) أي ما قاله سحنون وابنه.
(3) أي أصحاب مالك.
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «99» رقم «2» .

(2/571)


وَقَالَ ابْنُ «1» الْقَاسِمِ: سَأَلْنَا مَالِكًا «2» عَنْ نَصْرَانِيٍّ بِمِصْرَ شُهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: مِسْكِينٌ مُحَمَّدٌ.. يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ!. مَا لَهُ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسَهُ إِذْ كَانَتِ الْكِلَابُ تَأْكُلُ سَاقَيْهِ! لَوْ قَتَلُوهُ اسْتَرَاحَ مِنْهُ النَّاسُ.
قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُهُ.. قَالَ: وَلَقَدْ كِدْتُ أن لا أَتَكَلَّمَ فِيهَا بِشَيْءٍ ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ لَا يَسَعُنِي الصَّمْتُ.
قَالَ ابْنُ «3» كِنَانَةَ فِي الْمَبْسُوطَةِ: مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرَى لِلْإِمَامِ أَنْ يُحْرِقَهُ بِالنَّارِ «4» وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ ثُمَّ حَرَقَ جُثَّتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ حَيًّا «5» إِذَا تَهَافَتُوا فِي سَبِّهِ.
وَلَقَدْ كُتِبَ إِلَى مَالِكٍ مِنْ مِصْرَ- وَذَكَرَ «6» مَسْأَلَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ الْمُتَقَدِّمَةَ- قَالَ: فأمرني مالك فكتبت بأن يقتل وتضرب عنقه
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «6» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(3) ابن كنانة: بكسر الكاف من فقهاء المالكية.
(4) وهذا مما لم يجزه علماء الشرع لما ورد في الحديث إنه لا يعذب (بالنار الا الله أو خالقها) .
(5) وهذا مذهب مالك وغيره من العلماء يأباه ومذهب الشافعي انه لا يجوز الا فصاصا لحديث: من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه. واستدل مالك لما قاله بأن عليا كرم الله وجهه فعله، وبقوله عليه السلام في حق من ارتد: ان وجدتموه فاحرقوه. وغيره يقول أنه منسوخ كما نسخت المثلة لقوله تعالى (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم) وهو مذهب أبي حنيفة.
(6) ذكر ابن كنانة.

(2/572)


فَكَتَبْتُ.. ثُمَّ قُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ «1» اللَّهِ، وَأَكْتُبُ.. ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ.. فَقَالَ: إِنَّهُ لَحَقِيقٌ بِذَلِكَ، وَمَا أَوَّلَاهُ بِهِ فَكَتَبْتُهُ بِيَدِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا أَنْكَرَهُ وَلَا عَابَهُ، وَنَفَذَتِ الصَّحِيفَةُ بِذَلِكَ، فَقُتِلَ وَحُرِقَ.
وَأَفْتَى عُبَيْدُ «2» اللَّهِ بْنُ يَحْيَى وَابْنُ لُبَابَةَ «3» فِي جَمَاعَةِ سَلَفِ أَصْحَابِنَا الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت «4» بنفي الربوبية وبنوة «5» عيسى لله.. وتكذيب مُحَمَّدٍ فِي النُّبُوَّةِ، وَبِقَبُولِ إِسْلَامِهَا، وَدَرْءِ الْقَتْلِ عنها به.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ الْقَابِسِيُّ «6» ، وَابْنُ «7» الْكَاتِبِ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ «8» بْنُ الْجَلَّابِ فِي كِتَابِهِ «9» مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ مسلم أو كافر، قتل ولا يستتاب.
__________
(1) أبو عبد الله: كنية مالك.
(2) عبيد الله بن يحيى: المكنى بأبي مروان الليثي. فقيه، ثقة، عمدة في مذهب مالك، وهذا هو يحيى بن يحيى الذي روى عنه الموطأ كما سبق وقد تقدمت ترجمته في ج 2 ص (187) رقم (4)
(3) ابن لبابة: محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة القرطبي ولد سنة خمس وعشرين ومائتين ومات سنة أربع عشر وثلاثمائة.
(4) استهلت: رفعت صوتها.
(5) وفي نسخة (نبوة) .
(6) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «188» رقم «1» .
(7) ابن الكاتب: أبو القاسم عبد الرحمن بن علي بن محمد الامام المالكي الجليل، عرف بابن الكاتب.
(8) أبو القاسم بن الجلاب: إمام جليل اشتهر بكنيته، وهو صاحب القاضي أبي بكر الابهري، وله تاليف جليلة، توفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وهو عبد الله أو عبد الرحمن بن الحسين البصري.
(9) الذي صنفه في فقه مالك.

(2/573)


وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ «1» فِي الذِّمِّيِّ يَسُبُّ ثُمَّ يُسْلِمُ رِوَايَتَيْنِ فِي دَرْءِ الْقَتْلِ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ.
وَقَالَ ابْنُ «2» سُحْنُونٍ: وَحَدُّ الْقَذْفِ وَشِبْهُهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُسْقِطُهُ عَنِ الذِّمِّيِّ إِسْلَامُهُ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ حُدُودُ اللَّهِ.
فَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَحَقٌّ لِلْعِبَادِ، كَانَ ذَلِكَ لِنَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ.
فَأَوْجَبَ عَلَى الذِّمِّيِّ إِذَا قَذَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَسْلَمَ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَكِنِ انْظُرْ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَلْ حَدُّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقَتْلُ لِزِيَادَةِ حُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِهِ؟ .. أَمْ هَلْ يَسْقُطُ الْقَتْلُ بِإِسْلَامِهِ وَيُحَدُّ ثمانين؟ .. فتأمله.
***
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «141» رقم «6» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «609» رقم «10» .

(2/574)