الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ
اللَّهَ تعالى وملائكته وأنبياء وَكُتُبَهُ وَآلَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأزواجه وصحبه
وفيه عشرة فصول
(2/581)
الفصل الأوّل حكم سابّ الله تعالى وحكم
استتابته
قال القاضي أبو الفضل:
لَا خِلَافَ أَنَّ سَابَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ
حَلَّالُ الدَّمِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِتَابَتِهِ.
فَقَالَ ابْنُ «1» الْقَاسِمِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ «2»
سُحْنُونٍ وَمُحَمَّدٍ «3» وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مالك «4» في
كتاب إسحق «5» بْنِ يَحْيَى مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنَ
الْمُسْلِمِينَ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ افْتِرَاءً
عَلَى اللَّهِ بِارْتِدَادِهِ إِلَى دِينٍ دَانَ بِهِ وَأَظْهَرَهُ
فَيُسْتَتَابُ.. وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ لَمْ يستتب.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (341) رقم (3) .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (109) رقم (10) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (144) رقم (2) .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (341) رقم (7) .
(5) اسحق بن يحيى سرقسطي من فقهائها ومشاوريها ومدرسيها سمع منه وضاح بن
محمد الرعيني وغيره وتوفي سنة احدى وعشرين وأربعمائة. رحمه الله.
(2/582)
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطَةِ مُطَرِّفٌ «1»
وَعَبْدُ «2» الْمَلِكِ مِثْلَهُ.. وقال المخزومي «3» وَمُحَمَّدُ بْنُ «4»
مَسْلَمَةَ وَابْنُ «5» أَبِي حَازِمٍ: لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ
بِالسَّبِّ حَتَّى يُسْتَتَابَ «6» ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيُّ
وَالنَّصْرَانِيُّ فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يتوبوا
فتلوا. وَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِتَابَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَالرِّدَّةِ،
وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي ابْنُ نَصْرٍ «7» عَنِ الْمَذْهَبِ.
وَأَفْتَى أَبُو مُحَمَّدِ «8» بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ فِي
رَجُلٍ لَعَنَ رَجُلًا وَلَعَنَ اللَّهَ فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ
أَلْعَنَ الشَّيْطَانَ فَزَلَّ لِسَانِي فَقَالَ:
يُقْتَلُ بِظَاهِرِ كُفْرِهِ، وَلَا يُقْبَلُ عُذْرُهُ، وَأَمَّا فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَعْذُورٌ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ قُرْطُبَةَ فِي مَسْأَلَةِ هَارُونَ «9» بْنِ
حَبِيبٍ أَخِي عَبْدِ الْمَلِكِ الْفَقِيهِ وَكَانَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ
كَثِيرَ التَّبَرُّمِ، وَكَانَ قد شهد عليه
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (99) رقم (6) .
(2) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (153) رقم (1) .
(3) (المخزومي) : المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي فقيه المدينة بعد مالك
ولد سنة أربع وعشرين ومائة وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائة.
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (158) رقم (7) .
(5) ابن أبي حازم: عبد العزيز بن سلمة بن دينار بن أبي حازم. توفي سنة أربع
أو خمس أو ست وثمانين ومائة وهو ساجد فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
(6) فان تاب والا قتل، واليه ذهب الشافعي وغيره.
(7) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (141) رقم (6) .
(8) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (479) رقم (5) .
(9) هارون بن حبيب: ليس من العلماء بل هو من الامراء وهو أخو عبد الملك ابن
حبيب.
(2/583)
بشهادات منها أنه قال عند استقلاله «1»
مِنْ مَرَضٍ: لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أَبَا بَكْرٍ
«2» وَعُمَرَ «3» لَمْ أَسْتَوْجِبْ هَذَا كُلَّهُ.
فَأَفْتَى إِبْرَاهِيمُ «4» بْنُ حُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ بِقَتْلِهِ،
وَأَنَّ مُضَمَّنَ قَوْلِهِ تَجْوِيرٌ «5» لِلَّهِ تَعَالَى وَتَظَلُّمٌ
مِنْهُ، وَالتَّعْرِيضُ فِيهِ كَالتَّصْرِيحِ «6» .
وَأَفْتَى أَخُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ «7» بْنُ حَبِيبٍ، وَإِبْرَاهِيمُ «8»
بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَاصِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ «9» سُلَيْمَانَ الْقَاضِي
يطرح الْقَتْلِ عَنْهُ إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ رَأَى عَلَيْهِ
التَّثْقِيلَ فِي الْحَبْسِ وَالشِّدَّةَ فِي الْأَدَبِ لِاحْتِمَالِ
كَلَامِهِ وَصَرْفِهِ إِلَى التَّشَكِّي.
فَوَجَّهَ مَنْ قَالَ فِي سَابِّ اللَّهِ بِالِاسْتِتَابَةِ أَنَّهُ كُفْرٌ
وَرِدَّةٌ مَحْضَةٌ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ
فَأَشْبَهَ قَصْدَ الْكُفْرِ بِغَيْرِ سَبِّ اللَّهِ وَإِظْهَارَ
الِانْتِقَالِ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنَ الْأَدْيَانِ الْمُخَالِفَةِ
للإسلام.
__________
(1) استقلاله: هنا معناها افاقته وقيامه.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (156) رقم (6) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (113) رقم (4) .
(4) ابراهيم بن حسين بن خالد: من أجلاء فقهاء المالكية بقرطبة توفي سنة
ثمان وخمسين ومائتين.
(5) تجوير: نسبة للجور وهو الظلم.
(6) عند المالكية فقط وليس الشافعية كذلك.
(7) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (153) رقم (1) .
(8) ابراهيم بن حسين بن عاصم: وهو الفقيه الجليل القرطبي، توفي في رمضان
سنة سبع ومائتين.
(9) سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق بن محزمة كان من جلساء مالك وأصحابه
وهو أول قاض استقضاه المهدى بالمدينة وأقره الرشيد صدرا من ولايته مات سعيد
وهو عند العباس.
(2/584)
وَوَجْهُ تَرْكِ اسْتِتَابَتِهِ: أَنَّهُ
لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ ذَلِكَ بَعْدَ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلُ
اتَّهَمْنَاهُ وَظَنَنَّا أَنَّ لِسَانَهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ إِلَّا
وَهُوَ مُعْتَقِدٌ لَهُ.. إِذْ لَا يَتَسَاهَلُ فِي هَذَا أَحَدٌ، فَحُكِمَ
لَهُ بِحُكْمِ الزِّنْدِيقِ، وَلَمْ تُقْبَلْ توبته وإذا انتقل من دين إلى
دين آخَرَ وَأَظْهَرَ السَّبَّ بِمَعْنَى الِارْتِدَادِ فَهَذَا قَدْ
أَعْلَمَ أَنَّهُ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، بخلاف الأول
المستمسك بِهِ وَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ الْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ عَلَى مشهور
مذاهب أكثر العلماء «1» .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قبل وذكرنا
الخلاف في فصوله.
***
__________
(1) من الحنفية والشافعية والحنبلية.
(2/585)
|