الشفا
بتعريف حقوق المصطفى وحاشية الشمني
الباب الأول في ثناء الله تعالى عليه وإظهاره عظيم قدره لديه
أعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصخة بجميل ذكر
__________
= المثناة من فوق وكسر الميم وبكسرهما وبضمهما قاله النووي في التهذيب
في الكنى في أبى جعفر الترمذي (قوله عبد الرزاق) هو الحافظ ابن همام بن
نافع للصغانى أحد الأعلام (قوله معمر) بفتح الميم وإسكان المهملة وفتح
الميم وبالراء (قوله بالبراق) هو دابة فوق الحمار ودون البغل: ورد في
الصحيح: سمى براقا لسرعته وقيل لشدة صفائه وقيل لكونه أبيض وقال المصنف
لكونه ذا لونين من قولهم شاة برقاء إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات
سود وفى كتاب الاحتفال لابن أبى خالد في أسماء خيل النبي صلى الله عليه
وسلم أن البراق دون البغل وفوق الحمار ووجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد
الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال لا ذكر ولا أنثى (قوله
فاستصعب عليه) قيل استصعابه لبعد عهده بالأنبياء لطول الفترة بين عيسى
ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل لأنه لم يذلل قبل ذلك ولم يركبه أحد والقول الأول مبنى على أن
الأنبياء عليهم السلام ركبوه قبل النبي صلى الله عليه وسلم والقول
الثاني مبنى على أنه لم يركبه أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وفى
ذلك خلاف وقيل استصعابه تيها وزهوا بركوب النبي صلى الله عليه وسلم
عليه (قوله فارفض) بفاءين بينهما راء ساكنة وبضاد معجمة مشددة أي جرى
وسال وفاعله مستتر عائد على البراق وعرقا تمييز.
(*)
(1/13)
المصطفى صلى
الله عليه وسلم وعد محاسنه وتعظيم أمره وتنويه قدره، اعتمدنا منها على
ما ظهر معناه وبان فحواه، وجمعنا ذلك في عشرة فصول:
(الفصل الأول) فيما جاء من ذلك مجئ المدح والثناء وتعداد المحاسن
كقوله تعالى (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) الآية.
قال السمرقندى: وقرأ بعضهم (من أنفسكم) بفتح الفاء.
وقراءة الجمهور بالضم، قال الفقيه القاضى أبو الفضل وفقه الله تعالى:
أعلم الله تعالى المؤمنين أو العرب أو أهل مكة أو جميع الناس على
اختلاف المفسرين من المواجه بهذا الخطاب: أنه بعث فيهم رسولا من أنفسهم
يعرفونه ويتحققون مكانه ويعلمون صدقه وأمانته فلا يتهمونه بالكذب وترك
النصيحة لهم: لكونه منهم، وأنه لم تكن في العرب قبيلة إلا ولها على
رسول الله عليه وسلم ولادة أو قرابة، وهو عند ابن عباس وغيره معنى قوله
تعالى (إلا المودة في القربى) وكونه من أشرفهم وأرفعهم وأفضلهم على
قراءة الفتح هذه نهاية المدح، ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة، وأثنى عليه
بمحامد كثيرة:
__________
(الفصل الأول) (قوله السمرقندى) هو الامام الجليل الحنفي أبو الليث
المعروف بإمام الهدى: تفقه على أبى جعفر الهندوانى وتوفى سنة ثلاث
وسبعين وثلاثمائة ولهم أبو الليث السمرقندى متقدم يلقب بالحافظ وهو
الفرق بينهما، ذكره السمعاني.
(*)
(1/14)
من حرصه على
هدايتهم ورشدهم وإسلامهم وشدة ما يعنتهم ويضر بهم في دنياهم وأخراهم
وعزته عليه ورأفته ورحمته بمؤمنيهم، قال بعضهم أعطاه اسمين من أسمائه
رؤف رحيم ومثله في الآية الأخرى قوله تعالى (لفد من الله على المؤمنين
إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) الآية وفى الآية الأخرى (هو الذى بعث في
الأميين رسولا منهم) الآية وقوله تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم)
الآية، وروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم
في قوله تعالى (من أنفسكم) قال نسبا وصهرا وحسبا ليس في آبائى من لدن
آدم سفاح كلها نكاح قال ابن الكلبى كتبت للنبى صلى الله عليه وسلم
خمسمائة أم فما وجدت فيهم سفاحا ولا شيئا مما كان عليه الجاهلية، وعن
ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى (وتقلبك في الساجدين) قال من
نبى إلى نبى حتى
__________
(قوله وشده) هو بالجر والتأنيث عطف على حرصه، وعزته عطف على شدة
والضمير لما والجار والمجرور أعنى عليه متعلق بالشدة أو بالعزة على
طريق التنازع، والضمير المجرور فيه وفى رأفته وفى رحمته للنبى صلى الله
عليه وسلم كالضمير في حرصه (قوله يعنتهم) بضم أوله وسكون ثانيه وكسر
ثالثه مخففا وبضم أوله وفتح ثانيه وكسر ثالثه مشددا.
في القاموس: أعنته غيره وعنته شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه أداؤه
(قوله وحسبا) الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه (قوله سفاح) السفاح
بكسر السين المهملة الزنا.
(*)
(1/15)
أخرجتك نبيا،
وقال جعفر بن محمد علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته فعرفهم ذلك لكى
يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته، فأقام بينه وبينهم مخلوقا من
جلسهم في الصورة، ألبسه من نعته الرأفة والرحمة، وأخرجه إلى الخلق
سفيرا صادقا، وجعل طاعته طاعته، وموافقته موافقته فقال تعالى (من يطع
الرسول فقد أطاع الله) وقال الله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين) قال أبو بكر محمد بن طاهر: زين الله تعالى محمد صلى الله
عليه وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله وصفاته رحمة على
الخلق، فمن أصابه شئ من رحمته فهو الناجى في الدارين من كل مكروه
والواصل فيهما إلى كل محبوب، ألا ترى أن الله تعالى يقول (وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين) فكانت حياته رحمة ومماته رحمة كما قال صلى الله
عليه وسلم (حياتي خير لكم وموتى خير لكم) وكما قال عليه الصلاة والسلام
(إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا) وقال
__________
(قوله جعفر بن محمد) هو جعفر الصادق بن محمد بن على بن الحسين بن على
بن أبى طالب (قوله سفيرا) في الصحاح السفير الرسول والمصلح بين الخلق
(قوله قال أبو بكر بن طاهر) هو ابن مفوز بن أحمد بن مغور المعافرى
الشاطبي (قوله فكان كونه) أي وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مصدر
كان التامة اسم لكان الناقصة ورحمة خبر لها (قوله شمائله) الشمائل جمع
شمال بكسر المعجمة وهو الخلق بضم الخاء وسكون اللام (قوله فرطا) بفتح
الفاء والراء وهو الذى يتقدم الواردين فيهئ لهم ما يحتاجون إليه.
(*)
(1/16)
السمرقندى
(رحمة للعالمين) يعنى للجن والإنس، قيل لجميع الخلق: للمؤمن رحمة
بالهداية، ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافر بتأخير العذاب
قال ابن عباس رضى الله عنهما: هو رحمة للمؤمنين والكافرين، إذ عوفوا
مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة، وحكى أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لجبريل عليه السلام (هل أصابك من هذه الرحمة شئ) قال: نعم، كنت
أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل على بقوله (ذى قوة عند ذى العرش
مكين.مطاع ثم أمين) وروى عن جعفر بن محمد الصادق في قوله تعالى (فسلام
لك من أصحاب اليمين) أي بك إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى
الله عليه وسلم، وقال الله تعالى (الله نور السماوات والأرض) - الآية
قال كعب الأحبار وابن جبير: المراد بالنور الثاني هنا: محمد صلى الله
عليه وسلم، وقوله تعالى (مثل نوره) أي نور محمد صلى الله عليه وسلم،
وقال سهل بن عبد الله: المعنى الله هادى أهل السماوات والأرض، ثم قال
مثل نور
__________
(قوله كعب الأحبار) هو كعب بن ماتع - بالمثناة من فوق - ابن هينوع أدرك
زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وأسلم في خلافة أبى بكر وقيل في
خلافة عمر رضى الله عنهما وكان قبل إسلامه على دين اليهود وسكن الين،
توفى بحمص سنة اثنين وثلاثين (قوله وقال سهل بن عبد الله) يعنى
التسترى، وتسر قال ابن خلكان: بلد من كورة الأهواز ويقول الناس لها
(شستر) وبها قبر البراء بن مالك، وقال النووي - هو بمثناتين من فوق
الأولى مضمومة والثانية مفتوحة بينهما سين مهملة - مدينة بخوزستان.
(2 - 1) (*)
(1/17)
محمد إذ كان
مستودعا في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا، وأراد بالمصباح قلبه، والزجاجة
صدره: أي كأنه كوكب درى لما فيه من الإيمان والحكمة، يوقد من شجرة
مباركة: أي من نور إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وضرب المثل بالشجرة
المباركة، وقوله: يكاد زيتها يضئ: أي تكاد نبوة محمد صلى الله عليه
وسلم تبين للناس قبل كلامه كهذا الزيت، وقد قيل في هذه الآية غير هذا
والله أعلم، وقد سماه الله تعالى في القرآن في غير هذا الموضع نورا
وسراجا منيرا فقال تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) وقال تعالى
(إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا
منيرا) ومن هذا قوله تعالى (ألم نشرح لك صدرك) إلى آخر السورة، شرح:
وسع، والمراد بالصدر هنا: القلب، قال ابن عباس رضى الله عنهما: شرحه
بنور الإسلام، وقال سهل: بنور الرسالة، وقال الحسن: ملأه حكما وعلما،
وقيل معناه: ألم يطهر قلبك حتى لا يقبل الوسواس ؟ (ووضعنا عنك وزرك،
الذى أنقض
__________
(قوله كمشكاة) المشكاة الكوة في الحائط التى ليست بنافذة وقيل المراد
بها في الآية القنديل وبالمصباح الفتيلة وقيل المراد بها معلاق القنديل
وبالمصباح القنديل وقيل المراد بها موضع الفتيلة وبالمصباح الفتيلة
الموقودة (قوله تبين) بفتح المثناة الفوقية وكسر الموحدة أي تظهر (قوله
وقال الحسن) هو ابن أبى الحسن البصري مات سنة عشر ومائة.
(*)
(1/18)
ظهرك): قيل ما
سلف من ذنبك يعنى قبل النبوة، وقيل أراد ثقل أيام الجاهلية، وقيل أراد
ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها.
حكاه الماوردى والسلمى، وقيل عصمناك ولولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك.
حكاه السمرقندى، (ورفعنا لك ذكرك): قال يحيى بن آدم: بالنبوة، وقيل إذا
ذكرت ذكرت معى في قول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقيل في الأذان
والإقامة، قال الفقيه القاضى أبو الفضل: هذا تقرير من الله جل اسمه
لنبيه صلى الله عليه وسلم على عظيم نعمه لديه وشريف منزلته عنده
وكرامته عليه بأن شرح قلبه للإيمان والهداية ووسعه لوعى العلم وحمل
الحكمة ورفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه وبغضه لسيرها وما كانت عليه
بظهور دينه على الدين كله وحط عنه عهدة أعباء الرسالة والنبوة لتبليغه
للناس ما نزل إليهم وتنويهه بعظيم مكانه وجليل رتبته ورفعة ذكره وقرانه
مع اسمه اسمه، قال قتادة: رفع الله تعالى ذكره في الدنيا والآخرة، فليس
خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله: وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه أن النبي صلى
__________
(قوله ثقل) هو بكسر المثلثة وفتح القاف ضد الخفة، وبكسر المثلثة وسكون
القاف
واحد الأثقال، وبفتحهما متاع المسافر وحشمه (قوله السلمى) هو بضم
المهملة وفتح اللام أبو عبد الرحمن النيسابوري شيخ الصوفية وصاحب
تاريخهم وطبقاتهم (قوله أعباء الرسالة) جمع عب ء بكسر العين المهملة
وسكون الموحدة بعدها همزة، في القاموس هو الحمل والثقل من أي شئ كان
والعدل.
(*)
(1/19)
الله عليه وسلم
قال: (أتانى جبريل عليه السلام فقال إن ربى وربك يقول: تدرى كيف رفعت
ذكرك ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معى) قال ابن عطاء:
جعلت تمام الإيمان بذكرك معى، وقال أيضا: جعلتك ذكرا من ذكرى فمن ذكرك
ذكرني.
وقال جعفر بن محمد الصادق: لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية،
وأشار بعضهم في ذلك إلى مقام الشفاعة، ومن ذكره معه تعالى أن قرن طاعته
بطاعته واسمه باسمه فقال تعالى (وأطيعوا الله والرسول)، (وآمنوا بالله
ورسوله) فجمع بينهما بواو العطف المشركة، ولا يجوز جمع هذا الكلام في
غير حقه صلى الله عليه وسلم.
حدثنا الشيخ أبو على الحسين بن محمد الجيانى الحافظ فيما أجازنيه
وقرأته على الثقة عنه، قال حدثنا أبو عمر النمري قال حدثنا أبو محمد بن
عبد المؤمن حدثنا أبو بكر بن داسة حدثنا أبو داود السجزى حدثنا أبو
الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن منصور عن عبد الله ابن يسار عن حذيفة
رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
__________
(قوله قال ابن عطاء) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الآدمى
الزاهد البغدادي أحد مشايخ الصوفية (قوله الجيانى) بالجيم المفتوحة
والمثناة التحتية المشددة والنون: نسبة إلى بلد بالأندلس (قوله السجزى)
بكسر المهملة وسكون الجيم
وكسر الزاى.
قال ابن ما كولا هي نسبة إلى سجستان على غير قياس وهو إقليم ذو مدائن
بين خراسان والسند وكرمان.
(*)
(1/20)
لا يقولن أحدكم
ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ما شاء الله ثم شاء فلان، قال الخطابى:
أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى الأدب في تقديم مشيئة الله تعالى على
مشيئة من سواه، واختارها بثم التى هي للنسق والتراخى بخلاف الواو التى
هي للاشتراك، ومثله الحديث الآخر: أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصمها، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم (بئس خطيب القوم أنت، قم - أو قال - اذهب) قال أبو
سليمان: كره منه الجمع بين الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية،
وذهب غيره إلى أنه إنما كره له الوقوف على يعصهما.
وقول أبى سليمان أصح لما روى في الحديث الصحيح أنه قال: ومن يعصهما فقد
غوى، ولم يذكر الوقوف على يعصهما، وقد اختلف المفسرون وأصحاب المعاني
في قوله تعالى (إن الله وملائكته
__________
(قوله الخطابى) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة هو حمد بفتح
المهملة وسكون الميم بعدها دال مهملة ابن إبراهيم بن خطاب الإمام
الحافظ البستى والخطابى نسبة إلى جده ويقال إنه من نسل زيد بن الخطاب
(قوله أن خطيبا خطب عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو ثابت بن قيس
بن شماس (قوله وقول أبى سليمان أصح) قال النووي: الصواب أن سبب النهى
أن الخطب شأنها الإيضاح واجتناب الرمز ولهذا كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم لا كراهة الجمع بين
الاسمين بالكتاب لأنه ورد في مواضع منها قوله عليه السلام أن يكون الله
ورسوله أحب إليه مما سواهما.
(*)
(1/21)
يصلون على
النبي) هل يصلون راجعة على الله تعالى والملائكة أم لا ؟ فأجازه بعضهم،
ومنعه آخرون لعلة التشريك وخصوا الضمير بالملائكة وقدروا الآية: إن
الله يصلى وملائكته يصلون، وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: من
فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك طاعته فقد قال تعالى) من يطع الرسول فقد
أطاع الله) وقد قال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم
الله) الآيتين، وروى أنه لما نزلت هذه الآية قالوا إن محمدا يريد أن
نتخذه حنابا كما اتخذت النصارى عيسى، فأنزل الله تعالى (قل أطيعوا الله
والرسول) فقرن طاعته بطاعته رغما لهم، وقد اختلف المفسرون في معنى قوله
تعالى في أم الكتاب (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم)
قفال أبو العالية والحسن البصري: الصراط المستقيم هو رسول الله صلى
الله عليه وسلم وخيار أهل بيته وأصحابه، حكاه عنهما أبو الحسن
الماوردى، وحكى مكى عنهما نحوه وقال هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصاحباه أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، وحكى أبو الليث السمرقندى مثله
عن أبى العالية في قوله تعالى
__________
(قوله حنانا) في الصحاح: الحنان الرحمة: وقال ابن الأثير: الحنان العطف
ومنه قول ورقة ابن نوفل حين كان يمر ببلال وهو يعذب لئن قتلتموه
لأتخذنه حنانا (قوله رغما) بفتح الراء وسكون الغين المعجمة أي غيظا
(قوله فقال أبو العالية) هما اثنان تابعيان من أهل البصرة أحدهما
الرياحي بكسر الراء والآخر البراء بفتح الموحدة وتشديد الراء.
(*)
(1/22)
(صراط الذين
أنعمت عليهم) قال فبلغ ذلك الحسن فقال صدق والله ونصح.
وحكى الماوردى ذلك في تفسير (صراط الذين أنعمت عليهم) عن عبد الرحمان
بن زيد.
وحكى أبو عبد الرحمان السلمى عن بعضهم في تفسير قوله تعالى (فقد استمسك
بالعروة الوثقى) أنه محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل الإسلام، وقيل
شهادة التوحيد، وقال سهل في قوله تعالى (وإن تعدوا نعمت الله لا
تحصوها) قال نعمته بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى (والذى جاء
بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) الآيتين: أكثر المفسرين على أن الذى
جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: وهو الذى صدق به،
وقرئ صدق بالتخفيف، وقال غيرهم الذى صدق به المؤمنون، وقيل أبو بكر،
وقيل على، وقيل غير هذا من الأقوال، وعن مجاهد في قوله تعالى (ألا بذكر
الله تطمئن القلوب) قال بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
الفصل الثاني (في وصفه تعالى له بالشهادة
وما يتعلق بها من الثناء والكرامة)
قال الله تعالى (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)
الآية، جمع الله تعالى له في هذه الآية ضروبا من رتب
(1/23)
الأثرة، وجملة
أوصاف من المدحة، فجعله شاهدا على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة، وهى من
خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومبشرا لأهل طاعته، ونذيرا لأهل معصيته،
وداعيا إلى توحيده وعبادته، وسراجا منيرا يهتدى به للحق * حدثنا الشيخ
أبو محمد بن عتاب، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد، حدثنا أبو الحسن
القابسى، حدثنا أبو زيد المروزى، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف،
حدثنا البخاري، حدثنا
محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد
الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا
أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدى
ورسولي، سميتك
__________
(قوله الأثرة) بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما: الاستبداد بالشئ
والانفراد به.
اسم، من استأثر بالشئ: استبد به (قوله المدحة) هو بكسر الميم الثنا
والذكر الحسن (قوله ابن عتاب) بالمهملة والمثناة المشددة والباء
الموحدة هو مسند الأندلس في زمانه عبد الرحمن القرطبى الأندلسى (قوله
أبو القاسم حاتم) هو المعروف بالأطرابلسى (قول القابسى) هو الحافظ على
بن محمد بن خلف المعافرى القروى وإنما قيل له القابسى لأن عمه كان يشد
عمامته شدة أهل قابس (قوله فليح) بضم الفاء وفتح اللام بعدها ياء ساكنة
فحاء مهملة.
هو ابن سليمان العدوى مولاهم (قوله وحرزا) بالمهملة المكسورة فالراء
الساكنة فالزاي: أي حفظا (قوله للأميين) أي للعرب لأن الكتابة عندهم
قليلة والأمى من لا يحسن الكتابة، نسبة إلى أمة العرب حين كانوا لا
يحسنون الكتابة، أو لأم بمعنى أنه كما ولدته أمه.
(*)
(1/24)
المتوكل، ليس
بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو
ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء: بأن يقولوا لا إله
إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا) وذكر مثله عن
عبد الله بن سلام وكعب الأحبار، وفى بعض طرقه عن ابن إسحاق: ولا صخب في
الأسواق ولا متزيل بالفحش: ولا قوال للخنا، أسدده لكل جميل، وأهب له كل
خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى
ضميره، والحكمة معقولة، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه،
والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه،
أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به
__________
(قوله ليس بفظ) أي بسئ الخلق (ولا غليظ) أي شديد القول (قوله ولا سخاب)
بالسين المهملة والخاء المعجمة المشددة من السخب وهى لغة ربيعة في
الصخب وهو رفع الصوت (قوله الملة العوجاء) يعنى ملة إبراهيم لأن العرب
غيرتها عن استقامتها فصارت كالعوجاء (قوله غلفا) بضم المعجمة وسكون
اللام جمع أغلف وهو الشئ في غلاف وغشاء بحيث لا يوصل إليه (قوله ابن
سلام) بتخفيف اللام لا غير هو الأنصاري الخزرجي كان اسمه في الجاهلية
حصينا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله (قوله ولا صخب) هو
بالصاد المهملة والخاء المعجمة المكسورة من الصخب وهو رفع الصوت في
السوق في لغة غير ربيعة (قوله للخنا) بفتح المعجمة والقصر: الفحش (قوله
إمامه) بكسر الهمزة (قوله أهدى) بفتح الهمزة أي أرشد (قوله وأعلم) بضم
الهمزة وتشديد اللام.
(*)
(1/25)
بعد الجهالة،
ورفع به بعد الخمالة، وأسمى به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغنى
به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء
متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس).
وفى حديث آخر: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفته في
التوراة: (عبدى أحمد المختار، مولده بمكة، ومهاجره بالمدينة - أو قال
طيبة - أمته الحمادون لله على كل حال، وقال تعالى (الذين يتبعون الرسول
النبي الأمي) الآيتين، وقد قال تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم)
الآية، قال السمرقندى:
ذكرهم الله تعالى منته أنه جعل رسوله صلى الله عليه وسلم رحيما
بالمؤمنين، رئوفا، لين الجانت، ولو كان فظا خشنا في القول: لتفرقوا من
حوله، ولكن جعله الله تعالى: سمحا، سهلا، طلقا، برا، لطيفا: هكذا قاله
الضحاك.
وقال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون
الرسول عليكم شهيدا) قال
__________
(قوله بعد الخمالة) في الصحاح: الخامل الساقط الذى لا نباهة له وقد خمل
يخمل خمولا وفى أفعال ابن القطاع خمل خمولا: خفى ذكره (قوله وأسمى) بضم
الهمزة وتشديد الميم (قوله وأغنى) بضم الهمزة وسكون المعجمة (قوله بعد
العيلة هي بفتح المهملة الفقر (قوله سمحا) بفتح السين المهملة وسكون
الميم أي جوادا (قوله طلقا) بسكون اللام أي منبسط الوجه متهلله، يقال
طلق الرجل بالضم فهو طلق (قوله الظحاك) هو ابن مزاحم الهلالي الخراساني
يروى عن أبى هريرة وابن عباس وابن عمر وأنس.
(*)
(1/26)
أبو الحسن
القابسى: أبان الله تعالى فضل نبينا صلى الله عليه وسلم وفضل أمته بهذه
الآية، وفى قوله في الآية الأخرى (وفى هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم
وتكونوا شهداء على الناس) وكذلك قوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد) الآية، وقوله تعالى (وسطا) أي عدولا خيارا، ومعنى هذه الآية:
وكما هديناكم فكذلك خصصناكم وفضلناكم بأن جعلناكم أمة خيارا عدولا
لتشهدوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أممهم ويشهد لكم الرسول
بالصدق، قيل إن الله جل جلاله إذا سأل الأنبياء: هل بلغتم ؟ فيقولون:
نعم، فتقول أممهم: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فتشهد أمة محمد صلى الله
عليه وسلم للأنبياء، ويزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم وقيل معنى
الآية: إنكم حجة على كل من خالفكم،
والرسول صلى الله عليه وسلم حجة عليكم، حكاه السمرقندى، وقال تعالى
(وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) قال قتادة والحسن وزيد بن
أسلم: قدم صدق هو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم، وعن الحسن أيضا:
هي مصيبتهم بنبيهم، وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه هي شفاعة نبيهم
محمد صلى الله عليه وسلم، هو شفيع صدق عند ربهم وقال سهل بن عبد الله
التسترى: هي سابقة رحمة أودعها في محمد صلى الله
(1/27)
عليه وسلم وقال
محمد بن على الترمذي: هو إمام الصادقين والصديقين: الشفيع المطاع،
والسائل المجاب: محمد صلى الله عليه وسلم.
حكاه عنه السلمى
الفصل الثالث فيما ورد من خطابه إياه مورد
الملاطفة والمبرة
فمن ذلك قوله تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم) قال أبو محمد مكى قيل
هذا افتتاح كلام بمنزلة: أصلحك الله، وأعزك الله.
وقال عون بن عبد الله: أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب، حكى
السمرقندى عن بعضهم أن معناه: عافاك الله با سليم القلب لم أذنت لهم،
قال ولو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لم أذنت لهم، لخيف عليه
أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو
حتى سكن قلبه، ثم قال له: لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في
عذره من الكاذب ؟ وفى هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذى
لب، ومن إكرامه إياه وبره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب، قال
__________
(قوله محمد بن على الترمذي) هو الإمام الحافظ الزاهد المؤذن صاحب
التصانيف الحكيم الترمذي (قوله عون) هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود
الهذلى الكوفى الزاهد الفقيه يروى عن أبى هريرة وابن عباس وغيرهما
(قوله قبل أن يخبره) بضم المثناة التحتية وسكون المعجمة وكسر الموحدة
الخفيفة أو بفتح المعجمة وتشديد الموحدة،
في الصحاح: أخبرته وخبرته بمعنى (قوله ولو بدأ) هو مهموز من الابتداء
(قوله على ذى لب) اللب العقل (قوله نياط القلب) بكسر النون وتخفيف
المثناة التحتية: عرق يعلق به القلب من الوتين إذا قطع مات صاحبه.
(*)
(1/28)
نفطويه: ذهب
ناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك،
بل كان مخيرا، فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم
لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه في الإذن لهم.
قال الفقيه القاضى وفقه الله تعالى: يجب على المسلم المجاهد نفسه ارائض
بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته
ومحاوراته، فهو عنصر المعارف الحقيقة وروضة الآداب الدينية والدنيوية،
وليتأمل هذه الملاطفة العجيبة في السؤال من رب الأرباب: المنعم على
الكل، المستغنى عن الجميع ويستشير ما فيها من الفوائد وكيف ابتدأ
بالإكرام قبل العتب، وآنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب.
وقال تعالى (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم
__________
(قوله نفطويه) النحوي الواسطي قال ابن الصلاح أهل العربية يقولونه،
ونظائره بواو مفتوحة مفتوح ما قبلها ساكن ما بعدها، ومن ينحوها نحو
الفارسية يقولها بواو ساكنة مضموم ما قبلها مفتوح ما بعدها وبعدها هاء
والتاء خطأ، سمعت الحافظ أبا العلاء يقول: أهل الحديث لا يحبون ويه أي
يقولون نفطويه مثلا بوابو ساكنة تأدبا من أن يقع في آخر الكلام ويه
انتهى (قوله الرائض بزمام الشرعية) رضت المهر إذا ذللته وجعلته طوع
إرادتك، والزمام هنا مستعار للأحكام أي أحكام الشريعة (قوله ومحاوراته)
هو بالحاء المهملة جمع محاورة وهى المجاوبة (قوله هو عنصر) العنصر بضم
الصاد المهملة وفتحها: الأصل (قوله المنعم على الكل) في الصحاح وكل
لفظه واحد ومعناه
جمع، فعلى هذا تقول كل حضرت وكل حضروا على اللفظ مرة وعلى المعنى أخرى.
وكل وبعض معرفتان ولم يجئ عن العرب بالألف واللام، وهو جائز لأن فيها
معنى الإضافة أضيفت أم لم تضف انتهى.
(*)
(1/29)
شيئا قليلا)
قال بعض المتكلمين: عاتل الله الأنبياء صلوات اللهم عليهم بعد الزلات،
وعاتب نبينا صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه، ليكون بذلك أشد انتهاء
ومحافظة لشرائط المحبة، وهذه غاية العناية، ثم انظر كيف بدأ بثباته
وسلامته قبل ذكر ما عتبه عليه وخيف أن يركن إليه.
ففى أثناء عتبه براءته، وفى طى تخويفه تأمينه وكرامته، ومثله قوله
تعالى (قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك) الآية.
قال على رضى الله عنه: قال أبو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم: إنا لا
نكذبك، ولكن نكذب مما جئت به، فأنزل الله تعالى (فإنهم لا يكذبونك)
الآية.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه: حزن، فجاءه جبرئيل
عليه السلام فقال: ما يحزنك ؟ قال: كذبني قومي، فقال إنهم يعلمون أنك
صادق، فأنزل الله تعالى الآية، ففى هذه الآية منزع لطيف المأخذ من
تسليته تعالى له صلى الله عليه وسلم، وإلطافه في القول: بأن قرر عنده
أنه صادق عندهم، وأنهم غير مكذبين له، معترفون بصدقه قولا واعتقادا،
وقد كانوا يسمونه قبل النبوة الأمين، فدفع بهذا التقرير ارتماض نفسه
بسمة الكذب، ثم جعل
__________
(قوله ما يحزنك) يقال حزنه وأحزنه (قوله منزع) بفتح الميم والزاى وهو
ما يرجع إليه الرجل من أمره (قوله وإلطافه) بكسر الهمزة مصدر ألطفه
بكذا: بره به (قوله ارتماص) هو بالراء الساكنة والمثناة المكسورة
والضاد المعجمة مصدر ارتمض الرجل من كذا: اشتد عليه وأقلقه.
(*)
(1/30)
الذم لهم
بتسميتهم جاحدين ظالمين فقال تعالى (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)
وحاشاه من الوصم، وطرقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم، إذ
الجحد إنما يكون ممن علم الشئ ثم أنكره كقوله تعالى (وجحدوا بها
واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) ثم عزاه وآنسه بما ذكره عمن قبله ووعده
بالنصر بقوله تعالى (ولقد كذبت رسل من قبلك) الآية، فمن قرأ لا يكذبونك
بالتخفيف فمعاه لا يجدونك كاذبا، وقال الفراء والكسائي: لا يقولون إنك
كاذب، وقيل لا يحتجون على كذبك ولا يثبتونه، ومن قرأ بالتشديد فمعناه
لا ينسبونك إلى الكذب، وقيل لا يتعقدون كذبك.
ومما ذكر من خصائصه وبر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع
الأنبياء بأسمائهم، فقال: يا آدم يا نوح يا إبراهيم يا موسى يا داود يا
عيسى يا زكريا يا يحيى، ولم يخاطب هو إلا: يا أيها الرسول، يا أيها
النبي، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر.
الفصل الرابع في قسمه تعالى بعظيم قدره
قال الله تعالى: لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون)
اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى
الله عليه
__________
(قوله من الوصم) أي من العيب (قوله عزاه) بتشديد الزاى: أي صبره.
(*)
(1/31)
وسلم، وأصله ضم
العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال، ومعناه: وبقائك يا محمد،
وقيل وعيشك، وقيل: وحياتك، وهذه نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: ما خلق
الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه
وسلم.
وما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره، وقال أبو الجوزاء: ما أقسم
الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم البرية
عنده، وقال تعالى (يس والقرآن الحكيم) الآيات، اختلف المفسرون في معنى
(يس) على أقوال، فحكى أبو محمد مكى أنه روى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال لى عند ربى عشرة أسماء ذكر منها منها أن طه ويس اسمان له،
وحكى أبو عبد الرحمان السلمى عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد مخاطبة
لنبيه صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس (يس) يا إنسان أراد محمدا صلى
الله عليه وسلم، وقال هو قسم وهو من أسماء الله تعالى وقال الزجاج قيل
معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان، وعن ابن الحنفية يس يا محمد
وعن كعب يس قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفى
عام يا محمد إنك لمن المرسلين،
__________
(قوله أبو الجوزاء) هو بفتح الجيم فواو ساكنة فزاى فهمزة ممدودة: أوس
بن عبد الله الربعي البصري يروى عن عائشة وغيرها، وأما أبو الحوراء
بالحاء المهملة والراء فراوي حديث القنوت (قوله الزجاج) هو أبو إسحاق
إبراهيم النحوي، إليه ينسب عبد الرحمن الزجاجي صاحب الجمل.
(*)
(1/32)
ثم قال
(والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين) فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله
عليه وسلم وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم ويؤكد فيه القسم
عطف القسم الآخر عليه وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده
لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن
المرسلين بوحيه إلى عباده وعلى
صراط مستقيم من إيمانه أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق، قال
النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له.
وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه، وقد قال
صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وقال تعالى (لا أقسم
بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد) قيل لا أقسم به إذا لم تكن فيه بعد
خروجك منه حكاه مكى، وقيل لا زائدة أي أقسم به وأنت به يا محمد حلال أو
حل لك ما فعلت فيه على التفسيرين، والمراد بالبلد عند هؤلاء مكة، وقال
الواسى أي يحلف لك بهذا البلد الذى شرفته بمكانك فيه حيا وببركتك ميتا
يعنى المدينة والأول أصح لأن السورة مكية وما بعده يصححه قوله تعالى
(حل بهذا البلد) ونحوه قول ابن عطاء في تفسير قوله تعالى (وهذا البلد
الأمين) قال أمنها الله تعالى بمقامه فيها وكونه بها فإن كونه أمان حيث
كان
__________
(قوله قال النقاش) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي
البغدادي المقرى المفسر.
(3 - 1) (*)
(1/33)
ثم قال تعالى
(ووالد وما ولد) من قال أراد آدم فهو عام ومن قال هو إبراهيم وما ولد
فهى إن شاء الله تعالى إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فتتضمن
السورة القسم به صلى الله عليه وسلم في موضعين * وقال تعالى (الم ذلك
الكتاب لا ريب فيه) قال ابن عباس هذه الحروف أقسام أقسم الله تعالى
بها، وعنه وعن غيره فيها غير ذلك وقال سهل بن عبد الله التسترى: الألف
هو الله تعالى واللام جبرئيل والميم محمد صلى الله عليه وسلم، وحكى هذا
القول السمرقندى ولم ينسبه إلى سهل وجعل معناه الله أنزل جبريل على
محمد بهذا القرآن لا ريب فيه، وعلى الوجه الأول يحتمل القسم أن هذا
الكتاب حق لا ريب فيه ثم
فيه من فضيلة قرآن اسمه باسمه نحو ما تقدم، وقال ابن عطاء في قوله
تعالى (ق والقرآن المجيد) أقسم بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم
حيث حمل الخطاب والمشاهدة ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله وقيل هو اسم
للقرآن وقيل هو اسم لله تعالى وقيل جبل محيط بالأرض وقيل غير هذا، وقال
جعفر بن محمد في تفسير (والنجم إذا هوى) إنه محمد صلى الله عليه وسلم
وقال: النجم قلب محمد صلى الله عليه وسلم، هوى انشرح من الأنوار وقال
انقطع عن غير الله وقال ابن عطاء في قوله تعالى (والفجر وليال عشر)
الفجر محمد صلى الله عليه وسلم لأن منه تفجر الإيمان.
(1/34)
الفصل الخامس في قسمه تعالى جده له لتحقق مكانته عنده
قال جل اسمه (والضحى والليل إذا سجى) السورة، اختلف في سبب نزول هذه
السورة فقيل كان ترك النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل لعذر نزل به
فتكلمت امرأة في ذلك بكلام وقيل بل تكلم به المشركون عند فترة الوحى
فنزلت السورة.
قال الفقيه القاضى وفقه الله تعالى: تضمنت هذه السورة من كرامة الله
تعالى له وتنويهه به وتعظيمه إياه ستة وجوه: الأول القسم له عما أخبره
به من حاله بقوله تعالى (والضحى والليل إذا سجى) أي ورب الضحى وهذا من
أعظم درجات المبرة، الثاني بيان مكانته عنده وحظوته لديه بقوله تعالى
(ما ودعك ربك وما قلى) أي ما تركك وما أبغضك وقيل ما أهملك بعد أن
اصطفاك، الثالث قوله تعالى (وللآخرة خير لك من الأولى) قال ابن إسحق أي
مالك في مرجعك عند الله أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا، وقال سهل: أي
ما ادخرت لك من الشفاعة والمقام المحمود خير لك
__________
(قوله فتكلمت امرأة) روى الحاكم في المستدرك في تفسير سورة الضحى أنها
امرأة أبى لهب أم جميل بنت حرب أخت أبى سفيان بن حرب واسمها العوراء
(قوله وحظوته بالحاء المهملة المضمومة والظاء المعجمة الساكنة من حظيت
المرأة عند زوجها.
واعلم أن كل اسم على فعلة لامه واو بعدها هاء التأنيس فإنه مثلث الفاء
(*)
(1/35)
مما أعطيتك في
الدنيا، الرابع قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وهذه آية جامعة
لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام في الدارين والزيادة، قال
ابن إسحق يرضيه بالفلج في الدنيا والثواب في الآخرة وقيل يعطيه الحوض
والشفاعة، وروى عن بعض آل النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس آية
في القرآن أرجى منها، ولا يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل
أحد من أمته النار، الخامس ما عده تعالى عليه من نعمه وقرره من آلائه
قبله في بقية السورة منه دايته إلى ما هداه له أو هداية الناس به على
اختلاف التفاسير ولا مال له فأغناه بما آناه أو بما جعله في قلبه
__________
(قوله بالفلج) هو بضم الفاء وسكون اللام، بعدها جيم: الفوز والظفر
كالإفلاج (قوله عن بعض آله عليه السلام) هو على بن أبى طالب ذكره
الثعلبي في تفسيره (قوله ولا يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يدخل أحد من أمته النار) قيل ظاهر الآية مع هذه المقدمة يدل على أن
أحدا من أمته صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار، والجواب أنه إنما يدل
على ذلك لو كان حصول الإعطاء الموعود به في الآية قبل أن يدخل أحد من
أمته النار ولم يقم دليل على ذلك بل جاز أن يكون بعده فإنه مستقبل في
القيامة ولو سلم فتلك الدلالة متروكة الظاهر بالأدلة القائمة على أن
بعض العصاة من أمته يدخلون النار ثم يخرجون منها لشفاعته صلى الله عليه
وسلم (قوله من آلائه) أي نعمه جمع ألا -
بفتح الهمزة والتنوين - كرحى، وقيل بكسرها وبالتنوين كمعى، وقيل
بفتحها.
وسكون اللام وبالواو كدلو، وقيل بكسرها وسكون اللام وبالياء كنحى (قوله
قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة أي عنده.
(*)
(1/36)
من القناعة
والغنى ويتيما فحدب عليه عمه وآواه إليه وقيل آواه إلى الله وقيل يتيما
لا مثال لك فآواك إليه، وقيل المعنى ألم يجدك فهدى بك ضالا وأغنى بك
عائلا وآوى بك يتيما ؟ ذكره بهذه المنن وأنه على المعلوم من التفسير لم
يهمله في حال صغره وعيلته ويتمه وقبل معرفته به ولا ودعه ولا قلاه فكيف
بعد اختصاصه واصطفائه ؟ السادس أمره بإظهار نعمته عليه وشكر ما شرفه به
بنشره وإشادة ذكره بقوله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث) فإن من شكر
النعمة التحدث بها وهذا خاص له عام لأمته * وقال تعالى (والنجم إذا
هوى) إلى قوله تعالى (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) اختلف المفسرون في
قوله تعالى (والنجم) بأقاويل معروفة منها النجم على ظاهره ومنها القرآن
وعن جعفر بن محمد أنه محمد صلى الله عليه وسلم وقال هو قلب محمد صلى
الله عليه وسلم وقد قيل في قوله تعالى (والسماء والطارق وما أدراك ما
الطارق النجم الثاقب) إن النجم هنا أيضا محمد صلى الله عليه وسلم حكاه
السلمى، تضمنت هذه الآيات من فضله وشرفه العد ما يقف دونه العد وأقسم
جل اسمه على
__________
(قوله فحدب) بحاء مهملة مفتوحة فدال مهملة مكسورة فموحدة، في الصحاح
حدب عليه ويحدب أي يعطف (قوله عمه) هو أبو طالب واسمه عبد مناف على
الصحيح وقيل اسمه كنيته (قوله وإشادة ذكره) هو مصدر أشاد بذكره -
بالدال - أي رفع من قدره (قوله وشرفه العد) بكسر العين المهملة أي الذى
لا ينقطع مادته يقال ماء عد أي دائم لا انقطاع له كماء العين والبئر.
(*)
(1/37)
هداية المصطفى
وتنزيهه عن الهوى وصدقه فيما تلا وأنه وحى يوحى أوصله إليه عن الله
جبرئيل وهو الشديد القوى ثم أخبر تعالى عن قضيلته بقصة الإسراء
وانتهائه إلى سدرة المنتهى وتصديق بصره فيما رأى وأنه رأى من آيات ربه
الكبرى وقد نبه على مثل هذا في أول سورة الإسراء، ولما كان ما كاشفه
صلى الله عليه وسلم من ذلك الجبروت وشاهده من عجائب الملكوت لا تحيط به
العبارات ولا تستقل بحمل سماع أدناه العقول رمز عنه تعالى بالإيماء
والكناية الدالة على التعظيم فقال تعالى (فأوحى إلى عبده ما أوحى) وهذا
النوع من الكلام يسميه أهل النقد والبلاغة بالوحى والإشارة وهو عندهم
أبلغ أبواب الإيجاز وقال لقد رأى من آيات ربه الكبرى انحسرت الأفهام عن
تفصيل ما أوحى وتاهت الأحلام في تعيين تلك الآيات الكبرى، قال القاضى
أبو الفضل اشتملت هذه الآيات على إعلام الله تعالى بتزكية جملته صلى
الله عليه وسلم وعصمتها من الآفات في هذا المسرى فزكى فؤاده ولسانه
وجوارحه، فقلبه بقوه تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى) ولسانه بقوله (وما
ينطق عن الهوى) وبصره بقوله (ما زاغ البصر وما طغى * وقال تعالى (فلا
أقسم بالخنس الجوار الكنس) إلى قوله (وما هو بقول شيطان رجيم)
__________
(قوله الجبروت) هو فعلوت من الجبر وهو القهر كالملكوت من الملك،
والرهبوت من الرهبة، والرحموت من الرحمة (قوله رمز عنه) الرمز الإشارة.
(*)
(1/38)
لا أقسم أي
أقسم إنه لقول رسول كريم أي كريم عند مرسله ذى قوة على تبليغ ما حمله
من الوحى مكين أي متمكن المنزلة من ربه رفيع المحل عنده مطاع ثم أي في
السماء أمين على الوحى، قال
على بن عيسى وغيره: الرسول الكريم هنا محمد صلى الله عليه وسلم فجميع
الأوصاف بعد على هذا له وقال غيره هو جبريل فترجع الأوصاف إليه ولقد
رآه يعنى محمد صلى الله عليه وسلم قيل رأى ربه وقيل رأى جبريل في صورته
وما هو على الغيب بظنين أي بمتهم ومن قرأها بالضاد فمعناه ما هو ببخيل
بالدعاء به والتذكير بحكمه وبعلمه وهذه لمحمد صلى الله عليه وسلم
باتفاق * وقال تعالى (ن والقلم) الآيات أقسم الله تعالى بما أقسم به من
عظيم قسمه على تنزيه المصطفى مما غمصته الكفرة به وتكذيبهم له وآنسه
وبسط أمله بقوله محسنا خطابه (ما أنت بنعمه ربك بمجنون) وهذه نهاية
المبرة في المخاطبة وأعلى درجات الآداب في المحاورة ثم أعلمه بما له
عنده من نعيم دائم وثواب غير منقطع لا يأخذه عد ولا يمن به عليه فقال
وإن لك لأجرا غير ممنون ثم أثنى عليه بما منحه من
__________
(قوله على بن عيسى) الظاهر أنه الرماني النحوي، توفى سنة أربع وثمانين
وثلاثمائة له تفسير القرآن أخذ الأدب عن أبى دريد وغيره قال ابن خلكان
يجوز أن يكون نسبته إلى الرمان وبيعه وأن يكون إلى قصر الرمان وهو قصر
بواسط معروف (قوله غمصته) بفتح المعجمة والميم وبعدهما صاد مهملة، قال
ابن القطاع: غمص الناس احتقارهم والطعن عليهم.
(*)
(1/39)
هباته وهداه
إليه وأكد ذلك تتميما للتمجيد بحرفى التأكيد فقال تعالى (وإنك لعلى خلق
عظيم) قيل القرآن وقيل الإسلام وقيل الطبع الكريم وقيل ليس لك همة إلا
الله، قال الواسطي أثنى عليه بحسن قبوله لما أسداه إليه من نعمه وفضله
بذلك على غيره لأنه جبله على ذلك الخلق فسبحان اللطيف الكريم المحسن
الجواد الحميد الذى يسر للخير وهدى إليه، ثم أثنى على فاعله وجازاه
عليه سبحانه
ما أغمر نواله وأوسع إفضاله ثم سلاه عن قولهم بعد هذا بما وعده به من
عقابهم وتوعدهم بقوله (فستبصر ويبصرون) الثلاث الآيات ثم عطف بعد مدحه
على ذم عدوه وذكر سوء خلقه وعد معايبه متوليا ذلك بفضله ومنتصرا لنبيه
صلى الله عليه وسلم فذكر بضع عشرة خصلة من خصال الذم فيه بقوله تعالى
(فلا تطع المكذبين) إلى قوله (أساطير الأولين) ثم ختم ذلك بالوعيد
الصادق بتمام شقائه وخاتمة بواره بقوله تعالى (سنسمه على الخرطوم)
فكانت نصرة الله تعالى لم أتم من نصرته لنفسه ورده تعالى على عدوه أبلغ
من رده وأثبت في ديوان مجده.
__________
(قوله ما أغمر نواله) هو بالغين المعجمة أي ما أكثره، والنوال: العطاء.
(قوله بضع عشرة خصلة) البضع في العدد بكسر الموحدة وفتحها من ثلاث إلى
تسعة وقيل ما بين الواحد إلى العشرة لأنه قطعة من العدد، والخصلة بفتح
الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة.
(*)
(1/40)
الفصل السادس فيما ورد من قوله تعالى في جهته صلى الله عليه وسلم مورد
الشفقة والإكرام
قال تعالى (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) قيل طه اسم من أسمائه صلى
الله عليه وسلم وقيل هو اسم لله وقيل معناه يا رجل وقيل يا إنسان وقيل
هي حروف مقطعة لمعان، قال الواسطي أراد يا طاهر يا هادى وقيل هو أمر من
الوطء والهاء كناية عن الأرض أي اعتمد على الأرض بقدميك ولا تتعب نفسك
بالاعتماد على قدم واحدة
وهو قوله تعالى (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) نزلت الآية فيما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يتكلفه من السهر والتعب وقيام الليل، أخبرنا
القاضى أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن وغير واحد عن القاضى أبو
الوليد الباجى إجازة ومن أصله نقلت قال حدثنا أبو ذر الحافظ
__________
(قوله من الوطء) هو بفتح الواو وسكون المهملة وبهمزة: الاعتماد على
القدم (قوله أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن) هو الفقيه القاضى ابن
عبد الرحمن بن على بن سيرين أحد العلماء الصلحاء من رجال الأندلس، صحب
القاضى أبا الوليد الباجى واختص به (قوله الباجى) هو الإمام صاحب
التصانيف أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد ابن أيوب، أصله من مدينة
بطليوس وانتقل جده إلى مدينة باجة التى بقرب أشبيلية ونسب إليها، وقيل
هو من باجة القيروان التى ينسب إليها أبو محمد الباجى الحافظ، مات
بالمدينة سنة أربع وسبعين وأربعمائة.
(1/41)
حدثنا أبو محمد
الحموى حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشى حدثنا عبد ابن حميد حدثنا هاشم بن
القاسم عن أبى جعفر عن الربيع بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى (طه) يعنى طإ الأرض
يا محمد (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) الآية، ولا خفاء بما في هذا كله
من الإكرام وحسن المعاملة، وإن جعلنا طه من أسمائه صلى الله عليه وسلم
كما قيل أو جعلت قسما لحق الفصل بما قبله، ومثل هذا من نمط الشفقة
والمبرة قوله تعالى (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا
الحديث أسفا) أي قاتل نفسك لذلك غضبا أو غيظا أو جزعا ومثله قوله تعالى
أيضا (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) ثم قال تعالى (إن نشأ ننزل
عليهم من السماء آية فظلت
أعناقهم لها خاضعين) * ومن هذا الباب قوله تعالى (فاصدع بما تؤمر وأعرض
عن المشركين) إلى قوله تعالى (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) إلى
آخر السورة وقوله (ولقد استهزئ برسل من قبلك) الآية قال مكى سلاه تعالى
بما ذكر وهون عليه
__________
(قوله الحموى) بفتح المهملة وضم الميم المشددة وكسر الواو وياء: للنسبة
إلى جده حمويه وحموبه بلسان المصامدة عبارة عن محمد.
(قوله ابن خزيم) بالمعجمة المضمومة والزاى المفتوحة.
(قوله عن الربيع عن أنس) هو بفتح الراء: بصرى نزل خراسان يروى عن أنس.
(قوله نمط الشفقة) أي نوعها والنمط في الأصل نوع من أنواع البسط ولا
يستعمل في غيره في الأكثر إلا مقيدا.
(*)
(1/42)
ما يلقاه من
المشركين وأعلمه أن من تمادى على ذلك يحل به ما حل بمن قبله ومثل هذه
التسلية قوله تعالى (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) ومن هذا قوله
تعالى (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون)
عزاه الله تعالى بما أخبر به عن الأمم السالفة ومقالتها لأنبيائهم قبله
ومحنتهم بهم وسلاه بذلك عن محنته بمثله من كفار مكة وأنه ليس أول من
لقى ذلك ثم طيب نفسه وأبان عذره بقوله تعالى (فتول عنهم) أي أعرض عنهم
(فما أنت بملوم) أي في أداء ما بلغت وإبلاغ ما حملت ومثله قوله تعالى
(واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) أي اصبر على أذاهم فإنك بحيث نراك
ونحفظك، سلاه الله تعالى بهذا في آى كثيرة من هذا المعنى.
الفصل السابع فيما أخبر الله تعالى به في
كتابه العزيز من عظيم قدره وشريف منزلته على الأنبياء وحظوة رتبته
عليهم
قال الله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة)
إلى قوله (من الشاهدين) قال أبو الحسن القابسى استخص
__________
(قوله يحل به) في الصحاح حل العذاب يحل بالكسر أي وجب ويحل بالضم أي
نزل، وقرئ (فيحل عليكم غضبى) وأما قوله تعالى (أو يحل قريبا) فبالضم أي
ينزل.
(*)
(1/43)
الله تعالى
محمدا صلى الله عليه وسقلم بفضل لم يؤته غيره أبانه به وهو ما ذكره في
هذه الآية، قال المفسرون أخذ الله الميثاق بالوحى فلم يبعث نبيا إلا
ذكر له محمدا ونعته وأخذ عليه ميثاقه إن أدركه لا يؤمنن به وقيل أن
يبينه لقومه ويأخذ ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم، وقوله ثم جاءكم:
الخطاب لأهل الكتاب المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال على بن
أبى طالب رضى الله عنه لم يبعث الله نبيا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه
العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه
ويأخذن العهد بذلك على قومه.
ونحوه عن السدى وقتادة في آى تضمنت فضله من غير وجه وحد: قال الله
تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) الآية وقال تعالى
(إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح - إلى قوله -
__________
(قوله ولينصرنه ويأخذن) بفتح الذال عطف على ما قبله ونون التوكيد مراده
نحو لا تهينن الفقير.
(قوله ونحوه عن السدى) هو بضم السين وتشديد الدال المهملتين نسبة إلى
السدة وهى الباب وهما اثنان كوفيان تابعي كبير وهو إسمعيل بن عبد
الرحمن يروى عن ابن عباس وأنس وهو المراد هنا، قال أبو الفتح اليعمرى
في السيرة في تحويل القبلة كان يجلس في المدينة في مكان يقال له اللسدة
فنسب إليه انتهى، وقال الحافظ عبد الغنى في الكمال كان يقعد في سدة باب
الجامع بالكوفة فسمى السدى انتهى، وفى الصحاح للجوهري والسدة باب الدار
تقول رأيته قاعدا بسدة باب داره، وسمى اسمعيل السدى لأنه كان يبيع
الحمر وللقانع في سدة مسجد الكوفة، وهى ما يبقى من
الطاق المسدودة انتهى.
وتابعي صغير وهو محمد بن مروان يروى عن هشام بن عروة والأعمش منزول
منهم.
(*)
(1/44)
شهيدا) روى عن
عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال في كلام بكى به النبي صلى الله
عليه وسلم فقال بأبى أنت وأمى يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عند الله
أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم فقال (وإذ أخذنا من النبيين
ميثاقهم ومنك ومن نوح) الآية بأبى أنت وأمى يا رسول الله لقد بلغ من
فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها
يعذبون يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا: قال قتادة إن النبي
صلى الله عليه وسلم قال كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث
فلذلك وقع ذكره مقدما هنا قبل نوح وغيره قال السمرقندى في هذا تفضيل
نبينا صلى الله عليه وسلم لتخصيصه بالذكر قبلهم وهو آخرهم بعثا، المعنى
أخذ الله تعالى عليهم الميثاق إذ أخرجهم من ظهر آدم كالذر وقال تعالى
(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) الآية قال أهل التفسير أراد بقوله
ورفع بعضهم درجات محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه بعث إلى الأحمر
والأسود وأحلت له الغنائم وظهرت على يديه المعجزات وليس أحد من
الأنبياء أعطى فضيلة أو كرامة إلا وقد أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم
مثلها قال بعضهم ومن فضله أن الله تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم وخاطبه
__________
(قوله بعث إلى الأحمر والأسود) أي العرب والعجم لأن الغالب على ألوان
العجم الحمرة والبياض وعلى ألوان العرب الأدمة والسمرة، وقيل الجن
والإنس، وقيل الأحمر: الأبيض مطلقا فإن العرب تقول امرأة حمراء أي
بيضاء.
(*)
(1/45)
بالنبوة
والرسالة في كتابه فقال يا أيها النبي ويا أيها الرسول وحكى السمرقندى
عن الكلبى في قوله تعالى (وإن من شيعته لإبراهيم) أن الهاء عائدة على
محمد صلى الله عليه وسلم أي إن من شيعة محمد لإبراهيم أي على دينه
ومنهاجه، وأجازه الفراء وحكاه عنه مكى، وقيل المراد نوح عليه السلام.
الفصل الثامن في إعلال الله تعالى خلقه
بصلاته عليه وولايته له ورفعه العذاب بسببه
قال الله تعالى (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) أي ما كنت بمكة فلما
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وبقى فيها من بقى من المؤمنين نزل
(وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) وهذا مثل قوله (لو تزيلوا لعذبنا)
الآية وقوله تعالى (ولولا رجال مؤمنون) الآية فلما هاجر المؤمنون نزلت
(وما لهم ألا يعذبهم الله) وهذا من أبين ما يظهر مكانته صلى الله عليه
وسلم ودرأته العذاب عن أهل مكة بسبب كونه ثم كون أصحابه بعده بين
أظهرهم فلما خلت مكة منهم عذبهم الله بتسليط المؤمنين عليهم وغلبتهم
إياهم وحكم فيهم سيوفهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وفى الآية أيضا
تأويل آخر * حدثنا القاضى الشهيد أبو على رحمه الله بقراءتي عليه قال
حدثنا أبو الفضل
__________
(قوله منهاجه) المنهاج الطريق الواضح.
(*)
(1/46)
ابن خيرون وأبو
الحسين الصيرفى قالا حدثنا أبو يعلى بن زوج الحرة حدثنا أبو على السنجى
حدثنا محمد بن محبوب المروزى حدثنا أبو عيسى الحافظ حدثنا سفيان بن
وكيع حدثنا ابن نمير عن إسمعيل بن إبراهيم
ابن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله على أمانين لأمتى: ما كان الله
ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت
فيكم الاستغفار، ونحو منه قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
قال صلى الله عليه وسلم أنا أمان لأصحابي.
قيل من البدع وقيل من الاختلاف والفتن قال بعضهم الرسول صلى الله عليه
وسلم هو الأمان الأعظم ما عاش وما دامت سنته باقية فهو باق فإذا أميتت
سنته فانتظروا البلاء والفتن وقال الله تعالى (إن الله وملائكته يلون
على النبي) الآية، أبان الله تعالى فضل نبيه صلى الله عليه وسلم بصلاته
عليه ثم بصلاة ملائكته وأمر عباده بالصلاة والتسليم عليه وقد حكى أبو
بكر بن فورك أن بعض العلماء تأول قوله صلى الله عليه وسلم وجعلت قرة
عينى في الصلاة على هذا أي في صلاة الله تعالى على
__________
(قوله وأبو الحسين الصيرفى) هو تصغير حسن وهو المبارك بن عبد الجبار
وفى بعض النسخ حسن وليس بحسين.
(قوله عن عباد بن يوسف) قال المزني في أطرافه عبادة بن يوسف ويقال ابن
سعيد والصحيح عباد.
(قوله عن أبى بردة بن أبى موسى) قيل اسمه الحارث وقيل عامر، قال النووي
وهو الصحيح المشهور.
(*)
(1/47)
وملائكته وأمره
الأمة بذلك إلى يوم القيامة والصلاة من الملائكة ومنا له دعاء ومن الله
عز وجل رحمة وقيل يصلون يباركون وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم حين
علم الصلاة عليه بين لفظ الصلاة والبركة وسنذكر حكم الصلاة عليه وذكر
بعض المتكلمين في تفسير حروف (كهيعص) أن الكاف من كاف أي كفاية الله
لنبيه قال تعالى
(أليس الله بكاف عبده) والهاء هدايته له قال (ويهديك صراطا مستقيما)
والياء تأييده قال (وأيدك بنصره) والعين عصمته له قال: (والله يعصمك من
الناس) والصاد صلاته عليه قال (إن الله وملائكته يصلون على النبي) وقال
تعالى (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه) الآية مولاه أي وليه وصالح
المؤمنين قيل الأنبياء وقيل الملائكة وقيل أبو بكر وعمر وقيل على رضى
الله عنهم أجمعين وقيل المؤمنون على ظاهره.
الفصل التاسع فيما تضمنته سورة الفتح من
كراماته صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) إلى قوله تعالى (يد الله فوق
أيديهم) تضمنت هذه الآيات من فضله والثناء عليه وكريم منزلته عند الله
تعالى ونعمته لديه ما يقصر الوصف عن الانتهاء إليه فابتدأ جل جلاله
بإعلامه بما قضاه له من القضاء البين بظهور
(1/48)
وغلبته على
عدوه وعلو كلمته وشريعته وأنه مغفور له غير مؤاخذ بما كان وما يكون قال
بعضهم أراد غفران ما وقع وما لم يقع أي أنك مغفور لك وقال مكى جعل الله
المنة سببا للمغفرة وكل من عنده لا إله غيره منة بعد منة وفضلا بعد فضل
ثم قال ويتم نعمته عليك قيل بخضوع من تكبر لك وقيل بفتح مكة والطائف
وقيل يرفع ذكرك في الدنيا وينصرك ويغفر لك فأعلمه تمام نعمته عليه
بخضوع متكبرى عدوه له وفتح أهم البلاد عليه وأحبها له ورفع ذكره
وهدايته الصراط المستقيم المبلغ الجنة والسعادة ونصره النصر العزيز
ومنته على أمته
المؤمنين بالسكينة والطمأنينة التى جعلها في قلوبهم وبشارتهم بما لهم
عند ربهم بعد وفوزهم العظيم والعفو عنهم والستر لذنوبهم وهلاك عدوه في
الدنيا والآخرة ولعنهم وبعدهم من رحمته وسوء منقلبهم ثم قال (إنا
أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) الآية فعد محاسنه وخصائصه من شهادته على
أمته لنفسه بتبليغه الرسالة لهم وقيل شاهدا لهم بالتوحيد ومبشرا لأمته
بالثواب وقيل بالمغفرة ومنذرا عدوه بالعذاب وقيل مخدرا من الضلالات
ليؤمن بالله تم به من سبقت له من الله الحسنى ويعزروه أي يجلونه وقيل
ينصرونه وقيل يبالغون في تعظيمه ويوقروه أي يعظمونه وقرأه
__________
(قوله بخضوع من تكبر لك) الجار والمجرور متعلق بخضوع (قوله وسوء
منقلبهم) أي انقلابهم (قوله يعزروه) بمهملة وزاى وراء أي يوقروه.
(4 - 1) (*)
(1/49)
بعضهم
(ويعززوه) بزاءين من العز والأكثر والأظهر أن هذا في حق محمد صلى الله
عليه وسلم ثم قال (ويسبحوه) فهذا راجع إلى الله تعالى قال ابن عطاء جمع
للنبى صلى الله عليه وسلم في هذه السورة نعم مختلفة من الفتح المبين
وهى من أعلام الإجابة والمغفرة وهى من أعلام المحبة وتمام النعمة وهى
من أعلام الاختصاص والهداية وهى من أعلام الولاية فالمغفرة تبرئة من
العيوب وتمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة والهداية وهى الدعوة إلى
المشاهدة: وقال جعفر بن محمد من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه وأقسم
بحياته ونسخ به شرائع غيره وعرج به إلى المحل الأعلى وحفظه في المعراج
حتى ما زاغ البصر وما طغى وبعثه إلى الأحمر والأسود وأحل له ولأمته
الغنائم وجعله شفعا مشفعا وسيد ولد آدم وقرن ذكره بذكره ورضاه برضاه
وجعله أحد ركني التوحيد
ثم قال (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) يعنى بيعة الرضوان أي
إنما يبايعون الله ببيعتهم إياك (يد الله فوق أيديهم) يريد عند البيعة
قيل قوة الله وقيل ثوابه وقيل منته وقيل عقده، وهذه استعارات وتجنيس في
الكلام وتأكيد لعقد بيعتهم إياه وعظم شأن المبايع صلى الله عليه وسلم
وقد يكون من هذا قوله تعالى (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ
رميت ولكن الله رمى) وإن كان الأول
__________
(قوله تبرئة) بالموحدة بعد المثناة الفوقية وبالراء، أو بالنون بعد
المثناة الفوقية وبالزاى.
(*)
(1/50)
في باب المجاز
وهذا في باب الحقيقة لأن القاتل والرامي بالحقيقة هو الله وهو خالق
فعله ورميه وقدرته عليه ومشيئته ولأنه ليس في قدرة البشر توصيل تلك
الرمية حيث وصلت حتى لم يبق منهم من لم تملأ عينيه وكذلك قتل الملائكة
لهم حقيقة وقد قيل في هذه الآية الأخرى إنها على المجاز العربي ومقابلة
اللفظ ومناسبته أي ما قتلتموهم وما رميتهم أنت إذا رميت وجوههم
بالحصباء والتراب ولكن الله رمى قلوبهم بالجزع أي أن منفعة الرمى كانت
من فعل الله فهو القاتل والرامي بالمعنى وأنت بالاسم.
الفصل العاشر فيما أظهره الله تعالى في
كتابه العزيز من كرامته عليه ومكانته عنده وما خصه به من ذلك سوى ما
انتظم فيما ذكرناه قبل:
من ذلك ما قصه تعالى من قصة الإسراء في سورة سبحان، والنجم، وما انطوت
عليه القصة من عظيم منزلته وقربه ومشاهدته ما شاهد من العجائب، ومن ذلك
عصمته من الناس بقوله تعالى (والله يعصمك من الناس) وقوله تعالى (وإذ
يمكر بك الذين كفروا) الآية وقوله (إلا تنصروه فقد نصره الله) وما دفع
الله به عنه في هذه القصة من أذاهم بعد تحريهم لهلكه وخلوصهم بحيا في
أمر
__________
(قوله لهلكه) الهلك بضم الهاء وإسكان اللام: الاسم من هلك.
(*)
(1/51)
والأخذ على
أبصارهم عند خروجه عليهم وذهولهم عن طلبه في الاغر وما ظهر في ذلك من
الآيات ونزول السكينة عليه وقصة سراقة بن مالك حسبما ذكره أهل الحديث
والسير في قصة الغار وحديث الهجرة ومنه قوله تعالى (إنا أعطيناك
الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر) أعلمه الله تعالى بما
أعطاه، والكوثر حوضه وقيل نهر في الجنة وقيل الخبر الكثير وقيل الشفاعة
وقيل المعجزات الكثيرة وقيل النبوة وقيل المعرفة، ثم أجاب عنه عدووه
ورد عليه قوله فقال تعالى (إن شانئك هو الأبتر) أي عدوك ومبغضك،
والأبتر الحقير الذليل أو المفرد الوحيد أو الذى لا خير فيه وقال تعالى
(ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم) قيل السبع المثانى السور
الطوال الأول والقرآن العظيم أم القرآن، وقيل السبع المثانى أم القرآن
والقرآن العظيم سائره وقيل السبع المثانى ما في القرآن من أمر ونهى
وبشرى وإنذار وضرب مثل
__________
(قوله حسبما ذكره أهل الحديث) هو بفتح السين وقد يسكن أي على قدره
وعدده (قوله الطوال) بكسر الطاء جمع طويلة وأما بضم الطاء فمفرد يقال
رجل طوال أي زائد في الطول، واختلف في سابعة هذا الطوال فقيل الأنفال
والتوبة لأنهما في حكم سورة واحدة ولهذا لم يفصل بينهما بالبسملة وقيل
التوبة وقيل يونس (قوله سائره)
هو بمهملة في أوله وهمزة مكسور ثالثه، قال صاحب الصحاح سائر الناس
جميعهم واعترض بأنه انفرد بهذا فلا يقبل منه وأجيب بأنه لم ينفرد بل
شاركه في نقله التبريزي والجواليقي وغيرهما وفى القاموس السائر الباقي
لا الجميع كما توهم جماعات وقد تستعمل له بعد ذكره أشياء عن العرب مما
استعمل له.
(*)
(1/52)
وإعداد نعم
وآتيناك نبأ القرآن العظيم وقيل سميت أم القرآن مثانى لأنها نثى في كل
ركعة وقيل بل الله تعالى استثناها لمحمد صلى الله عليه وسلم وذخرها له
دون الأنبياء وسمى القرآن مثانى لأن القصص نثى فيه وقيل السبع المثانى
أكرمناك بسبع كرامات: الهدى والنبوة والرحمة والشفاعة والولاية
والتعظيم والكسينة وقال (وأنزلنا إليك الذكر) الآية وقال (وما أرسلناك
إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) وقال تعالى (قل يا أيها الناس إنى رسول
الله إليكم جميعا) الآية قال القاضى رحمه الله فهذه من خصائصه وقال
تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا بلسنان قومه ليبين لهم) فخصهم بقومهم
وبعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كافة كما قال صلى الله عليه
وسلم (بعثت إلى الأحمر والأسود) وقال تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) قال أهل التفسير أولى بالمؤمنين من أنفسهم أي
ما أنفذه فيهم من أمر فهو ماض عليه كما يمضى حكم السيد على عبده وقيل
اتباع أمره أولى من اتباع رأى النفس وأزواجه أمهاتهم أي هن في الحرمة
كالأمهات حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية ولأنهن له أزواج في
الجنة وقد قرئ وهو أب لهم ولا يقرأ به الآن لمخالفته المصحف وقال الله
تعالى
__________
(قوله لأنها تثنى) بفتح المثلثة وتشديد النون المفتوحة وبتسكين المثلثة
وفتح النون
(قوله في كل ركعة) أي كل صلاة من باب تسمية الشئ باسم جزئه (قوله لأن
القصص هو بكسر القاف جمع قصة وبفتحها الخبر (قوله وقد قرئ وهو أب لهم)
هذه قراءة مجاهد وقيل أبى بن كعب.
(*)
(1/53)
(وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) الآية قيل فضله العظيم بالنبوة وقيل
بما سبق له في الأزل وأشار الواسطي إلى أنها إشارة إلى احتمال الرؤية
التى لم يحتملها موسى عليه السلام. |