الشفا بتعريف حقوق المصطفى وحاشية الشمني

 (الباب الثالث) فيما ورد من صحيح الأخبار ومشهورها بعظيم قدره عند ربه ومنزلته وما خصه به في الدارين من كرامته صلى الله عليه وسلم

* لا خلاف أنه أكرم البشر، وسيد ولد آدم، وأفضل الناس منزلة عند الله، وأعلاهم درجة، وأقربهم زلفى.
واعلم أن الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جدا وقد اقتصرنا منها على صحيحها ومنتشرها وحصرنا معاني ما ورد منها في اثنى عشر فصلا

(الفصل الأول) فيما ورد من ذكر مكانته عند ربه عز وجل والاصطفاء ورفعة الذكر والتفضيل، وسيادة ولد آدم وما خصه به في الدنيا من مزايا الرتب وبركة اسمه الطيب:
أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله ابن أحمد العدل إذ نا بلفظه حدثنا أبو الحسن الفرغانى حدثتنا أم القاسم بنت أبى بكر بن يعقوب عن أبيها حدثنا حاتم وهو ابن عقيل عن يحيى وهو ابن اسماعيل عن يحيى الحمانى حدثنا قيس عن الأعمش عن عباية ابن ربعى عن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى قسم الخلق قسمين فجعلني من خيرهم قسما.
فذلك قوله تعالى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب
__________
(قوله عن يحيى الحمانى) بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم بعدها ألف ونون وياء لنسبة إلى قبيلة (قوله عن عباية بن ربعى) عباية بفتح العين المهملة وتخفيف الوحدة وربعي
بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها عين مهملة وياء مشددة.
(*)

(1/165)


اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا وذلك قوله تعالى فأصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة والسابقون السابقون فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني من خيرها قبيلة وذلك قوله تعالى (وجعلناكم شعوبا وقبائل) الآية فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني من خيرها بيتا فذلك قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) الآية، وعن أبى سلمة عن أبى هريرة قال قالوا يا رسول الله متى وجبت لك النبوة قال (وآدم بين الروح والجسد) وعن واثلة ابن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة واصطفى من بنى كنانة قريشا واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفانى من بنى هاشم) ومن حديث أنس رضى الله عنه (أنا أكرم ولد آدم على ربى ولا فخر) وفى حديث ابن عباس) أنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر وعن عائشة رضى الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم (أتانى جبريل عليه السلام فقال قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد ولم أر بنى أب أفضل من بنى هاشم) وعن أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسرى به فاستصعب عليه فقال له جبريل بمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه، فارفض عرقا.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما

(1/166)


عنه صلى الله عليه وسلم (لما خلق الله آدم أهبطني في صلبه إلى الأرض وجعلني في صلب نوح في السفينة وقذف بى في النار في صلب إبراهيم ثم لم يزل ينقلني في الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة حتى أخرجنى بين أبوى لم يلتقيا على سفاح قط) وإلى هذا أشار العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه بقوله: من قبلها طبت في الظلال وفى * مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر * أنت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صالب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق
__________
(قوله من قبلها) أي قبل الدنيا، أو قبل النبوة، أو الولادة (قوله ولا مضغة) المضغة قطعة لحم بقدر ما يمضغ في الفم (قوله ولا علق) العلق جمع علقة وهى قطعة من دم غليظ (قوله يركب السفين) في الصحاح السفين جمع سفينة فعيلة بمعنى فاعلة كأنها تسفن الماء أي تقشه بالقاف والشين المعجمة (قوله نسوا) كان لآدم صلى الله عليه وسلم بنون يسمون نسرا وودا وسواعا ويغوث ويعوق، وكانوا عبادا فماتوا فحزن أهل عصرهم عليهم، فصور لهم إبليس اللعين أمثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم، فجعلوها في مؤخر المسجد، فلما هلك أهل ذلك العصر، قال اللعين لأولادهم هذه آلهة آبائكم فاعبدوهم، ثم إن الطوفان دفنها فأخرجها اللعين للعرب فكانت ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل بساحل ويغوث لغطيف من مراد ويعوق لهمدان ونسر لذى الكلاع من حمير (قوله من صالب) قال الهروي أي من صلب يقال صلب وصلب وصالب ثلاث لغات، وقال ابن الأثير الصالب الصلب وهو قليل الاستعمال (قوله إذا مضى عالم بدا طبق) العالم بفتح اللام قال الهروي (*)

(1/167)


ثم احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق فنحن في ذلك الضياء وفى النور * وسبل الرشاد نخترق يا برد نار الخليل يا سببا * لعصمة النار وهى تحترق وروى عنه صلى الله عليه وسلم أبو ذر وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وجابر بن عبد الله أنه قال (أعطيت خمسا - وفى بعضها ستا - لم يعطهن نسى قبلى: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل وأحلت لى الغنائم ولم تحل لنبى قبلى وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة) وفى رواية بدل هذه الكلمة: (وقيل لى سل تعطه) وفى رواية أخرى (وعرض على أمتى فلم يخف على التابع من المتبوع) وفى رواية بعثت
__________
وقال ابن عرفة: يقال مضى طبق وجاء طبق أي مضى عالم وجاء عالم ومنه قول العباس إذا مضى عالم بدا طبق، يقول إذا مضى قرن بدا قرن، وقيل للقرن طبق لأنه طبق الأرض (قوله المهيمن) أي الشاهد (قوله خندف) بكسر الخاء المعجمة وسكون النون وكسر الدال المهملة بعدها فاء هو في الأصل مشية كالهرولة ثم سمى به ليلى امرأة الياس بن مصفر (قوله النطق) بضم النون والطاء، قال ابن الأثير جمع نطاق، وهى أعراض من جبال بعضها فوق بعض، أي نواح أوساط منها شبهت بالنطق الذى تشد بها أوساط الناس، ضربه مثلا له في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته، وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال انتهى، وفى الصحاح النطاق شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة، والأسفل ينجر على الأرض، وليس لها حجزة ونيفق، ولا ساقان والجمع نطق (قوله وأيما رجل من أمتى) كذا في بعض النسخ والمشهور فأيما رجل من أمتى بالفاء (قوله وأعطيت الشفاعة) أي العظمى (*)

(1/168)


إلى الأحمر والأسود) قيل السود العرب لأن الغالب على ألوانهم الأدمة فهم من السود، والحمر العجم، وقيل البيض والسود من الأمم، وقيل الحمر الإنس والسود الجن * وفي الحديث الآخر عن أبى هريرة رضى الله عنه (نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم وبينا أنا نائم إذ جئ بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدى) * وفى رواية عنه (وختم بى النبيون) وعن عقبة بن عامر أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (إنى فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإنى والله لأنظر إلى حوضى الآن وإنى قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدى ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها) وعن عبد الله ابن عمرو رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أنا
__________
وله صلى الله عليه وسلم شفاعات هذه (أولاها) وهى في الفصل بين أهل الموقف حين يفزعون إليه بعد الأنبياء عليهم السلام (والثانية) في جماعة يدخلون الجنة بغير حساب وهذه والتى قبلها من خصائصه عليه السلام (والثالثة) في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها (والرابعة) في أناس دخلوا النار فيخرجون منها (والخامسة) في رفع درجات أناس في الجنة، قال النووي: ويجوز أن تكون الثالثة والخامسة أيضا من خصائصه (والسادسة) تخفيف العذاب عمن استحق الخلود فيها كما في حق أبى طالب (والسابعة) شفاعته لمن مات بالمدينة (والثامنة) شفاعته لمن صبر على لأواء المدينة (والتاسعة) شفاعته لفتح باب الجنة كما رواه مسلم (والعاشرة) شفاعته لمن زاره صلى الله عليه وسلم لما روى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من زار قبري وجبت له شفاعتي (والحادية عشر) شفاعته لمن أجاب المؤذن وصلى عليه صلى الله عليه وسلم لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم
حلت له شفاعتي (قوله في يدى) بفتح الدال وتشديد الآخر.
(*)

(1/169)


محمد النبي الأمي لا نبى بعدى أوتيت جوامع الكلم وخواتمه وعلمت خزنة النار وحملة العرش * وعن ابن عمر (بعثت بين يدى الساعة) ومن رواية ابن وهب أنه صلى الله عليه وسلم قال (قال الله تعالى سل يا محمد فقلت ما أسأل يا رب اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما، واصطفيت نوحا، وأعطيت سليمان ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، فقال الله تعالى ما أعطيتك خير من ذلك، أعطيتك الكوثر وجعلت اسمك مع اسمى ينادى به في جوف السماء وجعلت الأرض طهورا لك ولأمتك وغفرت لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فأنت تمشى في الناس مغفورا لك، ولم أصنع ذلك لأحد قبلك، وجعلت قلوب أمتك مصاحفها، وخبأت لك شفاعتك ولم أخبأها لنبى غيرك) * وفى حديث آخر، رواه حذيفة (بشرني - يعنى ربه عز وجل - أول من يدخل الجنة معى من أمتى سبعون ألفا مع كل ألف سبعون ألفا ليس عليهم حساب، وأعطاني أن لا تجوع أمتى ولا تغلب، وأعطاني النصر والعزة والرعب يسعى بين يدى أمتى شهرا، وطيب لى ولأمتي المغانم، وأحل لنا كثيرا مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج) * وعن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم (ما من نبى من الأنبياء إلا وقد أعطى من
__________
(قوله وعلمت) بضم المهملة وتشديد اللام المكسورة ويجوز فتح المهملة وتخفيف اللام (*)

(1/170)


الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذى أوتيت وحيا
أوحى الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) معنى هذا عند المحققين بقاء معجزته ما بقيت الدنيا، وسائر معجزات الأنبياء ذهبت للحين ولم يشاهدها إلا الحاضر لها ومعجزة القرآن يقف عليها قرن بعد قرن عيانا لا خبرا إلى يوم القيامة، وفيه كلام يطول هذا نخبته، وقد بسطنا القول فيه، وفيما ذكر فيه سوى هذا آخر باب المعجزات * وعن على رضى الله عنه كل نبى أعطى سبعة بحباء وزراء رفقاء من أمته، وأعطى نبيكم صلى الله عليه وسلم أربعة عشر بحيبا منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وعمار، وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله قد حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لا تحل لأحد بعدى وإنما أحلت لى ساعة من نهار) وعن العرباض بن سارية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنى عبد الله وخاتم النبيين) وإن آدم لمنجدل في طينته وعدة أبى إبراهيم وبشارة عيسى ابن مريم) وعن ابن عباس قال إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم قالوا فما فضله على أهل السماء قال إن الله تعالى قال لأهل السماء (ومن يقل منهم إنى إله من دونه) الآية - وقال
__________
(قوله الفيل) كان اسم هذا الفيل محمودا (قوله لمنجدل) أي ساقط يقال جدله أي رماه بالجدالة، وهى الأرض فانجدل أي سقط (قوله وعدة) بكسر العين المهملة وتخفيف الدال المهملة (*)

(1/171)


لمحمد صلى الله عليه وسلم (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) الآية، قالوا: فما فضله على الأنبياء ؟ قال: إن الله تعالى قال: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) الآية، وقال لمحمد (وما أرسلناك إلا كافة للناس)
وعن خالد بن معدان أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، وقد روى نحوه عن أبى ذر وشداد ابن أوس، وأنس بن مالك رضى الله عنهم فقال: نعم أنا دعوة أبى إبراهيم يعنى قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) وبشر بى عيسى ورأت أمي حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام، واسترضعت في بنى سعد بن بكير فبينا أنا مع أخ لى خلف بيوتنا نرعى بهما لنا إذ جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، وفى حديث آخر ثلاثة رجال بطت من ذهب مملوة ثلجا فأخذاني فشقا بطني قال في غير هذا الحديث من نحرى إلى مراق بطني ثم استخرجا
__________
(قوله ابن معدان) بفتح الميم وسكون العين وتخفيف الدال المهملتين (قوله حين حملت بى) كذا هنا وفى غيره حين وضعتني (قوله بصرى) بضم الموحدة مدينة حوران، وهى أول مدينة فتحت في الشام، وكان فتحها صلحا (قوله بهما) بفتح الموحدة وسكون الهاء جمع بهيمة وهى ولد الضأن ذكرا كان أو أنثى وجمع البهم البهائم ويقال لأولاد المعز سخال (قوله بطست) بالسين المهملة، ويقال أيضا طس وطسة وهو الآنية المعروفة، وفى الصحاح الطست الطس في لغة طيئ أبدل من إحدى السينين تاء للاستثقال فإذا جمعت أو صغرت رددت السين لأنك فصلت بينهما بألف أو ياء فقلت طساس أو طسيس (قوله مراق بطني) بتخفيف الراء وتشديد القاف أي ما سفل من البطن ورق من جلده (*)

(1/172)


منه قلبى فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قلبى وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، قال في حديث آخر ثم تناول أحدهما شيئا فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه فختم به قلبى فامتلأ أيمانا وحكمة ثم أعاده مكانه وأمر الآخر يده على مفرق صدري
فالتأم وفى رواية إن جبريل قال قلب وكيع أي شديد فيه عينان تبصران وأذنان سمعتان ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزننى بهم فرجحتهم، ثم قال زنه بمائة من أمته فوزننى بهم فوزننهم ثم قال: زنه بألف من أمته فوزننى بهم فوزنتهم ثم قال: دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنها قال في الحديث الآخر ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عينى ثم قالوا يا حبيب لم ترع إنك لو تدرى ما يراد بك من الخير لقرت عيناك وفى بقية هذا الحديث من قولهم ما أكرمك على الله إن الله معك وملائكته، قال في حديث أبى ذر: فما هو إلا أن وليا عنى فكأنما أرى الأمر معاينة وحكى أبو محمد المكى أبو الليث السمرقندى وغيرهما أن آدم عند معصيته قال اللهم بحق محمد اغفر لى خطيئتي ويروى وتقبل توبتي فقال له الله: من أين عرفت محمدا.
قال: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا لا إله إلا الله محمد
__________
(قوله يحار) بفتح المثناة التحتية والحاء المهملة أي يخير (قوله مفرق) بفتح الميم وبكسر الراء (قوله وكيع) أي شديد (قوله لم ترع) بضم المثناة الفوقية وفتح الراء أي لا تفزع.
(*)

(1/173)


رسول الله ويروى محمد عبدى ورسولي فعلمت أنه أكرم خلقك عليك فتاب الله عليه وغفر له، وهذا عند قائله تأويل قوله تعالى (فتلقى آدم من ربه كلمات) وفى رواية أخرى فقال آدم: لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه (وعزتئ وجلالى إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك
قال: وكان آدم يكنى بأبى محمد، وقيل بأبى البشر وروى عن سريج بن يونس أنه قال إن لله ملائكة سياحين عبادتها على كل دار فيها أحمد أو محمد إكراما منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وروى ابن قانع القاضى عن أبى الحمراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسرى بى إلى السماء إذا على العرش مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلى وفي التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى: (وكان تحته كنز لهما) قال
__________
(قوله سريج بن يونس) بن سريج: بضم السين المهملة وفتح الراء، وفي آخره جيم هو أبو الحارث البغدادي أحد أئمة الحديث (قوله عبادتها على كل دار) عبادة بالباء الموحدة مبتدإ خبره كل دار على حذف مضاف، أي حفظ كل دار أو إعانة أهل كل دار (قوله ابن قانع) بالقاف والنون المسكورة بعدها عين مهملة هو القاضى عبد الباقي بن مرزوق صاحب معجم الصحابة وكتاب اليوم والليلة (قوله عن أبى الحمراء) بفتح المهملة وسكون الميم والمد، اسم لصحابين أحدهما مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج هذا الحديث عنه ابن ماجه، والآخر مولى آل عفراء، ولا يعلم له رواية (*)

(1/174)


لوح من ذهب فيه مكتوب: (عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب ! عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك ! عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ! أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدى ورسولي) وعن ابن عباس رضى الله عنهما: على باب الجنة مكتوب إنى أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسول الله لا أعذب من قالها، وذكر أنه وجد على الحجارة القديمة مكتوب: محمد تقى مصلح، وسيد أمين، وذكر السمنطارى أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا ولد على أحد جنبيه مكتوب لا إله إلا الله
وعلى الآخر محمد رسول الله، وذكر الأخباريون أن ببلاد الهند وردا
__________
(قوله وذكر الأخباريون) بالخاء المعجمة قال الذهبي في ميزانه روى قريش بن أنس عن كليب بن وائل وكليب نكرة لا يعرف أنه رأى بالهند وردا في الوردة مكتوب محمد رسول الله وقال ابن العديم في تاريخه في ترجمة الحسين بن أحمد بن الحسين الوراق الخواص المصيصى مسندا عنه إلى على بن عبد الله الهاشمي الرقى أنه قال دخلت في بلاد الهند إلى بعض قراها فرأيت وردة كبيرة طيبة الرائحة سوداء عليها مكتوب بخط أبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق فشككت في ذلك، وقلت إنه معمول فعمدت إلى وردة لم تفتح ففتحتها فكان فيها مثل ذلك، وفى البلد منه شئ كثير وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، ولا يعرفون الله عز وجل انتهى، وقال الشيخ عبد الله اليافعي في كتابه المسمى بروض الرياحين قال بعض الشيوخ دخلت بلاد الهند فدخلت مدينة رأيت فيها شجرة تحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران، فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية مكتوب فيها بالحمرة (لا إله إلا الله) كتابة جلية وهم يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا من الغيث، فحدثت بهذا أبا يعقوب الصياد، فقال لى ما أستعظم هذا كنت أصطاد على نهر الأبلة، فاصطدت سمكة مكتوب على جنبها الأيمن (لا إله إلا الله) وعلى جنبها الأيسر (محمد رسول الله) فلما رأيتها قذفتها في الماء احتراما لما عليها (*)

(1/175)


أحمر مكتوبا عليه بالأبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله وروى عن جعفر بن محمد عن أبيه إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم من اسمه.
محمد فليدخل الجنة لكرامة اسمه صلى الله عليه وسلم، وروى ابن القاسم في سماعه وابن وهب في جامعه عن مالك سمعت أهل مكة يقولون ما من بيت فيه اسم محمد إلا نمى ورزقوا ورزق جيرانهم، وعنه صلى الله عليه وسلم (ماضر أحدكم أن يكون في بيته محمد ومحمدان وثلاثة)
وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن الله تعالى نظر إلى قلوب العباد فاختار منها قلب محمد صلى الله عليه وسلم فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته، وحكى النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) الآية.
قام خطيبا فقال (يا معشر أهل الإيمان إن الله تعالى فضلني عليكم تفضيلا وفضل نسائى على نسائكم تفضيلا) الحديث
(فصل) في تفضيله بما تضمنته كرامة الإسراء من المناجاة والرؤية وإمامة الأنبياء والعروج به إلى سدرة المنتهى وما رأى من آيات ربه الكبرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم قصة الإسراء وما انطوت عليه من درجات الرفعة مما نبه عليه الكتاب العزيز وشرحته صحاح الأخبار قال الله تعالى: (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من
__________
(قوله وروى ابن القاسم) هو الفقيه الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك روى أنه قال: خرجت على مالك اثنى عشرة مرة أنفقت في كل مرة ألف دينار، (*)

(1/176)


المسجد الحرام) الآية وقال تعالى (والنجم إذا هوى) إلى قوله (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ هو نص القرآن وجائت بتفصيله وشرح عجائبه وخواص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه أحاديث كثيرة منتشرة رأينا أن نقدم أكمالها ونشير إلى زيادة من غيره يجب ذكرها حدثنا القاضى الشهيد أبو على والفقيه أبو بحر بسماعي عليهما والقاضى أبو عبد الله التميمي وغير واحد من شيوخنا قالوا حدثنا أبو العباس العذري حدثنا أبو العباس الرازي حدثنا أبو أحمد الجلودى حدثنا ابن سفيان حدثنا مسلم ابن الحجاج حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا
ثابت البنانى عن أنس ين مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التى يربط بها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبرئيل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبرئيل: اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبرئيل فقيل من أنت، قال: جبريل قيل ومن معك
__________
(قوله ابن فروخ) بفتح الفاء، وتشديد الراء وفى آخره خاء معجمة (قوله البنائى) بضم الموحدة وتخفيف النون (قوله بالحلقة) بإسكان اللام وفتحها (قوله اخترت الفطرة) أي الاستقامة (*)

(1/177)


قال: محمد، قيل وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم صلى الله عليه وسلم فرحب بى ودعا لى بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبرئيل، فقيل من أنت ؟ قال: جبرئيل: قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا صلى الله عليهما فرحبا بى ودعوا لى بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم وإذا هو قد أعطى شطر الحسن فرحب بى ودعا لى بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة وذكر مثله فإذا أنا بإدريس فرحب بى ودعا لى بخير قال الله تعالى (ورفعناه مكانا عليا) ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله فإذا أنا بهارون فرحب بى ودعا لى بخير ثم عرج بنا إلى السماء
السادسة فذكر مثله فإذا أنا بموسى فرحب بى ودعا لى بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فذكر مثله فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعوذون
__________
(قوله بعث إليه) وفى بعض روايات الصحيح، أرسل إليه قالوا: وظاهره السؤال عن أصل الرسالة، ولا يصح لأن أمر نبوته كان مشهورا في الملكوت لا يكاد يخفى على خزان السماوات وحراسها، فالمراد أرسل إليه للعروج والإسراء، وكان سؤالهم للاستعجاب بما أنعم الله عليه أو الاستبشار بعروجه قال الطبري ويحتمل أن تكون البعثة والرسالة خفيف على السائلين لاشتغالهم بالعبادة (قوله إلى البيت المعمور) عن على أنه قال البيت المعمور في السماء السابعة، يقال له الضراح بضم المعجمة وتخفيف (*)

(1/178)


إليه ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال، قال فلما غشيها من أمر الله ما غشى تعيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى الله إلى ما أوحى ففرض على خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت إلى موسى فقال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم قال فرجعت إلى ربى فقلت يا رب خفف عن أمتى فحط عنى خمسا فرجعت إلى موسى فقلت حط عنى خمسا قال إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربى تعالى وبين موسى حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة قال فنزلت حتى انتخيت الى موسى فأخبرته
فقال ارجع الى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت قد رجعت الى ربى حتى استحييت منه) قال القاضى وفقه الله جود ثابت رحمه الله هذا الحديث عن أنس ما شاء ولم يأت أحد عنه بأصوب
__________
الراء وفى آخره حاء مهملة، وقيل في السماء الأولى وقيل في الرابعة وقيل في السادسة (قوله إلى سدرة المنتهى) إن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الأشجار ؟ أجيب بأن شجر السدر يختص بالظل المديد والطعم اللذيذ والرائحة الطيبة.
(*)

(1/179)


من هذا وقد خلط فيه غيره عن أنس تخلطا كثير لاسيما من رواية شريك بن أبى نمر فقد ذكر في أوله مجئ الملك له وشق بطنه وغسله بماء زمزم وهذا انما كان وهو صبى وقبل الوحى وقد قال شريك في حديثه وذلك قبل أن يوحى إليه وذكر قصة الإسراء ولا خلاف انها كانت بعد الوحى وقد قال غير واحد إنها كانت قبل الهجرة بسنة وقيل قبل هذا وقد روى ثابت عن أنس من رواية حماد بن سلمة أيضا مجئ جبريل الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان عند ظئره وشقة قلبه تلك القصة مفردة من حديث الاسراء كما رواه الناس فجود في القصتين وفى أن الاسراء الى بيت المقدس وإلى سدرة المنتهى كان قصة واحدة وأنه وصل الى بيت المقدس ثم عرج من هناك فأزاح كل إشكال أو همه غيره وقد روى يونس عن ابن شهاب عن أنس قال كان أبو ذر يحدث أن رسول الله ثلى الله عليه وسلم قال (فرج سقف بيتي فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدى فعرج بنا الى السماء فذكر القصة وروى قتادة
الحديث بمثله عن أنس عن مالك بن صعصعة وفيها تقديم وتأخير وزيادة ونقص وخلاف في ترتيب الأنبياء في السماوات وحديث ثابت عن أنس أتقن وأجود وقد وقعت في حديث الإسراء
__________
(قوله عند ظئزه) بكسر الظاء المعجمة وسكون الهمزة: المرضعة (*)

(1/180)


زيادان نذكر منها نكتا مفيدة في غرضنا منها في حديث ابن شهاب وفيه قول كل نبى له مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح إلا آدم وإبراهيم فقالا له والابن الصالح وفيه من طريق ابن عباس ثم عرج بى حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام، وعن أنس ثم انطلق بى حتى أتيت سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدرى ما هي قال ثم أدخلت الجنة وفى حديث مالك بن صعصعة فلما جاوزته يعنى موسى بكى فنودى ما يبكيك قال رب هذا غلام بعثته بعدى يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتى وفى حديث أبى هريرة رضى الله عنه وقد رأيتنى في جماعة من الأنبياء فحانت الصلاة فأممتهم فقال قائل يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فالتفت فبدأني بالسلام وفى حديث أبى هريرة ثم سار حتى أتى بيت المقدس فنزل
__________
(قوله بمستوى) بالتنوين، أي مكان عال من استوى على ظهر دابته، علا عليها (قوله صريف الأقلام) بفتح الصاد المهملة وكسر الراء أي حركتها وجريانها على المخطوط (قوله قال رب هذا غلام) قيل لم أطلق موسى عليه السلام على نبينا عليه السلام غلاما، وكان صلى الله عليه وسلم في سن الكهولة إذ ذاك، وأجيب بأن الغلام يقال بمعنى المستحكم القوة، ويمكن أن يقال إنما قال ذلك لتقدمه عليه بزمان
طويل، وموسى اسم أعجمى لا ينصرف للعجمة والتعريف، قال القرطبى: قال بن إسحاق هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قال السهيلي في التعريف وموسى بن عمران، وهو بالعبرانية عمر بن قاهث بن عازر ابن لاوى بن يعقوب وسمى بموسى لأن التابوت الذى كان فيه وجد في ماء وشجر ومو في لغة القبط هو الماء وسى هو السجر، وكان بين موسى وإبراهيم عليهما السلام سبعمائة سنة (*)

(1/181)


فربط فرسه إلى صخرة فصلى مع الملائكة فلما قضيت الصلاة قالوا يا جبريل من هذا معك قال هذا محمد رسول الله خاتم النبيين قالوا وقد أرسل إليه قال نعم قالوا حياه الله من أخ وخليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم وذكر كلام كل واحد منهم وهم إبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان ثم ذكر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه عز وجل فقال كلكم أثنى على ربه وأنا أثنى على ربى الحمد لله الذى أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا وأنزل على الفرقان فيه تبيان كل شئ وجعل أمتى خير أمة وجعل أمتى أمة وسطا وجعل أمتى هم الأولون وهم الآخرون وشرح لى صدري ووضع عنى وزرى ورفع لى ذكرى وجعلني فاتحا وخاتما فقال ابراهيم بهذا فضلكم محمد ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا ومن سماء الى سماء نحو ما تقدم.
وفى حديث ابن مسعود وانتهى بى الى سدرة المنتهى وهى في السماء السادسة إليها ينتهى ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليهخا ينتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال تعالى (إذ يغشى السدرة ما يغشى) قال فراش من ذهب وفى رواية أبى هريرة من
__________
(قوله وهى في السماء السادسة) وفى بعض الروايات أنها في السابعة، قال المصنف وكونها في السابعة هو الأصح وقول الأكثرين والذى يقتضيه تسميتها بالمنتهى قال النووي: ويمكن الجمع بأن أصلها في السماء السادسة ومعظمها في السابعة (قوله فراش من ذهب) الفراش بفتح الفاء وتخفيف الراء، وفى آخره شين معجمة: الطائر المعروف الذى يلقى نفسه في ضوء السراج (*)

(1/182)


طريق الربيع بن أنس فقيل لى هذه السدرة المنتهى ينتهى إليها كل أحد من أمتك خلا على سبيلك وهى السدرة المنتهى يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى وهى شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما وأن ورقه منها مظلة الخلق فغشيها نور وغشيتها الملائكة قال فهو قوله (إذ يغشى السدرة ما يغشى) فقال تبارك وتعالى له سل فقال إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما وكلمت موسى تكليما وأعطيت داود ملكا عظيما وألنت له الحديد وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما وسخرت له الجن والإنس والشياطين والرياح وأعطيته ملكا لا ينبغى لأحد من بعده وعلمت عيسى التوراة والإنجيل وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم فلم يكن له عليهما سبيل فقال له ربه تعالى قد اتخذتك خليلا وحبيبا فهو مكتوب في التوراة محمد حبيب الرحمن وأرسلتك إلى الناس كافة وجعلت أمتك هم الأولون وهم الآخرون وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولي وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا وأعطيتك سبعا من المثانى
__________
(قوله خلا على سبيلك) هو بفتح الخاء المعجمة واللام بمعنى مضى ومنه قوله تعالى (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) أي مضى (قوله مظلة) بفتح الميم وكسر الظاء وتشديد اللام (قوله ملكا) بضم الميم (*)

(1/183)


ولم أعطها نبيا قبلك وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشى لم أعطها نبيا قبلك وجعلتك فاتحا وخاتما وفى الرواية الأخرى قال فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث: أعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات وقال (ما كذب الفؤاد ما رأى) الآيتين رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح وفى حديث شريك أنه رأى موسى في السابعة قال بتفضيل كلام الله قال ثم على به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله فقال موسى لم أظن أن يرفع على أحد وروى عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء بيت المقدس وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بينا أنا قاعد ذات يوم إذ دخل جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها مثل وكرى الطائر
__________
(قوله المقحمات) بسكون القاف وكسر الحاء المهملة: الذنوب العظام التى تقحم أصحابها في النار أي تلقيهم فيها (قوله له ستمائة جناح) قال السهيلي في قوله صلى الله عليه وسلم في حق جعفر قد أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء ومما ينبغى الوقوف عليه في معنى الجناحين أنهما ليسا كما يسبق إلى الوهم مثل جناح الطائر وريشه لأن الصورة الآدمية هي أشرف الصور وأكملها ولكنها عبارة عن صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر كما أعطيها الملائكة وقد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة إنها ليست كما يتوهم من أجنحة الطير وإنما هي صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة واحتجوا
بقوله تعالى (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) فكيف بكون كأجنحة الطير ولم ير طائر له ثلاثة أجنحة ولا أربعة فكيف بستمائة جناح كما جاء في صفة جبريل فدل على أنها صفات تنضبط كيفيتها للفكر (قوله وكرى الطائر) بفتح الواو وسكون الكاف وفتح الراء تثنية وكر وهو العش (*)

(1/184)


فقعد في واحدة وقعدت في الأخرى فنمت حتى سدت الخافقين ولو شئت لمسست السماء وأنا أقلب طرفي ونظرت جبريل كأنه حلس لاطئ فعرفت فضل علمه بالله على وفتح لى باب السماء ورأيت النور الأعظم ولط دوني الحجاب وفرجه الدر والياقوت ثم أوحى الله إلى ما شاء أن يوحى) وذكر البزار عن على بن أبى طالب رضى الله عنه لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله صلى الله عليه وسلم الأذان جاءه جبريل بدابة يقال لها البراق فذهب يركبها فاستصعبت عليه فقال لها جبريل اسكني فو الله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم فركبها حتى أتى بها إلى الحجاب الذى يلى الرحمن تعالى فبينا هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جبريل من هذا قال والذى بعثك بالحق إنى لأقرب الخلق مكانا وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه فقال الملك الله أكبر الله أكبر فقيل له من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أكبر
__________
(قوله فنمت) بالفاء والنون المفتوحتين والميم المخففة أي زادت، وفى بعض النسخ، فسمت، بتخفيف الميم أي ارتفعت (قوله الخافقين) أي المشرق والمغرب، قال ابن السكيت، لأن الليل والنهار يخفقان فيهما (قوله لمسست) بكسر المهملة الأولى، وحكى أبو عبيد فتحها، وفي بعض النسخ لمست
(قوله كأنه حلس) بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وبعدها سين مهملة وهو كساء يلى ظهر البعير تحت القتب (قوله لاطئ) بهمزة في آخره أي لاصق (قوله ولط) بضم اللام وتشديد المهملة أي أرخى (قوله وذكر البزار) بالباء الموحدة والزاى المشددة، وفى آخره راء نسبة إلى عمر بزر الكتان (*)

(1/185)


أنا أكبر ثم قال الملك أشهد أن لا إله إلا الله فقيل له من وراء الحجاب صدق عبدى أنا الله لا إله إلا أنا وذكر مثل هذا في بقية الأذان إلا أنه لم يذكر جوابا عن قوله حى على الصلاة حى على الفلاح وقال ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه فأم أهل السماء فيهم آدم ونوح قال أبو جعفر محمد بن على بن الحسين رواية أكمل الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم الشرف على أهل السموات والأرض قال القاضى وفقه الله ما في هذا الحديث من ذكر الحجاب فهو في حق المخلوق لا في حق الخالق فهم المحجوبون والبارى جل اسمه منزه عما يحجبه إذ الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس ولكن حجبه على أبصار خلقه وبصائرهم وإدراكاتهم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء كقوله تعالى (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) فقوله في هذا الحديث الحجاب وإذ خرج ملك من الحجاب يجب أن يقال إنه حجاب حجب به من وراءه من ملائكته عن الاطلاع على ما دونه من سلطانه وعظمته وعجائب ملكوته وجبروته ويدل عليه من الحديث قوله جبريل عن الملك الذى خرج من ورائه إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه فدل على أن هذا الحجاب لم يختص بالذات ويدل عليه قول كعب في تفسير سدرة المنتهى قال إليها ينتهى علم الملائكة وعندها
يجدون أمر الله لا يجاوزها علمهم وأما قوله الذى يلى الرحمن فيحمل على حذف المضاف أي يلى عرش الرحمن أو امرا ما من عظيم آياته أو

(1/186)


مبادى حقائق معارفه مما هو أعلم به كما قال تعالى (واسال القرية) أي أهلها وقوله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أكبر فظاهره أنه سمع في هذا الموطن كلام الله تعالى ولكن من وراء حجاب كما قال تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) أي وهو لا يراه حجب بصره عن رؤيته، فإن صح القول بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل فيحتمل أنه في غير هذا الموطن بعد هذا أو قبله رفع الحجاب عن بصره حتى رآه والله أعلم.
(فصل) ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراؤه بروحه أو جسده على ثلاث مقالات فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح وأنه رؤيا منام مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحى وإلى هذا ذهب معاوية وحكى عن الحسن والمشهور عنه خلافه وإليه أشار محمد بن اسحاق وحجتهم قوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس) وما حكوا عن عائشة رضى الله عنها ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بينا أنا نائم وقوله أنس وهو نائم في المسجد
__________
(قوله على ثلاثة أقوال) قال السهيلي وذهبت طائفة منهم شيخنا القاضى أبو بكر إلى تصحيح المحدثين أن الإسراء كان مرتين أحدهما في نومه توطئة وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية وكذلك الإسراء سهله عليه بالرؤيا، لأن هوله عظيم: ورأيت المهلب في شرح البخاري قد حكى هذا القول عن طائفة من العلماء وأنهم قالوا كان الإسراء مرتين مرة في نومه ومرة
في يقظته ببدنه صلى الله عليه وسلم انتهى (*)

(1/187)


الحرام وذكر القصة ثم قال في آخرها فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفى اليقظة وهذا هو الحق وهو قول ابن عباس وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبى هريرة ومالك بن صعصعة وأبى حبة البدرى وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن المسيب وابن شهاب وابن زيد والحسن وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج وهو دليل قول عائشة وهو قول الطبري وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين وقالت طائفة كان الإسراء بالجسد يقظة من المسجد الحرام إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح واحتجوا بقوله تعالى (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) فجعل إلى المسجد الأقصى غاية الإسراء الذى وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبي محمد صلى الله عليه وسلم به وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه قال هؤلاء ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره فيكون أبلغ في المدح، ثم اختلفت هذه الفرقتان هل صلى ببيت المقدس أم لا ؟ ففى حديث أنس وغيره ما تقدم من صلاته فيه وأنكر
__________
(قوله أبو حبة) بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة هو الصحيح وقيل بتشديد النون وقيل بتشديد المثناة التحتية وقد اختلف هل أبو حبة الأنصاري وأبو حبة البدرى واحد أو اثنان وهل هما بالموحدة أو بالنون (*)

(1/188)


ذلك حذيفة بن اليمان وقال والله ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا قال القاضى وفقه الله والحق من هذا والصحيح إن شاء الله أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة إذ لو كان مناما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده وقوله تعالى (ما زاغ البصر وما طغى) ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة ولما استبعده الكفار ولا كذبوه فيه ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته إلى ما ذكر في الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس أو في السماء على ما روى غيره وذكر مجئ جبريل له بالبراق وخبر المعراج واستفتاح السماء فيقال ومن معك فيقول محمد ولقائه الأنبياء فيها وخبرهم معه وترحيبهم به وشأنه في فرض الصلاة ومراجعته مع موسى في ذلك وفى بعض هذه الأخبار: فأخذ يعنى جبريل بيدى فعرج بى إلى السماء إلى قوله ثم عرج بى حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام وأنه وصل إلى سدرة المنتهى وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره قال ابن عباس هي رؤيا عين رآها صلى الله عليه وسلم لا رؤيا منام وعن الحسن فيه بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبه فقمت

(1/189)


فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي، ذكر ذلك ثلاثا، فقال في الثالثة فأخذ بعضدي فجرنى إلى باب المسجد فإذا بدابة وذكر خبر البراق.
وعن أم هانئ ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتى تلك الليلة صلى العشاء الآخرة ونام بيننا فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا قال يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون، وهذا بين في أنه بجسمه، وعن أبى بكر من رواية شداد بن أوس عنه أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به طلبتك يا رسول الله
__________
(قوله في الحجر) بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم، وقال النووي إنه رأى لبعض المصنفين على المهذب أنه يقال أيضا بفتح الحاء كحجر الاسنان (قوله أم هانئ) بهمزة في آخره (قوله أهبنا) أي أيقظنا يقال هب إذا استيقظ أهبه إذا أيقظه (قوله فلما صلى الصبح وصلينا) قبل إن إسلام أم هانئ كان عام الفتح وهى السنة الثامنة من الهجرة والإسراء قبله بكثير فكيف تقول وصلينا وأيضا كيف يقول صلى الصبح والصوات الخمس لم تكن في الوقت الذى أخبرت عنه ؟ والجواب أن قبل الإسراء كانت صلاتان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فيصح قولها فلما صلى الصبح، هذا على أن المعراج من بيت المقدس وأنه مع الإسراء في ليلة واحدة، وأما على أنه من مكة وأنه ليس مع الإسراء في ليلة واحدة فقولها صلى الصبح على حقيقته من غير تأويل لأن الصلوات الخمس كانت ليلة المعراج وهو على هذا القول كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا والإسراء كان في ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وأما قولها وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه في الصلاة على تقدير أنها لم تكن بعد آمنت ولم تقل فرض الصبح حتى يقال أن الصلاة لم تكن بعد فرضت وإنما فرضت ليلة الإسراء (*)

(1/190)


البارحة في مكانك فلم أجدك فأجابه أن جبريل عليه السلام حملني إلى
المسجد الأقصى، وعن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صليت ليلة أسرى بى في مقدم المسجد ثم دخلت الصخرة فإذا بملك قائم معه آنية ثلاث، وذكر الحديث.
وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة فتحمل على ظاهرها، وعن أبى ذر عنه صلى الله عليه وسلم: فرج سقف بيتى وأنا بمكة فنزل جبريل فشرح صدري ثم غسله بماء زمزم إلى آخر القصة ثم أخذ بيدى فعرج بى.
وعن أنس (أتيت فانطلقوا بى إلى زمزم فشرح عن صدري) وعن أبى هريرة رضى الله عنه (لقد رأيتنى في الحجر وقريش تسألني عن مسراى فسألتني عن أشياء لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط فرفعه الله لى أنظر إليه) ونحوه عن جابر وقد روى عمر بن الخطاب رضى الله عنه في حديث الإسراء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (ثم رجعت إلى خديجة وما تحولت عن جانبها).
(فصل) في إبطال حجج من قال إنها نوم احتجوا بقوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك) فسماها رؤيا قلنا قوله (سبحان الذى أسرى بعبده) يرده لأنه لا يقال في النوم أسرى، وقوله فتنة للناس يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء بشخص إذ ليس في الحلم فتنة ولا يكذب به أحد لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة، على
__________
(قوله فكربت) بضم الكاف وكسر الراء من الكرب بفتح الكاف وهو الغم الذى يأخذ النفس (*)

(1/191)


أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قضية الحديبية وما وقع في نفوس الناس من ذلك وقيل غير هذا وأما
قولهم إنه قد سماها في الحديث مناما وقوله في حديث آخر بين النائم واليقظان وقوله أيضا وهو نائم وقوله ثم استيقظت فلا حجة فيه إذ قد يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم أو أول حمله والإسراء به وهو نائم وليس في الحديث أنه كان نائما في القصة كلها إلا ما يدل عليه قوله ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام، فلعل قوله استيقظت بمعنى أصبحت أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته ويدل عليه أن مسراه لم يكن طول ليله وإنما كان في بعضه وقد يكون قوله استيقظت وأنا في المسجد الحرام لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السموات والأرض وخامر باطنه من مشاهدة الملإ الأعلى وما رأى من آيات ربه الكبرى فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام ووجه ثالث أن يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ولكنه أسرى بجسده وقلبه حاضر ورؤيا الأنبياء حق تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم وقد مال بعض أصحاب الاشارات إلى نحو من هذا قال تغميض
__________
(قوله الحديبية) بتخفيف المثناة التحتية قبل هاء التأنيث، كذا عن الشافعي وأهل اللغة وبعض المحدثين وقال أكثر المحدثين بتشديدها وهى قرية بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة على نحو مرحلة من مكة (قوله خامر) بالخاء المعجمة: أي خالط (*)

(1/192)


عينيه لئلا يشغله شئ من المحسوسات عن الله تعالى ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات * ووجه رابع وهو أن يعبر بالنوم ههنا عن هيئة النائم من الاضطجاع ويقويه قوله في رواية عبد بن حميد عن همام: بينا
أنا نائم وربما قال مضطجع وفى رواية هدبة عنه بينا أنا نائم في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجع وقوله في الرواية الأخرى بينا النائم واليقظان فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالبا وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات من النوم وذكر شق البطن ودنو الرب عز وجل الواقعة في هذا الحديث إنما هي من رواية شريك عن أنس فيه منكرة من روايته إذ شق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره صلى الله عليه وسلم وقبل النبوة ولأنه قال في الحديث قيل أن يبعث.
والإسراء بإجماع كان بعد المبعث.
فهذا كله يوهن ما وقع في رواية أنس مع أن أنسا قد بين من غير طريق أنه إنما رواه عن غيره وأنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فقال مرة عن مالك ابن صعصعة وفى كتاب مسلم لعله عن مالك بن صعصعة على الشك وقال
__________
(قوله هو همام) بتشديد الميم وفتح الهاء (قوله هدبة) بضم الهاء وإسكان الدال المهملة بعدها موحدة هو ابن خالد القيسي (قوله إذ شق البطن إنما كان في صغره) قال السهيلي: كان شق بطنه صلى الله عليه وسلم مرتين احداهما في الصغر لإزالة حظ الشيطان والأخرى لمل ء قلبه إيمانا وحكمة.
(13 - 1) (*)

(1/193)


مرة كان أبو ذر يحدث وأما قول عائشة ما فقدت جسده فعائشة لم تحدث به عن مشاهدة لأنها لم تكن حينئذ زوجه ولا في سن من يضبط ولعلها لم تكن ولدت بعد على الخلاف في الإسراء متى كان فإن الإسراء كان في أول الإسلام على قول الزهري ومن وافقه بعد المبعث بعام ونصف وكانت عائشة في الهجرة بنت نحو ثمانية أعوام وقد قيل كان الإسراء لخمس قبل الهجرة وقيل قبل الهجرة بعام والأشبه أنه لخمس والحجة لذلك تطول ليست من غرضنا فإذا لم تشاهد ذلك
عائشة دل أنها حدثت بذلك عن غيرها فلم يرجح خبرها على خبر غيرها وغيرها يقول خلافه مما وقع نضأ في حديث أم هانئ وغيره وأيضا فليس حديث عائشة رضى الله عنها بالثابت والأحاديث الأخر اثبت لسنا نعنى حديث أم هانئ وما ذكرت فيه خديجة وأيضا فقد روى في حديث عائشة ما فقدت ولم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالمدينة وكل هذا يوهنه بل الذى يدل عليه صحيح قولها إنه بجسده لإنكارها أن تكون رؤياه لربه رؤيا عين ولو كانت عندها مناما لم تنكره فإن قيل فقد قال تعالى (ما كذب الفؤاد من رأى) فقد جعل ما رآه
__________
(قوله بعد البعث) بعده بعام ونصف، واختلف في الشهر الذى أسرى صلى الله عليه وسلم فيه فقيل ربيع الأول، وجزم به النووي في فتاويه، وقيل في ربيع الآخر وجزم به النووي في مسلم تبعا للقاضى أبى الفضل المصنف، وقيل في رجب وجزم به النووي في الروضة وقال الواقدي في رمضان، وقال الماوردى في شوال (قوله يوهن) بسكون الواو كسر الهاء المخففة، ويجوز فتح الواو تشديد الهاء (*)

(1/194)


للقلب وهذا يدل على أنه رؤيا نوم ووحى لا مشاهدة عين وحس قلنا يقابله قوله تعالى (ما زاغ البصر وما طغى) فقد أضاف الأمر للبصر وقد قال أهل التفسير في قوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى) أي لم يوهم القلب العين غير الحقيقة بل صدق رؤيتها وقيل ما أنكر قلبه ما رأته عينه.
(فصل) وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه جل وعز فاختلف السلف فيها فأنكرته عائشة رضى الله عنها * حدثنا أبو الحسين سراج ابن عبد الملك الحافظ بقراءتي عليه قال حدثنى أبى وأبو عبد الله بن
عتاب الفقيه قالا حدثنا القاضى يونس بن مغيث حدثنا أبو الفضل الصقيلى حدثنا ثابت بن قاسم بن ثابت عن أبيه وجده قالا حدثنا عبد الله بن على حدثنا محمود بن آدم حدثنا وكيع عن ابن أبى خالد عن عامر عن مسروق أنه قال لعائشة رضى الله عنها يا أم المؤمنين هل رأى محمد ربه فقالت لقد قف شعرى مما قلت ثلاث من حدثك بهن فقد كذب من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت (لا تدركه الأبصار) الآية وذكر الحديث وقال جماعة بقول عائشة رضى الله عنها وهو المشهور عن ابن مسعود ومثله عن أبى هريرة أنه قال إنما
__________
(قوله الصقلى) بفتح الصاد المهملة والقاف، كذا ضبطه ابن خلكان في ترجمة ابن الزلاق الشاعر نسبة إلى صقلية: جزيرة من جزائر بحر الغرب (قوله عن عامر) هو الصواب لا ما يقع في بعض النسخ وهو عن مجاهد.
(*)

(1/195)


رأى جبريل واختلف عنه.
وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه رآه بعينه وروى عطاء عنه أنه رآه بقلبه وعن أبى العالية عنه رآه بفؤاده مرتين وذكر ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس رضى الله عنهما يسأله هل رأى محمد ربه فقال نعم والأشهر عنه أنه رأى ربه بعينه روى ذلك عنه من طرق وقال إن الله تعالى اختص موسى بالكلام وإبراهيم بالخلة ومحمدا بالرؤية وحجته قوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى) قال الماوردى قيل إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم فرآه محمد مرتين وكلمه موسى مرتين *
وحكى أبو الفتح الرازي وأبو الليث السمرقندى الحكاية عن كعب وروى عبد الله بن الحارث قال اجتمع ابن عباس وكعب فقال ابن عباس أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدا قد رأى ربه مرتين فكبر كعب حتى جاوبته الجبال وقال إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلمه موسى ورآه محمد بقلبه وروى شريك عن أبى ذر رضى الله عنه في تفسير الآية قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه * وحكى السمرقندى عن
__________
(قوله وروى عطاء) هو ابن أبى رباح المكى الفقيه (قوله وعن أبى العالية) هو رفيع بن مهران الرياحي (قوله عبد الله بن الحارث) هو زوج أخت محمد بن سيرين روى هذا الحديث مرسل (*)

(1/196)


محمد بن كعب القرظى وربيع بن انس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل هل رأيت ربك قال رأيته بفؤادي ولم أره بعينى وروى مالك ابن يخامر عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربى وذكر كلمة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث * وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه وحكاه أبو عمر الطلمنكى عن عكرمة * وحكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود * وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة هل رأى محمد ربه فقال نعم * وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه: رآه رآه حتى انقطع نفسه يعنى نفس أحمد وقال أبو عمر قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار وقال سعيد بن جبير لا أقول رآه ولا لم يره وقد اختلف في تأويل الآية عن ابن عباس وعكرمة
والحسن وابن مسعود فحكى عن ابن عباس وعكرمة رآه بقلبه وعن
__________
(قوله سئله هل رأيت) هذا الحديث مرسل لأن محمد بن كعب والربيع تابعيان (قوله ابن يخامر) بضم المثناة التحتية وتخفيف الخاء المعجمة وكسر الميم بعدها راء، قال المزى حديث مالك بن يخامر عن معاذ مبين في بعض الروايات أنه في النوم (قوله وحكى عبد الرزاق) هو ابن همام بن رافع الحافظ الصغانى صاحب التصانيف، مات سنة إحدى عشرة ومائتين أخرج له الأئمة الستة (قوله الطلمنكى) بفتح الطاء المهملة واللام والميم والنون والكاف الإمام الحافظ المقرى (قوله وقال أبو عمر الظاهر أنه الطلمنكى المتقدم (*)

(1/197)


الحسن وابن مسعود رأى جبريل وحكى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أنه قال رآه وعن ابن عطاء في قوله تعالى (ألم نشرح لك صدرك) قال شرح صدره للرؤية وشرح صدر موسى للكلام وقال أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري رضى الله عنه وجماعة من أصحابه أنه رأى الله تعالى ببصره وعيسى رأسه وقال كل آية أوتيها نبى من الأنبياء عليهم السلام فقد أوتى مثلها نبينا صلى الله عليه وسلم وخص من بينهم بتفضيل الرؤية ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز أن يكون.
قال القاضى أبو الفضل وفقه الله والحق الذى لا امتراء فيه أن رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا وليس في العقل ما يحيلها والدليل على جوازها في الدنيا سؤال موسى عليه السلام لها ومحال أن يجهل نبى ما يجوز على الله وما لا يجوز عليه بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل ولكن وقوعه ومشاهداته من الغيب الذى لا يعلمه إلا من علمه الله فقال له الله تعالى (لن تراني) أي لن تطيق ولا تحتمل
رؤيتي ثم ضرب له مثلا مما هو أقوى من بنية موسى وأثبت وهو الجبل وكل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته في الدنيا بل فيه جوازها على الجملة وليس في الشرع دليل قاطع على استحالتها ولا امتناعها إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى (لا تدركه الأبصار) لاختلاف التأويلات في الآية وإذ ليس

(1/198)


يقتضى قول من قال في الدنيا الاستحالة وقد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية وعدم استحالتها على الجملة وقد قيل لا تدركه أبصار الكفار وقيل (لا تدركه الأبصار) لا تحيط به وهو قول ابن عباس وقد قيل لا تدركه الأبصار وإنما يدركه المبصرون وكل هذه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية ولا استحالتها وكذلك لا حجة لهم بقوله تعالى (لن تراني) وقوله (تبت إليك) لما قدمناه ولأنها ليس على العموم ولأن من قال معناها لن تراني في الدنيا إنما هو تأويل وأيضا فليس فيه نص الامتناع وإنما جاءت في حق موسى وحيث تتطرق التأويلات تتسلط الاحتمالات فليس للقطع إليه سبيل وقوله (تبت إليك) أي من سؤالي ما لم تقدره لى وقد قال أبو بكر الهذلى في قوله (لن تراني) أي ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلى في الدنيا وأنه من نظر إلى مات وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين ما معناه أن رؤيته تعالى في الدنيا ممتنعة لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم وكونها متغيرة عرضا للآفات والفناء فلم تكن لهم قوة على الرؤية فإذا كان في الآخرة وركبوا تركيبا آخر ورزقوا قوى ثابتة باقية وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم قووا بها
على الرؤية وقد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس رحمه الله قال
__________
(قوله أن رؤيته تعالى في الدنيا ممتنعة لضعف تركيب أهل الدنيا) قال المزى يؤيده ما في مسلم في حديث الدجال فاعلموا أنه أعور وأن الله ليس بأعور، وإن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت (*)

(1/199)


لم ير في الدنيا لأنه باق ولا يرى الباقي بالفانى فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصار باقية رئى الباقي بالباقي وهذا كلام حسن مليح وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع في حقه وقد تقدم ما ذكر في قوة بصر موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ونفوذ إدراكهما بقوة إلهية منحاها لإدراك ما أدركاه ورؤية ما رأياه والله أعلم.
وقد ذكر القاضى أبو بكر في أثناء أجوبته عن الآيتين ما معناه أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خر صعقا وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له واستنبط ذلك والله أعلم من قوله (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) ثم قال (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) وتجليه للجبل هو ظهوره له حتى رآه على هذا القول وقال جعفر بن محمد شغله بالجبل حتى تجلى ولولا ذلك لمات صعقا بلا إفافة وقوله هذا يدل على أن موسى رآه وقد وقع لبعض المفسرين في الجبل أنه رآه وبرؤية الجبل له استدل من قال برؤية محمد نبينا
__________
(قوله وقد ذكر القاضى أبو بكر) يعنى الباقلانى لأن القاضى أبا بكر ابن العربي معاصر للمصنف لأن مولده سنة ثمان وستين وأربعمائة ومماته سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة
ومولد المصنف سنة ست وسبعين وأربعمائة، ومماته سنة أربع وأربعين وخمسمائة (قوله وأن الجبل رأى ربه) قال الإمام الرازي في المعلم: فخلق الله تعالى في الجبل حياة وعقلا وفهما وخلق فيه الرؤية فرأى بها.
(*)

(1/200)


له إذ جعله دليلا على الجواز ولا مرية في الجواز إذ ليس في الآيات نص في المنع.
وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع أيضا ولا نص إذ المعول فيه على آيتى النجم والتنازع فيهما مأثور والاحتمال لهما ممكن ولا أثر قاطع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وحديث ابن عباس خبر عن اعتقاده لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجب العمل باعتقاد مضمنه ومثله حديث أبى ذر في تفسير الآية وحديث معاذ محتمل للتأويل وهو مضطرب الإسناد والمتن وحديث أبى ذر الآخر مختلف محتمل مشكل فروى: نور أنى أراه، وحكى بعض شيوخنا أنه روى: نوراني أراه، وفى حديثه الآخر سألته فقال رأيت نورا وليس يمكن الاحتجاج بواحد منها على صحة الرؤية فإن كان الصحيح رأيت نورا فهو قد أخبر أنه لم ير الله تعالى وإنما رأى نورا منعه وحجبه عن رؤية الله تعالى وإلى هذا يرجع قوله نور أنى أره أي كيف أراه مع حجاب النور المغشى للبصر وهذا مثل ما في الحديث الآخر حجابه النور وفى
__________
(قوله نور أنى أره) بهمزة مفتوحة ونون مشددة مفتوحة بمعنى كيف: قال المازرى الضمير في أراه عائد على الله تعالى، ومعنى الكلام أن النور منعنى من الرؤية كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائى وبينه، وروى نوراني بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء ويحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما سبق،
وقال المزى هذا تصحيف، والصواب الأول يدل عليه، قوله رأيت نورا وقوله حجابه النور.
(*)

(1/201)


الحديث الآخر لم أره بعينى ولكن رأيته بقلبي مرتين وتلا (ثم دنا فتدلى) والله تعالى قادر على خلق الإدراك الذى في البصر في القلب أو كيف شاء لا إله غيره فإن ورد حديث نص بين في الباب اعتقد ووجب المصير إليه إذ لا استحالة فيه ولا مانع قطعي يرده والله الموفق للصواب.
(فصل) وأما ما ورد في هذه القصة من مناجاته لله تعالى وكلامه معه بقوله (فأوحى إلى عبده ما أوحى) إلى ما تضمنته الأحاديث فأكثر المفسرين على أن الموحى هو الله عز وجل إلى جبريل وجبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلا شذوذا منهم فذكر عن جعفر بن محمد الصادق قال أوحى إليه بلا واسطة ونحوه عن الواسطي وإلى هذا ذهب بعض المتكلمين أن محمدا كلم ربه في الإسراء وحكى عن الأشعري وحكوه عن ابن مسعود وابن عباس وأنكره آخرون وذكر النقاش عن ابن عباس في قصة الإسراء عنه صلى الله عليه وسلم في قوله دنا فتدلى قال فارقني جبريل فانقطعت الأصوات عنى فسمعت كلام ربى وهو يقول: ليهدأ روعك يا محمد ادن ادن.
وفى حديث أنس في الإسراء نحو منه وقد احتجوا في هذا بقوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
__________
(قوله ليهدأ) بدال مهملة بعدها همزة، والروع بفتح الراء: الفزع (*)

(1/202)


أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء) فقالوا هي ثلاثة أقسام من وراء حجاب كتكليم موسى وبإرسال الملائكة كحال جميع الأنبياء وأكثر أحوال نبينا صلى الله عليه وسلم الثالث قوله وحيا ولم يبق من تقسيم صور الكلام إلا المشافهة مع المشاهدة وقد قيل الوحى هنا هو ما يلقيه في قلب النبي دون واسطة وقد ذكر أبو بكر البزار عن علي في حديث الإسراء ما هو أوضح في سماع النبي صلى الله عليه وسلم لكلام الله من الآية فذكر فيه: فقال الملك الله أكبر الله أكبر فقيل لى من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أكبر أنا أكبر وقال في سائر كلمات الأذان مثل ذلك ويجئ الكلام في مشكل هذين الحديثين في الفضل بعد هذا مع ما يشبهه وفى أول فصل من الباب منه وكلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ومن اختصه من أنبيائه جائز غير ممتنع عقلا ولا ورد في الشرع قاطع يمنعه فإن صح في ذلك خبر اعتمد عليه وكلامه تعالى لموسى كائن حق مقطوع به نص ذلك في الكتاب وأكده بالمصدر دلالة على الحقيقة ورفع مكانه على ما ورد في الحديث في السماء السابعة بسبب كلامه ورفع محمدا فوق هذا كله حتى بلغ مستوى وسمع صريف الأقلام فكيف يستحيل في حق هذا أو يبعد سماع الكلام ؟ فسبحان من خص من شاء بما شاء وجعل بعضهم فوق بعض درجات.
(فصل) وأما ما ورد في حديث الإسراء وظاهر الآية من الدنو

(1/203)


والقرب من قوله (دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) فأكثر المفسرين أن الدنو والتدلى منقسم ما بين محمد وجبريل عليهما السلام أو مختص
بأحدهما من الآخر أو من السدرة المنتهى قال الرازي وقال ابن عباس هو محمد دنا فتدلى من ربه وقيل معنى دنا قرب وتدلى زاد في القرب وقيل هما بمعنى واحد أي قرب وحكى مكى والماوردي عن ابن عباس هو الرب دنا من محمد فتدلى إليه أي أمره وحكمه * وحكى النقاش عن الحسن قال دنا من عبده محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فقرب منه فأراه ما شاء أن يريه من قدرته وعظمته قال وقال ابن عباس هو مقدم ومؤخر تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه قال فارقني جبريل وانقطعت عنى الأصوات وسمعت كلام ربى عز وجل وعن أنس في الصحيح (عرج بى جبريل إلى سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه بما شاء وأوحى إليه خمسين صلاة) وذكر حديث الإسراء وعن محمد بن
__________
(قوله قاب قوسين) في الكشاف أي مقدار قوسين عربيتين والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس: المقدار والتقدير في الآية فكان مسافة قربه مثل قاب قوسين، وفى أنوار التنزيل: والمقصود من الآية تمثيل تحقيق استماعه لما يوحى إليه بنفى البعد والملبس (قوله الرفرف) في البيان: الرفرف البساط) وقيل لما كان من الديباج وقيل الفراش وفى الصحاح الرفرف ثياب خضر يتخذ منها المحابس: الواحدة رفرفة والرفرف أيضا كسر الخبا وجوانب الدرع وما يدلى منه: الواحدة رفرفة (*)

(1/204)


كعب هو محمد دنا من ربه فكان قاب قوسين.
وقال جعفر بن محمد أدناه ربه منه حتى كان منه كقاب قوسين.
وقال جعفر بن محمد والدنو من الله لا حد له ومن العباد بالحدود.
وقال أيضا انقطعت الكيفية
عن الدنو: ألا ترى كيف حجب جبريل عن دنوه ودنا محمد إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان فتدلى بسكون قلبه إلى ما أدناه وزال عن قلبه الشك والارتياب ؟ قال القاضى أبو الفضل وفقه الله: اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب هنا من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى بل كما ذكرنا عن جعفر بن محمد الصادق ليس بدنو حد وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه.
وقربه منه إبانة عظيمه منزلته وتشريف رتبته وإشراق أنوار معرفته ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته ومن الله تعالى له مبرة وتأنيس وبسط وإكرام ويتأول فيه ما يتأول في قوله: ينزل ربنا إلى سماء الدنيا.
على أحد الوجوه نزول إفضال وإجمال وقبول وإحسان قال الواسطي من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثم مسافة بل كل ما دنا بنفسه من الحق تدلى بعدا يعنى عن درك حقيقته إذ لا دنو للحق ولا بعد وقوله قاب قوسين أو أدنى فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل على هذا كان عبارة عن نهاية القرب ولطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم وعبارة عن إجابة لرغبة وقضاء
__________
(قوله مدى) بفتح الميم وتخفيف المهملة والتنوين أي غاية (قوله مبرة) أي برا (*)

(1/205)


المطالب وإظهار التحفى وإنافة المنزلة والمرتبة من الله له ويتأول فيه ما يتأول في قوله (من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتانى يمشى أتيته هرولة) قرب بالإجابة والقبول وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول.
(فصل) في ذكر تفضيله صلى الله عليه وسلم في القيامة بخصوص الكرامة حدثنا القاضى أبو على حدثنا أبو الفضل وأبو الحسين قالا أخبرنا أبو يعلى حدثنا السنجى حدثنا ابن محبوب حدثنا الترمذي حدثنا الحسين ابن يزيد الكوفى حدثنا عبد السلام بن حرب عن ليث عن الربيع ابن أنس عن أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد بيدى وأنا أكرم ولد آدم على ربى ولا فخر) * وفى رواية ابن زخر عن الربيع بن أنس في لفظ هذا الحديث
__________
(قوله التحفى) بالمثناة الفوقية والحاء المهملة المفتوحة والفاء المشددة المكسورة أي المبالغة في الإلطاف والإكرام (قوله وإنافة) بكسر الهمزة وتخفيف النون أي زيادة (قوله وأبو الحسين) هو المبارك بن عبد الجبار، وفى بعض النسخ الحسن غير مصغر وليس بالحسين (قوله عن ليث) هو ابن أبى سليم بضم السين وفتح اللام أبو بكر القرشى مولاهم الكوفى أحد العلماء، يروى عن مجاهد وطبقته (قوله ولا فخر) أي قلت ذلك امتثالا بأمر ربى لا افتخارا (قوله ابن زخر) الإفريقى العابد (*)

(1/206)


(أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا شفيعهم إذا حبسوا وأنا مبشرهم إذا أبلسوا لواء الكرم بيدى وأنا أكرم ولد آدم على ربى ولا فخر ويطوف على ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون) وعن أبى هريرة رضى الله عنه (وأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيرى) وعن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما نبى يومئذ
آدم فمن سواه إلا تحت لوائى وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر) وعن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) وعن ابن عباس رضى الله عنهما (أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح لى فأدخلها فيدخلها معى فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر) وعن أنس (أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا) وعن أنس
__________
(قوله أبلسوا) أي يئسوا ومنه قوله تعالى (فإذا هم مبلسون) (قوله حلق الجنة) الحلقة بالتسكين الدروع، وكذلك حلقة الباب وحلقة القوم، والجمع: الحلق على غير قياس، وقال الأصمعى: الجمع حلق مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع، وحكى يونس عن أبى عمرو بن العلاء حلقة في الواحد بالتحريك والجمع حلق وحلقات (*)

(1/207)


رضى الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا سيد الناس يوم القيامة وتدرون لم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين.
) وذكر حديث الشفاعة وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال (أطمع أن أكون أعظم الأنبياء أجرا يوم القيامة) وفى حديث آخر (أما ترضون أن يكون إبراهيم وعيسى فيكم يوم القيامة ؟ ثم قال إنهما في أمتى يوم القيامة: أما إبراهيم فيقول أنت دعوتي وذريتي فاجعلني من أمتك وأما عيسى فالأنبياء إخوة بنو علات أمهاتهم شتى وإن عيسى أخى ليس بينى وبينه نبى وأنا أولى الناس به) قوله أنا سيد الناس يوم القيامة هو سيدهم في الدنيا ويوم القيامة ولكن أشار صلى الله عليه وسلم لانفراده فيه بالسودد والشفاعة دون غيره إذ لجأ الناس إليه في ذلك فلم يجدوا
سواه والسيد هو الذى يلجأ الناس إليه في حوائجهم فكان حينئذ سيدا منفردا من بين البشر لم يزاحمه أحد في ذلك ولا ادعاه كما قال تعالى (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) والملك له تعالى في الدنيا والآخرة لكن في الآخرة انقطعت دعوى المدعين لذلك في الدنيا وكذلك لجأ إلى محمد صلى الله عليه وسلم جميع الناس في الشفاعة فكان
__________
(قوله بنو علات) العلات بفتح العين المهملة جمع علة وهى الضرة سميت بذلك لأن الرجل تزوجها على أولى كانت قبلها، ثم عل من هذه والعلل الشرب الثاني فبنوا العلات أولاد الرجل من نسوة شئ، والمعنى أن الأنبياء متفقون في أصول الشريعة متباينون في فروعها.
(*)

(1/208)


سيدهم في الأخرى دون دعوى وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حوضى مسيرة شهر وزواياه سواء وماؤه أبيض من الورق وريحه أطيب من المسك كيزانه كنجوم السماء من شرب منه لم يظمأ أبدا) وعن أبى ذر نحوه وقال طوله ما بين عمان إلى أيلة يشخب فيه ميزابان من الجنة * وعن ثوبان مثله وقال أحدهما من ذهب والآخر من ورق، وفى رواية حارثة بن وهب كما بين المدينة وصنعاء
__________
(قوله وعن عبد الله بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم (قوله من الورق) بفتح الواو وكسر الراء وهى الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة بتعويض الهاء في آخره عن الواو في أوله (قوله عمان) قال ابن الأثير حديث الحوض من مقامي إلى عمان بفتح العين
وتشديد الميم مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء فأما بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين وله ذكر في الحديث وقال السهيلي عمان بضم العين وتخفيف الميم قرية باليمن سميت بعمان بن سنان من ولد إبراهيم فيما ذكروا، وأما بفتح العين وتشديد الميم فقرية بالشام قرب دمشق سميت بعمان بن لوط بن هاران كان يسكنها فيما ذكروا وقال المزى يتعين ضم العين والتخفيف لقوله في الحديث الآخر أيلة وصنعاء (قوله إلى أيلة) بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية بلدة في طرف الشام على ساحل البحر متوسطة بين المدينة الشريفة وبين دمشق، وبينها وبين مصر نحو ثمان مراحل (قوله يشخب) بضم الخاء المعجمة وفتحها (قوله حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة (قوله وصنعاء) بفتح الصاد المهملة وسكون النون بعدها عين مهملة وهمزة ممدودة: مدينة اليمن العظمى وهى صنعاء اليمن ويقال في النسب إليها صنعاني على غير قياس، وأما صنعاء الروم فقرية في الجانب الغربي من دمشق في ناحية الروم (14 - 1) (*)

(1/209)


وقال أنس أيلة وصنعاء وقال ابن عمر كما بين الكوفة والحجر الأسود، وروى حديث الحوض أيضا أنس وجابر بن سمرة وابن عمر وعقبة ابن عامر وحارثة بن وهب الخزاعى والمستورد وأبو برزة الأسلمي وحذيفة بن اليمان وأبو أمامة وزيد بن أرقم وابن مسعود وعبد الله ابن زيد وسهل بن سعد وسويد بن جبلة وأبو بكر وعمر بن الخطاب وابن بريدة وأبو سعيد الخدرى وعبد الله الصنابحى وأبو هريرة والبراء وجندب وعائشة وأسماء بنتا إبى بكر وأبو بكرة وخولة بنت قيس، وغيرهم رضى الله عنهم أجمعين.
(فصل) في تفضيله بالمحبة والخلة: جاءت بذلك الآثار الصحيحة واختص على ألسنة المسلمين بحبيب الله.
أخبرنا أبو القاسم بن إبراهيم الخطيب وغيره عن كريمة بنت أحمد حدثنا أبو الهيثم وحدثنا حسين
__________
(قوله والمستورد) بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح المثناة الفوقية هو ابن شداد بالشين المعجمة (قوله وأبو برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء بعدها زاى (قوله وسويد بن جبلة) سويد بضم السين المهملة وفتح الواو وجبلة بفتح الجيم والباء الموحدة (قوله الصنابحى) بضم الصاد المهملة وتخفيف النون وكسر الباء الموحدة والحاء المهملة، قيل صحابي نسب إلى جده اسمه صنابح (قوله جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها، هو ابن عبد الله بن صعنان البجلى (قوله وخولة بنت قيس) هي الأنصارية النجارية زوج حمزة بن عبد المطلب وقيل زوج حمزة خولة بنت تامر وقيل تامر لقب قيس (قوله عن كريمة) قال ابن ماكولا كريمة بفتح الكاف وكسر الراء ثم قال وكريمة بنت أحمد بن محمد المروزية سمعت جامع البخاري من الكشميهنى.
(*)

(1/210)


ابن محمد الحافظ سماعا عليه حدثنا القاضى أبو الوليد حدثنا عبد بن أحمد حدثنا أبو الهيثم حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف حدثنا محمد ابن إسماعيل حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبو عامر حدثنا فليح حدثنا أبو النضر عن بسر بن سعيد عن أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر) وفى حديث آخر (وإن صاحبكم خليل الله) ومن طريق عبد الله بن مسعود وفد اتخذ الله صاحبكم خليلا، وعن ابن عباس قال جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه قال فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم عجبا إن الله اتخذ إبراهيم من خلقه
خليلا وقال آخر ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه الله تكليما وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحه وقال آخر آدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلم وقال (قد سمعت كلامكم وعجبكم إن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك وموسى نجى الله وهو كذلك وعسيى روح الله وهو كذلك وموسى نجى الله وهو كذلك وعيسى روح الله وهو كذلك وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر
__________
(قوله عبد بن أحمد) من غير إضافة عبد إلى ابن هو أبو ذر الهروي (قوله فريح) بضم الفاء وفتح اللام هو ابن سليمان العدوى المدنى (قوله أبو النضر) بالضاد المعجمة هو سالم بن أبى أمية المدنى (قوله عن بسر) بضم الموحدة وسكون السين المهملة.
(*)

(1/211)


وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لى فيد خلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر) في حديث أبى هريرة رضى الله عنه من قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنى اتخذتك خليلا فهو مكتوب في التوراة اس حبيب الرحمن قال القاضى أبو الفضل وفقه الله: اختلف في تفسير الخلة وأصل اشتقاقها فقيل الخليل المنقطع إلى الله الذى ليس في انقطاعه إليه ومحبته له اختلال وقيل الخليل المختص واختار هذا القول غير واحد وقال بعضهم أصل الخلة الاستصفاء وسمى إبراهيم خليل الله لأنه يوالى فيه ويعادي فيه وخلة الله له نصره وجعله إماما لمن بعده وقيل الخليل أصله الفقير المحتاج المنقطع مأخوذ من الخلة وهى الحاجة فسمى بها إبراهيم لأنه قصر حاجته على ربه وانقطع إليه بهمه ولم يهمه ولم يجعله قبل
غيره إذ جاءه جبريل وهو في المنجنيق ليرمى به في النار فقال ألك حاجة ؟
__________
(قوله فهو مكتوب في التوراة اس) هكذا وقعت هذه اللفظة في النسخ المعتمدة على هذه الصورة وهى ألف بعدها سين مهملة ثم جرة، وفى بعض النسخ مكتوب بازائها على الطرة ذكر ابن جبير بخطه في كتابه أن هذه اللفظة وقعت في طرة (الأم) المبيضة بخط مؤلفه كما هي هنا مبهمة فحكيتها كما وقعت (قوله من الحلة بفتح الخاء المعجمة وهى الحاجة (قوله قبل غيره) بكسر القاف وفتح الموحدة (قوله وهو في المنجنيق) بفتح الميم والجيم وبكسر الميم ذكرهما أبو عبيد بن سلام في الغريب وفى الصحاح والمنجنيق التى يرمى بها الحجارة معربة وأصلها بالفارسية - من جى نيك - أي ما أجودنى، وهى مؤنثة.
(*)

(1/212)


قال: أما إليك فلا، وقال أبو بكر بن فورك: الخلة صفاء المودة التى توجب الاختصاص بتخلل الأسرار وقال بعضهم أصل الخلة المحبة ومعناها الإسعاف والإلطاف والترفيع والتشفيع، وقد بين ذلك في كتابه تعالى بقوله (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، قل فلم يعذبكم بذنوبكم) فأوجب للمحبوب أن لا يؤاخذ بذنوبه قال هذا والخلة أقوى من البنوة لأن البنوة قد تكون فيها العداوة كما قال تعالى (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) الآية ولا يصح أن تكون عداوة مع خلة فإذا تسمية إبراهيم ومحمد عليهما السلام بالخلة إما بإنقطاعهما إلى الله ووقف حوائجهما عليه والانقطاع عمن دونه والإضراب عن الوسائط والأسباب أو لزيادة الاختصاص منه تعالى لهما وخفى ألطافه عندهما وما خالل بواطنهما من أسرار إلهيته ومكنون غيوبه ومعرفته أو لاستصفائه لهما واستصفاء قلوبهما عمن سواه حتى
لم يخاللهما حب لغيره ولهذا قال بعضهم الخليل من لا يتسع قلبه لسواه وهو عندهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) لكن أخوة الإسلام واختلف العلماء أرباب القلوب أيهما أرفع: درجة الخلة أو درجة المحبة ؟ فجعلهما بعضهم سواء فلا يكون الحبيب إلا خليلا ولا الخليل إلا حبيبا لكنه خص إبراهيم بالخلة ومحمدا
__________
(قوله والأسرار) بفتح الهمزة جمع سر (قوله وخفى إلطافه) بالخاء المعجمة أو المهملة والإلطاف بكسر الهمزة مصدر، وبفتحها جمع لطف.
(*)

(1/213)


بالمحبة وبعضهم قال درجة الخلة ارفع واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذا خليلا غير ربى عز وجل) فلم يتخذه وقد أطلق المحبة لفاطمة وابنيها وأسامة وغيرهم وأكثرهم جعل المحبة أرفع من الخلة لأن درجة الحبيب نبينا أرفع من درجة الخليل إبراهيم وأصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب ولكن هذا في حق من يصح الميل منه والانتفاع بالوفق وهى درجة المخلوق فأما الخالق فمنزه عن الأعراض فمحبته لعبده تمكينه من سعادته وعصمته وتوفيقه وتهيئة أسباب القرب وإفاضة رحمته عليه وقصواها كشف الحجب عن قلبه حتى يراه بقلبه وينظر إليه ببصيرته فيكون كما قال في الحديث (فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ولسانه الذى ينطق به) ولا ينبغى أن يفهم من هذا سوى التجرد لله والانقطاع إلى الله والأعراض عن غير الله وصفاء القلب لله وإخلاص الحركات لله كما قالت عائشة رضى الله عنها كان خلقه القرآن برضاه يرضى وبسخطه يسخط، ومن هذا عبر بعضهم عن الخلة بقوله:
قد تخللت مسلك الروح منى * وبذا سمى الخليل خليلا فإذا ما نطقت كنت حديثى * وإذا ما سكت كنت الغليلا فإذا مزية الخلة وخصوصية المحبة حاصلة لنبينا محمد صلى الله عليه
__________
(قوله وقصواها) بضم القاف والقصر (قوله كنت الغليلا) في الصحاح الغلة حرارة العطش وكذلك الغليل يقول منه غل الرجل يغل غلا فهو مغلول على ما لم يسم فاعله (*)

(1/214)


وسلم بما دلت عليه الآثار الصحيحة المنتشرة المتلقاة بالقبول من الأمة وكفى بقوله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله) الآية، حكى أهل التفسير أن هذه الآية لما نزلت قال الكفار إنما يريد محمد أن نتخذه حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم فأنزل الله غيظا لهم ورغما على مقالتهم هذه الآية (قل أطيعوا الله والرسول) فزاده شرفا بأمرهم بطاعته وقرنها بطاعته ثم توعدهم على التولى عنه بقوله تعالى (فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) * وقد نقل الإمام أبو بكر بن فورك عن بعض المتكلمين كلاما في الفرق بين المحبة والخلة يطول جملة إشاراته إلى تفضيل مقام المحبة على الخلة ونحن نذكر منه طرفا يهدى إلى ما بعده، فمن ذلك قولهم: الخليل يصل بالواسطة من قوله (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض) والحبيب يصل إليه به من قوله (فكان قاب قوسين أو أدنى) وقيل الخليل الذى تكون مغفرته في حد الطمع من قوله (والذي أطمع أن يغفر لى خطيئتي والحبيب الذى مغفرته في حد اليقين من قوله (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) الآية والخليل قال (ولا تخزني يوم يبعثون) والحبيب قيل له (يوم لا يخزى الله النبي) فابتديئ بالبشارة قبل
السؤال والخليل قال في المحنة حسبى الله والحبيب قيل له (يا أيها النبي حسبك الله) والخليل قال (واجعل لى لسانه صدق في الآخرين) والحبيب قيل له (ورفعنا لك ذكرك) أعطى بلا سؤال، والخليل قال

(1/215)


(واجنبني وبى أن نعبد الأصنام) والحبيب قيل له (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) وفيما ذكرناه تنبيه على مقصد أصحاب المقال من تفضيل المقامات والأحوال و (كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا)
فصل في تفضيله صلى الله عليه وسلم بالشفاعة والمقام المحمود قال الله تعالى (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) أخبرنا الشيخ أبو على الغساني الجيانى فيما كتب به إلى نحطه حدثنا سراج بن عبد الله القاضى حدثنا أبو محمد الأصيلي حدثنا أبو زيد وأبو أحمد قالا حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا إسماعيل بن أبان حدثنا أبو الأحوص عن آدم بن على قال سمعت ابن عمر يقول إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى كل أمة تتبع نبيها يقولون يا فلان اشفع لنا يا فلان اشفع لنا حتى تنتهى الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه
__________
(قوله على شاكلته) أي عادته أو جبلته التى طبع عليها (قوله أبو الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين (قوله جثى) بضم الجيم وفتح المثلثة المخففة قال ابن الأثير الجثا جمع جثوة بالضم وهو الشئ المجموع ومنه أن الناس يصيرون يوم القيامة جثى جمع جثوة بالضم وهو الشئ المجموع ومنه أن الناس يصيرون يوم القيامة جثى وتروى هذه اللفظة بتشديد المثلثة جمع جاث وهو الذى يجلس على ركبتيه وفى الصحاح الجثوة والجثوة والجثوة ثلاث
لغات: الحجارة المجموعة وجثى الحرم بالضم وجثى الحرم بالكسر أيضا ما اجتمع فيه من حجارة الحمام وجثا على ركبتيه يجثو ويجثى جثوا وجثيا على فعول فيهما وقوم جثى أيضا مثل جلس جلوسا وقوم جلوس ومنه قوله تعالى (ونذر الظالمين فيها جثيا) وجثيا أيضا بكسر الجيم إتباعا لما بعدها من الكسر (*)

(1/216)


وسلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود) وعن أبى هريرة سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى قوله (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) فقال هي الشفاعة * وروى كعب بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم (يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتى على تل ويكسوني ربى حلة خضراء ثم يؤذن لى فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود) * وعن ابن عمر رضى الله عنهما وذكر حديث الشفاعة قال فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة فيومئذ يبعثه الله المقام المحمود الذى وعده * وعن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قيامه عن يمين العرش مقاما لا يقومه غيره يغبطه فيه الأولون والآخرون، ونحوه عن كعب والحسن، وفى رواية هو المقام الذى أشفع لأمتى فيه * وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنى لقائم المقام المحمود قيل وما هو قال ذلك يوم ينزل الله تبارك وتعالى على كرسيه) الحديث * وعن أبى موسى رضى الله عنه عنه صلى القله عليه وسلم (خيرت بين أن يدخل نصف أمتى الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة لأنها أعم أترونها للمتقين، ولكنها للمذنبين الخطائين) * وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قلت
__________
(قوله أترونها) بضم المثناة الفوقية وفتح الراء أي أتظنونها (قوله للمتقين) بالمثناة الفوقية جمع متقى وفى بعض النسخ للمتقين
بالنون والقاف قال الحافظ المزى روى ابن عرفة في جزئه هذا الحديث أترونها للمتقين ولكنها للمذنبين الخاطئين المتلوثين، وأما إذا لم يكن ذكر المتلوثين فيضبط بالوجهين، والمتلوثين بميم مضمومة ومثناة فوقية مفتوحة ومثلثة مكسورة، ولوث الماء: كدره (*)

(1/217)


يا رسول الله ماذا ورد عليك في الشفاعة فقال (شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق لسانه قلبه) * وعن أم حبيبة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اريت ما تلقى أمتى من بعدى وسفك بعضهم دماء بعض وسبق لهم من الله ما سبق للأمم قبلهم فسألت الله أن يؤتينى شفاعة يوم القيامة فيهم ففعل) * وقال حذيفة يجمع الله الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا سكونا لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادى: محمد فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهتدى من هديت وعبدك بين يديك ولك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك تبارك وتعاليت سبحانك رب البيت قال فذلك المقام المحمود الذى ذكر الله) * وقال ابن عباس رضى الله عنهما إذا دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة فيبقى آخر زمرة من الجنة وآخر زمرة من النار فتقول زمرة النار لزمرة الجنة ما نفعكم إيمانكم فيدعون ربهم
__________
(قوله وينفذهم البصر) قال ابن الأثير قال أبو حاتم: أصحاب الحديث يرونه بالذال المعجمة، وإنما هو بالمهملة أي يبلغ أولهم وآخرهم البصر حتى يراهم كلهم ويستوعبهم، من نفذ الشئ وأنفدته (قوله فينادى) بفتح الدال ومحمد بلا تنويل على أنه منادى محذوف الأداة أو بالتنوين، على أنه قائم مقام الفاعل لينادي (قوله والشر ليس إليك) أي لا يتقرب به إليك أو لا يصعد إليك إنما يصعد إليك الكلم الطيب أو لا يضاف
إليك أدبا وإن كنت موجدا له بالحقيقة إذ ليس الشر شرا بالنسبة إلى حكمتك فإنك لا توجد شيئا عبثا (قوله لا ملجأ) بهمزة في آخره والأجود تخفيفها لتناسب (منجا) فإنه مقصور (*)

(1/218)


ويضجون فيسمعهم أهل الجنة فيسألون آدم وغيره بعده في الشفاعة لهم فكل يعتذر حتى يأتو محمد صلى الله عليه سلم فيشفع لهم فذلك المقام المحمود، ونحوه عن بن مسعود أيضا ومجاهد وذكره على بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال جابر بن عبد الله ليزيد الفقير سمعت بمقام محمد، يعنى الذى يبعثه الله فيه قال قلت نعم قال فإنه مقام محمد المحمود الذى يخرج الله به من يخرج يعنى من النار، وذكر حديث الشفاعة في إخراج الجهنميين) وعن أنس نحوه وقال فهذا المقام المحمود الذى وعده، وفى رواية أنس وأبى هريرة وغيرهما دخل حديث بعضهم في حديث بعض قال صلى الله عليه وسلم (يجمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة فيهتمون - أو قال فيلهمون - فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا) ومن طريق آخر عنه ماج الناس بعضهم في بعض، وعن أبى هريرة: وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم مالا يطيقون ولا يحتملون فيقولون ألا تنظرون من يشفع لكم فيأتون آدم فيقولون زاد بعضهم أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شئ اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا ألا ترى ما نحن فيه فيقول إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله
__________
(قوله ليزيد الفقير) هو ابن صهيب: كان يشكو فقار ظهره فقيل له الفقير (*)

(1/219)


مثله ولا يغضب بعده مثله ونهاني عن الشجرة فعصيت نفسي نفسي اذهبوا إلى غيرى اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبدا شكورا ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما بلغنا ألا تشفع لنا إلى ربك فيقول إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله نفسي نفسي قال في رواية أنس ويذكر خطيئته التى أصاب سؤاله ربه بغير علم وفى رواية أبى هريرة رضى الله عنه: وقد كانت لى دعوة دعوتها على قومي اذهبوا إلى غيرى اذهبوا إلى إبراهيم فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقولون أنت نبى الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول إن ربى قد غضب اليوم غضبا فذكر مثله ويذكر ثلاث كلمات كذبهن نفسي نفسي لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله وفى رواية فإنه عبد آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا قال فيأتون موسى فيقول لست لها ويذكر خطيئته التى أصاب وقتله النفس نفسي نفسي ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته فيأتون عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فاوتى فأقول أنا لها فأنطلق فأستادن على ربى فتؤذن لى فإذا رأيته
__________
(قوله عن الشجرة) قيل هي شجرة الكرم، وقيل السنبلة (قوله بلغنا) بفتح الغين المعجمة قال النووي وضبطه بعض المتأخرين بالفتح والإسكان ويدل للأول ألا ترون ما قد بلغكم، ولو كان بالإسكان لقال بلغتم.
(*)

(1/220)


وقعت ساجدا وفى رواية فأتي تحت العرش فأخر ساجدا، وفى رواية فأقوم
بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليها إلا أنه يلهمنيها الله، وفى رواية فيفتح الله على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلى، قال في رواية أبى هريرة فيقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتى يا رب أمتى فيقول أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ولم يذكر في رواية أنس هذا الفصل وقال مكانه ثم أخر ساجدا فيقال لى يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك واشفع تشفع وسل تعطه فأقول يا رب أمتى أمتى فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه فأنطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربى فأحمده بتلك المحامد وذكر مثل الأول وقال فيه مثقال حبة من خردل قال فأفعل ثم أرجع وذكر مثل ما تقدم وقال فيه من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل فأفعل وذكر في المرة الرابعة فيقال لى ارفع رأسك وقل يسمع لك واشفع تشفع وسل تعطه فأقول يا رب ائذن لى فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائى لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله، ومن رواية قتادة عنه قال فلا أدرى في الثالثة أو الرابعة فأقول يا رب ما بقى في النار إلا من حبسه القرآن أي من وجب عليه
__________
(قوله فأخر ساجدا) في مسند احمد أن كل سجدة: جمعة من جمع الدنيا (*)

(1/221)


الخلود * وعن أبى بكر وعقبة بن عامر وأبى سعيد وحذيفة مثله قال فيأتون محمدا فيؤذن له وتأتى الأمانة والرحم فتقومان جنبتى الصراط، وذكر في رواية أبى مالك عن حذيفة فيأتون محمدا فيشفع فيضرب
الصراط فيمرون أولهم كالبرق ثم كالريح والطير شد الرجال ونبيكم صلى الله عليه وسلم على الصراط يقول اللهم سلم سلم حتى يجتاز الناس وذكر آخرهم جوازا الحديث، وفى رواية أبى هريرة فأكون أول من يجيز، وعن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم (يوضع للأنبياء منابر يجلسون عليها ويبقى منبرى لا أجلس عليه قائما بين يدى ربى منتصبا فيقول الله تبارك وتعالى ما تريد أن أصنع بأمتك فأقول يا رب عجل حسابهم فيدعى بهم فيحاسبون فمنهم من يدخل الجنة برحمته ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي ولا أزال أشفع حتى أعطى صكاكا برجال قد أمر بهم إلى النار حتى إن خازن النار ليقول يا محمد ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة، ومن طريق زياد النميري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أنا أول من تنفلق الأرض عن جمجمته ولا فخر وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر ومعى لواء الحمد يوم القيامة وأنا أول من تفتح له الجنة ولا فخر فأتي فآخذ بحلقة الجنة فيقال من هذا ؟ فأقول محمد، فيفتح لى فيستقبلى الجبار تعالى فأخر ساجدا) وذكر
__________
(قوله وشد الرجال) بالجيم هو الصحيح المعروف أي: حزمهم (قوله صكاكا) بكسر الصاد المهملة وتخفيف الكاف جمع صك بفتح الصاد وتشديد الكاف وهو الكتاب (*)

(1/222)


نحو ما تقدم، ومن رواية أنيس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر) فقد اجتمع من اختلاف ألفاظ هذه الآثار أن شفاعته صلى الله عليه وسلم ومقامه المحمود من أول الشفاعات إلى آخرها من حين يجتمع الناس للحشر وتضيق بهم الحاجر ويبلغ منهم العرق والشمس والوقوف مبلغه
وذلك قبل الحساب فيشفع حينئذ لإراحة الناس من الموقف ثم يوضع الصراط ويحاسب الناس كما جاء في الحديث عن أبى هريرة وحذيفة وهذا الحديث أتقن فيشفع في تعجيل من لا حساب عليه من أمته إلى الجنة كما تقدم في الحديث ثم يشفع فيمن وجب عليه العذاب ودخل النار منهم حسبما تقتضيه الأحاديث الصحيحة ثم فيمن قال لا إله إلا الله وليس هذا لسواه صلى الله عليه وسلم وفى الحديث المنتشر الصحيح (لكل نبى دعوة يدعو بها واختبأت دعوتي شفاعة لأمتى يوم القيامة) قال أهل العلم معناه دعوة أعلم أنها تستجاب لهم ويبلغ فيها مرغوبهم وإلا فكم لكل نبى منهم من دعوة مستجابة ولنبينا صلى الله عليه وسلم منها ما لا يعد لكن حالهم عند الدعاء بها بين الرجاء والخوف وضمنت لهم إجابة دعوة فيما شاؤه يدعون بها على يقين من الإجابة، وقد قال محمد بن زياد وأبو صالح عن أبى هريرة في هذا الحديث
__________
(قوله ومن رواية أنيس) بالتصغير وهو أنصارى روى عنه شهر بن حوشب حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أشفع - الحديث - ولم يرو عنه غيره، ذكر ذلك ابن عبد البر (*)

(1/223)


(لكل نبى دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له وأنا أريد أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتى يوم اليامة) وفى رواية أبى صالح (لكل نبى دعوة مستجابة فتعجل كل نبى دعوته) ونحوه في رواية أبى زرعة عن أبى هريرة وعن أنس مثل رواية ابن زياد عن أبى هريرة، فتكون هذه الدعوة المذكورة مخصوصة بالأمة مضمونة الإجابة وإلا فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سأل لأمته أشياء من أمور الدين والدنيا أعطى بعضها ومنع بعضها وادخر لهم هذه الدعوة ليوم الفاقة
وخاتمة المحن وعظيم السؤال والرغبة: جزاه الله أحسن ما جزى نبيا عن أمته وصلى الله عليه وسلم كثيرا.
فصل في تفضيله صلى الله عليه وسلم في الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر والفضيلة حدثنا القاضى أبو عبد الله محمد بن عيسى التميمي والفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد بقراءتي عليهما قالا حدثنا أبو على الغساني حدثنا النمري حدثنا ابن عبد المؤمن حدثنا أبو بكر التمار حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن سلمة حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة وحيوة وسعيد بن أبى أيوب عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا
__________
(قوله حيوة) بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الواو (قوله عن كعب ابن علقمة) وفى بعض النسخ عن كعب عن علقمة وهو غير صواب.
(*)

(1/224)


على فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة) * وفى حديث آخر عن أبى هريرة: الوسيلة أعلى درجة في الجنة * وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لى نهر حافتاه قباب اللؤلؤ قلت لجبريل ما هذا قال هذا الكوثر الذى أعطاكه الله قال ثم ضرب بيده إلى طينته فاستخرج مسكا) وعن عائشة عبد الله بن عمرو مثله قال ومجراه على الدر والياقوت وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج وفى رواية عنه فإذا هو يجرى ولم يشق شقا عليه حوض ترد عليه أمتى
وذكر حديث الحوض ونحوه عن ابن عباس.
وعن ابن عباس أيضا قال الكوثر الخير الذى أعطاه الله إياه وقال سعيد بن جبير والنهر الذى في الجنة من الخير الذى أعطاه الله * وعن حذيفة فيما ذكر صلى الله عليه وسلم عن ربه (وأعطاني الكوثر نهرا من الجنة يسيل في حوضى) وعن ابن عباس في قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) قال ألف قصر من لؤلؤ ترابهن المسك وفيه ما يصلحهن * وفى رواية أخرى وفيه ما ينبغى له من الأزواج والخدم.
(فصل) فإن قلت إذا تقرر من دليل القرآن وصحيح الأثر
__________
(قوله حلت عليه) بتشديد اللام أي نزلت (قوله حافتاه) بتخفيف الفاء (قوله إلى طينه) بكسر الطاء المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها نون وهاء للضمير (15 - 1) (*)

(1/225)


وإجماع الأمة كونه أكرم البشر وأفضل الأنبياء فما معنى الأحاديث الواردة بنهيه عن التفضيل كقوله فيما حدثناه الأسدى قال حدثنا السمرقندى حدثنا الفارسى حدثنا الجلودى حدثنا ابن سفيان حدثنا مسلم حدثنا محمد بن مثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة سمعت أبا العالية يقول حدثنى ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم يعنى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما ينبغى لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى) وفى غير هذا الطريق عن أبى هريرة قال يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ينبغى لعبد - الحديث) وفى حديث أبى هريرة في اليهودي الذى قال والذى اصطفى موسى على البشر فلطمه رجل من الأنصار وقال تقول ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تفضلوا بين الأنبياء وفى رواية
لا تخيرونى على موسى فذكر الحديث وفيه ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى * وعن أبى هريرة من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب * وعن ابن مسعود لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى وفى حديثه الآخر فجاءه رجل فقال يا خير البرية فقال ذاك إبراهيم، فاعلم أن للعلماء في هذه الأحاديث تأويلات (أحدها) أن نهيه عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم فنهى عن التفضيل إذ يحتاج إلى توقيف وأن من فضل بلا علم فقد كذب وكذلك قوله لا أقول إن أحدا أفضل منه لا يقتضى تفضيله هو وإنما

(1/226)


هو في الظاهر كف عن التفضيل (الوجه الثاني) أنه قاله صلى الله عليه وسلم على طريق التواضع ونفى التكبر والعجب وهذا لا يسلم من الاعتراض (الوجه الثالث) ألا يفضل بينهم تضيلا يؤدى إلى تنقص بعضهم أو الغض منه لا سيما في جهة يونس عليه السلام إذ أخبر الله عنه بما أخبر لئلا يقع في نفس من لا يعلم منه بذلك غضاضة وانحطاط من رتبته الرفيعة إذ قال تعالى عنه (إذ أبق إلى الفلك المشحون - إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه) فربما يخيل لمن لا علم عنده حطيطته بذلك (الوجه رابع) منع التفضيل في حق النبوة والرسالة فإن الأنبياء فيها على حد واحد إذ هي شئ واحد لا يتفاضل وإنما التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب والألطاف وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها ولذلك منهم رسل ومنهم أولو عزم من الرسل ومنهم من رفع مكانا عليا ومنهم من أوتى الحكم صبيا وأوتى بعضهم الزبور
وبعضهم البينات ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات قال الله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) الآية وقال (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) الآية قال بعض أهل العلم والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا وذلك بثلاثة أحوال أن تكون آيته ومعجزاته أبهر وأشهر أو تكون أمته أزكى وأكثر أو يكون في ذاته أفضل وأظهر وفضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله به من كرامته واختصاصه

(1/227)


من كلام أو خلة أو رؤية أو ما شاء الله من ألطافه وتحف ولايته واختصاصه وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن للنبوة أثقالا وإن يونس تفسخ منها تفسخ الربع فحفظ صلى الله عليه وسلم موضع الفتنة من أوهام من يسبق إليه بسببها جرح في نبوته أو قدح في اصطفائه وخط في رتبته ووهن في عصمته شفقة منه صلى الله عليه وسلم على أمته وقد يتوجه على هذا الترتيب وجه خامس وهو أن يكون (أنا) راجعا إلى القائل نفسه أي لا يظن أحد وإن بلغ من الذكاء والعصمة والطهارة ما بلغ أنه خير من يونس لأجل ما حكى الله عنه فإن درجة النبوة أفضل وأعلى وإن تلك الأقدار لم تحطه عنها حبة خردل ولا أدنى، وسنزيد في القسم الثالث في هذا بيانا إن شاء الله تعالى فقد بان لك الغرض وسقط بما حررناه شبهة المعترض وبالله التوفيق وهو المستعان لا إله إلا هو.
فصل في أسمائه صلى الله عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته حدثنا أبو عمران موسى بن أبى تليد الفقيه قال حدثنا أبو عمر الحافظ حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح
__________
(قوله تفسخ الربع) بضم الراء وفتح الموحدة، في الصحاح: الربع الفصيل ينتج في الربيع وهو أول النتاج والجمع رباع وأرباع مثل رطب ورطاب وأرطاب والأنثى ربعة والجمع ربعات فإذا نتج الفصيل آخر النتاج فهو هبع.
(*)

(1/228)


حدثنا يحيى حدثنا مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لى خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى وأنا العاقب) وقد سماه الله تعالى في كتابه محمدا وأحمد فمن خصائصه تعالى له أن ضمن أسماءه ثناءه فطوى أثناء ذكره عظيم شكره فأما اسمه أحمد فأفعل مبالغة من صفة الحمد ومحمد مفعل مبالغة من كثرة الحمد فهو صلى الله عليه وسلم أجل من حمد وأفضل من حمد وأكثر الناس حمدا فهو أحمد المحمودين وأحمد الحامدين ومعه لواء الحمد يوم القيامة وليتم له كمال الحمد ويتشهر في تلك العرصات بصفة الحمد، ويبعثه ربه هناك مقاما محمودا كما وعده يحمده فيه الأولون والآخرون بشفاعته لهم ويفتح عليه فيه من المحامد كما قال صلى الله عليه وسلم ما لم يعط غيره وسمى أمته في كتب أنبيائه بالحمادين فحقيق أن يسمى محمدا وأحمد ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصه وبدائع آياته فن آخر هو أن الله جل اسمه حمى أن يمسى بهما أحد قبل زمانه أما أحمد الذى أتى في
__________
(قوله لى خمسة أسماء) في الأحوذى شرح الترمذي للقاضى أبى بكر بن العربي عن بعضهم إن لله ألف اسم، وللنبى صلى الله عليه وسلم ألف اسم (قوله والعاقب) في الصحاح: وفى الحديث السيد والعاقب، فالعاقب من يخلف السيد بعده وقول النبي
صلى الله عليه وسلم أنا العاقب، يعنى آخر الأنبياء، وكل من خلف بعد شئ فهو عاقبه انتهى (قوله أجل من حمد) بفتح الخاء المهملة وكسر الميم (قوله وأفضل من حمد) بضم المهملة وكسر الميم.
(*)

(1/229)


الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك وكذلك محمد أيضا لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو والله أعلم حيث يجعل رسالته وهم محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسى ومحمد بن مسلمة الأنصاري ومحمد بن براء البكري ومحمد ابن سفيان بن مجاشع ومحمد بن حمران الجعفي ومحمد بن خزاعي السلمى لا سابع لهم ويقال أول من سمى محمدا محمد بن سفيان واليمن تقول بل محمد بن اليحمد من الأزد ثم حمى الله كل من تسمى به إن يدعى النبوة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه سبب يشكك أحدا في
__________
(قوله ابن أحيحة) بضم الهمزة وفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية (قوله ابن الجلاح) بضم الجيم وتخفيف اللام.
وفى آخره حاء مهملة، ذكره ابن عبد البر وأبو موسى في الصحابة، وأما محمد بن البراء فعده أبو موسى أيضا في الصحابة ومحمد بن سفيان قال أبو نعيم وأبو موسى مختلف في صحبته ومحمد بن مسلمة شهد بدرا وغيرها، ومات بالمدينة، وفى سيرة مغلطاى وأيضا سمى محمد بن عدى بن ربيعة المقرى ومحمد بن عثمان السعدى، قال وأظنهما واحدا، ومحمد الأسيدى ومحمد الغنيمى ومحمد بن عثوارة الليثى ومحمد بن حرمان العمرى ومحمد بن خول الهمذانى ومحمد بن يزيد بن ربيعة ومحمد بن
أسامة بن مالك قال وفى محمد بن مسلمة الأنصاري نظر (قوله ابن اليحمد) هذا ليس قال المصنف لا سابع لهم، وقد ضبط ابن ماكولا وغيره نظير هذا الاسم وهو سعيد بن محمد بضم الياء وسكون المهملة وكسر الميم.
(*)

(1/230)


أمره حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه وسلم ولم ينازع فيهما وأما قوله صلى الله عليه وسلم وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر ففسر في الحديث ويكون محو الكفر إما من مكة وبلاد العرب وما زوى له من الأرض ووعد أنه يبلغه ملك أمته أو يكون المحو عاما بمعنى الظهور والغلبة كما قال تعالى (ليظهره على الدين كله) وقد ورد تفسيره في الحديث أنه الذى محيت به سيئات من اتبعه وقوله وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى أي على زماني وعهدي أي ليس بعدى نبى كما قال (وخاتم النبيين) وسمى عاقبا لأنه عقب غيره من الأنبياء وفى الصحيح أما العاقب الذى ليس بعدى نبى وقيل معنى على قدمى أي يحشر الناس بمشاهدتي كما قال تعالى (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) وقيل على قدمى على سابقتي قال الله تعالى (أن لهم قدم صدق عند ربهم) وقيل على قدمى أي قدامى وحولي أي يجتمعون إلى يوم القيامة وقيل قدمى على سنتى ومعنى قوله (لى خمسة أسماء) قيل إنها موجودة في الكتب المتقدمة وعند أولى العلم من الأمم السالفة، وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم: لى عشرة أسماء، وذكر منها: طه ويس، حكاه مكى وقد قيل في بعض تفاسير طه إنه يا طاهر يا هادى، وفى يس يا سيد، حكاه السلمى عن الواسطي وجعفر بن محمد، وذكر غيره، لى عشرة أسماء فذكر الخمسة التى في الحديث الأول، قال: وأنا رسول الرحمة ورسول

(1/231)


الراحة ورسول الملاحم وأنا المقفى قفيت النبيين وأنا قيم والقيم الجامع الكامل كذا وجدته ولم أروه وأرى أن صوابه قثم بالثاء كما ذكرناه بعد عن الحربى وهو أشبه بالتفسير وقد وقع أيضا في كتب الأنبياء قال داود عليه السلام اللهم ابعث لنا محمدا مقيم السنة بعد الفترة فقد يكون القيم بمعناه وروى النقاش عنه صلى الله عليه وسلم: لى في القرآن سبعة أسماء: محمد وأحمد ويس وطه والمدثر والمزمل وعبد الله) وفى حديث عن جبير بن مطعم رضى الله عنه هي ست: محمد وأحمد وخاتم وعاقب وحاشر وماح، وفى حديث أبى موسى الأشعري أنه كان صلى القله عليه وسلم يسمى لنا نفسه أسماء فيقول (أنا محمد وأحمد والمقفى والحاشر ونبى التوبة ونبى الملحمة) ويروى المرحمة والراحة وكل صحيح إن شاء الله ومعنى المقفى معنى العاقب وأما نبى الرحمة والتوبة والمرحمة والراحة فقد قال الله تعالى (وأما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وكما وصفه بأنه يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم وبالمؤمنين رؤف رحيم وقد قال في صفة أمته إنها أمة مرحومة وقد قال تعالى فيهم (وتواصوا بالصبر وتواصر بالمرحمة) أي يرحم بعضهم بعضا فبعثه صلى الله عليه وسلم ربه تعالى رحمة لأمته ورحمة للعالمين ورحيما بهم ومترحما ومستغفرا لهم وجعل وأمته أمة مرحومة
__________
(قوله وأنا قيم) والقيم الجامع الكامل، قال ابن الأثير ومنه الحديث أتانى ملك فقال أنت قيم وخلقك قيم) أي مستقيم حسن (قوله ونبى الملحمة) هي موضع القتال (*)

(1/232)


ووصفها بالرحمة وأمرها صلى الله عليه وسلم بالتراحم وأثنى عليه فقال
إن الله يحب من عباده الرحماء وقال الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وأما رواية نبى الملحمة فإشارة إلى ما بعث به من القتال والسيف صلى الله عليه وسلم وهى صحيحة وروى حذيفة مثل حديث أبى موسى وفيه ونبى الرحمة ونبى التوبة ونبى الملاحم وروى الحربى في حديثه صلى الله عليه وسلم أنه قال أتانى ملك فقال لى أنت قثم أي مجتمع قال والقثوم الجامع للخير وهذا اسم هو في أهل بيته صلى الله عليه وسلم معلوم وقد جاءت من ألقابه صلى الله عليه وسلم وسماته في القرآن عدة كثيرة سوى ما ذكرناه كالنور والسراج المنير والمنذر والنذير والمبشر والبشير والشاهد والشهيد والحق المبين وخاتم النبيين والرؤف الرحيم والأمين وقدم الصدق ورحمة للعالمين ونعمة الله والعروة الوثقى والصراط المستقيم والنجم الثاقب والكريم والنبى الأمي وداعي الله في أوصاف كثيرة وسمات جليلة وجرى منها في كتب الله المتقدمة وكتب أنبيائه وأحاديث رسوله وإطلاق الأمة جملة شافية كتسميته بالمصطفى والمجتبى وأبى القاسم والحبيب ورسول رب العالمين والشفيع المشفع والمتقي والمصلح والظاهر والمهيمن والصادق والمصدوق والهادي وسيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وحبيب الله وخليل الرحمن وصاحب الحوض المورود والشفاعة والمقام المحمود وصاحب الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة

(1/233)


وصاحب التاج والمعراج واللواء والقضيب وراكب البراق والناقة والنجيب وصاحب الحجة والسلطان والخاتم والعلامة والبراهان وصاحب الهراوة والنعلين، ومن أسمائه في الكتب المتوكل والمختار ومقيم السنة والمقدس وروح القدس وروح الحق وهو معنى (البار قليط
في الإنجيل) وقال ثعلب البار قليط الذى يفرق بين الحق والباطل ومن أسمائه في الكتب السالفة ماذ ماذ ومعناه طيب وطيب وجمطايا والخاتم والحاتم.
حكاه كعب الأحبار وقال ثعلب فالخاتم الذى ختم الأنبياء والحاتم أحسن الأنبياء خلقا وخلقا.
ويسمى بالسريانية مشقح والمنحمنا واسمه أيضا في التوراة أحيد روى ذلك عن ابن سيرين
__________
(قوله وصاحب الهراوة) بكسر الهاء أي العصا قال ابن الأثير لأنه كان يمسك بيده القضيب كثيرا وكان يمشى بالعصا بين يديه وتغرز له فيصلى إليها (قوله البار قليط) بالموحدة والألف والراء المكسورة والقاف الساكنة واللام المكسورة والمثناة التحتية الساكنة بعدها طاء مهملة قيل معناه الحامد وقيل الحماد وقيل الحمد وأكثر النصارى على أن معناه المخلص (قوله ماذ ماذ) بميم فألف غير مهموزة فذال معجمة، وفى طرة بعض النسخ إنه بميم مضمومة وإشمام الهمزة ضمة بين الواو والألف (قوله قال جمطايا) بجيم مفتوحة وميم مشددة مفتوحة وطاء مهملة بعدها ألف فمثناة تحتية فألف قال أبو عمرو سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال معناه يحمى الحرم ويمنع من الحرام ويوطئ الحلال (قوله والخاتم والحاتم) الأول بالخاء المعجمة، والثانى بالمهملة (قوله مشقح) ضبط هذا الاسم بضم الميم وفتح الشين المعجمة والقاف المشددة، وفى آخره مهملة (قوله والمنحمنا) ضبط بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء المهملة وكسر الميم وبعدها نون مشددة مفتوحة وألف قال أبو الفتح اليعمرى في سيرته هو محمد صلى الله عليه وسلم وكذا قال ابن إسحاق هو بالسريانية محمد صلى الله عليه وسلم (قوله أحيد) ضبط بضم الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح المثناة التحتية وكسرها وفى آخره دال مهملة (*)

(1/234)


ومعنى صاحب القضيب أي السيف وقع ذلك مفسرا في الإنجيل قال
معه قضيب من حديد يقاتل به وأمته كذلك وقد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذى كان يمسكه صلى الله عليه وسلم وهو الآن عند الخلفاء وأما الهراوة التى وصف بها فهى في اللغة العصا وأراها والله أعلم العصا المذكورة في حديث الحوض أذود الناس عنه بعصاي لأهل اليمن * وأما التاج فالمراد به العمامة ولم تكن حينئذ إلا للعرب والعمائم تيجان العرب وأوصفاه وألقابه وسمانه في الكتب كثيرة وفيما ذكرناه منها مقنع إن شاء الله وكانت كنيته المشهورة أبا القاسم * وروى عن أنس أنه لما ولد له إبراهيم جاءه جبريل فقال له السلام عليك يا أبا إبراهيم.
فصل في تشريف الله تعالى بما سماه به من أسمائه الحسنى ووصفه به من صفاته العلى قال القاضى أبو الفضل وفقه الله تعالى ما أحرى هذا الفصل بفصول الباب الأول لانخراطه في سلك مضمونها وامتراجه بعذب معينها لكن
__________
(قوله وأراها والله أعلم العصا المذكورة في حديث الحوض) قال النووي هذا ضعيف لأن المراد تعريفه بصفة يراها الناس معه يستدلون بها على صدقه وإنه المبشر به المذكور في الكتب السالفة فلا يصح تفسيره بعصا تكون في الآخرة والصحيح أنه كان يمسك القضيب بيده كثيرا وقيل لأنه كان يمشى والعصا بين يديه وتغرز له فيصلى إليها (قوله لأهل اليمن) الذى في صحيح مسلم في المناقب لأهل اليمن وهى الجهة التى عن يمين الكعبة ومعناه أذود الناس لأجل أهل اليمن حتى يتقدموا (*)

(1/235)


لم يشرح الله الصدر للهداية إلى استنباطه ولا أنار الفكر لاستخراج جوهره والتقاطه إلا عند الخوض في الفصل الذى قبله فرأينا أن نضيفه إليه ونجمع به شمله فاعلم أن الله تعالى خص كثيرا من الأنبياء بكرامة خلعها عليهم من أسمائه كتسمية إسحق وإسماعيل بعليم وحليم وإبراهيم بحليم، ونوح بشكور، وعيسى ويحيى ببر وموسى بكريم وقوى ويوسف بحفيظ عليم وأيوب بصابر واسماعيل بصادق الوعد كما نطق بذلك الكتاب العزيز من مواضع ذكرهم وفضل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأن حلاه منها في كتابه العزيز وعلى ألسنة أنبيائه بعدة كثيرة اجتمع لنا منها جملة بعد إعمال الفكر وإحضار الذكر إذ لم نجد من جمع منها فوق اسمين ولا من تفرغ فيها لتأليف فصلين وحررنا منها في هذا الفصل نحو ثلاثين اسما ولعل الله تعالى كما ألهم إلى ما علم منها وحققه يتم النعمة بإبانة ما لم يظهره لنا الآن ويفتح غلقه.
فمن أسمائه تعالى الحميد ومعناه المحمود لأنه حمد نفسه وحمده عباده ويكون أيضا بمعنى الحامد لنفسه ولأعمال الطاعات وسمى النبي صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمد فمحمد بمعنى محمود وكذا وقع اسمه في زبر داود واحمد بمعنى أكبر من حمد وأجل من حمد وقد أشار إلى نحو هذا حسان بقوله: (قوله وموسى بكريم) في سورة الدخان (وقد جاءهم رسول كريم) (قوله بأن حلاه) بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام (قوله غلقة) بفتح الغين المعجمة واللام ما ينغلق به (قوله حسان) هو ابن ثابت الأنصاري عاش هو والثلاثة فوقه من آبائه كل (*)

(1/236)


وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد ومن أسمائه تعالى الرؤف الرحيم وهما بمعنى متقارب وسماه في كتابه بذلك فقال (بالمؤمنين رؤف رحيم) ومن أسمائه تعالى الحق المبين ومعنى الحق الموجود والمتحقق أمره وكذلك المبين أي البين أمره وإلهيته بان وأبان بمعنى واحد ويكون بمعنى المبين لعباده أمر دينهم ومعادهم وسمى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في كتابه فقال (حتى جاءهم الحق
ورسول مبين).
وقال (وقل إنى أنا النذير المبين) وقال (قد جاءكم الحق من ربكم) وقال (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم) قيل محمد وقيل القرآن ومعناه هنا ضد الباطل والمتحقق صدقه وأمره وهو بمعنى الأول والمبين البين أمره ورسالته أو المبين عن الله تعالى ما بعثه به كما قال تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم).
ومن أسمائه تعالى النور ومعناه ذو النور أي خالقه أو منور السموات والأرض بالأنوار ومنور قلوب المؤمنين بالهداية وسماه نورا فقال (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) قيل محمد وقيل القرآن وقال فيه (وسراجا منيرا) سمى بذلك لوضوح أمره
__________
واحد مائة وعشرين سنة وعاش حسان ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام وقد شاركه في العيش ستين في الجاهلية وستين في الإسلام حكيم بن حزام ولم يذكر ابن الصلاح غيرهما، وزيد عليه حويطب بن عبد العزى القرشى، وسعيد بن يربوع القرشى وحمنن - بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وفتح النون الأولى - بن عوف القرشى أخو عبد الرحمن بن عوف ومخرمة بن نوفل القرشى الزهري (قوله وشق له) بفتح الشين المعجمة.
(*)

(1/237)


وبيان نبوته وتنوير قلوب المؤمنين والعارفين بما جاء به * ومن أسمائه تعالى الشهيد ومعناه العالم وقيل الشاهد على عباده يوم القيامة وسماه شهيدا وشاهدا فقال (إنا أرسلناك شاهدا) وقال (ويكون الرسول عليكم شهيدا) وهو بمعنى الأول * ومن أسمائه تعالى الكريم ومعناه الكثير الخير وقيل المفضل وقيل العفو قيل العلى وفى الحديث المروى في أسمائه تعالى الأكرم وسماه تعالى كريما بقوله (إنه لقول رسول كريم) قيل محمد وقيل جبريل وقال صلى الله عليه وسلم (أنا أكرم
ولد آدم) ومعانى الاسم صحيحة في حقه صلى الله عليه وسلم * ومن أسمائه تعالى العظيم ومعناه الجليل الشأن الذى كل شئ دونه وقال في النبي صلى الله عليه وسلم (وإنك لعلى خلق عظيم) ووقع في أول سفر من التوراة عن إسماعيل وسيلد عظيما لأمة عظيمة فهو عظيم وعلى خلق عظيم) ومن أسمائه تعالى الجبار ومعناه المصلح وقيل القاهر وقيل العلى العظيم الشأن وقيل المتكبر وسمى النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب داود بجبار فقال: تقلد أيها الجبار سيفك فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك ومعناه في حق النبي صلى الله عليه وسلم إما لإصلاحه الأمة بالهداية والتعليم أو لقهره أعداءه أو لعلو منزلته على البشر وعظيم خطره ونفى عنه تعالى في القرآن جبرية التكبر التى لا تليق به فقال (وما أنت عليهم بجبار) ومن أسمائه تعالى الخبير ومعناه المطلع يكنه الشئ العالم بحقيقته وقيل معناه المخبر وقال الله تعالى (الرحمن

(1/238)


فاسأل به خبيرا) قال القاضى بكر بن العلاء المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه وسلم والمسؤول الخبير هو النبي صلى الله عليه وسلم وقال غيره بل السائل النبي صلى الله عليه وسلم والمسؤول هو الله تعالى فالنبى خبير بالوجهين المذكورين قيل لأنه عالم على غاية من العلم بما أعلمه الله من مكنون علمه وعظيم معرفته مخبر لأمته بما أذن له في إعلامهم به ومن أسمائه تعالى الفتاح ومعناه الحاكم بين عباده أو فاتح أبواب الرزق والرحمة والمنغلق من أمورهم عليهم أو يفتح قلوبهم وبصائرهم بمعرفة الحق ويكون أيضا بمعنى الناصر كقوله تعالى (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وقيل معناه مبتدئ الفتح والنصر وسمى الله تعالى نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم بالفاتح في حديث الإسراء الطويل من رواية الربيع بن أنس عن أبى العالية وغيره عن أبى هريرة رضى الله عنه وفيه من قوله الله تعالى وجعلتك فاتحا وخاتما وفيه من قول النبي صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه وتعديد مراتبه: ورفع لى ذكرى وجعلني فاتحا وخاتما، فيكون الفاتح هنا بمعنى الحاكم أو الفاتح لأبواب الرحمة على أمته والفاتح لبصائرهم بمعرفة الحق والإيمان بالله أو الناصر للحق أو المبتدى بهداية الأمة أو المبدى المقدم في الأنبياء والخاتم لهم كما قال صلى الله عليه وسلم (كنت أول الأنبياء في الخلق

(1/239)


وآخرهم في البعث.
ومن أسمائه تعالى في الحديث الشكور ومعناه المشيب على العمل القليل وقيل المثنى على المطيعين ووصف بذلك نبيه نوحا عليه السلام فقال (إنه كان عبدا شكورا) وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بذلك فقال أفلا أكون عبدا شكورا أي معترفا بنعم ربى عارفا بقدر ذلك مثنيا عليه مجهدا نفسي في الزيادة من ذلك لقوله (لئن شكرتم لأزيدنكم).
ومن أسمائه تعالى العليم والعلام وعالم الغيب والشهادة.
ووصف نبيه صلى الله عليه وسلم بالعلم وخصه بمزية منه فقال (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) وقال (ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) ومن أسمائه تعالى الأول والآخر ومعناهما السابق للأشياء قبل وجودها والباقى بعد فنائها وتحقيقه أنه ليس له أول ولا آخر وقال صلى الله عليه وسلم كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث وفسر بهذا قوله تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن
نوح) فقدم محمدا صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى نحو منه عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومنه قوله (نحن الآخرون السابقون) وقوله (أنا أول من تنشق الأرض عنه وأول من يدخل الجنة أول شافع وأول مشفع، وهو خاتم النبيين وآخر الرسل صلى الله عليه وسلم.
ومن أسمائه تعالى القوى وذو القوة المتين ومعناه القادر وقد وصفه الله تعالى بذلك فقال (ذى قوة عند ذى العرش مكين) قيل محمد وقيل جبريل.
ومن أسمائه

(1/240)


تعالى الصادق في الحديث المأثور وورد في الحديث أيضا اسمه صلى الله عليه وسلم بالصادق المصدوق * ومن أسمائه تعالى الولى والمولى ومعناهما الناصر وقد قال الله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله) وقال صلى الله عليه وسلم (أنا ولى كل مؤمن) وقال الله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين) وقال صلى الله عليه وسلم (من كنت مولاه، فعلى مولاه، ومن أسمائه تعالى العفو ومعناه الصفوح وقد وصف الله تعالى بهذا نبيه في القرآن والتوراة وأمره بالعفو فقال (خذ العفو) وقال (فاعف عنهم واصفح) وقال له جبريل وقد سأله عن قوله (خذ العفو) قال أن تعفوا عمن ظلمك وقال في التوراة والإنجيل في الحديث المشهور في صفته: ليس بفظ ولا غليظ ولكن يعفو ويصفح.
ومن أسمائه تعالى الهادى وهو معنى توفيق الله لمن أراد من عباده وبمعنى الدلالة والدعاء قال الله تعالى (والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) وأصل الجميع من الميل وقيل من التقديم وقيل في تفسير طه إنه يا طاهر يا هادى يعنى النبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى له (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) وقال فيه (وداعيا إلى الله بإذنه) فالله تعالى
مختص بالمعنى الأول، قال الله تعالى (إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء) وبمعنى الدلالة يطلق على غيره تعالى ومن أسمائه تعالى المؤمن المهيمن قيل هما بمعنى واحد فمعنى المؤمن في حقه تعالى المصدق وعده عباده والمصدق قوله الحق والمصدق لعباده (16 - 1)

(1/241)


المؤمنين ورسله وقيل الموحد نفسه وقيل المؤمن عباده في الدنيا من ظلمه والمؤمنين في الآخرة من عذابه وقيل المهيمن بمعنى الأمين مصغر منه فقلبت الهمزة هاء وقد قيل إن قولهم في الدعاء آمين إنه اسم من أسماء الله تعالى (ومعناه معنى المؤمن وقيل المهيمن بمعنى الشاهد والحافظ والنبى صلى الله عليه وسلم أمين ومهيمن ومؤمن وقد سماه الله تعالى أمينا فقال (مطاع ثم أمين) وكان صلى الله عليه وسلم يعرف بالأمين وشهر به قبل النبوة وبعدها وسماه العباس في شعره مهيمنا في قوله.
ثم احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق قيل المراد يا أيها المهيمن، قاله القتيبى والإمام أبو القاسم القشيرى وقال تعالى (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) أي يصدق وقال صلى الله عليه وسلم (أنا أمنة لأصحابي) فهذا بمعنى المؤمن.
ومن أسمائه تعالى القدوس ومعناه المنزه عن النقائص المطهر عن سمات الحدث وسمى بيت المقدس لأنه يتطهر فيه من الذنوب ومنه الوادي المقدس وروح القدس ووقع في كتب الأنبياء في أسمائه صلى الله عليه وسلم المقدس أي
__________
(قوله وقد قيل إن قولهم في الدعاء آمين إنه اسم من أسماء الله تعالى) قال النووي
في التهذيب هذا لا يصح لأنه ليس في أسماء الله تعالى اسم مبنى ولا غير معرب وأيضا أسماء الله لا تثبت إلا بالقرآن أو السنة المتواترة وقد عدم الطريقان (قوله من خندف) بكسر الخاء المعجمة وقد تقدم (*)

(1/242)


المطهر من الذنوب كما قال تعالى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أو الذى يتطهر به من الذنوب ويتنزه باتباعه عنها كما قال تعالى (ويزكيهم) وقال (ويخرجهم من الظلمات إلى النور) أو يكون مقدسا بمعنى مطهرا من الأخلاق الذميمة والأوصاف الدنيئة.
ومن أسمائه تعالى العزيز ومعناه الممتنع الغالب أو الذى لا نظير له أو المعز لغيره وقال تعالى (ولله العزة ولرسوله) أي الامتناع وجلالة القدر وقد وصف الله تعالى نفسه بالبشارة والنذارة فقال (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان) وقال (إن الله يبشرك بيحيى * وبكلمة منه) وسماه الله تعالى مبشرا ونذيرا وبشيرا أي مبشرا لأهل طاعته ونذيرا لأهل معصيته ومن أسمائه تعالى فيما ذكره بعض المفسرين طه ويس وقد ذكر بعضهم أيضا أنهما من أسماء محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم.
(فصل) قال القاضى أبو الفضل وفقه الله تعالى وها أنا أذكر نكته أذيل بها هذا الفصل وأختم بها هذا القسم وأزيح الإشكال بها فيما تقدم عن كل ضعيف الوهم سقيم الفهم تخلصه من مهاوى التشبيه وتزحزحه عن شبه التمويه وهو أن يعتقد أن الله تعالى جل اسمه
__________
(قوله أذيل) بضم الهمزة وفتح الذال المعجمة وتشديد المثناة التحتية المكسورة (قوله وأزيح) بضم الهمزة وكسر الزاى وفى آخره حاء مهملة: أي أبعد (*)

(1/243)


في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعلى صفاته لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبه به وأن ما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق وعلى المخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي: إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق فكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات كذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين إذ صفاتهم لا تنفك عن الأعراض والأغراض وهو تعالى منزه عن ذلك بل لم يزل بصفاته وأسمائه وكفى في هذا قوله (ليس كمثله شئ) ولله در من قال من العلماء والعارفين المحققين: التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات ولا معطلة عن الصفات، وزاد هذه النكتة الواسطي رحمه الله بيانا وهى مقصودنا فقال ليس كذاته ذات ولا كاسمه اسم ولا كفعله فعل ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ اللفظ وجلت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة وهذا كله مذهب أهل الحق والسنة والجماعة رضى الله عنهم وقد فسر الإمام أبو القاسم القشيرى رحمه الله قوله هذا ليزيده بيانا فقال: هذه الحكاية تشتمل على جوامع مسائل التوحيد وكيف
__________
(قوله وعلى صفاته) بضم العين المهملة وفتح اللام وفى بعض النسخ بفتح العين المهملة وكسر اللام وتشديد المثناة التحتية (قوله عن الأعراض والأغراض) كلاهما بالضاد المعجمة وأحدهما بالغين المعجمة والآخر بالمهملة (قوله ولله در) في الصحاح الدر اللبن يقال في الذم لا در دره أي لا كثر خيره وفى المدح لله دره أي علمه (*)

(1/244)


تشبه ذاته ذات المحدثات وهى بوجودها مستغنية وكيف يشبه فعله فعل الخلق وهو لغير جلب أنس أو دفع نقص حصل ولا
بخواطر وأغراض وجد ولا بمباشرة ومعالجة ظهر وفعل الخلق لا يخرج عن هذه الوجوه، وقال آخر من مشايخنا: ما توهمتموه بأوهامكم أو أدركتموه بعقولكم فهو محدث مثلكم، وقال الإمام أبو المعالى: الجوينى: من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره فهو مشبه ومن اطمأن إلى النفى المحض فهو معطل وإن قطع بموجود اعترف بالعجز عن درك حقيقته فهو موحد، وما أحسن قول ذى النون المصرى: حقيقة التوحيد أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا علاج وصنعه لها بلا مزاج وعلة كل شئ صنعه ولا علة لصنعه وما تصور في وهمك فالله بخلافه، وهذا كلام عجيب نفيس محقق الفصل الآخر تفسير لقوله (ليس كمثله شئ) والثانى تفسير لقوله (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) والثالث تفسير لقوله (إنما قولنا لشئ إذا أردناه
__________
(قوله ولا بخواطر وأغراض) بالغين المعجمة (قوله وقال أبو المعالى الجوينى) هو إمام الحرمين عبد الملك النيسابوري جاور مكة والمدينة أربع سنين فلذا قيل له إمام الحرمين ثم عاد إلى نيسابور، توفى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (قوله ذى النون المصرى) هو الزاهد العارف اسمه يونان بن إبراهيم الإخميمى كان أبوه نونيا توفى سنة خمس وأربعين ومائتين (قوله والفصل الآخر) هو قوله وما يصور في وهمك والثانى قوله وعلة كل شئ صنعه ولا علة والثالث قوله أن يعلم أن قدر الله في الأشياء بلا علاج وصنعه بلا مزاج (*)

(1/245)


أن نقول له كن فيكون) ثبتنا الله وإياك على التوحيد والإثبات والتنزيه وجنبنا طرفي الضلالة والغواية من التعطيل والتشبيه بمنه ورحمته.