الفصول
في السيرة القسم الثاني ـ ما
اختص به دون أمته، وقد يشاركه فيها غيره من الأنبياء
القسم الثاني من الخصائص ما كان مختصاً به دون أمته وقد يشاركه في بعضها
الأنبياء، وهذا هو المقصود الأول فلنذكره مرتباً على أبواب الفقه.
كتاب الإيمان
فمن ذلك أنه كان معصوماً في أقواله وأفعاله، لا يجوز عليه التعمد ولا الخطأ
الذي يتعلق بأداء الرسالة ولا يقر فيبقى عليه، فلا ينطق عن الهوى إن هو إلا
وحي يوحى.
فلهذا قال كثير من العلماء: لم يكن له الاجتهاد، لأنه قادر على النص.
وقال آخرون: بل له أن يجتهد، ولكن لا يجوز عليه الخطأ، وقال آخرون: بل لا
يقر عليه.
فعلى الأقوال كلها هو واجب [العصمة] لا يتصور استمرار الخطأ عليه، بخلاف
سائر أمته، فإنه يجوز ذلك كله على كل منهم منفرداً، فأما إذا اجتمعوا كلهم
على قول واحد فلا يجوز عليهم الخطأ كما تقدم.
(1/292)
ومن ذلك ما ذكره أبو العباس بن القاص أنه
كلف وحده من العلم ما كلف الناس بأجمعهم، واستشهد البيهقي على ذلك بحديث
ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا
نائم إذ أتيت بقدح فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم
أعطيت فضلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قالوا: فما أول ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم» .
رواه مسلم.
ومن ذلك أنه كان يرى ما لا يرى الناس حوله، ففي الصحيح «عن عائشة رضي الله
عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: هذا جبريل يقرأ عليك
السلام، فقالت: عليه السلام.
يا رسول الله، ترى ما لا نرى.
؟» ! «وعنها في حديث الكسوف الذي في الصحيحين: والله لو تعلمون ما أعلم
لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» .
وقال البيهقي: «أخبرنا الحكم محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم
الغفاري حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر، عن
مجاهد، عن مورق، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه
وسلم: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} حتى ختمها، ثم
قال: إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط،
ما فيها موضع قدر أصبع إلا ملك واضع جبهته
(1/293)
ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم
لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى
الصعدات تجأرون إلى الله، والله! لوددت أني شجرة تعضد» .
رواه ابن ماجه، قال البيهقي: يقال إن قوله: شجرة تعضد من قول أبي ذر، والله
أعلم.
ومن ذلك أن الله أمره أن يختار الآخرة على الأولى، وكان يحرم عليه أن يمد
عينيه إلى ما متع به المترفون من أهل الدنيا، ودليله من الكتاب العزيز
ظاهر.
ومن ذلك أنه لم يكن له تعلم الشعر، قال الله تعالى: {وما علمناه الشعر وما
ينبغي له} ، «وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ما أبالي ما أتيت إن شربت ترياقاً أو تعلقت تميمة، أو قلت
الشعر من قبل نفسي» رواه أبو داود، فلهذا قال أصحابنا: كان يحرم عليه تعلم
الشعر.
(1/294)
ومن ذلك أنه لم يكن يحسن الكتابة، قالوا:
وقد كان يحرم عليه ذلك، قال الله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} وقال تعالى: {وما كنت تتلو
من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} .
وقد زعم بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى تعلم الكتابة.
وهذا قول لا دليل عليه، فهو مردود، إلا مارواه البيهقي من
(1/295)
حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل، عن مجالد،
عن عون بن عبد الله، عن أبيه قال: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
كتب وقرأ.
وقال مجالد: فذكرت ذلك للشعبي فقال: قد صدق، سمعت من أصحابنا يذكرون ذلك.
ويحيى هذا ضعيف، ومجالد فيه كلام.
وهكذا ادعى بعض علماء المغرب أنه كتب صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية،
فأنكر ذلك عليه أشد الإنكار وتبرئ من قائله على رؤوس المنابر، وعملوا فيه
الأشعار، وقد غره في ذلك ما جاء في بعض روايات البخاري: [فأخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله..] ، وقد علم
أن المقيد يقضي على المطلق، ففي الرواية الأخرى: [فأمر علياً فكتب: هذا ما
قاضى عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم] .
ومن ذلك أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، فقد تواترت عنه صلوات الله
وسلامه عليه: «أن من كذب عليه متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» .
روي هذا الحديث من طريق نيف وثمانين صحابياً: فهو في الصحيحين من حديث علي
وأنس، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، وعند البخاري من رواية الزبير بن
العوام، وسلمة بن الأكوع، وعبد الله بن عمرو، ولفظه: «بلغوا عني ولو آية،
وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من
النار» .
وفي مسند أحمد: عن عثمان، وعمر وأبي سعيد
(1/296)
وواثلة بن الأسقع، وزيد بن أرقم.
وعند الترمذي عن ابن مسعود.
ورواه ابن ماجه عن جابر وأبي قتادة.
وقد صنف فيه جماعة من الحفاظ كإبراهيم الحربي، ويحيى بن صاعد، والطبراني،
والبزار وابن مندة، وغيرهم من المتقدمين وابن الجوزي، ويوسف بن خليل من
المتأخرين.
وصرح بتواتره ابن الصلاح، والنووي، وغيرهما من حفاظ الحديث، وهو الحق،
فلهذا أجمع العلماء على كفر من كذب عليه متعمداً مستجيزاً لذلك.
واختلفوا في المتعمد فقط، فقال الشيخ أبو محمد يكفر أيضاً، وخالفه الجمهور.
ثم لو تاب فهل تقبل روايته؟ على قولين: فأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو
بكر
(1/297)
الحميدي قالوا: لا تقبل، لقوله صلى الله
عليه وسلم «إن كذباً علي ليس ككذب على أحد من كذب علي فليتبوأ مقعده من
النار» ، قالوا: ومعلوم أن من كذب على غيره فقد أثم وفسق، وكذلك الكذب
عليه، لكن من تاب من الكذب على غيره يقبل بالإجماع، فينبغي أن لا تقبل
رواية من كذب عليه، فرقاً بين الكذب عليه والكذب على غيره.
وأما الجمهور فقالوا: تقبل روايته، لأن قصارى ذلك أنه كفر، ومن تاب من
الكفر قبلت توبته وروايته، وهذا هو الصحيح.
ومن ذلك أنه من رآه في المنام فقد رآه حقاً كما جاء في الحديث: «فإن
الشيطان لا يتمثل بي» ، لكن بشرط أن يراه على صورته التي هي صورته في
الحياة الدنيا، كما رواه النسائي عن ابن عباس.
واتفقوا أن من نقل عنه حديثاً
(1/298)
في المنام أنه لا يعمل به، لعدم الضبط في
رواية الرائي، فإن المنام محل فيه تضعف فيه الروح وضبطها.
والله تعالى أعلم.
ومن ذلك ما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه الكبير عن أبي العباس بن
القاص في قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} قال أبو العباس: وليس كذلك
غيره حتى يموت، لقوله تعالى {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك
حبطت أعمالهم} قال البيهقي: كذا قال أبو العباس، وذهب غيره إلى أن المراد
بهذا الخطاب غير النبي عليه الصلاة والسلام، ثم المطلق محمول على المقيد.
انتهى كلامه.
قلت: وهذا الفرع لم يكن إلى ذكره حاجة لعدم الفائدة منه، وما كان ينبغي أن
يذكر، لولا ما يتوهم من إسقاطه إسقاط غيره مما ذكروه وإلا فالضرب عن مثل
هذا صفحاً أولى، والله أعلم.
ومن ذلك أنه لم يكن له خائنة الأعين، أي أنه لم يكن له أن يومئ بطرفه خلاف
ما يظهره كلامه، فيكون من باب اللمز، ومستند هذا قصة عبد الله بن سعد بن
أبي سرح حين كان قد أهدر صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح في جملة ما أهدر
من الدماء، فلما جاء به أخوه من الرضاعة عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال:
يا رسول الله بايعه، فتوقف صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقوم إليه رجل
فيقتله، ثم بايعه، ثم قال لأصحابه: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين
رآني قد أمسكت يدي
(1/299)
فيقتله؟ ! فقالوا: يا رسول الله هلا أومأت
إلينا فقال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» .
كتاب الطهارة
فمن ذلك أنه كان قد أمر بالوضوء لكل صلاة، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك،
ومستنده «ما رواه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً وغير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر
بالسواك لكذل صلاة.
» .
أخرجه أبو داود.
فالظاهر من هذا أنه أوجب عليه السواك، وهو الصحيح عند الأصحاب، قاله أبو
زكريا، ومال إلى قوته الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، ويؤيده ما رواه الإمام
أحمد «عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أمرت بالسواك حتى
ظننت أنه سينزل علي به قرآن أو وحي» .
«وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني
بالسواك حتى خشيت على أضراسي» رواه البيهقي، وقال:
(1/300)
البخاري: هذا حديث حسن.
«وقال عبد الله بن وهب: حدثنا يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمرو مولى
المطلب، عن المطلب عبد الله، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: لقد لزمت السواك حتى تخوفت أن يدردني» .
رواه البيهقي، وفيه انقطاع بين المطلب وعائشة، فيشكل على هذا ما رواه
الإمام أحمد «عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي» ، ولهذا قال بعض أصحابنا: إنه لم يكن
واجباً عليه بل مستحباً.
ومن ذلك أنه كان لا ينتقض وضوؤه بالنوم، ودليله حديث ابن عباس في الصحيحين
أنه صلى الله عليه وسلم نام حتى نفخ، ثم جاءه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ
وسببه ما ذكر في حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألته فقالت: يا رسول الله
تنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة، تنام عيناي ولا ينام قلبي» أخرجاه.
واختلفوا: هل كان ينتقض وضوؤه بمس النساء؟ على وجهين،
(1/301)
والأشهر منهما الإنتقاض.
وكأن مأخذ من ذهب إلى عدم الانتقاض حديث عائشة في صحيح مسلم: أنها افتقدت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فوقعت يدها عليه وهو ساجد، وهو
يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا
أحصي ثناء عليك أنت كماأثنيت على نفسك» وجاء من غير وجه عنها: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأو كان هذا القائل ذهب إلى
تخصيص ذلك به صلى الله عليه وسلم، ولكن الخصوم لا يقنعون منه بذلك، بل
يقولون: الأصل في ذلك عدم التخصيص إلا بدليل.
مسألة:
هل كان يحتلم؟ على وجهين:
صحح النووي المنع، ويشكل عليه حديث عائشة في الصحيحين: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير جماع، غيراحتلام، ثم يغتسل ويصوم.
والأظهر في هذا التفصيل، وهو أن يقال: إن أريد بالاحتلام فيض من البدن، فلا
مانع من هذا، وإن أريد به ما يحصل من تخبط الشيطان، فهو
(1/302)
معصوم من ذلك صلى الله عليه وسلم.
ولهذا لا يجوز عليه الجنون ويجوز عليه الإغماء، بل قد أغمي عليه في الحديث
الذي روته عائشة رضي الله عنها في الصحيح، وفيه أنه اغتسل من الإغماء غير
مرة، والحديث مشهور.
ومن ذلك ماذكره أبو العباس بن القاص أنه لم يكن يحرم عليه المكث في المسجد
وهو جنب واحتجبوا بما رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي حفصة «عن عطية عن
أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، لا يحل لأحد أن
يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك» .
قال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد سمع البخاري مني
هذا الحديث.
قلت: عطية ضعيف الحديث.
قال البيهقي: غير محتج به، وكذا الرواي عنه ضعيف.
وقد حمله ضرار بن صرد على الاستطراق، كذا حكاه الترمذي عن شيخه علي بن
المنذر الطريقي عنه، وهذا مشكل، لأن الاستطراق يجوز للناس فلا تخصيص فيه،
اللهم إلا أن يدعى أنه لا يجوز الاستطراق في المسجد النبوي لأحد
(1/303)
من الناس سواهما، ولهذا قال: «لايحل لأحد
أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك» .
والله أعلم.
وقال محدوج الذهلي، «عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة قالت: دخل النبي صلى
الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فقال: ألا لا يحل هذا المسجد لجنب ولا
لحائض، إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين، ألا
قد بينت لكم الأسماء أن تضلوا» .
رواه ابن ماجه والبيهقي، وهذا لفظه، قال البخاري: محدوج عن جسرة فيه نظر.
ثم رواه البيهقي من وجه آخر عن إسماعيل بن أمية، عن جسرة عن أم سلمة
مرفوعاً نحوه.
ولا يصح شيء من ذلك، ولهذا قال القفال من أصحابنا: أن ذلك لم يكن من خصائصه
صلى الله عليه وسلم وغلط إمام الحرمين أبا العباس بن القاص في ذلك.
والله أعلم.
ومن ذلك طهارة شعره صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس أنه
صلى الله عليه وسلم: لما حلق شعره في حجته أمر أبا طلحة يفرقه على الناس.
وهذا إنما يكون
(1/304)
من الخصائص إذا حكمنا بنجاسه شعر من سواه،
المنفصل عنه في حال الحياة، وهو أحد الوجهين.
فأما الحديث الذي رواه ابن عدي من رواية ابن أبي فديك، «عن بريه بن عمر بن
سفينة، عن أبيه عن جده، قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال لي: خذ
هذا الدم فادفنه من الدواب والطير.
أو قال: الناس والدواب» .
شك ابن أبي فديك، قال: فتغيبت به فشربته.
قال: ثم سألني، فأخبرته أني شربته، فضحك.
فإنه حديث ضعيف لحال بريه هذا واسمه إبراهيم، فإنه ضعيف جداً.
وقد رواه البيهقي من طريق أخرى فقال: «أخبرنا أبو الحسن بن عبدان أخبرنا
أحمد بن عبيد، حدثنا محمد بن غالب، حدثنا موسى بن إسماعيل ـ أبوسلمة ـ
حدثنا عبيد بن القاسم سمعت ابن عبد الله بن الزبير يحدث عن أبيه قال: احتجم
النبى صلى الله عليه وسلم وأعطاني دمه فقال: اذهب فواره، لايبحث عنه سبع أو
كلب أو إنسان قال: فتنحيت فشربته، ثم أتيته فقال: ما صنعت؟ قلت صنعت الذي
أمرتني.
قال: ما أراك إلا قد شربته.
قلت: نعم.
قال: ماذا تلقى أمتي منك؟ !» .
وهذا إسناد ضعيف لحال عبيد بن القاسم الأسدي الكوفي، فإنه متروك الحديث،
وقد كذبه يحيى بن معين، لكن قال البيقهي: روي ذلك من وجه آخر عن أسماء
(1/305)
بنت أبي بكر وسلمان الفارسي في شرب ابن
الزبير دمه صلى الله عليه وسلم.
قلت: فلهذا قال بعض أصحابنا بطهارة سائر فضلاته صلى الله عليه وسلم حتى
البول والغائط من وجه غريب، واستأنسوا في ذلك لما رواه البيهقي «عن أبي نصر
بن قتادة، حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن حامد العطار، حدثنا أحمد بن
الحسن بن عبد الجبار، حدثنا يحيى بن معن، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال:
أخبرتني حكيمة بنت أميمة، عن أميمة أمها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره، [فبال فيه ووضع تحت سريره] ، فجاء
فأراده، فإذا القدح ليس فيه شيء، فقال لامرأة يقال لها
(1/306)
بركة كانت تخدم لأم حبيبة جاءت معها من أرض
الحبشة: [أين البول الذي كان في هذا القدح؟] قالت شربته يارسول الله» .
هكذا رواه، وهو إسناد مجهول، فقد أخرجه أبو داود والنسائي من حديث حجاج بن
محمد الأعور عن ابن جريح، وليس فيه قصة بركة.
كتاب الصلاة
فمن ذلك الضحى والوتر، لما رواه الإمام أحمد في مسنده، والبيهقي، من حديث
أبي جناب الكلبي ـ واسمه يحي بن أبي حية ـ «عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله
عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث هن علي فرائض، وهي لكم تطوع:
النحر، والوتر، وركعتا الضحى» .
اعتمد جمهور الأصحاب على هذا الحديث في هذه الثلاث، فقالوا بوجوبها.
قال الشيخ تقي الدين بن الصلاح رحمه الله تعالى: [تردد الأصحاب في
(1/307)
وجوب السواك عليه، وقطعوا بوجوب الضحى
والأضحى والوتر عليه، مع أن مستنده الحديث الذي ذكرنا ضعفه، ولو عكسوا
فقطعوا بوجوب السواك عليه وترددوا في الأمور الثلاثة لكان أقرب، ويكون
مستند التردد فيها أن ضعفه من جهة ضعف راويه أبي جناب الكلبي، وفي ضعفه
خلاف بين أئمة الحديث، وقد وثقه بعضهم، والله أعلم] .
قلت: جمهور أئمة الجرح والتعديل على ضعفه.
وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في الثلاثة المذكورة تردداً لبعض الأصحاب،
وأن منهم من ذهب إلى استحبابها في حقه صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول أرجح لوجوه:
ـ أحدها: أن مستند ذلك هذا الحديث، وقد علمت ضعفه، وقد روي من وجه آخر في
حديث مندل بن علي العنزي وهو أسوأ حالاً من أبي جناب.
ـ والثاني: أن الوتر قد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر: أنه كان
(1/308)
صلى الله عليه وسلم يصليه على الراحلة.
وهذا من حجتنا على الحنفية في عدم وجوبه، لأنه لو كان واجباً لما فعله على
الراحلة، فدل على أن سبيله المندوب، والله أعلم.
وأما الضحى فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها في الصحيح أنه كان لا يصلي
الضحى إلا يقدم من مغيبه.
فلو كانت واجبة في حقه لكان أمر مداومته عليها أشهر من أن ينفى.
وما في هذا الحديث الآخر أنه كان يصليها ركعتين، ويزيد ما شاء الله، فمحمول
على أنه يصليها كذلك إذا صلاهاو قد قدم من مغيبه، جمعاً بين الحديثين والله
أعلم.
مسألة:
وأما قيام الليل ـ وهو التهجد ـ فهو الوتر على الصحيح، لما رواه الإمام
أحمد «عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الوتر ركعة من آخر
الليل» وإسناده جيد.
وإذا تقرر ذلك فاعلم أنه قد قال جمهور الأصحاب: إن التهجد كان واجباً عليه،
وتمسكوا بقول الله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك
مقاما محمودا} .
(1/309)
قال عطية بن سعيد العوفي، عن ابن عباس في
قوله تعالى: {نافلة لك} : يعني بالنافلة أنها للنبي صلى الله عليه وسلم
خاصة، أمر بقيام الليل فكتب عليه.
وقال عروة، «عن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
صلى قام حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: يا رسول الله، تفعل هذا وقد غفر
الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: يا عائشة، أفلا أكون عبداً
شكوراً؟» رواه مسلم عن هارون بن معروف، عن عبد الله بن وهب، عن أبي صخر، عن
ابن قسيط، عن عروة به.
وأخرجاه من وجه آخر عن المغيرة بن شعبة.
وروى البيهقي «من حديث موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن هشام بن عروة، عن
أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة علي فريضة
وهن سنة لكم: الوتر، والسواك، وقيام الليل» .
ثم قال: موسى بن عبد الرحمن هذا، ضعيف جداً، ولم يثبت في هذا إسناد، والله
أعلم.
وحكى الشيخ أبو حامد رحمه الله تعالى، عن الإمام أبي عبد الله الشافعي رحمه
الله تعالى: أن قيام الليل نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم كما نسخ في حق
الأمة، فإنه كان واجباً في ابتداء الإسلام على الأمة كافة.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح:
(1/310)
وهذا هو الصحيح الذي تشهد له الأحاديث،
منها حديث سعد بن هشام عن عائشة، وهو في الصحيح معروف.
وكذا قال أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى.
قلت: والحديث الذي أشار إليه رواه مسلم من حديث هشام بن سعد أنه دخل على
عائشة أم المؤمنين فقال: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى
الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ بيا أيها المزمل؟ قلت: بلى.
قالت: فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه حولاً، حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عش
شهراً في السماء، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل
تطوعاً بعد فريضة.
وقد أشار الشافعي إلى الاحتجاج بهذا الحديث في النسخ، ومن قوله تعالى: {ومن
الليل فتهجد به نافلة لك} قال: فأعلمه أن قيام الليل نافلة لا فريضة، والله
سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة:
وفاتته ركعتان بعد الظهر فصلاهما بعد العصر وأثبتهما، وكان يداوم عليهما
كما ثبت ذلك في الصحيح.
وذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم على أصح الوجهين عند أصحابنا.
وقيل: بل لغيره إذا اتفق له ذلك أن يداوم لله عليهما.
والله تعالى أعلم.
(1/311)
مسألة:
وكانت صلاته النافلة قاعداً كصلاته قائماً إن لم يكن له عذر بخلاف غيره
فإنه على النصف من ذلك، واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم «عن عبد الله بن
عمرو رضي الله عنهما قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة
الرجل قاعداً نصف الصلاة.
فأتيته فوجدته يصلي جالساً فوضعت يدي على رأسه فقال مالك يا عبد الله بن
عمرو؟ فقلت: حدثت يا رسول الله أنك قلت: صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة
وأنت تصلي قاعداً! فقال: أجل.
ولكن لست كأحد منكم» .
مسألة:
وكان يجب على المصلي إذا دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه،
لحديث أبي سعيد بن المعلى في صحيح البخاري وليس هذا لأحد سواه، اللهم إلا
ما حكاه الأوزاعي عن شيخه مكحول أنه كان يوجب إجابةالوالدة في الصلاة،
(1/312)
لحديث جريج الراهب: أنه دعته أمه وهو قائم
يصلي فقال: اللهم أمي وصلاتي، ثم مضى في صلاته.
فلما كانت المرة الثانية فعل مثل ذلك، ثم الثالثة فدعت عليه، فاستجاب الله
منها فيه، وكان من قصته ما ذكر في صحيح البخاري وغيره، وقد حكي مقرراً ولم
ينكر.
والجمهور على أن ذلك لا يجب بل لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس،
للحديث الصحيح، اللهم إلا ما جوزه الإمام أحمد من مخاطبة الإمام بما ترك من
آخر الصلاة لحديث ذي اليدين.
والله أعلم.
مسألة:
وكان لا يصلي على من مات وعليه دين لا وفاء له، أخرجه البخاري في صحيحه
ثلاثياً عن سلمة بن الأكوع، لكن اختلف أصحابنا: هل كان يحرم عليه أويكره؟
على وجهين، ثم نسخ ذلك بقوله: «من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً أو
ضياعاً فإلي» فقيل: كان يقضيه عنه وجوباً، وقيل: تكرماً.
(1/313)
ومن ذلك أنه كان إذا دعا لأهل القبور
يملؤها الله عليهم نوراً ببركة دعائه صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت في
صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها
ومن ذلك أنه مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم أخذ
جريدة رطبة فشقها نصفين فوضع على كل قبر شقة، ثم قال: لعل الله يخفف عنهما
ما لم ييبسا» .
أخرجاه عن ابن عباس.
مسألة:
ومن ذلك «أنه صلى الله عليه وسلم وعك في مرضه وعكاً شديداً فدخل عليه عبد
الله بن مسعود فقال: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: أجل إني
لأوعك كما يوعك الرجلان منكم، قلت: لأن لك أجرين؟ قال: نعم» .
رواه الشيخان.
مسألة:
ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى خيره الله تعالى بين أن يفسح له في أجله ثم
الجنة، وإن
(1/314)
أحب لقي الله سريعاً، فاختار ما عند الله
على الدنيا وذلك ثابت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها.
مسألة:
ومن ذلك أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، والدليل عليه حديث
شداد بن أوس، وهو في السنن، وقد صححه بعض الأئمة.
كتاب الزكاة
مسألة:
كان يحرم عليه أكل الصدقة سواء كان فرضاً أم تطوعاً: لقوله صلى الله عليه
وسلم: «إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» .
وروى مسلم «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة» .
وهذا عام.
وللشافعي قول في صدقة التطوع أنها كانت تحل له، حكاه الشيخ أبو حامد
والقفال، قال
(1/315)
الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وخفي على إمام
الحرمين والغزالي.
والصحيح الأول.
أما توهم بعض الأعراب بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أنها لا تدفع إلا إليه
صلى الله عليه وسلم وامتناعهم عن أدائها إلى الصديق، حتى قاتلهم عليها إلى
أن دانوا بالحق وأدوا الزكاة، فقد أجاب الأئمة عن ذلك في كتبهم أجوبة، وقد
بسطنا الكلام عليه في غير هذا الموضع.
كتاب الصيام
كان الوصال في الصيام له مباحاً، ولهذا نهى أمته عن الوصال، فقالوا: إنك
تواصل؟ قال: «لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» أخرجاه.
فقطع تأسيهم به بتخصيصه بأن الله تعالى يطعمه ويسقيه، وقد اختلفوا: هل هما
حسيان؟ أو معنويان؟ على قولين.
الصحيح: أنهما معنويان، وإلا لما حصل الوصال.
(1/316)
مسألة:
وكان يقبل وهو صائم، فقيل: كان ذلك خاصاً به، وهل يكره لغيره؟ أو يحرم؟ أو
يباح؟ أو يبطل صوم من فعله كما قال ابن قتيبة؟ أو يستحب له؟ أو يفرق بين
الشيخ والشاب؟ على أقوال للعلماء لبسطها موضع آخر.
مسألة
قال بعض أصحابنا: كان إذا شرع في تطوع لزمه إتمامه، وهذا ضعيف يرده الحديث
الذي في صحيح مسلم «عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم دخل عليها فقالت: يا رسول الله، ههنا حيس، فقال: أرنيه، فلقد أصبحت
صائماً فأكل منه» .
كتاب الحج
مسألة:
قال بعض أصحابنا كان يجب عليه إذا رأى شيئاً يعجبه أن يقول: [لبيك إن العيش
عيش الآخرة] وكأن مستنده في ذلك ما رواه البخاري «عن سهل بن
(1/317)
سعد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم الخندق، وهويحفر ونحن ننقل، فبصر بنا فقال: لا عيش إلا عيش
الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة» .
وقال الشافعي «أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أخبرني حميد الأعرج، عن مجاهد أنه
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية: لبيك اللهم لبيك،
لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» ، قال: حتى إذا
كان ذات يوم، والناس يصرفون عنه، كأنه أعجبه ما هو فيه، فزاد فيها: [لبيك
إن العيش عيش الآخرة] قال ابن جريج: وأحسب أن ذلك كان يوم عرفة.
قلت: لا يظهر من هذين الحديثين وجوب ذلك، أكثر ما فيه استحباب مثل ذلك، وقد
قيل به في حق المكلفين.
وحديث مجاهد مرسل، وقول ابن جريج منقطع.
والله أعلم.
مسألة
أبيحت له مكة يوماً واحداً، فدخلها بغير إحرام.
وقتل من أهلها يومئذ نحو من عشرين.
وهل كان فتحها عنوة؟ أو صلحاً؟ على قولين للشافعي، نصر كلا ناصرون.
وبالجملة: كان ذلك من خصائصه كما ذكر صلى الله عليه وسلم في خطبته صبيحة
ذلك اليوم، حيث قال: «فإن ترخص أحد بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيها، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم» .
والحديث مشهور.
(1/318)
مسألة
تقدم الكلام على الحديث المقتضي لوجوب النحر عليه، وأنه ضعيف.
كتاب الأطعمة
ومن الأطعمة قال بعض الأصحاب: كان يحرم عليه أكل البصل والثوم والكراث،
ومستند ذلك ما أخرجه «عن جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحاً، فقال لبعض أصحابه: [كلوا]
فلما رآه كره أكلها، قال: [كل فإني أناجي من لا تناجي] » وقد يشكل على هذا
القائل ما حكاه الترمذي عن علي وشريك بن حنبل: أنهما ذهبا إلى تحريم البصل
والثوم النيء.
والصحيح الذي عليه الجادة: أن ذلك ليس حراماً عليه، بل كان أكل ذلك
(1/319)
مكروها في حقه، والدليل على ذلك ما رواه
مسلم «عن أبي أيوب أنه: صنع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طعاماً فيه ثوم، فرده ولم يأكل منه، فقال له: أحرام هو؟ فقال: [لا، ولكني
أكرهه] فقال: إني أكره ما كرهت» .
قال الشيخ أبو عمرو: وهذا يبطل وجه التحريم.
والله تعالى أعلم.
مسألة:
ومثل ذلك الضب، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لست بآكله ولا
محرمه» أي على الناس، وإنما أمسك عن أكله تقذراً.
وقد قال له خالد: يا رسول الله، أحرام؟ قال: «لا ولكنه لم يكن بأرض قومي،
فأجدني أعافه» .
وهكذا يكره لكل من كره أكل شيء أن يأكله، لما روى أبو داود «عنه صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إن من القرف التلف» ، وقد كره الأطباء
ذلك، لما يؤدي إليه من سوء المزاج.
والله تعالى أعلم.
(1/320)
مسألة:
وروى البخاري «عن أبي جحيفة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: أما أنا فلا آكل متكئاً» ، فقال بعض أصحابنا: إن ذلك كان حرام عليه.
قال النووي: والصحيح أنه كان مكروهاً في حقه لا حراماً.
قلت: فعلى هذا لا يبقى من باب الخصائص، فإنه يكره لغيره أيضاً الأكل
متكئاً، سواء فسر الاتكاء بالاضطجاع ـ كما هو المتبادرإلى أفهام كثيرين،
لما يحصل به من الأذى، كما نهي عن الشرب قائماً ـ أم بالتربع كما فسره
الخطابي وغيره من أهل اللغة، وهو الصحيح عند التأمل وإنعام النظر، لما فيه
من التجبر والتعاظم، والله تعالى أعلم.
مسألة:
قال أبو العباس بن القاص: ونهي عن الطعام الفجأة، وقد فاجأه أبو الدرداء
على طعامه فأمره بأكله، وكان ذلك خاصاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قال البيهقي: لا أحفظ النهي عن طعام الفجأة من وجه يثبت، ثم
أورد حديث أبي داود من
(1/321)
رواية درست بن زياد، عن أبان بن طارق، عن
نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: [من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله، ومن دخل
على غير دعوة فقد دخل سارقاً، وخرج مغيراً] .
مسألة:
قالوا: وكان يجب على من طلب منه طعاماً ليس عنده غيره أن يبذله له، صيانةً
لمهجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووقاية لنفسه الكريمة
بالأموال والأرواح، لقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} .
قلت: ويشبه هذا الحديث الحديث الذي في الصحيحين: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون
أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» .
مسألة
روى البخاري «عن الصعب بن جثامة مرفوعاً: [لا حمى إلا لله ورسوله] » .
قال بعض أصحابنا: هو مختص به.
وقال بعضهم: بل يجوز لغيره
(1/322)
لمصلحة، كما حمى رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النقبع، وحمى عمر رضي الله عنه السرف والربذة، إلا ما
حماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجوز تغييره بحال.
ومن ذلك الهبة
مسألة:
كان يقبل الهدية ويثيب عليها، ثبت ذلك في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها،
وما ذاك إلا لما يرجو من تأليف قلب من يهدي إليه، بخلاف غيره من الأمراء،
فإنه قد صح الحديث أن هدايا العمال غلول، لأنها في حقهم
(1/323)
كالرشى لوجود التهمة، والله تعالى أعلم.
مسألة:
قال زكريا بن عدي حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن ابن عطاء ـ قال
زكريا: أراه عمر ـ عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربو في
أموال الناس فلا يربو عند الله} قال: هو الربا الحلال، أن يهدي يريد أكثر
منه، فلا أجر فيه ولا وزر.
ونهي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة: {ولا تمنن تستكثر} .
رواه البيهقي عن الحاكم.
وغيره عن الأصم، عن محمد بن
(1/324)
إسحاق، عن زكريا.
وهو أثر منقطع، إن كان عمو بن عطاء هو ابن وراز، وهو ضعيف أيضاً، وإن كان
ابن أبي الخوار فقد روى له مسلم، وقد روى عن ابن عباس، ولكن الأمر فيه
مبهم.
كتاب الفرائض
مسألة:
وهو أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث، وأن ما تركه صدقة، كما أخرجاه في
الصحيحين «عن أبي بكر رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها سألته ميراثها
من أبيها، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث ما تركنا
صدقة» إنما يأكل آل محمدفي هذا المال، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهده.
ولهما «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا
يقسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقه نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة» .
وقد أجمع على ذلك أهل الحل والعقد، ولا التفات إلى خرافات الشيعة والرافضة،
فإن جهلهم قد سارت به الركبان. |