المستشرقون والسيرة النبوية

محمد في مكة (1)

(1/47)


1- النزعة الشكّيّة والافتراض والنّفي الكيفيّ
1
يبدو (مونتغمري وات) على مستوى تقنية البحث متفوّقا بمعنى الكلمة، وهو يمتلك أداة البحث ومستلزماته، ويعتمد أسلوبا نقديا مقارنا يثير الإعجاب، وقد تمكّن بواسطته من تحقيق عدد من النتائج القيّمة على مستوى السيرة. وإن كان يلح أحيانا في نزعته النقديّة، كما سنرى، الأمر الذي قاده كما قاد عددا من رفاقه وأسلافه إلى تنفيذ عملية (نفي) واسع النطاق لمساحات من حقائق السيرة المتعارف عليها.
أما في الدائرة الثانية، دائرة (الموضوعية) التي قال الرجل بأنه سيلتزمها في بحثه فإنه لم يستطع أن يتحرّر بالكلّيّة من الضغوط المضادّة وعوامل الشدّ اللامنهجية، على الرغم من أن ثمة ما يميزه في عصر المذهبية التاريخية ويحسب لصالحه، إنه لا يفترض أو يعتنق، رؤية محددة سلفا، ويأتي إلى التاريخ لكي يعيد تركيبه وفق رؤيته تلك، ويعالج وقائعه بما يجعلها تنسجم، قسرا، مع مقولات المذهب، ويفصل ويقص ويمطّ الجزئيات التاريخيّة لكي تكون على (قدّ) القالب المصنوع سلفا.. وينتقي ويتقبّل كلّ ما يتناغم مع قناعاته هذه، وما لا يكون كذلك يعزل ويستبعد.
إن الرجل يعتمد منهجا مغايرا هو أقرب إلى الموضوعية.. إنه يسعى لأن يبدأ حركته مع الوقائع التاريخية، دون أي افتراض مسبق، ثم تجيء استنتاجاته وتنظيراته مستمدة مما تقوله الوقائع نفسها، ومما تتمخض عنه مكوناتها الأساسية وعلاقاتها المتشابكة.

(1/49)


لكننا مع ذلك يجب ألا نذهب في حسن الظن إلى المدى.. لأن الرجل بسبب من إلحاحه على التجريب في ميدان الوقائع؛ يرغمها- أحيانا- على أن تتكلّم، على أن تقول أيّ شيء حتى لو كان مناقضا للتيّار الأوسع والأعمق لحركة العصر الذي تتدفق عبره تلك الجزئيات التاريخية.
ويقينا فإن الكثير من استنتاجات (وات) ، بإحالتها على الأرضية التاريخية الشاملة التي تنتمي إليها الوقائع التي شكّلت الاستنتاج، سوف ترتطم بالكثير من المسلّمات والبداهات!!
ولا نريد أن نواصل اتّهام الرجل بهذه الخطيئة أو تلك فنقع في مظنة المبالغة والهوى.. والأحكام المسبقة.. ولكننا بدلا من ذلك سنسعى إلى اختبار معطياته لنعرف ما إذا كانت قد تضمّنت واحدا أو أكثر من الأخطاء المنهجيّة التي مارسها معظم المستشرقين في حقل السيرة.. وحينذاك فقط يمكن أن يكون الحكم أقرب إلى الصواب.
وسيحاول البحث أن يتجنّب الدخول- قدر الإمكان- في مناقشة التفاصيل والجزئيات، أو حتى الرد أو المناقشة المتوازية مع كل مقولة قد تتضمن خطأ ما.. إنما ينصبّ الاهتمام على تحديد الجذور المنهجية وتنفيذها على الموضوع من قبل (وات) .. وقد لا يستلزم كل شاهد مناقشة أو ردا ما دام أن مهمة هذا البحث ليست دراسة حقائق السيرة، وإنما مناهج التعامل معها «1» .
إن بمقدور المرء أن يتلمس عبر قراءته لكتاب (محمد في مكة) اثنتين من تلك الثغرات المنهجية التي تتردد في معطيات المستشرقين.. تتمثّل أولاهما في ذلك الانسياق وراء النزعة النقدية التي تبلغ على أيدي بعضهم حدّ النفي الكيفي للروايات أو إثارة الشكوك حول صحتها.. وتتمثّل ثانيتهما في إسقاط الرؤية والمواضعات المعاصرة، ذات الطابع النسبي، على الوقائع
__________
(1) يمكن الرجوع في هذا المجال لكتاب للمؤلف بعنوان: (دراسة في السيرة) .

(1/50)


التاريخيّة الماضية، ومحاولة تحكيم المنطق الوضعي واعتماده في تحليل مكونات تلك الوقائع، وارتباطها وتفحص طبيعة نسيجها.
وثمّة مأخذ آخر أقل ترددا في كتاب (وات) يقوم على فكرة رد بعض وقائع السيرة إلى أصول دينية سابقة، يهودية ونصرانية، فلنبدأ بالمسألة الأولى:
المبالغة في النقد، والنفي الكيفيّ، وإثارة الشكوك، واعتماد الضعيف الشاذّ ...
بعد استعراض أهم أحداث السيرة بين ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم وزواجه بخديجة رضي الله عنها وتحليلها، يقول (وات) : «تلك هي الوقائع التي تهيمن على حياة محمد قبل زواجه، من وجهة نظر المؤرخ بعض هذه الوقائع موضع جدل.. وهناك مع ذلك عدد كبير من الروايات التي يمكن تسميتها «بذات الطابع الفقهي» ، ولا شك أنها ليست حقيقة بالمعنى الواقعي للمؤرخ؛ لأنها تحاول وصف وقائع يمكن نسبتها لفترات لا حقة من حياة محمد ولكنها تعني مع تلك مغزى محمد بالنسبة للمسلمين والمؤمنين؛ فهي بذل حقيقة بالنسبة إليهم.. وتكون ملحقا مناسبا لحياة نبيهم. وربما يمكن اعتبارها كتعبير (لمن كان له عيون ترى) فرأى لو كان شاهدا لها، ويكفي أن نذكر أشهر هذه القصص كما يرويها ابن إسحاق» «1» .
ويورد وات نص رواية (الملكين) و (وبحيرى الراهب) كما يرويها ابن إسحاق، ثم يعقّب عليها بأن القارئ يجد نفسه إزاء أرضيّة مهزوزة لوقائع هذا المدى الزمني الذي يبلغ ربع القرن بين الميلاد والزواج.
أولا: لأن بعض هذه الوقائع موضع جدل.
ثانيا: لأن هناك عددا كبيرا من الروايات يمكن تسميتها بذات الطابع الفقهي، وهي ليست حقيقة بالمعنى الواقع المؤرخ، وإنما هي حقيقة فقط بالنسبة للمسلمين!!.
__________
(1) محمد في مكة، ص 66.

(1/51)


ثالثا: لأن بعض الوقائع يمكن نسبتها لفترات لاحقة من حياة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنها سحبت إلى الوراء..
وإذا كانت قصة (بحيرى الراهب) موضع جدل، وقد تتعرض للاهتزاز أمام النقد «1» ؛ فإن حادثة شق الصدر تستعصي على النفي؛ لا لأن مسلما «2» وأحمد «3» أخرجاها فحسب- فضلا عن ابن هشام «4» وابن سعد «5» والبلاذري «6» وغيرهم من المؤرخين الأوائل- ولكن لكونها واقعة ترتبط بنسيج الظاهرة النبوية ذات الأصول الغيبيّة التي يصعب التعامل معها في إطار التحليل العقلي بمنظور تاريخي. وها هنا، فإن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي في نسيجها المغيّب بالمنظور، ويتداخل تداخل السدى باللحمة.. ونحن إما أن نقبل هذا البعد الذي يجعل من محمد عليه الصلاة والسلام (نبيا) ويرتب نتائج النبوة على أسبابها في التكوين النفسي، وإما أن نرفضه من الأساس وحينذاك يمكن حتى لظاهرة (الوحي) أن تستحيل إلى فعل منظور.. وإلا ألحقت «بالروايات ذات الطابع الفقهي التي هي ليست حقيقة بالمعنى الواقعي للمؤرخ، وإنما هي حقيقة بالنسبة للمسلمين» .
ولن يستطيع أحد بعد تجريد الواقعة التاريخية من بعدها الواقعي الحقيقي، إلّا أن يعتبرها غير تاريخيّة على الإطلاق!!
حتى إذا ما تزوج محمد صلى الله عليه وسلم وأنجبت زوجته رضي الله عنها أولادهما السبعة المعروفين؛ فإننا نجد أنفسنا أمام هذه الفرضية التي يطرحها (وات) :
__________
(1) انظر: دراسة في السيرة للمؤلف، ص 271- 272 (الطبعة الخامسة المنقحة) .
(2) 1/ 101- 102.
(3) 3/ 121.
(4) تهذيب، ص 31- 33.
(5) طبقات: 1/ 1/ 70- 74.
(6) أنساب الأشراف: 1/ 81- 82.

(1/52)


إذا كانت خديجة قد أنجبت ولدا في كل سنة «فإنها تكون في الثامنة والأربعين من عمرها عند ولادة الأخير، ليس هذا مستحيلا ولكنه غريب يثير التعليق، وهو من الأمور القابلة لأن تصبح فيما بعد معجزة» «1» .
والمسألة في أساسها لا تقتضي هذا التعقيد، فإن خديجة رضي الله عنها قد تكون أقل من الأربعين عمرا لدى زواجها، وقد تكون- فعلا- في الأربعين؛ لأنّ الإنجاب حتى الخمسين ليس مستحيلا.. لكن (وات) يا بني على هذه المسألة موقفا؛ وهو: «إننا لا نعثر على أي تعليق بهذا الصدد في كل صفحات ابن هشام وابن سعد والطبري» «2» . فكأن هؤلاء المؤرخين لا يملكون أي حس نقدي، كما أنه يلمح بموقف آخر: إن هذا من الأمور القابلة لأن تصبح فيما بعد معجزة، وبالتالي فإن أتباع الرسول أو الأجيال المسلمة عموما، تمتلك الاستعداد السهل لتحويل كل ظاهرة بعيدة عن المألوف بدرجة أو أخرى، إلى معجزة!!
عند بدء الدعوة يطرح (وات) هذا (المانشيت) العريض: «يوجد كثير من عدم الاطمئنان حول الظروف التي صحبت دعوة محمد، ومن الممكن إذا محّصنا أقدم الروايات أن ننتهي إلى رسم صورة عامة جديرة بالثقة، وإن كانت مختلفة التفاصيل ولا سيّما التواريخ غير الأكيدة» «3» .
لا بأس.. فما دام يشير إلى إمكانية رسم صورة عامة جديرة بالثقة، فإذا يمكن أن نتقبّل مبدئيا شكوكه حول الظروف التي صحبت الدعوة و (التفاصيل) و (التواريخ) .
ولكن هل نجح (وات) في بناء الصورة الجديرة بالثقة؟!
__________
(1) محمد في مكة، ص 73.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 93.

(1/53)


يمكن أن تكون المسألة نسبيّة؛ فهو بالمقارنة مع غيره من المستشرقين الذين درسوا السيرة يعدّ- ولا شكّ- أقدرهم على النجاح في هذه المهمة.. ولكنه بالنسبة للمنظور الإسلامي، الأكثر أصالة واتساعا، لواقعة السيرة يبدو أسير حشد من الشكوك، وتخرج الصورة من بين يديه وقد أزيل منها الكثير من مكوّناتها الحقيقية الواقعية، وأضيف إليها- في الوقت نفسه- بعض ما لم يكن فيها أساسا!!
وفي قضية (الوحي) - على سبيل المثال- تعترضنا- يقول وات- صعوبة صغيرة فيما يتعلق بالتواريخ؛ فالكلمات التي تختتم أول ما نزل من الوحي:
(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) هي من الوحي السابق، ويفسر المسلمون القول السابق بأنه يعني (علم استعمال القلم) ، وليس لهذا من فائدة إذا كان محمد لا يعرف القراءة والكتابة، ويبدو (ورقة بن نوفل) من بين الذين اتصل بهم محمد لسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة. ولا شك أن المقطع القرآني حين ردّده محمد قد ذكره بما هو مدين به لورقة.
«ومن المغري (!!) أن نفكّر بأن هذا كان نتيجة لملاحظة ورقة بصدد الناموس، ولكن هذا يتطلب وحيا سابقا على مقطع (اقْرَأْ) ليغذي تلك الملاحظة، ولهذا من الأفضل الافتراض بأن محمدا كان قد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر وتعلم أشياء كثيرة، وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة، وهذا ما يعود إلى طرح مشكلة العلاقة بين الوحي الذي نزل على محمد والوحي السابق له» «1» .
وسنعرض فيما بعد لمسألة الأخذ عن ورقة، وتأثر التعاليم الإسلامية اللاحقة (كثيرا بأفكاره) !
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 93.

(1/54)


ولكنّنا نودّ أن نشير هنا إلى دوّامة (الشكّ) التي يثيرها (وات) في لحظات (الوحي) الأولى.. إن المسألة واضحة، وقد جرت بالشكل المعروف التالي الذي تحدّثنا به عائشة رضي الله عنها: « ... حبب إليه صلى الله عليه وسلم الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه، (يتعبد الليالي ذوات العدد) قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني «1» حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:
اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زمّلوني، زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلّا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانيّ من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: يا بن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟
قال: نعم.. لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي» «3» .
__________
(1) أي: ضمّني وعصرني.
(2) أي: رجع بالآيات أو القصة.
(3) البخاري: (تجريد: 1/ 6- 7، طبعة سنة 1931 م) .

(1/55)


فأي وحي سابق هذا؟ وأية صلات مبكّرة ومستمرّة مع (ورقة) ؟ إن (وات) إذ يهدم جوانب من واقعة الوحي الأولى، مما أجمع عليه المؤرخون والمحدّثون؛ يعود فيفترض جوانب أخرى مما لم يشر إليه مؤرّخ أو محدّث، ثم هو يكشف عن انسياقه وراء منهجه النقدي المتشكّك بعبارة:
«من المغري أن نفكّر» .. كما أنه يمارس نوعا من المبالغة، أو التعميم، بعبارة: «وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار (ورقة) ..» دون أن يبين هذا التأثير أو أدلته على وجه التحديد.

2
وقد يتمخّض الشكّ في الرواية لدى (وات) من خلال المعطيات الزمنية التالية التي تحدث نوعا من الاتفاق العرضي بين تفاصيل الرواية وبين ما حدث فيما بعد، وقد يطاح بالرواية نتيجة هذا الاتفاق الذي يرى فيه (وات) قصدا متعمدا لتحقيق مصلحة، أو تمجيد شخصية، أو تنفيذ دعاية لهذه الشخصية أو تلك.
فمثلا «لما كان النبل يقوم مبدئيا في الإسلام على الإخلاص لقضية الأمة الإسلامية، فقد استغل المسلمون حقوق أجدادهم في النبل والكرامة، ولهذا يجب معالجة أخبار المسلمين الأول بحذر، فإذا ما وجدنا أن أحفاد شخص ما أو المعجبين به يعلنون أنه كان بين المسلمين العشرة الأوائل، فمن الحذر الافتراض أنه كان على الأغلب الخامس والثلاثين بينهم» «1» .
ومثلا قول الطبري: «إنه بعد هؤلاء الثلاثة الذين كانوا أول من انتمى للإسلام، يأتي عدد مهم من المسلمين الذين جاء بهم أبو بكر، موضع شكّ، لأن هؤلاء الرجال المذكورين هم في الحقيقة الخمسة الذين أصبحوا
__________
(1) محمد في مكة، ص 144.

(1/56)


القادة مع علي حين وفاة عمر، فقد عيّنهم لتأمين انتخاب الخليفة في مسألة الستة (الشورى المعروفة) . وأن من الصعب القول بأن الخمسة أنفسهم قد جاؤوا معا إلى محمد قبل عشرين سنة عند بدء الإسلام. وأسماؤهم هي:
عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، طلحة بن عبيد الله» «1» .
ألا يجوز أن يكون اختيار عمر رضي الله عنه لهؤلاء الرجال الستة، كي ينتخبوا من بينهم الخليفة التالي، كونهم أول من أسلم بعد أبي بكر نفسه، فاكتسبوا بذلك ليس مكانة في قلوب المسلمين وشرفا في الإسلام فحسب، ولكن خبرة وإدراكا تمكنانهم من قيادة دولة أصبحت تمدّ ظلّها على مساحات واسعة من العالم القديم.. أيكفي هذا التطابق الذي ربما يكون متعمدا، لكي نضع الرواية وشبيهاتها موضع الشك، ونضحّي بها؟
عبر هذا السياق من الشكّ أو النفي، يمكن أن نجد افتراضات أخرى يطرحها (وات) يشكّك من خلالها، أو ينفي، روايات ووقائع (قبلية) اعتقد أن ذكرها أو تدوينها فيما بعد يحقق مصلحة أو دعاية لهذه الفئة أو تلك أو لهذه الأسرة أو تلك.
فمثلا يمكن «أن نفرض أن حماية مطعم بن عدي، زعيم بني نوفل، لمحمد، إثر عودته من الطائف، كان ببعض الشروط، وأن نجد حديثا عن ذلك في المصادر، وليس ذلك مدهشا لأن القصة تروى لتمجيد نوفل، ثم أهملت فيما بعد لأنها تسيء لبني هاشم، ولهذا لا يذكرها ابن إسحاق (بينما يدخلها ابن هشام» «2» ، ومثلا «إن عروة كان ينتمي لبيئة سياسية في الدولة الإسلامية؛ وهي الحزب الحاكم أيام محمد المؤلّف من الثلاثي أبي
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 145- 146.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 222.

(1/57)


بكر، عمر، وأبي عبيدة (!!) ، ثم حزب عائشة، طلحة والزبير، الذي عارض عليا سنة 36 هـ ومعاوية معا، ثم الحزب المسؤول عن الثورة ضد الأمويين من سنة 62- 72 هـ، (وليست هذه الجماعات متماثلة، بل يوجد بينها نوع من الاستمرار) وليس من المستغرب إذن أن نجد بين المواد التي رواها عروة عناصر تجعل قبائل أمية هي المسؤولة عن معارضة محمد وأبي بكر، وتظهرها بمظهر سيّئ، ومن ذلك شكاوى محمد من مسلك بني عبد مناف نحوه، وقوائم المعارضين وفظاظة أبي جهل ولجاجته للقتال» «1» .
ومثلا «يجب أن نتذكر أن هناك من حاول التقليل من أهمية الانتصارات الأولية التي حازها محمد (في المرحلة المكية) ؛ لأن أحفاد الذين تبعوه لفترة من الزمن ثم تركوه لا يودّون أن تذكر هذه الأمور» «2» .
ومثلا «يهمنا أن نذكر أن عروة (الأخباري المعروف) كان ينتمي لعائلة الزبير المعادي حينئذ لعائلة أمية، وأن روايته العائلية تسعى للمبالغة في الاضطهاد وتأثيره على مجرى الحوادث، اعتمادا على أن قبيلة أمية كانت إلى جانب المعارضة لمحمد» «3» .
وسنتكلم عن موقف (وات) من مسألة الاضطهاد القرشي بعد قليل، والمهم أنه ليس عروة وحده الذي تحدث عن وقائع الاضطهاد لكي نشكك في كونها مبالغا فيها نكاية ببني أمية، وإنما غيره من الأخباريّين والمؤرّخين الذين لم تكن لهم صلة مباشرة بهذه العائلة أو تلك!!
ودور العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الكبرى معروف، كما أن دوره في فتح مكة أيضا معروف.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 267.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 171.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 231.

(1/58)


ومعروف أيضا أنه لم يقف يوما بمواجهة الدعوة، أو يلحق بها المتاعب، على الرغم من وثنيّته، خلافا لما صدر عن أخيه أبي لهب، حتى ليمكن اعتبار العباس أحد مستشاري الرسول صلى الله عليه وسلم وحماته أسوة بعمّه المتوفى أبي طالب، ولا ندري مدى صحة الرواية التي تقول: إنه أسلم في فترة مبكرة، وأنه اختار أن يظلّ في مكة لتأدية مهامّه في خدمة الدعوة من هناك مستندا إلى مكانته العائلية.
ومهما يكن من أمر فإن (وات) يرى أن ينفي وجوده في بيعة العقبة بالصيغة القاطعة التالية: «يجب رفض الحادث الذي وقع للعباس على أنه اختراع لا حق لإخفاء المعاملة المشينة التي لحقت بمحمد على يد بني هاشم في ذلك الوقت، كان محمد عند عودته من الطائف في حماية سيد قبيلة نوفل، أما القول بصحة الحادث لأن العباس يتكلم فيه ككافر فلا أساس له» «1» . ويمضي (وات) إلى الاستنتاج التالي: «كان الشرك في نظر المعارضين (في نهاية القرن الأول الإسلاميّ) أقلّ من العار، أما الرواية المنسوية لوهب بن منبّه والتي حفظت على ورق البردي فهي تميل إلى تأكيد الرأي الذي تقدّمنا به سابقا.
يمدح العباس محمدا في هذه الرواية، ثم يأذن محمد لأحد المدنيين بالرد على العباس ومؤاخذته مظهرا له أنهم يحسنون الظن بمحمد أكثر منه، ونشعر أنّنا أمام ردّ على دعاية العباسيّين، والافتراض الذي يبعث على الرضا هو أن زيارة العبّاس للعقبة اختراع محض استخدمته الدعاية العباسية» «2» .

3
ومسألة اضطهاد الزعامة الوثنية للمسلمين معروفة تماما.. ومتواترة إلى الحدّ الذي تغدو معه محاولة إثباتها عملا لا مسوّغ له.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 232.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 232- 233.

(1/59)


لكن وات يشكّ في أنها كانت بالعنف الذي تشير إليه المصادر، وينفي أن تكون (بالشدة) التي يعرفها الناس جيلا بعد جيل.. ويثير الشكّ حول ما يعدّه مبالغة في تصوير الموقف.. ويسعى لوضع لمساته على الوقائع كي تميل أكثر إلى الاعتدال، فهو يقول: «لا شك أن المصادر حين تتحدث عن فتنة المسلمين إنما تشير لمثل أعمال أبي جهل، وهي ليست مع ذلك فتنة قاسية، يتأكد ذلك إذا ما فحصنا بدقة سير ابن هشام والطبري وابن سعد، لأن ما يذكر فيها يتحدّث بلا شك عن أفظع الشواهد. وكل شيء يدعو إلى إقناعنا بأن الاضطهاد كان خفيفا. ومن الممكن أن المبالغة في الاضطهاد نشأت من محاولة نفي تهمة الارتداد عن الدين عن شخص من الأشخاص.
وتشهد الوثائق التي لدينا على مختلف مظاهر المعارضة المذكورة عن ابن إسحاق؛ فقد شتم محمد وتعرض لإهانات بسيطة كان تجمع أوساخ جيرانه أمام منزله، وربما زاد الإزعاج بعد وفاة أبي طالب. ومن الممكن أن يكون انخفاض رأسمال أبي بكر من 40000 درهم إلى 5000 بين اعتناق الإسلام والهجرة سببه الضغط الاقتصادي الذي كان يلوح به أبو جهل، وليس شراء العبيد كما يقول ابن سعد؛ لأن ثمن العبد لم يكن يتجاوز ال 400 درهم تقريبا، وأشهر الأمثلة على التعذيب الجسدي ما نزل بالعبيد؛ كبلال وعامر بن فهيرة، كذلك رفض العاص بن وائل أن يسدد دينا للخباب بن الأرتّ، ويمكن أن نذكر نوعا رابعا من الاضطهاد؛ وهو الضغط الذي يقوم به الآباء والأعمام والإخوة على أفراد عائلاتهم أو قبائلهم» «1» .
ويخلص (وات) إلى النتيجة التالية: «كان اضطهاد المسلمين إذن خفيفا؛ لأن نظام الحماية في مكة- حماية القبائل لأفرادها- كان يمنع من أن يؤذى المسلم على يد فرد من قبيلة أخرى حتى لو كانت قبيلة المسلم لا تميل إلى
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 190- 191.

(1/60)


الإسلام، لأن الامتناع عن نصرة العشير في نزاعه مع الآخر يعد مساسا بشرف القبيلة، ولهذا اقتصر الاضطهاد على:
1- حالات لا تمس علاقات القبائل حين يكون المضطهدون في القبيلة نفسها، أو حين تكون الضحية لا تحميها أية قبيلة.
2- أعمال غير مذكورة في شريعة الشرف التقليدية؛ كالإجراآت الاقتصادية والشتائم اللفظية التي لا تمس إلا الفرد وليس القبيلة.
وقد كان هذا الاضطهاد المحدود كافيا لتنشيط الإسلام الوليد ولكنه لم يستطع ردّ أيّ مؤمن عن دينه» «1» .
والحديث عن عنف الاضطهاد يطول، ولن يتّسع المجال سوى لطرح إشارات فحسب عن بعض ما كان يجري بين المسلمين وخصومهم يتبين من خلالها أن الاضطهاد لم يكن (خفيفا) كما ذهب (وات) .
كانت كل قبيلة تثب على من فيها من المسلمين، أحرارا وعبيدا، فتحبسهم وتعذبهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي ينصب عليه، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. وقد روى مجاهد أن المستضعفين من المسلمين ألبسوا دروع الحديد وصبروا في الشمس حتى بلغ الجهد منهم «2» .
وكان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم في رمضاء مكة، فيمرّ بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة!! وقتلت أمه وهي تأبى إلّا الإسلام، ويقال بأنها أغلظت لأبي جهل في القول فطعنها في بطنها.. وكان عمار يعذّب
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 192.
(2) البلاذري: أنساب: 1/ 158.

(1/61)


حتى لا يدري ما يقول «1» . وجيء بخباب بن الأرتّ فجعلوا يلصقون ظهره بالأرض على الرضف حتى ذهب ماء متنه، ويقول خباب نفسه: لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري فما أتيت الأرض إلّا بظهري، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«لا يتمنّينّ أحدكم الموت» لتمنّيته!! «2» .
وقد بلغ من شدّة الاضطهاد أن بعض المسلمين قد تضعضعوا أمام المحنة ولم يطيقوا تحمل الأذى والاضطهاد، وأنهم أبدوا شكّهم في نصر الله الموعود للمسلمين، فنزلت الآيات 11- 15 من سورة الحج تحمل على هذا النوع من الناس بأسلوب عام حملة لاذعة:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) «3» .
عن سعيد بن جبير، قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟
قال: نعم! والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه وما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به «4» .
ولعل (وات) كان يمهّد بوجهة نظره تلك (لنفي) آخر لواحدة من وقائع السيرة المكية المعروفة تماما: إن هجرة المسلمين إلى الحبشة كانت بسبب الاضطهاد.. لكي يطرح بدلا من ذلك شكّه في هذا السبب، ويقدّم بديلا عنه: محاولة الرسول صلى الله عليه وسلم تفادي انشقاق كاد يقسم المسلمين حزبين!!
__________
(1) المصدر السابق نفسه: 1/ 158- 159.
(2) المصدر السابق نفسه: 1/ 178.
(3) دروزة: سيرة الرسول: 1/ 283- 284.
(4) ابن هشام: تهذيب، ص 72، البلاذري: أنساب: 1/ 197.

(1/62)


يضطرب (وات) في تحليل أسباب الهجرة إلى الحبشة وبقاء المسلمين هناك ردحا طويلا بين خمسة أسباب: أولها: الهروب من الاضطهاد، وثانيها: البعد عن خطر الارتداد، وثالثها: ممارسة النشاط التجاري، ورابعها: السعي للحصول على مساعدة حربية من الأحباش، ثم يشكّك في جدوى الاعتماد على هذه الأسباب ويقول: «من الصعب مقاومة الفكرة القائلة بوجوب الاطمئنان إلى السبب الخامس؛ وهو أنه نشأ انقسام قويّ في الرأي داخل أمّة الإسلام الناشئة» «1» .
وفي مكان سابق كان (وات) قد قال: «يبدو أن إقامة خالد بن سعيد الطويلة في الحبشة تشير إلى أنه كان على خلاف مع محمد في سياسته، وأنه لم يكن يوافق على التوجيه السياسي المتزايد للإسلام، ولا على أهمية الدور السياسي لمحمد بسبب نبوته، ولو أن خالدا اهتم بالنواحي السياسيّة للرسالة لدفن خلافه مع محمد، وعاد إلى مكة قبل السنة السابعة للهجرة» «2» .
يستنتج (وات) من هذه الأخبار القليلة التي ساقها حدوث خلاف في الرأي بين المسلمين، وخاصة مع أبي بكر الذي كانت له مكانة قوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوعز لمخالفي أبي بكر بالهجرة إلى الحبشة تفاديا للأخطار التي قد تنجم عن هذا الخلاف، غير أن الأدلة التي يسوقها (وات) ليست قوية، فإن بعض من هاجر إلى الحبشة كعثمان وطلحة كانوا من أصحاب أبي بكر.. كما أن اختفاء أسماء بعض المسلمين الأول المهاجرين وعدم لعبهم دورا رئيسيا في السياسة فيما بعد، وخاصة في عهد أبي بكر، لا يمكن أن يعزى إلى خلافهم معه فقط، بل قد يرجع إلى انشغالهم بأمور أخرى في الحياة، والواقع أن أبا بكر استعان بكثير ممن أسلم عند فتح مكة أو بعدها، وبأولاد كثير ممن قاوم الإسلام، فلو أهمل أبوبكر رجلا لماضيه لكان الأجدر به أن يهمل هؤلاء ولا يسلّمهم قيادة
__________
(1) محمد في مكة، ص 182- 189.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 162.

(1/63)


الجيوش الإسلامية التي أحسنوا قيادتها. والواقع أن الآيات القرآنية «1» توحي بأن دافع الهجرة هو الاضطهاد الشديد الذي وقع على المسلمين، والمحاولات التي بذلها المشركون لفتنتهم، وإنها هي التي دفعت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيعاز بالهجرة «2» ، الأمر الذي كاد أن يدفع أبابكر نفسه إلى الهجرة لولا أن أجاره أحد الزعماء «3» .
وحتى في المسائل الحاسمة التي لا تقبل مداورة ولا التواء، يحاول (وات) أن يقتحم (بشكّه) و (نفيه الكيفيّ) جدار الوقائع، لكي يزرع هناك افتراضاته وتحليلاته.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهاجم يوما عبادة الأصنام في الكعبة، وإنما انصبّ هجومه على عبادة الأصنام القابعة في المعابد الكائنة في ضواحي مكة. ولذا فإن معارضة مكة للإسلام لم يكن سببها الأساسي «الخوف من أنه إذا دان أهل مكة بالإسلام وتركوا الإلحاد كفّ البدو عن زيارة الكعبة، وحلّ الخراب بذلك في تجارة مكة، وهذا السبب غير مرض، فسوف نحاول عبثا العثور في القرآن على أي أثر لمهاجمة عبادة الأصنام في الكعبة.. ولقد رأينا أن الهجوم على عبادة الأصنام كان في المعابد الكائنة في ضواحي مكة ولم يكن لهذه المعابد أهمية تجعل التخلّي عنها يهدد بانهيار التجارة المكّية عامة» . ويخلص (وات) إلى القول بأن «فتح مكة لم يغيّر سوى الميزات الثانوية» «4» .
لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ لحظات (إعلانها) الأولى وحتى دخول مكة وتحطيم الأصنام، صيحة متواصلة ضد الوثنية، وصراعا مكشوفا ضد الأصنام أيا كانت في مكة أو خارجها.
__________
(1) انظر: العنكبوت: 1- 23، البروج: 10، القصص: 57، الزمر: 10، النحل: 41، 110.
(2) د. صالح أحمد العلي: محاضرات في تاريخ العرب: 1/ 368.
(3) البلاذري: أنساب: 1/ 205- 206.
(4) محمد في مكة، ص 213- 214.

(1/64)


إن هذا التجزيء الذي يمارسه (وات) أسوة بكثير من المستشرقين مرفوض تاريخيا وعقيديا؛ فالحركة الإسلامية حركة توحيد مطلق ينفي منذ اللحظة الأولى أي توجه وثني، وقد أدركت الزعامة القرشية هذا جيدا، ولذا فإنها كانت مستعدة للتنازل عن أي شيء، لمنح الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما يريده إلّا هذه: شهادة ألاإله إلّا الله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في المقابل مستعدا أن يدخل في حوار مع الزعامة الوثنية في كل شيء إلّا في هذه: شهادة ألاإله إلّا الله، وما تعنيه بالضرورة من رفض مطلق للوثنية أو عبادة الأصنام.
ولا يدري المرء، إذا أخذ بوجهة نظر (وات) أين يذهب برواية البلاذري التي يشير فيها إلى اشتداد معارضة قريش للدعوة بعد تصاعد الحملات الشديدة التي راح الرسول صلى الله عليه وسلم يشنها ضد آلهتهم وأصنامهم «1» ، ولا أين يذهب برواية ابن هشام «2» والطبري «3» التي تذكر أن المشركين أخذوا- يوما- بمجامع رداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: أنت الذي تقول كذا وكذا في عيب آلهتنا وديننا؟ فما كان جوابه إلّا أن قال لهم: «نعم أنا الذي أقول ذلك» !! ولا برواية ابن هشام التي تتحدث عن ذلك الاجتماع الذي عقده زعماء قريش وبعثوا إلى الرسول ليكلموه.. وقالوا له: إنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام وفرّقت الجماعة.. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا..
فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا.. فإن تقبلوا مني ما
__________
(1) أنساب: 1/ 115- 116.
(2) تهذيب، ص 57- 60.
(3) تاريخ: 2/ 332- 333.

(1/65)


جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم..» «1» .
ولا يدري المرء كذلك أين يذهب برواية ابن سعد التي تقول: إن وفدا من زعماء قريش قدموا إلى أبي طالب ليلتمسوا إليه أن يكفّ ابن أخيه، فاستدعاه، وقال له: يا بن أخي هؤلاء عمومتك وأشراف قومك، وقد أرادوا أن ينصفوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا أسمع» !! قالوا: تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، قال أبو طالب: قد أنصفك القوم فاقبل منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أعطيتكم هذه، هل أنتم معطي كلمة إن أنتم تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟» ، فقال أبو جهل: إن هذه كلمة مربحة، نعم وأبيك لنقولنها وعشر أمثالها!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «قولوا (لا إله إلّا الله) » فاشمأزّوا ونفروا منها، وغضبوا وقاموا وهم يقولون:
اصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد «2» .
ومن عجب أن (وات) يضع يده في أكثر من موضع من كتابه على إحدى الحقائق الأساسية للحركة الإسلامية؛ أن التغيير الديني يتمخّض بالضرورة عن تغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية (وسنتناول هذه المسألة فيما بعد) وكان يجب عليه من أجل أن يكون منطقيا مع هذه القناعة أن يؤكد حقيقة التغيير الشامل الذي ينتظر مكة على يد الدعوة الجديدة، لكنه يتّجه وجهة معاكسة تماما، فيطرح مقولته تلك: أن فتح مكة لم يغيّر سوى الميزات الثانوية.
وثمّة فرق بطبيعة الحال بين الاعتماد على نظرية الأسباب الاقتصادية التي يرفضها (وات) في تفسير تخوف المكيّين من الإسلام «3» . وبين أن
__________
(1) تهذيب، ص 64- 67.
(2) طبقات: 1/ 1/ 135.
(3) محمد في مكة، ص 214.

(1/66)


الدعوة الإسلامية جاءت لكي تقلب مواضعات الحياة المكية، بما فيها الاقتصادية، رأسا على عقب.
وحول الرواية المعروفة التي يوردها الطبري وابن هشام وغيرهما، والتي تتحدث عن اجتماع الزعامة القرشية لاتخاذ موقف نهائي من الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل هجرته إلى المدينة، يثير (وات) شكّا جديدا: إن النية لم تنعقد على قتل محمد، ويستبدل بذلك- كعادته- افتراضا يراه، وهو أن محمدا ربما يكون قد رجم في مكة ذاتها بعد الاجتماع، وهو يطرح المسألة بالشكل التالي: «ليس هناك داع للشك بأنّ هذا الاجتماع قد عقد، وأن الحاضرين أدركوا أن محمدا يهيّئ مشاريع معادية لهم، كما يقول ابن إسحاق، وتوضح الحوادث التي وقعت فيما بعد بأن النية لم تنعقد على قتل محمد، لأنّ الاتفاق على ذلك لن يكون بالاجتماع كما تؤكده المصادر، ولربما كان وقوع الخطر يهدد محمدا وأتباعه برحيل محمد، ومن الصعب التأكّد من طبيعة الخطر الذي كان يهدد محمدا وأتباعه، فلقد أضيفت أشياء كثيرة على قصة الهجرة لتجميلها، حتى إن المصادر الأولى نفسها لم تخل من الإضافات، ولا يستبعد أن يكون محمد قد رجم في مكة ذاتها بعد الاجتماع» «1» .

4
إن (وات) الذي يعتمد- أحيانا- إثارة الشك في الواقعة التاريخيّة، أو نفيها إذا اقتضى الأمر، يسعى، بالاتجاه النقدي المبالغ فيه نفسه، إلى ما يقابل هذا ولا يقلّ عنه سوآ: افتراض وقائع أو استنتاجات معيّنة قد لا تدعمها حقائق السيرة ووقائعها، بل إنه يؤكد صدق رواية ضعيفة أو واقعة مدخولة ليس لها ما يؤيدها في حالة عرضها على التيار العام المتوحّد لتلك الحقائق والوقائع.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 237.

(1/67)


إنه إذا كان في الحالة الأولى يشكّك فيما هو أقرب إلى الصدق، فإنه في الحالة الثانية يصدق ما هو أقرب إلى الكذب.. والموقفان في حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة؛ هي عملة النقد الذي يتجاوز حده الإيجابي البنّاء إلى الهدم والنفي والتشكيك.. إنه يفترض- مثلا- أن الآية التي تندّد برفض السجود عند تلاوة القرآن «1» إنما هي بادرة لبعض المعارضة في صفوف المؤمنين، أو إنها نوع من الارتداد عن الدين، وهو يستعمل هذه العبارة الافتراضية: «ولربما تخيّلنا أن الآية يمكن أن تكون تلميحا ... إلى آخره» «2» .
كما يفترض أن «تجربة محمد في نخلة، عند عودته من الطائف «3» ، والتي هدأت من انحطاطه العصبي، مرحلة في حرمانه الثقة بالمجتمع الإنساني» «4» .
ولا داعي للتأكيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما فقد الثقة يوما بالمجتمع الإنساني، ولا عانى من أي انحطاط عصبيّ، وإنما طرح قولته المعروفة مخاطبا الله سبحانه وتعالى: (إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي) ، والتي تتضمن معنى التماسك النفسي إزاء الأحداث، والثقة المطلقة بعون الله والاستعداد المتحدّي لمواصلة الطريق.
وعن سودة بنت زمعة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم الثانية بعد خديجة، يقول (وات) : «نستطيع أن نفترض أنّ صلتها بمحمد كانت صلة خادم
__________
(1) يشير بذلك إلى الآية 21 من سورة الانشقاق: (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) .
(2) المصدر السابق نفسه، ص 211.
(3) يشير وات بذلك إلى الآيات القرآنية التي تتحدّث عن سماع الجنّ للقرآن الكريم في سورة الأحقاف: (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) انظر الآيتين: 29- 30 من سورة الأحقاف.
(4) محمد في مكة، ص 217.

(1/68)


بمخدومه» «1» كيف؟ لا أحد يدري.. وما هي الوقائع التي تؤكد هذا التصوّر المظلم؟ لا أحد يدري كذلك.. وهو يفترض أن استدعاء محمد صلى الله عليه وسلم للمهاجرين من الحبشة في السنة السابعة للهجرة كان بسبب رغبته في تقوية مركزة بالاعتماد على تأييد تلك الجماعة الصغيرة «2» .
والافتراضات كثيرة، والاعتماد على الضعيف الشاذّ منبثّ هنا وهناك، ولن يتسع المجال لمناقشتها أو حتى لاستعراضها.. ولكننا نريد أن نقف قليلا عند واحدة منها نظرا لخطورتها البالغة، ولكونها تمثل (نموذجا) واضحا لواحد من الأخطاء المنهجيّة التي يعاني منها البحث الاستشراقي:
الافتراض، وتبني الضعيف الشاذ ومحاولة ترصيعه وترصينه بعبارات التوثيق والتأكيد، بخلاف الروايات والوقائع التي يسعى إلى التشكيك بها، أو نفيها، حيث يحاول هدمها بعبارات التضعيف والتشكيك كما رأينا.
يقول (وات) - ولنلاحظ صيغ التأكيد التي يبثها في عباراته-: «نلاحظ واقعتين نستطيع أن نعدّهما أكيدتين: أولا: رتّل محمد في وقت من الأوقات الآيات التي أوحى بها الشيطان على أنها جزء من القرآن؛ لأنه لا يمكن أن تكون القصة قد اخترعها مسلمون فيما بعد أو دسها غير المسلمين.. ثم أعلن محمد فيما بعد أن هذه الآيات يجب ألّا تعدّ جزآ من القرآن، ويجب استبدال آيات بها تختلف عنها كثيرا في مضمونها.
والروايات الأولى لا تحدد الوقت الذي حدث فيه ذلك، والأقرب أن يكون ذلك قد وقع بعد بضعة أسابيع أو أشهر، وهناك واقعة ثالثة أو مجموعة وقائع نستطيع أن نكون واثقين منها؛ وهي أنه كان يجب على محمد تجاه معاصريه المكيّين أن يشير في القرآن للآلهة: اللات التي كانت معبودة الطائف، والعزّى المعبودة في نخلة بالقرب من مكة، ومناة التي كان معبدها
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 181.

(1/69)


بين مكة والمدينة ... ما تعنيه إذن الآيات الإبليسية أن الاحتفالات مقبولة في المعابد الثلاثة حول مكة، وأما معنى الآيات التي تقول بأن العبادة في هذه المعابد غير مقبولة فهي لا تحرم العبادة في الكعبة» .
«ويجب أن نعترف بأن الآيات التي صححت سورة النجم تمجّد الكعبة على حساب المعابد الآخرى، إلّا إذا افترضنا وجود آيات أخرى كانت تحرم ذلك، ثم رفعت فيما بعد من القرآن، ولكن ليس لدينا أي سبب يمكن الأخذ به، ومن المهم أن نتذكّر بهذا الصدد أن هذه المعابد قد هدمت عند صعود نجم محمد..» .
«وهكذا فإنّ قيمة الآيات الإبليسية مهمّة، فهل اعترف محمد بصحّتها لأنه كان يهم كسب الأنصار في المدينة والطائف وبين القبائل المجاورة؟
هل كان يحاول التخفيف من تأثير الزعماء القرشيين المعارضين له باكتساب عدد كبير من الأتباع؟ ذكر هذه المعابد دليل على أن نظرته أخذت في الاتساع (!!) » .
ويمضي (وات) إلى القول: «إن نسخ الآيات (الإبليسية) مرتبط بفشل التسوية (بين محمد وزعماء قريش) ، ولا شيء يسمح لنا بالاعتقاد أن محمدا قد استسلم لخداع المكيّين، ولكنه انتهى به الأمر إلى إدراك أن الاعتراف ببنات الله (كما كانت تسمى الآلهة الثلاثة وغيرها) يعني إنزال الله إلى مستواها. وعبادة الله في الكعبة لم تكن في الظاهر تختلف عن عبادته في نخلة والطائف وقديد. وهذا يعني أن محمدا لم يكن يختلف كثيرا عن كهّانهم، وأنه لم يكن يرى نفسه مدعوا لأنّ يكون تأثيره أعظم من تأثيرهم، ينتج عن ذلك: أن الإصلاح الذي عمل له من كل قلبه لن يتحقّق.
«وهكذا لم يرفض محمد عروض المكيّين لأسباب زمنيّة، بل لسبب دينيّ حقيقي؛ ليس لأنه لم يثق بهم مثلا، أو لأنه لم يبق شيء من مطامحه

(1/70)


الشخصية، بل لأن الاعتراف بالهتهم يؤدي إلى فشل قضيته والمهمة التي تلقّاها من الله، ولا شك أنّ الوحي قد نبّهه إلى ذلك، كما أنه من الممكن أن يكون قد شعر بخطئه بهذا الصدد قبل نزول الوحي..» «1» .
ويخلص (وات) إلى تركيز المسألة بالشكل التالي: «ولا شكّ أن محمدا قد نال نجاحا أمام زعماء قريش ليهتموا بأمره، فظهرت المحاولات لحمله على الاعتراف بصورة أو أخرى بالعبادة في المعابد المجاورة، وكان في أول الأمر مستعدا لذلك بسبب المنافع المادية (!!) ، ولأنه كان يشعر أنّ ذلك يساعده على تحقيق مهمته بسهولة، ثم أدراك شيئا فشيئا عن طريق النصح الإلهي أنّ ذلك كان تسوية مميتة، فأعدّ مشروعا لتحسين وسائله بالمحافظة على الحقيقة كما تظهر له، فأعلن رفض الشرك بألفاظ شديدة تغلق الباب في وجه كل تسوية» «2» .
إن هذه الواقعة المدخولة (التي تسمى أيضا بحديث الغرانيق) والتي يفترض (وات) أنها أكيدة، تحمل عناصر تناقضها واضطرابها وتهافتها.
إنها تعني: أن محمدا صلى الله عليه وسلم يمكن أن يخطئ، أو يتقبّل الخطأ، ولكن في ماذا؟ في أشد الأمور في دعوته وضوحا، وصرامة وجدّية، واستعصاء على الغموض، أو الخطأ أو التنازل أو المساومة: التوحيد المطلق لله، ورفض الوثنية رفضا جازما قاطعا لا يقبل مهادنة أو اعترافا..
إن (وات) نفسه يؤكد هذا المعنى، ولكن في تسويغ النسخ الذي تعرض له الموقف وليس في نفي الواقعة نفسها أو التشكيك فيها كما كان يجب أن يكون، ولا سيما بالنسبة لرجل يتميّز بالمهارة في النفي والتشكيك بالاستناد إلى ما يمكن اعتباره أدلة مقارنة أو مقنعة!!
__________
(1) محمد في مكة، ص 166- 168.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 176- 177.

(1/71)


ثم إن (وات) الذي أعلن في مقدمته أنه سيمتنع عن استعمال تعبير مثل:
«قال تعالى» ، أو «قال محمد» ، بل «يقول القرآن» يعتمد ها هنا صيغا وتعابير يخالف فيها عما أكده في مقدمته، ويوحي للقارئ بأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي يرتب آيات القرآن وفق ما تقتضيه الظروف!! فنحن نقرأ عبارات كهذه:
«أعلن محمد أن هذه الآيات لا يجب اعتبارها جزآ من القرآن، ويجب استبدال آيات بها تختلف عنها في مضمونها» ، «كان يجب على محمد أن يشير في القرآن للآلهة اللات» ، «إن ذكر المعابد في الآيات الإبليسية دليل على أن نظرته أخذت في الاتّساع» !!.
وهذا تناقض آخر.. فإنّ (وات) ما يلبث أن يبيّن خطأ هذا الموقف وتعارضه مع المهمة الأساسية التي تلقّاها محمد عن الله؛ وهي التوحيد..
وحتى على المستوى الشخصيّ فإن الاعتراف بالآلهة كان سينزل بمحمد صلى الله عليه وسلم كما يقرّر وات- من مرتبة النبوة المتفردة إلى أن يكون مجرد كاهن من كهان العرب!! فأيّ اتساع هذا في النظرة من خلال اعتراف بالأصنام يقود إلى نتائج سلبيّة واضحة كهذه؟
ولنرجع إلى رواية (الآيات الإبليسية) أو قصة الغرانيق التي أوردها ابن سعد في طبقاته والطبري في تاريخه وبعض المفسّرين.. إلّا أن رواياتهم، كما يقول ابن كثير في تفسيره: «من طرق مرسلة كلّها، ولم أرها مسندة من وجه صحيح» !!
«وأكثر هذه الروايات تفصيلا وأقلّها إغراقا في الخرافة والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ابن أبي حاتم (التي ينتهي سندها إلى ابن شهاب) قال:
أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه

(1/72)


ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هداهم، فلما أنزل الله سورة النجم قال: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان عندها كلمات فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لهي التي ترتجى ... فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وتباشروا بها وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك.. فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود.. فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين.. فاطمأنت أنفسهم- أي: المشركون- لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدّثهم به الشيطان: أن رسول الله قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيمهم آلهتهم.. ثم نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، وحفظه من الفرية وقال: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... )
إلخ، فلما بيّن الله قضاءه وبرّأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين، واشتدّوا عليهم..» وهناك روايات أخرى أجرأ على الافتراء، تنسب قولة.. الغرانيق تلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلل هذا برغبته- حاشاه- في مراضاة قريش ومهادنتها!!
وروايات الحادثة جميعا مرفوضة منذ الوهلة الأولى.. فهي فضلا عن مجافاتها لعصمة النبوة وحفظ الذكر من العبث والتحريف، فإن سياق السورة ذاته ينفيها نفيا قاطعا، إذ إنه يتصدّى لتوهين عقيدة المشركين في هذه الآلهة وأساطيرهم حولها، فلا مجال لإدخال هاتين العبارتين في سياق السورة بحال، حتى على قول من قال: إن الشيطان ألقى بها في أسماع المشركين دون المسلمين، فهؤلاء المشركون كانوا عربا يتذوّقون لغتهم، وحين يسمعون هاتين العبارتين المقحمتين ويسمعون بعدهما: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ

(1/73)


إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ، ويسمعون بعد ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، ويسمعون قبله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) .. حين يسمعون السياق كلّه فإنهم لا يسجدون مع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الكلام لا يستقيم والثناء على آلهتهم، وتقرير أن الشفاعة ترتجى لا يستقيم، وهم لم يكونوا أغبياء كغباء الذين افتروا هذه الروايات التي تلقفها منهم المستشرقون مغرضين أو جاهلين «1» .
و (وات) لا يكتفي بافتراض صحّة حديث الغرانيق هذا، بل يوسّع هذا الافتراض، فيا بني على عدد من الآيات التي تدعو إلى التوحيد ورفض الشرك، من مثل: (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ) «2» هذه النتيجة التي يطرحها بصيغة التأكيد:
«الاعتقاد بأنّ محمدا عانى من إغراء التسوية مدة طويلة» «3» .
ولا نريد أن نمضي في مناقشة هذا الاستنتاج، كما لا نريد أن نعرض لافتراضات (وات) بصدد ظاهرة (الوحي) «4» . لأن هذا يخرج بنا عن دائرة (الاستشراق والسيرة) إلى مواقف الاستشراق من (القرآن الكريم) ، ولكننا فقط- نلمح إلى افتراض آخر للرجل الذي حاول جهده أن يدرس السيرة بأكبر قدر من الأمانة والموضوعية والحيادية والإخلاص..فماذا تكون النتيجة؟ «يجب (بهذا التأكيد الذي لم يمارسه وات تجاه العديد من الوقائع
__________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، جزء 27، ص 634- 636، المجلد السابع، ط 5 (دار إحياء التراث العربي، بيروت- 1967 م) .
(2) الأنعام: 71.
(3) محمد في مكة، ص 174- 175.
(4) انظر: المرجع السابق، ص 85- 87.

(1/74)


الصحيحة المؤكّدة في السيرة) تفسير قول محمد: (ما أقرأ؟) في ردّه على قول الملك: (اقرأ) : (لا أستطيع القراءة) أو (التلاوة) ، يتضح لنا ذلك من وجود رواية تقول: (ما أنا بقارئ) ، وفي التمييز عند ابن هشام (ما أقرأ) ؛ و (ماذا أقرأ) حيث التعبير الثاني لا يمكن أن يعني إلّا: (ماذا أتلو) ؟ وهذا هو المعنى الطبيعي لقوله (ما أقرأ؟) ، ويبدو من المؤكّد تقريبا (لاحظ كلمة:
من المؤكد) أنّ المفسرين التقليديّين اللاحقين تجنبوا المعنى الطبيعي لهذه الكلمات ليجدوا أساسا للعقيدة التي تريد أن محمدا لم يكن يعرف الكتابة، وهذا عنصر رئيسي للتدليل على طبيعة القرآن المعجزة، ومحتوى رواية ابن شداد في تفسير الطبري، يفترض إذا كان النص صحيحا، إن (ما) بمعنى (ماذا) لأنها مسبوقة بالواو» «1» .

5
ومن قبيل (الافتراضات) التي يزرعها (وات) في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلح عليها وكأنها جزء أساسي من حقائق السيرة، أو هكذا يتوهم ويريد أن يجر القارئ المسلم معه إلى دائرة الوهم، تلك المقولة الظنيّة التي رددها الجاهليون أنفسهم من قبل؛ وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتلقى (العلم) عن رجال من أهل الكتاب!! أو أنه- على الأقل- تأثّر بهم وتعلّم منهم.
(لا شكّ) بهذا التعبير المناقض لشكّية (وات) يطرح الرجل واحدة من مقولاته، أو افتراضاته، في الدائرة التي نحن بصددها: «لا شك أن خديجة قد وقعت تحت تأثيره (أي: ورقة بن نوفل الذي اعتنق المسيحية أخيرا) ، ويمكن أن يكون محمد قد أخذ شيئا من حماسه وآرائه» «2» .
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 85- 86.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 75.

(1/75)


«وتشجيع ورقة مهم، ليس هناك من سبب للشكّ (لاحظ العبارة) في صحة الجملة بصدد الناموس، واستعمال اللفظ الذي لا يرد في القرآن بدلا من لفظ (التوراة) القرآني دليل على صحة القول.. أن النص الذي يجمع بين محمد وورقة أفضل من النص الذي يجعلهما لا يلتقيان ... وتعد كلمة (ناموس) عادة مشتقة من كلمة (nomos) اليونانية، وهي تعني إذن: الشريعة أو الكتب المقدّسة، وهذا يتفق تماما مع ذكر موسى. وقد أبدى ورقة ملاحظة بعد أن أخذ محمد يتلقى الوحي؛ وهي تعني أن ما نزل على محمد مماثل لكتب اليهود والمسيحيين المقدسة. كما أن محمدا سمع ما يوهمه بأنه مؤسّس أمّة ومشرع لها، وإذا كان محمد كما يبدو مترددا بطبعه (!!) فإن هذا التشجيع بإقامة بناء ضخم على تجاربه يرتدي أكبر أهمية لتطوّره الداخلي» «1» .
وإذا كان (وات) في النصّين السابقين يلمّح، فإنه في النص التالي يصرّح بأبعاد العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وورقة بن نوفل: «يبدو ورقة من بين الذين اتصل بهم محمد بسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة. ومن الأفضل الافتراض (لاحظ التعبير) بأن محمدا كان قد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر، وتعلّم أشياء كثيرة، وقد تأثّرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة. وهذا ما يعود بنا إلى طرح مشكلة العلاقة بين الوحي الذي نزل على محمد والوحي السابق له» «2» .
وليس ثمة من داع لمناقشة هذه الافتراضات التخمينية، فيكفي أنها لم ترد لتأييدها أية رواية تاريخية على الإطلاق.. ويكفي أن تكون إفرازا لظنون جاهلية ما كانت بقادرة على تصوّر نزول وحي مستقل جديد من السماء.. أو ظنون طائفية متعصّبة تتشبّث- لسبب مكشوف- بالتصور الجاهلي ذاته ...
ويكفي أنه ليس بمقدور أحد على الإطلاق أن يعثر على رواية تاريخية أو
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 92- 93.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 93.

(1/76)


شاهد واحد ينفي (أمّيّة) الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكفي كذلك أن هذه المقولة لا تعدو أن تكون نتاجا طبيعيا لمنهج افتراضي يحمل استعداده لطرح أي تصوّر قد يدور في ذهن هذا المؤرخ أو ذاك دون أن يكون له سند من التاريخ..
ويكفي، قبل هذا وذاك: أن القرآن الكريم، ذلك المصدر اليقينيّ المتفرّد، قد نفى نفيا قاطعا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتصل أو تلقى تعاليمه الدينية من أي رجل على الإطلاق:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) «1» .
وإذا كان هناك تشابه في علاج بعض المواضيع بين القرآن والكتب الدينية السابقة فلأنها صدرت في الأصل جميعا عن مصدر واحد هو الله سبحانه، ولأن كتاب الله جاء لكي يستكمل بناء كانت التوراة والإنجيل قد بدأته من قبل:
(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) «2» .
(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) «3» .
ولكن يجب أن نتذكّر- أيضا- أن في القرآن حشودا من المقاطع والآيات تصحّح (تحريفات) التوراة والإنجيل، أو تعارضها، أو تفنّدها..
وتطرح حقائق جديدة تغاير بالكلية ما طرحته التوراة والأناجيل!!
__________
(1) النحل: 103.
(2) يونس: 37.
(3) الأنعام: 92، وانظر: البقرة: 41، 89، 91، 97، 101، آل عمران: 3، 30، 81، يوسف: 111، الأحقاف: 12، 30، النساء: 47، المائدة: 46، 48، فاطر: 31.

(1/77)


إن (وات) من حيث لا يشعر القارئ أحيانا، يمارس تزييفا للسيرة قد لا يكون متعمدا.. إنه يخفّف من ألوانها العميقة المتميّزة، ويجرّد جدلها، أو حوارها، في الداخل والخارج، أي: بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين الخصوم، من أبعاده (الدراميّة) التي تمنحه الفاعليّة والحيويّة والعمق..
مثلا.. إنه يستنتج أنّ اضطهاد الزعامة الوثنيّة للمسلمين لم يكن عنيفا بالشكل الذي تصوّره الروايات، وأن هجرتهم إلى الحبشة لم تكن بسبب العذاب والاضطهاد.. وأن قريشا لم تفكر يوما بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.. وأن وحدة المسلمين الداخلية كانت تهتز بين الحين والحين بمحاولة الانشقاق تارة، وبالعصيان الديني تارة أخرى.. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل مرة في مساومة مع الوثنية.. وفي أي شيء؟ في أعز ما جاء به، وأشدّه تمنعا على المساومة والتنازل: وحدانية الله المطلقة، ورفض عبادة الأصنام أو الاعتراف بها بالحسم الذي يليق بجدّية هذا الدين.
قد يسأل سائل: وما علاقة العمق اللوني لنسيج السيرة، والبعد الدرامي لعلائقها المتنوعة، بالبحث العلمي في التاريخ؟!
والجواب واضح تماما.. إن البحث التاريخيّ العلميّ الجادّ يجب أن يحقّق أكبر قدر من الاقتراب من صورة الواقعة التاريخية وصيغها ... أن يسعى لاستعادتها كما تخلّفت وتلوّنت فعلا.. أن يستعيد- مرّة أخرى- معدّلات تشكّلها بالدرجة وبالنوع نفسهما قدر الإمكان.
فإذا عجز البحث، بدرجة أو أخرى عن تحقيق هذه الاستعادة سواء في صيغ الواقعة التاريخية أو طبيعة علاقتها الحوارية مع كافة الأطراف.. إذا عجز عن وضع يده على إيقاعها بالدرجة نفسها التي كانت عليها.. فإن عجزه هذا لا يعدو أن يكون عجزا علميا، أي: عجزا في قدراته على البحث والتحليل والتوصّل إلى كشف النقاب عن الوقائع كما تشكّلت

(1/78)


وتخلّقت فعلا.. اللهم إلّا إذا كان هنالك هدف (مبيّت) يسوق الباحث إلى موقع كهذا.
وقد ناقشنا في مكان آخر مقولات (وات) آنفة الذكر، وبيّنّا أنها لا تقوم على أساس.. ولكننا هنا بإزاء شيء أكبر من التاريخ.. إننا بإزاء حركة عقيدية ونبوّة.. إنّنا بإزاء دين شامل جاء لكي يغير العالم، ويحلّ محلّ الأديان المحرّفة السابقة ويقود البشريّة إلى الصراط..
وإذا كانت الوقائع التاريخية (الاعتيادية) تتحمل عبئا كهذا الذي يجري تحت ستار العلم والنقد، والأكاديمية ... إلى آخره؛ فإن واقعة (النبوة) ترفض هذا العبث منذ اللحظة الأولى..
فنحن إزاء دين قادم من السماء، ونحن قبالة رجل مبعوث من الله سبحانه، ونحن إزاء تقابل بين الغيب والحضور التاريخي.. فإما أن نقبل هذه الحقيقة ونستسلم لها، فلا يكون حينئذ انشقاق، ولا عصيان، ولا مساومة، من قبل أناس اختاروا بأنفسهم، في ظروف في غاية القسوة والعناد، التسليم لكلمة الله، وجعل حياتهم ومستقبلهم، مجرد أدوات لتنفيذها وصيرورتها في العالم.. أو أن نرفض هذه الحقيقة فلا تكون أبحاثنا- ابتداء- تعاملا مع سيرة نبيّ وحركة جماعة من المنتمين لدين قادم من السماء، ولكنها افتراض ملفّق يسعى إلى أن يخضع الواقعة للمقولات نفسها التي تعامل بها سائر الوقائع والأحداث.
إن (وات) يأخذ على أقرانه المستشرقين إلحاحهم في النزعة النقدية، ويحاول أن يضع ضوابط منهجية تشكم هذه النزعة من أن تتحول إلى عملية هدم اعتباطي يشبع الأهواء الذاتية، ولا يقوم على أساس موضوعيّ وقد سبق أن مرّت بنا عبارته في هذا الصدد: «لقد أظهر الكتّاب الغربيون ميلهم لتصديق أسوأ الأمور عن محمد، وكلما ظهر أي تفسير نقدي لواقعة من

(1/79)


الوقائع ممكنا قبلوه، ولا يكفي مع ذلك في ذكر فضائل محمد أن نكتفي بأمانته وعزيمته إذا أردنا أن نفهم كل شيء عنه، وإذا أردنا أن نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدده فيجب علينا في كل حالة لا يقوم الدليل القاطع على ضدها، أن نتمسك بصلابة بصدقه، وعلينا ألّا ننسى عندئذ أيضا أن الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكنا، وأنه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه، ولا يجب مناقشة نظريات المؤلفين الغربيين الذين افترضوا كذب محمد كنظريات، وإن كان يمكن النظر في الحجج التي يذكرونها للتدليل على كذبه» «1» .
ويجدر أن نشير كذلك إلى هجومه المرير على لامنس بسبب انسياقه وراء نزعته الهدمية وتسمية منهجه: «بالطريقة العابثة في معالجة المصادر» ..
بل إنه يقول عنه في مكان آخر بالحرف: «إن افتراضه الشرير بأن قوة مكة كانت تعتمد على جيش من العبيد السود لا أساس له» «2» .
ويشير إلى أن ملاحظات (تيودور نولدكه) في دراسته»
die tradtion uber das leben muhammeds: يمكن أن تصحح في أكثر من مسألة آراء لامنس المغالية» «3» .
وهو يأخذ على كيتاني في دراسته الواسعة (حوليات الإسلام) نزعته الشكوكية المبالغة ويقول: «ليس من الصعب تصحيح مبالغاته في الشك» «4» .
ثم هو يطرح هذا المبدأ المنهجي (البنائي) في مجابهة النقد الهدمي الذي مارسه المستشرقون إزاء السيرة إلى الحد الذي أوصل لامنس «إلى استبعاد أخبار الفترة المكّية» بكاملها!! على الرغم من أن كثيرا من العلماء اتفقوا
__________
(1) محمد في مكة، ص 94- 95.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 248.
(3) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 9- 10.
(4) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 9.

(1/80)


على القول بأنه مبالغ في ذلك كثيرا «1» فهو يقول: «يجب على الباحث اليوم بعد اطلاعه على نزعات المؤرخين الأوائل ومصادرهم: أن يكون باستطاعته أن يحسب حساب التحريفات، وأن يقدّم الوقائع بصورة أمينة، ويجب أن يقابل الاهتمام (بالتسوية المغرضة) في الرواية القديمة الاعتراف بصحة المادة عامة، ولما كان عدد كبير من الأسئلة التي يهتم بها المؤرخ أواسط القرن العشرين لا يتأثر بتدخل (التلفيق المغرض) ؛ فليس هناك صعوبة في استخراج أجوبة على هذه الأسئلة من المصادر» «2» .
وهو يطرح هذا الافتراض: «من الصعب مثلا القول بأنّ روايات ابن سعد في الأنساب اختلاق محض، فمن ذا الذي تجشم مشقة اختلاق هذا الإطار المعقد؟ وما هي الأسباب؟ يضاف إلى ذلك أنه إذا كنا نحن الذين لا نهتم بالأنساب نعرف من أجدادنا أجدادهم حتى جيلين أو ثلاثة، فما هو المدهش في أن يعرف حتى العرب الشغوفون بالأنساب عن أجدادهم ستة أو ثمانية أو عشرة أجيال؟ لقد لقي جون فان أس طفلا يعرف خمسة عشر من أجداده» «3» ، وهو يصل عبر تحليله لقوائم المعارضين الوثنيين في مكة إلى هذا الاستنتاج المهم: «يتأكد إذن أن المؤلفين الذين وصلتنا مؤلفاتهم كانوا يملكون مادة تاريخية صحيحة، وقد استخدموها بذكاء» «4» .
ومع ذلك كله فإنّ (وات) مارس هو الآخر، وكما رأينا، نوعا من المبالغة في شكوكه، ونفيه الكيفيّ، وافتراضاته، ولا تكاد رواية من الروايات التي تتحدث عن العصر المكي تخرج من (مختبره) إلى ميدان القبول إلّا بصعوبة.. ونجد عبارات نقدية كهذه تتصادى في كتابه: «يبدو
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 10- 11.
(3) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 11- 12.
(4) المصدر السابق نفسه، ص 213.

(1/81)


ذلك صحيحا وإن سجل فيما بعد ليتّفق مع أفكار لاحقة» «1» ، «وإذا صدّقنا الروايات..» «2» ، «وإذا كانت قصص العروض من قبل زعماء قريش صحيحة» «3» ، «نستطيع- إذن- قبول الخطوط الكبرى للروايات التقليدية» «4» ، «تبدو مظاهر الصحة» «5» . كما أنه يكثر من استخدام تعبير (ربما) الذي يضع الوقائع على حافة اليقين.
هذا في حالات (الإيجاب) ، أما في حالات (السلب) فقد رأينا كيف مارس (وات) تشكيكا ونفيا للعديد من معطيات السيرة عبر عصرها المكي.
ولكن- إذا أردنا الإنصاف- ليس بالمبالغة المفجعة التي دفعت مستشرقا كلامنس إلى استبعاد أخبار الفترة المكية بكاملها!!
ذلك أن النزعة الشكوكيّة والنفي الكيفي قد يقودان- فعلا- إلى إلغاء مساحات بكاملها من التاريخ، والذي يحمل الاستعداد لنفي الجزئيات قد يصل به الأمر إلى نفي الكليات إن لم يكن ثمّة ضوابط منهجية تقول له: أين يجب عليه أن يقف؟ وأين يمكنه أن يمضي؟.
ولن يعني هذا أبدا أن يقف المؤرخ المسلم، في المقابل، وقفة استسلام وخضوع للرواية التاريخية، وأن يرفض أية صيغة من صيغ النقد والشك والافتراض والتصحيح.
ذلك أن منهجا (استسلاميا) كهذا يقود إلى الخطيئة نفسها التي تسوق إليها نزعات التشكيك المغرضة، والنقد المبالغ فيه: تزييف الحقيقة
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 163.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 177.
(4) المصدر السابق نفسه، ص 232.
(5) المصدر السابق نفسه، ص 166.

(1/82)


التاريخية، وتقديم دراسات عن التاريخ، لا كما وقع فعلا أو قريبا مما تشكّل فعلا، بل كما يريد له هذا المؤرخ أو ذاك أن يكون «1» .
إن نقد الرواية التاريخية مطلوب، وهو ضرورة من الضرورات، وإننا يجب أن نتعلم هذا المبدأ الخطير من رجال (الحديث) ، كما يجب أن نذهب مع رجل مفكّر كابن خالدون إلى آخر الطريق وهو ينعي على المؤرخين الذين سبقوه استسلامهم للرواية، وتقبّلهم حتى ما لا يمكن قبوله على الإطلاق.
لكن المبالغة في اعتماد (النقد) والافتراض، والنفي للرواية، أمور قد تقود إلى الوجه الآخر للخطأ..
فإذا كنا في الأولى نستسلم لكل ما قيل، فإننا هنا قد نرفض ونشكّك بكل ما قيل.. وفي الحالتين فإن شبكة الوقائع التاريخية سوف تتعرض للتمزق وملامحها الأصلية ستؤول إلى الضياع..
__________
(1) عن الدعوة إلى الضرورة اعتماد منهج نقدي معتدل إزاء الرواية التاريخية، انظر كتاب (فصول في المنهج والتحليل) للمؤلّف، وكتاب آخر بعنوان: (حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي) .

(1/83)