المصباح
المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي فصل فِي ذكر أَلْفَاظ وَقعت بَين عَمْرو بن
الْعَاصِ وَبَين عبد بن الجلندي حِين بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَيْهِ وَإِلَى أَخِيه وَكَانَا ملكي عمان مِمَّا يتَعَلَّق
بالنجاشي
قَالَ عبد فِي سُؤال لعَمْرو يَا عَمْرو إِنَّك ابْن سيد قَوْمك فَكيف صنع
أَبوك فَإِن لنا فِيهِ قدوة قَالَ عَمْرو قلت مَاتَ وَلم يُؤمن بِمُحَمد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووددت أَنه كَانَ أسلم وَصدق بِهِ وَقد كنت أَنا
على مثل رَأْيه حَتَّى هَدَانِي الله لِلْإِسْلَامِ قَالَ فَمَتَى تَبعته
قَالَ قلت قَرِيبا فَسَأَلَنِي أَيْن كَانَ إسلامك فَقلت عِنْد
النَّجَاشِيّ وأخبرته أَن النَّجَاشِيّ قد أسلم قَالَ فَكيف صنع قومه
بِملكه قلت أَقروهُ واتبعوه قَالَ والأساقفة والرهبان تبعوه قلت نعم قَالَ
انْظُر يَا عَمْرو مَا تَقول إِنَّه لَيْسَ من خصْلَة فِي رجل أفضح لَهُ من
كذب قلت
(2/64)
مَا كذبت وَمَا نستحله فِي ديننَا ثمَّ
قَالَ مَا أرى هِرقل علم بِإِسْلَام النَّجَاشِيّ قلت بلَى قَالَ بِأَيّ
شَيْء علمت ذَلِك قلت كَانَ النَّجَاشِيّ خرج لَهُ خرجا فَلَمَّا أسلم
وَصدق بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا وَالله لَو سَأَلَني
درهما وَاحِدًا مَا أَعْطيته فَبلغ هِرقل قَوْله فَقَالَ نياق أَخُوهُ أتدع
عَبدك لَا يخرج لَك خرجا ويدين دينا مُحدثا قَالَ هِرقل رجل رغب فِي دين
وَاخْتَارَهُ لنَفسِهِ مَا أصنع بِهِ وَالله لَوْلَا الضن بملكي لصنعت
كَمَا صنع قَالَ انْظُر مَا تَقول يَا عَمْرو قلت وَالله صدقتك ثمَّ قَالَ
عبد أَخْبرنِي مَا الَّذِي يَأْمر بِهِ وَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام
وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعه من كتَابنَا هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(2/65)
بَاب فِي ذكر مكاتباته صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى قَيْصر ملك الرّوم وإرساله دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ
رَضِي الله عَنهُ إِلَيْهِ وَمَا يتَعَلَّق بذلك واسْمه هِرقل
قَالَ ابْن دحْيَة فِي تأليفه مرج الْبَحْرين وَمعنى قَيْصر البقير
وَذَلِكَ أَن أمه لما أَتَاهَا الطلق بِهِ مَاتَت فبقر بَطنهَا عَنهُ فَخرج
حَيا وَكَانَ يفتخر بذلك لِأَنَّهُ لم يخرج من فرج قَالَ وَاسم قَيْصر
مُشْتَقّ فِي لغتهم من الْقطع لِأَن أحشاء أمه قطعت حَتَّى خرج مِنْهَا
وَكَانَ
(2/67)
شجاعا جبارا مقداما فِي الْحَرْب
روينَا فِي كتاب الرَّوْض الْأنف للْإِمَام الْحَافِظ أبي الْقَاسِم عبد
الرَّحْمَن الْخَثْعَمِي ثمَّ السُّهيْلي رَحمَه الله قَالَ وَمن رِوَايَة
الْحَارِث فِي مُسْنده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من
ينْطَلق بكتابي هَذَا إِلَى قَيْصر وَله الْجنَّة فَقَالُوا وَإِن لم يقتل
يَا رَسُول الله قَالَ وَإِن لم يقتل فَانْطَلق بِهِ رجل يَعْنِي دحْيَة
رَضِي الله عَنهُ
قَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار فِي مُسْنده وَوَجَدته بِخَط موثق بِهِ وَهَذَا
الحَدِيث هُوَ الَّذِي صدرت بِهِ فِي خطْبَة هَذَا التَّأْلِيف وَأَنه
الَّذِي حَملَنِي على جمعه قَالَ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن
يحيى بن سَلمَة بن كهيل قَالَ حَدثنِي أبي عَن عَمه مُحَمَّد بن سَلمَة بن
كهيل عَن عبد الله ابْن شَدَّاد بن الْهَاد عَن دحْيَة الْكَلْبِيّ قَالَ
بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكِتَاب إِلَى قَيْصر
فَقدمت عَلَيْهِ فأعطيته الْكتاب وَعِنْده ابْن أَخ لَهُ أَحْمَر أَزْرَق
سبط الرَّأْس فَلَمَّا قَرَأَ الْكتاب كَانَ فِيهِ بِسم الله الرَّحْمَن
الرَّحِيم من مُحَمَّد رَسُول الله إِلَى قَيْصر صَاحب الرّوم قَالَ
(2/68)
فنخر ابْن أَخِيه نخرة وَقَالَ لَا يقْرَأ
الْيَوْم فَقَالَ لَهُ قَيْصر لم قَالَ إِنَّه بَدَأَ بِنَفسِهِ وَكتب
صَاحب الرّوم وَلم يكْتب ملك الرّوم فَقَالَ قَيْصر لنقرأنه فَلَمَّا
قَرَأَ الْكتاب وَخَرجُوا من عِنْده أدخلني عَلَيْهِ وَأرْسل إِلَى الأسقف
وَهُوَ صَاحب أَمرهم فَأخْبرهُ وأقرأه الْكتاب فَقَالَ الأسقف وَهُوَ صَاحب
أَمرهم هَذَا الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِر وَبشر بِهِ عِيسَى قَالَ قَيْصر
فَكيف تَأْمُرنِي فَقَالَ لَهُ الأسقف أما أَنا فمصدقة ومتبعه فَقَالَ لَهُ
قَيْصر أما أَنا إِن فعلت ذهب ملكي ثمَّ خرجنَا من عِنْده فَأرْسل قَيْصر
إِلَى أبي سُفْيَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ عِنْده فَقَالَ حَدثنِي عَن هَذَا
الرجل الَّذِي خرج بأرضكم مَا هُوَ قَالَ شَاب قَالَ فَكيف حَسبه قَالَ
هُوَ فِي حسب منا لَا يفضل عَلَيْهِ أحد قَالَ هَذِه آيَة النُّبُوَّة
قَالَ كَيفَ صدقه قَالَ مَا كذب قطّ قَالَ هَذِه آيَة النُّبُوَّة قَالَ
فَمن يتبعهُ قَالَ الشَّبَاب والسفلة قَالَ هَذِه آيَة النُّبُوَّة قَالَ
أَرَأَيْت من خرج إِلَيْهِ مِنْكُم هَل يرجع إِلَيْكُم قَالَ لَا قَالَ
هَذِه آيَة النُّبُوَّة قَالَ أَرَأَيْت من خرج إِلَيْكُم من أَصْحَابه
يرجعُونَ إِلَيْهِ قَالَ نعم قَالَ هَذِه آيَة النُّبُوَّة قَالَ هَل ينْكث
أَحْيَانًا إِذا
(2/69)
قَاتل هُوَ وَأَصْحَابه قَالَ قد قَاتله
قوم فَهَزَمَهُمْ وهزموه قَالَ هَذِه آيَة النُّبُوَّة
قَالَ ثمَّ دَعَاني فَقَالَ أبلغ صَاحبك أَنِّي أعلم أَنه نَبِي وَلَكِنِّي
لَا أترك ملكي قَالَ وَأما الأسقف فَإِنَّهُم كَانُوا يَجْتَمعُونَ
إِلَيْهِ فِي كل أحد فَيخرج إِلَيْهِم فيحدثهم وَيذكرهُمْ فَلَمَّا كَانَ
يَوْم الْأَحَد لم يخرج إِلَيْهِم وَقعد إِلَى يَوْم الْأَحَد الآخر فَكنت
أَدخل عَلَيْهِ فيكلمني ويسألني فَلَمَّا جَاءَ الْأَحَد الآخر انتظروه
يخرج إِلَيْهِم فَلم يخرج إِلَيْهِم واعتل عَلَيْهِم بِالْمرضِ فَفعل ذَلِك
مرَارًا فَحَضَرُوا وبعثوا إِلَيْهِ لتخْرجن إِلَيْنَا أَو لندخلن عَلَيْك
فنقتلك فَإنَّا قد أنكرناك مُنْذُ قدم هَذَا الْعَرَبِيّ فَقَالَ الأسقف
خُذ هَذَا الْكتاب واذهب إِلَى صَاحبك واقرأ عَلَيْهِ السَّلَام وَأخْبرهُ
أَنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله
وَأَنِّي قد آمَنت بِهِ وصدقته واتبعته وَإِنَّهُم قد أَنْكَرُوا عَليّ
ذَلِك فَبَلغهُ مَا ترى ثمَّ خرج إِلَيْهِم فَقَتَلُوهُ ثمَّ رَجَعَ دحْيَة
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِنْده رسل عُمَّال كسْرَى على
صنعاء بَعثهمْ إِلَيْهِ وَكتب إِلَى صَاحب صنعاء يتوعده يَقُول لتكفيني
رجلا خرج بأرضك يدعوني إِلَى دينه أَو أؤدي الْجِزْيَة أَو لأَقْتُلَنك أَو
قَالَ لَأَفْعَلَنَّ بك فَبعث صَاحب صنعاء إِلَى
(2/70)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة
عشر رجلا فَوَجَدَهُمْ دحْيَة عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلَمَّا قَرَأَ كتاب صَاحبهمْ تَركهم خمس عشرَة لَيْلَة فَلَمَّا مَضَت
خمس عشرَة لَيْلَة تعرضوا لَهُ فَلَمَّا رَآهُمْ دعاهم فَقَالَ اذْهَبُوا
إِلَى صَاحبكُم فَقولُوا لَهُ إِن رَبِّي قتل ربه اللَّيْلَة فَانْطَلقُوا
فأخبروه بِالَّذِي صنع فَقَالَ لَهُم أحصوا هَذِه اللَّيْلَة فأحصوها قَالَ
أخبروني كَيفَ رَأَيْتُمُوهُ قَالُوا مَا رَأينَا ملكا أهيأ مِنْهُ يمشي
فيهم لَا يخَاف شَيْئا متبذلا لَا يحرس وَلَا يرفعون أَصْوَاتهم عِنْده
قَالَ دحْيَة ثمَّ جَاءَ الْخَبَر أَن كسْرَى قتل تِلْكَ اللَّيْلَة قَالَ
الْبَزَّار لم يحدث دحْيَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا
هَذَا الحَدِيث
وَذكر ابْن عبد الْبر فِي تَرْجَمَة دحْيَة أَنه بَعثه رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قَيْصر فَآمن بِهِ قَيْصر وأبت بطارقته أَن تؤمن
فَأخْبر بذلك دحْيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ثَبت
ملكه فِي حَدِيث طَوِيل ذكره
وروينا فِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن
أَبَا سُفْيَان بن حَرْب أخبرهُ من فِيهِ إِلَى فِيهِ قَالَ انْطَلَقت فِي
الْمدَّة الَّتِي كَانَت بيني وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ فَبينا أَنا بِالشَّام
(2/71)
إِذْ جِيءَ بِكِتَاب من رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى هِرقل قَالَ وَكَانَ دحْيَة الْكَلْبِيّ جَاءَ
بِهِ فَدفعهُ إِلَى عَظِيم بصرى فَدفعهُ عَظِيم بصرى إِلَى هِرقل فَقَالَ
هِرقل هَل هَهُنَا أحد من قوم هَذَا الرجل الَّذِي يزْعم أَنه نَبِي
قَالُوا نعم قَالَ فَدُعِيت فِي نفر من قُرَيْش فَدَخَلْنَا على هِرقل
فأجلسنا بَين يَدَيْهِ فَقَالَ أَيّكُم أقرب نسبا من هَذَا الرجل الَّذِي
يزْعم أَنه نَبِي فَقَالَ أَبُو سُفْيَان فَقلت أَنا فأجلسوني بَين
يَدَيْهِ وأجلسوا أَصْحَابِي خَلْفي ثمَّ دَعَا بترجمانه فَقَالَ قل لَهُم
إِنِّي سَائل هَذَا عَن هَذَا الرجل الَّذِي يزْعم أَنه نَبِي فَإِن
كَذبَنِي فَكَذبُوهُ قَالَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَان وأيم الله لَوْلَا
مَخَافَة أَن يُؤثر عَليّ الْكَذِب لكذبت ثمَّ قَالَ لِترْجُمَانِهِ سَله
كَيفَ حَسبه فِيكُم قلت هُوَ فِينَا ذُو حسب قَالَ فَهَل كَانَ من آبَائِهِ
ملك قلت لَا قَالَ هَل كُنْتُم تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قبل أَن يَقُول
مَا قَالَ قلت لَا قَالَ وَمن يتبعهُ أَشْرَاف النَّاس أم ضُعَفَاؤُهُمْ
قَالَ قلت بل ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ أيزيدون أم ينقصُونَ قَالَ قلت لَا بل
يزِيدُونَ قَالَ فَهَل يرْتَد أحد عَن دينه بعد أَن يدْخل فِيهِ سخطَة لَهُ
قَالَ قلت لَا قَالَ فَهَل قاتلتموه قلت نعم قَالَ فَكيف كَانَ قتالكم
إِيَّاه قَالَ قلت يكون الْحَرْب بَيْننَا وَبَينه سجالا
(2/72)
يُصِيب منا وَنصِيب مِنْهُ قَالَ فَهَل
يغدر قلت لَا وَنحن مِنْهُ فِي مُدَّة لَا نَدْرِي مَا هُوَ صانع فِيهَا
قَالَ فوَاللَّه مَا أمكنني من كلمة أَدخل فِيهَا شَيْئا غير هَذِه قَالَ
فَهَل قَالَ هَذَا القَوْل أحد قبله قَالَ قلت لَا قَالَ لِترْجُمَانِهِ قل
لَهُ إِنِّي سَأَلتك عَن حَسبه فَزَعَمت أَنه فِيكُم ذُو حسب وَكَذَلِكَ
الرُّسُل تبْعَث فِي أَحْسَاب قَومهَا وَسَأَلْتُك هَل كَانَ فِي آبَائِهِ
ملك فَزَعَمت أَن لَا فَقلت لَو كَانَ من آبَائِهِ ملك قلت رجل يطْلب ملك
آبَائِهِ وَسَأَلْتُك عَن أَتْبَاعه أضعفاؤهم أم أَشْرَافهم فَقلت بل
ضُعَفَاؤُهُمْ وهم أَتبَاع الرُّسُل وَسَأَلْتُك هَل كُنْتُم
تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قبل أَن يَقُول مَا قَالَ فَزَعَمت أَن لَا فقد
عرفت أَنه لم يكن ليَدع الْكَذِب على النَّاس ثمَّ يذهب فيكذب على الله
وَسَأَلْتُك هَل يرْتَد أحد مِنْهُم عَن دينه بعد أَن يدْخلهُ سخطَة لَهُ
فَزَعَمت أَن لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَان إِذا خالط بشاشة الْقُلُوب
وَسَأَلْتُك هَل يزِيدُونَ أم ينقصُونَ فَزَعَمت أَنهم يزِيدُونَ
وَكَذَلِكَ الْإِيمَان حَتَّى يتم وَسَأَلْتُك هَل قاتلتموه فَزَعَمت
أَنكُمْ قاتلتموه فَتكون الْحَرْب بَيْنكُم وَبَينه سجالا ينَال مِنْكُم
وتنالون مِنْهُ وَكَذَلِكَ الرُّسُل تبتلى ثمَّ تكون لَهَا الْعَاقِبَة
وَسَأَلْتُك هَل يغدر فَزَعَمت أَنه لَا يغدر وَكَذَلِكَ الرُّسُل لَا تغدر
وَسَأَلْتُك هَل قَالَ هَذَا القَوْل أحد قبله فَزَعَمت أَن لَا فَقلت لَو
قَالَ
(2/73)
هَذَا القَوْل أحد قبله قلت رجل ائتم بقول
قيل قبله ثمَّ قَالَ بِمَا يَأْمُركُمْ قَالَ قلت يَأْمُرنَا بِالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاة والصلة والعفاف قَالَ أَن يكن مَا تَقول حَقًا فَإِنَّهُ نَبِي
وَقد كنت أعلم أَنه خَارج وَلم أكن أَظُنهُ مِنْكُم وَلَو أَنِّي أعلم أَن
أخْلص إِلَيْهِ لأحببت لقاءه وَلَو كنت عِنْده لغسلت عَن قَدَمَيْهِ
وليبلغن ملكه مَا تَحت قدمي ثمَّ دَعَا بِكِتَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فقرأه فَإِذا فِيهِ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من مُحَمَّد رَسُول الله وَفِي رِوَايَة
عبد الله وَرَسُوله إِلَى هِرقل عَظِيم الرّوم سَلام على من اتبع الْهدى
أما بعد فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام أسلم تسلم وَأسلم يؤتك
الله أجرك مرَّتَيْنِ وَإِن توليت فَإِن عَلَيْك إِثْم الإريسيين و {يَا
أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَلا نعْبد
إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا} إِلَى قَوْله {فَقولُوا اشْهَدُوا
بِأَنا مُسلمُونَ}
فَلَمَّا فرغ من قِرَاءَة الْكتاب ارْتَفَعت الْأَصْوَات عِنْده وَكثر
اللَّغط وَأمر بِنَا فأخرجنا قَالَ فَقلت لِأَصْحَابِي حِين خرجنَا لقد
أَمر أَمر
(2/74)
ابْن أبي كَبْشَة إِنَّه لَيَخَافهُ ملك
بني الْأَصْفَر قَالَ فَمَا زلت موقنا بِأَمْر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه سَيظْهر حَتَّى أَدخل الله عَليّ الْإِسْلَام وَفِي
رِوَايَة وَأَنا كَارِه
تَفْسِير
قَوْله سخطَة قَالَ القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله السخط والسخط لُغَتَانِ
كالسقم والسقم
وَقَوله سجالا مرّة على هَؤُلَاءِ وَمرَّة على هَؤُلَاءِ من مساجلة
المستقين على الْبِئْر بالدلاء وَلَا تسمى الدَّلْو سجلا إِلَّا إِذا
كَانَت ملأى
وَقَوله الإريسيين قَالَ القَاضِي كَذَا رَوَاهُ مُسلم وَجل رُوَاة
البُخَارِيّ بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الرَّاء مُخَفّفَة وَتَشْديد الْيَاء
بعد السِّين وَرَوَاهُ الْمروزِي اليريسيين وَرَوَاهُ الْجِرْجَانِيّ مرّة
الأريسيين بِسُكُون الرَّاء وَفتح الْيَاء الأولى وَرُوِيَ فِي غير
الصَّحِيحَيْنِ
(2/75)
الأريسين مخفف الياءين مَعًا قَالَ أَبُو
عبيد هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ فَمن قَالَ الأريسيين فَقَالُوا فِي تَفْسِيره
هم أَتبَاع عبد الله بن أريس رجل فِي الزَّمن الأول بعث الله نَبيا فخالفه
هُوَ وَأَتْبَاعه وَأنكر ابْن الْقَزاز هَذَا التَّفْسِير وَرِوَايَة من
قَالَ الأريسيين بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الرَّاء وَقيل هم الأروسيون وهم
نَصَارَى أَتبَاع عبد الله بن أروس وهم الأروسية متمسكون بدين عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُولُونَ إِنَّه ابْن قَالَ أَبُو عبيد
الْهَرَوِيّ عَن ثَعْلَب أرس يأرس أريسا وَالْجمع أريسون بِالْفَتْح
وَالتَّخْفِيف وأرس يؤرس مثله وَصَارَ إريسا بِالْكَسْرِ وَالْجمع أريسون
بِضَم الْهمزَة وهم الأكرة وَقيل الْمُلُوك الَّذين يخالفون أنبياءهم وَقيل
الْخدمَة والأعوان وَقيل المتبخترون وَفِي مُصَنف ابْن السكن يَعْنِي
الْيَهُود وَالنَّصَارَى فسره فِي الحَدِيث وَقَالَ إِن عَلَيْك إِثْم
رعاياك وأتباعك مِمَّن صددته عَن
(2/76)
الْإِسْلَام واتبعك على كفرك كَمَا قَالَ
تَعَالَى {يَقُول الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا لَوْلَا أَنْتُم لَكنا
مُؤمنين} وكما جَاءَ فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث وَإِلَّا فَلَا تحل بَين
الفلاحين وَبَين الْإِسْلَام قَالَ أَبُو عبيد لَيْسَ الفلاحون هُنَا
الزارعون خَاصَّة وَلَكِن جَمِيع أهل المملكة لِأَن كل من زرع هُوَ عِنْد
الْعَرَب فلاح تولى ذَلِك بِنَفسِهِ أَو تولى لَهُ وَيدل على مَا قُلْنَاهُ
قَوْله أَيْضا فِي حَدِيث آخر فَإِن أَبيت فانا نهدم الكفور ونقتل
الإريسيين وَإِنِّي أجعَل إِثْم ذَلِك فِي رقبتك الكفور الْقرى وَاحِدهَا
كفر فَهَذَا الْمَعْنى الَّذِي تفسره الْأَحَادِيث ويعضده الْقُرْآن أولى
مَا قيل فِيهِ
قَوْله ابْن أبي كَبْشَة قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن الشعري فِي كِتَابه
الملامح والمعاريض أَبُو كَبْشَة رجل من خُزَاعَة خَالف قُريْشًا فِي
عبَادَة الْأَوْثَان وَعبد الشعرى العبور لِأَنَّهَا أحسن كَوْكَب فِي
السَّمَاء تطلع خلف الجوزاء تتبعها يُقَال لَهَا مرزم الجوزاء فَلَمَّا
خالفهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّوْحِيد شبهوه بِهِ وَقيل
هُوَ جد جده لأمه قَالَ القَاضِي عِيَاض وَقيل بل كَانَت للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أُخْت تسمى كَبْشَة فكنوا أَبَاهُ بهَا
(2/77)
وَقيل بل فِي أجداده من يكنى بِأبي كَبْشَة
فنسبوه إِلَيْهِ وَقد ذكر مُحَمَّد بن حبيب فِي كِتَابه المحبر جمَاعَة من
آبَائِهِ من جِهَة الْأَب وَالأُم يكنون بِأبي كَبْشَة فَالله أعلم
قَوْله بني الْأَصْفَر قَالَ القَاضِي بَنو الْأَصْفَر هم الرّوم قيل سموا
بذلك باسم جدهم الْأَصْفَر بن روم بن عيصو بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَه الْحَرْبِيّ وَقيل بل
لِأَن جَيْشًا من الْحَبَشَة غلب عَلَيْهِم فوطئ نِسَاءَهُمْ فولد لَهُم
أَوْلَاد صفر فنسبوا إِلَيْهِم قَالَه الْأَنْبَارِي وَالْأول أشبه وروينا
فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَن أَبَا سُفْيَان أخبرهُ أَن
هِرقل أرسل إِلَيْهِ فِي ركب من قُرَيْش كَانُوا تجارًا إِذا كسرت التَّاء
خففت الْجِيم وَإِذا ضممت التَّاء شددتها قَالَه الْجَوْهَرِي بِالشَّام
فِي الْمدَّة الَّتِي كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماد
فِيهَا أَبَا سُفْيَان وكفار قُرَيْش فَأتوهُ وهم بايلياء فَدَعَاهُمْ فِي
مَجْلِسه وَحَوله عُظَمَاء الرّوم ثمَّ دعاهم ودعا بترجمانه وسَاق الحَدِيث
إِلَى قَوْله حَتَّى أَدخل الله عَليّ
(2/78)
الْإِسْلَام ثمَّ زَاد فِيهِ وَكَانَ ابْن
الناطور صَاحب إيلياء وهرقل سقف على نَصَارَى أهل الشَّام يحدث أَن هِرقل
حِين قدم إيلياء أصبح يَوْمًا خَبِيث النَّفس فَقَالَ بعض بطارقته قد
استنكرنا هيأتك قَالَ ابْن الناطور وَكَانَ هِرقل حزاء ينظر فِي النُّجُوم
فَقَالَ لَهُم حِين سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْت اللَّيْلَة حِين نظرت فِي
النُّجُوم أَن ملك الْخِتَان قد ظهر فَمن يختتن من هَذِه الْأمة فَقَالُوا
لَيْسَ يختتن إِلَّا الْيَهُود فَلَا يهمنك شَأْنهمْ واكتب إِلَى مَدَائِن
ملكك فليقتلوا من فيهم من الْيَهُود فَبينا هم على أَمرهم أَتَى هِرقل
بِرَجُل أرسل بِهِ ملك غَسَّان يُخبرهُ عَن خبر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا استخبره هِرقل قَالَ اذْهَبُوا فانظروا أمختتن
هُوَ أم لَا فنظروا إِلَيْهِ فحدثوه أَنه مختتن وَسَأَلَهُ عَن الْعَرَب
فَقَالَ هم يختتنون فَقَالَ هِرقل هَذَا ملك هَذِه الْأمة قد ظهر ثمَّ كتب
هِرقل إِلَى صَاحب لَهُ برومية وَكَانَ نَظِيره فِي الْعلم وَصَارَ هِرقل
إِلَى حمص فَلم يرم حمص حَتَّى أَتَاهُ كتاب من صَاحبه يُوَافق رَأْي هِرقل
على خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه نَبِي
(2/79)
فَأذن هِرقل لعظماء الرّوم فِي دسكرة لَهُ
بحمص هُوَ بِنَاء كالقصر حوله بيُوت قَالَه عِيَاض ثمَّ أَمر بأبوابها
فغلقت ثمَّ اطلع فَقَالَ يَا معشر الرّوم هَل لكم فِي الْفَلاح والرشد
وَأَن يثبت ملككم فتبايعوا هَذَا النَّبِي فحاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش
إِلَى الْأَبْوَاب فوجدوها قد غلقت فَلَمَّا رأى هِرقل نفرتهم وأيس من
الْإِيمَان قَالَ ردوهم عَليّ وَقَالَ إِنِّي قلت مَقَالَتي آنِفا أختبر
بهَا شدتكم على دينكُمْ فقد رَأَيْت فسجدوا لَهُ وَرَضوا عَنهُ فَكَانَ
ذَلِك آخر شَأْن هِرقل
تَفْسِير
قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي قَوْله فَأتوهُ وهم بإيلياء بِكَسْر أَوله
مَمْدُود بَيت الْمُقَدّس قيل مَعْنَاهُ بَيت الله وَحكى الْبكْرِيّ أَنه
يُقَال بِالْقصرِ أَيْضا ولغة ثَالِثَة إليا بِحَذْف الْيَاء الأولى
وَسُكُون اللَّام وَهُوَ الْأَقْصَى أَيْضا قَالَ الله تَعَالَى {إِلَى
الْمَسْجِد الْأَقْصَى} وَجَاء فِي الحَدِيث مَسْجِد الْأَقْصَى على
الْإِضَافَة قَالَ الْبكْرِيّ واسْمه أَيْضا صهيون بِكَسْر الصَّاد واسْمه
أَيْضا أورشلم
قَوْله سقف قَالَ القَاضِي هُوَ بِضَم السِّين وَكسر الْقَاف
(2/80)
مُشَدّدَة وَفتح الْفَاء على مَا لم يسم
فَاعله وَفِي رِوَايَة سقفا بِضَم السِّين وَالْقَاف وتنوين الْفَاء وَعند
الْقَابِسِيّ أسقفا بِضَم الْهمزَة وَسُكُون السِّين وَهَذَا هُوَ
الْمَعْرُوف فِي هَذَا الْحَرْف بِالْهَمْزَةِ مشدد الْفَاء وَحكى بَعضهم
أَسْقُف وسقف مَعًا وَهُوَ لِلنَّصَارَى الرئيس قَالَه صَاحب الْعين وسقف
قوم لذَلِك قَالَ غَيره يحْتَمل إِنَّمَا سمي لانحنائه وخضوعه لتدينه
عِنْدهم وَأَنه قيم شريعتهم وَهُوَ دون القَاضِي والأسقف الطَّوِيل فِي
انحناء فِي الْعَرَبيَّة وَالِاسْم مِنْهُ السّقف والسقيفي وَقَالَ
الدَّاودِيّ هُوَ الْعَالم
قَوْله ابْن الناطور قَالَ عِيَاض هُوَ بطاء مُهْملَة عِنْد الْجَمَاعَة
وَعند الْحَمَوِيّ بِالْمُعْجَمَةِ قَالَ أهل اللُّغَة يُقَال فلَان ناطورة
بني فلَان وناظورهم بِالْمُعْجَمَةِ إِذا كَانَ المنظور إِلَيْهِ مِنْهُم
والناطور حَافظ النّخل أعجمي تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب قَالَ الْأَصْمَعِي
هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ من النّظر والنبط يجْعَلُونَ الظَّاء طاء
وَمِمَّا رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه الوفا قَالَ أصبح قَيْصر
يَوْمًا مهموما لظُهُور ملك الْخِتَان فَأَتَاهُ رَسُول صَاحب بصرى بِرَجُل
من
(2/81)
الْعَرَب يَقُودهُ فَقَالَ إِن هَذَا من
الْعَرَب يحدث عَن أَمر ظهر فِي بِلَاده عجب فَسَأَلَهُ قَيْصر فَقَالَ خرج
بَين أظهرنَا رجل يزْعم أَنه نَبِي فَاتبعهُ نَاس وَخَالفهُ آخَرُونَ
وَكَانَ بَينهم ملاحم فتركتهم على ذَلِك فَقَالَ جردوه فجردوه فَإِذا هُوَ
مختون فَقَالَ هِرقل هَذَا وَالله الَّذِي رَأَيْت أَعْطوهُ ثَوْبه ثمَّ
دَعَا صَاحب شرطته فَقَالَ قلب لي الشَّام ظهرا وبطنا حَتَّى تَأتِينِي
بِرَجُل من قوم هَذَا الرجل قَالَ أَبُو سُفْيَان وَكنت قد خرجت فِي
تِجَارَة فهجم علينا صَاحب شرطته فَقَالَ أَنْتُم من قوم هَذَا الرجل
قُلْنَا نعم فَانْطَلق بِي وبأصحابي حَتَّى قدمنَا إيليا فأدخلنا عَلَيْهِ
فَإِذا هُوَ جَالس فِي مجْلِس ملكه عَلَيْهِ التَّاج وَحَوله عُظَمَاء
الرّوم فَقَالَ لِترْجُمَانِهِ سلهم أَيهمْ أقرب نسبا من هَذَا الرجل
الَّذِي يزْعم أَنه نَبِي قَالَ أَبُو سُفْيَان قلت أَنا قَالَ وَمَا
قرابتك قلت هُوَ ابْن عمي قَالَ أَبُو سُفْيَان وَلَيْسَ فِي الركب
يَوْمئِذٍ رجل من بني عبد منَاف غَيْرِي فَقَالَ قَيْصر ادنه وَجعلُوا
أَصْحَابِي خلف ظَهْري وسَاق الحَدِيث وَفِيه وَكَانَ قَيْصر لما كشف الله
عَنهُ جنود فَارس مَشى من حمص على الزرابي تبسط لَهُ إِلَى إيليا شكرا لما
أبلاه الله تَعَالَى
وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ حَدثنِي أَسْقُف من النَّصَارَى إِن هِرقل
قدم عَلَيْهِ كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعله بَين
فَخذيهِ وخاصرته ثمَّ كتب إِلَى رجل برومية وَكَانَ يقْرَأ من العبرانية
مَا يقْرَأ وَأَنه يُخبرهُ بِمَا جَاءَ فَكتب إِلَيْهِ صَاحب رُومِية
إِنَّه النَّبِي الَّذِي ينْتَظر لَا شكّ فِيهِ فَاتبعهُ وَصدقه فَجمع
بطارقته وَقَالَ يَا معشر الرّوم إِنَّه أَتَانِي كتاب هَذَا الرجل يدعوني
إِلَى دينه وَإنَّهُ وَالله النَّبِي الَّذِي كُنَّا ننتظره ونجده فِي
(2/82)
كتبنَا فَهَلُمَّ فلنتبعه فتسلم لنا
دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا فنخروا نخرة رجل وَاحِد وَأَرَادُوا قَتله فردهم
بِمَا ذكر
فصل فِي ذكر مُخَاطبَة دحْيَة لقيصر
رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ وجهني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى
ملك الرّوم بكتابه وَكَانَ بتبوك وَهُوَ بِدِمَشْق زَاد السُّهيْلي فَقلت
لَهُ يَا قَيْصر أَرْسلنِي إِلَيْك من هُوَ خير مِنْك وَالَّذِي أرْسلهُ
خير مِنْهُ ومنك فاسمع بذل ثمَّ أجب بنصح فَإنَّك إِن لم تذلل لم تفهم
وَإِن لم تنصح لم تنصف قَالَ هَات قَالَ قلت هَل تعلم أَن الْمَسِيح كَانَ
يُصَلِّي قَالَ نعم قَالَ فَإِنِّي أَدْعُوك إِلَى من كَانَ الْمَسِيح
يُصَلِّي لَهُ وأدعوك إِلَى من دبر خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض والمسيح
فِي بطن أمه وأدعوك إِلَى هَذَا النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي بشر بِهِ
مُوسَى وَبشر بِهِ عِيسَى بن مَرْيَم بعده وعندك من ذَلِك أَثَرَة من علم
تَكْفِي من العيان وتشفي من الْخَبَر فَإِن أجبْت كَانَت لَك الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة وَإِلَّا ذهبت عَنْك الْآخِرَة وشوركت فِي الدُّنْيَا وَاعْلَم
أَن لَك رَبًّا يقصم الْجَبَابِرَة ويغير
(2/83)
النعم فَأخذ قَيْصر الْكتاب فَوَضعه على
عَيْنَيْهِ وَرَأسه وَقَبله ثمَّ قَالَ أما وَالله مَا تركت كتابا إِلَّا
قرأته وَلَا عَالما إِلَّا سَأَلته فَمَا رَأَيْت إِلَّا خيرا فأمهلني
حَتَّى أنظر من كَانَ الْمَسِيح يُصَلِّي لَهُ فَإِنِّي أكره أَن أجيبك
الْيَوْم بِأَمْر أرى غَدا مَا هُوَ أحسن مِنْهُ فأرجع عَنهُ فيضرني ذَلِك
وَلَا يَنْفَعنِي أقِم حَتَّى أنظر فَلم يلبث أَن أَتَاهُ وَفَاة النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَفِي رِوَايَة عَنهُ قَالَ فَأمر هِرقل مناديا يُنَادي أَلا إِن هِرقل قد
آمن بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاتبعهُ فَدخلت الأجناد فِي سلاحها
وأطافوا بقصره يُرِيدُونَ قَتله فردهم فرضوا عَنهُ ثمَّ كتب كتابا وأرسله
مَعَ دحْيَة يَقُول فِيهِ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي مُسلم
وَلَكِنِّي مغلوب على أَمْرِي وَأرْسل إِلَيْهِ بهدية فَلَمَّا قَرَأَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كِتَابه قَالَ كذب عَدو الله لَيْسَ
بِمُسلم بل هُوَ على نصرانيته وَقبل هديته وَقسمهَا بَين الْمُسلمين
وَكَانَ لَا يقبل هَدِيَّة مُشْرك محَارب وَإِنَّمَا قبل هَذِه لِأَنَّهَا
فَيْء للْمُسلمين وَلذَلِك قسمهَا عَلَيْهِم وَلَو أَتَتْهُ فِي بَيته
لكَانَتْ لَهُ خَالِصَة كَمَا كَانَت هَدِيَّة الْمُقَوْقس خَالِصَة لَهُ
وَقبلهَا من الْمُقَوْقس لِأَنَّهُ لم يكن مُحَاربًا بل أظهر الْميل إِلَى
الدُّخُول فِي الدّين
(2/84)
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ قَالَ دحْيَة
فناولته كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقبل خَاتمه وَوَضعه تَحت
شَيْء كَانَ عَلَيْهِ قَاعِدا ثمَّ نَادَى فَاجْتمع البطارقة وَقَومه
فَقَامَ على وسائد ثنيت لَهُ وَكَذَلِكَ كَانَت فَارس وَالروم لم يكن لَهُم
مَنَابِر ثمَّ خطب أَصْحَابه فَقَالَ هَذَا كتاب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي بشرنا بِهِ الْمَسِيح من ولد إِسْمَاعِيل بن
إِبْرَاهِيم فنخروا نخرة فَأَوْمأ بِيَدِهِ أَن اسْكُتُوا ثمَّ قَالَ
إِنَّمَا جربتكم كَيفَ نصرتكم للنصرانية
قَالَ وَبعث إِلَيّ من الْغَد سرا فادخلني بَيْتا عَظِيما فِيهِ
ثَلَاثمِائَة وَثَلَاث عشرَة صُورَة فَإِذا هِيَ صور الْأَنْبِيَاء
وَالْمُرْسلِينَ قَالَ انْظُر أَيْن صَاحبك من هَؤُلَاءِ قَالَ فَرَأَيْت
صُورَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّهُ ينظر قلت هَذَا قَالَ
صدقت فَقَالَ صُورَة من هَذَا عَن يَمِينه قلت رجل من قومه يُقَال لَهُ
أَبُو بكر الصّديق قَالَ فَمن ذَا عَن يسَاره قلت رجل من قومه يُقَال لَهُ
عمر بن الْخطاب قَالَ أما إِنَّا نجد فِي الْكتاب أَن بصاحبيه هذَيْن يتم
الله هَذَا الدّين فَلَمَّا قدمت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ صدق بِأبي بكر وَعمر يتم الله هَذَا الدّين وَيفتح
وَرُوِيَ أَنه قَالَ لدحية وَالله إِنِّي لأعْلم أَن صَاحبك نَبِي مُرْسل
وَأَنه الَّذِي كُنَّا ننتظره وَلَكِنِّي أَخَاف الرّوم على نَفسِي
وَلَوْلَا ذَلِك لاتبعته
(2/85)
فصل فِي ذكر الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام
والحواريين
قَالَ السُّهيْلي وَأَصَح مَا قيل فِي معنى الْمَسِيح على كَثْرَة
الْأَقْوَال فِي ذَلِك أَنه الصّديق بلغتهم ثمَّ عربته الْعَرَب وَكَانَ
إرْسَال الْمَسِيح للحواريين بعد مَا رفع وصلب الَّذِي شبه بِهِ فَجَاءَت
مَرْيَم الصديقة عَلَيْهَا السَّلَام وَالْمَرْأَة الَّتِي كَانَت
مَجْنُونَة فابرأها الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وقعدتا عِنْد الْجذع
تبكيان وَقد أصَاب أمه من الْحزن عَلَيْهِ مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله
فأهبط إِلَيْهِمَا وَقَالَ علام تبكيان فَقَالَتَا عَلَيْك فَقَالَ إِنِّي
لم أقتل وَلم أَصْلَب وَلَكِن الله رفعني وكرمني وَشبه عَلَيْهِم فِي
أَمْرِي أبلغا عني الحواريين أَمْرِي أَن يلقوني فِي مَوضِع كَذَا لَيْلًا
فجَاء الحواريون ذَلِك الْموضع فَإِذا الْجَبَل قد اشتعل نورا لنزوله بِهِ
ثمَّ أَمرهم أَن يَدْعُو النَّاس إِلَى دينه وَعبادَة ربه فوجههم إِلَى
الْأُمَم الَّتِي ذكر ابْن إِسْحَاق وَغَيره ثمَّ كسى كسْوَة الْمَلَائِكَة
فعرج مَعَهم فَصَارَ ملكيا إنسيا سمائيا أرضيا
(2/86)
قَالَ القَاضِي عِيَاض قيل فِي أَصْحَاب
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام هم القصارون لأَنهم يبيضون الثِّيَاب والحور
الْبيَاض وَكَانُوا أَولا قصارين وَقيل الصيادون قَالَ السُّهيْلي وَأَصَح
مَا قيل فِي معنى الحواريين أَن الْحوَاري هُوَ الخلصان أَي الْخَالِص
الصافي من كل شَيْء وَقَول الْمُفَسّرين هُوَ الخلصان كلمة فصيحة أنْشد
أَبُو حنيفَة
(خليلي خلصاني لم يبْق حبها ... من الْقلب إِلَّا عوذا سينالها)
قَالَ والعوذ مَا لم تُدْرِكهُ الْمَاشِيَة لارتفاعه فَكَأَنَّهُ قد عاذ
مِنْهَا
وَذكر الْقُضَاعِي فِي عُيُون المعارف أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ولد
فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الْخَامِس وَالْعِشْرين من كانون الأول بعد قيام
الْإِسْكَنْدَر بثلاثمائة وَثَلَاث سِنِين وحملت بِهِ مَرْيَم وَلها ثَلَاث
عشرَة سنة قَالَ
(2/87)
الْحسن حملت بِهِ تسع سَاعَات وَوَضَعته من
يَوْمهَا وَكَانَت وِلَادَته فِي بَيت لحم وَلما تمت لَهُ ثَمَانِيَة
أَيَّام ختن على سنة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وسموه اليسوع وهربت بِهِ
أمه إِلَى مصر وَأقَام بهَا اثْنَتَيْ عشرَة سنة ثمَّ رجعت بِهِ إِلَى
ناصرة من جبل الْجَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا بلغ ثَلَاثِينَ سنة
جَاءَهُ الْوَحْي وَكَانَت نبوته ثَلَاث سِنِين وَتكلم فِي المهد ثَلَاث
مَرَّات ثمَّ لم يتَكَلَّم حَتَّى بلغ حد الْكَلَام وَبشر بنبينا مُحَمَّد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ فِي إنجيل يوحنا احْفَظُوا وصيتي فسيأتيكم
الفارقليط وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُقَال إِنَّه رفع
إِلَى السَّمَاء فِي لَيْلَة الْقدر من جبل بَيت الْمُقَدّس فَلَمَّا كَانَ
بعد سبع ظهر لأمه فَقَالَ لَهَا لم يُصِبْنِي إِلَّا خير وأمرها بِأَن
تَأتيه بالحواريين فجاؤا إِلَيْهِ وأوصاهم وبثهم فِي الأَرْض وَقَالَ وهب
توفى الله عِيسَى ثَلَاث سَاعَات من النَّهَار ثمَّ رَفعه وَعَاشَتْ
مَرْيَم بعده سِتّ سِنِين
يَقُول مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ والجبل الَّذِي ذكره الْقُضَاعِي بِبَيْت
الْمُقَدّس يعرف الْآن بجبل الطّور وَهُوَ مشرف على الْمَسْجِد الْأَقْصَى
وعَلى قلته بُنيان قديم من زمن الرّوم هَيئته هَيْئَة حصن وَفِي ذروته من
دَاخل صُورَة معبد لطيف مربع الْبناء وبأعاليه قبَّة مُقَوَّرَة الرَّأْس
لَيْسَ بَين ذَلِك المعبد وَبَين السَّمَاء حَائِل يزار وَيَقُول أهل
الطّور إِنَّه
(2/88)
مصعد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام على مَا
توارثوه بَينهم من زمَان السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب فاتح
بَيت الْمُقَدّس ومنقذه من أَيدي الإفرنج فَالله أعلم
قَالَ الْقُضَاعِي وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
قَالَ ليهبطن الله الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَم حكما عدلا وإماما مقسطا
يكسر الصَّلِيب وَيقتل الْخِنْزِير وَيَضَع الْجِزْيَة وَيفِيض المَال
حَتَّى لَا يجد من يَأْخُذهُ وليسلكن الروحاء حَاجا أَو مُعْتَمِرًا قَالَ
ابْن قُتَيْبَة فِي المعارف إِن بَين عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمُحَمّد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتّمائَة عَام وَعشْرين عَام وَفِي هَذِه
التواريخ خلاف بَين أهل النَّقْل
تَفْسِير
الروحاء بِفَتْح أَوله وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة مَمْدُود قَرْيَة جَامِعَة
لمزينة على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة بَينهمَا أحد وَأَرْبَعُونَ ميلًا
قَالَه الْبكْرِيّ فِي مُعْجَمه
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ليهلن ابْن مَرْيَم
بفج الروحاء حَاجا أَو مُعْتَمِرًا
(2/89)
أَو ليثنينهما
قَالَ وروى غير وَاحِد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَقد
صلى فِي الْمَسْجِد الَّذِي بِبَطن الروحاء عِنْد عرق الظبية هَذَا وَاد من
أَوديَة الْجنَّة قد صلى فِي هَذَا الْمَسْجِد قبلي سَبْعُونَ نَبيا وَقد
مر بِهِ مُوسَى بن عمرَان حَاجا أَو مُعْتَمِرًا فِي سبعين ألفا من بني
إِسْرَائِيل على نَاقَة لَهُ وَرْقَاء عَلَيْهَا عباءتان قطويتان يُلَبِّي
وصفاح الروحاء تجاوبه الصفاح النواحي قَالَه الْجَوْهَرِي قَالَ وَسميت
الروحاء لِكَثْرَة أرواحها وبالروحاء بِنَاء يَزْعمُونَ أَنه قبر مُضر بن
نزار
عود وانعطاف إِلَى مَا نَحن بصدده
وَحكى ابْن إِسْحَاق عَن خَالِد بن سِنَان عَن رجل من قدماء أهل الرّوم
قَالَ لما أَرَادَ هِرقل الْخُرُوج من أَرض الشَّام إِلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّة لما بلغه من أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم جمع الرّوم وَقَالَ إِنِّي عَارض عَلَيْكُم أمورا فانظروا قَالُوا
وَمَا هِيَ قَالَ تعلمُونَ وَالله أَن هَذَا الرجل لنَبِيّ مُرْسل نجده فِي
كتبنَا ونعرفه بِصفتِهِ فَهَلُمَّ نتبعه فَقَالُوا نَكُون تَحت أَيدي
الْعَرَب قَالَ فَأعْطِيه الْجِزْيَة كل سنة أكسر عني شوكته
(2/90)
وأستريح من حربه قَالُوا نعطي الْعَرَب
الذل وَالصغَار لَا وَالله قَالَ فَأعْطِيه أَرض سورية وَهِي فلسطين
والأردن ودمشق وحمص وَمَا دون الدَّرْب قَالُوا لَا نَفْعل قَالَ أما
وَالله لترون أَنكُمْ قد ظفرتم إِذا امتنعتم مِنْهُ فِي مدينتكم ثمَّ جلس
على بغل لَهُ فَانْطَلق حَتَّى إِذا أشرف على الدَّرْب اسْتقْبل أَرض
الشَّام فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك أَرض سورية سَلام الْوَدَاع ثمَّ ركض
حَتَّى دخل الْقُسْطَنْطِينِيَّة
يَقُول مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ وَهَذَا معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا ذهب قَيْصر فَلَا قَيْصر بعده الحَدِيث وَكَانَ كَمَا قَالَ فِي
خلَافَة عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أخذت كنوزهما وأنفقت فِي سَبِيل
الله عز وَجل وَمَا ينْطق عَن الْهوى وَقد أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَفد عذرة حِين قدمُوا عَلَيْهِم فِي صفر سنة تسع وَفِيهِمْ حَمْزَة بن
النُّعْمَان فأسلموا وبشرهم بِفَتْح الشَّام وهروب هِرقل إِلَى مُمْتَنع من
بِلَاده وَكَانُوا اثْنَي عشر رجلا فيهم حَمْزَة الْمَذْكُور فَفِي هَذِه
الْأَحَادِيث من الْبَيَان الشافي وَالتَّصْرِيح الْكَافِي بِأَمْر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورسالته مَا يُغني عَن النّظر الْعَظِيم
وَيَقْضِي لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالترجيح والتقديم وَذَلِكَ لما
صدر عَن قَول هِرقل وَهُوَ أحد عُلَمَاء أهل الْكتاب بعد فحصه ولبثه
وَكَثْرَة تقصيه عَن أَحْوَال
(2/91)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبحثه
مَعَ سداد نظره وجودة فكره وَقَوله لأبي سُفْيَان إِن يكن مَا تَقول حَقًا
فَإِنَّهُ نَبِي وَقَوله وَقد كنت أعلم أَنه خَارج وَلم أكن أَظُنهُ
مِنْكُم وَقَوله وَلَو أَنِّي أعلم أَن أخْلص إِلَيْهِ لأحببت لقاءه
وَقَوله وَلَو كنت عِنْده لغسلت عَن قَدَمَيْهِ فَفِي مَجْمُوع مَا
ذَكرْنَاهُ عَنهُ غَايَة الْمُبَالغَة فِي التَّعْظِيم وَنِهَايَة الإجلال
والتكريم أَن هِرقل من أوفر أهل الْكتاب عقلا وأرجحهم علما وفضلا فلولا مَا
علمه من تحقق نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وظهوره واطلع عَلَيْهِ
من خَفِي علمه ومستوره لما أرشد إِلَى أَتْبَاعه وَلَا سارع إِلَى قبُول
كِتَابه واستماعه ولفعل كَمَا فعل كسْرَى لما ورد عَلَيْهِ كِتَابه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَدعُوهُ إِلَى الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فَأَعْرض عَن
قبُوله ومزقه وَمَا أقبل عَلَيْهِ وَلَا صدقه لجهله وَعدم مَعْرفَته بِمَا
أنزل الله تَعَالَى فِي كتبه من الْإِعْلَام بنبوته صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَلِأَن قومه مجوس يعْبدُونَ النَّار وَلم يكن لَهُم علم بِأُمُور
الْأَنْبِيَاء صلوَات الله على نَبينَا وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ ثمَّ إِن
هَذَا الِاعْتِرَاف من هِرقل والخضوع لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ
كَثْرَة أَتْبَاعه وَجُنُوده وبسطته فِي الأَرْض واقتداره وتمكنه من
الرِّجَال وَالْمَال القاضيين لَهُ ببلوغ الأوطار والآمال وَالنَّبِيّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِذْ ذَاك قَلِيل عَددهمْ يسير مددهم لَا
يخطرون لأحد من الْمُلُوك ببال وَلَا يَمرونَ لَهُ على خيال لما كَانُوا
عَلَيْهِ من الْفقر الْغَالِب والقل
(2/92)
المصاحب فانقياد هِرقل إِلَيْهِ مَعَ هَذِه
الْحَال واعترافه بنبوته وإيثاره للغاية ومبالغته فِي كرامته دَلِيل على
اطِّلَاعه على مَا صرح بِهِ وأظهره بعد إخفائه وَنشر من نبوة مُحَمَّد صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَشرف وكرم وَبِذَلِك وَقع التَّعْرِيف فِي كتاب الله
الْمجِيد الَّذِي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من
خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد} قَالَ الله تَعَالَى وَهُوَ أصدق
الْقَائِلين ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ
الزكوة وَالَّذين هم بآيتنا يُؤمنُونَ الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي
الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة
وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينههم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم
الطيبت وَيحرم عَلَيْهِم الخبئث وَيَضَع عَنْهُم اصرهم والأغلل الَّتِي
كَانَت عَلَيْهِم فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ وعزروه ونصروه وَاتبعُوا النُّور
الَّذِي أنزل مَعَه أُولَئِكَ هم المفلحون
تَفْسِير
قَوْله تَعَالَى اصرهم وقرىء آصارهم بِالْجمعِ قَالَ ابْن عَبَّاس يَعْنِي
الْعَهْد الثقيل كَانَ أَخذ على بني إِسْرَائِيل بِالْعَمَلِ بِمَا فِي
التَّوْرَاة وَقَالَ قَتَادَة يَعْنِي التَّشْدِيد الَّذِي كَانَ عَلَيْهِم
فِي الدّين
والأغلال يَعْنِي الأثقال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم وَذَلِكَ مثل قتل
النَّفس
(2/93)
فِي التَّوْبَة وَقطع الْأَعْضَاء
الْخَاطِئَة وقرض النَّجَاسَة عَن الثَّوْب بالمقراض وَتَعْيِين الْقصاص
فِي الْقَتْل وَتَحْرِيم أَخذ الدِّيَة وَترك الْعَمَل فِي السبت وَإِن
صلَاتهم لَا تجوز إِلَّا فِي الْكَنَائِس وَغير ذَلِك من الشدائد شبهت
بالأغلال الَّتِي تجمع الْيَد إِلَى الْعُنُق قَالَه الْبَغَوِيّ
فصل
فِيمَا قَالَه دحْيَة فِي قدومه على قَيْصر وَفِي كِتَابه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كتبه إِلَى هِرقل وَأَنه مَوْجُود عِنْدهم إِلَى
زَمَاننَا هَذَا وَمَا رويته فِي ذَلِك
قَالَ السُّهيْلي قَالَ دحْيَة
(أَلا هَل أَتَاهَا على نأيها ... بأنى قدمت على قَيْصر)
(فقدرته بِصَلَاة الْمَسِيح ... وَكَانَت من الْجَوْهَر الْأَحْمَر)
(وتدبير رَبك أَمر السَّمَاء ... وَالْأَرْض فاغضى وَلم يُنكر)
(وَقلت تقر ببشرى الْمَسِيح ... فَقَالَ سَأَنْظُرُ قلت انْظُر)
(فكاد يقر بِأَمْر الرَّسُول ... فَمَال إِلَى الْبَدَل الْأَعْوَر)
(2/94)
(فَشك وجاشت لَهُ نَفسه ... وجاشت نفوس بني
الْأَصْفَر)
(على وَضعه بيدَيْهِ الْكتاب ... على الرَّأْس وَالْعين والمنخر)
(فَأصْبح قَيْصر من أمره ... بِمَنْزِلَة الْفرس الْأَشْقَر)
أَرَادَ بالفرس الْأَشْقَر مثلا للْعَرَب يَقُولُونَ أشقر إِن تتأخر تعقر
وَأَن تتقدم تنحر
وَرُوِيَ أَن هِرقل وضع كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَصَبَة
من ذهب تَعْظِيمًا لَهُ وَأَنَّهُمْ لم يزَالُوا يتوارثونه كَابِرًا عَن
كَابر فِي أرفع صوان وأعز مَكَان قَالَ الْجَوْهَرِي جعلت الثَّوْب فِي
صوانه وصوانه بِالضَّمِّ وَالْكَسْر هُوَ مَا يصان فِيهِ
قَالَ السُّهيْلي حَتَّى كَانَ يَعْنِي الْكتاب عِنْد اذفونش الَّذِي تغلب
على طليطلة من بِلَاد الأندلس ثمَّ كَانَ عِنْد ابْن بنته الْمَعْرُوف
بالسليطين قَالَ حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا أَنه حَدثهُ من سَأَلَهُ رُؤْيَته
من قواد أجناد الْمُسلمين كَانَ يعرف بِعَبْد الْملك بن سعيد قَالَ
فَأخْرجهُ إِلَيّ فاستعبرت وَأَرَدْت تقبيله وَأَخذه من يَدي وَمَنَعَنِي
من ذَلِك صِيَانة لَهُ وضنا بِهِ عَليّ وَيُقَال هِرقل وهرقل
(2/95)
يَقُول أَبُو عبد الله مُحَمَّد مؤلف هَذَا
الْكتاب عَفا الله عَنهُ أَخْبرنِي أَبُو طَالب بن أبي مَدين نزيل بَيت
الْمُقَدّس والمتوفي بِهِ رَحمَه الله وَنحن إِذْ ذَاك بِالْمَدْرَسَةِ
الشرابيشية من الْقَاهِرَة المعزية فِي شهر سنة بضع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة
وَأَنه أخبرهُ قَاضِي الْجَمَاعَة بِمَدِينَة فاس دَار الْملك بِبِلَاد
الْمغرب ذهب عني اسْمه لما بَعثه السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني إِلَى
اذفونش ملك الإفرنج بِمَدِينَة قرطبة من جَزِيرَة الأندلس قَالَ لي
وَيَزْعُم أَنه من ذُرِّيَّة هِرقل سَأَلَهُ أَن يُرْسل إِلَيْهِ كتاب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بلغه أَنه بَاقٍ بِأَيْدِيهِم يتبرك
بِهِ ويعيده إِلَيْهِم وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ ألف دِينَار شكرانا لزيارته
والتبرك بِهِ فَلَمَّا وصل القَاضِي إِلَى اذفونش وَأدّى الرسَالَة قَالَ
فَجمع القسيسين وعلماء دينهم واستشارهم بِحُضُور القَاضِي فَأَبَوا ذَلِك
على الْملك وَقَالُوا نَخَاف عَلَيْهِ الضَّيْعَة فِي الطَّرِيق عِنْد
ذَهَابه ورجوعه لبعد الْمسَافَة والتعدية فِي الْبَحْر إِلَى بر الْمُسلمين
قَالَ أَبُو طَالب قَالَ القَاضِي فَسَأَلت
(2/96)
وتشفعت عِنْد الْملك أَن أرَاهُ أَنا وأزوره فأنعم لي بذلك قَالَ فسرت
وَمَعِي رَسُول من الْملك إِلَى إشبيلية وَكَانَ الْكتاب الْكَرِيم فِي
كَنِيسَة بهَا قَالَ القَاضِي فَلَمَّا وصلنا دَعَا الرَّسُول بالبترك
والمطران وَمَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا مِفْتَاح من ذهب وَإِذا هُوَ فِي
خزانَة عالية عَن الأَرْض فكشفا رؤوسهما وَأَخْرَجَاهُ من صندوق من ذهب
وَهُوَ مطوى فِي حَرِير أَبيض مبطن بالمسك قَالَ القَاضِي فحسرت عَن
رَأْسِي وَفتحت الْكتاب وقبلته وقرأته وتبركت بِهِ وأعيد إِلَى مَكَانَهُ
وَرجعت إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن فَلَمَّا رَآنِي بَكَى وَكَانَ قد
بلغه الْخَبَر وَقبل عَيْني قَالَ أَبُو طَالب وَبَقِي على وَجه القَاضِي
وضاءة لم تكن عَلَيْهِ قبل ذَلِك |