المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي

فصل فِي ذكر سراقَة بن مَالك بن جعْشم فِي الْهِجْرَة وإعلامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بِأَنَّهُ يلبس سواري كسْرَى وتاجه وَمَا فِيهِ من عجائب معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

روينَا عَن ابْن إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن مَالك بن جعْشم

(2/158)


المدلجي الْكِنَانِي حدث عَن أَبِيه عَن عَمه سراقَة قَالَ لما خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَكَّة مُهَاجرا إِلَى الْمَدِينَة جعلت قُرَيْش فِيهِ مائَة نَاقَة لمن رده عَلَيْهِم قَالَ فَبينا أَنا جَالس فِي نَادِي قومِي أقبل رجل منا حَتَّى وقف علينا وَقَالَ وَالله لقد رَأَيْت ركبة ثَلَاثَة مروا عَليّ آنِفا إِنِّي لأراهم مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه قَالَ فأومأت إِلَيْهِ بعيني أَن اسْكُتْ ثمَّ قلت إِنَّمَا هم بَنو فلَان يَبْغُونَ ضَالَّة لَهُم قَالَ لَعَلَّه ثمَّ سكت فَمَكثت قَلِيلا ثمَّ قُمْت فَدخلت بَيْتِي ثمَّ أمرت بفرسي فقيد إِلَى بطن الْوَادي وَأمرت بسلاحي فَأخْرج من دبر حُجْرَتي ثمَّ أخذت قداحي الَّتِي أستسقم بهَا ثمَّ انْطَلَقت فَلبِست لأمتي ثمَّ أخرجت قداحي فاستسقمت بهَا فَخرج السهْم الَّذِي أكره لَا يضرّهُ قَالَ وَكنت أَرْجُو أَن أرده على قُرَيْش فآخذ الْمِائَة النَّاقة قَالَ فركبت على أَثَره فَبينا فرسي يشْتَد بِي عثر بِي فَسَقَطت عَنهُ قَالَ فَقلت مَا هَذَا قَالَ ثمَّ أخرجت قداحي

(2/159)


فاستسقمت بهَا فَخرج السهْم الَّذِي أكره لَا يضرّهُ فأبيت إِلَّا أَن أتبعه فركبت فِي أَثَره كل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات قَالَ فَلَمَّا بدا لي الْقَوْم فرأيتهم عثر بِي فرسي فَذَهَبت يَدَاهُ فِي الأَرْض وَسَقَطت عَنهُ قَالَ ثمَّ انتزع يَده من الأَرْض وتبعها دُخان كالأعصار قَالَ الْجَوْهَرِي الإعصار ريح تثير الْغُبَار ويرتفع إِلَى السَّمَاء كَأَنَّهُ عَمُود وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فأصابها إعصار فِيهِ نَار فاحترقت} قَالَ سراقَة فَعرفت حِين رَأَيْت ذَلِك أَنه قد منع مني وَأَنه ظَاهر قَالَ فناديت الْقَوْم أَنا سراقَة بن جعْشم انظروني أكلمكم فوَاللَّه لَا أريبكم وَلَا يأتيكم مني شَيْء تكرهونه قَالَ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر قل لَهُ مَا تبغي منا قَالَ فَقَالَ لي ذَلِك أَبُو بكر قَالَ قلت تكْتب لي كتابا يكون آيَة بيني وَبَيْنك قَالَ اكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بكر قَالَ فَكتب لي كتابا فِي عظم أَو فِي رقْعَة أَو فِي خزفة ثمَّ أَلْقَاهُ إِلَيّ فَأَخَذته فَجَعَلته فِي كِنَانَتِي ثمَّ رجعت فَسكت فَلم أذكر شَيْئا مِمَّا كَانَ حَتَّى إِذا كَانَ فتح مَكَّة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفرغ من حنين والطائف خرجت وَمَعِي الْكتاب لألقاه فَلَقِيته بالجعرانة قَالَ

(2/160)


فَدخلت فِي كَتِيبَة من خيل الْأَنْصَار فَجعلُوا يقرعوني بِالرِّمَاحِ وَيَقُولُونَ إِلَيْك إِلَيْك مَاذَا تُرِيدُ قَالَ فدنوت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ على نَاقَته وَالله لكَأَنِّي أنظر إِلَى سَاقه فِي غرزه كَأَنَّهَا جمارة قَالَ فَرفعت يَدي بِالْكتاب ثمَّ قلت يَا رَسُول الله هَذَا كتابك لي أَنا سراقَة بن جعْشم قَالَ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم وَفَاء وبر ادنه قَالَ فدنوت مِنْهُ فَأسْلمت ثمَّ تذكرت شَيْئا أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ فَمَا أذكرهُ إِلَّا أَنِّي قلت يَا رَسُول الله الضَّالة من الْإِبِل تغشى حياضي وَقد ملأتها لإبلي هَل لي من أجر فِي أَن أسقيها قَالَ نعم فِي كل ذَات كبد حرى أجر قَالَ ثمَّ رجعت إِلَى قومِي فسقت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدقتي
قَالَ السُّهيْلي وَذكر غير ابْن إِسْحَاق أَن أَبَا جهل لامه حِين رَجَعَ بِلَا شَيْء فَقَالَ وَكَانَ شَاعِرًا
(أَبَا حكم وَالله لَو كنت شَاهدا ... لأمر جوادي إِذْ تسوح قوائمه)

(2/161)


(علمت وَلم تشكك بِأَن مُحَمَّدًا ... رَسُول ببرهان فَمن ذَا يقاومه)
(عَلَيْك بكف الْقَوْم عَنهُ فانني ... أرى أمره يَوْمًا ستبدو معالمه)
(بِأَمْر يود النَّاس فِيهِ بأسرهم ... بِأَن جَمِيع النَّاس طرا يسالمه)
وروى الْوَاقِدِيّ أَنه لما كَانَ فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وافتتح سعد بن أبي وَقاص مَدَائِن كسْرَى وَكَانَ بهَا خزائنه وذخائره فَلَمَّا غلب عَلَيْهَا فر إِلَى إصطخر هَارِبا وَأخذت أَمْوَاله ونفائس عدده وتاجه وسواراه ومنطقته وبساطه وَكَانَ سِتُّونَ ذِرَاعا فِي سِتِّينَ ذِرَاعا منظوما بِاللُّؤْلُؤِ والجواهر الملونة على ألوان زهر الرّبيع كَانَ يبسط لَهُ فِي إيوانه وَيشْرب عَلَيْهِ إِذا عدمت الزهور وَأما تاجه فَكَانَ مكللا بالجواهر النفيسة الَّتِي لَا نَظِير لَهَا وَكَانَ يعلق فِي صدر الإيوان وَيجْلس تَحْتَهُ من ثقله فَبعث بِجَمِيعِ ذَلِك سعد بن أبي وَقاص إِلَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مَعَ الْخمس وَابْنَة الْملك فِي زينتها وجمالها فَأمر بِالْمَالِ فسكب فِي صحن الْمَسْجِد وأظهروا زِيّ كسْرَى

(2/162)


ولباسه فَلَمَّا نظر عمر إِلَى تِلْكَ الْأَمْوَال والجواهر والبساط قَالَ إِن الَّذِي أدّى إِلَيْنَا هَذَا لأمين
قَالَ السُّهيْلي ودعا عمر بسراقة وَكَانَ أزب الذراعين فحلاه حلية كسْرَى وَقَالَ لَهُ ارْفَعْ يَديك وَقل الْحَمد لله الَّذِي سلب هَذَا كسْرَى الْملك الَّذِي كَانَ يزْعم أَنه رب النَّاس وَكَسَاهَا أَعْرَابِيًا من بني مُدْلِج فَقَالَ ذَلِك سراقَة وَإِنَّمَا فعل ذَلِك عمر لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قد بشر بهَا سراقَة حِين أسلم وَأخْبرهُ أَن الله سيفتح عَلَيْهِ بِلَاد فَارس ويغنمه ملك كسْرَى فاستبعد ذَلِك سراقَة فِي نَفسه وَقَالَ أكسرى ملك الْمُلُوك إِن حليته ستجعل عَلَيْهِ فَأخْبرهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن حليته ستجعل عَلَيْهِ تَحْقِيقا للوعد وَإِن كَانَ أَعْرَابِيًا بوالا على عقبية وَلَكِن الله عز وَجل يعز بِالْإِسْلَامِ أَهله ويسبغ على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته نعْمَته وفضله
وروى ابْن عبد الْبر أَن سراقَة رَضِي الله عَنهُ يكنى أَبَا سُفْيَان وَرُوِيَ عَن الْحسن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لسراقة ابْن مَالك كَيفَ بك إِذا لبست سواري كسْرَى قَالَ فَلَمَّا أَتَى عمر بِسوَارِي كسْرَى ومنطقته وتاجه دَعَا سراقَة فألبسه إِيَّاهَا وَكَانَ أزب كثير شعر

(2/163)


الساعدين وَقَالَ لَهُ ارْفَعْ يَديك فَقَالَ الله أكبر الْحَمد لله الَّذِي سلبهما كسْرَى بن هُرْمُز الَّذِي كَانَ يَقُول أَنا رب النَّاس وألبسهما سراقَة الْأَعرَابِي من بني مُدْلِج وَرفع بهَا عمر صَوته وَكَانَ سراقَة شَاعِرًا مجيدا توفّي سنة أَربع وَعشْرين فِي صدر خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم
وروى الْوَاقِدِيّ أَن عمر دَعَا بجميل بن رَوَاحَة وَكَانَ أجسم عَرَبِيّ يَوْمئِذٍ بِالْمَدِينَةِ فألبسه زيا آخر وزيا آخر لكسرى حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا كلهَا ثمَّ ألبسهُ سلاحه وقلده سَيْفه فَنظر النَّاس إِلَيْهِ كَأَنَّهُ كسْرَى فِي ملكه وَقسم الْبسَاط بَين الْمُسلمين فَأصَاب عليا مِنْهَا قِطْعَة بَاعهَا بِخَمْسِينَ ألف دِينَار وَمَا هِيَ بأجود تِلْكَ الْقطع وَأمر بابنة الْملك يزدجرد فأوقفت بَين يَدَيْهِ وَعَلَيْهَا من الْحلِيّ والزينة والجواهر الْكَثِيرَة مَا أَن اللِّسَان يقصر عَن وَصفه فَأمر الْمُنَادِي أَن يُنَادي عَلَيْهَا وَقَالَ أظهر عز الْإِسْلَام وأزل نقابها ليزِيد الْمُسلمُونَ فِي ثمنهَا فامتنعت ووكزت المنادى فِي صَدره فَغَضب عمر وهم أَن يعلوها بدرته وَهِي تبْكي فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ مهلا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ارحموا عَزِيز قوم ذل وغنى قوم افْتقر فسكن غَضَبه ثمَّ أَعْطَاهَا للحسين بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ

(2/164)


السُّهيْلي وَأخذ لكسرى خَمْسَة أسياف لم ير مثلهَا أَحدهَا سيف كسْرَى أبرويز وَسيف كسْرَى أنوشروان وَسيف النُّعْمَان بن الْمُنْذر استلبه مِنْهُ حِين غضب عَلَيْهِ وألقاه إِلَى الفيلة فخبطته بأيديها حَتَّى مَاتَ وَسيف خاقَان ملك التّرْك وَسيف هِرقل صَار إِلَيْهِ أَيَّام غلبته على الرّوم فِي الْمدَّة الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي قَوْله {الم غلبت الرّوم} فَهَذَا كَانَ سَبَب تصيير سيف النُّعْمَان إِلَى كسْرَى أبرويز ثمَّ إِلَى كسْرَى يزدجرد ثمَّ إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ الَّذِي قتل النُّعْمَان أبرويز وَكَانَ لأبرويز فِيمَا ذكر ألف فيل وَخَمْسُونَ ألف فرس وَثَلَاثَة آلَاف امْرَأَة وَتَفْسِير أنوشروان مُجَدد الْملك
قَالَ الْوَاقِدِيّ وَلما قسم سعد بن أبي وَقاص الْغَنَائِم على الْمُسلمين بِالْمَدَائِنِ بعد أَن أخرج الْخمس ولباس كسْرَى وتاجه وبساطه وَكَانَ عدَّة الْجَيْش ثَلَاثِينَ ألف فَارس وَلم يكن فيهم راجل أصَاب كل فَارس اثْنَا عشر ألف دِينَار
وَأورد السُّهيْلي طرفا من أَخْبَار مُلُوك الْفرس وَذكر مِنْهُم سَابُور

(2/165)


ذُو الأكتاف الَّذِي وطئ أَرض الْعَرَب وَكَانَ يخلع أكتافهم حَتَّى مر بِأَرْض بني تَمِيم فَفرُّوا مِنْهُ وَتركُوا عَمْرو بن تَمِيم وَهُوَ ابْن ثَلَاثمِائَة سنة لم يقدر على الْفِرَار وَكَانَ فِي قفة مُعَلّقا فِي عَمُود الْخَيْمَة من الْكبر فَأخذ وجئ بِهِ الْملك فاستنطقه سَابُور فَوجدَ عِنْده رَأيا ودهاء فَقَالَ لَهُ أَيهَا الْملك لم تفعل هَذَا بالعرب فَقَالَ يَزْعمُونَ أَن ملكنا يصير إِلَيْهِم على يَد نَبِي يبْعَث فِي آخر الزَّمَان فَقَالَ لَهُ عَمْرو فَأَيْنَ حلم الْمُلُوك وعقلهم إِن يكن هَذَا الْأَمر بَاطِلا فَلَا يَضرك وَإِن يكن حَقًا ألفاك وَقد اتَّخذت عِنْدهم يدا يكافئونك عَلَيْهَا ويحفظونك بهَا فِي ذويك فَيُقَال إِن سَابُور انْصَرف عَنْهُم واستبقى بَقِيَّتهمْ وَأحسن إِلَيْهِم بعد ذَلِك
وَأما أبرويز بن هُرْمُز وَهُوَ الَّذِي كتب إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ الَّذِي عرض على الله فِي الْمَنَام فَقيل لَهُ سلم مَا فِي يَديك إِلَى صَاحب الهراوة فَلم يزل مذعورا من ذَلِك حَتَّى كتب إِلَيْهِ النُّعْمَان بِظُهُور النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتهامة فَعلم أَن الْأَمر سيصير إِلَيْهِ حَتَّى كَانَ من أمره مَا كَانَ وَهُوَ الَّذِي سُئِلَ عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماحجة الله على كسْرَى فَقَالَ إِن الله تَعَالَى أرسل إِلَيْهِ ملكا فسلك يَده فِي جِدَار مَجْلِسه حَتَّى أخرجهَا إِلَيْهِ تلألأ نورا فارتاع كسْرَى فَقَالَ لَهُ الْملك لم ترع يَا كسْرَى إِن

(2/166)


الله عز وَجل قد بعث رَسُوله فَأسلم تسلم فَقَالَ سَأَنْظُرُ ذكره الطَّبَرِيّ فِي أَعْلَام كَثِيرَة من النُّبُوَّة عرضت على أبرويز أضربنا عَن الإطالة بهَا وَيُسمى أَيْضا سَابُور بعد هَذَا سَابُور بن أبرويز أَخُو شيرويه وَقد ملك نَحوا من شَهْرَيْن فِي مُدَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَملك أَخُوهُ شيرويه نَحوا من سِتَّة أشهر ثمَّ ملك بوران أختهما فملكت سنة وَهَلَكت وتشتت أَمرهم كل الشتات ثمَّ اجْتَمعُوا على يزدجرد بن شهريار بن أبرويز وَهُوَ آخر مُلُوك الْفرس وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد غلبوا على أَطْرَاف أَرضهم ثمَّ كَانَت حروب الْقَادِسِيَّة مَعَهم إِلَى أَن قهرهم الْإِسْلَام وأستؤصل أَمرهم وَالْحَمْد لله وسابور تنْسب إِلَيْهِ الثِّيَاب السابرية قَالَه الْخطابِيّ وَقتل يزدجرد فِي أول خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وجد مستخفيا فِي رحى فَقتل وَطرح فِي قناة الرَّحَى وَذَلِكَ بمرو من أَرض فَارس
وروى أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام عَن أبي البخْترِي قَالَ حاصر سلمَان رَضِي الله عَنهُ حصنا من حصون فَارس فَقَالَ حَتَّى أفعل بهم مَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَتَاهُم فَقَالَ إِنِّي رجل

(2/167)


مِنْكُم أسلمت فقد ترَوْنَ إكرام الْعَرَب إيَّايَ وَإِنَّكُمْ إِن أسلمتم كَانَ لكم مَا للْمُسلمين وَعَلَيْكُم مَا عَلَيْهِم فَإِن أَبَيْتُم فَعَلَيْكُم الْجِزْيَة وخاك بر سر يَعْنِي التُّرَاب على رؤوسكم بِالْفَارِسِيَّةِ فَإِن أَبَيْتُم قاتلناكم قَالَ لَا أعلمهُ إِلَّا قَالَ كَانَ يفعل ذَلِك ثَلَاثًا فَإِن أَبَوا قَاتلهم
فصل فِي ذكر إبتداء ملك الْفرس فِي بِلَاد الْيمن وإسلامهم وَذكر تَاج كسْرَى وإيوانه ورؤيا الموبذان وَهُوَ القَاضِي بلغتهم

قَالَ ابْن إِسْحَاق لما هلك أَبْرَهَة ملك الْحَبَشَة وَهُوَ صَاحب الْفِيل الَّذِي أنزل الله فِيهِ الْقُرْآن وقصته مَعْرُوفَة ملك بعده ابْنه يكسوم فَلَمَّا هلك ملك أَخُوهُ مَسْرُوق فَلَمَّا طَال الْبلَاء على أهل الْيمن من مُلُوك الْحَبَشَة خرج سيف بن ذِي يزن الْحِمْيَرِي وَهُوَ الَّذِي بشر عبد الْمطلب بِظُهُور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسأذكر خَبره فِيمَا بعد لتَعَلُّقه بِهَذَا الحَدِيث وَكَانَ يكنى بِأبي مرّة حَتَّى قدم على قَيْصر ملك الرّوم فَشكى إِلَيْهِ مَا

(2/168)


هُوَ فِيهِ وَسَأَلَهُ أَن يخرج الْحَبَشَة وَيبْعَث إِلَيْهِم من شَاءَ من الرّوم فَيكون لَهُ ملك الْيمن فَلم يشكه وَخرج حَتَّى أَتَى النُّعْمَان بن الْمُنْذر وَهُوَ عَامل كسْرَى على الْحيرَة وَمَا يَليهَا من أَرض الْعرَاق فَشَكا إِلَيْهِ أَمر الْحَبَشَة فَقَالَ لَهُ النُّعْمَان إِن لي وفادة على كسْرَى فِي كل عَام فأقم حَتَّى يكون ذَلِك فَفعل ثمَّ خرج مَعَه فَأدْخلهُ على كسْرَى وَكَانَ كسْرَى يجلس فِي إيوانه الَّذِي فِيهِ تاجه وَكَانَ تاجه مثل القنقل الْعَظِيم فِيمَا يَزْعمُونَ قَالَ الْجَوْهَرِي القنقل الْمِكْيَال الْعَظِيم الضخم يضْرب بِهِ الْيَاقُوت والزبرجد واللؤلؤ بِالذَّهَب وَالْفِضَّة مُعَلّقا بسلسلة من ذهب فِي رَأس طاق فِي إيوانه وَكَانَت عُنُقه لَا تحمل تاجه إِنَّمَا يستر بالثياب حَتَّى يجلس فِي مَجْلِسه ذَلِك ثمَّ يدْخل رَأسه فِي تاجه فاذا اسْتَوَى فِي مَجْلِسه كشفت عَنهُ الثِّيَاب فَلَا يرَاهُ رجل لم يره قبل ذَلِك إِلَّا برك هَيْبَة لَهُ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ سيف ابْن ذِي يزن برك وَقيل إِن سَيْفا لما دخل عَلَيْهِ طأطأ رَأسه فَقَالَ الْملك إِن هَذَا الأحمق يدْخل عَليّ من هَذَا الْبَاب الطَّوِيل

(2/169)


ثمَّ يُطَأْطِئ رَأسه فَقيل ذَلِك لسيف فَقَالَ إِنَّمَا فعلت ذَلِك لهمي لِأَنَّهُ يضيق عَنهُ كل شَيْء ثمَّ قَالَ لَهُ أَيهَا الْملك غلبنا على بِلَادنَا الأغربة قَالَ كسْرَى أَي الأغربة الْحَبَشَة أم السَّنَد فَقَالَ بل الْحَبَشَة فجئتك لتنصرني وَيكون ملك بلادي لَك قَالَ بَعدت بلادك مَعَ قلَّة خَيرهَا فَلم أكن لأورط جَيْشًا من فَارس بِأَرْض الْعَرَب لَا حَاجَة لي بذلك ثمَّ أجَازه بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم واف وكساه كسْوَة حَسَنَة فَلَمَّا قبض ذَلِك سيف خرج فَجعل ينثر الدَّرَاهِم للنَّاس فَبلغ ذَلِك الْملك فَقَالَ إِن لهَذَا لشأنا ثمَّ بعث إِلَيْهِ فَقَالَ عَمَدت إِلَى حباء الْملك تنثره للنَّاس فَقَالَ وَمَا أصنع بِهَذَا مَا جبال أرضي الَّتِي جِئْت مِنْهَا إِلَّا ذهب وَفِضة يرغبه فِيهَا فَجمع كسْرَى مرازبته فَقَالَ مَاذَا ترَوْنَ فِي أَمر هَذَا الرجل وَمَا جَاءَ لَهُ فَقَالَ قَائِل أَيهَا الْملك إِن فِي سجونك رجَالًا قد حبستهم للْقَتْل فَلَو أَنَّك بعثتهم مَعَه فان يهْلكُوا كَانَ ذَلِك الَّذِي أردْت بهم وَإِن ظفروا كَانَ ملكا ازددته فَبعث مَعَه كسْرَى من كَانَ فِي سجونه وَكَانُوا ثَمَانمِائَة رجل وَاسْتعْمل عَلَيْهِم وهرز وَكَانَ ذَا سنّ فيهم وأفضلهم حسبا ونسبا

(2/170)


فَخَرجُوا فِي ثَمَانِي سفائن فغرقت سفينتان وَوصل إِلَى سَاحل عدن سِتّ سفائن فَجمع سيف إِلَى وهرز من اسْتَطَاعَ من قومه وَقَالَ لَهُ رجْلي مَعَ رجلك حَتَّى نموت جَمِيعًا أَو نظفر جَمِيعًا قَالَ وهرز أنصفت وَخرج إِلَيْهِ مَسْرُوق بن أَبْرَهَة الحبشي ملك الْيمن وَجمع إِلَيْهِ جنده فَأرْسل إِلَيْهِم وهرز ابْنا لَهُ ليقاتلهم فَقتل ابْن وهرز فزاده ذَلِك حنقا عَلَيْهِم فَلَمَّا تواقف النَّاس على مَصَافهمْ قَالَ وهرز أروني ملكهم فَقَالُوا لَهُ أَتَرَى رجلا على الْفِيل عاقدا تاجه على رَأسه بَين عَيْنَيْهِ ياقوتة حَمْرَاء قَالَ نعم قَالُوا ذَاك ملكهم فَقَالَ اتركوه قَالَ فوقفوا طَويلا ثمَّ قَالَ على مَا هُوَ قَالُوا قد تحول على فرس قَالَ اتركوه فوقفوا طَويلا ثمَّ قَالَ على مَا هُوَ قَالُوا على البغلة قَالَ وهرز بنت الْحمار ذل وذل ملكه إِنِّي سأرميه فان رَأَيْتُمْ أَصْحَابه لم يتحركوا فاثبتوا حَتَّى أوذنكم فَانِي قد أَخْطَأت الرجل وَإِن رَأَيْتُمْ الْقَوْم قد استداروا حوله ولاثوا بِهِ فقد أصبت الرجل فاحملوا عَلَيْهِم ثمَّ أوتر قوسه وَكَانَت لَا يوترها غَيره من شدتها وَأمر بحاجبيه فعصبا لَهُ ثمَّ رَمَاه فصك الياقوتة الَّتِي بَين عَيْنَيْهِ

(2/171)


فتغلغلت النشابة فِي رَأسه حَتَّى خرجت من قَفاهُ ونكس عَن دَابَّته واستدارت الْحَبَشَة ولاثت بِهِ وحملت عَلَيْهِم الْفرس وانهزموا فَقتلُوا وهربوا فِي كل وَجه وَأَقْبل وهرز ليدْخل صنعاء حَتَّى إِذا أَتَى بَابهَا قَالَ لَا تدخل رايتي منكوسة أبدا أهدموا الْبَاب فهدم ثمَّ دَخلهَا ناصبا رايته وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الصَّلْت من قصيدة لَهُ فِي أَبْيَات
(لله دِرْهَم من عصبَة خَرجُوا ... مَا أَن أرى لَهُم فِي النَّاس أَمْثَالًا)
(بيضًا مرازبة غلبا أساورة ... أسدا تربب فِي الغيضات أشبالا)
(يرْمونَ عَن عتل كَأَنَّهَا غبط ... بزمخر يعجل المرمى إعجالا)
(أرْسلت أسدا على سود الْكلاب فقد ... أضحى شريدهم فِي الأَرْض فلالا)
(فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك التَّاج مرتفعا ... فِي رَأس غمدان دَارا مِنْك محلالا)

(2/172)


(واشرب هَنِيئًا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل الْيَوْم فِي برديك إسبالا)
(تِلْكَ المكارم لَا قعبان من لبن ... شيبا بِمَاء فصارا بعد أبوالا)
تَفْسِير مَا فِيهِ من الْغَرِيب

قَالَ الْجَوْهَرِي الْمَرْزُبَان عِنْد الْفرس هُوَ الدهْقَان وَهُوَ الْآمِر على مَا تَحت يَده وَقَوله غلبا أساورة الرجل الْأَغْلَب الغليظ الرَّقَبَة وَقَوله أساورة قَالَ أَبُو عبيد هم الفرسان وَقيل قوم من الْعَجم بِالْبَصْرَةِ نزلوها قَدِيما كالأحامرة بِالْكُوفَةِ وَقَوله فِي الغيضات الغيضة الأجمة وَهُوَ مغيض مَاء يجْتَمع فينبت فِيهِ الشّجر وغيض الْأسد ألف الغيضة وَقَوله يرْمونَ عَن عتل وَاحِدَة عتلة وَهِي القسي الفارسية وَقَوله كَأَنَّهَا غبط الغبيط الرحل وَهُوَ للنِّسَاء يشد عَلَيْهِ الهودج فَشبه القسي الفارسية بخشبها وَقَوله بزمخر الزمخر النشاب قَالَه ابْن فَارس وَقَوله فِي رَأس غمدان قَالَ الْبكْرِيّ غمدان بِضَم أَوله وَإِسْكَان ثَانِيه وبالدال الْمُهْملَة قلعة صنعاء وَكَانَت عشْرين سقفا طباقا بَين كل سقفين عشرَة أَذْرع فَكَانَ ارْتِفَاع بنائها مِائَتي ذِرَاع وعمدان بِالْعينِ الْمُهْملَة فِي مأرب من

(2/173)


بِلَاد الْيمن أَيْضا وَقَوله شالت نعامتهم قَالَ الْجَوْهَرِي النعامة الْخَشَبَة المعترضة على الزرنوقين يُقَال للْقَوْم إِذا ارتحلوا عَن منهلهم أَو تفَرقُوا شالت نعامتهم والزرنوقان منارتان تبنيان على رَأس الْبِئْر فتوضع عَلَيْهِمَا النعامة وَهِي الْخَشَبَة المعترضة عَلَيْهَا ثمَّ تعلق الْقَامَة وَهِي البكرة فِي النعامة وَإِن كَانَ الزرنوقان من خشب فهما دعامتان وَسيف بن ذِي يزن فَهُوَ الَّذِي عَنى سطيح بقوله إرم ذِي يزن يخرج عَلَيْهِم من عدن فَلَا يتْرك أحدا مِنْهُم بِالْيمن وَالَّذِي عني شقّ بقوله غُلَام لَيْسَ بدني وَلَا مدن يخرج عَلَيْهِم من بَيت ذِي يزن