المصباح
المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي فصل فِي وُفُود الْعَرَب على سيف بن ذِي
يزن وَمن جُمْلَتهمْ عبد الْمطلب وبشراه لَهُ بِظُهُور رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
روى ابْن ظفر فِي كتاب أنباء نجباء الْأَبْنَاء عَن ابْن عَبَّاس رَضِي
الله
(2/174)
عَنْهُمَا قَالَ لما ظهر سيف بن ذِي يزن
على الْحَبَشَة وَفد عَلَيْهِ أَشْرَاف الْعَرَب وشعراؤهم وخطباؤهم ليشكروه
على عنائه وَأَخذه بثأر قومه ويهنؤه بِمَا صَار إِلَيْهِ من الْملك وَقدم
عَلَيْهِ وَفد قُرَيْش وَفِيهِمْ عبد الْمطلب بن هَاشم وَأُميَّة بن عبد
شمس وَغَيرهمَا فَاسْتَأْذنُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي رَأس غمدان وَهُوَ قصر
بِصَنْعَاء فَأذن لَهُم فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ مضمخ بالمسك
وَعَلِيهِ بردَان والتاج على رَأسه وسيفه بَين يَدَيْهِ وملوك حمير عَن
يَمِينه وشماله فاستأذنه عبد الْمطلب فِي الْكَلَام فَقَالَ لَهُ إِن كنت
مِمَّن يتَكَلَّم بَين يَدي الْمُلُوك أذنا لَك فَقَالَ عبد الْمطلب إِن
الله قد أحلك أَيهَا الْملك محلا صعبا باذخا منيفا شامخا وأنبتك نباتا طابت
أرومته وعزت جرثومته وَثَبت أَصله وبسق فَرعه بأكرم مَعْدن وَأطيب موطن
فَأَنت أَبيت اللَّعْن ملك الْعَرَب الَّذِي إِلَيْهِ تنقاد وعمودها
الَّذِي عَلَيْهِ الِاعْتِمَاد وسائسها الَّذِي إِلَيْهِ القياد سلفك خير
سلف وَأَنت لنا مِنْهُم خير خلف وَلنْ يجهل من هم سلفه وَلنْ يهْلك من
أَنْت خَلفه نَحن أَيهَا الْملك أهل حرم الله وسدنة بَيته أشخصنا إِلَيْك
الَّذِي أبهجنا من
(2/175)
كشفك الكرب الَّذِي فدحنا فَقَالَ لَهُ
الْملك من أَنْت أَيهَا الْمُتَكَلّم قَالَ أَنا عبد الْمطلب بن هَاشم
قَالَ ابْن أُخْتنَا قَالَ نعم فَأقبل عَلَيْهِ من بَين الْقَوْم فَقَالَ
مرْحَبًا وَأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا وملكا ربحلا يُعْطي عَطاء جزلا
قد سمع الْملك مَقَالَتَكُمْ وَعرف قرابتكم أَنْتُم أهل اللَّيْل
وَالنَّهَار لكم الْكَرَامَة مَا أقمتم والحباء إِذا ظعنتم ثمَّ أَمر بهم
إِلَى دَار الضِّيَافَة وأجرى عَلَيْهِم الأنزال وَأَقَامُوا شهرا لَا
يُؤذن لَهُم وَلَا يصلونَ إِلَيْهِ ثمَّ إِنَّه انتبه لَهُم انتباهة
فَأرْسل إِلَى عبد الْمطلب خَاصَّة فَأَتَاهُ فأخلاه ثمَّ قَالَ لَهُ
إِنِّي مفض إِلَيْك من سري وَعلمِي بِشَيْء لَو غَيْرك كَانَ لم أبح لَهُ
بِهِ وَلَكِنِّي رَأَيْتُك أَهله وموضعه فَلْيَكُن عنْدك مطويا حَتَّى
يَأْذَن الله فِيهِ بأَمْره إِنِّي أجد فِي الْكتاب النَّاطِق وَالْعلم
الصَّادِق الَّذِي اخترناه لأنفسنا واحتجبناه دون غَيرنَا خَبرا عَظِيما
وخطرا جسيما فِيهِ شرف الْحَيَاة وفضيلة الْوَفَاة للنَّاس كَافَّة ولقومك
عَامَّة وَلَك خَاصَّة فَقَالَ عبد الْمطلب أَبيت اللَّعْن أَيهَا الْملك
لقد أَبَت بِخَير مَا آب بِهِ وَافد وَلَوْلَا هَيْبَة الْملك وإجلاله
لسألته من كشف بشارته إيَّايَ مَا أزداد بِهِ سُرُورًا فَقَالَ الْملك
نَبِي هَذَا حِينه الَّذِي يُولد فِيهِ اسْمه مُحَمَّد خَدلج السَّاقَيْن
أنجل الْعَينَيْنِ فِي عَيْنَيْهِ عَلامَة وَبَين كَتفيهِ شامة أَبيض كَأَن
وَجهه فلقَة قمر يَمُوت أَبوهُ وَأمه ويكفله جده
(2/176)
وَعَمه قد ولدناه مرَارًا وَالله باعثه
جهارا وجاعل لَهُ منا أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويضربون دونه
النَّاس عَن عرض ويستبيح بهم كرائم الأَرْض يكسر الْأَوْثَان ويعبد
الرَّحْمَن ويخمد النيرَان ويدحر الشَّيْطَان قَوْله فصل وَحكمه عدل يَأْمر
بِالْمَعْرُوفِ ويفعله وَينْهى عَن الْمُنكر ويبطله فَقَالَ عبد الْمطلب عز
جدك وَعلا كعبك وَطَالَ عمرك هَل الْملك ساري بافصاح فقد أوضح لي بعض
الْإِيضَاح فَقَالَ لَهُ الْملك وَالْبَيْت ذِي الْحجب والعلامات على النصب
إِنَّك يَا عبد الْمطلب لجده غير الْكَذِب فَخر عبد الْمطلب سَاجِدا ثمَّ
رفع رَأسه فَقَالَ لَهُ الْملك ثلج صدرك وَعلا أَمرك وَبلغ أملك فِي عقبك
هَل أحسست بِشَيْء مِمَّا ذكرت لَك قَالَ نعم أَبيت اللَّعْن كَانَ لي ابْن
كنت عَلَيْهِ شفيقا وَبِه رَفِيقًا فزوجته كَرِيمَة من كرائم قومِي آمِنَة
بنت وهب ابْن عبد منَاف بن زهرَة فَجَاءَت بِغُلَام سميته مُحَمَّدًا خَدلج
السَّاقَيْن أنجل الْعَينَيْنِ بَين كَتفيهِ شامة وَفِيه كل مَا ذكر الْملك
من عَلامَة مَاتَ أَبوهُ وَأمه وكفلته أَنا وَعَمه فَقَالَ لَهُ الْملك إِن
(2/177)
الَّذِي قلت لَك كَمَا قلت فاحتفظ بابنك
وَاحْذَرْ عَلَيْهِ من الْيَهُود فَإِنَّهُم لَهُ أَعدَاء وَلنْ يَجْعَل
الله لَهُم عَلَيْهِ سَبِيلا وَالله مظهر دَعوته وناصر شَرِيعَته فأغض على
مَا ذكرت لَك واستره دون هَذَا الرَّهْط الَّذين مَعَك فلست آمن أَن تدخلهم
النفاسة فِي أَن تكون لَك الرِّئَاسَة فينصبوا لَك الحبائل ويطلبوا لَهُ
الغوائل وهم فاعلون ذَلِك أَو أبناؤهم وَإِن عزه لباهر وَإِن حظهم بِهِ
لوافر وَلَوْلَا علمي على أَن الْمَوْت مجتاحي قبل مخرجه لسرت إِلَيْهِ
بخيلي ورجلي وصيرت يثرب دَار ملكي حَيْثُ يكون مهاجره فَأَكُون وزيره وأخاه
وَصَاحبه وظهيره على من كاده وأراده فَإِنِّي أجد فِي الْكتاب الْمكنون
وَالْعلم المخزون أَن بِيَثْرِب استحكام أمره وَأهل نَصره وارتفاع ذكره
وَمَوْضِع قَبره وَلَوْلَا الدمامة بعد الزعامة وَصغر السن لأظهرت أمره
وأوطأت الْعَرَب كَعبه على صغر سنه وَلَكِنِّي صَارف ذَلِك إِلَيْك من غير
تَقْصِير بك وبمن مَعَك ثمَّ أَمر لكل رجل من الْقَوْم بِعشْرَة أعبد
وبعشرة إِمَاء سود وحلتين من حلل البرود وَعشرَة
(2/178)
أَرْطَال من الْفضة وَخَمْسَة أَرْطَال من
الذَّهَب وكرش مَمْلُوءَة عنبرا وَأمر لعبد الْمطلب بِعشْرَة أَمْثَال
ذَلِك وَقَالَ يَا عبد الْمطلب إِذا كَانَ رَأس الْحول فأتني بِخَبَرِهِ
وَمَا يكون من أمره فَمَاتَ الْملك قبل أَن يحول الْحول فَكَانَ عبد
الْمطلب يَقُول لأَصْحَابه لَا يغبطني أحد مِنْكُم بعطية الْملك وَلَكِن
يغبطني بِمَا أسره إِلَيّ فَيُقَال مَا هُوَ فيسكت
قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي المعارف أَقَامَ سيف بن ذِي يزن ملكا من قبل
كسْرَى يكاتبه ويصدر فِي الْأُمُور عَنهُ إِلَى أَن قتل وَكَانَ سَبَب
قَتله أَنه اتخذ من أُولَئِكَ الْحَبَش خدما فَخلوا بِهِ يَوْمًا وَهُوَ
فِي متصيد لَهُ فزرقوه بِحِرَابِهِمْ فَقَتَلُوهُ وهربوا فِي رُؤُوس
الْجبَال فطلبهم أَصْحَابه فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا وانتشر الْأَمر بِالْيمن
وَلم يملكُوا أحدا غير أَن أهل كل نَاحيَة ملكوا عَلَيْهِم رجلا من حمير
فَكَانُوا كملوك الطوائف حَتَّى أَتَى الله بِالْإِسْلَامِ وَيُقَال
أَنَّهَا لم تزل فِي يَد مُلُوك فَارس وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بعث وباذان عَامل أبرويز عَلَيْهَا وَمَعَهُ قائدان من قواد أبرويز
يُقَال لَهما فَيْرُوز ودادويه فأسلموا
(2/179)
تَفْسِير غَرِيب لُغَة هَذَا الْخَبَر
قَالَ مُحَمَّد بن ظفر عَفا الله عَنهُ قد اشْتَمَل هَذَا الحَدِيث على
أَلْفَاظ لغوية مشكلة وَهَذَا إيضاحها قَوْله شامخا وباذخا جَمِيعًا
للمرتفع طابت أرومته الأرومة هِيَ الأَصْل وَكَذَلِكَ قَوْله جرثومته
فالجرثومة يكنى بهَا عَن الأَصْل وَهِي فِي الْحَقِيقَة التُّرَاب
الْمُجْتَمع الْمُرْتَفع يكون فِي أصُول الشّجر وَنَحْوهَا وَقَوله بسق
مَعْنَاهُ علا وارتفع وَقَوله أَبيت اللَّعْن هَذِه كلمة كَانَت الْعَرَب
تحيي بهَا مُلُوكهَا فِي الْجَاهِلِيَّة واللعن هُوَ الإبعاد فَقيل
الْمَعْنى أَنَّك أَبيت أَن تَأتي أمرا تلعن من أَجله وَهَذَا عِنْدِي بعيد
وأظن الْمَعْنى أَنَّك أَبيت أَن تلعن وافدك وقاصدك أَي أَبيت أَن تبعده
وَقَوله سدنة بَيته أَي خدمته وحجبته وسدنة الْبَيْت هم بَنو شيبَة وَقَوله
فدحنا مَعْنَاهُ أثقلنا وتحملنا مِنْهُ مَا لَا نطيقه يَعْنِي غَلَبَة
الْحَبَشَة على بِلَاد الْعَرَب وَقَوله ملكا ربحلا الربحل هُوَ الضخم
الطَّوِيل وأنما كنى بِهِ عَن عَظِيم الْقدر وَقَوله عَطاء جزلا الجزل هُوَ
الغليظ وَالْكثير من كل شَيْء وَقَوله أخلاه يَعْنِي خلا بِهِ وَقَوله
احتجبناه أَي ضمناه لأنفسنا وصناه عَن غَيرنَا وَقَوله خَدلج السَّاقَيْن
أَي ممتلئهما
(2/180)
وَقَوله أنجل الْعَينَيْنِ أَي واسعهما
وَفِي قَوْله وَفِي عَيْنَيْهِ عَلامَة يَعْنِي الشكلة وَهِي حمرَة تمازج
الْبيَاض وَكَانَت فِي عَيْني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شكْلَة
وَقَوله يضْربُونَ النَّاس عَن عرض أَي يضْربُونَ من عرض لَهُم دونه لَا
يبالون من لقوا وَلَا يخَافُونَ أحدا فِيهِ وَعرض الشَّيْء نَاحيَة مِنْهُ
وَقَوله يخمد النيرَان يَعْنِي نيران فَارس الَّتِي يعبدونها أخمدها الله
بِرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فَأذْهب ملكهم وَقَوله يدحر الشَّيْطَان
مَعْنَاهُ يبعده وَقَوله على النصب هِيَ أَعْلَام حِجَارَة مَنْصُوبَة
كَانَت النسائك فِي الْجَاهِلِيَّة تذبح عِنْدهَا ويلطخونها بالدماء
وَقَوله فأغض على مَا ذكرت لَك أَي أخفه واستره وأصل الإغضاء مقاربة مَا
بَين الجفون وَقَوله ثلج صدرك أَي برد وَهِي كلمة يكنى بهَا عَن حُصُول
الْيَقِين وَقَوله النفاسة هِيَ الْحَسَد على الشَّيْء النفيس الْقيمَة
وَقَوله الغوائل هِيَ المهلكات وَقَوله مجتاحي أَي مستأصلي بالهلكة وَقَوله
الدمامة هِيَ الصغر وكل ضئيل الْجِسْم فَهُوَ دميم بِالدَّال غير
الْمُعْجَمَة وَقَوله السِّيَادَة
(2/181)
وَقَوله هِيَ السياسة والرئاسة وَقَوله
يغبطني أَي يحسدني والغبط والنفاسة وَإِن كَانَا من الْحَسَد فقد يكون
لَهما وَجه يبيحهما الشَّرْع لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره
قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ شيبَة الْحَمد وَهُوَ عبد الْمطلب إِلَى مَكَّة
كَانَ يبسط لَهُ فرَاش إِلَى جِدَار الْكَعْبَة فيجلس عَلَيْهِ فِي ظلها
ويحدق بفراشه بنوه وَغَيرهم من سَادَات أسرته قبل مَجِيئه فَيَأْتِي
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ طِفْل يدب فَلَا يثنيه عَن
الْفراش شَيْء حَتَّى يجلس عَلَيْهِ فيزيله عَنهُ أَعْمَامه فيبكي حَتَّى
يردوه إِلَيْهِ فطلع عَلَيْهِ عبد الْمطلب يَوْمًا وَقد أزالوه فَقَالَ
ردوا ابْني إِلَى مجلسي فَإِنَّهُ يحدث نَفسه بِملك عَظِيم وسيكون لَهُ
شَأْن فَأقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا وَهُوَ صَغِير يدرج
فَقَالَ عبد الْمطلب افرجوا لِابْني ورماه ببصره حَتَّى اسْتَقر على
الْفراش ثمَّ أنْشد
(أُعِيذهُ بِالْوَاحِدِ ... من شَرّ كل حَاسِد)
ثمَّ قَالَ أَنا أَبُو الْحَارِث مَا رميت غَرضا إِلَّا أصبته يُرِيد مَا
تخطئ فراستي وَأَن الَّذِي كَانَ يتفرس فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ويظنه بِهِ قد صَحَّ عِنْده بِمَا أخبرهُ بِهِ الْملك فَقَالَ لَهُ
ابْنه الْحَارِث يَا سيد الْبَطْحَاء إِنَّك لتقول قولا مصمتا فَلَو أوضحت
فَقَالَ لَهُ ستعلم يَا أَبَا سُفْيَان
(2/182)
رَجعْنَا إِلَى حَدِيث وهرز
قَالَ ابْن هِشَام ثمَّ مَاتَ وهرز وَأمر كسْرَى ابْنه الْمَرْزُبَان ابْن
وهرز على الْيمن ثمَّ مَاتَ الْمَرْزُبَان فَأمر كسْرَى ابْنه التينجان
ابْن الْمَرْزُبَان ثمَّ مَاتَ ثمَّ أَمر كسْرَى ابْنه ثمَّ عَزله وَأمر
باذان فَلم يزل عَلَيْهَا حَتَّى بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَنَذْكُر فِي تَرْجَمته طرفا من خَبره وإسلامه فِيمَا يَأْتِي إِن شَاءَ
الله تَعَالَى
فصل فِي ذكر سطيح ورؤيا كسْرَى والموبذان
قَالَ السُّهيْلي وَعمر سطيح زَمَانا طَويلا حَتَّى أدْرك مولد النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت الْعَرَب تسميه سطيح الذئبي لِأَنَّهُ
سطيح ابْن ربيعَة بن مَسْعُود بن مَازِن بن ذِئْب فَرَأى كسْرَى أنوشروان
بن قباذ بن فَيْرُوز مَا رأى من ارتجاس الإيوان وخمود النيرَان وَلم تكن
خمدت قبل ذَلِك بِأَلف عَام وَسَقَطت من قصره أَربع عشرَة شرفه وَأخْبرهُ
الموبذان وَمَعْنَاهُ القَاضِي أَو الْمُفْتِي بلغتهم أَنه رأى إبِلا صعابا
تقود خيلا
(2/183)
عرابا فانتشرت فِي بِلَادهمْ وَغَارَتْ
بحيرة ساوة فَأرْسل كسْرَى عبد الْمَسِيح بن عَمْرو بن حَيَّان بن نفيلة
الغساني إِلَى سطيح وَكَانَ سطيح من أخوال عبد الْمَسِيح وَلذَلِك أرْسلهُ
كسْرَى يستخبره علم ذَلِك ويستعبره رُؤْيا الموبذان فَقدم عَلَيْهِ وَقد
أشفى على الْمَوْت فَسلم عَلَيْهِ فَلم يحر إِلَيْهِ سطيح جَوَابا
فَأَنْشَأَ عبد الْمَسِيح يَقُول
(أَصمّ أم يسمع غطريف الْيمن ... أم فاد فازلم بِهِ شأو العنن)
(يَا فاصل الخطة أعيت من وَمن ... أَتَاك شيخ الْحَيّ من آل شنن)
(وَأمه من آل ذِئْب بن حجن ... أَبيض فضفاض الرِّدَاء وَالْبدن)
(رَسُول قيل الْعَجم يسرى للوسن ... لَا يرهب الرَّعْد وَلَا ريب الزَّمن)
(تجوب بِي الأَرْض علنداة شرن ... ترفعني وجن وتهوي بِي وجن)
(2/184)
(حَتَّى أَتَى عاري الجآجئ والقطن ... تلفه
فِي الرّيح بوغاء الدمن)
(كَأَنَّمَا حثحث من حضني ثكن ... )
فَلَمَّا سمع سطيح شعره رفع رَأسه فَقَالَ لَهُ عبد الْمَسِيح جَاءَ إِلَى
سطيح حِين أوفى على الضريح بَعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود
النيرَان ورؤيا الموبذان رأى إبِلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة
وانتشرت فِي بلادها عبد الْمَسِيح إِذا كثرت التِّلَاوَة وَظهر صَاحب
الهراوة وخمدت نَار فَارس وَغَارَتْ بحيرة ساوة وفاض وَادي السماوة
فَلَيْسَتْ الشَّام لسطيح شاما يملك مِنْهُم مُلُوك وملكات على عدد الشرفات
وكل مَا هُوَ آتٍ آتٍ ثمَّ قضى سطيح مَكَانَهُ
تَفْسِير غَرِيب لغته
قَوْله غطريف الْيمن قَالَ ابْن فَارس الغطريف السَّيِّد والغطرفة الْكبر
وَقَوله أم فاد قَالَ السُّهيْلي فاد مَاتَ يُقَال فاد يفود وَقَوله فازلم
مَعْنَاهُ قبض قَالَه ثَعْلَب
(2/185)
وَقَوله شأو العنن يُرِيد الْمَوْت وَمَا
عَن مِنْهُ قَالَه الْخطابِيّ وَقَوله يَا فاصل الْفَاصِل الْحَاكِم قَالَه
الْجَوْهَرِي وَقَوله الخطة بِالضَّمِّ الْأَمر والقصة يُقَال جَاءَ وَفِي
رَأسه خطة إِذا جَاءَ وَفِي نَفسه حَاجَة قد عزم عَلَيْهَا وَفِي حَدِيث
قيلة ايلام ابْن هَذِه أَن يفصل الخطة أَي أَنه إِذا نزل بِهِ أَمر مُشكل
لَا يَهْتَدِي لَهُ إِنَّه لَا يعبا بِهِ وَلكنه يفصله حَتَّى يبرمه وَيخرج
مِنْهُ وَقَوله من آل شنن بالشين الْمُعْجَمَة هُوَ حَيّ من عبد الْقَيْس
وَهُوَ شن بن أفصى وَمِنْه وَافق شن طبقَة قَالَه الْجَوْهَرِي وَقَوله
أَبيض فضفاض الرِّدَاء وَالْبدن الفضفضة سَعَة الثَّوْب والدرع والعيش
يُقَال ثوب فضفاض وعيش فضفاض وَدرع فضفاضة أَي وَاسِعَة قَالَه
الْجَوْهَرِي قَوْله رَسُول قيل الْعَجم القيل الْملك من مُلُوك حمير
وَجمعه أقيال وَمن جمع على الْأَقْوَال فالواحد القيل بتَشْديد الْيَاء
وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ قَالَه ابْن فَارس وَقَالَ الْجَوْهَرِي قيل
اسْم رجل من قوم عَاد وقيلة أم
(2/186)
الْأَوْس والخزرج وَقَوله تجوب بِي الأَرْض
جبت الْبِلَاد أجوبها إِذا قطعتها يُقَال هَل جَاءَكُم جائبة خبر أَي خبر
يجوب الأَرْض من بلد إِلَى بلد قَالَه الْجَوْهَرِي وَقَوله علنداة شزن
قَالَ السُّهيْلي نَاقَة علنداة وجمل علنداة بِالْهَاءِ وَيجمع على العلاند
والعلنديات والعلنداة الصلب والشزن المعيي من الحفا وَقَوله وجن جمع وجين
قَالَ الْجَوْهَرِي الوجين الْعَارِض من الأَرْض ينقاد ويرتفع قَلِيلا
وَهُوَ غليظ وَمِنْه الوجناء وَهِي النَّاقة الشَّدِيدَة شبهت بِهِ فِي
صلابتها وَقَوله الجآجئ والقطن قَالَ السُّهيْلي الجآجئ عظم الصَّدْر
والقطن مَا بَين الْوَرِكَيْنِ يَقُول إِن السّير قد هزلها فَأذْهب لَحمهَا
وبدت عظامها وَقَوله بوغاء الدمن قَالَ الْجَوْهَرِي البوغاء التربة الرخوة
الَّتِي كَأَنَّهَا ذريرة عَن أبي عبيده قَالَ والدمن البعر والدمنة آثَار
النَّاس وَمَا سودوا وَالْجمع الدمن تَقول مِنْهُ دمن الْقَوْم الدَّار
ودمن الشَّاء المَاء هَذَا من البعر قَالَ ذُو الرمة
(مولعة خنساء لَيست بنعجة ... يدمن أَجْوَاف الْمِيَاه وقيرها)
(2/187)
والوقير الْغنم وَقَوله كَأَنَّمَا حثحث من
حضني ثكن حثحث مَعْنَاهُ أسْرع وحضني الحضن النَّاحِيَة قَالَه ابْن فَارس
وثكن اسْم جبل بِفَتْح أَوله قَالَه الْبكْرِيّ فِي مُعْجَمه
وَأما قَول سطيح بَعثك ملك بني ساسان فهم مُلُوك الْفرس نسبوا إِلَى جدهم
وَهُوَ أزدشير بن بابك بن ساسان وَقَوله إِذا كثرت التِّلَاوَة هِيَ
تِلَاوَة الْقُرْآن وَصَاحب الهراوة هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الهراوة العصاة الضخمة وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بالهراوة أَنه صَاحب
السَّيْف كَمَا جَاءَ فِي صفته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غير هَذَا
الْموضع وَإنَّهُ صَاحب الْقَضِيب وَأَرَادَ بالقضيب السَّيْف قَوْله وفاض
وَادي السماوة السماوة مفازة بَين الْكُوفَة وَالشَّام وَقيل بَين الْموصل
وَالشَّام وَهِي من أَرض كلب قَليلَة الْعرض طَوِيلَة قَالَ الْخَلِيل
السماوة مَاء بالبادية وَكَانَت أم النُّعْمَان سميت بهَا فَكَانَ اسْمهَا
مَاء السماوة قَالَه ابْن فَارس
قَالَ السُّهيْلي وَكَانَ سطيح جسدا ملقى لَا جوارح لَهُ وَلَا يقدر على
الْجُلُوس إِلَّا إِذا غضب انتفخ فَجَلَسَ وَكَانَ شقّ شقّ إِنْسَان
إِنَّمَا لَهُ يَد وَاحِدَة وَرجل وَاحِدَة وَعين وَاحِدَة وَيذكر عَن وهب
بن مُنَبّه أَنه قَالَ قيل لسطيح أَنى لَك هَذَا الْعلم فَقَالَ لي صَاحب
من الْجِنّ اسْتمع أَخْبَار السَّمَاء من طور سيناء حِين كلم الله مِنْهُ
مُوسَى فَهُوَ
(2/188)
يُؤَدِّي إِلَى من ذَلِك مَا يُؤَدِّيه
وَولد سطيح وشق فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَت فِيهِ طريفة الكاهنة امْرَأَة
عَمْرو بن عَامر الحميرية ودعت بسطيح قبل أَن تَمُوت فَأتيت بِهِ فتفلت فِي
فِيهِ وأخبرت أَنه سيخلفها فِي علمهَا وكهانتها وَكَانَ وَجهه فِي صَدره
وَلم يكن لَهُ رَأس وَلَا عنق ودعت بشق فَفعلت بِهِ مَا فعلت بسطيح ثمَّ
مَاتَت وقبرها بِالْجُحْفَةِ
وَقد انْتهى كلامنا على الْأَرْبَعَة الْمُلُوك الَّذين كَانُوا أعظم
مُلُوك الأَرْض فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونورد الْآن أَخْبَار
بَقِيَّتهمْ على مَا شرطناه فِي صدر الْكتاب من ترتيبهم على حُرُوف المعجم
وَالله الْمعِين
(2/189)
حرف الْألف
وَمن الَّذين كاتبهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأرْسل إِلَيْهِم أَسْقُف
نَجْرَان وَهُوَ كَانَ كَبِير وَادي نَجْرَان والمشار إِلَيْهِ بَينهم
روى صَاحب الْهدى المحمدي بِسَنَدِهِ عَن يُونُس بن بكير عَن سَلمَة بن عبد
يسوع عَن أَبِيه عَن جده قَالَ يُونُس وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم إِن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى أهل نَجْرَان
بِسم إِلَه إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب أما بعد فَإِنِّي أدعوكم
إِلَى عبَادَة الله من عبَادَة الْعباد وأدعوكم إِلَى ولَايَة الله من
ولَايَة الْعباد فَإِن أَبَيْتُم فالجزية فَإِن أَبَيْتُم فقد آذنتكم
بِحَرب وَالسَّلَام
(2/191)
فَلَمَّا أَتَى الأسقف الْكتاب فقره قطع
بِهِ وذعره ذعرا شَدِيدا فَبعث إِلَى رجل من أهل نَجْرَان يُقَال لَهُ
شُرَحْبِيل بن ودَاعَة وَكَانَ من هَمدَان وَلم يكن أحد يدعى إِذا نزل
معضلة قبله لَا الْأَيْهَم وَلَا السَّيِّد وَلَا العاقب فَدفع الأسقف كتاب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ فقرأه فَقَالَ الأسقف يَا
أَبَا مَرْيَم مَا رَأْيك فَقَالَ شُرَحْبِيل قد علمت مَا وعد الله
إِبْرَاهِيم فِي ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل من النُّبُوَّة فَمَا يُؤمن أَن
يكون هَذَا هُوَ ذَلِك الرجل لَيْسَ لي فِي النُّبُوَّة رَأْي لَو كَانَ من
أَمر الدُّنْيَا أَشرت عَلَيْك فِيهِ برأيي وجهدت لَك فِيهِ فَقَالَ الأسقف
تَنَح فاجلس فَتنحّى شُرَحْبِيل فَجَلَسَ نَاحيَة فَبعث الأسقف إِلَى رجل
من أهل نَجْرَان يُقَال لَهُ عبد الله بن شُرَحْبِيل وَهُوَ من ذِي أصبح من
حمير فَأَقْرَأهُ الْكتاب وَسَأَلَهُ عَن الرَّأْي فِيهِ فَقَالَ لَهُ مثل
قَوْله شُرَحْبِيل فَقَالَ لَهُ الأسقف تَنَح فاجلس فَجَلَسَ نَاحيَة فَبعث
الأسقف إِلَى رجل من أهل نَجْرَان يُقَال لَهُ جَبَّار ابْن قيص من بني
الْحَارِث بن كَعْب فَأَقْرَأهُ الْكتاب وَسَأَلَهُ عَن الرَّأْي فِيهِ
فَقَالَ لَهُ مثل قَول شُرَحْبِيل وَعبد الله فَأمره الأسقف فَتنحّى
فَلَمَّا اجْتمع الرَّأْي مِنْهُم على تِلْكَ الْمقَالة جَمِيعًا أَمر
الأسقف بالناقوس فَضرب وَرفعت المسوح فِي الصوامع وَكَذَلِكَ كَانُوا
يَفْعَلُونَ إِذا فزعوا بِالنَّهَارِ
(2/192)
وَإِذا كَانَ فزعهم بِاللَّيْلِ ضربوا
بالناقوس وَرفعت النيرَان فِي الصوامع فَاجْتمع حِين ضرب بالناقوس وَرفعت
المسوح أهل الْوَادي أَعْلَاهُ وأسفله وَطول الْوَادي مسيرَة يَوْم للراكب
السَّرِيع وَفِيه ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ قَرْيَة وَعِشْرُونَ وَمِائَة ألف
مقَاتل فَقَرَأَ عَلَيْهِم كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وسألهم عَن الرَّأْي فِيهِ وَاجْتمعَ رَأْي أهل الْوَادي مِنْهُم على أَن
يبعثوا شُرَحْبِيل بن ودَاعَة الْهَمدَانِي وَعبد الله بن شُرَحْبِيل وجبار
بن قيص الْحَارِثِيّ فيأتونهم بِخَبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَانْطَلق الْوَفْد حَتَّى إِذا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وضعُوا ثِيَاب
السّفر عَنْهُم ولبسوا حللا لَهُم يجرونها من الْحبرَة وخواتيم الذَّهَب
ثمَّ انْطَلقُوا حَتَّى أَتَوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَسَلمُوا عَلَيْهِ فَلم يرد عَلَيْهِم السَّلَام وتصدوا لكَلَامه نَهَارا
طَويلا فَلم يكلمهم وَعَلَيْهِم تِلْكَ الْحلَل وَالْخَوَاتِيم الذَّهَب
فَانْطَلقُوا يتبعُون عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف
وَكَانَا معرفَة لَهُم كَانَا يخرجَانِ العير فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَى
نَجْرَان ويشترون لَهما من برهَا وَثَمَرهَا وذرتها فوجدوهما فِي
(2/193)
نَاس من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار من
مجْلِس فَقَالُوا يَا عُثْمَان وَيَا عبد الرَّحْمَن إِن نَبِيكُم قد كتب
إِلَيْنَا بِكِتَاب فأقبلنا مجيبين لَهُ فأتيناه فسلمنا عَلَيْهِ فَلم يرد
سلامنا وتصدينا لكَلَامه نَهَارا طَويلا فأعيانا أَن يُكَلِّمنَا فَمَا
الرَّأْي مِنْكُمَا أنعود فَقَالَا لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ
وَهُوَ فِي الْقَوْم مَا ترى يَا أَبَا الْحسن رَضِي الله عَنْك فِي
هَؤُلَاءِ الْقَوْم فَقَالَ عَليّ لعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن أرى أَن
يضعوا حللهم وخواتيمهم فَفَعَلُوا ثمَّ عَادوا إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَسَلمُوا عَلَيْهِ فَرد سلامهم ثمَّ سَأَلَهُمْ وسألوه
فَلم تزل بِهِ وبهم الْمَسْأَلَة حَتَّى قَالُوا لَهُ مَا تَقول فِي عِيسَى
فانا نرْجِع إِلَى قَومنَا وَنحن نَصَارَى فيسرنا إِن كنت نَبيا أَن نعلم
مَا تَقول فِيهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عِنْدِي
فِيهِ شَيْء يومي هَذَا فاقيموا حَتَّى أخْبركُم بِمَا يُقَال لي فِي
عِيسَى فَأصْبح الْغَد وَقد أنزل الله تَعَالَى {إِن مثل عِيسَى عِنْد الله
كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون الْحق من رَبك فَلَا
تكن من الممترين فَمن حاجك فِيهِ} إِلَى قَوْله عز وَجل على الكذبين
فَأَبَوا أَن يقرُّوا بذلك فَلَمَّا أصبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الْغَد بعد مَا أخْبرهُم الْخَبَر أقبل مُشْتَمِلًا على الْحسن
وَالْحُسَيْن فِي خميل لَهُ قَالَ عِيَاض
(2/194)
الخميلة كسَاء ذَات خمل وَفَاطِمَة تمشي
عِنْد ظَهره للمباهلة وَله يَوْمئِذٍ عدَّة نسْوَة فَقَالَ شُرَحْبِيل
لصاحبيه يَا عبد الله بن شُرَحْبِيل وَيَا جَبَّار بن قيص قد علمتما أَن
الْوَادي إِذا اجْتمع أَعْلَاهُ وأسفله لم يردوا وَلم يصدروا إِلَّا عَن
رَأْيِي وَإِنِّي وَالله أرى أمرا مُقبلا وَأرى وَالله إِن كَانَ هَذَا
الرجل ملكا مَبْعُوثًا فَكُنَّا أول الْعَرَب طَعنا فِي عينه وردا عَلَيْهِ
أمره وَلَا يذهب لنا من صَدره وَلَا من صُدُور قومه حَتَّى يصيبونا بجائحة
وَإِنِّي لأرى الْقرب مِنْهُم جوارا وَإِن كَانَ هَذَا الرجل نَبيا مُرْسلا
فلاعناه فَلَا يبْقى على وَجه الأَرْض منا شَعْرَة وَلَا ظفر إِلَّا هلك
فَقَالَ لَهُ صَاحِبَاه فَمَا الرَّأْي فقد وضعتك الْأُمُور على ذِرَاع
فهات رَأْيك فَقَالَ رَأْيِي أَن أحكمه فَإِنِّي أرى الرجل لَا يحكم شططا
أبدا فَقَالَا لَهُ أَنْت وَذَاكَ فلقي شُرَحْبِيل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِنِّي قد رَأَيْت خيرا من ملاعنتك فَقَالَ وَمَا
هُوَ قَالَ شُرَحْبِيل حكمك الْيَوْم إِلَى اللَّيْل وَلَيْلَته إِلَى
الصَّباح فمهما حكمت فِينَا فَهُوَ جَائِز فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّ وَرَاءَك أحدا يثرب
(2/195)
عَلَيْك فَقَالَ شُرَحْبِيل سل صَاحِبي
فَسَأَلَهُمَا فَقَالَا مَا يرد الْوَادي وَلَا يصدر إِلَّا عَن رَأْي
شُرَحْبِيل فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَافِر أَو قَالَ
جَاحد موفق فَرجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يلاعنهم حَتَّى
إِذا كَانَ من الْغَد أَتَوْهُ فَكتب لَهُ هَذَا الْكتاب
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا كتب مُحَمَّد النَّبِي رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنجران إِذْ كَانَ عَلَيْهِم حكمه فِي كل
ثَمَرَة وَفِي كل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فأفضل عَلَيْهِم وَترك ذَلِك
كُله على ألفي حلَّة فِي كل رَجَب ألف حلَّة وَفِي كل صفر ألف حلَّة أَو
قيمَة كل حلَّة من الأواقي مَا زَادَت على الْخراج أَو نقصت عَن الأواقي
فبحساب وَمَا قضوا من دروع أَو خيل أَو ركاب أَو عرض أَخذ مِنْهُم بِحِسَاب
وعَلى نَجْرَان مثواة
(2/196)
رُسُلِي ومتعتهم بهَا عشْرين فدونه وَلَا
يحبس رَسُول فَوق شهر وَعَلَيْهِم عَارِية ثَلَاثِينَ درعا وَثَلَاثِينَ
فرسا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا إِذا كَانَ كيد بِالْيمن ذُو معذرة وَمَا هلك
مِمَّا أعاروا رُسُلِي من دروع أَو خيل أَو ركاب فَهُوَ ضَمَان على رَسُولي
حَتَّى يُؤَدِّيه إِلَيْهِم ولنجران وحاشيتها جوَار الله وَذمَّة مُحَمَّد
النَّبِي على أنفسهم وملتهم وأرضهم وَأَمْوَالهمْ وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم
وبيعهم وَأَن لَا يُغيرُوا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَا يُغير حق من
حُقُوقهم وَلَا ملتهم وَلَا يُغير أَسْقُف من أسقفيته وَلَا رَاهِب من
رهبانيته وَلَا وقهة من وقهيته الوقه الطَّاعَة قَالَه الْجَوْهَرِي وكل
مَا تَحت أَيْديهم من قَلِيل أَو كثير وَلَيْسَ عَلَيْهِم دِيَة وَلَا دم
جَاهِلِيَّة وَلَا يحشرون وَلَا يعشرُونَ وَلَا يطَأ أَرضهم جَيش وَمن
سَأَلَ مِنْهُم حَقًا فبينهم النّصْف غير ظالمين وَلَا مظلومين وَمن أكل
رَبًّا من ذِي قبل فذمتي مِنْهُ بريئة وَلَا يُؤْخَذ
(2/197)
مِنْهُم رجل بظُلْم آخر وعَلى مَا فِي
هَذِه الصَّحِيفَة جوَار الله وَذمَّة مُحَمَّد النَّبِي رَسُول الله
حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره مَا نصحوا وَأَصْلحُوا فِيمَا عَلَيْهِم غير
مبتلين بظُلْم شهد أَبُو سُفْيَان بن حَرْب وغيلان ابْن عَمْرو وَمَالك بن
عَوْف والأقرع بن حَابِس الْحَنْظَلِي والمغيرة بن شُعْبَة وَكتب
فَلَمَّا قبضوا كِتَابهمْ وَانْصَرفُوا إِلَى نَجْرَان تلقاهم الأسقف ووجوه
نَجْرَان على مسيرَة لَيْلَة وَمَعَ الأسقف أَخ لَهُ من أمه وَهُوَ ابْن
عَمه من النّسَب يُقَال لَهُ بشر بن مُعَاوِيَة وكنيته أَبُو عَلْقَمَة
فَدفع الْوَفْد كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الأسقف
فَبينا هُوَ يَقْرَؤُهُ وَأَبُو عَلْقَمَة مَعَه وهما يسيران إِذْ كبت ببشر
نَاقَته فتعس بشر غير أَنه لَا يكنى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ لَهُ الأسقف عِنْد ذَلِك قد وَالله تعست نَبيا مُرْسلا
فَقَالَ بشر لَا جرم وَالله لَا أحل عَنْهَا عقدا حَتَّى آتيه فَضرب وَجه
نَاقَته نَحْو الْمَدِينَة وثنى الأسقف نَاقَته عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ إفهم
عني إِنَّمَا قلت هَذَا ليبلغ الْعَرَب عني مَخَافَة أَن يَقُولُوا إِنَّا
أَخذنَا حمقة أَو نجعنا لهَذَا
(2/198)
الرجل بِمَا لم تنجع بِهِ الْعَرَب وَنحن
أعزهم وأجمعهم دَارا فَقَالَ لَهُ بشر لَا وَالله لَا أقيلك مَا خرج من
رَأسك أبدا فَضرب بشر وَهُوَ مول ظَهره للأسقف وَهُوَ يَقُول
(إِلَيْك تعدو قلقا وضينها ... مُعْتَرضًا فِي بَطنهَا جَنِينهَا)
(مُخَالفا دين النَّصَارَى دينهَا)
قَالَ الْجَوْهَرِي الْوَضِين للهودج بِمَنْزِلَة البطان للقتب والحزام
للسرج وَجمعه وضن وَهُوَ النسع من سيور منسوج بعضه على بعض والوضن النسج
حَتَّى أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يزل مَعَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى اسْتشْهد بعد ذَلِك وَدخل الْوَفْد
نَجْرَان فَأتى الراهب ابْن أبيشمر الزبيدِيّ وَهُوَ فِي رَأس صومعة لَهُ
فَقيل لَهُ إِن نَبيا قد بعث بتهامة وَإنَّهُ كتب إِلَى الأسقف فأجمع أهل
الْوَادي أَن يَسِيرُوا إِلَيْهِ شُرَحْبِيل وَعبد الله وجبارا فيأتونهم
بِخَبَرِهِ فَسَارُوا حَتَّى أَتَوْهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى المباهلة فكرهوا
ملاعنته وَحكمه شُرَحْبِيل فَحكم عَلَيْهِم حكما وَكتب لَهُم كتابا ثمَّ
أقبل الْوَفْد بِالْكتاب حَتَّى دفعوه إِلَى الأسقف فَبينا الأسقف
يَقْرَؤُهُ وَبشر مَعَه إِذْ كبت ببشر نَاقَته فتعسه فَشهد
(2/199)
الأسقف أَنه نَبِي مُرْسل فَانْصَرف أَبُو
عَلْقَمَة نَحوه يُرِيد الْإِسْلَام فَقَالَ الراهب أنزلوني وَإِلَّا رميت
نَفسِي من هَذِه الصومعة فأنزلوه فَانْطَلق الراهب بهدية إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا هَذَا الْبرد الَّذِي يلْبسهُ الْخُلَفَاء
والقعب والعصا وَأقَام الراهب بعد ذَلِك يستمع كَيفَ ينزل الْوَحْي
وَالسّنَن والفرائض وَالْحُدُود وأبى الله للراهب الْإِسْلَام فَلم يسلم
وَاسْتَأْذَنَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرّجْعَة إِلَى
قومه وَقَالَ إِن لي حَاجَة ومعادا إِن شَاءَ الله فَرجع إِلَى قومه فَلم
يعد حَتَّى قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَذكر مُحَمَّد بن سعد فِي الطَّبَقَات ان وَفد نَجْرَان كَانُوا أَرْبَعَة
عشر رجلا من أَشْرَافهم نَصَارَى فيهم العاقب وَهُوَ عبد الْمَسِيح رجل من
كنده وَأَبُو الْحَارِث بن عَلْقَمَة رجل من ربيعَة وَأَخُوهُ كرز
وَالسَّيِّد وَأَوْس ابْنا الْحَارِث وَزيد بن قيس وَشَيْبَة وخويلد
وخَالِد وَعَمْرو وَعبيد الله وَفِيهِمْ ثَلَاثَة نفر يتولون أُمُورهم
وَالْعَاقِب وَهُوَ أَمِيرهمْ وَصَاحب مشورتهم وَالَّذِي يصدرون عَن رَأْيه
وَأَبُو الْحَارِث أسقفهم وحبرهم وإمامهم وَصَاحب مدارسهم وَالسَّيِّد
وَهُوَ صَاحب رحلتهم فتقدمهم كرز أَخُو أبي الْحَارِث وَهُوَ يَقُول
(إِلَيْك تَغْدُو قلقا وضينها ... مُعْتَرضًا فِي بَطنهَا جَنِينهَا)
(2/200)
(مُخَالفا دين النَّصَارَى دينهَا)
فَقدم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قدم الْوَفْد بعده
فَدَخَلُوا الْمَسْجِد عَلَيْهِم ثِيَاب الْحبرَة وأردية مَكْفُوفَة
بالحرير فَقَامُوا يصلونَ فِي الْمَسْجِد نَحْو الْمشرق فَقَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دعوهم ثمَّ أَتَوا النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَأَعْرض عَنْهُم وَلم يكلمهم فَقَالَ لَهُم عُثْمَان ذَلِك
من أجل زيكم هَذَا فانصرفوا من يومهم ذَلِك ثمَّ غدوا عَلَيْهِ بزِي
الرهبان فَسَلمُوا عَلَيْهِ فَرد عَلَيْهِم ودعاهم إِلَى الْإِسْلَام
فَأَبَوا وَكثر الْكَلَام وَالْحجاج بَينهم وتلا عَلَيْهِم الْقُرْآن
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أنكرتم مَا أَقُول لكم
فَهَلُمَّ أُبَاهِلكُم فانصرفوا على ذَلِك وَغدا عبد الْمَسِيح ورجلان من
ذَوي رَأْيهمْ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا قد بدا
لنا أَن لَا نباهلك فاحكم علينا بِمَا أَحْبَبْت نعطك ونصالحك فَصَالحهُمْ
على ألفي حلَّة ألف فِي رَجَب وَألف فِي صفر أَو قيمَة كل حلَّة من الأواقي
وعَلى عَارِية ثَلَاثِينَ درعا وَثَلَاثِينَ رمحا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا
وَثَلَاثِينَ فرسا إِن كَانَ بِالْيمن كيد ولنجران وحاشيتهم جوَار الله
وَذمَّة مُحَمَّد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أنفسهم وملتهم
وأرضهم وَأَمْوَالهمْ وغائبهم وشاهدهم
(2/201)
وبيعهم وَلَا يُغير أَسْقُف من سقيفاه
وَلَا رَاهِب من رهبانيته وَلَا وَاقِف من وقفانيته وَأشْهد على ذَلِك
شُهُودًا مِنْهُم أَبُو سُفْيَان بن حَرْب والأقرع بن حَابِس والمغيرة بن
شُعْبَة فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادهمْ فَلم يلبث السَّيِّد وَالْعَاقِب
إِلَّا يَسِيرا حَتَّى رجعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَأَسْلمَا وأنزلهما دَار أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ
وَأقَام أهل نَجْرَان على مَا كتب لَهُم بِهِ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قَبضه الله تَعَالَى صلوَات الله عَلَيْهِ وَرَحمته
ورضوانه ثمَّ ولي أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَكتب بالوصاة بهم
عِنْد وَفَاته ثمَّ أَصَابُوا رَبًّا فَأخْرجهُمْ عمر بن الْخطاب رَضِي
الله عَنهُ من أَرضهم وَكتب لَهُم وَهَذَا مَا كتب عمر أَمِير الْمُؤمنِينَ
لنجران من سَار مِنْهُم أَنه آمن بِأَمَان الله لَا يضرهم أحد من
الْمُسلمين وَفَاء لَهُم بِمَا كتب لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فَوَقع نَاس مِنْهُم بالعراق فنزلوا
النجرانية الَّتِي بِنَاحِيَة الْكُوفَة
(2/202)
وروى الْبَيْهَقِيّ باسناد صَحِيح إِلَى
ابْن مَسْعُود أَن السَّيِّد وَالْعَاقِب أَتَيَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَأَرَادَ أَن يلاعنهما فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه لَا
تلاعنه فوَاللَّه لَئِن كَانَ نَبيا فلاعنته لَا نفلح نَحن وَلَا عقبنا من
بَعدنَا قَالُوا لَهُ نعطيك مَا سَأَلت فَابْعَثْ مَعنا رجلا أَمينا وَلَا
تبْعَث مَعنا إِلَّا أَمينا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَأَبْعَثَن مَعكُمْ رجلا أَمينا حق أَمِين فاستشرف لَهَا أَصْحَابه
فَقَالَ قُم يَا أَبَا عُبَيْدَة فَلَمَّا قَامَ قَالَ هَذَا أَمِين هَذِه
الْأمة
وَذكر الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِير قَوْله عز وَجل {إِن مثل عِيسَى عِنْد الله
كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن} الْآيَات نزلت فِي وَفد
نَجْرَان قَالُوا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَك تَشْتُم
صاحبنا فَقَالَ وَمَا أَقُول قَالُوا تَقول إِنَّه عبد قَالَ أجل هُوَ عبد
الله وَرَسُوله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاء البتول فغضبوا
وَقَالُوا هَل رَأَيْت إنْسَانا قطّ من غير أَب فَأنْزل الله عز وَجل {إِن
مثل عِيسَى عِنْد الله} فِي كَونه خلقا من غير أَب {كَمثل آدم} لِأَنَّهُ
خلق من غير أَب وَأم {خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ} يَعْنِي لعيسى {كن
فَيكون} يَعْنِي فَكَانَ فَإِن قيل مَا معنى قَوْله {خلقه من تُرَاب ثمَّ
قَالَ لَهُ كن} فَيكون
(2/203)
خلقا وَلَا تكوين بعد الْخلق قيل مَعْنَاهُ
خلقه ثمَّ أخْبركُم أَنِّي قلت لَهُ كن فَكَانَ من غير تَرْتِيب فِي الْخلق
كَمَا يكون فِي الْولادَة وَهُوَ مثل قَول الرجل أَعطيتك الْيَوْم درهما
ثمَّ أَعطيتك أمس درهما أَي ثمَّ أخْبرك أَنِّي أَعطيتك أمس درهما وَفِيمَا
سبق من التَّمْثِيل على جَوَاز الْقيَاس دَلِيل لِأَن الْقيَاس هُوَ رد فرع
إِلَى أصل بِنَوْع شبه وَقد رد الله تَعَالَى خلق عِيسَى إِلَى آدم بِنَوْع
شبه قَوْله {الْحق من رَبك فَلَا تكن من الممترين} الْخطاب لَهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَالْمرَاد أمته ثمَّ قَالَ تَعَالَى {فَمن حاجك فِيهِ} أَي
جادلك فِي عِيسَى {من بعد مَا جَاءَك من الْعلم} بِأَن عِيسَى عبد الله
وَرَسُوله فَقل تَعَالَوْا نَدع أبناءنا وأبناءكم وَنِسَاءَنَا ونساءكم
وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ ثمَّ نبتهل فَنَجْعَل لعنت الله على الكذبين أَرَادَ
الْحسن وَالْحُسَيْن وَفَاطِمَة وعليا عَلَيْهِم السَّلَام وَالْعرب تسمي
ابْن عَم الرجل نَفسه قيل فِي قَوْله نبتهل نَتَضَرَّع وَقيل نجتهد ونبالغ
فِي الدُّعَاء وَقيل نلتعن والابتهال الالتعان فَنَجْعَل لعنت الله على
الكذبين منا ومنكم فِي أَمر عِيسَى فَلَمَّا قَرَأَهَا عَلَيْهِم قَالُوا
حَتَّى نرْجِع وَنَنْظُر فِي أمرنَا ثمَّ نَأْتِيك غَدا فَخَلا بَعضهم
بِبَعْض فَقَالُوا للعاقب وَكَانَ ذَا رَأْيهمْ يَا عبد الْمَسِيح مَا ترى
قَالَ وَالله لقد عَرَفْتُمْ يَا معشر النَّصَارَى أَن مُحَمَّدًا نَبِي
مُرْسل وَوَاللَّه مَا لَاعن قوم
(2/204)
نَبِي قطّ فَعَاشَ كَبِيرهمْ وَلَا نبت
صَغِيرهمْ وَلَئِن فَعلْتُمْ ذَلِك لتهلكن فَإِن أَبَيْتُم إِلَّا
الْإِقَامَة على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من القَوْل فِي صَاحبكُم فَوَادعُوا
الرجل وَانْصَرفُوا إِلَى بِلَادكُمْ فَأتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَقد غَدا مُحْتَضِنًا الْحُسَيْن آخِذا بيد الْحسن وَفَاطِمَة تمشي
خَلفه وَعلي خلفهَا وَهُوَ يَقُول إِذا أَنا دَعَوْت فَأمنُوا فَقَالَ
أَسْقُف نَجْرَان يَا معشر النَّصَارَى إِنِّي لأرى وُجُوهًا لَو سَأَلُوا
الله أَن يزِيل جبلا من مَكَانَهُ لَأَزَالَهُ فَلَا تبتهلوا فَتَهْلكُوا
وَلَا يبْقى على وَجه الأَرْض نَصْرَانِيّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِم قد رَأينَا أَن لَا نُلَاعِنك وَأَن
نَتْرُكك على دينك ونلبث على ديننَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَإِن أَبَيْتُم المباهلة فأسلموا يكن لكم مَا للْمُسلمين
وَعَلَيْكُم مَا عَلَيْهِم فَأَبَوا فَقَالَ فَإِنِّي أنابذكم فَقَالُوا
مَا لنا بِحَرب الْعَرَب طَاقَة وَلَكِن نُصَالِحُكَ على أَن لَا
تَغْزُونَا وَلَا تخيفنا وَلَا تردنَا عَن ديننَا على أَن نُؤَدِّي لَك كل
عَام ألفي حلَّة ألفا فِي صفر وألفا فِي رَجَب فَصَالحهُمْ على ذَلِك
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن الْعَذَاب
قد تدلى على أهل نَجْرَان وَلَو تلاعنوا لمسخوا قردة وَخَنَازِير ولاضطرم
عَلَيْهِم الْوَادي نَارا ولاستأصل الله نَجْرَان وَأَهله حَتَّى الطير على
الشّجر وَلما حَال الْحول على النَّصَارَى كلهم حَتَّى هَلَكُوا
قَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي كتاب الْأَمْوَال أهل نَجْرَان
عرب من بني الْحَارِث بن كَعْب وهم أول من أعْطى الْجِزْيَة من النَّصَارَى
(2/205)
قلت وَأَخْبرنِي الشَّيْخ أَحْمد بن حسن بن عَليّ الْحرَازِي أَن نَجْرَان
بادية فِي مَشَارِق أَرض الْيمن بَينهَا وَبَين صعدة مِمَّا يَلِي الشرق
مسيرَة أَرْبَعَة أَيَّام وَهُوَ وَاد كثير النّخل ينْسب إِلَيْهِ أهل
الْيمن الْقصب النجراني أَكْثَرهم مُسلمُونَ وَبِه نَصَارَى من بَقِيَّة
أُولَئِكَ وهم أهل بادية يصنعون أَكثر مَوَاشِيهمْ الْمعز وَالْحَاكِم
عَلَيْهِم فِي وقتنا وَهِي سنة ثَمَان وَسبعين وَسَبْعمائة إِمَام الزيدية
عَليّ بن مُحَمَّد الإِمَام ثمَّ توفّي وَخَلفه وَلَده مُحَمَّد يعرف
بالسيد صَلَاح |