المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي

فصل فِي خبر سطيح وشق وَذكر نَجْرَان وَابْتِدَاء النَّصْرَانِيَّة بِأَرْض الْعَرَب من بِلَاد الْيمن

روى ابْن هِشَام فِي أَوَائِل السِّيرَة الشَّرِيفَة أَن ربيعَة بن نصر ملك

(2/206)


الْيمن وَقد ذكرت طرفا من حَدِيثه فِيمَا سبق عِنْد ذكر كسْرَى وَسيف بن ذِي يزن والنعمان بن الْمُنْذر وَأَنه من ولد ربيعَة هَذَا قَالَ فَرَأى رُؤْيا هالته وفظع بهَا فَدَعَا بسطيح وشق وَبَدَأَ بسطيح فَأعلمهُ بهَا وبتأويلها وَقَالَ ليهبطن أَرْضكُم الْحَبَش فليملكن مَا بَين أبين إِلَى جرش ثمَّ ذكرهَا شقّ وأولها وَقَالَ لينزلن بأرضكم السودَان وليملكن مَا بَين أبين إِلَى نَجْرَان وذكرا ظُهُور النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر تَأْوِيل الرُّؤْيَا فِي حَدِيث طَوِيل وَهُوَ فِي أول السِّيرَة بِتَمَامِهِ إِلَى أَن ذكر خبر زرْعَة ذِي نواس بن تبان أسعد أخي حسان وَقَتله لخنيعة الْملك وَملك مَكَانَهُ وَاجْتمعت عَلَيْهِ حمير وقبائل الْيمن فَكَانَ آخر مُلُوك حمير وَتسَمى يُوسُف فَأَقَامَ فِي ملكه زَمَانا وبنجران بقايا من أهل دين عِيسَى على الْإِنْجِيل أهل فضل واستقامة من أهل دينهم لَهُم رَأس يُقَال لَهُ عبد الله بن الثَّامِر وَكَانَ موقع أصل ذَلِك الدّين بِنَجْرَان وَهِي بأوسط أَرض الْعَرَب فِي ذَلِك الزَّمَان وَسَائِر الْعَرَب كلهَا أهل أوثان يعبدونها وَذَلِكَ أَن رجلا من بقايا أهل ذَلِك الدّين يُقَال لَهُ فيميون وَقع بَين أظهرهم فحملهم عَلَيْهِ

(2/207)


فدانوا بِهِ وَكَانَ فيميون رجلا صَالحا زاهدا فِي الدُّنْيَا مجاب الدعْوَة وَكَانَ سائحا لَا يعرف بقرية إِلَّا خرج مِنْهَا وَكَانَ يَأْكُل من كسب يَده وَكَانَ بِنَاء وَكَانَ يعظم الْأَحَد وَلَا يعْمل فِيهِ شغلا وَيخرج إِلَى فلاة من الأَرْض يُصَلِّي بهَا حَتَّى يمسى وَذَلِكَ فِي قَرْيَة من قرى الشَّام يعْمل عمله ذَلِك مستخفيا فَفطن لشأنه رجل من أهل الْقرْيَة يُقَال لَهُ صَالح فَأَحبهُ صَالح حبا شَدِيدا فَكَانَ يتبعهُ حَيْثُ ذهب وَلَا يفْطن لَهُ فيميون حَتَّى خرج مرّة فِي يَوْم الْأَحَد وَجعل يُصَلِّي كَمَا كَانَ يصنع وَقد اتبعهُ صَالح وفيميون لَا يدْرِي فَبَيْنَمَا فيميون يُصَلِّي أقبل نَحوه تنين وَهُوَ الْحَيَّة ذَات الرؤس السَّبْعَة فَلَمَّا رَآهَا فيميون دَعَا عَلَيْهَا فَمَاتَتْ وَرَآهَا صَالح وَلم يدر مَا أَصَابَهَا فخافها عَلَيْهِ فَصَرَخَ يَا فيميون التنين قد أقبل نَحْوك فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ وَأَقْبل على صلَاته حَتَّى فرغ مِنْهَا فَانْصَرف وَعرف أَنه قد عرف وَعرف صَالح أَنه قد رأى مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ يَا فيميون تعلم وَالله أَنى مَا أَحْبَبْت شَيْئا قطّ حبك وَقد أردْت صحبتك والكينونة مَعَك حَيْثُ كنت قَالَ مَا شِئْت أَمْرِي كَمَا ترى فَإِن علمت أَنَّك تقوى عَلَيْهِ فَنعم فَلَزِمَهُ صَالح وَقد كَاد أهل الْقرْيَة يَفْطنُون لشأنه وَكَانَ إِذا فاجأه أحد بِهِ ضرّ دَعَا الله لَهُ فشفى وَإِذا دعِي إِلَى أحد بِهِ ضرّ لم يَأْته وَصَالح مَعَ ذَلِك

(2/208)


مَعَه فَبَيْنَمَا هُوَ يمشي فِي بعض بساتين الشَّام إِذْ مر بشجرة عَظِيمَة فناداه مِنْهَا رجل يَا فيميون مَا زلت أنتظرك وَأَقُول مَتى هُوَ جَاءَ حَتَّى سَمِعت صَوْتك فعرفتك لَا تَبْرَح حَتَّى تقوم عَليّ فَإِنِّي ميت الْآن قَالَ فَمَاتَ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى واراه ثمَّ انْصَرف وَتَبعهُ صَالح حَتَّى وطئا بعض أَرض الْعَرَب فعدوا عَلَيْهِمَا وباعوهما بِنَجْرَان وَأهل نَجْرَان يَوْمئِذٍ على دين الْعَرَب يعْبدُونَ نَخْلَة طَوِيلَة بَين أظهرهم لَهَا عيد فِي كل سنة إِذا كَانَ ذَلِك الْعِيد عَلقُوا عَلَيْهَا كل ثوب حسن وجدوه وحلى النِّسَاء ثمَّ خَرجُوا إِلَيْهَا فعكفوا عَلَيْهَا يَوْمًا مَا فَابْتَاعَ فيميون رجل من أَشْرَافهم وابتاع صَالحا آخر فَكَانَ فيميون إِذا قَامَ من اللَّيْل يتهجد فِي بَيت لَهُ أسْكنهُ فِيهِ سَيّده استسرج لَهُ الْبَيْت نورا حَتَّى يصبح من غير مِصْبَاح فَرَأى ذَلِك سَيّده فأعجبه فَسَأَلَهُ

(2/209)


عَن دينه فَأخْبرهُ بِهِ فَقَالَ لَهُ فيميون إِنَّمَا أَنْتُم فِي بَاطِل إِن هَذِه النَّخْلَة لَا تضر وَلَا تَنْفَع وَلَو دَعَوْت عَلَيْهَا إلهي الَّذِي أعبده لأهلكها وَهُوَ الله وَحده لَا شريك لَهُ قَالَ لَهُ سَيّده فافعل فَإنَّك إِن فعلت ذَلِك دَخَلنَا فِي دينك وَتَركنَا مَا نَحن عَلَيْهِ قَالَ فَقَامَ فيميون فَتطهر وَصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ دَعَا الله تَعَالَى عَلَيْهَا فَأرْسل الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا ريحًا فجعفتها من أَصْلهَا فألقتها فَأتبعهُ عِنْد ذَلِك أهل نَجْرَان على دينه فحملهم على الشَّرِيعَة من دين عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ دخلت عَلَيْهِم الْأَحْدَاث الَّتِي دخلت على أهل دينهم بِكُل أَرض فَمن هُنَالك كَانَت النَّصْرَانِيَّة بِنَجْرَان فِي أَرض الْعَرَب
وَقَالَ ابْن إِسْحَاق فِيهِ غير ذَلِك وسَاق فِيهِ حَدِيث عبد الله بن الثَّامِر مَعَ السَّاحر إِلَى أَن قتل الْملك عبد الله بن الثَّامِر رَحمَه الله وَكَانَ على مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى ابْن مَرْيَم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْإِنْجِيل وَحكمه ثمَّ أَصَابَهُم مَا أصَاب أهل دينهم من الْأَحْدَاث وَكَانَ ذَلِك أصل النَّصْرَانِيَّة بِنَجْرَان ثمَّ سَار إِلَيْهِم ذُو نواس بجُنُوده فَدَعَاهُمْ إِلَى الْيَهُودِيَّة وَخَيرهمْ بَين ذَلِك وَالْقَتْل فَاخْتَارُوا الْقَتْل فَخدَّ لَهُم الْأُخْدُود فَحرق بالنَّار وَقتل بِالسَّيْفِ وَمثل بهم حَتَّى قتل مِنْهُم قَرِيبا من عشْرين ألفا وَفِي ذَلِك أنزل الله على نبيه فِي ذِي نواس وجنده قتل أصحب الْأُخْدُود وَالْأُخْدُود الْحفر المستطيل فِي الأَرْض كالخندق

(2/210)


وَيُقَال كَانَ فِيمَن قتل الْملك ذُو نواس عبد الله بن الثَّامِر رَأْسهمْ وإمامهم روى الْبَغَوِيّ أَن خربة احتفرت بِنَجْرَان فِي زمن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فوجدوا عبد الله بن الثَّامِر رَحمَه الله وَاضِعا يَده على ضَرْبَة فِي رَأسه إِذا أميطت يَده عَنْهَا انبعثت دَمًا وَإِذا تركت يَده ردهَا عَلَيْهَا فَأمْسك دَمهَا وَفِي يَده خَاتم مَكْتُوب فِيهِ رَبِّي الله فَبلغ ذَلِك عمر فَكتب إِلَيْهِم أَن أَقروهُ على حَاله وردوا عَلَيْهِ الدّفن الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ قَالَ وَكَانَ اسْم الْملك يُوسُف ذونواس ابْن شراحبيل من مُلُوك حمير وَكَانَ فِي الفترة قبل مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسبعين سنة وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْل عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ كَانَ أَصْحَاب الْأُخْدُود نَبِيّهم حبشِي بعث إِلَى قومه ثمَّ قَرَأَ عَليّ {وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك} وَقَالَ مقَاتل كَانَت الْأُخْدُود ثَلَاثَة وَاحِدَة بِنَجْرَان بِالْيمن وَأُخْرَى بِالشَّام وَأُخْرَى بِفَارِس حرقوا بالنَّار أما الَّتِي بِالشَّام فَهُوَ أبطاموس

(2/211)


الرُّومِي وَأما الَّتِي بِفَارِس فبخت نصر وَأما الَّتِي بِأَرْض الْعَرَب فَهُوَ يُوسُف ذُو نواس فَأَما الَّتِي بِفَارِس وَالشَّام فَلم ينزل فيهمَا قُرْآن وَأنزل فِي الَّتِي كَانَت بِنَجْرَان وروى الْبَغَوِيّ عَن وهب بن مُنَبّه أَن الَّذِي أحرق ذُو نواس اثْنَي عشر ألفا ثمَّ غلب أرياط على الْيمن وَخرج ذُو نواس هَارِبا فاقتحم الْبَحْر بفرسه فغرق
قَالَ ابْن إِسْحَاق قدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِمَكَّة عشرُون رجلا من النَّصَارَى حِين بَلغهُمْ خَبره من الْحَبَشَة وَقيل من أهل نَجْرَان فوجدوه فِي الْمَسْجِد فجلسوا إِلَيْهِ وكلموه وسألوه وَرِجَال من قُرَيْش فيهم أَبُو جهل حول الْكَعْبَة فَلَمَّا فرغوا من مسألتهم دعاهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْإِسْلَام وتلا عَلَيْهِم الْقُرْآن فَلَمَّا سَمِعُوهُ فاضت أَعينهم بالدمع ثمَّ اسْتَجَابُوا لَهُ وآمنوا بِهِ وَصَدقُوهُ وَعرفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصف لَهُم فِي كتبهمْ من أمره فَلَمَّا قَامُوا عَنهُ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جهل فِي نفر من قُرَيْش فَقَالُوا لَهُم خيبكم الله بعثكم قومكم لتتعرفوا لَهُم خبر الرجل فَلم تطمئِن مجالسكم عِنْده حَتَّى فارقتم دينكُمْ وصدقتموه مَا نعلم ركبا أَحمَق مِنْكُم فَقَالُوا لَهُم سَلام عَلَيْكُم لَا

(2/212)


نجاهلكم لنا مَا نَحن عَلَيْهِ وَلكم مَا أَنْتُم عَلَيْهِ لم نأل أَنْفُسنَا خيرا فَنزل فيهم قَوْله تَعَالَى الَّذين آتينهم الْكتب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم قَالُوا آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا إِنَّا كُنَّا من قبله مُسلمين أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا إِلَى قَوْله لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم سلم عَلَيْكُم لَا نبتغي الْجَاهِلين
فصل فِي إرْسَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالِد بن الْوَلِيد إِلَى بني الْحَارِث بن كَعْب بِنَجْرَان ومكاتباته

قَالَ ابْن إِسْحَاق بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالِد بن الْوَلِيد فِي شهر ربيع الأول أَو جُمَادَى الأولى سنة عشر إِلَى بني الْحَارِث بن كَعْب بِنَجْرَان وَأمره أَن يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام فأسلموا ودخلوا فِيمَا دعوا إِلَيْهِ فَأَقَامَ فيهم خَالِد يعلمهُمْ الْإِسْلَام وَكتاب الله وَسنة نبيه وَبِذَلِك أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن هم أَسْلمُوا ثمَّ كتب خَالِد إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(2/213)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لمُحَمد النَّبِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خَالِد بن الْوَلِيد السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَإِنِّي أَحْمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ أما بعد يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْك فَإنَّك بعثتني إِلَى بني الْحَارِث بن كَعْب وأمرتني إِذا أتيتهم أَن لَا أقاتلهم ثَلَاثَة أَيَّام وَأَن أدعوهم إِلَى الْإِسْلَام فَإِن أَسْلمُوا قبلت مِنْهُم وعلمتهم معالم الْإِسْلَام وَكتاب الله وَسنة نبيه وَإِن لم يسلمُوا قاتلتهم وَإِنِّي قدمت عَلَيْهِم فدعوتهم إِلَى الْإِسْلَام ثَلَاثَة أَيَّام كَمَا أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعثت فيهم ركبانا يَا بني الْحَارِث أَسْلمُوا تسلموا فأسلموا وَلم يقاتلوا وَأَنا مُقيم بَين أظهرهم وَآمرهُمْ بِمَا أَمرهم الله بِهِ وأنهاهم عَمَّا نَهَاهُم الله عَنهُ وأعلمهم معالم الْإِسْلَام وَسنة النَّبِي حَتَّى يكْتب إِلَيّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته
فَكتب إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من مُحَمَّد النَّبِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خَالِد بن الْوَلِيد سَلام عَلَيْك فَإِنِّي أَحْمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا

(2/214)


هُوَ أما بعد فَإِن كتابك جَاءَنِي مَعَ رَسُولك يُخْبِرنِي أَن بني الْحَارِث بن كَعْب قد أَسْلمُوا قبل أَن تقَاتلهمْ وَأَجَابُوا إِلَى مَا دعوتهم إِلَيْهِ من الْإِسْلَام وشهدوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عبد الله وَرَسُوله وَأَن قد هدَاهُم الله تَعَالَى بهداه فبشرهم وَأَنْذرهُمْ وَأَقْبل وليقبل مَعَك وفدهم وَالسَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته
فَأقبل خَالِد إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَقْبل مَعَه وَفد بني الْحَارِث بن كَعْب مِنْهُم قيس بن الْحصين ذِي الغصة وَيزِيد ابْن عبد المدان وَيزِيد بن المحجل وَعبد الله بن قراد الزيَادي وَشَدَّاد بن عبد الله القناني وَعَمْرو بن عبد الله الضبابِي فَلَمَّا قدمُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَآهُمْ قَالَ من هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين كَأَنَّهُمْ رجال الْهِنْد قيل يَا رَسُول الله هَؤُلَاءِ رجال بني الْحَارِث بن كَعْب فَلَمَّا وقفُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سلمُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا نشْهد أَنَّك رَسُول الله وَأَنه لَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْتُم الَّذين إِذا زجروا استقدموا فَسَكَتُوا فَلم يُرَاجِعهُ مِنْهُم أحد ثمَّ أَعَادَهَا الثَّانِيَة فَلم يُرَاجِعهُ مِنْهُم أحد ثمَّ أَعَادَهَا الثَّالِثَة فَلم يُرَاجِعهُ مِنْهُم أحد ثمَّ أَعَادَهَا الرَّابِعَة فَقَالَ يزِيد بن

(2/215)


عبد المدان نعم يَا رَسُول الله نَحن الَّذين إِذا زجروا استقدموا قَالَهَا أَربع مرار فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلَا أَن خَالِدا كتب إِلَيّ بأنكم أسلمتم وَلم تقاتلوا لألقيت رؤوسكم تَحت أقدامكم فَقَالَ يزِيد بن عبد المدان أما وَالله مَا حمدناك وَلَا حمدنا خَالِدا قَالَ فَمن حمدتم قَالُوا حمدنا الله الَّذِي هدَانَا بك قَالَ صَدقْتُمْ ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَ كُنْتُم تغلبون من قاتلكم فِي الْجَاهِلِيَّة قَالُوا لم نَكُنْ نغلب أحدا قَالَ بلَى قد كُنْتُم تغلبون من قاتلكم قَالُوا كُنَّا نغلب من قاتلنا يَا رَسُول الله أَنا كُنَّا نَجْتَمِع وَلَا نتفرق وَلَا نبدأ أحدا بظُلْم قَالَ صَدقْتُمْ وَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بني الْحَارِث بن كَعْب قيس بن الْحصين فَرجع وَفد بني الْحَارِث إِلَى قَومهمْ فِي بَقِيَّة شَوَّال أَو فِي صدر ذِي الْقعدَة فَلم يمكثوا بعد أَن رجعُوا إِلَى قَومهمْ إِلَّا أَرْبَعَة أشهر حَتَّى توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كَانَ بعث إِلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد أَن ولى وفدهم عَمْرو بن حزم ليفقههم فِي الدّين وَيَأْخُذ صَدَقَاتهمْ وَكتب لَهُ كتابا عهد إِلَيْهِ فِيهِ عَهده وَأمره فِيهِ بأَمْره
قَالَ ابْن عبد الْبر عَمْرو بن حزم بن زيد بن لوذان الخزرجي النجاري وَذكر فِي نسبه اخْتِلَافا يكنى أَبَا الضَّحَّاك أمه من بني

(2/216)


سَاعِدَة لم يشْهد بَدْرًا وَأول مشاهده الخَنْدَق وَاسْتَعْملهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَجْرَان وهم بَنو الْحَارِث بن كَعْب وَهُوَ ابْن سبع عشرَة سنة ليفقههم فِي الدّين وَيُعلمهُم الْقُرْآن وَيَأْخُذ صَدَقَاتهمْ وَذَلِكَ سنة عشر بعد أَن بعث إِلَيْهِم خَالِد بن الْوَلِيد فأسلموا وَكتب لَهُ كتابا فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن وَالصَّدقَات والديات وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَخمسين وَقيل غير ذَلِك روى عَنهُ ابْنه مُحَمَّد
ذكر الْكتاب
قَالَ ابْن إِسْحَاق بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا بَيَان من الله وَرَسُوله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} عهد من مُحَمَّد النَّبِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَمْرو بن حزم حِين بَعثه إِلَى الْيمن أمره بتقوى الله فِي أمره كُله ف {إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون} وَأمره أَن يَأْخُذ بِالْحَقِّ كَمَا أمره الله وَأَن يبشر النَّاس بِالْخَيرِ وَيَأْمُرهُمْ بِهِ وَيعلم النَّاس الْقُرْآن ويفقههم فِيهِ وَينْهى النَّاس فَلَا يمس الْقُرْآن إِنْسَان إِلَّا وَهُوَ طَاهِر ويخبر النَّاس بِالَّذِي لَهُم وَالَّذِي عَلَيْهِم ويلين للنَّاس فِي الْحق ويشتد عَلَيْهِم فِي الظُّلم فَإِن الله كره الظُّلم وَنهى عَنهُ فَقَالَ أَلا لعنة الله على الظلمين ويبشر

(2/217)


النَّاس بِالْجنَّةِ ويعملها وينذر النَّاس النَّار وعملها ويستألف النَّاس حَتَّى يفقهوا فِي الدّين وَيعلم النَّاس معالم الْحَج وسنته وفريضته وَمَا أَمر الله بِهِ وَالْحج الْأَكْبَر الْحَج وَالْحج الْأَصْغَر هُوَ الْعمرَة وَينْهى النَّاس أَن يُصَلِّي أحد فِي ثوب وَاحِد صَغِير إِلَّا أَن يكون ثوبا يثنى طَرفَيْهِ على عَاتِقيهِ وَينْهى أَن يحتبي أحد فِي ثوب وَاحِد يُفْضِي بفرجه إِلَى السَّمَاء وَينْهى أَن لَا يعقص أحد شعر رَأسه فِي قَفاهُ وَيُنْهِي إِذا كَانَ بَين النَّاس هيج عَن الدُّعَاء إِلَى الْقَبَائِل والعشائر وَليكن دَعوَاهُم إِلَى الله وَحده لَا شريك لَهُ فَمن لم يدع إِلَى الله ودعا إِلَى الْقَبَائِل والعشائر فليقطعوا بِالسَّيْفِ حَتَّى تكون دَعوَاهُم إِلَى الله وَحده لَا شريك لَهُ وَيَأْمُر النَّاس باسباغ الْوضُوء وُجُوههم وأيديهم إِلَى الْمرَافِق وأرجلهم إِلَى الْكَعْبَيْنِ ويمسحون برؤوسهم كَمَا أَمرهم الله وَأمر بِالصَّلَاةِ لوَقْتهَا وإتمام الرُّكُوع والخشوع يغلس بالصبح ويهجر بالهاجرة حِين تميل الشَّمْس وَصَلَاة الْعَصْر وَالشَّمْس فِي الأَرْض مُدبرَة وَالْمغْرب حِين يقبل اللَّيْل لَا يُؤَخر حَتَّى تبدو النُّجُوم فِي السَّمَاء وَالْعشَاء أول اللَّيْل

(2/218)


وَأمر بالسعي إِلَى الْجُمُعَة إِذا نُودي لَهَا وَالْغسْل عِنْد الرواح إِلَيْهَا وَأمره أَن يَأْخُذ من الْغَنَائِم خمس الله وَمَا كتب على الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدَقَة من الْعقار عشر مَا سقت الْعين وسقت السَّمَاء وعَلى مَا سقى الغرب نصف الْعشْر وَفِي كل عشر من الْإِبِل شَاتَان وَفِي كل عشْرين أَربع شِيَاه وَفِي كل أَرْبَعِينَ من الْبَقر بقرة وَفِي كل ثَلَاثِينَ من الْبَقر تبيع جَذَعَة أَو جذع وَفِي كل أَرْبَعِينَ من الْغنم سَائِمَة وَحدهَا شَاة فَإِنَّهَا فَرِيضَة الله الَّتِي افْترض على الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدَقَة فَمن زَاد خيرا فَهُوَ خير لَهُ وَإنَّهُ من أسلم من يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ إسلاما خَالِصا من نَفسه ودان بدين الْإِسْلَام فَإِنَّهُ من الْمُؤمنِينَ لَهُ مثل مَا لَهُم وَعَلِيهِ مثل مَا عَلَيْهِم وَمن كَانَ على نصرانيته أَو يَهُودِيَّته فَإِنَّهُ لَا يرد عَنْهَا وعَلى كل حالم ذكر أَو أُنْثَى حر أَو عبد دِينَار واف أَو عرضه ثيابًا فَمن أدّى ذَلِك فَإِن لَهُ ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله وَمن منع ذَلِك فَإِنَّهُ عَدو الله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ جَمِيعًا صلوَات الله على مُحَمَّد وَالسَّلَام عَلَيْهِ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته

(2/219)


ذكر كِتَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أكيدر دومة الجندل

قَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف وَذكر أَنه كتب لأكيدر دومة كتابا فِيهِ عهد وأمان قَالَ أَبُو عبيد أَنا قرأته فَإِذا فِيهِ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأكيدر حِين أجَاب إِلَى الْإِسْلَام وخلع الأنداد والأصنام مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد سيف الله فِي دومة الجندل وأكنافها إِن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأَرْض وَالْحَلقَة وَالسِّلَاح والحافر والحصن وَلكم الضامنة من النّخل والمعين من الْمَعْمُور لَا تعدل سارحتكم وَلَا تعد فاردتكم وَلَا يحظر عَلَيْكُم النَّبَات تقيمون الصَّلَاة لوَقْتهَا وتؤتون الزَّكَاة بِحَقِّهَا عَلَيْكُم

(2/220)


بذلك عهد الله والميثاق وَلكم بذلك الصدْق وَالْوَفَاء شهد الله وَمن حضر من الْمُسلمين
تَفْسِير غَرِيبه

قَالَ السُّهيْلي الضاحية أَطْرَاف الأَرْض والضحل المَاء الْقَلِيل وَهُوَ الضحضاح قَالَه الْجَوْهَرِي المعامي مجهولها أغفال الأَرْض مَا لَا أثر لَهُم فِيهِ من عمَارَة أَو نَحْوهَا الضامنة من النّخل مَا كَانَ دَاخل بلدهم وَلَا يحظر عَلَيْكُم النَّبَات أَي لَا تمْنَعُونَ من الرَّعْي حَيْثُ شِئْتُم وَلَا تعدل سارحتكم أَي لَا تحْشر إِلَى الْمُصدق وَإِنَّمَا أَخذ مِنْهُم بعض هَذِه الْأَرْضين وَالْحَلقَة بِسُكُون اللَّام الدروع وَالسِّلَاح مَا يمْتَنع بِهِ من الْعَدو
وَأورد مُحَمَّد بن سعد هَذَا الْكتاب فِي الطَّبَقَات وَزَاد فِيهِ فَأَنا أذكرهُ وَمَا زَاد فِيهِ
قَالَ أَنا مُحَمَّد بن عمر الْأَسْلَمِيّ قَالَ حَدثنِي رجل من أهل دومة إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب لأكيدر هَذَا الْكتاب فَقَرَأته وَأخذت

(2/221)


مِنْهُ نسخته بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا كتاب من مُحَمَّد رَسُول الله لأكيدر حِين أجَاب إِلَى الْإِسْلَام وخلع الأنداد والأصنام مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد سيف الله فِي دومة الجندل وأكنافها إِن لَهُ الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأَرْض وَالْحَلقَة وَالسِّلَاح والحافر والحصن وَلكم الضامنة من النّخل والمعين من الْمَعْمُور وَبعد الْخمس لَا تعدل سارحتكم وَلَا تعد فاردتكم وَلَا يحظر عَلَيْكُم النَّبَات وَلَا يُؤْخَذ مِنْكُم إِلَّا عشر الثَّبَات تقيمون الصَّلَاة لوَقْتهَا وتؤتون الزَّكَاة بِحَقِّهَا وَعَلَيْكُم بذلك الْعَهْد والميثاق وَلكم بذلك الصدْق وَالْوَفَاء شهد الله وَمن حضر من الْمُسلمين
تَفْسِير غَرِيبه

قَالَ مُحَمَّد بن عمر الضحل المَاء الْقَلِيل والمعامي الْأَعْلَام من الأَرْض مَا لَا حد لَهُ والضامنة مَا حمل من النّخل وَقَوله لَا تعدل سارحتكم يَقُول لَا تنحى عَن الرَّعْي والفاردة مَا لَا تجب فِيهِ الصَّدَقَة والأغفال مَا لَا يُقَام على حَده من الأَرْض والمعين المَاء الْجَارِي والثبات النّخل الْقَدِيم الَّذِي قد ضرب عروقه فِي الأَرْض وَثَبت

(2/222)


قَالَ وَكَانَت دومة وأيلة وتيماء قد خَافُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رَأَوْا الْعَرَب قد أسلمت
قَالَ السُّهيْلي قَالَ أَبُو عبيد وَلم يفعل ذَلِك مَعَ أهل الطَّائِف حِين جاؤا تَائِبين لِأَن هَؤُلَاءِ ظهر عَلَيْهِم وَأخذ ملكهم أَسِيرًا وَلكنه أُبْقِي لَهُم من أَمْوَالهم مَا تضمنه الْكتاب لِأَنَّهُ لم يقاتلهم حَتَّى يَأْخُذهُمْ عنْوَة كَمَا أَخذ خَيْبَر فَلَو كَانَ الْأَمر كَذَلِك لكَانَتْ أَمْوَالهم كلهَا للْمُسلمين وَكَانَ لَهُ الْخِيَار فِي رقابهم كَمَا تقدم وَلَو جاؤا إِلَيْهِ تَائِبين أَيْضا قبل الْخُرُوج إِلَيْهِم كَمَا فعلت ثَقِيف مَا أَخذ من أَمْوَالهم شَيْئا
قَالَ الْبكْرِيّ دومة الجندل بِضَم الدَّال وَهِي مَا بَين برك الغماد وَمَكَّة وَقيل مَا بَين الْحجاز وَالشَّام وَالْمعْنَى وَاحِد وَهِي على عشر مراحل من الْمَدِينَة وَعشر من الْكُوفَة وثمان من دمشق واثنتي عشرَة من مصر وَسميت بدومان بن إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ينزلها
ذكر كِتَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أسيبخت صَاحب هجر

قَالَ مُحَمَّد بن سعد قَالُوا وَكتب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أسيبخت

(2/223)


ابْن عبد الله صَاحب هجر إِنَّه قد جَاءَنِي الْأَقْرَع بكتابك وشفاعتك لقَوْمك وَإِنِّي قد شفعتك وصدقت رَسُولك الْأَقْرَع فِي قَوْمك فأبشر فِيمَا سَأَلتنِي وطلبتني بِالَّذِي تحب وَلَكِنِّي نظرت أَن أعلمهُ وتلقاني فَإِن تجئنا أكرمك وَإِن تقعد أكرمك أما بعد فَإِنِّي لَا أستهدي أحدا وَإِن تهد إِلَيّ أقبل هديتك وَقد حمد عمالي مَكَانك وأوصيك بِأَحْسَن الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ من الصَّلَاة وَالزَّكَاة وقراية الْمُؤمنِينَ وَإِنِّي قد سميت قَوْمك بني عبد الله فمرهم بِالصَّلَاةِ وبأحسن الْعَمَل وأبشر وَالسَّلَام عَلَيْك وعَلى قَوْمك الْمُؤمنِينَ