إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

غزوة مؤتة
ثم كانت غزوة مؤتة من عمل البلقاء بالشأم دون دمشق، [وهي بضم أوله، وإسكان ثانيه، بعده تاء معجمة باثنتين من فوقها] ، كانت في جمادى الأولى.

سببها
وسبب ذلك أن الحارث بن عمير الأزديّ لما نزل مؤتة بكتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى صاحب بصرى، أخذه شرحبيل بن عمرو الغسّاني وضرب عنقه. فاشتد ذلك على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وندب الناس فأسرعوا، وعسكروا بالجرف، ولم يبن لهم الأمر [ (1) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «الأمراء» .

(1/337)


الأمراء يوم مؤتة
فلما صلى الظهر جلس في أصحابه
وقال: زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد اللَّه بن رواحة، فإن أصيب عبد اللَّه بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه [ (1) ] عليهم.
وعقد لواء أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة، فودّع الناس الأمراء، وخرج معهم إلى مؤتة ثلاثة آلاف. وجعل المسلمون ينادون: دفع اللَّه عنكم وردكم صالحين غانمين.

وداع جيش مؤتة ووصية الأمراء
وشيّعهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ثنية الوداع، ثم وقف وهم حوله، وقال:
أوصيكم بتقوى اللَّه، وبمن معكم من المسلمين خيرا. اغزوا بسم اللَّه في سبيل اللَّه، فقاتلوا من كفر باللَّه، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث، فأيتهن ما أجابوك إليها، فاقبل منهم واكفف عنهم: ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم اللَّه، ولا يكون لهم في الفيء، ولا في الغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، فإن أبوا فاستعن باللَّه وقاتلهم.
وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك أن تستنزلهم على حكم اللَّه فلا تستنزلهم على حكم اللَّه، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم اللَّه فيهم أم لا؟ وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة اللَّه وذمة رسوله، فلا تجعل لهم ذمة اللَّه وذمة رسوله، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا [ (2) ] ذمتكم وذمة آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمة اللَّه وذمة رسوله.
وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين للناس، فلا تتعرضوا لهم، وستجدون
__________
[ (1) ] في (خ) «فليجعلوه» .
[ (2) ] أخفر الذمة: نقضها.

(1/338)


آخرين في رءوسهم مفاحص [ (1) ] فافتعلوها بالسيوف. لا تقتلن امرأة ولا صغيرا ضرعا [ (2) ] ولا كبيرا فانيا، ولا تغرقن نخلا، ولا تقلعن شجرا، ولا تهدموا بيتا.

من خبر عبد اللَّه بن رواحة
وقال عبد اللَّه بن رواحة: يا رسول اللَّه! مرني بشيء أحفظه عنك. قال:
إنك قادم غدا بلدا، السجود فيه قليل فأكثر السجود. قال: زدني يا رسول اللَّه.
قال: اذكر للَّه، فإنه عون لك على ما تطلب [ (3) ] . فقام من عنده، حتى إذا مضى ذاهبا رجع. فقال: يا رسول اللَّه، إن اللَّه وتر يحبّ الوتر! فقال: يا ابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزنّ إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة. فقال: لا أسألك عن شيء بعدها.

بلوغ المسلمين إلى مصرع الحارث بن عمير
ومضى المسلمون، وقد أمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ينتهوا إلى مقتل الحارث ابن عمير، وسمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم. فقام فيهم رجل من الأزد يقال له: شرحبيل [بن عمرو الغساني] [ (4) ] ، وقدّم [ (5) ] الطلائع أمامه، وبعث أخاه سدوس بن عمرو في خمسين فلقوا المسلمين في وادي القرى فقاتلوه وقتلوه. ونزلوا معان [من أرض الشأم] [ (6) ] ، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من البلقاء، في مائة ألف من الرّوم ومعه بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام مائة ألف، عليهم رجل من بليّ، يقال له: مالك.

أول القتال يوم مؤتة، وخوف المسلمين ثم إقدامهم
فأقاموا ليلتين، وأرادوا أن يكتبوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالخبر ليردهم أو يزيدهم رجالا، فشجعهم عبد اللَّه بن رواحة وقال: واللَّه ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الّذي أكرمنا اللَّه به! انطلقوا،
__________
[ (1) ] المفاحص: جمع مفحص، وهو مجثم القطا، والمعنى أن الشيطان قد استوطن في رءوس هؤلاء.
[ (2) ] الّذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه.
[ (3) ] كذا في (ط) وفي (خ) «تطالب» .
[ (4) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «أو قدم» .
[ (6) ] زيادة للبيان من (ط) .

(1/339)


واللَّه لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا فرسان، ويوم أحد فرس واحد! فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور عليهم، فذلك ما وعدنا اللَّه ووعد نبيّنا، وليس لوعده خلف، وإما الشهادة، فلنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان! فشجع الناس ومضوا إلى مؤتة.
فرأوا المشركين ومعهم ما لا قبل لهم به من العدد والسلاح والكراع، والديباج والحرير والذهب. قال أبو هريرة: وقد شهدت ذلك فبرق بصري [ (1) ] فقال لي ثابت بن أقرم [ (2) ] : يا أبا هريرة! مالك، كأنك ترى جموعا كثيرة! قلت: نعم! قال: لم تشهدنا ببدر! إنا لم ننصر بالكثرة.

مقتل زيد بن حارثة
وقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم: فأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل وقاتل الناس معه، والمسلمون على صفوفهم، وعلى الميمنة قطبة بن قتادة السّدوسيّ وعلى الميسرة عباية [ (3) ] بن مالك، فقتل زيد طعنا بالرماح.

مقتل جعفر بن أبي طالب
ثم أخذه جعفر فنزل على فرسه فعرقبها، ثم قاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوقع أحد نصفيه في كرم، فوجد في نصفه بضع وثلاثون جرحا. وقيل: وجد- مما قبل يديه [ (4) ] فيما بين منكبيه- اثنتان وسبعون [ (5) ] ضربة بسيف أو طعنة برمح، ووجد به طعنة قد أنفذته.

مقتل عبد اللَّه بن رواحة
ثم أخذ اللواء بعده عبد اللَّه بن رواحة، فقاتل حتى قتل.

سقوط لواء المسلمين
وسقط اللواء، فاختلط المسلمون والمشركون، وانهزم المسلمون أسوأ هزيمة، وقتلوا، واتّبعهم المشركون. فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم، يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا! فما يثوب [ (6) ] إليه أحد. ثم تراجعوا، فأخذ اللواء
__________
[ (1) ] كناية عن الفزع والحيرة.
[ (2) ] في (خ) «بن أقوم» .
[ (3) ] في (خ) «عياية» .
[ (4) ] في (خ) «مما قبل من يديه» .
[ (5) ] في (خ) «اثنتين وسبعين» .
[ (6) ] يثوب: يرجع

(1/340)


ثابت بن أقرم، وصاح يا للأنصار!! فأتاه الناس من كل وجه وهم قليل، وهو يقول: إليّ أيها الناس.

أخذ اللواء لخالد بن الوليد
فلما نظر إلى خالد بن الوليد قال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سنّ [ (1) ] ، وقد شهدت بدرا. قال ثابت: خذه أيها الرجل! فو اللَّه ما أخذته إلا لك! فأخذه خالد فحمله ساعة، وجعل المشركون يحملون عليه، فثبت حتى تكركر [ (2) ] المشركون، وحمل بأصحابه ففض جمعا من جمعهم، ثم دهمه منهم بشر كثير [ (3) ] ، فانخاش [ (4) ] بالمسلمين فانكشفوا راجعين.
وقد قيل: إن ابن رواحة قتل مساء، فبات خالد فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدّمته ساقة وساقته مقدّمة، وميمنته ميسرة وميسرته ميمنة، [فأنكر المشركون] [ (5) ] ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيأتهم، فقالوا: قد جاءهم مدد! ورعبوا، فانكشفوا منهزمين، فقتلوا منهم مقتلة لم يقتلها قوم. والأول أثبت: أن خالدا انهزم بالناس فعيّروا بالفرار، وتشاءم الناس به [ (6) ] .

مرجع المسلمين إلى المدينة
فلما سمع أهل المدينة بقدومهم تلقوهم، وجعلوا يحثون في وجوههم التراب، ويقولون: يا فرّار!! أفررتم في سبيل اللَّه؟
فيقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليسوا بفرار، ولكنهم كرّار إن شاء اللَّه.

خبر المنهزمين وما لقوا من الناس
فانصرفوا إلى بيوتهم فلزموها، فإنّهم كانوا إذا خرجوا صاحوا بهم: يا فرّار! أفررتم في سبيل اللَّه؟
وكان الرجل يدق عليهم فيأبون يفتحون له لئلا يقول [ (7) ] :
ألا تقدمت مع أصحابك فقتلت؟ حتى جعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرسل إليهم رجلا
__________
[ (1) ] في (خ) «شن» .
[ (2) ] تكركر: ارتد ورجع.
[ (3) ] في (خ) «كبير» .
[ (4) ] انحاش: جمعهم ثم انصرف بهم.
[ (5) ] في (خ) ما بين القوسين «فأنكروا» ، وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 764، وما أثبتناه من (ط) .
[ (6) ] أي بخالد.
[ (7) ] في (خ) «تقول» .

(1/341)


رجلا، يقول: أنتم الكرّار في سبيل اللَّه!
وكان بين أبي هريرة وابن عم له كلام، إلا فراركم يوم مؤتة! فما دري ما يقول له.

إخبار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أهل القتال يوم مؤتة
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- لما التقى الناس بمؤتة- جلس على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشأم، فهو ينظر إلى معتركهم فقال:.

زيد بن حارثة
أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكرّه إليه الموت فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين، تحبّب إليّ الدنيا! فمضى قدما حتى استشهد: فصلى عليه وقال: استغفروا له! وقد دخل الجنة وهو يسعى.

جعفر بن أبي طالب
ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا! ثم مضى قدما حتى استشهد [ (1) ] . فصلى عليه ودعا له. ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيد دخل الجنة، فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة.

عبد اللَّه بن رواحة
ثم أخذ الراية بعده عبد اللَّه بن رواحة فاستشهد، ثم دخل الجنة معترضا.
فشقّ ذلك على الأنصار، فقال: أصابته الجراح. قيل: يا رسول اللَّه ما إعراضه؟
قال: لما أصابته الجراح نكل [ (2) ] ، فعاتب نفسه فشجع، فاستشهد فدخل الجنة، فسرّي عن قومه.

سلمة بن الأكوع
وقال يومئذ: خير الفرسان أبو قتادة، وخير الرّجال [ (3) ] سلمة بن الأكوع.
__________
[ (1) ] في (خ) «فاستشهدوا» .
[ (2) ] نكل: تخاذل.
[ (3) ] الرجال: جمع راجل، وهو الّذي لا فرس له.

(1/342)


ولما أخذ خالد الراية قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: الآن حمي الوطيس [ (1) ] .

دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أهل جعفر بن أبي طالب
ودخل صلّى اللَّه عليه وسلّم على أسماء بنت عميس [ (2) ] امرأة جعفر بن أبي طالب فقال:
يا أسماء أين بنو جعفر؟ فجاءت بهم إليه، فضمهم إليه وشمهم، ثم ذرفت عيناه فبكى، فقالت: أي رسول اللَّه لعلّه بلغك عن جعفر شيء؟ فقال: نعم، قتل اليوم! فقامت تصيح، واجتمع إليها النساء فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: يا أسماء لا تقولي هجرا [ (3) ] ، ولا تضربي صدرا. وخرج حتى دخل على ابنته فاطمة عليها السلام وهو يقول: وا عماه! وقال [ (4) ] . على مثل جعفر فلتبك [ (5) ] الباكية! ثم قال:
اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم. وقد روي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما نعى لأسماء جعفرا، مسح على رأس عبد اللَّه بن جعفر، وعيناه تهراقان الدموع حتى لحيته تقطر [ (6) ] ، ثم قال: اللَّهمّ إن جعفرا قد قدّم إليّ أحسن الثواب، فاخلفه [ (7) ] في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته! ثم قال: يا أسماء، ألا أبشّرك؟ قالت: بأبي أنت وأمي! قال: فإن اللَّه جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة! قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه! فأعلم الناس ذلك.

خطبته في أمر جعفر
فقام، وأخذ بيد عبد اللَّه بن جعفر، يمسح بيديه رأس عبد اللَّه حتى رقي المنبر، وأجلس عبد اللَّه أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم وقال:
إن المرء كثير بأخيه وابن عمه. ألا إن جعفرا قد استشهد، وقد جعل اللَّه له جناحين يطير بهما في الجنة،
ثم نزل، ودخل بيته وأمر بطعام يصنع لآل جعفر، وأرسل إلى أخي عبد اللَّه بن جعفر فتغديا عنده: شعيرا طحنته سلمى خادمه، ثم نسفته [ (8) ] ، ثم أنضجته. وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا. وأقاما ثلاثة أيام في
__________
[ (1) ] كناية عن شدة الحرب واحتدامها.
[ (2) ] في (خ) «عميش» .
[ (3) ] الهجر: الإفحاش.
[ (4) ] في (خ) «فقال» .
[ (5) ] في (خ) «فتبكي» .
[ (6) ] في (خ) «حتى تقطر لحيته» وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 767 وما أثبتناه من (ط) .
[ (7) ] خلف اللَّه عليك: دعاء لمن هلك له ما لا يعتاض وأخلف اللَّه عليك: دعاء لمن هلك له ما يتعتاض عنه.
[ (8) ] نسفته: أذهبت نسافته وقشره.

(1/343)


بيته، يدوران معه في بيوت نسائه.

غنائم مؤتة
وغنم المسلمون بعض أمتعة بمؤتة، وجاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخاتم، فقال: قتلت صاحبه يومئذ، فنفّله إياه. وقتل خزيمة بن ثابت يومئذ رجلا، وعليه بيضة فيها ياقوتة، فأخذها وأتى بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنفّله إياها، فباعها بمائة دينار.
واستشهد بمؤتة ثمانية نفر.