إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

غزوة ذات السلاسل
ثم كانت غزوة ذات السلاسل. [ويقال السّلسل] [ (1) ] ، وهو ماء وراء وادي القرى من المدينة، [بينه وبين المدينة] [ (1) ] عشرة أيام. وسببها أن جمعا من بليّ وقضاعة تجمعوا ليدنوا من أطراف المدينة، فعقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمرو بن العاص لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في جمادى الآخرة سنة ثمان على ثلاثمائة من سراة [ (2) ] المهاجرين والأنصار، وأمره أن يستعين بمن مر به من بلاد بلي وعذرة وبلقين. وذلك أن عمروا كان ذا رحم فيهم: كانت أم العاص بن وائل بلوية، فأراد عليه السلام يتألفهم بعمرو. فسار يكمن النهار ويسير الليل- وكان معه ثلاثون فرسا- حتى دنا منهم. فنزل على ماء بأرض جذام [ (3) ] يقال له السلاسل.
وكان شتاء، فجمع أصحابه ليصطلوا فمنعهم، فشق ذلك عليهم، حتى كلمه بعض المهاجرين بغلظة، فقال عمرو: قد أمرت أن تسمع لي وتطيع! قال: أفعل.

المدد واختلاف عمرو وأبي عبيدة على الإمارة
وبعث رافع بن مكيث الجهنيّ يخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن للقوم جمعا كثيرا ويستمده، فبعث أبا عبيدة بن الجراح وعقد له لواء. وبعث معه سراة المهاجرين كأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وعدة من الأنصار. فسار في مائتين، وأمره أن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلما لحق بعمرو، وأراد أن يؤم الناس ويتقدم عمرا، فقال له عمرو: إنما قدمت مددا لي، وليس لك أن تؤمني، وأنا الأمير! فقال
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (2) ] سراة القوم: أشرافهم وسادتهم.
[ (3) ] في (خ) «خدام» .

(1/344)


المهاجرون: كلا! بل أنت أمير أصحابك، وهو أمير أصحابه. فقال: لا! أنتم مدد لنا.
فقال أبو عبيدة- وكان حسن الخلق- انظرن يا عمرو! تعلمنّ أن آخر ما عهد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا،
وإنك واللَّه إن عصيتني لأطيعنك! فكان عمرو يصلي بالناس. وسار- وقد صار في خمسمائة- حتى وطئ بلاد بلي ودوّخها، وكلما انتهى إلى موضع، بلغه أنه قد كان به جمع فلما سمعوا به تفرقوا. حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلى وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعا، فقاتلهم ساعة وهزمهم. وأقام أياما يبث سراياه، فيؤتى بالشاء والنّعم فينحرون ويذبحون، ولم يكن في ذلك أكثر من هذا، ولم تكن غنائم تقسم.

خبر صاحب الجزور
وخرج عوف بن مالك الأشجعي يوما في العسكر، فمر بقوم [ (1) ] قد عجزوا عن نحر جزورهم وعملها، فقال: أتعطوني عليها وأقسمها بينكم؟ فجعلوا له شعيرا منها، فنحرها، وجزأها بينهم، وأخذ جزءه وأتى به إلى أصحابه، فطبخوه وأكلوه، فلما فرغوا، قال أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما. من أين لك هذا اللحم؟
فأخبرهما، فقالا: واللَّه ما أحسنت حين أطعمتنا هذا! ثم قاما يتقيئان، وفعل ذلك الجيش. وقال أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما لعوف: تعجلت أخرى! ثم أتى أبا عبيدة رضي اللَّه عنه فقال له مثل ذلك.

صلاة عمرو بالناس بغير غسل
واحتلم عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد فقال لأصحابه: ما ترون؟ قد واللَّه احتلمت، وإن اغتسلت مت! فدعا بماء فتوضأ وغسل فرجه وتيمّم، ثم قام فصلى بهم. وبعث عوف بن مالك بريدا [ (2) ] ،
فقدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم عليه، فقال: عوف بن مالك؟ قال: عوف بن مالك يا رسول اللَّه! قال: صاحب الجزور! قال: نعم! قال: أخبرني! فأخبره
بمسيرهم، وما كان بين أبي عبيدة وبين عمرو، ومطاوعة أبي عبيدة! ثم أخبره أن
__________
[ (1) ] في (خ) «فمن يقوم» .
[ (2) ] البريد: الرسول.

(1/345)


عمرا صلى وهو جنب ومعه الماء، لم يزد على أن غسل وجهه بماء وتيمم، فلما قدم عمرو وسأله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن صلاته قال: والّذي بعثك بالحق لو اغتسلت لمت، ولم أجد قط برد مثله، وقد قال اللَّه: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [ (1) ] ، فضحك صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يقل شيئا.

سرية الخبط
ثم كانت سرية الخبط [ (2) ] أميرها أبو عبيدة بن الجراح، [وقيل: عبد اللَّه بن عامر بن الجراح] [ (3) ] ، والصحيح: عامر بن عبد اللَّه بن الجرّاح بن هلال بن أهيب ابن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشيّ الفهريّ. بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- في رجب على ثلاثمائة إلى حي من جهينة، بالقبليّة مما يلي ساحل البحر، على خمس ليال من المدينة. فأصابهم جوع شديد، جمعوا زادهم حتى إن كانوا ليقتسمون [ (4) ] التّمرة، ولم يكن معهم حمولة [ (5) ] ، إنما كانوا على أقدامهم، وأباعر يحملون عليها زادهم، فأكلوا الخبط، حتى ما كادوا [ (6) ] أن تكون بهم حركة إليه، فابتاع قيس بن سعد بن عبادة خمس جزائر، كل جزور بوسقين من تمر: يقوم بها إذا رجع، ونحرها- كلّ يوم جزورا- للقوم، مدّة ثلاثة أيام، حتى وجدوا حوتا يقال له العنبر قد ألقاه البحر، فأكلوا منه اثنتي عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فنصبت، ومرّ تحتها راحلة برحلها فلم تصبها، وكان يجلس في مأق [ (7) ] عين الحوت الجماعة من الناس.

سرية أبي قتادة إلى الخضرة
ثم كان سرية أبي قتادة بن ربعيّ الأنصاري إلى خضرة، وهي أرض محارب
__________
[ (1) ] الآية 29/ النساء.
[ (2) ] الخبط: ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن بدقيق أو غيره، (ترتيب القاموس) ج 2 ص 9.
[ (3) ] ما بين القوسين مكرر في (خ) .
[ (4) ] في (خ) «ليقتسموا» .
[ (5) ] الحمولة: ما يحتمل عليه الناس من الدواب، وهنا كناية عن عدم وجود الزاد أو الميرة يحملونها على دواب.
[ (6) ] في (خ) «حتى ما كاد أن يكون» .
[ (7) ] في (خ) «مبق» . والمأق: طرف العين مما يلي الأنف (ترتيب القاموس) ج 4 ص 197.

(1/346)


بنجد [ (1) ] ، أميرها أبو قتادة الأنصاريّ، [بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] في شعبان منها- في خمسة عشر رجلا إلى غطفان نحو نجد. فساروا ليلا وكمنوا نهارا، حتى أتوا ناحيتهم، فهجموا على حاضر منهم [ (3) ] عظيم، وجرّدوا سيوفهم وكبروا، فقتلوا رجالا، واستاقوا النّعم وحملوا النساء، حتى قدموا بمائتي بعير، وألف شاة وسبي كثير، فعزلوا من ذلك الخمس. وقد غابوا خمس عشرة ليلة، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا، أو عدلها عن البعير عشرة من الغنم.

سرية أبي قتادة إلى بطن إضم
ثم كانت سرية أبي قتادة بن ربعيّ الأنصاري إلى بطن إضم- وهي فيما بين خشب وذي المروة، على ثلاثة برد من المدينة- في رمضان، على ثمانية أنفس.
وذلك حين همّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بغزوة الفتح، ليظنّ ظان أنه عليه السلام توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار.

قتل المسلم
فلقيهم عامر بن الأضبط الأشجعيّ، فسلّم عليهم بتحية الإسلام، فبدر إليه محلّم بن جثّامة الليثي فقتله، وأخذ بعيره وسلبه، ثم لحقوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد علموا مسيره فأدركوه بالسّقيا ولم يلقوا جمعا.

ما نزل فيه من القرآن
وفيهم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «ثم كانت خضرة أرض محارب سرية أبي قتادة بنجد» .
[ (2) ] زيادة لسياق الكلام من (ط) .
[ (3) ] في (خ) «على حاضرتهم عظيم» .
[ (4) ] الآية 94/ النساء، وفي (خ) « ... الحياة الدنيا، الآية» .

(1/347)


الاختلاف في سبب نزول الآية
وقال ابن عبد البرّ، والاختلاف في المراد بهذه الآية كثير مضطرب جدا، قيل: نزلت في المقداد، وقيل: نزلت في أسامة بن زيد، وقيل: في محلّم بن جثامة.
وقال ابن عباس: نزلت في سريّة، ولم يسمّ أحدا. وقيل: نزلت في غالب الليثي من بني ليث، يقال له: فليت، كان على السّريّة، وقيل: نزلت في أبي الدّرداء.
وهذا اضطراب شديد جدا [ (1) ] .