إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

غزوة الفتح وسببها
ثم كانت غزوة الفتح. وسببها أن أنس بن زنيم الدّيليّ هجا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسمعه غلام من خزاعة فضربه فشجّه، فثار الشّرّ بين بني بكر [حلف قريش] ، وبين خزاعة [حلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] . فلما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبيّة-[وقال ابن إسحاق: فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا]- كلمت بنو نفاثة من بني الدّيل أشراف قريش أن يعينوها بالرجال والسلاح على خزاعة، فأمدوهم بذلك. وخرج إليهم صفوان بن أمية ومكرز بن حفص بن الأخيف [ (2) ] ، وحويطب بن عبد العزّى، وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو، وأجلبوا معهم أرقّاءهم فبيّتوا- مع بني بكر ورأسهم نوفل بن معاوية الدّؤليّ- خزاعة ليلا وهم آمنون [ (3) ] ، فقتلوا منهم ثلاثة وعشرين رجلا، وذلك على ماء يقال له الوتير قريب من مكة، وعامتهم نساء وصبيان وضعفة الرّجال، حتى أدخلوهم دار بديل بن ورقاء، وقيل: حتى انتهوا بهم إلى أنصاب الحرم [ (4) ] .

ندم قريش على نقض العهد
وندمت قريش، وعرفوا أن هذا الّذي صنعوا نقض [ (5) ] للمدة والعهد الّذي بينهم وبين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وجاء الحارث بن هشام وجماعة إلى صفوان بن أمية
__________
[ (1) ] راجع أسباب النزول للواحدي ص 127- 130.
[ (2) ] في (خ) «الأحيف» .
[ (3) ] ذكر (ابن سعد) ج 2 ص 134 أنهم خرجوا «متنكرين متنقبين» .
[ (4) ] أنصاب الحرم: حدوده التي تفصل بين الحل والحرام.
[ (5) ] في (خ) «نقضا» .

(1/348)


ومن كان معه فلاموهم، وقالوا لأبي سفيان بن حرب: هذا أمر لا بد له من أن يصلح، فاتفقوا على مسيره إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليزيد في الهدنة، ويجدّد العهد، فخرج لذلك وقد سار عمرو بن سالم بن حصيرة بن سالم الخزاعيّ في أربعين راكبا من خزاعة، حتى دخل المسجد ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس في أصحابه، فقام ينشد شعرا، وأخبره الخبر واستصرخه،
فقام صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يجرّ ثوبه ويقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي!.

قدوم أبي سفيان إلى المدينة
وقدم أبو سفيان فقال: يا محمد! إني كنت غائبا في صلح الحديبيّة، فاشدد العهد وزدنا في المدّة. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولذلك قدمت يا أبا سفيان؟ قال:
نعم! قال: هل كان قبلكم حدث؟ قال: معاذ اللَّه! قال: فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبيّة، لا نغيّر ولا نبدّل.

خبر أبي سفيان في دار أم المؤمنين ابنته
ثم قام أبو سفيان فدخل على ابنته أم حبيبة [ (1) ] رضي اللَّه عنها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طوته دونه وقالت: أنت امرؤ نجس مشرك!! فقال: يا بنية! لقد أصابك بعدي شرّ! قالت: هداني اللَّه للإسلام، وأنت يا أبت سيّد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك دخولك للإسلام؟ وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر. قال: يا عجباه!! وهذا منك أيضا! أأترك ما كان يعبد آبائي، وأتبع دين محمد!؟.

مناشدة أبي سفيان لكبار أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ثم خرج فلقي أبا بكر رضي اللَّه عنه فكلمه، وقال: نكلّم محمدا، أو تجير [ (2) ] أنت بين الناس! فقال: جواري في جوار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم لقي عمر رضي اللَّه عنه، فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر فقال [عمر] [ (3) ] : واللَّه لو وجدت الذّرّ [ (4) ]
__________
[ (1) ] أم المؤمنين.
[ (2) ] في (خ) «ونجير» .
[ (3) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (4) ] النمل الصغير.

(1/349)


تقاتلكم لأعنتها عليكم! فقال [أبو سفيان] [ (1) ] : جزيت من ذي رحم شرا، ثم دخل على عثمان رضي اللَّه عنه فقال: إنه ليس في القوم أحد أقرب بي رحما منك! فزد في الهدنة وجدّد العهد، فإن صاحبك لن يردّه عليك أبدا! قال: جواري من جوار رسول اللَّه!
فدخل على فاطمة وكلمها في أن تجير بين الناس، فقالت: إنما أنا امرأة! قال: مري أحد ابنيك يجير بين الناس! قالت: إنما هما صبيّان! وليس مثلهما يجير.

مناشدته عليا ومشورة علي
فأتى علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه فقال: يا أبا الحسن! أجر بين الناس أو تكلم محمدا يزيد في المدة! فقال: ويحك يا أبا سفيان! إن رسول اللَّه قد عزم أن لا يفعل، وليس أحد يستطيع أن يكلمه في شيء يكرهه. قال: فما الرأي؟
يسّرني [ (2) ] لأمري، فإنه قد ضاق عليّ، فمرني بأمر ترى أنه نافعي. قال: واللَّه ما أجد لك شيئا أمثل من أن تقوم فتجير بين الناس، فإنك سيّد كنانة. قال:
ترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال: لا أظن ذلك واللَّه، ولكني لا أجد لك غيره.
فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس، ولا أظنّ محمدا يخفرني!
ثم دخل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد! ما أظنّ أن تردّ جواري! فقال: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان!!
ثم جاء [أبو سفيان] [ (3) ] لسعد بن عبادة فقال: يا أبا ثابت! قد عرفت الّذي كان بيني وبينك! وأني كنت لك في قومنا جارا، وكنت لي بيثرب مثل ذلك، وأنت سيد هذه البحرة [ (4) ] ، فأجر بين الناس وزد في المدة. فقال: يا أبا سفيان! جواري في جوار رسول اللَّه! ما يجير أحد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ويقال: خرج أبو سفيان على أنه قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان!!
ويقال: لما صاح لم يقرب النبيّ عليه السلام وركب راحلته وانطلق إلى مكة.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «بشرني» .
[ (3) ] زيادة للبيان.
[ (4) ] البحرة: البلدة.

(1/350)


مرجع أبي سفيان إلى مكة وما قيل له
وكانت قد طالت غيبته، واتّهمته قريش أنه قد أسلم. فلما دخل على هند ليلا قالت: لقد حبست حتى اتهمك قومك! فإن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجح، فأنت الرّجل! ثم دنا منها فجلس منها مجلس الرجل من امرأته، فجعلت تقول: ما صنعت؟ فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلّا ما قال لي علي! فضربت برجليها في صدره، وقالت: قبّحت من رسول قوم! وأصبح فحلق رأسه عند إساف ونائلة [ (1) ] ، وذبح لهما ومسح بالدم رءوسهما، وقال: لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي.
وقالت له قريش: ما وراءك؟ هل جئتنا بكتاب من محمد، أو زيادة في مدّة أمانا من أن يغزونا؟ فقال: واللَّه لقد أبى عليّ، ولقد كلمت أصحابه عليه فما قدرت على شيء منهم، إلا أنهم يرموني بكلمة واحدة. إلّا
أن عليا قد قال- لما ضاقت بي الأمور-: أنت سيد كنانة، فأجر بين الناس!! فناديت بالجوار، ثم دخلت على محمد فقلت: إني قد أجرت الناس، وما أظنّ أن تردّ جواري! فقال:
أنت تقول ذلك يا أبا سفيان!! لم يزدني على ذلك.
قالوا: ما زاد على أن تلعّب بك تلعّبا!! قال: واللَّه ما وجدت غير ذلك.

جهاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للفتح
ولمّا ولّى أبو سفيان راجعا قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعائشة رضي اللَّه عنها: جهّزينا وأخفي أمرك. وقال عليه السلام: اللَّهمّ خذ من قريش الأخبار والعيون حتى نأتيهم [ (2) ] بغتة، [وفي رواية: اللَّهمّ خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتة، ولا يسمعون بي إلا فجأة] .
وأخذ صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأنقاب [ (3) ] ، وكان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يطوف عليها ويقول: لا تدعوا أحدا يمرّ بكم تنكرونه إلا رددتموه. وكانت الأنقاب مسلمة، إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفّظ به ويساءل عنه.
__________
[ (1) ] إساف ونائلة من أصنام المشركين.
[ (2) ] في (خ) «تأتيهم» .
[ (3) ] الأنقاب: جمع نقب وهو الطريق بين الجبلين.

(1/351)


خبر أبي بكر
ودخل أبو بكر رضي اللَّه عنه على عائشة رضي اللَّه عنها وهي تجهّز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، تعمل قمحا سويقا ودقيقا، فقال: يا عائشة، أهمّ رسول اللَّه يغزو؟
قالت: ما أدري! قال: إن كان همّ بسفر فآذنينا [ (1) ] نتهيأ له. قالت: ما أدري! لعله يريد بني سليم، لعله يريد ثقيفا! لعله يريد هوازن! فاستعجمت عليه [ (2) ] حتى دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال له: يا رسول اللَّه، أردت سفرا؟ قال: نعم. قال:
أفأتجهّز؟ قال: نعم، قال: فأين تريد يا رسول اللَّه؟ قال: قريشا، وأخف ذلك يا أبا بكر! وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس بالجهاز، وطوى عنهم [ (3) ] الوجه الّذي يريد، وقال أبو بكر: يا رسول اللَّه! أو ليس بيننا وبينهم مدة؟ قال: إنهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم، واطو ما ذكرت لك!
فظان يظن أنه يريد الشأم، وظان يظن ثقيفا، وظان يظنّ هوازن.

خبر حاطب بن أبي بلتعة ورسالته إلى قريش
فلما أجمع صلّى اللَّه عليه وسلّم المسير إلى قريش وعلم بذلك الناس، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أمرهم. وكان كتابه إلى ثلاثة نفر: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، فيقول فيه: «إن رسول اللَّه قد أذّن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد بكتابي إليكم» . وأعطى الكتاب إلى امرأة من مزينة من أهل العرج-[يقال لها كنود، ويقال لها سارة مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم ابن عبد مناف]- وجعل لها دينارا [وقيل: عشرة دنانير] ، على أن تبلّغه قريشا، وقال: أخفيه ما استطعت، ولا تمرّي على الطريق فإن عليه حرسا [ (4) ] . فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها، وسلكت على غير نقب، حتى لقيت الطريق بالعقيق.
وأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والزّبير رضي
__________
[ (1) ] آذنينا: أعلمينا وأخبرينا.
[ (2) ] استعجمت عليه: لم تعطه جوابا بيّنا.
[ (3) ] وى عنهم: أخفى عنهم.
[ (4) ] في (خ) «محرسا» .

(1/352)


اللَّه عنهما فقال: أدركا امرأة من مزينة، قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا.
فخرجا، فأدركاها، فاستنزلاها، والتمساه [ (1) ] في رحلها فلم يجدا [ (2) ] شيئا. فقالا لها: إنا نحلف باللَّه ما كذب رسول اللَّه ولا كذبنا، ولتخرجنّ هذا الكتاب! أو لنكشفنّك! فلما رأت منهما الجد قالت: أعرضا عنّي! فأعرضا عنها، فحلّت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب. فجاءا به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدعا حاطبا فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول اللَّه! واللَّه إني لمؤمن باللَّه ورسوله، ما غيّرت ولا بدّلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم. فقال عمر رضي اللَّه عنه: قاتلك اللَّه! ترى رسول اللَّه يأخذ بالأنقاب، وتكتب إلى قريش تحذرهم!! دعني يا رسول اللَّه أضرب عنقه فإنه قد نافق. فقال: وما يدريك يا عمر؟ لعل اللَّه اطّلع يوم بدر على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم [ (3) ] ،
وأنزل اللَّه في حاطب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [ (4) ] .
ومضت سارّة إلى مكة، وكانت مغنّية، فأقبلت تتغنى بهجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد ارتدت عن الإسلام.

دعوة المسلمين من القبائل
فلما أبان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغزو، أرسل إلى أهل البادية وإلى من حوله من
__________
[ (1) ] في (خ) «والتماساه» .
[ (2) ] في (خ) «فلم يجد» .
[ (3) ] أخرجه أبو داود ج 3 ص 108، 109، 110، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما، حديث رقم 2650، أخرجه (البخاري) في المغازي، باب فضل من شهد بدرا، وفي التفسير، تفسير سورة الممتحنة، وفي الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا و (مسلم) في فضائل أهل بدر، و (الترمذي) في التفسير، تفسير سورة الممتحنة، و (الدارميّ) في الرّقاق، و (أحمد) في (المسند) من حديث على بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وانظر أيضا (معالم السنن) للخطابي ج 3 ص 110.
[ (4) ] أول سورة الممتحنة، وفي (خ) « ... تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ،» الآية.

(1/353)


المسلمين يقول: من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة.
وبعث رسلا في كل ناحية حتى قدموا. فقدمت أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، المدينة، وأتت بنو سليم بقديد، وعسكر ببئر أبي عنبة، وعقد الألوية والرايات.

عدة المسلمين
وكان المهاجرون سبعمائة، ومعهم ثلاثمائة فرس، وكانت الأنصار أربعة آلاف، ومعهم خمسمائة فرس، وكانت مزينة ألفا، فيها مائة فرس ومائة درع، وكانت أسلم أربعمائة، فيها ثلاثون فرسا، وكانت جهينة ثمانمائة، معها خمسون فرسا، وكانت بنو كعب بن عمرو خمسمائة. ويقال: لم يعقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الألوية والرايات حتى انتهى إلى قديد.

الخروج إلى الفتح
وخرج يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر. وروى أبو خليفة الفضل بن الحباب من حديث شعبة بن قتادة عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: خرجنا مع رسول اللَّه حين فتح مكة لسبع عشرة أو تسع عشرة بقين من رمضان. الحديث. ورواه سعيد [ (1) ] بن أبي عروبة، عن قتادة بإسناده، فقال فيه: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لثنتي عشرة. وقال هشام عن قتادة فيه بإسناده: لثمان عشرة. وعن عطية بن قيس، عن قزعة [ (2) ] ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: آذننا [ (3) ] رسول اللَّه بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان.
الحديث.

مسير المسلمين
وخرج المسلمون وقادوا الخيول، وامتطوا الإبل، وكانوا عشرة آلاف رجل، وقال الحاكم: اثنا عشر ألفا.
وقدّم صلّى اللَّه عليه وسلّم أمامه الزبير بن العوام رضي اللَّه عنه في
__________
[ (1) ] في (خ) «سعد» .
[ (2) ] هو «قزعة بن يحى» أبو الغاوية البصري.
[ (3) ] في (خ) «آذنا» .

(1/354)


مائتين، فلما كان بالبيداء قال: إني لأرى [ (1) ] السحاب يستهلّ بنصر بني كعب.
ولما خرج من المدينة نادى مناديه: من أحبّ أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر. وصام هو، حتى [إذا] [ (2) ] كان بالعرج صبّ على رأسه ووجهه الماء من العطش، فلما كان بالكديد- بين الظهر والعصر أخذ إناء من ماء في يده حتى رآه المسلمون،
ثم أفطر تلك الساعة، ويقال: كان فطره يومئذ بعد العصر.
وبلغه أن قوما صاموا، فقال: أولئك العصاة! وقال بمرّ الظهران: إنكم مصبّحو [ (3) ] عدوّكم. والفطر أقوى لكم.

منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالعرج
فلما نزل العرج- والناس لا يدرون أين يتوجه [ (4) ] ! أإلى قريش، أو إلى هوازن، أو إلى ثقيف؟ وأحبّوا أن يعلموا أتى [ (5) ]- كعب بن مالك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وقد جلس في أصحابه، وهو يتحدث- ليعلم ذلك، فأنشده شعرا، فتبسّم ولم يزد على ذلك. فلما نزل بقديد قيل: هل لك يا رسول اللَّه في بيض النساء وأدم الإبل؟
فقال: إن اللَّه حرّمهم عليّ بصلة الرحم، ووكزهم في لبّات الإبل. [وفي رواية: [إن] [ (6) ] اللَّه حرّمهم عليّ ببر الوالدين ووكزهم في لبّات الإبل.] [ (7) ] .
وجاء عيينة بن حصن بالعرج وسار [ (8) ] وكان الأقرع بن حابس قد وافى بالسّقيا في عشرة من قومه. فلما عقد صلّى اللَّه عليه وسلّم الألوية بقديد ندم عيينة ألّا يكون قدم بقومه.

خبر الكلبة
ونظر عليه السلام بعد مسيره من العرج إلى كلبة تهرّ [ (9) ] على أولادها، وهنّ
__________
[ (1) ] في (خ) «لا أرى» ، وفي (المغازي) ج 2 ص 801 «لأرى السحاب تستهل» . واستهل السحاب أشرق قبل أول مطر.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) «مصبحوا» بإثبات الألف بعد واو الجماعة.
[ (4) ] في (خ) «توجه» .
[ (5) ] في (خ) «فأتى» وفي رواية (الواقدي) ج 2 ص 802: «قال كعب بن مالك: آتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأعلم لكم علم وجهه» .
[ (6) ] زيادة للسياق من (ط) ج
[ (7) ] قال ابن الأثير في (النهاية) : لبّات: جمع لبّة، وهي الهزمة التي فوق الصدر وفيها تنحر الإبل، (النهاية) ج 4 ص 223، وهنا كناية عن الكرم وصلة الرحم، فلذلك استحقوا العفو.
[ (8) ] وذلك بعد إسلامه، ففي (الواقدي) ج 2 ص 804 «فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ مكة بين الأقرع وعيينة» .
[ (9) ] تهر: تنبح وتكشر عن أنيابها دفاعا عن أولادها.

(1/355)


حولها يرضعنها، فأمر جعيل بن سراقة يقوم حذاءها، لا يعرض لها أحد من الجيش ولا لأولادها.

الطلائع
وقدم من العرج جريدة من خيل [ (1) ] طليعة، فأتوا بعين من هوازن، فسأله عنهم فقال: تركتهم ببقعاء قد جمعوا الجموع، وأجلبوا العرب، وبعثوا إلى جرش [ (2) ] في عمل الدبابات [ (3) ] والمنجنيق، وهم سائرون إلى هوازن فيكونوا جميعا.
فقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (4) ] : وإلى من جعلوا أمرهم؟ قال: إلى مالك بن عوف.
قال: وكل هوازن قد أجاب؟ قال: أبطأ من بني عامر كعب وكلاب. وقد مررت بمكة فرأيتهم ساخطين لما جاء به أبو سفيان، وهم خائفون. فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، ما أراه إلا صدقني!
وأمر خالد بن الوليد فحبسه حتى دخل مكة وفتحها فأسلم، ثم خرج مع المسلمين إلى هوازن فقتل بأوطاس.
[وأوطاس واد في ديار هوازن، وفيه كانت وقعة حنين] .

إسلام أبي سفيان
وقدم بالأبواء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يريد الإسلام، بعد ما عادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرين سنة وهجاه، ولم يتخلف عن قتاله. فلما طلع صلّى اللَّه عليه وسلّم في موكبه، وقف تلقاء وجهه، فأعرض عنه، فتحرك إلى ناحيته، فأعرض عنه مرارا، وأعرض عنه الناس وتجهموا له، فجلس على باب منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلازمة حتى فتح مكة، وهو لا يكلمه ولا أحد من المسلمين. فلما كان يوم هوازن، ثبت فيمن ثبت مع رسول اللَّه، وأخذ العباس رضي اللَّه عنه بلجام بغلته، وأخذ أبو سفيان بالجانب [ (5) ] الآخر،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: من هذا؟ فقال العباس:
__________
[ (1) ] في (خ) «من خيل جديدة» . والجريدة: الطائفة من الفرسان لا رجّالة فيها (ترتيب القاموس) ج 2 ص 127.
[ (2) ] جرش: مدينة شرقي جبل السواد من أرض البلقاء وحوران من عمل دمشق (معجم البلدان) ج 2 ص 127.
[ (3) ] الدبابات: في عهدهم آلة تتخذ من جلود وخشب يدخل فيها الرجال، ثم يقربونها من الحصن المحاصر والرجال في جوفها لينقبوه، وسميت بذلك لأنها تدب دبيبا.
[ (4) ] زيادة للبيان.
[ (5) ] في (خ) «بالجناب» .

(1/356)


يا رسول اللَّه! أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث [ (1) ] ! فارض عنه، أي رسول اللَّه! قال: قد فعلت، فغفر اللَّه له كلّ عداوة عاداها. فقبّل أبو سفيان رجله في الركاب. فالتفت عليه السلام إليه، فقال: أخي لعمري!
ويقال: إنه جاء هو وعبد اللَّه بن أبي أمية- أخو أم سلمة- إلى نيق العقاب [ (2) ] فطردهما، فشفعت فيهما أم سلمة، وأبلغته عنهما ما رقّقه عليهما، فقبلهما.

العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل
وقدم العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل، بالسقيا. وقيل: بل قدم العبّاس بذي الحليفة- وقيل: بالجحفة- فأسلم، وبعث ثقله [ (3) ] ومضى مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأقام معه، ولم يخرج من عنده حتى راح عليه السلام. وكان ينزل معه في كل منزل حتى دخل مكة.

رؤيا أبي بكر
ورأى أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه- في الليلة التي أصبح فيها بالجحفة- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما دنوا من مكة، خرجت عليهم كلبة تهرّ، فلما دنوا منها استلقت على ظهرها، فإذا أطباؤها تشخب لبنا [ (4) ] . فذكرها أبو بكر.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ذهب كلبهم [ (5) ] ، وأقبل درّهم [ (6) ] . هم سائلوكم بأرحامكم! وأنتم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه.
__________
[ (1) ] ذكرنا في أول الكتاب أنه أخوه من الرضاعة من قبل حليمة السعدية
[ (2) ] في (خ) ، (ط) «فيق العقاب» وهو خطأ وصوابه «نيق العقاب» وهي: (موقع بين مكة والمدينة قرب الجحفة، لقي به أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد اللَّه بن أبي أمية بن المغيرة مهاجر بن أبي أمية وهو يريد مكة عام الفتح) (معجم البلدان) ج 5 ص 333.
[ (3) ] الثقل: متاع المسافر وحشمه (ترتيب القاموس) ج 1 ص 412.
[ (4) ] الأطباء: جمع طبي، والطّبي: بالكسر والضم: حلمات الضرع التي من خف وظلف وحافر.
[ (5) ] الكلب: صياح من عضه الكلب الكلب، وجنون الكلاب المعترى من أكل لحم الإنسان، وشبه جنونها المعترى للإنسان من عضها. (ترتيب القاموس) ج 4 ص 70 والمقصود هنا: كناية عن عداء قريش لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (6) ] الدّرّ: اللبن يسيل من الثدي، وهذا كناية عن إدبار شرهم وإقبال خيرهم.

(1/357)


منزل المسلمين بقديد
فلما نزل عليه السلام قديدا لقيته سليم- وهم تسعمائة على الخيول جميعا، مع كل رجل رمحه وسلاحه، ويقال: إنهم ألف- فجعلهم مقدمته مع خالد بن الوليد رضي اللَّه عنه واجتمع المسلمون بمرّ الظهران، ولم يبلغ قريشا حرف واحد من مسيرهم، فأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين أن يوقدوا النيران، فأوقدوا عشرة آلاف نار، وأمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل ليالي فتح مكة، وفي غزوة بدر.

بعثة قريش أبا سفيان يتجسس
وبعثت قريش أبا سفيان يتجسس الأخبار، وإن لقي محمدا يأخذ لهم منه جوارا، فإن رأى رقّة من أصحابه آذنه بالحرب، فخرج ومعه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، فرأوا الأبنية والعسكر والنيران بمرّ الظهران، وسمعوا صهيل الخيل ورغاء الإبل، فأفزعهم ذلك فزعا شديدا وقالوا: هؤلاء بنو كعب جاشتها الحرب [ (1) ] ! فقال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب! قالوا: فتنجّعت [ (2) ] هوازن على أرضنا! واللَّه ما نعرف هذا، إن هذا العسكر مثل حاجّ الناس! وكان على الحرس تلك الليلة عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.

خبر العباس وقدومه بأبي سفيان وصاحبيه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وقد ركب العباس رضي اللَّه عنه دلدل [ (3) ] ، على أن يصيب رسولا إلى قريش يخبرهم: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم داخل عليهم في عشرة آلاف. فسمع صوت أبي سفيان، فقال: أبا حنظلة! فقال: يا لبيك! أبا الفضل؟ قال: نعم! قال: فما وراءك؟ قال: هذا رسول اللَّه في عشرة آلاف من المسلمين، فأسلم، ثكلتك أمك وعشيرتك، وأقبل على حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فقال: أسلما، فإنّي لكما جار حتى تنتهوا إلى رسول اللَّه، فإنّي أخشى أن تقطعوا دون النبي! قالوا: فنحن معك.
__________
[ (1) ] جاشتها الحرب: هاجتها كما تجيش النار القدر فيغلي بها.
[ (2) ] من الانتجاع، وهو طلب الكلإ أيام الربيع.
[ (3) ] اسم بغلة كانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.

(1/358)


ويروى أن أبا سفيان وحكيما وبديلا لما طلعوا مر [الظهران] [ (1) ] عشاء، ورأوا النيران والفساطيط والعسكر راعهم ذلك، فبينا هم كذلك لم يشعروا حتى أخذهم نفر- كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثهم عيونا له- بخطم [ (2) ] أبعرتهم، وأتوا بهم العسكر، فلقيهم عند ذلك العباس فأجارهم.

دخولهم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وأتى بهم العباس ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه! أبو سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، قد أجرتهم، وهم يدخلون عليك! فقال:
أدخلهم. فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل ليستخبرهم، ودعاهم إلى الإسلام، فأسلم حكيم وبديل. وقال أبو سفيان: أشهد أنّ لا إله إلا اللَّه. فقال رسول اللَّه: وأني رسول اللَّه. قال: واللَّه يا محمد، إن في النفس من هذا لشيئا بعد، فارجها [ (3) ] . ثم قال للعباس: قد أجرناهم، اذهب بهم إلى منزلك. فذهب بهم.

خبر أبي سفيان بعد سماع الأذان
فلما أذّن الصبح، أذّن العسكر كلهم، ففزع أبو سفيان من أذانهم وقال:
ما يصنعون؟ أمروا فيّ بشيء؟ قال: لا! ولكنهم قاموا إلى الصلاة! قال أبو سفيان: كم يصلون في اليوم والليلة؟ قال: يصلون خمس صلوات. قال: كثير واللَّه! فلما رآهم أبو سفيان يبتدرون وضوء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: ما رأيت يا أبا الفضل ملكا كهذا! لا ملك [ (4) ] كسرى ولا ملك بني الأصفر! فقال العباس:
ويحك آمن! قال: أدخلني عليه. فأدخله، فقال: يا محمد! استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فلا واللَّه ما لقيتك من مرّة إلا ظفّرت عليّ، فلو كان إلهي حقا وإلهك مبطلا لقد غلبتك! وشهد أن محمدا رسول اللَّه.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان، وفي (خ) «مدعشا» .
[ (2) ] خطم: جمع خطام، وهو الحبل الّذي يقاد به البعير.
[ (3) ] من الإرجاء وهو التأخير، وقد سهلت الهمزة.
[ (4) ] في (خ) «إلا ملك كسرى» .

(1/359)


مقالة أبي سفيان وحكيم بن حزام
ثم قال أبو سفيان وحكيم: يا محمد! جئت بأوباش الناس- من نعرف ومن لا نعرف [ (1) ]- إلى عشيرتك وأصلك! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنتم أظلم وأفجر، غدرتم عهد الحديبيّة، وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم اللَّه وأمنه. فقال أبو سفيان وحكيم بن [ (2) ] حزام: يا رسول اللَّه! لو كنت جعلت حدّك [ (3) ] ومكيدتك بهوازن، فهم أبعد رحما وأشدّ لك عداوة! فقال: إني لأرجو [ (4) ] من ربّي أن يجمع ذلك لي كله: فتح مكة وإعزاز الإسلام بها، وهوازن، وأن يغنّمني اللَّه أموالهم وذراريهم، فإنّي راغب إلى اللَّه في ذلك.
وقيل: إن أبا سفيان ركب خلف العباس، ورجع حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء.

خبر عمر بن الخطاب حين رأى أبا سفيان
فلما مرّ العباس بعمر بن الخطاب، ورأى أبا سفيان قال: أبا سفيان! عدوّ اللَّه! الحمد للَّه الّذي أمكن منك بلا عهد ولا عقد. ثم خرج نحو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يشتدّ، فركض العباس البغلة حتى اجتمعوا على باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا.
فقال عمر: يا رسول اللَّه! هذا أبو سفيان عدوّ اللَّه، قد أمكن اللَّه منه بلا عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه. فقال العباس: إني قد أجرته! ثم التزم [ (5) ] رسول اللَّه، فقال: واللَّه لا يناجيه الليلة أحد دوني. فلما أكثر عمر في أبي سفيان قال العباس: مهلا يا عمر! وتلاحيا [ (6) ] .
فقال النبي عليه السلام للعباس: اذهب به فقد أجرته، فليبت عندك حتى تغدو علينا إذا أصبحت. فغدا به. فقال له رسول اللَّه: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك [ (7) ] أن تعلم أن لا إله إلا اللَّه؟ قال: بأبي أنت! ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع اللَّه إله [ (8) ] لقد أغنى عنّي شيئا بعد. قال: يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني
__________
[ (1) ] في (خ) «من تعرف ومن لا تعرف» .
[ (2) ] في (خ) «فقال أبو سفيان يا رسول اللَّه وحكيم بن حزام» .
[ (3) ] الحدّ: الشّدة، وهي في (خ) «جدك» .
[ (4) ] في (خ) «لأرجو» .
[ (5) ] التزمه: اعتنقه.
[ (6) ] تلاحيا: تنازعا.
[ (7) ] ألم يأن: ألم يحن.
[ (8) ] في (خ) «إلاه» .

(1/360)


رسول اللَّه؟
[قال] [ (1) ] : بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أمّا هذه فو اللَّه إنّ في النفس منها لشيئا بعد، فقال العباس: ويحك! اشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه قبل واللَّه أن تقتل! فشهد شهادة الحق.

من دخل دار أبي سفيان فهو آمن
فقال العباس: يا رسول اللَّه! إنك قد عرفت أبا سفيان وحبّه الشّرف والفخر، اجعل له شيئا. قال: نعم! من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق [عليه] [ (1) ] داره فهو آمن. وأمر ألا يجهز على جريح، ولا يتّبع مدبر. ويروى أن أبا سفيان وحكيما قالا: يا رسول اللَّه! ادع الناس إلى الأمان! أرأيت إن اعتزلت قريش وكفت أيديها، آمنون هم؟ قال: نعم! من كفّ يده وأغلق [عليه] [ (1) ] بابه فهو آمن. قالوا: فابعثنا نؤذّن فيهم بذلك. قال: انطلقوا، فمن دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن، ودارك يا حكيم، و [ومن] [ (1) ] كفّ يده فهو آمن.

رد أبي سفيان بعد فراقه
فلما توجهوا قال للعباس: إني لا آمن أبا سفيان أن يرجع عن إسلامه ويكفر، فاردده حتى يفقه ويرى جنود اللَّه معك.
فأدركه عباس فحبسه، فقال: أغدرا يا بني هاشم؟ قال: ستعلم أنّا لسنا بغدر [ (2) ] ، ولكن لي إليك حاجة، فأصبح حتى تنظر إلى جنود اللَّه، وإلى ما أعدّ للمشركين. فحبسه بالمضيق- دون الأراك إلى مكة- حتى أصبحوا.
وقيل: بل قال عليه السلام للعباس بعد ما خرج أبو سفيان: احبسه بمضيق الوادي حتى تمر به جنود اللَّه فيراها.
فعدل به العباس في مضيق الوادي، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مناديا فنادى: لتصبح كلّ قبيلة قد ارتحلت ووقفت مع صاحبها عند رايته، وتظهر كل ما معها من العدّة.
__________
[ (1) ] زيادة في السياق.
[ (2) ] غدر: جمع غدور، وهو الغادر.

(1/361)


تعبئة المسلمين ومرورهم على أبي سفيان
فأصبح الناس على ظهر [ (1) ] ، وعبأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه، فجعل أبا عبيدة ابن الجراح [ (2) ] على المقدّمة،
__________
[ (1) ] على استعداد للسفر.
[ (2) ] هو عامر بن عبد اللَّه بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النّضر ابن كنانة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشيّ الفهريّ المكّي. أحد السابقين الأولين، عزم الصديق على توليته الخلافة، وأشار به يوم السقيفة، لكمال أهليته عند أبي بكر. يجتمع في النسب هو والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في فهر، شهد له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجنة، وسماه أمين الأمة، ومناقبه شهيرة جمة، وغزا غزوات مشهورة، له في صحيح مسلم حديث واحد، وله في جامع أبي عيسى حديث، وله في مسند بقيّ خمسة عشر حديثا.
وقد شهد أبو عبيدة بدرا، فقتل يومئذ أباه، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا، ونزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ضربة أصابته، فانقلعت بهما ثنيتاه، حتى قيل: ما رئي هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة، وكان أبو عبيدة معدودا فيمن جمع القرآن العظيم.
وكان موصوفا بحسن الخلق، وبالحلم الزائد والتواضع. ولما فرغ الصديق من حرب أهل الردّة، وحرب مسيلمة الكذاب، جهّز أمراء الأجناد لفتح الشام، فبعث أبا عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، فتمّت وقعة أجنادين بقرب الرملة، ونصر اللَّه المؤمنين، فجاءت البشرى، والصّدّيق في مرض الموت.
ثم كانت وقعة فحل، ووقعة مرج الصّفر، وكان قد سيّر أبو بكر خالدا لغزو العراق، ثم بعث إليه لينجد من بالشام، فقطع المفاوز على بريّة السماوة، فأمّره الصديق على الأمراء كلهم، وحاصروا دمشق، وتوفّي أبو بكر، فبادر عمر بعزل خالد، واستعمل على الكل أبا عبيدة، فجاءه التقليد، فكتمه مدة، وكل هذا من دينه ولينه وحلمه، فكان فتح دمشق على يده، فعند ذلك أظهر التقليد، ليعقد الصلح للروم، ففتحوا له باب الجابية صلحا، وإذا بخالد قد افتتح البلد عنوة من الباب الشرقيّ، فأمضى لهم أبو عبيدة الصلح.
وعن المغيرة، أن أبا عبيدة صالحهم على أنصاف كنائسهم ومنازلهم، ثم كان أبو عبيدة رأس الإسلام يوم وقعة اليرموك، التي استأصل اللَّه فيها جيوش الروم، وقتل منهم خلق عظيم. وتوفي أبو عبيدة رضي اللَّه عنه في سنة ثمان عشرة، وله ثمان وخمسون سنة.
* (مسند أحمد) : 1/ 195- 196، (طبقات ابن سعد) : 3/ 1/ 409، (التاريخ الكبير) : 6/ 444، (التاريخ الصغير) : 1/ 40، (المعارف) : 247- 248، (تاريخ الطبري) :
3/ 202 (الجرح والتعديل) : 6/ 635، (المستدرك) : 3/ 262- 268، (حلية الأولياء) :
1/ 100- 102، (الاستيعاب) : 4/ 1710، (صفة الصفوة) : 1/ 192، (جامع الأصول) : 9/ 20- 21، (الكامل في التاريخ) 2/ 259، (تاريخ الإسلام) : 2/ 138،

(1/362)


وخالد بن الوليد [ (1) ] على الميمنة، والزبير بن العوام [ (2) ]
__________
[ () ] (تهذيب التهذيب) : 5/ 630، (الإصابة) 3/ 586- 590، (تاريخ الخميس) :
2/ 244، (كنزل العمال) : 13/ 214- 219، (فتح الباري) : 7/ 116- 117، (صحيح سنن ابن ماجة) : 1/ 29، (سير أعلام النبلاء) 1/ 5- 23، (الزهد للإمام أحمد) :
176، (زاد المعاد) : 3/ 197، 204، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 259، (التاريخ الصغير) :
1/ 40.
[ (1) ] هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن كعب، سيف اللَّه تعالى، وفارس الإسلام، ليث المشاهد، السيد الإمام الكبير، وقائد المجاهدين، أبو سليمان القرشيّ المخزوميّ المكّي، وابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث.
هاجر مسلما في صفر سنة ثمان، ثم سار غازيا فشهد غزوة مؤتة، واستشهد أمراء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الثلاثة: مولاه زيد، وابن عمه جعفر ذو الجناحين، وابن رواحة، وبقي الجيش بلا أمير، فتأمّر عليهم في الحال خالد، وأخذ الراية، وحمل على العدوّ، فكان النصر،
وسمّاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سيف اللَّه، فقال:
إن خالدا سيف سله اللَّه على المشركين،
وشهد الفتح، وحنينا، وتأمّر في أيام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واحتسب أدراعه ولأمته في سبيل اللَّه، وحارب أهل الردّة، ومسيلمة، وغزا العراق، واستظهر، ثم اخترق البرّية السماوية، بحيث أنه قطع المفازة من حدّ العراق إلى أول الشام في خمس ليال، في عسكر معه، وشهد حروب الشام، ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء.
ومناقبه غزيرة، أمّره الصديق على سائر أمراء الأجناد، وحاصر دمشق، فافتتحها هو وأبو عبيدة رضي اللَّه عنهما. له في الصحيحين حديثان، وفي مسند بقيّ واحد وسبعون، توفي بحمص سنة إحدى وعشرين. وذكر محمد بن سلام قال: لم تبق امرأة من بني المغيرة إلا وضعت لمّتها على قبر خالد ابن الوليد، يقول: حلقت رأسها.
* (مسند أحمد) : 4/ 88، (ابن هشام) : 4/ 237- 239، (طبقات ابن سعد) :
4/ 252 (التاريخ الصغير) : 1/ 23، 40، (المعارف) : 267، (الجرح والتعديل) :
3/ 356، (الاستيعاب) : 2/ 427- 431، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 182- 174، (تهذيب التهذيب) : 3/ 142، (الإصابة) : 2/ 251- 256، (كنز العمال) :
13/ 366- 375.
[ (2) ] هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ ابن غالب، حواريّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد السّتّة أهل الشورى، وأول من سلّ سيفه في سبيل اللَّه، أبو عبد اللَّه رضي اللَّه عنه. أسلم وهو حدث، له ستة عشرة سنة روي أحاديث يسيرة، اتّفقا له على حديثين، وانفرد له البخاري بأربعة أحاديث، ومسلم بحديث. وعن عمر بن مصعب بن الزبير قال: قاتل الزبير مع نبي اللَّه، وله سبع عشرة سنة، وقال هشام بن عروة عن أبيه، قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، فنزل جبريل على سيماء الزبير. وهو ممن هاجر إلى الحبشة، فيما نقله موسى بن عقبة، وابن إسحاق، ولم يطول الإقامة بها.
عن علي بن زيد: أخبرني من رأى الزبير، وفي صدره أمثال العيون من الطعن والرّمي، وعن عروة قال: كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف، إحداهن في عاتقه، إن كنت لأدخل أصابعي فيها، ضرب

(1/363)


على الميسرة، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم في القلب، وقدم بين يديه الكتائب فمرّت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها. فقدم خالد بن الوليد في بني سليم [ (1) ]- وهم ألف
__________
[ () ] ثنتين يوم بدر، وواحدة في اليرموك.
عن ابن عباس أنه قال للزبير يوم الجمل: يا ابن صفية! هذه عائشة تملّك الملك طلحة، وأنت علام تقاتل قريبك عليا؟ فرجع الزبير، فلقيه ابن جرموز فقتله.
قال البخاري وغيره: قتل في رجب سنة ست وثلاثين.
* (مسند أحمد) : 1/ 164- 167، (طبقات ابن سعد) : 3/ 70- 80، (التاريخ الكبير) : 3/ 409، (التاريخ الصغير) : 1/ 75، (المعارف) : 219- 227، (الجرح والتعديل) : 3/ 578، (المستدرك) : 3/ 359- 368، (حلية الأولياء) : 1/ 89، (الاستيعاب) : 2/ 510، (صفة الصفوة) : 1/ 180- 183، (جامع الأصول) :
9/ 5- 10، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 194- 196، (تهذيب التهذيب) :
3/ 318، (الإصابة) : 2/ 553- 558، (تاريخ الخميس) : 1/ 172، (كنز العمال) :
13/ 204- 212، (تاريخ الإسلام) : 2/ 138، 184، 314، 333، 382، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 41، (المعارف) : 219- 220، (الزهد للإمام أحمد) : 137.
[ (1) ] هم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، ولد سليم بن منصور: بهثة، فولد بهثة بن سليم: الحارث، وثعلبة، بطن صغير، وامرؤ القيس، وعوف، وكان كاهنا، وثعلبة، ومعاوية.
(جمهرة أنساب العرب) : 261.
- وبهثة بطن من قيس عيلان، وهو الّذي ينسب إليه بنو سليم، وهم بنو بهثة بن سليم بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر، منهم عمرو بن عبسة السّلمي، وهو بهثّي، وكذلك العرباض بن سارية وغيرهما، وبنو بهثة بن حرب بن وهب بن بليّ بن أحمس بن ضبيعة، وفي العرب بنو بهثة جماعة. (اللباب في تهذيب الأنساب) : 1/ 191، (معجم قبائل العرب) : 1/ 109.
- وروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا ابن العواتك من سليم»
والعواتك من جداته صلّى اللَّه عليه وسلّم تسع كل تسمى عاتكة، وهن: عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان أم عبد مناف، وعاتكة بنت مرة بنت هلال بن فالج أم هاشم، وعاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال أم وهب أبي آمنة، وبقية التسع من غير بني سليم.
وعاتكة: اسم منقول من الصفات، يقال امرأة عاتكة، وهي المصفّرة بالزعفران والطيب، والعاتك:
الكريم والخالص من الألوان، والعواتك من الصحابيات هن: عاتكة بنت أسيد، وبنت خالد، وبنت زيد بن عمرو، وبنت عبد المطلب، وبنت عوف، وبنت نعيم، وبنت الوليد. (ترتيب القاموس المحيط) : 3/ 150- 151.
وحديث «أنا ابن العواتك» ، ذكره الألباني في (الصحيحة) : 1569، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وقال الذهبي، كابن عساكر في التاريخ: اختلف على هيثم فيه، وهو هيثم بن بشير السّلميّ، أبو معاوية الواسطي الحافظ، أحد الأعلام، سمع الزهري، وحصين بن عبد الرحمن. وعنه يحيى القطان، وأحمد، ويعقوب الدّورقيّ، وخلق كثير. مولده سنة أربع ومائة، وسمع من الزهريّ، وابن عمر أيام الحجّ، وكان مدلسا، وهو ليّن في الزهري. (ميزان الاعتدال) : 4/ 306، ت 9250.

(1/364)


يحمل لواءهم عباس بن مرداس [ (1) ] ،
__________
[ () ] هيثم بن بشير الواسطي، أحد الأئمة، متفق على توثيقه، إلا أنه كان مشهورا بالتدليس وروايته عن الزهري خاصة لينة عندهم، فأما التدليس، فقد ذكر جماعة من الحفاظ أن البخاري كان لا يخرّج عنه إلا ما صرّح فيه بالتحديث، واعتبرت أنا هذا في حديثه، فوجدته كذلك، إما أن يكون قد صرّح به في نفس الإسناد، أو صرّح به من وجه آخر، وأما روايته عن الزهريّ فليس في الصحيحين منها شيء، واحتجّ به الأئمة كلهم. واللَّه أعلم. (هدي الساري) : 626. هشيم، حجة يدلّس، وهو لين في روايته عن الزهري. (المغني في الضعفاء) : 2/ 712، ت 6765.
[ (1) ] هو عباس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن حييّ بن الحارث ابن بهثة بن سليم السّلمي، يكنى أبا الفضل، وقيل أبا الهيثم. أسلم قبل فتح مكة بيسير، وكان مرداس أبوه شريكا ومصافيا لحرب بني أمية، ويزعم بعض أهل الأخبار أن الجن قتلتهما جميعا، وذكروا أن ثلاثة نفر ذهبوا على وجوههم، فهاموا ولم يوجدوا، ولم يسمع لهم بأثر: طالب بن أبي طالب، وسنان ابن حارثة، ومرداس بن أبي عامر، أبو عباس بن مرداس.
وكان عباس بن مرداس من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامهم، ولما أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المؤلفة قلوبهم من سبي حنين «الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن» مائة مائة من الإبل، ونقص طائفة من المائة، منهم عباس بن مرداس، جعل عباس بن مرداس يقول، إذا لم يبلغ به من العطاء ما بلغ به من العطاء ما بلغ بالأقرع بن حابس وعيينة بن حصن:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
وقد كنت في القوم ذا تدرأ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
فصالا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وكانت نهابا تلافيتها ... بكرّي على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اذهبوا فاقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رضي،
وكان شاعرا محسنا مشهورا، وله في يوم حنين أشعار حسان، وهو القائل:
يا خاتم النّباء إنك مرسل ... بالحق كل هدى السبيل هداكا
إن الإله بني عليك محبة ... في خلقه، ومحمدا سمّاكا
وكان عباس بن مرداس ممن حرّم الخمر في الجاهلية. وكان ممن حرّم الخمر في الجاهلية أيضا: أبو بكر الصديق، وعثمان بن مظعون، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وقيس بن عاصم، وحرمها قبل هؤلاء: عبد المطلب بن هاشم، وعبد اللَّه بن جدعان، وشيبة بن ربيعة، وورقة بن نوفل، والوليد ابن المغيرة، وعامر بن الظرب، ويقال: هو أول من حرّمها في الجاهلية على نفسه، ويقال: بل عفيف ابن معديكرب العبديّ، كان عباس بن مرداس ينزل بالبادية بناحية البصرة، روي عنه ابنه كنانة ابن عباس.
* (تهذيب التهذيب) : 5/ 114، (طبقات ابن سعد) : 1/ 273، 307، 308، 2/ 53، 4/ 271، 346، 5/ 516، (الإصابة) : 3/ 633- 634، (الاستيعاب) :

(1/365)


وخفاف بن ندبة [ (1) ]- فقال أبو سفيان [ (2) ] : من هؤلاء؟ قال العباس [ (3) ] : خالد بن الوليد، فلما حاذى خالد العباس وأبا سفيان،
__________
[ () ] 2/ 817- 820، (ابن هشام) : 5/ 91- 92، (المعارف) : 336- 342، (زاد المعاد) : 3/ 473، 476. (الشعر والشعراء) : 184.
[ (1) ] هو خفاف بن ندبة «بالحركات الثلاث» ابن عمير بن عمر بن الشريد السّلمي، «ندبة أمه، وأبوه عمير» . يكنى أبا خرشة، أو خراشة، وهو ابن عم خنساء، وصخر، ومعاوية، وخفاف هذا شاعر مشهور بالشعر، وكان أسود حالكا. قال أبو عبيدة: هو أحد أغربة العرب. قال الأصمعي: شهد خفاف حنينا. وقال غيره: شهد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتح مكة، ومعه لواء بني سليم، وشهد حنينا والطائف. وقال أبو عبيدة: حدثني أبو بلال سهم بن العباس بن مرادس السلمي قال:
غزا معاوية بن عمرو بن الشريد أخو خنساء مرّة وفزارة ومعه خفاف بن ندبة، فاعتوره هاشم وزيد ابنا حرملة المرّيّان، فاستطرد له أحدهما، ثم وقف وشدّ عليه الآخر فقتله، فلما تنادوا قتل معاوية.
قال خفاف، قتلني اللَّه إن رمت حتى أثأر به، فشدّ على مالك بن حمار سيد بني شمخ بن فزارة فقتله، وقال:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عيني تيمّمت مالكا
وقفت له علوي وقد خان صحبتي ... لأبني مجدا أو لأثأر هالكا
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا
قال أبو عمر: له حديث واحد لا أعلم غيره، رواه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فقلت: يا رسول اللَّه، أين تأمرني أن أنزل، أعلى قرشىّ؟ أم أنصاريّ؟ أم أسلم؟ أم غفار؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا خفاف، ابتغ الرفيق قبل الطريق، فإن عرض لك أمر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك» . هذا الحديث عند الخطيب في الجامع، من طريق عبد للَّه بن محمد اليماني، عن أبيه عن جده قال: قال خفاف بن ندبة: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا خفاف ابتغ الرفيق قبل الطريق»
وكلها ضعيفة.
* (المعارف) : 325، 597، (تاريخ الطبري) : 3/ 265، 427، (طبقات ابن سعد) :
3/ 604، 4/ 275، (الشعر والشعراء) : 212، (الإصابة) : 2/ 236- 237، (الاستيعاب) : 2/ 450- 451، (إتحاف السادة المتقين) : 7/ 452، (كنز العمال) :
17539.
[ (2) ] راجع ترجمته ص (11) من هذا الجزء.
[ (3) ] هو العبّاس، عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قيل: إنه أسلم قبل الهجرة، وكتم إسلامه، وخرج مع قومه إلى بدر، فأسر يومئذ، فادّعى أنه مسلم، فاللَّه تعالى أعلم، وليس هو في عداد الطلقاء، فإنه كان قدم إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل الفتح، ألا تراه أجار أبا سفيان بن حرب؟ وله عدة أحاديث، منها خمسة وثلاثون في مسند بقيّ، وفي البخاري ومسلم حديث، وفي البخاري حديث، وفي مسلم ثلاثة أحاديث، وقدم الشام مع عمر.
قال الكلبي: كان العباس شريفا مهيبا، عاقلا جميلا، أبيض بضا، له ضفيرتان، معتدل القامة، ولد قبل عام الفيل بثلاث سنين.
بل كان من أطول الرجال، وأحسنهم صورة، وأبهاهم وأجهرهم صوتا، مع الحلم الوافر والسؤدد.

(1/366)


كبر بمن معه ثلاثا ومضوا. ثم مرّ على إثره الزبير بن العوام: في خمسمائة ومعه راية سوداء، فلما حاذاهما كبّر ثلاثا وكبر أصحابه، فقال [أبو سفيان] : من هذا؟ قال [العباس] : الزبير بن العوام. قال: ابن أختك؟ قال: نعم! ومرّت بنو غفار [ (1) ] في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذرّ الغفاريّ [ (2) ] [ويقال: إيماء
__________
[ () ] روي مغيرة عن أبي رزين، قال: قيل للعباس: أنت أكبر أو النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله، وكان يمنع الجار، ويبذل المال، ويعطي في النوائب.
وثبت أن العباس كان يوم حنين، وقت الهزيمة، آخذا بلجام بغلة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وثبت معه حتى نزل النصر. وثبت من حديث أنس: أن عمرا استسقى فقال: اللَّهمّ إنا كنا قحطنا على عهد نبيك توسّلنا به، وإنا نستسقي إليك بعم نبيّك العباس.
قال الضحاك بن عثمان الحزامي: كان يكون للعباس الحاجة إلى غلمانه وهم بالغابة، فيقف على سلع، وذلك في آخر الليل فيناديهم، فيسمعهم، والغابة نحو من تسعة أميال.
كان تامّ الشكل، جهوريّ الصوت جدا، وهو الّذي أمره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يهتف يوم حنين:
يا أصحاب الشجرة.
كانت وفاته في سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، وله ست وثمانون سنة، ولم يبلغ أحد هذه السّن من أولاده، ولا أولادهم، ولا ذريته الخلفاء، وقبره بالبقيع.
* (مسند أحمد) : 1/ 206، (طبقات ابن سعد) : 4/ 5- 33، (التاريخ الكبير) :
7/ 2، (المعارف) : 118، 137، 156، 589، 592، (الجرح والتعديل) : 6/ 210، (المستدرك) : 3/ 321- 334، (تهذيب التهذيب) : 5/ 214- 215، (الاستيعاب) :
2/ 810/ 817، (صفة الصفوة) : 1/ 262- 264، (الإصابة) : 3/ 631- 632 (خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 35، (كنز العمال) : 3/ 502.
[ (1) ] غفار بن مليل: بطن من كنانة من العدنانية، وهم بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناف ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة (عمرو) بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، كانوا حول مكة، ومن مياههم: بدر، ومن أوديتم ودّان.
وقد قاتلوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة حنين، وعددهم ألف،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الأنصار، ومزينة، وجهينة، وغفار، وأشجع، ومن كان من بني عبد اللَّه، مواليّ دون الناس، واللَّه ورسوله مولاهم.
وولد مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد منافة بن كنانة: غفار بطن ضخم، ونعيلة. منهم: الحكم ابن عمرو بن مجدع بن حذيم بن الحارث بن نعيلة بن مليل، له صحبة ورواية ولي خراسان، وأبو سريحة حذيفة بن أمية بن أسيد بن الأحوص بن واقعة بن حرام بن غفار، له صحبة ورواية، وأبو ذر الصاحب.
(معجم قبائل العرب) : 3/ 890، (جمهرة أنساب العرب) : 186، (ترتيب القاموس المحيط) : 3/ 406، (معجم البلدان) : 5/ 420، (اللباب في تهذيب الأنساب) : 2/ 387.
[ (2) ] هو جندب بن جنادة الغفاريّ، وقيل: جندب بن سكن. وقيل: برير بن جنادة، وقيل: برير ابن عبد اللَّه، ونبّأني الدمياطيّ: أنه جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار- أخي

(1/367)


ابن رحضة] [ (1) ] ، فلما حاذوهما كبروا ثلاثا، فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال
__________
[ () ] ثعلبة- ابني مليل بن ضمرة، أخي ليث والدّيل، أولاد بكر، أخي مرة، والد مدلج بن مرة، ابني عبد مناة بن كنانة.
أحد السابقين الأولين، من نجباء أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. قيل: كان خامس خمسة في الإسلام. ثم إنه ردّ إلى بلاد قومه، فأقام بها بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم له بذلك، فلما أن هاجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، هاجر إليه أبو ذرّ رضي اللَّه عنه، ولازمه، وجاهد معه، وكان يفتي في خلافة أبي بكر، وعمر وعثمان، وكان رأسا في الزهد، والصدق، والعلم، والعمل، قوّالا بالحق، لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، على حدّة فيه، وقد شهد فتح بيت المقدس مع عمر، رضي اللَّه عنهما.
وقد قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي ذر- مع قوّة أبي ذرّ في بدنه وشجاعته-: «يا أبا ذرّ، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمّرنّ على اثنين، ولا تولّينّ مال يتيم» .
فهذا محمول على ضعف الرأي، فإنه لو ولي مال يتيم لأنفقه كلّه في سبيل الخير، ولترك اليتيم فقيرا، فإنه كان لا يستجيز ادخار النقدين، والّذي يتأمّر على الناس، يريد أن يكون فيه حلم ومداراة، وأبو ذر رضي اللَّه عنه كانت فيه حدّة فنصحه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وله مائتا حديث وأحد وثمانون حديثا، اتّفقا منها على اثنى عشر حديثا، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر.
قال الواقدي كان حامل راية غفار يوم حنين أبو ذر. قال الفلّاس والعيصم بن عديّ وغيرهما:
مات سن اثنتين وثلاثين، ويقال: مات في ذي الحجة.
* (الزهد للإمام أحمد) : 139، (مسند أحمد) : 5/ 144، (طبقات ابن سعد) :
4/ 219- 237، (التاريخ الكبير) : 2/ 212، (المعارف) : 2/ 67، 152، 195، 252، 253، (تاريخ الطبري) : 4/ 283، (المستدرك) : 3/ 337- 346، (حلية الأولياء) : 1/ 156- 170، (الاستيعاب) : 1/ 252- 456، 4/ 1652- 1656، (جامع الأصول) : 9/ 50- 59، (تاريخ الإسلام) : 2/ 165- 170، (تهذيب التهذيب) 12/ 98- 99، (خلاصة تذهيب الكمال) : 1/ 173 (كنز العمال) : 13/ 311، (شذرات الذهب) : 1/ 24، 56، 63، (الإصابة) : 1/ 506، 7/ 125- 130، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 46- 78.
[ (1) ] هو إيماء بن رحضة بن خرّبة بن خفاف بن حارثة بن غفار، قديم الإسلام، قال ابن المديني: له صحبة. قال: وقد روي حنظلة الأسلمي عن خفاف بن إيماء بن رحضة حديث القنوت، وقال بعضهم: عن إيماء بن رحضة.
وروي مسلم في صحيحه، قصة إسلام أبي ذر، من طريق عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ، وفيها: فجئنا قومنا فأسلم نصفهم قبل أن يقدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاريّ. ولكن ذكر الإمام أحمد في هذا الحديث الاختلاف على رواية سليمان بن المغيرة، هل هو خفاف بن إيماء أو أبوه إيماء ابن رحضة؟ وعلى هذا فيمكن أن يكون إسلام خفاف تقدم على إسلام أبيه.
وذكر الزبير بن بكار من حديث حكيم بن حزام، أن إيماء بن رحضة حضر بدرا مع المشركين، فيكون إسلامه بعد ذلك.

(1/368)


العباس: بنو غفار. فقال: ما لي ولبني غفار!! ثم مضت أسلم [ (1) ] في أربعمائة فيها لواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب [ (2) ] ، والآخر ناجية بن الأعجم [ (3) ] .
__________
[ () ] وقال ابن سعد: كان قد سكن غيقة من ناحية السّقيا، ويأوى إلى المدينة، وقال أبو عمر في الاستيعاب: أسلم قريبا من الحديبيّة، وكانوا مرّوا عليه ببدر وهو مشرك، ولابنه خفاف صحبة، وكانا ينزلان غيقة من بلاد بني غفار، ويأتون المدينة كثيرا، ولابنه خفاف رواية عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
* (الإصابة) : 1/ 169، (الاستيعاب) : 1/ 135، (طبقات ابن سعد) : 4/ 221، (مسلم بشرح النووي) : 16/ 31.
[ (1) ] أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، منهم أبو فراس ربيعة بن كعب الأسلمي، له صحبة، أبو برزة الأسلمي وغيرهما. (اللباب في تهذيب الأنساب) : 1/ 58.
ولد أسلم بن أفصى: سلامان بن أسلم، بطن، وهوازن بن أسلم، بطن، منهم: مالك والنعمان ابنا خلف بن عوف بن دارم بن عدّ بن وائلة بن سهم بن مازن بن الحارث بن سلامان بن أسلم، كانا طليعتين للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد، قتلا فدفنا في قبر واحد، وبريدة بن الخصيب الأسلمي. (جمهرة أنساب العرب) : 240.
[ (2) ] هو بريدة بن الحصيب بن عبد اللَّه بن الحارث بن الأعرج بن سعد. أبو عبد اللَّه، وقيل أبو سهل، وأبو ساسان، وأبو الحصيب، الأسلمي. قيل إنه أسلم عام الهجرة، إذ مرّ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مهاجرا، وشهد غزوة خيبر، والفتح، وكان معه اللواء، واستعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على صدقة قومه. وكان يحمل لواء الأمير أسامة حين غزا أرض البلقاء، إثر وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
له جملة أحاديث، نحو مائة وخمسين حديثا، نزل مرو، ونشر العلم بها، وسكن البصرة مدة، ثم غزا خراسان زمن عثمان، وكان بريدة من أمراء عمر بن الخطاب في نوبة سرغ. وقال ابن سعد:
مات بريدة سنة ثلاث وستين.
* (مسند أحمد) : 5/ 346، (طبقات ابن سعد) : 4/ 241- 243، 7/ 365، (التاريخ الكبير) : 2/ 141، (المعارف) : 300، (الجرح والتعديل) : 2/ 424، (الإصابة) : 1/ 286- 287، (الاستيعاب) : 1/ 185- 186، (شذرات الذهب) :
1/ 70، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 469- 471.
[ (3) ] هو ناجية بن الأعجم الأسلمي، شهد الحديبيّة مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال:
حدثني الهيثم بن واقد عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه قال: حدثني أربعة عشر رجلا من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أن ناجية بن الأعجم هو الّذي نزل بالسهم في البئر بالحديبية فجاشت بالرواء حتى صدورا بعطن.
قال: وقال محمد بن عمر: ويقال الّذي نزل بالسهم ناجية بن جندب، ويقال: البراء بن عازب، ويقال: عباد بن خالد الغفاريّ، والأول أثبت أنه ناجية بن الأعجم، وعقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة لأسلم لواءين، فحمل أحدهما ناجية بن الأعجم، والآخر بريدة بن الحصيب.
ومات ناجية بن الأعجم بالمدينة، في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان، وليس له عقب.
* (طبقات ابن سعد) : 4/ 314- 315، (مغازي الواقدي) : 587، 588، 800، 819، (الإصابة) : 4/ 314- 315.

(1/369)


فلما حاذوهما كبّروا، فقال: من هؤلاء؟ قال: أسلم. قال ما لي ولأسلم! ما كان بيننا وبينهم ترة [ (1) ] قط. قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام ثم مرّت بنو كعب بن عمرو [ (2) ] في خمسمائة، يحمل لواءهم بسر بن سفيان [ (3) ] . قال من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. فلما حاذوه كبروا ثلاثا. ثم مرت مزينة [ (4) ]
__________
[ (1) ] التّرة: الثأر، كناية عن هوانهم.
[ (2) ] هم بنو كعب بن عمرو مزيقياء، ولد كعب بن عمرو مزيقياء: ثعلبة، وامرؤ القيس قاتل الجوع، وجبلة، ومالك. منهم النّمس، وهو يزيد ابن الأسود بن معدّ بن شراحبيل بن الأرقم بن الأسود ابن ثعلبة بن كعب، دخل مع جبلة إلى الروم، ثم رجع مسلما، ولولده بالشام عدد وشرف، ورجع معه جماعة من غسّان مسلمين.
ومنهم: فروة بن المنذر، قاتل مع ابن الزبير، والسّموأل بن حيّا بن عاديا بن رفاعة بن الحارث ابن ثعلبة بن كعب بن عمرو مزيقياء، وكان يهوديا، وهو الّذي يضرب به المثل في الوفاء، وهو صاحب تيماء، وولده شريح بن السموأل، ولولده هنالك عدد، ومدحه الأعشى، وكانوا ملوك تيماء.
والكعبيّ: نسبة إلى سبعة رجال، ذكرهم ابن الأثير في تهذيبه لأنساب السمعاني فليراجع هناك.
* (جمهرة أنساب العرب) : 372، (اللباب في تهذيب الأنساب) : 3/ 101- 102، (الاشتقاق) : 436.
[ (3) ] هو بسر بن سفيان بن عمرو بن عويمر بن صرمة بن عبد اللَّه بن عمير بن حبيشة بن سلول الخزاعيّ، قال ابن الكلبي: كتب إليه النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان شريفا.
وقال أبو عمر: أسلم سنة ستّ، وجرى ذكره في حديث الحديبيّة وغيره. قال الإمام أحمد في مسندة: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم قالا: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبيّة يريد زيارة البيت لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، حتى إذا كان بعسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي، فقال:
يا رسول اللَّه، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجت معها العوذ المطافيل،.... فذكر الحديث مطوّلا.
وله يقول عبد اللَّه بن الزّبعرى في قصة طلب آل مخزوم بدم الوليد بن الوليد بن المغيرة من خزاعة.
ألا بلّغا بسر بن سفيان أنّه ... يبلّغها عني الخبير المفرّد
فذكر القصيدة، قال: فأخذ بسر بيد ابنه فقال: يا معشر قريش، هذا ابني رهين لكم بالدية، فأخذه خالد بن الوليد، فأطعمه وكساه حلّة وطيّبه، وقال: انطلق إلى أبيك، فحمل بسر بن سفيان إليهم دية الولد. وفرّد الرجل: إذا تفقه وخلا بمراعاة الأمر والنهي، وقد جاء في الخبر: طوبى للمفردين.
* (الإصابة) : 1/ 292، (طبقات ابن سعد) : 2/ 95، 160، 4/ 294، (الاستيعاب) : 1/ 166، (مغازي الواقدي) : 592، 943، (مسند أحمد) : 4/ 323، (لسان العرب) : 3/ 332 مادة «فرد» .
[ (4) ] نسبوا إلى مزينة بنت كلب بن وبرة، أم عثمان وأوس، وهم قبيلة كبيرة، منها عبد اللَّه بن مغفّل المزني، له صحبة ومعقل، والنعمان وسويد بنو مقرن المزني، لهم صحبة، وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري صاحب الشافعيّ، وأما أحمد بن إبراهيم بن العيزار المزني، فإنه نسبة إلى قرية مزنة، وهي

(1/370)


في ألف- فيها ثلاثة ألوية ومائة فرس، يحمل ألويتها: النعمان بن مقرّن [ (1) ] ، وبلال بن الحارث [ (2) ] ، وعبد اللَّه بن عمر [ (3) ]- فلما حاذوه كبّروا، فقال: من
__________
[ () ] من قرى سمرقند وتحرك النسبة إليها.
* (اللباب في تهذيب الأنساب) : 3/ 205، (جمهرة أنساب العرب) : 201، (معجم البلدان) : 1/ 614، مراصد الاطلاع: 1/ 236، (معجم ما استعجم) : 1/ 287، الاشتقاق: 180.
[ (1) ] هو النعمان بن مقرّن أبو حكيم، وقيل: أبو عمرو المزنيّ الأمير، صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان إليه لواء قومه يوم فتح مكة، ثم كان أمير الجيش الذين افتتحوا نهاوند، فاستشهد يومئذ، وكان مجاب الدعوة، فنعاه عمر على المنبر إلى المسلمين، وبكى.
حدّث عنه ابنه معاوية، ومعقل بن يسار، ومسلم بن الهيضم، وجبير بن حية الثقفيّ، وكان مقتله في سنة إحدى وعشرين، يوم جمعة، رضي اللَّه عنه.
* (مسند أحمد) : 5/ 444، (الإصابة) : 6/ 449، (الاستيعاب) : 4/ 1505، (تهذيب التهذيب) : 10/ 407، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 196، (التاريخ الكبير) :
8/ 75 (المستدرك) : 3/ 292- 295، (شذرات الذهب) : 1/ 32، (المعارف) : 75، 183، 299، (طبقات ابن سعد) : 6/ 18، (الجرح والتعديل) : 8/ 444، (سير أعلام النبلاء) : 356- 358.
[ (2) ] هو بلال بن الحارث بن عصم بن سعيد بن قرّة بن خلاوة- بالخاء المعجمة المفتوحة- ابن ثعلبة ابن ثور، أبو عبد الرحمن المزني، من أهل المدينة، أقطعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم العقيق.
وفد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في وفد مزينة سنة خمس من الهجرة، وسكن موضعا يعرف بالأشعر وراء المدينة، ثم تحول إلى البصرة، وكان صاحب لواء مزينة يوم الفتح. ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من المهاجرين، توفي سنة ستين في خلافة معاوية رحمه اللَّه، وهو ابن ثمانين سنة. وابنه حسّان بن بلال، أول من أحدث الإرجاء بالبصرة.
* (شذرات الذهب) : 1/ 65، (الاستيعاب) : 1/ 183، (الإصابة) : 1/ 326، (تهذيب التهذيب) : 1/ 440، (طبقات ابن سعد) : 1/ 272، 291، 339، (حلية الأولياء) : 8/ 187، (المعارف) : 298، (مغازي الواقدي) : 276، 425، 426، 571، 799، 800، 820، 896، 1014، 1029.
[ (3) ] هو عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب ابن لؤيّ بن غالب، الإمام القدوة شيخ الإسلام، أبو عبد الرحمن القرشيّ العدويّ المكيّ، ثم المدنيّ.
أسلم وهو صغير، ثم هاجر مع أبيه قبل أن يحتلم، واستصغر يوم أحد، فأول غزواته الخندق، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وأمه وأم المؤمنين حفصة، زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون الجمحيّ.
روي علما كثيرا نافعا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعن أبيه، وأبي بكر، وعثمان، وعليّ، وبلال، وصهيب، وعامر بن ربيعة، وزيد بن ثابت، وزيد عمّه (زيد بن الخطاب) ، وسعد، وابن مسعود، وعثمان ابن طلحة، وأسلم، وحفصة أخته، وعائشة، وغيرهم.

(1/371)


هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: ما لي ولمزينة! جاءتني تقعقع من شواهقها [ (1) ] ! ثم مرّت جهينة [ (2) ] في ثمانمائة-
__________
[ () ] روي عنه الحسن البصريّ وطاووس، وابن شهاب الزّهريّ، وأمم سواهم. قدم الشام والعراق، والبصرة وفارس غازيا، وقال ابن يونس: شهد ابن عمر فتح مصر، واختط بها، وروي عنه أكثر من أربعين نفسا من أهلها.
قال ابن مسعود: إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد اللَّه بن عمر، وعن عائشة رضي اللَّه عنها: ما رأيت أحدا ألزم للأمر الأول من ابن عمر.
قال مالك: كان إمام الناس عندنا بعد زيد بن ثابت، عبد اللَّه بن عمر، مكث ستين سنة يفتي الناس.
عن مالك، بلغه أن ابن عمر قال: لو اجتمعت عليّ الأمّة إلا رجلين ما قاتلتهما، ولابن عمر في مسند بقيّ ألفان وستمائة وثلاثون حديثا بالمكرر، واتفقا له على مائة وثمانية وستين حديثا، وانفرد له البخاري بأحد وثمانين حديثا، ومسلم بأحد وثلاثين.
قال ضمرة بن ربيعة: مات ابن عمر سنة ثلاث وسبعين. وقال مالك: بلغ ابن عمر سبعا وثمانين سنة.
* (طبقات ابن سعد) : 2/ 373، 4/ 188، (الزهد للإمام أحمد) : 237، (التاريخ الصغير) : 1/ 154، (حلية الأولياء) : 1/ 292- 314، (المعارف) : 37، 135، 162، 184- 185، 186، 187، 188، 189، 190، 200، 274، 364، 401، 452، 453، 460، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 278، 281، (وفيات الأعيان) :
3/ 28- 31، (جمهرة أنساب العرب) : 152، (المستدرك) : 3/ 556، 557، (جامع الأصول) : 9/ 64، (تاريخ بغداد) : 1/ 171- 173، (الجرح والتعديل) : 5/ 107، (مرآة الجنان) : 1/ 154، (البداية والنهاية) : 9/ 7- 9، (الإصابة) : 4/ 181- 188، (خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 81، (شذرات الذهب) : 1/ 81، (سير أعلام النبلاء) :
3/ 203- 239.
[ (1) ] القعقاع: من إذا مشى سمع لمفاصل رجليه تقعقع. (ترتيب القاموس) : 3/ 660، والشواهق:
جمع شاهق، وهي الجبال العالية، وكانت مزينة من أصحاب الجبال، وكني أبو سفيان بذلك عن أنهم أجلاف غلاظ.
[ (2) ] جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم، ولد جهينة بن زيد: قيس، ومودوعة. فولد قيس ابن جهينة: غطفان وغيّان،
وفد بنو غيّان على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال لهم: أنتم بنو رشدان،
وكان واديهم يسمى غوى، فسمّي رشدا.
وينسب إليها خلق كثير من الصحابة التابعين ومن بعدهم. قال ابن الأثير في (اللباب) : هكذا قال السمعاني جهينة، واسمه زيد، وليس كذلك، وإنما جهينة هو ابن زيد، وأسلم بضم اللام.
وجهينة أيضا قرية من قرى الموصل، منها تاج الإسلام أبو عبد اللَّه الحسين بن نصر بن محمد ابن خميس الموصلي الجهنيّ، الفقيه المحدث المشهور.
* (اللباب في تهذيب الأنساب) : 1/ 317- 318، (جمهرة أنساب العرب) : 444.

(1/372)


معها أربعة ألوية يحملها أبو روعة معبد بن خالد [ (1) ] ، وسويد بن صخر [ (2) ] ، ورافع بن مكيث [ (3) ]
__________
[ (1) ] هو معبد بن خالد الجهنيّ، يكنى أبو روعة، أو أبو زرعة. ذكره الواقدي في الصحابة، وقال:
أسلم معبد بن خالد قديما، وهو أحد الأربعة لذين حملوا ألوية جهينة يوم الفتح، ومات سنة اثنتين وسبعين، وهو ابن بضع وثمانين، وكان يلزم البادية.
وقال أبو أحمد في كتاب الكنى في الراء: أبو روعة هو معبد بن خالد الجهنيّ، له صحبة، كان يلزم البادية، ذكره الواقدي، وقال عنه: توفي سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن ثمانين سنة. وكذلك قال ابن أبي حاتم سواء في الكنية والسّن والوفاة، وقالا: له صحبة، وزاد ابن أبي حاتم: وروي عن أبي بكر وعمر. وقال ابن أبي حاتم: هو غير معبد بن خالد الّذي هو عندهم أول من تكلم بالقدر بالبصرة. وقال: لا يعرف معبد الجهنيّ ابن من هو؟ وليس ابن خالد، وقال غيره: هو نفسه.
* (مغازي الواقدي) : 571، 800، 820، 896، 940، 1038، (المعارف) : 122، 441، 484، 547، 625، (الاستيعاب) : 3/ 1426، (الإصابة) : 6/ 364- 365، (تاريخ الصحابة) : 238، (شذرات الذهب) : 1/ 78، (طبقات ابن سعد) : 3/ 25، 7/ 364.
[ (2) ] هو سويد بن صخر الجهنيّ الأنصاري، ذكر الطبري أنه كان أحد الأربعة الذين يحملون ألوية جهينة، وشهد الحديبيّة، وذكره الواقدي في جملة العشرين الذين خرجوا إلى العرنيين في سرية غالب بن عبد اللَّه الليثي، وهو والد عقبة بن سويد، له صحبة، وذكره ابن حبّان في الثقات، والبخاري في تاريخه الكبير.
* (مغازي الواقدي) : 571، 751، 800، 820، 896، (التاريخ الكبير للبخاريّ) :
4/ 141، (الجرح والتعديل) : 4/ 232، (الثقات) : 3/ 178، (الإصابة) : 3/ 226، (تاريخ الصحابة) : 125 ت 592.
[ (3) ] هو رافع بن مكيث بن عمرو بن جراد بن يربوع بن طحيل بن عديّ بن الرّبعة بن رشدان بن قيس ابن جهينة، أسلم وشهد الحديبيّة مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وبايع تحت الشجرة بيعة الرضوان، وكان مع زيد بن حارثة في السرية التي وجّهه فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حسمى، وأ كانت في جمادى الآخرة سنة ست، وبعثه زيد بن حارثة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بشيرا على ناقة من إبل القوم، فأخذها منه عليّ ابن أبي طالب في الطريق، فردّها على القوم، وذلك حين بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليردّ عليهم ما أخذ منهم، لأنهم قد كانوا قدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلموا، وكتب لهم كتابا.
وكان رافع بن مكيث أيضا مع كرز بن جابر الفهريّ حين بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي الجدر، وكان مع عبد الرحمن بن سريته إلى دومة الجندل، وبعثه بكتابه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشيرا بما فتح اللَّه عليه.
ورافع بن مكيث أحد الأربعة الذين حملوا ألوية جهينة الأربعة، التي عقدها لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يوم فتح مكة، وبعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على صدقات جهينة يصدّقهم، وكانت له دار بالمدينة، ولجهينة مسجد بالمدينة.
* (طبقات ابن سعد) : 2/ 88، 131، 160، (الجرح والتعديل) : 3/ 480، (التاريخ

(1/373)


وعبد اللَّه بن بدر [ (1) ]- فلما حاذوهما كبّروا ثلاثا. ثم مرت كنانة [ (2) ] : [بنو ليث [ (3) ] ، وضمرة، وسعد ابن بكر] [ (4) ] في مائتين، يحمل لواءهم أبو واقد الليثي [ (5) ] ، فلما حاذوهما كبروا
__________
[ () ] الكبير) : 3/ 302، (تهذيب التهذيب) : 3/ 201، (الإصابة) : 2/ 445، (تاريخ الصحابة) : 98، (الاستيعاب) : 2/ 485.
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن بدر بن زيد بن معاوية بن حسّان بن أسعد بن وديعة بن مبذول بن عديّ بن غنم ابن الرّبعة بن رشدان بن قيس بن جهينة، وكان اسمه عبد العزّى، فلما أسلم غيّر اسمه، فسمّي عبد اللَّه، وأبوه بدر بن زيد الّذي ذكره العباس بن مرداس في شعره.
وكان عبد اللَّه بن بدر مع كرز بن جابر الفهريّ، حين بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، سرية إلى العرنيّين الذين أغاروا على لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي الجدر، وهو أحد الأربعة الذين حملوا ألوية جهينة التي عقدها لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة، ونزل عبد اللَّه بن بدر المدينة، وله بها دار، وكان ينزل أيضا البادية بالقبليّة جبال جهينة، وقد روي عن أبي بكر. ومات رضي اللَّه عنه في خلافة معاوية ابن أبي سفيان.
* (تاريخ الصحابة) : 161 ت 790، (طبقات ابن سعد) : 1/ 333، 4/ 346، 347، 5/ 556، (التاريخ الكبير) : 3/ 23، (تاريخ الطبري) : 7/ 415، 451، (مغازي الواقدي) : 571، 800، 820، (الثقات) : 3/ 239، (الاستيعاب) : 3/ 871- 872، (الإصابة) : 4/ 19- 20، (الشعر والشعراء) : 184.
[ (2) ] ، (3) ، (4) كنانة: بطن من عذرة بن زيد اللات، كان له من الولد عبد اللَّه بطن، وعوف وهم العنطوان بطن. وأما كنانة كلب: فهو كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة ابن ثور بن كلب. وكنانة قريش: هو كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهو والد النضر جد قريش. ففي قول إن ولد النضر يقال لهم قريش، وفي قول يقال ذلك لولد فهر بن مالك ابن النضر. وإذا قيل في النسب كنانيّ، فهم ولد كنانة بن خزيمة غير النضر، مثل ليث، والديل، وضمرة بني عبد مناة بن كنانة، فيقال كناني ليثي.
* (اللباب في تهذيب الأنساب) : 3/ 111- 112، (سبائك الذهب) : 106.
وبنو سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وهم أظآر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، عندهم استرضع عليه السلام.
* جمهرة أنساب العرب: 265.
[ (5) ] هو أبو واقد الليثي، مختلف في اسمه، قيل: الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: عوف ابن الحارث بن أسيد بن جابر بن عبد مناة بن شجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي ابن كنانة. كان حليف بني سعد، قال البخاري، وابن حبان، والباوردي، وأبو أحمد الحاكم: شهد بدرا. وقال أبو عمر: قيل شهد بدرا، ولا يثبت. وقال ابن سعد: أسلم قديما، وكان يحمل لواء بني ليث، وضمرة، وسعد بن بكر يوم الفتح، وحنين، وفي غزوة تبوك يستنفر بني ليث، وكان خرج إلى مكة فجاور بها سنة فمات وقال في موضع آخر: دفن في مقبرة المهاجرين.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعن أبي بكر، وعن عمر، وأسماء بنت أبي بكر. وروى عنه ابناه:

(1/374)


ثلاثا. فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: أهل شؤم! هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم، أما واللَّه ما شوورت [ (1) ] فيه ولا علمته، ولقد كنت له كارها حيث بلغني، ولكنه أمر حمّ [ (2) ] ! قال العباس: قد خار اللَّه لك [ (3) ] في غزو محمد لكم. ودخلتم في الإسلام كافة. ومرّت بنو ليث [ (4) ]- وهم مائتان وخمسون يحمل لواءهم الصعب بن جثامة [ (5) ]- فلما حاذوهما كبروا ثلاثا فقال
__________
[ () ] عبد الملك، وواقد، وأبو سعيد الخدريّ، وعطاء بن يسار، وعروة، وآخرون. وأما شهوده بدرا فهذا محل خلاف بين الأئمة.
* (حلية الأولياء) : 8/ 359، (مسند أحمد) : 5/ 217، (التاريخ الكبير) : 2/ 58، (الجرح والتعديل) : 3/ 82، (المستدرك) : 7/ 531، (الاستيعاب) : 4/ 1774، (تهذيب التهذيب) : 12/ 270- 271، (الإصابة) : 7/ 55- 456، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 252 (شذرات الذهب) : 1/ 76، (تاريخ الصحابة) : 68- 69، (مغازي الواقدي) : 453، 820، 890، 896، 990، (طبقات ابن سعد) : 5/ 173، 175، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 574- 576.
[ (1) ] شوورت: من المشاورة، وفي (خ) : «شووت» .
[ (2) ] حمّ الأمر: قضي وأنفد، وفي (خ) : «جم» .
[ (3) ] خار اللَّه لك: اختار لك خير الأمرين.
[ (4) ] انظر التعليق رقم: (29) ، (30) ، (31) .
[ (5) ] هو الصعب بن جثّامة بن قيس بن ربيعة بن عبد اللَّه بن يعمر الليثي، حليف قريش. واسم جثّامة يزيد، أمه أخت أبي سفيان بن حرب، واسمها فاختة. وقيل زينب. وكان ينزل ودّان. مات في آخر خلافة أبي بكر، أو في أول خلافة عمر، قال ابن حبان، ويقال: مات في خلافة عثمان، والأول أثبت. وشهد فتح إصطخر، فقد روي ابن السكن من طريق صفوان بن عمرو، حدثني راشد بن سعد قال: لما فتحت إصطخر نادى مناد: ألا إنّ الدّجال قد خرج،
فلقيهم الصعب بن جثّامة قال: لقد سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره.
قال ابن السكن: إسناده صالح. قال الحافظ ابن حجر: فيه إرسال، وهو يردّ على من قال: إنه مات في خلافة أبي بكر.
وقال ابن مندة: كان الصعب ممن شهد فتح فارس.
وقال يعقوب بن سفيان: أخطأ من قال: إن الصعب بن جثّامة مات في خلافة أبي بكر خطأ بينا، فقد روي ابن إسحاق عن عمر بن عبد اللَّه، أنه حدّثه عن عروة، قال: لما ركب أهل العراق في الوليد بن عقبة كانوا خمسة، منهم: الصعب بن جثّامة، وللصعب أحاديث في الصحيح من رواية ابن عباس عنه.
وأخرج أبو بكر بن لال في كتاب المتحابين، من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت قال: آخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين عوف بن مالك والصعب بن جثّامة، رضي اللَّه تعالى عنهما.
* (تاريخ الصحابة) : 137، (الإصابة) : 3/ 426- 427، (الاستيعاب) : 2/ 739، (الثقات) : 3/ 195، (تهذيب التهذيب) : 4/ 369، (مغازي الواقدي) : 556، 820،

(1/375)


أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال: بنو ليث. ثم مرّت أشجع [ (1) ]- وهما ثلاثمائة معهم لواءان يحملهما معقل بن سنان [ (2) ] ، ونعيم بن مسعود [ (3) ]- فقال أبو سفيان:
__________
[ () ] 1096، (جمهرة أنساب العرب) : 181، (التاريخ الكبير) : 4/ 322، (الجرح والتعديل) :
4/ 450، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 249، (الكامل في التاريخ) : 2/ 449، (تاريخ الإسلام) : 3/ 76- 77.
[ (1) ] هم بنو أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان. منهم معقل بن سنان بن مظاهر بن عركيّ ابن فتيان بن سبيع بن أشجع بن ريث.
* (لسان العرب) : 8/ 175، (جمهرة أنساب العرب) : 249- 250، (اللباب) :
1/ 64، (سبائك الذهب) : 270.
[ (2) ] هو معقل بن سنان الأشجعي، له صحبة ورواية، حمل لواء أشجع يوم الفتح، وهو راوي قصة «بروع» ، وكان من كبار أهل الحرة، أسر فذبح صبرا يوم الحرّة، وله نيف وسبعون سنة، قتل في سنة ثلاث وستين.
أخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، في النكاح: باب إباحة التزوج بغير صداق، والترمذي في الرضاع: باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها، وابن ماجة في النكاح، من طريق الشعبي عن مسروق، عن عبد اللَّه، في رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق، فقال: لها الصداق كاملا، وعليها العدة، ولها الميراث، فقال معقل بن سنان:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قضى في بروع بنت واشق. وإسناده صحيح، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي.
* (مسند أحمد) : 3/ 474، (طبقات ابن سعد) : 4/ 282- 283، (التاريخ الكبير) :
7/ 391، (المعارف) : 298، (الجرح والتعديل) : 8/ 284، (تهذيب التهذيب) :
10/ 210 (الإصابة) : 6/ 181- 183، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 45، (شذرات الذهب) : 1/ 71، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 576- 577، (تاريخ الصحابة) : 239.
[ (3) ] هو نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيس بن ثعلبة بن قنفذ بن خلادة بن سبيع بن بكر بن أشجع بن ريث ابن غطفان، الغطفانيّ، الأشجعيّ، الصحابيّ، أبو سلمة، أسلم في وقعة الخندق، وهو الّذي أوقع الخلف بين قريظة وغطفان وقريش يوم الخندق، وخذل بعضهم عن بعض، وأرسل اللَّه تعالى عليهم ريحا وجنودا لم يروها.
وقيل: إنه الّذي نزلت فيه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ يعني نعيم بن مسعود وحده، كني عنه وحده بالناس في قول طائفة من أهل التفسير. قال بعض أهل المعاني: إنما قيل ذلك، لأن كلّ واحد من الناس يقوم مقام الآخر في مثل ذلك وقد قيل في تأويل الآية غير ذلك. سكن نعيم بن مسعود المدينة، ومات في خلافة، عثمان، يوم الجمل مع عليّ، رضي اللَّه عنهم.
* (تهذيب التهذيب) : 10/ 415- 416، (الثقات) : 3/ 415، (رجال أنزل اللَّه فيهم قرآنا) : 1/ 106- 107، 4/ 197، 198، 199، (تاريخ الصحابة) : 250، (الاستيعاب) : 1508، 1509، (الإصابة) : 6/ 461، (تهذيب الأسماء واللغات) :
2/ 131، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 98.

(1/376)


[من هؤلاء؟ قال: بنو أشجع. قال] [ (1) ] : هؤلاء كانوا أشدّ العرب على محمد! فال العباس: أدخل اللَّه قلوبهم الإسلام، فهذا من فضل اللَّه.

كتيبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فلما طلعت كتيبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخضراء، طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل، ومرّ الناس حتى مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ناقته القصواء بين أبي بكر [ (2) ]
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] هو عبد اللَّه بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ، وفي «مرّة» يلتقي نسبه مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
واسم أمه: أم الخير، سلمي بنت صخر بن عامر، ماتت مسلمة.
وفي تسميته بعتيق ثلاثة أقوال: أحدهما،
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نظر إليه فقال: هذا عتيق من النار.
والثاني أنه اسم سمّته به أمه. الثالث: أنه سمّي به لجمال وجهه. وكان رضي اللَّه عنه أبيض نحيفا، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، يخضب شيبة بالحناء والكتم. وكان أول من آمن من الرجال. وعن عائشة قالت: ما أسلم أحد من المهاجرين إلا أبو بكر.
وجاء أنه اتّجر إلى بصري غير مرة، وأنه أنفق أمواله على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي سبيل اللَّه.
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافيه اللَّه بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإنّ صاحبكم خليل اللَّه» .
قال حسان بن ثابت، وابن عباس، وأسماء بنت أبي بكر، وإبراهيم النّخعيّ: أول من أسلم أبو بكر.
وكان له من الولد: عبد اللَّه، وأسماء ذات النطاقين وأمّهما قتيلة. وعبد الرحمن وعائشة، أمهما أم رومان. ومحمد، أمه أسماء بنت عميس. وأم كلثوم، أمها حبيبة بنت خارجة بن زيد، وكان أبو بكر لما هاجر إلى المدينة نزل على «خارجة» فتزوج ابنته.
فأما عبد اللَّه: فإنه شهد الطائف. وأما أسماء: فتزوجها الزبير فولدت له عدّة ثم طلقها، فكانت مع ابنها عبد اللَّه إلى أن قتل، وعاشت مائة سنة، وأما عبد الرحمن: فشهد يوم بدر مع المشركين ثم أسلم. وأما محمد: فكان من نساك قريش، إلا أنه أعان على عثمان يوم الدار، ثم ولّاه علي ابن أبي طالب مصر، فقتله هناك صاحب معاوية. وأما أم كلثوم: فتزوجها طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه.
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاء الصريخ إلى أبي بكر، فقيل له: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وإنّ له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ (28/ غافر) قال: فلهوا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأقبلوا إلى أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر، فجعل لا يمسّ شيئا من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
(الغدائر) : الضفائر. ذكر أهل العلم بالتواريخ والسّير، أن أبا بكر شهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بدرا وجميع المشاهد، ولم يفته منها مشهد، وثبت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد حين انهزم الناس، ودفع

(1/377)


__________
[ () ] إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رايته العظمى يوم تبوك، وأنه كان يملك يوم أسلم أربعين ألف درهم، فكان يعتق منها ويقوي المسلمين، وهو أول من جمع القرآن، وتنزّه عن شرب المسكر في الجاهلية والإسلام، وهو أول من قاء تحرجا من الشبهات.
وذكر محمد بن إسحاق أنه أسلم على يده من العشرة خمسة: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد اللَّه، والزبير، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنهم.
عن أبي سعيد قال: خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: «إن اللَّه عزّ وجلّ خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عنده» . فبكى أبو بكر رحمة اللَّه عليه، فعجبنا من بكائه أن أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من عبد خيّر، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي عزّ وجلّ لاتخذت أبا بكر، لكن أخوّة الإسلام ومودته، لا يبقى في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر.
أخرجاه في الصحيحين، البخاري في باب قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر» ، ومسلم في باب من فضائل أبي بكر الصديق.
وعن الحسن قال: قال عليّ عليه السلام: لما قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد قدّم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لديننا، فقدمنا أبا بكر.
وقالت عائشة: لما استخلف أبو بكر ألقى كل دينار ودرهم عنده في بيت المال وقال: قد كنت أتّجر فيه وألتمس به، فلما وليتهم شغلوني. وأخرج ابن سعد نحوه من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: لما ولي أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتى لم تكن لتعجز عن مؤنة أهلي وقد شغلت بأمر المسلمين، وسأحترف للمسلمين في مالهم، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما ولي أبو بكر خطب الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد أيها الناس، قد وليت أمركم ولست بخيركم، ولكن قد نزل القرآن، وسنّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم السّنن فعلمنا، اعلموا أن أكيس الكيس التقوى، وأن أحمق الحمق الفجور، إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق، أيها الناس، إنما أنا متّبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني.
وعن عائشة قالت: لما مرض أبو بكر مرضه الّذي مات فيه قال: انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي، فنظرنا فإذا عبد نوبيّ (نسبة إلى بلاد النوبة جنوبيّ مصر) كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح (بعير يستقي عليه) كان يسقي بستانا له، فبعثنا بهما إلى عمر. قالت: فأخبرني جدي أن عمر بكى وقال: رحمة اللَّه على أبي بكر، لقد أتعب من بعده تعبا شديدا. روي أبو بكر رضي اللَّه عنه مائة حديث واثنين وأربعين حديثا.
وتوفي أبو بكر ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء، لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين، وأوصي أن تغسّله أسماء زوجته، فغسّلته، وأن يدفن إلى جنب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصلى عليه عمر بين القبر والمنبر، ونزل في حفرته ابنه عبد الرحمن، وعمر، وعثمان، وطلحة بن عبيد اللَّه. رحمه اللَّه ورضي عنه، وحشرنا في زمرته، وأماتنا على سنته ومحبته.
* (طبقات ابن سعد) : 3/ 169- 213، (تاريخ الطبري) : 2/ 314، (المعارف) :
167- 178، (تاريخ الإسلام) : 3/ 105- 122، (صفة الصفوة) : 1/ 123- 139،

(1/378)


وأسيد بن حضير [ (1) ]- وهو يحدثهما-، ومعه المهاجرون [ (2) ] والأنصار، - فيها الرايات والألوية، مع كل بطن من بطون الأنصار راية ولواء- في الحديد لا يرى
__________
[ () ] (معجم البلدان) : 5/ 356- 357، (لسان العرب) : 2/ 619 (مادة نضح) ، 5/ 11 (مادة غدر) ، (مسلم بشرح النووي) : 15/ 158 كتاب (44) باب (1) حديث رقم (2) ، (صحيح سنن الترمذي) : 3/ 200 باب (52/ 33) حديث رقم (2894) ، (صحيح ابن ماجة) : 1/ 22 باب (11) حديث رقم (77) ، (السلسلة الصحيحة) : حديث رقم (278) ، (شذرات الذهب) : 1/ 24، (تاريخ الخلفاء) : 21- 85، (العقد الفريد) : 3/ 90- 91، 176، (تلقيح الفهوم) : 104- 106، (أسماء الصحابة الرواة) : 57.
[ (1) ] هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن نافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، الإمام أبو يحيى، وقيل: أبو عتيك الأنصاريّ، الأوسي، الأشهليّ، أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة.
أسلم قديما، وما شهد بدرا، وقال ابن عبد ربه: شهد بدرا، وكان أبوه شريفا مطاعا، يدعى حضير الكتائب، وكان رئيس الأوس يوم بعاث، فقتل يومئذ قبل عام الهجرة بستّ سنين، وكان أسيد يعد من عقلاء الأشراف وذوي الرأي.
قال محمد بن سعد: آخى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين زيد بن حارثة، وله رواية أحاديث روت عنه عائشة، وكعب بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلي. ولم يلحقه.
وذكر الواقدي أنه قدم الجابية مع عمر، وكان مقدما على ربع الأنصار، وأنه ممن أسلم على يد مصعب بن عمير، هو وسعد بن معاذ.
قال أبو هريرة: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أسيد بن حضير» أخرجه الترمذي،
وإسناده جيد، وروي أن أسيدا كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن.
وقال ابن إسحاق: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه عن عائشة قالت: ثلاث من الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد ابن حضير، وعباد بن بشر.
مات رضي اللَّه عنه في شعبان سنة عشرين، وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، ودفن بالبقيع.
* (تاريخ الصحابة) : 30، (العقد الفريد) : 3/ 327، (أسماء الصحابة الرواة) : 129، (صحيح سنن الترمذي للألباني) : 3/ 228، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 340- 343، (الثقات) : 3/ 6- 7، (الإصابة) : 1/ 83- 84، (الاستيعاب) : 1/ 92- 94، (طبقات ابن سعد) : 3/ 603- 607، (خلاصة تذهيب الكمال) : 1/ 98، (الوافي بالوفيات) : 9/ 258، (تهذيب التهذيب) : 1/ 303- 304، (الجرح والتعديل) :
2/ 310، (صفة الصفوة) : 1/ 259- 261، (التاريخ الكبير) : 2/ 47، (البداية والنهاية) : 7/ 116، (مسند أحمد) : 4/ 226، (التاريخ الصغير) : 1/ 46، (شذرات الذهب) : 1/ 31، (تاريخ الإسلام) : 2/ 294، 295، 297، 304، 490، (كنز العمال) : 13/ 277- 281، (مرآة الجنان) : 1/ 76، (تلقيح الفهوم) : 162.
[ (2) ] في (خ) : «المهاجرين» .

(1/379)


منهم إلى الحدق، ولعمر بن الخطاب [ (1) ]
__________
[ (1) ] هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤيّ، أمير المؤمنين، أبو حفص، القرشيّ، العدويّ، الفاروق، أسلم في السنة السادسة من النبوة، وله سبع وعشرون سنة.
أمّه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، المخزومية، وقيل: حنتمة بنت هشام، أخت أبي جهل. ولد عمر رضي اللَّه عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة. وقيل: ولد بعد الفجار الأعظم بأربع سنين، قبل المبعث النبوي بثلاثين سنة، وقيل: غير ذلك.
وكان من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة في الجاهلية، فكانت قريش إذا وقعت الحرب بينهم- أو بينهم وبين غيرهم- بعثوه سفيرا: أي رسولا، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر، بعثوه منافرا أو مفاخرا.
أسلم قديما بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة، وقيل: بعد تسعة وثلاثين رجلا وثلاث وعشرين امرأة، وقيل: غير ذلك، فما هو إلا أن أسلم، فظهر الإسلام بمكة، وفرح به المسلمون.
وهو أحد السابقين الأولين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد أصهار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأحد كبار علماء الصحابة وزهّادهم. روي له عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثا.
روي عنه عثمان بن عفان، وعلي، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود، وأبو ذر الغفاريّ، وعمرو بن عبسة، وابنه عبد اللَّه، وابن عباس، وابن الزبير، وأنس، وأبو هريرة وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدريّ، وآخرون.
أخرج الترمذي عن ابن عمر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «اللَّهمّ أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام» . وأخرج الحاكم عن ابن عباس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «اللَّهمّ أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة» .
وأخرج أحمد عن عمر قال: خرجت أتعرض لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: واللَّه هذا شاعر كما قالت قريش، فقرأ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (الحاقة: 40- 41) فوقع في قلبي الإسلام كل موقع، وقصة إسلامه معروفة، نمسك عن ذكرها لطولها واشتهارها.
وقيل لأبي بكر في مرضه: ماذا تقول لربك وقد وليت عمر؟ قال: أقول له: وليت عليهم خيرهم.
أخرجه ابن سعد.
وأخرج الشيخان عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول اللَّه لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (البقرة/ 125) ، وقلت: يا رسول اللَّه، يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الغيرة، فقلت: عسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزوجا خيرا منكن، فنزلت كذلك.
قال أبو عبد اللَّه الشيبانيّ في (فضائل الإمامين) : وافق عمر ربه في أحد وعشرين موضعا، فذكرها، وقد أمسكنا عن ذكرها خشية الإطالة.
وأخرج البيهقي وأبو نعيم- كلاهما في دلائل النبوة- عن نافع عن ابن عمر، قال: وجّه عمر

(1/380)


__________
[ () ] جيشا، ورأس عليهم رجلا يدعى سارية، فبينما عمر يخطب، جعل ينادي: يا سارية الجبل، ثلاثا، ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينا نحن كذلك إذا سمعت صوتا ينادي: يا سارية الجبل، ثلاثا، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم اللَّه! قيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك، وذلك الجبل الّذي كان سارية عنده وفد من أرض العجم. قال ابن حجر في الإصابة:
إسناده حسن.
وقال خزيمة بن ثابت: كان عمر إذا استعمل عاملا كتب له، واشترط عليه أن لا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل فقد حلّت عليه العقوبة.
ولي الخلافة بعهد من أبي بكر في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، قال الزهري: استخلف عمر يوم توفي أبو بكر، يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة. أخرجه الحاكم، فقام بالأمر أتمّ قيام وكثرت الفتوح في أيامه.
وقال أبو رافع: كان أبو لؤلؤة مولى المغيرة يصنع الأرحاء (جمع رحى) ، وكان المغيرة يستغلّه كل يوم أربعة دراهم، فلقى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة قد أثقل عليّ فكلّمه، فقال:
أحسن إلى مولاك- ومن نية عمر أن يكلم المغيرة فيه- فغضب وقال: يسع الناس كلّهم عدله غيري، وأضمر قتله، واتخذ خنجرا، وشحذه وسمّه، وكان عمر يقول: «أقيموا صفوفكم» قبل أن يكبّر، فجاء فقام حذاءه في الصف، وضربه في كتفه وفي خاصرته فسقط عمر، وطعن ثلاثة عشر رجلا معه، فمات منهم ستة.
وحمل عمر إلى أهله، وكادت الشمس تطلع، فصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس بأقصر سورتين (الكوثر والنصر) . وأتي عمر بنبيذ فشربه، فخرج من جرحه، فلم يتبين، فسقوه لبنا، فخرج من جرحه، فقالوا: لا بأس عليك، فقال-: إن يكن بالقتل بأس فقد قتلت، فجعل الناس يثنون عليه ويقولون: كنت وكنت، فقال: أما واللَّه وددت أني خرجت منها كفافا لا عليّ ولا لي، وأن صحبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سلمت لي.
وأثنى عليه ابن عباس فقال: لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع، وقد جعلتها شورى في عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد. وأمر صهيبا أن يصلى بالناس. أخرجه الحاكم. وقال ابن عباس: كان أبو لؤلؤة مجوسيا.
وقال عمرو بن ميمون: قال عمر: الحمد للَّه الّذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام، ثم قال لابنه: يا عبد اللَّه، انظر ما عليّ من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوها، فقال:
إن وفى مال آل عمر فأدّه من أموالهم، وإلا فاسأل في بني عدي، فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش.
اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فقل: يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه، فذهب إليها فقالت: كنت أريده- تعني المكان- لنفسي، ولأوثرنّه اليوم على نفسي، فأتي عبد اللَّه فقال: قد أذنت، فحمد اللَّه تعالى، وقيل له: أوصي يا أمير المؤمنين واستخلف، قال: ما أرى أحدا أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو عنهم راض، فسمي الستة.
وأما أوّليات عمر رضي اللَّه عنه:
* فهو أول من سمي أمير المؤمنين. * وأول من كتب التاريخ من الهجرة.
* وأول من اتخذ بيت المال. * وأول من سنّ قيام شهر رمضان في جماعة.

(1/381)


فيها زجل [ (1) ] ، وعليه الحديد، وهو يزعها [ (2) ] فقال أبو سفيان: لقد أمر أمر بني عدّي [ (3) ] بعد قلة وذلة! فقال العباس: إن اللَّه يرفع ما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام.

مقالة سعد بن عبادة لأبي سفيان
وكان في الكتيبة ألف دارع: وسعد بن عبادة يحمل راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمام الكتيبة، فنادى: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ اللَّه قريشا! فنادى أبو سفيان- عند ما حاذاه النبي عليه السلام- يا رسول اللَّه، أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه كذا- وذكر ما قاله سعد- وإني أنشدك اللَّه في قومك! فأنت أبرّ الناس، وأرحم الناس وأوصل الناس!!.
__________
[ () ] * وأول من عسّ بالليل. * وأول من عاقب على الهجاء.
* وأول من ضرب في الخمر ثمانين. * وأول من حرّم المتعة.
* وأول من نهي عن بيع أمهات الأولاد. * وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات.
* وأول من اتخذ الديوان.
* وأول من فتح الفتوح ومسح السواد.
* وأول من حمل الطعام من مصر في بحر أيلة إلى المدينة. * وأول من احتبس صدقة في الإسلام.
* وأول من أعال الفرائض. * وأول من أخذ زكاة الخيل. * وأول من قال: أطال اللَّه بقاءك. * وأول من قال: أيّدك اللَّه (قالها لعليّ) . * وهو أول من اتخذ الدّرّة، ولقد قيل بعده: لدرّة عمر أهيب من سيفكم. * وهو أول من استقضى القضاة في الأمصار. * وهو أول من مصّر الأمصار: الكوفة، والبصرة، والجزيرة، والشام، ومصر.
أصيب عمر رضي اللَّه عنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة، ودفن يوم الأحد مستهلّ المحرم الحرام، وله ثلاث وستون سنة، وقيل-: ستون، ورجحه الواقديّ، وصلى عليه صهيب في المسجد.
وفي تهذيب المزني: كان نقش خاتم عمر «كفى بالموت واعظا يا عمر» وأخرج الطبرانيّ عن طارق ابن شهاب قال: قالت أم أيمن يوم قتل عمر: اليوم وهي الإسلام.
وأخرج عبد الرحمن بن يسار قال: شهدت موت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، فانكسفت الشمس يومئذ. رجاله ثقات.
* (تاريخ الخلفاء) : 86- 117، (الإصابة) : 4/ 588- 591 (ترجمة رقم 5740) ، (حلية الأولياء) : 1/ 38- 55، (الاستيعاب) : 3/ 1144- 1159 (ترجمة رقم 1878) ، (جمهرة أنساب العرب) : 150- 156، (المستدرك) : 3/ 86- 101، (صفة الصفوة) : 1/ 139- 153، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 3- 14، (مرآة الجنان) :
1/ 78- 82، (شذرات الذهب) : 1/ 33- 34، (تاريخ الإسلام) : 2/ 253- 284.
[ (1) ] زجل: جلبة وصوت.
[ (2) ] يكفها عن التفرق والانتشار.
[ (3) ] أمر أمره: ارتفع شأنه.

(1/382)


عزل سعد راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول اللَّه! ما نأمن من سعد أن تكون منه في قريش صولة.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أبا سفيان! اليوم يوم الرحمة [ (1) ] ، اليوم أعزّ اللَّه فيه قريشا!
وأرسل إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، فأبى سعد أن يسلم اللواء إلا بأمارة، فأرسل صلّى اللَّه عليه وسلّم بعمامته، فدفع اللواء إلى ابنه قيس. ويقال: دخل سعد بلوائه حتى غرزه بالحجون. ويقال إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر عليا فأخذ الراية، فذهب علي بها حتى دخل بها مكة فغرزها عن الركن، وقيل: بل أمر الزبير بن العوام فأخذ اللواء [ (2) ] وصححه جماعة.

مقالة أبي سفيان حين رأى ما رأى
وقال أبو سفيان: ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط، ولا خبّرنيه مخبر! ما لأحد به طاقة ولا يدان! لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! فقال له العباس:
يا أبا سفيان! ليس بملك ولكنه نبوّة. قال: فنعر [ (3) ] ! قال فانج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم.

خروج أبي سفيان إلى مكة وما كان منه
فخرج أبو سفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل مكة من كداء وهو يقول:
من أغلق بابه فهو آمن! حتى انتهى إلى هند بنت عتبة فأخذت برأسه فقالت:
ما وراءك؟ قال: هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد. وقد جعل لي: من دخل داري فهو آمن! قالت: قبحك اللَّه رسول قوم! وجعل يصرخ بمكة! يا معشر قريش! ويحكم! إنه قد جاء ما لا قبل لكم به! هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد فأسلموا تسلموا! قالوا! قبحك اللَّه وافد قوم! وجعلت هند تقول: اقتلوا وافدكم هذا، قبحك اللَّه وافد قوم! فيقول! ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم! رأيت ما لم تروا [ (4) ] رأيت الرجال والكراع والسلاح، فما لأحد [ (5) ]
__________
[ (1) ] في (الواقدي) ج 2 ص 822 «اليوم يوم المرحمة» .
[ (2) ] راجع (زاد المعاد) ج 3 ص 404.
[ (3) ] نعر: صوّت صوتا شديدا من خيشومه.
[ (4) ] في (خ) «ما لا تروا» .
[ (5) ] في (خ) «مال أحد» .

(1/383)


بهذا طاقة!

خبر العباس في مكة
وذكر عمر بن شبّة [ (1) ] : أن العباس ركب بغلة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مر [الظهران] [ (2) ] ليدعو أهل مكة فقدمها وقال: يا أهل مكة أسلموا تسلموا. قد استبطنتم بأشهب بازل [ (3) ] ، وأعلمهم بمسير الزبير من أعلى مكة، ومجيء خالد ابن الوليد من أسفلها لقتالهم، ثم قال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

موقف المسلمين
وانتهى المسلمون إلى ذي طوى، فوقفوا ينظرون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى تلاحق الناس، وقد كان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو دعوا إلى القتال، واجتمع إليهم- من قريش وغيرهم- جماعة عليهم السلاح، يحلفون باللَّه لا يدخلها محمد عنوة أبدا.

دخول رسول اللَّه مكة
وأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في كتيبته الخضراء- على ناقته القصواء، معتجرا بشقّة برد حبرة، [وفي رواية: وهو معتجر بشقة برد أسود] ، وعليه عمامة سوداء، ورايته سوداء، ولواؤه أسود- حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس، وإن عثنونه [ (4) ] ليمسّ واسطة الرّحل أو يقرب منه، تواضعا للَّه تعالى حين رأى ما رأى من فتح اللَّه وكثرة المسلمين، ثم
قال: العيش عيش الآخرة.
__________
[ (1) ] في (خ) «عمرو بن شيبة» .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] استيطان الوادي: دخول بطنه، الأشهب الأبيض: الجيش، والبازل: البعير الّذي أتم السنة الثامنة، وهي تمام قوته، والمعني أنّكم رميتم بهذا الجيش الصعب الّذي لا طاقة لكم به.
[ (4) ] العثنون: اللحية، أو ما فضل منها بعد العارضين، أو ما نبت على الذقن وتحته سفلا، أو هو طولها.
(ترتيب القاموس) ج 3 ص 165.

(1/384)


مداخل المسلمين إلى مكة
وأمر الزبير بن العوام أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأن ينصب رايته بالحجون، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من اللّيط: وهي كداء من أسفل مكة.
[ويقال: بعث الزبير بن العوام من أعلى مكة، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كداء] . ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أذخر.

النهى عن القتال
ونهى عن القتال. ويقال: بل أمرهم بقتال من قتالهم، فتراموا بشيء من النبل. فظهر عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأمن الناس إلا خزاعة عن [ (1) ] بني بكر. وذكر جماعة أنه لم يؤمّنهم. وقيل: أمر بقتل ستة نفر، وأربع نسوة: عكرمة بن أبي جهل، وهبّار بن الأسود، وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نقيذ [ (2) ] بن بجير بن عبد قصيّ، وهلال بن عبد اللَّه بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كبير بن تيّم بن غالب بن فهر [ (3) ] ، فتيم هو الأدرم [ (4) ] [وعبد بن عبد مناف هو خطل بن خطل الأدرميّ] . وهند بنت عتبة بن ربيعة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وقينتين لابن خطل: قرينا وقريبة، ويقال فرتنا وأرنبة.

قتال خالد بن الوليد
فكل الجنود دخل فلم يلق جمعا، إلا خالد بن الوليد، فإنه وجد جمعا من قريش وأحابيشها: فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول، وشهروا السلاح، ورموا بالنبل، وقالوا: لا تدخلها عنوة أبدا. فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلا من قريش، وأربعة من هذيل، [وقيل: بل قتل من المشركين ثلاثة عشر رجلا] ،
__________
[ (1) ] في (خ) «غير» .
[ (2) ] في (خ) «نفيد» ، وبعد هذا في (خ) «وابن بجير» والصواب حذف واو العطف.
[ (3) ] في (خ) «فهم» .
[ (4) ] في (خ) بعد قوله: «هو الأدرم» ما نصه (عبد اللَّه بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كبير بن تيم بن غالب بن فهم) وهو تكرار من الناسخ.

(1/385)


وانهزموا أقبح هزيمة. وقتل من المسلمين ثلاثة.

خبر راعش المشرك
وكان راعش [ (1) ] ، أحد بني صاهلة الهذليّ، [وقيل: حماس [ (2) ] بن قيس بن خالد أحد بني بكر] ، يعدّ سلاحا، فقالت له امرأته: لم تعدّ ما أرى؟ قال:
لمحمد وأصحابه! فقالت له: ما أرى أن يقوم لمحمد وأصحابه شيء! فقال: واللَّه إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال [ (3) ] :
إن تقدموا اليوم فما بي علة ... هذا سلاح كامل وألّة [ (4) ]
وذو غرارين سريع السّله [ (5) ]

هزيمة المشركين
ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل، فهزمهم خالد بن الوليد، فمرّ حماس [ (6) ] منهزما حتى دخل بيته، وقال لامرأته: أغلقي عليّ بابي! فقالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال [ (7) ] :
إنك إن شهدت يوم الخندمة ... إذ فرّ صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة ... يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلفنا وهمهمه
__________
[ (1) ] في (ابن هشام) ج 4 ص 37 (الرعاش الهذلي) .
[ (2) ] المرجع السابق ص 38، (البداية والنهاية) : ج 4 ص 339.
[ (3) ] في المرجع السابق: «إن يقبلوا اليوم فما لي علّة» .
[ (4) ] الألّة: الحربة ذات السنان الطويلة.
[ (5) ] غرارين: حدّين.
[ (6) ] في (خ) «خماس» .
[ (7) ] هذه الأبيات في (ابن هشام ج 4 ص 38، وفي (البداية والنهاية) ج 4 ص 339، 340:
إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة ... واستبقلتهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة ... ضربا فلا يسمع إلا غمغمة
لهم نهيت خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
وفي (الواقدي) : ج 2 ص 827، 828:
وأنت لو شهدتنا بالخندمة ... إذا فرّ صفوان وفرّ عكرمة
وأبو يزيد كالعجوز المؤتمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
وضربتنا بالسيوف المسلمة ... لهم زئير خلفنا وغمغمة

(1/386)


لم تنطقي في اللوم [ (1) ] أدنى كلمه

التأمين
واتبعهم المسلمون، وأبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش! علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن. ومن وضع السلاح فهو آمن! فاقتحم الناس الدور وأغلقوا عليهم الأبواب، وطرحوا السلاح في الطّرق، فأخذها المسلمون، ويروي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عقد لأبي رويحة عبد اللَّه بن عبد الرحمن- أحد الفزع بن شهران بن عفرس بن خلف بن أفل [وهو خثعم]- لواء وأمره أن ينادي: من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن.

قتال خالد بن الوليد
ولما ظهر [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ثنية أذاخر، نظر إلى البارقة [ (3) ] فقال: «ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال؟» فقيل: يا رسول اللَّه، خالد بن الوليد قوتل، ولو لم يقاتل ما قاتل! فقال: «قضاء اللَّه خير» .

ابن خطل
وأقبل ابن خطل من أعلى مكة في الحديد على فرس بيده قناة، وبنات سعيد ابن العاص قد نشرن رءوسهن ويضربن بخمرهن [ (4) ] وجوه الخيل، فقال لهن: أما واللَّه لا يدخلها محمد حتى ترين ضربا كأفواه المزاد [ (5) ] ! فلما انتهى إلى الخندمة،
__________
[ () ] ومن معاني هذه الأبيات:
النهيت والهمهمة، أصوات الأبطال في الحرب.
الزئير: صوت الأسد.
أبو يزيد: هو سهيل بن عمرو.
المؤتمة: المرأة التي قتل زوجها فبقي لها أيتام.
[ (1) ] في (خ) «في اليوم» .
[ (2) ] ظهر: ارتفع عليها.
[ (3) ] البارقة: بريق السلاح ولمعانه.
[ (4) ] الخمر: جمع خمار: وهو غطاء الرأس عند المرأة.
[ (5) ] المزاد: جمع مزادة، هي كقربة للماء، المعنى أنه يريد ضربا يتفجر منه الدم كما يتفجر الماء من المزاد إذا أرسل فوه.

(1/387)


ورأى خيل المسلمين وقتالهم، دخله رعب حتى ما يستمسك من الرّعدة، فانتهى إلى الكعبة فنزل، وطرح سلاحه، ودخل بين أستارها. فأخذ رجل من بني كعب درعه ومغفره وبيضته وسيفه وفرسه، ولحق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحجون.

دخول الزبير مكة
وأقبل الزبير بمن معه حتى انتهوا إلى الحجون، فغرز به الراية. ولم يقتل من المسلمين إلا رجلان [ (1) ] أخطئا الطريق، هما: كرز بن جابر الفهريّ، وخالد الأشعري الخزاعيّ.

منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة
ولما أشرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أذاخر فنظر بيوت مكة، وقف فحمد اللَّه وأثنى عليه، ونظر إلى موضع قبّته فقال: هذا منزلنا يا جابر، حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها!
وكان أبو رافع قد ضرب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحجون قبة من أدم، فأقبل حتى انتهى إلى القبة في يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان، وقيل لثلاث عشرة [ (2) ] مضت من رمضان. فمضى الزّبير بن العوام برايته حتى ركزها عند قبّة رسول اللَّه، وكان معه أم سلمة وميمونة رضي اللَّه عنهما.
وقيل: يا رسول اللَّه، ألا تنزل منزلك من الشّعب؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلا؟
وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومنزل إخوته، والرجال والنساء بمكة
فقيل: يا رسول اللَّه، فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك، فقال: لا أدخل البيوت.
فلم يزل مضطربا [ (3) ] بالحجون لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد من الحجون لكل صلاة.

خبر إجارة أم هانئ عبد اللَّه بن أبي ربيعة والحارث بن هشام
وكانت أم هانئ بنت أبي طالب تحت [ (4) ] هبيرة بن أبي وهب المخزوميّ، فدخل
__________
[ (1) ] في (خ) «إلا رجلين» وهو خطأ، وما أثبتناه حق اللغة.
[ (2) ] في (خ) جملة «وقيل لثلاث عشرة» مكررة.
[ (3) ] مضطربا: ضاربا قبته.
[ (4) ] في (خ) «تحب» ، والتصويب من (المغازي) ج 2 ص 829.

(1/388)


عليها حموان لها- عبد اللَّه بن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر [ (1) ] ابن مخزوم المخزومي، والحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر [ (1) ] ابن مخزوم- يستجيران بها فأجارتهما.
فدخل عليها أخوها على بن أبي طالب يريد قتلهما، وقال: تجيرين المشركين؟ فحالت دونهما وقالت: واللَّه لتبدأنّ بي قبلهما! فخرج ولم يكد، فأغلقت عليهما بيتا، وذهبت إلى خباء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبطحاء، فشكت إلى فاطمة عليها السلام عليا فلم تشكها، وقالت لها: لم تجيرين المشركين؟
وإذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه [ (2) ] رهجة الغبار [ (3) ] ، فقال: مرحبا بفاختة أم هانئ، فقالت: ماذا لقيت من ابن أمّي علي! ما كدت أنفلت منه! أجرت حموين لي من المشركين، فتفلّت عليهم ليقتلهما، فقال: ما كان ذلك له! قد أمنّا من أمّنت، وأجرنا من أجرت. ثم أمر فاطمة عليها السلام فسكبت له ماء فاغتسل، وصلى ثماني ركعات في ثوب واحد ملتحفا به، وذلك ضحى. ورجعت أم هانئ فأخبرتهما، فأقاما عندها يومين ثم مضيا. وأتى آت فقال: يا رسول اللَّه: الحارث ابن هشام وابن أبي ربيعة جالسان في ناديهما في الملاء المزعفر [ (4) ] ! فقال: لا سبيل إليهما فقد أمّناهما.

تجهّز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للطواف بالبيت
ومكث صلّى اللَّه عليه وسلّم في منزله ساعة من نهار، واغتسل وضفر رأسه ضفائر أربع، [وقيل: بل اغتسل في بيت أم هانئ بمكة] ، وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى، وذلك في الصحيحين [ (5) ] ، وزاد أبو داود: سلّم من كلّ ركعتين ثم لبس السلاح ومغفرا من حديد، وقد صف له الناس، وركب القصواء ومرّ وأبو بكر رضي اللَّه عنه إلى جنبه يحادثه، وعبد اللَّه بن أم مكتوم بين يديه من بين الصفا والمروة
وهو يقول:
يا حبذا مكة من وادي ... [أرض] بها أهلي وعوّادي [ (6) ]
__________
[ (1) ] في (خ) «عمرو» .
[ (2) ] في (خ) «عليها» .
[ (3) ] رهجة الغبار: آثار الغبار.
[ (4) ] الملاء جمع ملاءة: وهي للربطة (ترتيب القاموس ج 4 ص 274 والمزعفر: الأسد الورد والفالوذ (المرجع السابق) ج 2 ص 453.
[ (5) ] صحيح البخاري ج 3 ص 62.
[ (6) ] ما بين الأقواس زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 141.

(1/389)


[أرض] بها أمشي بلا هادي ... [أرض] بها ترسخ أوتادي [ (1) ]
حتى انتهى إلى الكعبة: فتقدم على راحلته فاستلم الركن بمحجته وكبّر، فكبّر المسلمون لتكبيره حتى ارتجت مكة تكبيرا. فأشار إليهم أن اسكتوا! والمشركون فوق الجبال ينظرون.

الأصنام التي حول الكعبة
ثم طاف، ومحمد بن مسلمة [ (2) ] آخذ بزمامها، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما مرصصة بالرّصاص- وهبل أعظمها وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون-
فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلما مرّ بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا» .
فيقع الصنم لوجهه. فطاف سبعا يستلم الركن بمحجنه في كل طواف. فعطش صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ]- وكان يوما صائفا- فاستسقى [ (4) ] فأتى بقدح من شراب زبيب، فلما أدناه من فيه وجد له ريحا شديدة فردّه. ودعا بماء من زمزم فصبّه عليه حتى فاض من جوانبه، وشرب منه، ثم ناوله الّذي عن يمينه. فلما فرغ من [سبعة] [ (5) ] نزل عن راحلته، وجاء معمر بن عبد اللَّه بن نضلة فأخرج راحلته.
وانتهى رسول اللَّه إلى المقام- وهو يؤمئذ لاصق بالكعبة، والدّرع والمغفر عليه، وعمامة لها طرف بين كتفيه- فصلى ركعتين، ثم انصرف إلى زمزم فاطّلع فيها وقال: لولا أن يغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلوا!
فنزع له العباس بن عبد المطلب دلوا فشرب منه. ويقال: الّذي نزع الدلو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ولم يسع بين الصفا والمروة لأنه لم يكن يومئذ معتمرا.

كسر هبل
وأمر بهبل فكسّر وهو واقف عليه، فقال الزبير بن العوّام لأبي سفيان ابن حرب: يا أبا سفيان! قد كسر هبل! أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور،
__________
[ (1) ] في (خ) «ترنح» .
[ (2) ] في (خ) «سلمة» .
[ (3) ] ما بين القوسين في (خ) بعد قوله «صائفا» وهذا موضعه.
[ (4) ] استسقى: طلب أن يسقى.
[ (5) ] سبعة: الطواف سبعة أشواط.

(1/390)


حين تزعم أنه قد أنعم! فقال: دع عنك هذا يا ابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان.

خبر زمزم
ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجلس ناحية من [ (1) ] المسجد والناس حوله، فأتى بدلو من زمزم فغسل منها وجهه، فما يقع منه قطرة إلا في يد إنسان: إن كانت قدر ما يحسوها حساها، وإلا تمسح بها. والمشركون ينظرون، فقالوا: ما رأينا ملكا قطّ أعظم من اليوم. ولا قوما أحمق من القوم يتصل به.

إسلام قريش والبيعة
وجاءته قريش فأسلموا طوعا وكرها وقالوا: يا رسول اللَّه اصنع بنا صنع أخ كريم. فقال: أنتم الطلقاء! وقال مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. ثم اجتمعوا لمبايعته، فجلس على الصفا، وجلس عمر بن الخطاب أسفل مجلسه يأخذ على الناس، فبايعوا على السمع والطاعة للَّه ولرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما استطاعوا، فقال: لا هجرة بعد الفتح.

غسل الكعبة
وتجرد الرجال [ (2) ] من الأزر، ثم أخذوا الدّلو فغسلوا ظهر الكعبة وبطنها حتى انبعج [ (3) ] الوادي من الماء، فلم يدعوا فيه صورة ولا أثرا من آثار المشركين إلا محوه. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم لما جلس ناحية من المسجد، توضأ بسجل [ (4) ] من زمزم قريبا من المقام، والمسلمون يبادرون وضوءه يصبونه على وجوههم والمشركين يتعجبون ويقولون: ما رأينا ملكا قط بلغ هذا ولا شبيها به!

مفتاح الكعبة
ثم أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة ليأتيه بمفتاح الكعبة فمنعته أمه، حتى جاء
__________
[ (1) ] في (خ) «من من» مكررة.
[ (2) ] في (خ) «في» .
[ (3) ] في (خ) «إن بعج» .
[ (4) ] السّجل: الدلو الكبيرة.

(1/391)


أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، فدفعته إلى ابنها فأتى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. فلما تناولته
قال العباس: يا رسول اللَّه، اجمع لنا السقايا والحجابة. فقال عليه السلام:
«أعطيكم ما ترزءون فيه ولا أعطيكم ما ترزءون به»
[ (1) ] . وقيل بل جاء عثمان ابن طلحة بالمفتاح إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما بلغ رأس الثنية.

محو الصور
وقيل: بعث صلّى اللَّه عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه من البطحاء- ومعه عثمان ابن طلحة- ليفتح البيت، ولا يدع صورة إلا محاها، [ولا تمثالا] [ (2) ] ، فترك عمر صورة إبراهيم عليه السلام حتى محاها عليه السلام.

دخوله الكعبة
ودخل صلّى اللَّه عليه وسلّم الكعبة- ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة- فمكث فيها وصلى ركعتين، ثم خرج والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد يذبّ الناس عنه حتى خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوقف على باب البيت وأخذ بعضادتيه [ (3) ] ، وأشرف على الناس وفي يده المفتاح، ثم جعله في كمّه، وقال- وقد جلس الناس-:

خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على باب البيت
الحمد للَّه الّذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده: [يا معشر قريش] [ (4) ] : ماذا تقولون؟ وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت. فقال: فإنّي أقول كما قال أخي يوسف:
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم، أو مال، أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين
__________
[ (1) ]
يقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعطيكم ما يصيب الناس به من خير أموالكم، ولا أعطيكم ما تصيبون به من خير الناس.
[ (2) ] (المغازي) ج 2 ص 834.
[ (3) ] عضادتا الباب: الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه وشماله.
[ (4) ] زيادة للبيان.

(1/392)


إلا سدانة البيت وسقايا الحاج.
ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد، والدّية مغلظة مائة ناقة، منها أربعون في بطونها أولادها.
إن اللَّه قد أذهب نخوة الجاهلية وتكثرها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند اللَّه أتقاكم.
ألا إن اللَّه حرم مكّة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرام اللَّه، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحلّ لأحد كائن بعدي، ولم تحلّ لي إلّا ساعة من النهار [ (1) ] ، ألا لا ينفر صيدها، ولا يعضد عضاهها [ (2) ] ، ولا تحلّ لقطتها إلا لمنشد [ (3) ] ، ولا يختلى خلاها [ (4) ] ، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول اللَّه، فإنه لا بد منه للقبور وطهور البيوت! فسكت ساعة ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال.
ولا وصية لوارث: وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة تعطى من مالها إلا بإذن زوجها. والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، يتكافئون دماءهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومشدهم على مضعفهم [ (5) ] ومسيّرهم [ (6) ] على قاعدهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ولا جلب ولا جنب [ (7) ] . ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وأفنيتهم. ولا تنكح المرأة على
__________
[ (1) ] على معنى دخوله إياها من غير إحرام لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخلها وعليه عمامة سوداء، وقيل إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه (معالم السنن للخطابي) ج 2 ص 518، 519.
[ (2) ] العضاة: شجر عظام له شوك.
[ (3) ] المنشد: المعرّف الّذي يعرّف الضالة واللّقطة.
[ (4) ] أي لا ينزع حشيشها من بقول الربيع ما دام رطبا راجع (سنن أبي داود) : ج 2 ص 518، 519، 520، 521 باب تحريم حرم مكة الأحاديث أرقام 2017، 2018.
[ (5) ] المشدّ: ذو الدواب الشديدة. والمضعف: ذو الدواب الضعيفة.
[ (6) ] في (خ) «متسيرهم» ، والمسير الّذي خرج من بلده للغزو، والقاعد الّذي لم يخرج له.
[ (7) ] الجلب والجنب: هو أن يرسل في الحلبة فيجتمع له جماعة تصيح به ليرد عن وجهه، أو هو أن لا تجلب الصدقة إلى المياه والأمصار، ولكن يتصدق بها في مراعيها، أو أن ينزل العامل موضعا ثم يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها، أو أن يتبع الرّجل فرسه فيركض خلفه ويزجره ويجلب عليه. (ترتيب القاموس) ج 1 ص 509.

(1/393)


عمتها وخالتها [ (1) ] . والبينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر. ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم [ (2) ] . ولا صلاة بعد العصر ولا بعد الصبح.
وأنهاكم عن صيام يومين [ (3) ] : يوم الأضحى ويوم الفطر، وعن لبستين: لا يحتب أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصّماء [ (4) ] : ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها.

رد المفتاح إلى عثمان بن طلحة
ثم نزل ومعه المفتاح، فتنحى ناحية من المسجد فقال: ادعوا إليّ عثمان ابن طلحة، فدعي. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له يوما بمكة وهو يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان المفتاح، فقال: لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت! فقال له عثمان: لقد هلكت إذن قريش وذلت! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل عمرت وعزت يومئذ! فأقبل عثمان، فقال عليه السّلام: خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، ولا ينزعها منكم إلا ظالم! يا عثمان! إن اللَّه استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف. فلما ولي عثمان ناداه عليه السلام فرجع إليه، فقال له: ألم يكن الّذي قلت لك؟ فذكر عثمان قوله له بمكة، فقال: بلى أشهد أنك رسول اللَّه. فقال: قم على الباب، وكل بالمعروف. ودفع عليه السلام السقايا إلى العباس رضي اللَّه عنه.

معاتبة خالد بن الوليد من أجل قتاله
وقال لخالد بن الوليد رضي اللَّه عنه: لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ فقال:
__________
[ (1) ] (سنن ابن ماجة) ج 1 ص 621 حديث رقم 1929، 1930، 1931، (سنن أبي داود) ج 2 ص 553 حديث رقم 2065.
[ (2) ] (سنن أبي داود) ج 2 ص 348 حديث رقم 1727.
[ (3) ] (سنن أبي داود) ج 2 ص 802 حديث رقم 2416.
[ (4) ] اشتمال الصماء: (في النهاية) : هو أن يتجلل بثوبه ولا يرف منه جانبا، وأما قيل لها «صماء» لأنه يسد على يديه ورجليه المنافذ كلها. كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا صدع.
والفقهاء يقولون: هو أن يتغطى بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه، فتنكشف عورته. وعن الاحتباء: (في النهاية) :
هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليهما. وإنما نهي عنه لأنه إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد ربما تحرك، أو زال الثوب، فتبدو عورته. راجع (سنن ابن ماجة) ج 2 ص 1179 الأحاديث رقم 3559، 3560، 3561 باب ما نهي عنه من «اللباس» و (سنن أبي داود) ج 4 ص 342 حديث رقم 4081.

(1/394)


هم يا رسول اللَّه بدءونا بالقتال، ورشقونا بالنّبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوه، حتى إذا لم أجد بدا قاتلتهم، فظفرنا اللَّه عليهم وهربوا في كل وجه يا رسول اللَّه! فقال: فكف عن الطلب. قال: قد فعلت يا رسول اللَّه. قال: قضاء اللَّه خير.

النهي عن القتال إلا خزاعة عن بني بكر
ثم
قال: يا معشر المسلمين! كفّوا السلاح، إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر، فخبّطوهم ساعة.
وهي الساعة التي أحلّت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم تحلّ لأحد قبله. وقيل: خبّطوهم إلى نصف النهار وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى أن يقتل من خزاعة أحد.
وبعث تميم بن أسد الخزاعي فجدّد أنصاب الحرم. ودخل جنيدب بن الأدلغ [الهذليّ] [ (1) ] مكة يرتاد وينظر- والناس آمنون- فرآه جندب بن الأعجم [ (2) ] الأسلمي. فقال: جنيدب بن الأدلغ! قاتل أحمر [بأسا] [ (3) ] ! فقال: نعم فخرج جندب [بن الأعجم] يستجيش عليه حيّه، فلقي خراش بن أمية الكعبيّ فأخبره.
فاشتمل خراش على السيف ثم أقبل إليه- والناس حوله وهو يحدثهم- فحمل عليه فقتله، ويقال إنه قتله بالمزدلفة.

خطبته صلّى اللَّه عليه وسلّم لما كثر القتل بين خزاعة وبني بكر
فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتله، قام خطيبا- الغد من يوم الفتح بعد الظهر- فقال: يا أيها الناس، إن اللَّه حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، فهي حرام إلى يوم القيامة لا يحل لمؤمن يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يسفك فيها دما. ولا يعضد فيها شجرا، لم تحلّ لأحد كان قبلي، ولا تحلّ لأحد [يكون] [ (4) ] بعدي، ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار، ثم رجعت حرمتها بالأمس، فليبلغ شاهدكم غائبكم، فإن قال قائل: قد قاتل فيها رسول اللَّه! فقولوا: إن اللَّه قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم يا معشر خزاعة!
__________
[ (1) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «الأعجر» .
[ (3) ] زيادة من (الواقدي) ج 2 ص 843، (ابن هشام) ج 4 ص 42.
[ (4) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4 ص 43.

(1/395)


ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد واللَّه كثر إن نفع [ (1) ] . وقد قتلتم هذا القتيل، واللَّه لأدينّه! فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بالخيار: إن شاءوا فدم قتيلهم، وإن شاءوا فعقله [ (2) ] .
ويروي أنه قام خطيبا فقال: إنّ أعدى الناس على اللَّه: من قتل في الحرم، ومن قتل غير قاتله، ومن قتل بذحول الجاهلية [ (3) ] .
ويقال: إن قتل خراش لجنيدب كان بعد ما نهى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن القتل، وإنه عليه السلام قال: لو كنت قاتلا مؤمنا بكافر لقتلت خراشا بالهذلىّ: ثم أمر خزاعة يخرجون ديته، فأخرجوها مائة من الإبل، فكان أول قتيل وداه [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الإسلام.

أذان بلال على ظهر الكعبة ومقالة قريش
وجاءت الظّهر، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة، وكانت قريش فوق رءوس الجبال وقد فرّ وجوههم وتغيبوا خوفا أن يقتلوا. فلما أذّن بلال ورفع صوته كأشدّ ما يكون وقال: أشهد أن محمدا رسول اللَّه- قالت جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك! أما الصلاة فسنصلّي، واللَّه لا نحب من قتل الأحبة أبدا، ولقد كان جاء أبي الّذي جاء محمدا من النبوة فردّها، وكره خلافة قومه. وقال خالد بن الأسيد: الحمد للَّه الّذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام: وا ثكلاه! ليتني متّ قبل هذا اليوم قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة! وقال الحكم بن أبي العاص: هذا واللَّه الحدث العظيم.
أن يصبح عبد بني جمح على بنيّة [ (5) ] أبي طلحة! وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطا للَّه فسيغيره، وإن كان للَّه رضي فسيقرّه. وقال أبو سفيان بن حرب أما أنا فلا أقول شيئا، لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء! فأتى جبريل عليه السلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره خبرهم.
__________
[ (1) ] في (خ) «كبر أن يقع» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص 844 و (ابن هشام) ج 4 ص 42 وهو هناك «كثر [القتل] إن نقع» .
[ (2) ] في (خ) «ففعله» ، والعقل: دية القتيل.
[ (3) ] ذحول: جمع ذحل، وهو الثأر والعداوة.
[ (4) ] وداه: دفع ديته.
[ (5) ] البنية: البيت المبني.

(1/396)


أمية بن أبي عبيدة
أتاه يعلي بن أميّة بأبيه. فقال: يا رسول اللَّه، بايع أبي على الهجرة، فقال:
لا! بل أبايعه على الجهاد فقد انقضت الهجرة.

سهيل بن عمرو
وكان سهيل بن عمرو أغلق عليه [بابه] [ (1) ] ، وبعث إلى ابنه عبد اللَّه ابن سهيل أن يأخذ له أمانا، فأمّنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال. من لقي سهيل بن عمرو، فلا يشد النظر إليه فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه [ (2) ] أنه لم يكن له بنافع،
فخرج عبد اللَّه إلى أبيه فأخبره، فقال سهيل: كان واللَّه برا صغيرا وكبيرا! فخرج وشهد حنينا، وأسلم بالجعرّانة.

هبيرة بن أبي وهب وابن الزبعري
وهرب هبيرة بن أبي وهب زوج أم هانئ بنت أبي طالب- هو وعبد اللَّه ابن الزّبعرى بن قيس بن عديّ بن سعيد بن سهم القرشيّ السّهمي- إلى نجران.
فبعث حسان بن ثابت بشعر إلى ابن الزبعري فجاء.
ولما نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليه قال: هذا ابن الزبعري ومعه وجه فيه نور الإسلام! فأسلم.
ومات هبيرة بنجران مشركا.

حويطب بن عبد العزى
وهرب حويطب بن عبد العزّي بن أبي القيس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤيّ القرشي العامري! فأمّنه أبو ذر رضي اللَّه عنه ومشى معه، وجمع بينه وبين عياله.

إسلام نساء من قريش
وأسلمت هند بنت عتبة، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام: امرأة عكرمة
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] أوضع الأمر: اشتد فيه.

(1/397)


ابن أبي جهل، والبغوم بنت المعذّل [ (1) ] : امرأة صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وهند بنت منبّه بن الحجاج: أم عبد اللَّه بن عمرو بن العاص في عشر نسوة من قريش.

بيعة النساء وخبر هند بنت عتبة
فأتين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأبطح- وعنده زوجتاه وفاطمة ابنته، في نساء من نساء بني عبد المطلب، فبايعنه، ولم تمسّ يده يد امرأة. وقيل-: وضع على يده ثوبا ثم مسحن على يده. وقيل: أدخل يده في قدح فيه ماء، ثم دفعه إليهن فأدخلن أيديهنّ فيه. وقيل: بل كانت بيعة النساء عقيب بيعة الرجال عند الصّفا.
ورئيت [ (2) ] فيهن هند وهي متنكّرة لأجل صنيعها بحمزة- وكان زوجها أبو سفيان حاضرا-
فعرفها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إنك لهند! فقالت: أنا هند، فاعف عما سلف. فبايعهن عمر رضي اللَّه عنه واستغفر لهن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.

إسلام عكرمة بن أبي جهل
وطلبت أم حكيم أمانا لعكرمة وقد هرب إلى اليمن فأمّنه. فخرجت إليه حتى قدم.
فلما دنا من مكة قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه، فإنّ سبّ الميت يؤذي الحىّ ولا يبلغ إليه! فلما رآه وثب إليه فرحا، فوقف- ومعه امرأته منتقبة- فقال: يا محمد، إنّ هذه أخبرتني أنك أمنتنى! فقال: صدقت، فأنت آمن! فأسلم.
صفوان بن أمية
وهرب صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح القرشيّ الجمحيّ. فأخذ له عمير بن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة أمانا، وخرج في أثره حتى رجع، وشهد هوازن كافرا، وأسلم بالجعرّانة.

عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح
وكان عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح ممن أهدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دمه يوم الفتح،
__________
[ (1) ] في (خ) «المعزل» .
[ (2) ] في (خ) «رأت» .

(1/398)


فأتى به عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، وسأله أن يهبه له، فوهب له جرمه. وأسلم.

الحويرث بن نقيذ
وأهدر صلّى اللَّه عليه وسلّم دم الحويرث بن نقيذ [ (1) ] بن بجير بن عبد قصي، فضرب عليّ رضي اللَّه عنه عنقه، وكان مؤذيا للَّه ولرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.

هبار بن الأسود
وأهدر دم هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى بن قصي ابن الأسدي القرشيّ، فأسلم.

ابن خطل
وأخرج أبو برزة الأسلميّ عبد اللَّه بن خطل- وهو متعلق بأستار الكعبة- فضرب عنقه بين الركن والمقام. [ويقال: قتله سعيد بن حريث المخزوميّ، ويقال:
عمّار بن ياسر، وقيل: نضلة بن عبد اللَّه بن الحارث بن حيال بن ربيعة [ (2) ] بن دعبل ابن أنس بن خزيمة بن حديدة بن مازن بن الحارث [ (3) ] بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء [ (4) ] ويقال: شريك بن عبدة العجلاني [ (5) ] [وأثبته أبو برزة] . وفيه نزلت لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ
وفي المستدرك للحاكم، عن السائب بن يزيد قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخرج عبد اللَّه بن خطل من بين أستار الكعبة فقتله صبرا [ (6) ] ، ثم قال: لا يقتل أحد من قريش بعد هذا صبرا.
__________
[ (1) ] في (خ) «نفيد» .
[ (2) ] في (خ) «ربيع» .
[ (3) ] في (خ) «الحرب» .
[ (4) ] كذا في (ط) ، (خ) ، ونسبه في (الاستيعاب) ج 10 ص 295 هكذا:
«نضلة بن عبيد بن الحارث، أبو برزة الأسلمي. غلبت عليه كنيته، واختلف في اسمه، فقيل: نضلة ابن عبيد بن الحارث، وقيل: نضلة بن عبد اللَّه بن الحارث، وقيل: عبد اللَّه بن نضلة، وقيل:
سلمة بن عبيد» ، «وروي عن أبي برزة أنه قال: أنا قتلت ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة» .
[ (5) ] «وهو شريك بن السحماء» .
[ (6) ] قتل صبرا في غير حرب ولا معركة ولا خطأ.

(1/399)


سارة
وقتلت سارة مولاة عمرو بن هشام [ (1) ] ، وهي التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة. قتلها علي رضي اللَّه عنه. ويقال غيره.

أرنب
وقتلت أرنب [أو قيربة] وأسلمت فرتنى.

مقيس بن صبابة
وقتل مقيس بن صبابة نميلة بن عبد اللَّه الليثي. وقيل رآه المسلمون بين الصفا والمروة فقتلوه بأسيافهم.

مقالة أبي سفيان في القتلى
ولما قتل النفر الذين أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتلهم، سمع النّوح عليهم. وجاء أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي! البقية في قومك!
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تقتل قريش صبرا بعد اليوم [يعني على كفر]
وفي رواية: لا تغزي قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة. [يعني على كفر] .

الأمر بقتل وحشي
وأمر عليه السلام بقتل وحشي، ففرّ إلى الطائف حتى قدم في وفدهم فأسلم: فقال له عليه السلام: غيّب عني وجهك! فكان إذا رأى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم توارى [ (2) ] عنه.

سلف رسول اللَّه من بعض قريش
واستسلف صلّى اللَّه عليه وسلّم من عبد اللَّه بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم فأعطاه، فردّها عليه من غنائم هوازن،
وقال: إنما جزاء السّلف الحمد والأداء. وقال بارك اللَّه لك في مالك وولدك؟
واستقرض من صفوان بن أمية خمسين ألف درهم فأقرضه.
واستقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم. فكانت ثلاثين ومائة ألف قسمها بين أهل الضّعف، فأصاب الرجل خمسين درهما وأقلّ وأكثر. وبعث من ذلك إلى بني جذيمة.
__________
[ (1) ] في (خ) «هاشم» .
[ (2) ] في (خ) «تورى» .

(1/400)