إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

 [المجلد الثاني]
[تتمة غزوة الفتح]
بسم اللَّه الرحمن الرّحيم

هدية الخمر
وأهدي له يومئذ راوية خمر فقال: إن اللَّه حرّمها! فسارّ الرجل غلامه: اذهب بها إلى الحزورة [ (1) ] فبعها. فقال: بم أمرته؟ قال: ببيعها! فقال: إن الّذي حرّم شربها حرّم بيعها! ففرّغت بالبطحاء. ونهي يومئذ عن ثمن الخمر. وثمن الخنزير، وثمن الميتة، وثمن الأصنام، وحلوان الكاهن.

تحريم شحوم الميتة
وقيل له يومئذ: ما ترى في شحوم الميتة يدهن به السّقاء؟ فقال قاتل اللَّه يهودا! حرّم عليهم الشحوم فباعوها، فأكلوها ثمنها.
وحرّم متعة النساء يومئذ، وقال يومئذ- وهو بالحزورة-: واللَّه إنك لخير أرض اللَّه إليّ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت [ (2) ] .

العفو عن بعض أهل مكة
وهبط ثمانون من أهل مكة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جبل التّنعيم عند صلاة الفجر، فأخذهم سلما [ (3) ] فعفا عنهم، ونزل فيهم: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [ (4) ] .
__________
[ (1) ] كانت الحزورة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه،
وفي الحديث: وقف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحزورة وقال: يا بطحاء مكة ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك (معجم البلدان) ج 2 ص 255.
[ (2) ] لفظ الحديث في التعليق السابق، وفي (خ) «أخرجت» .
[ (3) ] مستسلمين بغير حرب.
[ (4) ] الآية 24/ الفتح، وفي (خ) إلى قوله تعالى أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.

(2/3)


حد شارب الخمر
وأتي بشارب فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضرب بالسوط وبالنّعل وبالعصا، وحثا عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التراب.

إسلام جبر
وجاء جبر غلام بني عبد الدار- وقد كان يكتم إسلامه- فأعطاه ثمنه، فاشتري نفسه فعتق.

نذر رجل الصلاة في بيت المقدس
وقال رجل يومئذ: إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس إن فتح اللَّه عليك مكة، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم، والّذي نفسي بيده! لصلاة ها هنا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من البلدان.

نذر ميمونة أم المؤمنين
وقالت ميمونة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها: يا رسول اللَّه، إني جعلت على نفسي- إن فتح اللَّه عليك مكة- أن أصلي في بيت المقدس! فقال: لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيت يستصبح [ (1) ] لك فيه به، فكأنك أتيته [ (2) ] .
وكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمال ليشترى به زيت يستصبح به في بيت المقدس، حتى ماتت فأوصت بذلك.

نساء قريش وجمالهن
وجلس عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه في مجلس فيه جماعة- منهم سعد ابن عبادة رضي اللَّه عنه- فمرّت نسوة من قريش فقال سعد: قد كان يذكر لنا من نساء قريش حسن وجمال [ (3) ] ، ما رأيناهنّ كذلك! فغضب عبد الرحمن ابن عوف حتى كاد أن يقع بسعد وأغلظ له [ (4) ] ، ففرّ منه سعد حتى أتى رسول
__________
[ (1) ] الاستصباح: الاستسراج، أي إشعال السراج به.
[ (2) ] في (خ) «أنيتيه» .
[ (3) ] في (خ) «حسنا وجمالا» .
[ (4) ] في (خ) «وأغلظ» .

(2/4)


اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، ماذا لقيت من عبد الرحمن؟ فقال: وما له؟ فأخبره بما كان، فغضب صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى كان وجهه ليتوقد [ (1) ] ، ثم قال: رأيتهنّ وقد أصبن بآبائهن وأبنائهنّ وإخوانهنّ وأزواجهن! خير نساء ركبن الإبل نساء قريش! أحناه على ولد، وأبذله لزوج بما ملكت يد.

هدية هند بنت عتبة بعد إسلامها
وأهدت هند بنت عتبة بعد إسلامها هدية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وهو بالأبطح- مع مولاة لها، جديين [ (2) ] مرضوفين وقدّا [ (3) ] ، فانتهت الجارية إلي خيمته، فسلمت واستأذنت فأذن لها فدخلت ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أم سلمة وميمونة ونساء بني عبد المطلب، فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرة إليك، وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة، فقال: بارك اللَّه لكم في غنمكم، وأكثر والدتها!
فسرّت هند لما أخبرتها مولاتها بذلك، ورأوا من كثرة غنمهم ووالدتها ما لم يكن من قبل ولا قريبا. وكانت هند تقول: هذا بدعاء رسول اللَّه وبركته.

إحدى نساء بني سعد وخبر وفاة حليمة السعدية
وأتته صلّى اللَّه عليه وسلّم إحدى نساء بني سعد بن بكر- إمّا خالة أو عمة- بنحي [ (4) ] مملوء سمنا وجراب أقط [ (5) ]- وهو بالأبطح- فعرفها، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت، وأخبرته بوفاة حليمة [ (6) ] فذرفت عيناه، وقالت: أخواك وأختاك محتاجون! فأمر لها بكسوة وجمل ومائتي درهم، فقالت: نعم واللَّه المكفول كنت صغيرا، ونعم المرء كنت كبيرا، عظيم البركة.

السرايا وهدم الأصنام
وبثّ صلّى اللَّه عليه وسلّم سراياه وأمرهم أن يغيروا على من لم يسلم. فخرج هشام بن العاص
__________
[ (1) ] توقد: تلألأ.
[ (2) ] في (خ) «جد بين» .
[ (3) ] المرضوف: المشوي، والقد: سقاء صغير متخذ من جلد السّخلة يكون فيه لبن.
[ (4) ] النحى: زق من الجلد يكون فيه السمن خاصة.
[ (5) ] الأقط: يتخذ من ألبان الإبل.
[ (6) ] حليمة السعدية، ظئره وحاضنته صلّى اللَّه عليه وسلّم.

(2/5)


في مائتين قبل يلملم. وخرج خالد بن سعيد بن العاص في ثلاثمائة قبل عرنة وبعث خالد بن الوليد إلى العزّى في ثلاثين فارسا فهدمها لخمس [ (1) ] بقين من رمضان، وكانت بنخلة. وبعث الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم ابن فهم [ (2) ] الدّوسي إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة فحرّقه بالنار، وبعث سعد بن زيد الأشهليّ إلى مناة بالمشلّل [ (3) ] فهدمه. وبعث عمرو بن العاص إلى صنم هذيل سواع فهدمه. ونادى منادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من كان يؤمن باللَّه وبرسوله فلا يدعنّ في بيته صنما إلا كسره أو حرّقه، وثمنه حرام. فجعل المسلمون يكسرون الأصنام، ولم يكن رجل من قريش بمكة إلا وفي بيته صنم: إذا دخل مسحه وإذ خرج مسحه: تبركا به. وكان عكرمة بن أبي جهل لما أسلم لم يسمع بصنم في بيت إلا مشى إليه حتى يكسره. وجعلت هند بنت عتبة تضرب صنما في بيتها بالقدوم فلذة فلذة [ (4) ] وهي تقول: كنا منك في غرور!!

مدة المقام بمكة
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة- على ما في صحيح البخاريّ- خمس عشرة ليلة. [وفي رواية تسع عشرة، وفي أبي داود تسع عشرة، وفي الترمذي ثماني عشرة، وقيل عشرا، وقيل بضع عشرة، وقيل: عشرين ليلة] يصلي ركعتين، ويأمر أهل مكة أن يتموا، كما رواه النسائي. وأفطر بقية شهر رمضان.

بعثة خالد بن الوليد إلى بني جذيمة وقتلهم، وكانوا مسلمين
ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزّى، بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بني جذيمة ابن عامر بن عمرو بن مناة بن كنانة يدعوهم إلى الإسلام فخرج أول شوّال في ثلاثمائة وخمسين إلى أسفل مكة وانتهى إليهم، فقالوا: نحن مسلمون! فقال خالد:
استأسروا! فكتف بعضهم بعضا، ودفع خالد إلى كل رجل من أصحابه رجلا أو رجلين، فباتوا في وثاق إلى السّحر. فنادى خالد: من كان معه أسير فليدافّه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «بخمس» .
[ (2) ] في (خ) «سالم بن فهر» ، وما أثبتناه من (الإصابة) ج 5 ص 223 ترجمة رقم 4247.
[ (3) ] جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر (معجم البلدان) ج 5 ص 136.
[ (4) ] الفلذة: القطعة.
[ (5) ] فليدافه: فليجهز عليه.

(2/6)


فقتل بنو سليم من كان في أيديهم، وكانوا قريبا من ثلاثين رجلا. وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم وقالوا: اذهبوا حيث شئتم! فغضب خالد على من أرسل أسيره. فقال له أبو أسيد السّاعديّ: اتّق اللَّه يا خالد! ما كنا لنقتل قوما مسلمين! قال: وما يدريك؟ قال: تسمع إقرارهم بالإسلام، وهذه المساجد بساحتهم!
فلما قدم خالد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عاب [ (1) ] عبد الرحمن بن عوف عليه ما صنع، فتلاحيا، وأعانه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وأعرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنه وقال له- وقد بلغه ما صنع بعبد الرحمن بن عوف-: يا خالد! ذروا لي أصحابي! متى ينكأ أنف المرء يبجع [ (2) ] ! لو كان أحد ذهبا تنفقه قيراطا قيراطا في سبيل اللَّه لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن بن عوف! ورفع صلّى اللَّه عليه وسلّم يديه حتى رئي بياض إبطيه، وهو يقول: اللَّهمّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد!!

بعثة عليّ بالديات إلى بني جذيمة
وبعث عليا رضي اللَّه عنه إلى بني جذيمة بمال فودى لهم ما أصاب خالد، ودفع إليهم مالهم، فبقيت لهم بقية مال، فبعث عليّ أبا رافع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليستزيده فزاده مالا، فودى لهم كلّ ما أصاب [خالد] ، حتى إنه ليدي لهم ميلغة [ (3) ] الكلب وبقي مع عليّ شيء من المال. فقال: هذه البقية من هذا المال لكم عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مما أصاب خالد، مما لا يعلمه ولا تعلمونه. فأعطاهم ذلك وعاد فأخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بما صنع فقال: أصبت! ما أمرت خالدا بالقتال، إنما أمرته بالدعاء! ثم أقبل على خالد رضي اللَّه عنه وقال: لا تسبوا خالدا ابن الوليد، فإنما هو سيف من سيوف اللَّه سله على المشركين.

فتح مكة
وقد اختلف في فتح مكة، فقال الأوزاعيّ ومالك وأبو حنيفة: إنّها فتحت عنوة ثم أمّن أهلها. وقال مجاهد والشافعيّ: فتحت صلحا بأمان عقده. وقيل:
__________
[ (1) ] في (خ) «غاب» .
[ (2) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «متى يتكأ أنف المرء وينكا» ولم أجد هذا المثل في (مجمع الأمثال للميداني) ولا في جمهرة الأمثال للعسكريّ) ، ولا في كتاب (الأمثال في الحديث النبوي) لأبي الشيخ الأصبهاني. ونكأ القرحة: نشرها.
[ (3) ] في (خ) «مبلغة» .

(2/7)


فتح أسفلها عنوة وأعلاها صلحا [ (1) ] .
وروي أنه يوم فتح مكة حام حمام الحرم [ (2) ] فأظلته صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعا لها بالبركة.
وكان يحبّ الحمام.

غزوة حنين «هوازن»
ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزوة حنين: وذلك واد- ويقال ماء- بينه وبين مكة ثلاث ليال في قرب الطائف. سمّي بحنين بن قانية بن مهلائيل من جرهم، وقيل: حنين بن ماثقة بن مهلان بن مهليل بن عبيل بن عوص بن إرم ابن سام [ (3) ] بن نوح.

جموع هوازن وثقيف
وذلك أن أشراف هوازن وثقيف حشدوا، وقد جعلوا أمرهم إلى مالك ابن عوف بن سعيد بن ربيعة بن يربوع بن واثلة [ (4) ] بن دعمان بن نصر بن معاوية ابن بكر بن هوازن النصريّ، وهو ابن ثلاثين سنة. وأقبلت ثقيف ونصر وجشم، وكان في ثقيف سيّدان [ (5) ] لهم هما: قارب بن عبد اللَّه بن الأسود بن مسعود الثقفيّ، وذو الخمار سبيع بن الحارث، [ويقال: الأحمر بن الحارث] ، واجتمع إليهم من بني هلال بن عامر نحو المائة، ولم يحضرهم أحد من كعب ولا كلاب
__________
[ (1) ] يقول ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 429 في الإشارة إلى ما في الغزوة من الفقه واللطائف، «وفيها البيان الصريح بأن مكة فتحت عنوة كما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعيّ وأحمد في أحد قوليه» ثم قال: «قال أصحاب الصلح: لو فتحت عنوة لقسمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الغانمين كما قسم خيبر» ، «ولو فتحت عنوة لملك الغانمون رباعها ودورها» ، «قال أرباب العنوة: لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره، وإغلاق بابه، وإلقاء سلاحه فائدة» .
«وأيضا فلو كان فتحها صلحا، لم يقل: إن اللَّه قد أحلها لي ساعة من نهار، فإنّها إذا فتحت صلحا كانت باقية على حرمتها» .
[ (2) ] في (خ) «الحرر» .
[ (3) ] في (خ) «سلام» .
[ (4) ] في (خ) «واثله» .
[ (5) ] في (خ) «سيديان» .

(2/8)


[من هوازن] [ (1) ] وحضر دريد بن الصّمّة بن [الحارث بن] [ (2) ] بكر بن علقمة ابن خزاعة بن غزيّة [ (3) ] بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن في بني جشم، وهو ابن ستين ومائة سنة لا شيء فيه، إلا أنهم يتيمنون برأيه ومعرفته بالحرب ودربته [ (4) ] .

منزل هوازن
وجاءوا جميعا بأموالهم ونسائهم وأبنائهم يريدون حرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى نزلوا بأوطاس، فقال دريد: بأيّ واد أنتم: قالوا: بأوطاس فقال: مجال الخيل! لا حزن ضرس، ولا سهل دهس [ (5) ] . ثم قال لمالك بن عوف: ما لي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاة؟ قال مالك: يا أبا قرّه! إني سقت مع الناس أموالهم وذراريهم، وأردت أن أجعل خلف كلّ رجل منهم أهله وماله يقاتل عنه، فأنقض به دريد، ثم قال: رويعي ضأن واللَّه! وهل يردّ المنهزم شيء؟ وقال: هذا يوم لم أشهده [ (6) ] ، ولم أغب عنه! وقال:
يا ليتني فيها جذع [ (7) ] ... أخب فيها وأضع [ (8) ]
أقود وطفاء الزّمع [ (9) ] ... كأنها شاة صدع [ (10) ]
[قوله: «أنقض به دريد» يريد أنه نقر بلسانه في فيه كما يزجر الشاة أو الحمار. وقوله: «رويعي [ (11) ] ضأن» ، يستجهله] .

خروج رسول اللَّه إلى حنين
فغدا صلّى اللَّه عليه وسلّم يريدهم يوم السبت لست خلون من شوال، وقيل قدم مكة لثماني
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] زيادة من نسبه من (ط)
[ (3) ] في (خ) «عربة» .
[ (4) ] في (خ) «ذريته» .
[ (5) ] الحزن: الغليظ من الأرض. الضرس: الغليظ الخشن. الدهس: اللين الوطء من الأرض.
[ (6) ] في (خ) «أشهد» .
[ (7) ] جذع: صغير السن، وفي (خ) «جزع» .
[ (8) ] الخب والوضع: ضربان من العدو والوضع أشد.
[ (9) ] في (خ) «الرمع» ، والوطفاء: الغزيرة الشعر. والزمع جمع زمعة: وهي شعرة مدلاة خلف الرسغ.
[ (10) ] الصدع: الوعل الحديث السن.
[ (11) ] رويعي: تصغير «راع» .

(2/9)


عشرة ليلة من شهر رمضان سنة ثمان، وأقام بها اثنتي عشرة ليلة، ثم أصبح غداة الفطر غاديا إلى حنين. وخرج معه أهل مكة- لم يتأخر منهم كبير أحد- ركبانا ومشاة، حتى خرج معه النساء يمشين: على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون الدّولة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. واستعمل على مكة عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس القرشيّ الأمويّ- وله نحو عشرين سنة-، وجعل معه معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عديّ بن كعب بن عمرو بن أديّ ابن سعيد بن علي بن أسد بن ساردة [ (1) ] بن زيد بن جشم بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجي، يعلمهم السّنن والفقه. وخرج معه اثنا عشر ألف رجل: عشرة آلاف من المدينة وألفان من أهل مكة، وهم الطلقاء.

إعجاب المسلمين بكثرتهم يوم حنين
فقال رجل من بني بكر: لو لقينا بني شيبان ما بالينا، ولا يغلبنا اليوم أحد من قلة! فأنزل اللَّه تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [ (2) ] .

عارية السلاح
واستعار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من صفوان بن أمية مائة درع، وقيل أربعمائة درع، بأداتها، وخرج [صفوان] [ (3) ] وهو مشرك مع المسلمين.

خبر ذات الأنواط
فمرّوا بشجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط- كانت العرب من قريش وغيرها يأتونها كل سنة يعلقون عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما-
فقالوا: يا رسول اللَّه: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: فقال:
اللَّه أكبر! قلتم- والّذي نفسي بيده- كما قال قوم موسي:
__________
[ (1) ] في (خ) «ماردة» .
[ (2) ] الآية 25/ التوبة، وفي (خ) «..... كثرتكم الآي» .
[ (3) ] زيادة للبيان.

(2/10)


اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [ (1) ] ، إنها السّنن، سنن من كان قبلكم [وفي رواية: لتركبن سنن من قبلكم] [ (2) ] .

خبر الرجل الّذي أراد قتل رسول اللَّه
ونزل رسول اللَّه تحت شجرة دوين أوطاس، وعلق بها سيفه وقوسه، فجاء رجل وهو نائم فسلّ السيف، وقام على رأسه ففزع به [ (3) ] وهو يقول: يا محمد! من يمنعك منّي اليوم؟ فقال: اللَّه! فأتى أبو بردة بن نيار يريد أن يقتل الرجل، فمنعه النبي عليه السلام من قتله وقال: يا أبا بردة، إن اللَّه مانعي وحافظي حتى يظهر دينه على الدّين كلّه.
وانتهى صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال.

عيون هوازن ورعب المشركين
فبعث مالك بن عوف ثلاثة رجال متفرقين في العسكر [يأتونه بخبر أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (4) ] ، فرجعوا وقد تفرقت أوصالهم [من الرعب] [ (4) ] ، وقالوا:
رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فو اللَّه ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! وقالوا:
ما نقاتل أهل الأرض إنما نقاتل إلا أهل السماء! وإن أطعتنا رجعت بقومك. فسبّهم وحبسهم. ثم بعث آخر فعاد إليه بمثل ما قال الثلاثة، فلم ينته. وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن حدرد مرثد بن أبي مرثد الغنويّ تلك الليلة على فرسه وهو يحرس المسلمين.

خروج غير المسلمين إلى حنين
وكان قد خرج رجال من مكة على غير دين، ينظرون على من تكون الدائرة، فيصيبون من الغنائم، منهم أبو سفيان بن حرب [ (5) ] ، ومنهم معاوية بن أبي سفيان- خرج ومعه الأزلام [ (6) ] في كنانته، وكان يسير في أثر العسكر، كلّما مرّ بترس
__________
[ (1) ] الآية 138/ الأعراف.
[ (2) ] سنن الطريق: نهجه ووجهه.
[ (3) ] فزع به: أنبهه.
[ (4) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 150.
[ (5) ] كذا في (خ) و (الواقدي) ج 3 ص 895، وهو غريب، فمن الثابت أن أبا سفيان بن حرب أسلم ليلة الفتح، ومعاوية أسلم يوم الفتح، والحارث بن هشام أسلم يوم الفتح أيضا.
[ (6) ] الأزلام: سهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية.

(2/11)


ساقط أو رمح أو متاع حمله، حتى أوقر جمله [ (1) ]-، وصفوان بن أمية، ومعه حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزّى، وسهيل بن عمرو، والحارث ابن هشام [ (2) ] ، وعبد اللَّه بن أبي ربيعة، فلما كانت الحرب وقفوا خلف الناس.

تعبئة المسلمين
وعبّأ مالك بن عوف أصحابه في الليل بوادي حنين، وعبأ له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في السّحر، ووضع الألوية والرايات في أهلها. فحمل رايات المهاجرين: عليّ وسعد بن أبي وقّاص، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهم، وحمل رايات الأنصار الحباب بن المنذر، وقيل كان لواء الخزرج الأكبر مع سعد بن عبادة، ولواء الأوس مع أسيد بن حضير. وفي كل بطن لواء أو راية. وكانت رايات المهاجرين سودا وألويتهم بيضاء، ورايات الأنصار خضرا وحمرا، وكانت في قبائل العرب رايات، وبقيت سليم كما هي في مقدمة الخيل، وعليهم خالد بن الوليد.

المسير إلى القتال
وانحدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه في وادي حنين. وهو على تعبئته وقد ركب بغلته البيضاء دلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة، وحضّ على القتال، وبشر بالفتح إن صدقوا وصبروا.

انهزام المسلمين
فاستقبلتهم هوازن في غبش الصّبح [ (3) ] بكثرة لم يروا مثلها قط، وحملوا على المسلمين حملة واحدة، فانكشف أول الخيل خيل [بني] [ (4) ] سليم مولّية، فولوا وتبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء.
__________
[ (1) ] أوقر الجمل: أثقل حمله.
[ (2) ] كذا في (خ) و (الواقدي) ج 3 ص 895، وهو غريب، فمن الثابت أن أبا سفيان بن حرب أسلم ليلة الفتح، ومعاوية أسلم يوم الفتح، والحارث بن هشام أسلم يوم الفتح أيضا.
[ (3) ] غبش الصبح: الظلمة يخالطها البياض في بقية الليل.
[ (4) ] زيادة للسياق.

(2/12)


انهزام المشركين بغير قتال
فالتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمينا وشمالا- والناس منهزمون حتى بلغوا مكة، فلم يرجع آخرهم إلا والأسارى بين يدي النبي عليه السلام- وهو يقول: يا أنصار اللَّه وأنصار رسول اللَّه؟ أنا عبد اللَّه ورسوله!! ثم تقدّم بحربته أمام الناس، وانهزم المشركون، وما ضرب أحد من المسلمين بسيف ولا طعن برمح.
ورجع صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى العسكر، وأمر أن يقتل كلّ من قدر عليه من المشركين، وقد ولت هوازن، وثاب من انهزم من المسلمين.

الذين ثبتوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الهزيمة
ولم يثبت معه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقت الهزيمة إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد أخذ [ (1) ] بثغر البلغة، والعباس وقد أخذ بحكمتها [ (2) ] ، وهو يركضها إلى وجه العدوّ، وينوّه باسمه
فيقول:
أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب

دعوة المنهزمين
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم يا عباس! اصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السّمرة [ (3) ] ! فنادى بذلك- وكان رجلا صيّتا [ (4) ]-، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنّت إلى أولادها يقولون يا لبّيك ... يا لبيك! فأشرف صلّى اللَّه عليه وسلّم كالمتطاول في ركابيه، فنظر إلى قتالهم وقال: الآن حمي الوطيس! ثم أخذ بيده من الحصا فرماهم به وهو يقول: شاهت الوجوه، حم لا ينصرون! ثم قال: انهزموا وربّ الكعبة! فما زال أمرهم مدبرا
وانهزموا: فانحاز صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات اليمين، وهو على بغلته قد جرّد سيفه.
__________
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، وأثبتناها من (الواقدي) ج 2 ص 898 ومعناها: السير في مؤخر السرع (ترتيب القاموس) .
[ (2) ] الحكمة: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه وفيها العذران (ترتيب القاموس) .
[ (3) ] السّمرة: قال في (النهاية) الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبيّة.
[ (4) ] صيّتا: عالي الصوت رفيعه.

(2/13)


عدد من ثبت معه
وثبت معه [ (1) ] سوى من ذكرنا: عليّ، والفضل بن عباس، وربيعة ابن الحارث [بن عبد المطلب] [ (2) ] ، وأيمن بن عبيد الخزرجي، وأسامه بن زيد، وأبو بكر وعمر، رضي اللَّه عنهم.
وقيل لما انكشف الناس عنه قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لحارثة بن النّعمان الأنصاري: كم ترى الناس الذين ثبتوا؟ فحرزهم مائة، وهذه المائة هي التي كرّت بعد الفرار، فاستقبلوا هوازن واجتلدوهم [ (3) ] وإياهم وكان دعاؤه يومئذ- حين انكشف الناس عنه، فلم يبق إلا في المائة الصابرة-:
اللَّهمّ لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان [ (4) ] !
ويقال إن المائة الصابرة يومئذ: ثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة وستون من الأنصار، وكان عليّ، وأبو دجانة، وعثمان بن عفان، وأيمن بن عبيد رضي اللَّه عنهم يقاتلون بين يدي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.

خبر على وقتاله يوم حنين
قال الحارث بن نوفل: فحدّثني الفضل بن العباس قال: التفت العباس يومئذ وقد أقشع [ (5) ] الناس عن بكرة أبيهم- فلم ير عليا فيمن ثبت، فقال: شوهة وبوهة [ (6) ] ! أوفي مثل هذه [ (7) ] الحال يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ وهو صاحبه فيما هو صاحبه!! [يعني المواطن المشهورة له] فقلت: بعض قولك لابن أخيك! أما تراه في الرّهج؟ قال: أشعره [ (8) ] لي يا بنيّ. قلت ذو كذا، ذو كذا، ذو البردة. قال: فما تلك البرقة؟ قلت: سيفه يرفل [ (9) ] به بين
__________
[ (1) ] في (خ) «وما معه» .
[ (2) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (3) ] اجتلدوا: ضربوا بالسيف.
[ (4) ] في (الواقدي) ج 2 ص 901 بعد قوله «المستعان» «قال له جبريل: لقد لقنت الكلمات التي لقن اللَّه موسى يوم فلق البحر أمامه وفرعون خلفه» ومعنى لقن: فهم.
[ (5) ] أقشع الناس: تفرقوا.
[ (6) ] في (خ) «شوهة بوهة» وهذا يقال في الدعاء والذم، كذا في (ط) ولم أجد المثل في مجمع الأمثال ولا في جمهرة الأمثال.
[ (7) ] في (خ) ، (ط) «هذا» وما أثبتناه حق اللغة.
[ (8) ] الرهج: غبار الحرب وأشعره لي: أذكر لي شعاره الّذي يعرف به بين رفقته
[ (9) ] يرفل: يتبختر.

(2/14)


الأقران [ (1) ] . فقال برّ ابن برّ؟ فداه عم وخال! قال: فضرب عليّ يومئذ أربعين مبارزا كلهم يقده حتى يقدّ أنفه وذكره. قال: وكانت ضرباته منكرة.

قتال أم عمارة وصواحباتها
وكانت أم عمارة في يدها سيف صارم، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها وهي يومئذ حامل بعبد اللَّه بن أبي طلحة، وأم سليط، وأم الحارث- حين انهزم الناس- يقاتلن: وأم عمارة تصيح بالأنصار: أيّة عادة هذه! ما لكم وللفرار! وشدّت على رجل من هوازن فقتلته وأخذت سيفه.

موقف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قائم مصلت السيف بيده، وقد طرح غمده ينادي:
يا أصحاب سورة البقرة! فكرّ المسلمون، وجعلوا يقولون: يا بني عبد الرحمن! يا بني عبد اللَّه! يا بني عبيد اللَّه! يا خيل اللَّه- وكان صلى اللَّه عليه وسلّم قد سمّي خيله خيل اللَّه-[وكان شعار [ (2) ] المهاجرين بني عبد الرحمن، وشعار الأوس بني عبيد اللَّه، وشعار الخزرج بني عبد اللَّه] . فكرّت الأنصار، ووقفت هوازن حملة ناقة [ (3) ] ، ثم كانت هزيمتهم أقبح هزيمة، والمسلمون يقتلون ويأسرون.

تحريض أم سليم
وأم سليم بنت ملحان تقول: يا رسول اللَّه! ما رأيت هؤلاء الذين أسلموا وفرّوا عنك وخذلوك! لا تعف عنهم إذا أمكنك اللَّه منهم، تقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين! فقال: يا أم سليم! قد كفى اللَّه، عافية اللَّه أوسع.

النهي عن قتل الذرية
وحنق المسلمون على المشركين فقتلوهم حتى شرعوا [ (4) ] في قتل الذّرية. فلما بلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذّرّيّة!
__________
[ (1) ] الأقران: النظائر والأكفاء.
[ (2) ] في (خ) «وجعل شعار» .
[ (3) ] في (خ) «حملت» ، والمعني: وقفوا مقدار ما تحمل الناقة رحلها.
[ (4) ] في (خ) «أشرعوا» .

(2/15)


ألا لا تقتل الذرية، فقال أسيد بن الحضير: يا رسول اللَّه! أليس إنما هم أولاد المشركين؟! فقال: أوليس خياركم أولاد المشركين؟ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها [ (1) ] !.

خبر النمل
وقال جبير بن مطعم: لما تراءينا نحن والقوم، رأينا سوادا لم نر مثله قط كثرة، وإنما ذلك السواد نعم فحملوا النساء عليه. فأقبل مثل الظّلّة السوداء من السماء، حتى أظلت علينا وعليهم وسدّت الأرض. فنظرت فإذا وادي حنين يسيل بالنمل، نمل أسود مبثوث. لم أشكّ أنه نصر أيدنا اللَّه به، فهزمهم اللَّه. وحدّث شيوخ من الأنصار قالوا: رأينا كالبجد [ (2) ] السود هوت من السماء ركاما فنظرنا فإذا نمل مبثوث، فإن كنا لننفضه عن ثيابنا، فكان نصرا أيّدنا اللَّه به.

نصر الملائكة
وكانت سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمرا [ (3) ] قد أرخوها بين أكتافهم، وكان الرعب الّذي قذف اللَّه في قلوب المشركين يومئذ كوقع الحصاة في الطّست:
له طنين، فيجدون في أجوافهم مثل ذلك. ولم رمي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بذلك الكفّ من الحصا، لم يبق أحد من المشركين إلا وهو يشكو القذى في عينه. ويجدون في صدورهم خفقانا كوقع الحصا في الطّساس [ (4) ] : ما يهدأ ذلك عنهم. ورأوا رجالا بيضا على خيل بلق، عليهم عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، وهم بين السماء والأرض: كتائب، فما كانوا يستطيعون أن يتأمّلوهم من الرعب منهم.

القتلى في ثقيف
استحرّ القتل من ثقيف [في] [ (5) ] بني مالك، فقتل منهم قريب من مائة رجل تحت رايتهم، وقتل ذو الخمار، وهربت ثقيف.
__________
[ (1) ] أي يحملانها على شريعة يهودية أو نصرانية.
[ (2) ] البجد: جمع بجاد: وهو كساء مخطط من أكسية الأعراب.
[ (3) ] في (خ) «حمر» .
[ (4) ] الطساس: جمع طست.
[ (5) ] زيادة للسياق من (ابن هشام) ج 4 ص 69.

(2/16)


إسلام شيبة بن عثمان
وكان شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، قد تعاهد هو وصفوان بن أميّة يومئذ إن رأيا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم دبرة أن يكون عليه، وهما خلفه. قال شيبة: فأدخل اللَّه الإيمان قلوبنا. ولقد هممت بقتله، فأقبل شيء حتى يغشى فؤادي، فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني وفي رواية: غشيتني ظلمة حتى لا أبصر، فعرفت أنه ممتنع مني، وأيقنت بالإسلام. وفي رواية: أنّ شيبة قال: لما رأيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم غزا مكة فظفر بها وخرج إلى هوازن، قلت: أخرج لعلي أدرك ثأري! وذكرت قتل أبي يوم أحد [قتله حمزة] ، وعمي [قتله عليّ] ، فلما انهزم أصحابه جئته عن يمينه، فإذا العباس قائم علي درع بيضاء كالفضة، فقلت: عمّه! لن يخذله! فلما جئته عن يساره، فإذا بأبي سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمّه! ولن يخذله [ (1) ] ! فجئته من خلفه، فلم يبق [ (2) ] إلا أسوّره بالسيف [ (3) ] ، إذ رفع لي- فيما بيني وبينه- شواظ [ (4) ] من النار كأنه برق، وخفت أن يمحشني [ (5) ] ، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت إليّ وقال: يا شيب! أدن مني! فوضع يده على صدري وقال: اللَّهمّ أذهب عنه الشيطان! فرفعت رأسي إليه وهو أحبّ إليّ من سمعي وبصري وقلبي، ثم قال: يا شيب! قاتل الكفّار! فتقدّمت بين يديه أحبّ واللَّه أقيه بنفسي وبكلّ شيء. فلما انهزمت هوازن، رجع إلى منزله ودخلت عليه، فقال: الحمد للَّه الّذي أراد بك خيرا مما أردت. ثم حدثني بما هممت به.

خبر المنافقين
ولما كانت هزيمة المسلمين، تكلم قوم بما في نفوسهم من الضّغن والغشّ، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر؟ فقال [أبو مقيت ابن سليم] [ (6) ] : أما واللَّه لولا أني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ينهي عن قتلك لقتلتك!
__________
[ (1) ] في (خ) «أن يخذله» .
[ (2) ] في (خ) «أبق» .
[ (3) ] تسوّره: علاه، أي يعلوه فيأخذه بالسيف.
[ (4) ] في (خ) «شوظ» .
[ (5) ] يمشخني: يحرق الجلد حتى يبدو العظم.
[ (6) ] كذا في (خ) ، (ط) ، وفي (الواقدي) ج 3 ص 910 «يقول رجل من أسلم يقال له أبو مقيت ... إلخ» .

(2/17)


وقال كلدة بن حنبل- أخو صفوان لأمه- ألا بطل سحر محمد اليوم! فقال له صفوان: اسكت فضّ اللَّه فاك! لأن يربّني ربّ من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني ربّ من هوازن! وقال سهيل بن عمرو: [واللَّه] [ (1) ] لا يجتبرها [ (2) ] محمد وأصحابه [أبدا] [ (1) ] ! فقال له عكرمة [بن أبي جهل] [ (1) ] : إنّ هذا ليس بقول! إنما الأمر بيد اللَّه، وليس إلى محمد الأمر شيء! إن أديل [ (3) ] عليه اليوم فإن له العاقبة [ (4) ] غدا.
فقال له سهيل: واللَّه إن عهدك بخلافه لحديث! قال: يا أبا يزيد، إنا كنا واللَّه نوضع في غير شيء وعقولنا عقولنا [ (5) ] نعبد حجرا لا ينفع ولا يضرّ!!

النهي عن قتل النساء والمماليك
ومرّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بامرأة مقتولة: قتلها خالد بن الوليد، فبعث إليه: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ينهاك أن تقتل امرأة أو عسيفا [ (6) ] .

خبر بني سليم
ولما هزم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم هوازن، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم، نادت بنو سليم: ارفعوا عن بني أمكم القتل! فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اللَّهمّ عليك ببني بمكة! أمّا في قومي فوضعوا السّلاح وضعا، وأمّا عن قومهم فرفعوا رفعا،
[وبكمة بنت مرّ أم سليم، وهي أخت تميم بن مرّ] .

خبر بجاد السعدي
وأمر عليه السلام بطلب القوم، وقال: إن قدرتم على بجاد فلا يفلتنّ منكم!
وكان [بجاد] [ (7) ] من بني سعد [بن بكر بن هوازن] [ (7) ] وقد قطّع رجلا مسلما وحرّقه بالنار، فأخذته الخيل، وضموه إلى الشيماء بنت الحارث بن عبد العزّى- أخت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة- وأتوا بهما فرحّب بالشيماء وأجلسها على
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] يجتبرها: يصلحها.
[ (3) ] أديل: من الدولة بمعنى النصر.
[ (4) ] في (خ) «العافية» .
[ (5) ] كذا في (الواقدي) ج 3 ص 911، وفي بعض كتب السيرة «وعقولا ذاهبة» .
[ (6) ] العسيف: «الأجير» .
[ (7) ] زيادة للبيان.

(2/18)


ردائه، وأعطاها- بعد ما أسلمت- ثلاثة أعبد وجارية، فاستوهبته بجادا فوهبه لها.

هزيمة هوازن وقتل دريد بن الصمة
ومرّت هوازن في هزيمتها إلى الطائف، وإلى أوطاس، وإلى نخلة. فسارت الخيل تريد من أتى نخلة. أدرك الربيع بن ربيعة بن رفيع بن أهبان [ (1) ] بن ثعلبة بن ضبيعة بن يربوع بن سمّال بن عوف بن مريء القيس بن بهثة بن سليم السّلمي-[وكان يقال له «ابن الدّغنّة» ، وهي أمه فغلبت على اسمه] [ (2) ]- دريد بن الصّمة فقتله.

أبو عامر الأشعري
وتوجّه أبو عامر الأشعريّ- أخو أبي موسى [الأشعريّ] [ (2) ]- إلى أوطاس، ومعه لواء في عدّة من المسلمين، وقد عسكر المشركون، فقاتلهم وقتل منهم تسعة ثم أصيب، فاستخلف أخاه أبا موسى ففتح اللَّه عليه. ولحق مالك بن عوف بالطائف.

الغنائم والسبي
وأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالغنائم فجمعت. ونادى مناديه: من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يغلّ! وأصاب المسلمون سبايا، فكانوا يكرهون أن يقعوا عليهنّ ولهنّ أزواج، فسألوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عن ذلك فأنزل اللَّه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [ (3) ] وقال صلى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: لا توطأ حامل من السبي حتى تضع حملها، ولا غير ذات حمل حتى تحيض.
وسألوه عن العزل [ (4) ] ، فقال: ليس من كل الماء
__________
[ (1) ] في (خ) «أهان» .
[ (2) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (3) ] الآية 24/ النساء، وفي (خ) « ... أيمانكم، الآية» .
[ (4) ] (سنن ابن ماجة) ج 1 ص 620 (باب العزل) حديث رقم 1926، 1927، 1928، و (سنن أبي داود) ج 2 ص 622 وما بعدها (باب ما جاء في العزل) ، حديث رقم 2170، 2171، 2172، 2173.

(2/19)


يكون الولد، وإذا أراد اللَّه أن يخلق شيئا لم يمنعه شيء.

دية عامر بن الأضبط
وقام عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري يطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعيّ- وقد قتله محلّم بن جثّامة بن قيس الليثي في سرية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى إضم- بعد ما حيّا بتحية الإسلام- فدافع عنه الأقرع بن حابس، فأشار النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالدية فقبلوها.

شارب الخمر
أتي يومئذ بشارب، فأمر عليه السلام من عنده [ (1) ] فضربوه بما كان في أيديهم، وحثا عليه التراب.

الشهداء والسبي
وجميع من استشهد [ (2) ] بحنين أربعة [ (3) ] . وفي هذه الغزاة
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من قتل قتيلا فله سلبه.
وكان أبو طلحة قد قتل عشرين رجلا فأعطاه سلبهم.
وذكر الزبير بن بكّار:
__________
[ () ] وقال الخطابي في (معالم السنن) ج 2 ص 624 عند التعليق على الحديث رقم 2172: «وأخرجه البخاري في النكاح باب العزل رقم 97 (7/ 42) ومسلم في النكاح باب حكم العزل حديث رقم 1438 والنسائي في النكاح باب العزل (6/ 107) ، والعزل: أن يعزل الرجل الماء عن النساء حذر الحمل.
[ (1) ] في (خ) «بن عبدة» .
[ (2) ] في (خ) «ما استشهد» .
[ (3) ] وهؤلاء هم:
1- من قريش ثم من بني هاشم: أيمن بن عبيد.
2- من بني أسد بن عبد العزى: يزيد بن زمعة.
3- ومن الأنصار: سراقة بن الحارث بن عدي.
4- ومن الأشعريين: أبو عامر الأشعري.
(ابن هشام) ج 4 ص 76.
وفي (الواقدي) ج 3 ص 22: رقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان بدلا من يزيد بن زمعة.
وقال محقق (الواقدي) أنه أثبته عن ابن حزم في (جوامع السيرة) ص 244 (تعليق رقم (1) ص 922 (من الواقدي) .

(2/20)


أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سبى يوم حنين ستة آلاف- بين غلام وامرأة- فجعل عليهم أبا سفيان بن حرب. ومات رجل من أشجع أيام حنين، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
صلّوا على صاحبكم فإنه قد غلّ.
فنظروا. فإذا في برديه خرز لا يساوي درهمين.

غزوة الطائف
ثم كانت غزوة الطائف.
وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما فتح حنينا، بعث الطفيل ابن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سالم بن فهم الدّوسيّ إلى ذي الكفّين- صنم عمرو بن حمه- يهدمه، وأمره أن يستمدّ قومه ويوافيه بالطائف، وقال له:
أفش السلام، وأبذل الطعام- واستحي من اللَّه كما يستحي الرجل ذو الهيئة من أهله [ (1) ] ، إذا أسأت فأحسن، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ [ (2) ] .
فخرج إلى قومه فهدم ذا الكفين، وجعل يحشو النّار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبّاكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حششت [ (3) ] النار في فؤادكا
ووافى معه بأربعمائة، بعد ما قدم عليه السلام الطائف بأربعة أيام، ومعه دبّابة، ومنجنيق. ويقال: بل اتخذ المنجنيق سلمان الفارسيّ، وقدم بالدبّابة خالد بن سعيد ابن العاص من جرش [ (4) ] . وكان مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حسك من خشب [ (5) ] يطيف بعسكره.
__________
[ (1) ]
كذا في (خ) ، (ط) وفي (الواقدي) ج 3 ص 922 «كما يستحي الرجل ذو الهيئة من أهله»
وذو الهيئة: ذو الوقار.
[ (2) ] نص الآية 114/ هود كالآتي: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ.
[ (3) ] في (الواقدي) ج 3 ص 923 «حشوت النار في فؤادكا» . وحش النار: جمع إليها ما تفرق من الحط.
[ (4) ] في (خ) «بن جرش» وجرش اسم مدينة سبق شرحها اسمها راجع (معجم البلدان) ج 2 ص 127.
[ (5) ] الحسك: نبات تعلق ثمرته بصوف الغنم، ورقه كورق الرّجلة وأدق، وعند ورقه شوك ملزز صلب ذو ثلاث شعب، وله ثمر شربه يفتت حصى الكليتين والمثانة. وكذا شرب عصير ورقه جيد للباءة، وعسر البول ونهش الأفاعي، ورشه في المنزل يقتل البراغيث، ويعمل في مثال شوكه أداة للحرب من حديد أو قصب. فيلقى حول العسكر ويسمى باسمه. (ترتيب القاموس ج 1 ص 641.

(2/21)


بعثة خالد بن الوليد على المقدمة
وقدّم صلى اللَّه عليه وسلّم خالد على مقدّمته، وبعث بالسبي والغنائم إلى الجعرّانة مع بديل ابن ورقاء الخزاعيّ، وسار إلى الطائف وقد رمّوا حصنهم، ودخل فيه من انهزم من أوطاس، واستعدوا للحرب وأتي صلى اللَّه عليه وسلّم- في طريقه بليّة [ (1) ]- برجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل، فضرب أولياؤه عنقه، وكان أوّل دم أقيد [ (2) ] به في الإسلام، وحرّق بليّة [ (3) ] قصر مالك بن عوف.

منزل المسلمين بالطائف
ثم نزل قريبا من حصن الطائف وعسكر به، فرموا بنبل كثير أصيب به جماعة من المسلمين بجراحة، فحوّل عليه السلام أصحابه، وعسكر حيث لا يصيبهم رمي أهل الطائف، وثار المسلمون إلى الحصن، فقتل يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب ابن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشيّ الأسدي، فظفر أخوه يعقوب بن زمعة بهذيل بن أبي الصّلت، [أخي أميّة بن الصلت] . وقال: هذا قاتل أخي! فضرب عنقه، وأقام صلى اللَّه عليه وسلّم على حصار الطائف ثمانية عشر يوما، وقيل تسعة عشر يوما، وصحح ابن حزم إقامته عليه السلام بضع عشرة ليلة وفي الصحاح عن أنس بن مالك قال: فحاصرناهم أربعين يوما. يعني ثقيفا.

مصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فكان في إقامته يصلّي ركعتين بين قبّتين قد ضربتا لزوجتيه أمّ سلمة وزينب رضي اللَّه عنهما. فلما أسلمت ثقيف، بني أمية بن عمرو بن وهب بن معتّب ابن مالك [ (4) ] على مصلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مسجدا، وكان فيه سارية-[فيما
__________
[ (1) ] ليّة: من نواحي الطائف مرّ به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين انصرافه من حنين يريد الطائف (معجم البلدان) ج 5 ص 30.
[ (2) ] من القود: وهو القصاص.
[ (3) ] في (خ) «وحرق عليه» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، (ط) ، واسمه محل خلاف عند أهل السير، ففي (الواقدي) ج 3 ص 927 «أمية ابن عمرو بن وهب» وفي (ابن هشام) ج 4 ص 94: «عمرو بن أمية بن وهب» وفي (الطبري) ج 3 ص 84 «أبو أمية بن عمرو بن وهب» .

(2/22)


يزعمون] [ (1) ]- لا تطلع الشمس عليها [يوما] [ (1) ] من الدهر إلا يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرار، وكانوا يرون أن ذلك تسبيح [ (2) ] .

محاصرة حصن الطائف
ونصب صلى اللَّه عليه وسلّم المنجنيق على حصن الطائف، وقد أشار به سلمان الفارسيّ رضي اللَّه عنه، وقد عمله بيده، وقيل: قدم به يزيد بن زمعة ومعه دبابتان [ (3) ] ، وقيل:
قدم به الطّفيل بن عمرو: وقيل: قدم به وبدبابتين خالد بن سعيد من جرش [ (4) ] ونثر صلى اللَّه عليه وسلّم الحسك حول الحصن، ودخل المسلمون تحت الدبابتين، ثم زحفوا [ (5) ] بها إلى جدار الحصن ليحفروه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك [ (6) ] الحديد محماة بالنار فحرقت الدبابتين- وكانت من جلود البقر- فأصيب من المسلمين جماعة، وخرج من بقي من تحتها فقتلوا بالنبل. فأمر عليه السلام بقطع أعنابهم وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعا ذريعا.
فنادى سفيان بن عبد اللَّه الثّقفي: يا محمد! لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإما أن تدعها [للَّه] [ (7) ] وللرحم كما زعمت! فقال عليه السلام: للَّه وللرّحم! وكفّ عنها.

النازلون من حصن الطائف
ونادى منادى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر [ (8) ] ! فخرج بضعة عشر رجلا: أبو بكرة، والمنبعث، والأزرق [أبو عقبة الأزرق] ، ووردان، ويحنّس النّبّال، وإبراهيم بن جابر، ويسار، ونافع، وأبو السائب [ (9) ] ، ومرزوق، فأعتقهم صلى اللَّه عليه وسلّم، ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل من
__________
[ (1) ] زيادة من الطبري ج 3 ص 84 وابن هشام ج 4 ص 94.
[ (2) ] في (خ) «تسبيحا» .
[ (3) ] في (خ) «دبابتين» .
[ (4) ] في (خ) «بن جرش» .
[ (5) ] في (خ) «رجفوا» .
[ (6) ] السكة: الحديدة التي يحرث بها الأرض.
[ (7) ] زيادة للسياق.
[ (8) ] يقول ابن كثير في (البداية والنهاية) ج 4 ص 347: [هذا الحديث تفرد به أحمد ومداره على الحجاج ابن أرطاة وهو ضعيف، ولكن ذهب الإمام أحمد إلى هذا، فعنده أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار السلام عتق حكما شرعيا مطلقا عاما، وقال آخرون: إنما كان هذا شرطا لا حكما عاما، ولو صح هذا الحديث لكان التشريع العام أظهر كما
في قوله عليه السلام: «من قتل قتيلا فله سلبه» ] .
[ (9) ] كذا في (ط) وفي (خ) «ونافع أبو السائب» وهي رواية (الواقدي) ج 3 ص 931.

(2/23)


المسلمين يمونه ويحمله، وأمرهم أن يقرؤهم القرآن ويعلموهم السنن، فشق ذلك على أهل الطائف.

خير هيت وماتع
وكان مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم، يقال له «ماتع» وآخر يقال «هيت» . وكان «ماتع» [ (1) ] ، يدخل بيوته ويرى أنه لا يفطن لشيء من أمر النساء ولا إربة له، فسمعه وهو يقول لخالد ابن الوليد، [ويقال لعبد اللَّه بن أبي أمية [ (2) ] بن المغيرة] : إن افتتح رسول اللَّه الطائف غدا فلا تفلتنّ منك بادية بنت غيلان! فإنّها تقبل بأربع وتدبر بثمان، وإذا جلست تثنت، وإذا تكلّمت تغنّت وإذا اضطجعت تمنّت، وبين رجليها مثل الإناء المكفأ، مع ثغر كأنه الأقحوان [ (3) ] ،
فقال عليه السلام: ألا أرى هذا الخبيث يفطن لما أسمع!! لا يدخلنّ على أحد من نسائكم! وغرّبهما إلى الحمى، فتشكيا الحاجة [ (4) ] ، فأذن لهما أن ينزلا كل جمعة يسألان ثم يرجعان إلى مكانهما.
فلما توفّي عليه السلام ودخلا مع الناس، أخرجهما أبو بكر رضي اللَّه عنه، فلما توفّي [دخلا مع الناس، أخرجهما عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. فلما توفّي] [ (5) ] دخلا مع الناس.
__________
[ (1) ] يقول (ابن حجر) في (فتح الباري ج 9 ص 334،: «وحكى أبو موسى المديني في كون ماتع لقب هيت أو العكس أو أنهما اثنان خلافا، وجزم الواقدي بالتعدد فإنه قال: كان هيت مولى عبد اللَّه ابن أبي أمية، وكان ماتع مولى فاختة» :
[ (2) ] في (خ) «عبد اللَّه بن أمية» .
[ (3) ] «قال الخطابي: يريد أن لها في بطنها أربع عكن فإذا أقبلت رئيت مواضع بارزة متكسر بعضها على بعض، وإذا أدبرت كانت أطراف هذه العكن الأربع عند منقطع جنبيها ثمانية، وحاصله أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها عكن وذلك لا يكون إلا للسمينة من النساء، وجرت عادة الرجال غالبا في الرغبة فيمن تكون بتلك الصفة» .
(المرجع السابق) ص 335.
والعكنة: ما انطوى وثني من لحم البطن (ترتيب القاموس ج 3 ص 288) .
والثّغر: الفم والأسنان.
والأقحوان: نبت زهره أصفر أو أبيض، ورقه مؤلل كأسنان المنشار، وكثر في الأدب العربيّ تشبيه الأسنان بالأبيض المؤلل منه. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 22.
[ (4) ] في (خ) «فشكبا» .
[ (5) ] ما بين القوسين زيادة للسياق من (الواقدي) ج 3 ص 934 بمعناه.

(2/24)


خبر خولة بنت حكيم
وقالت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص السّلميّة امرأة عثمان بن مظعون:
يا رسول اللَّه، أعطني- إن فتح اللَّه عليك [الطائف] [ (1) ]- حلّى الفارعة بنت الخزاعي [ (2) ] أو بادية بنت غيلان. فقال لها: وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خوله! فذكرت ذلك لعمر رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه! ما حديث حدثتني خولة بنت أنك قلته [ (3) ] ! قال: ولم يؤذن لك فيهم؟ قال: لا! قال أفلا أؤذّن في الناس [ (4) ] بالرحيل؟ قال: بلى.

أذان عمر بالرحيل عن الطائف
فأذّن عمر بالرحيل، فشقّ على المسلمين رحيلهم بغير فتح. ورحلوا، فأمرهم عليه السلام أن يقولوا: لا إله إلا اللَّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده فلما استقلوا المسير قال: قولوا آئبون إن شاء اللَّه تائبون عابدون لربنا حامدون [ (5) ] . وقيل له لما ظعن: يا رسول اللَّه: أدع اللَّه على ثقيف! فقال:
اللَّهمّ أهد ثقيفا وأت بهم! وكان من استشهد بالطائف أحد عشر رجلا [ (6) ] .

خبر أبي رهم
وسار صلى اللَّه عليه وسلّم إلى الجعرانة. فبينا هو يسير- وأبو رهم الغفاريّ إلى جنبه على ناقة له، وفي رجليه نعلان غليظتان- إذ زحمت ناقته ناقة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فوقع حرف نعله على ساق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأوجعه فقال: أوجعتني! [أخّر رجلك! وقرع رجله بالسّوط، وقال أبو رهم: فأخذني ما تقدم من أمري وما تأخر،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، و (ط) ، و (الواقدي) ج 3 ص 935 وفي ابن هشام ج 4 ص 95 «الفارعة بنت عقيل» .
[ (3) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «حديث خولة ما حدثني ... » وفي «الواقدي) ج 3 ص 935 «حدثت خولة ما حدثني أنك قلته» . وفي (ابن هشام) ج 4 ص 95. «ما حديث حدثتنيه خويلة زعمت أنك قلته؟ قال: قد قلته» .
[ (4) ] في (خ) «للناس» .
[ (5) ] (الأذكار للنووي ص 203، باب ما يقول إذا رجع من سفره.
[ (6) ] وفي (ابن سعد) ج 2 ص 158 «اثنى عشر رجلا» .

(2/25)


وخشيت أن ينزل فيّ قرآن لعظيم ما صنعت، فلما أصبحنا بالجعرّانة، خرجت أرعي الظّهر- وما هو يومي- فرقا أن يأتي للنّبيّ عليه السلام رسول يطلبني! فلما روّحت الركاب سألت. فقالوا طلبك النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: إحداهنّ واللَّه [ (1) ] !
فجئته وأنا أترقّب. فقال: إنك [أوجعتني] [ (2) ] برجلك فقرعتك بالسّوط، فخذ هذه الغنم عوضا من [ (3) ] ضربتي
[قال أبو رهم: فرضاه عنّي كان أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها] [ (4) ] .
وحادثة عبد اللَّه بن أبي حدرد [ (5) ] الأسلميّ في مسيره، فلصقت ناقته بناقة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأصاب رجله، فقال:
أخِّ [ (6) ] !! أوجعتني! ودفع رجل عبد اللَّه بمحجن في يده، فلما نزل دعاه وقال له: أوجعتك بمحجني البارحة! خذ هذه القطعة من الغنم. فأخذها فوجدها ثمانين شاة ضائنة [ (7) ] . ولما أراد أن يركب من قرن [ (8) ] راحلته، وطئ له على يدها أبو روعة الجهنيّ، ثم ناوله الزمام بعد ما ركب، فخلّف عليه السلام الناقة بالسوط، فأصاب أبا روعة فالتفت إليه وقال: أصابك السوط؟ قال: نعم، بأبي وأمي:
فلمّا نزل الجعرانة صاح: أين أبو روعة! قال: ها أنا ذا! قال خذ هذه الغنم بالذي أصابك من السّوط أمس.
فوجدها عشرين ومائة.

خبر سراقة بن مالك بن جعشم
ولقيه سراقة بن مالك بن جعشم وهو منحدر إلى الجعرانة، فجعل الكتاب الّذي كتبه أبو بكر رضي اللَّه عنه بين إصبعيه ونادى: أنا سراقة، وهذا كتابي! فقال عليه السلام: هذا يوم وفاء وبرّ، فأدنوه منه، فأسلم وساق إليه الصّدقة.
__________
[ (1) ] إحدى الدواهي التي كان يتوقعها.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) (عن) وما أثبتناه من (المغازي) ج 3 ص 939.
[ (4) ] زيادة يتم بها الخبر من المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) (جدرد) ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (6) ] كذا في (خ) ، (ط) ، وفي (المغازي) أخِّ.
[ (7) ] الضأن من الغنم: ذو الصوف والأنثى ضائنة.
[ (8) ] قرن: قال القاضي عياض: «قرن المنازل، وهو قرن الثعالب بسكون الراء: ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة» . (معجم البلدان) ج 4 ص 332.

(2/26)


وسأله عن الضالة من الإبل تغشى حياضه، وقد ملأها لإبله، فهل له من أجر إن سقاها؟ فقال عليه السلام: نعم! في كل ذات كبد حرّى [ (1) ] أجرا.

هدية رجل من أسلم
واعترض له رجل من أسلم معه غنم فقال يا رسول اللَّه! هذه هدية قد أهديتها لك! - وكان قد أسلم وساق صدقته إلى بريدة بن الحصيب لما خرج مصدّقا- فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: نحن على ظهر كما ترى، فالحقنا بالجعرانة، فخرج يعدو عراض ناقة [ (2) ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يقول. يا رسول اللَّه! تدركني الصلاة وأنا في عطن الإبل [ (3) ] ، أفأصلّى فيه؟ قال: لا! قال: فتدركني وأن في مراح الغنم [ (4) ] ، أفأصلي فيه؟ قال: نعم! قال: يا رسول اللَّه! ربما تباعد بنا الماء ومع الرجل زوجته، فيدنو منها؟ قال: نعم! ويتيمم. قال: يا رسول اللَّه! وتكون فينا الحائض؟ قال: تتيمم! فلحقه عليه السلام بالجعرانة فأعطاه مائة شاة.

سؤال الأعراب
وجعل الأعراب في طريقه يسألونه [أن يقسم عليهم فيئهم من الإبل والغنم] [ (4) ] ، وكثّروا عليه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فنزعته [ (5) ] ، فوقف وهو يقول: أعطوني ردائي! لو كان عدد هذا العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذّابا.

منزله بالجعرانة
وانتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس خلون من ذي القعدة، والسّبي والغنائم بها محبوسة، وقد اتخذ السّبي حظائر يستظلون بها من الشمس، وكانوا ستة آلاف،
__________
[ (1) ] أي في كل روح من الحيوان أجر.
[ (2) ] في (خ) (يعدو إعراض ناقته رسول اللَّه) ، وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 942، ومعناه كما في النهاية: أي يسير حذاءه معارضا له.
[ (3) ] العطن: مبرك الإبل. المراح: الموضع الّذي تروح الماشية إليه ليلا لتبيت فيه.
[ (4) ] زيادة للبيان.
[ (5) ] في (الواقدي) «فنزعته عن مثل شقة القمر» ج 3 ص 942.

(2/27)


والإبل أربعة وعشرين ألف بعير- فيها اثنا عشر ألف ناقة- والغنم أربعين ألفا، وقيل أكثر. فأمر بسر [ (1) ] بن سفيان الخزاعي يقدم مكة فيشتري للسبي ثيابا يكسوهن، وكساهم كلهم. واستأذنّا صلى اللَّه عليه وسلّم بالسّبي، وأقام يتربّص أن يقدم وفدهم وكان قد فرّق منه وهو بحنين، فأعطى عبد الرحمن بن عوف امرأة. وأعطى صفوان ابن أميّة، وعليا، وعثمان، وعمر، وجبير بن مطعم، وطلحة بن عبيد اللَّه، وسعد ابن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجرّاح، والزبير بن العوام رضي اللَّه عنهم.

عطاء المؤلفة قلوبهم
فلما رجع إلى الجعرّانة بدأ بالأموال فقسمها، فأعطى المؤلفة قلوبهم أوّل الناس، وكان مما غنم أربعة آلاف أوقية فضة.

عطاء أبي سفيان
فجاء أبو سفيان بن حرب والفضّة بين يديه، فقال: يا رسول اللَّه! أصبحت أكثر قريش مالا! فتبسّم عليه السلام، فقال أبو سفيان: أعطني من هذا يا رسول اللَّه، قال: يا بلال، زن لأبي سفيان أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال:
ابني يزيد! قال: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال: ابني معاوية يا رسول اللَّه! قال: زن له يا بلال أربعين أوقية وأعطه مائة من الإبل.
قال أبو سفيان: إنك لكريم فداك أبي وأمّي! واللَّه لقد حاربتك فنعم المحارب كنت! ثم سالمتك فنعم المسالم أنت.

عطاء حكيم بن حزام
وسأل حكيم بن حزام يومئذ من الإبل فأعطاه، ثم سأل مائة فأعطاه، ثم قال [صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] : يا حكيم بن حزام إن هذا المال خضرة حلوة. فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس [ (3) ] لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا [ (4) ] خير من اليد السّفلى [ (5) ] ، وابدأ بمن تعول [ (6) ] .
فأخذ
__________
[ (1) ] في (خ) «بشر» وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] إشراف النفس: تطلعها إلى المال بحرص وطمع.
[ (4) ] اليد العليا: يد المعطي.
[ (5) ] اليد السفلى: يد السائل.
[ (6) ] أي بمن تجب عليك نفقتهم.

(2/28)


حكيم المائة الأولى ثم ترك ما عداها.

عطاء النضير بن الحارث
وأعطى النضير بن الحارث بن [علقمة] [ (1) ] بن كلدة- أخا النضر ابن الحارث- مائة، وأعطى أسيد بن جارية [ (2) ]- حليف بني زهرة- مائة من الإبل، وأعطى العلاء بن جارية خمسين بعيرا، وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل، وسعيد بن يربوع خمسين بعيرا، وصفوان بن أميّة مائة بعير.

عطاء صفوان بن أمية
وفي صحيح مسلم عن الزّهريّ أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أعطى يومئذ صفوان بن أمية ثلاثمائة من الإبل. ويقال إنه طاف مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يتصفّح الغنائم إذ مرّ بشعب مما أفاء اللَّه عليه، فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء، فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال: أعجبك يا أبا وهب هذا الشّعب؟ قال: نعم! قال: هو لك وما هو فيه! فقال: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قطّ إلا نبي، وأشهد أنك رسول اللَّه.

عطاء جماعة من المؤلفة قلوبهم
وأعطى قيس بن عديّ مائة من الإبل، وأعطى عثمان بن وهب خمسين بعيرا، وأعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة من الإبل، وأعطى هشام بن عمرو خمسين بعيرا، وأعطى الأقرع بن حابس التميميّ مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل،
وأعطى أبا عامر العبّاس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة [ (3) ] بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث [ابن يحيى بن الحارث] [ (4) ] بن بهثة بن سليم [بن منصور السّلميّ] [ (4) ] دون المائة، فعاتب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في شعر قاله، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اقطعوا عني لسانه! فأعطوه مائة،
ويقال خمسين بعيرا، وأثبت القولين أن هذا العطاء كان من الخمس.
__________
[ (1) ] زيادة من نسبه من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «بن حارثة» .
[ (3) ] في (خ) «جارية» .
[ (4) ] زيادة من نسبه من (ط) .

(2/29)


منع جعيل بن سراقة من العطاء
وقال يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمريّ؟! فقال: أما والّذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع [ (1) ] الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني أتألفهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.

خبر ذي الخويصرة التميمي
وجلس صلى اللَّه عليه وسلّم يومئذ، وفي ثوب بلال رضي اللَّه عنه فضة يقبّضها للناس على ما أراه اللَّه، فأتي ذو الخويصرة التميمي- (واسمه حرصوص) : فقال: اعدل يا رسول اللَّه! فقال: ويلك! فمن يعدل إذا لم أعدل، قال عمر رضي اللَّه عنه:
ائذن لي أن أضرب عنقه! قال: دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم [ (2) ] ، وصيامه مع صيامهم [ (2) ] ويقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّمية [ (3) ] : [ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافة [ (4) ] فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه [ (5) ]- وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم] ينظر إلى قذذه [ (6) ] فلا يوجد فيه شيء [ (7) ] قد سبق الفرث [ (8) ] والدّم.
آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر [ (9) ] ويخرجون على حين فرقة من الناس [ (10) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «طلائع» ، وطلاع الأرض: ملؤها.
[ (2) ] في (خ) «صلاته مع صلاته» ، «وصيامه مع صيامه» .
[ (3) ] مرق السهم من الرمية: نفذ فيها وخرج طرفه من الجانب الآخر، والرمية هي الطريدة التي يرميها الصائد.
[ (4) ] الرصاف: قطعة تلوي فوق مدخل سنخ النصل في عود السهم.
[ (5) ] النضي: هو من عود السهم.
[ (6) ] قذذ السهم: جمع قذه، وهي الريش يكون على السهم. وفي (خ) «في قذذ» .
[ (7) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «فلا يرى فيه شيئا» ورواية (الواقدي) ج 3 ص 948 «فلا يرى شيئا» .
[ (8) ] الفرث: ما يكون في كرش الحيوان من طعامه.
[ (9) ] تدردر: قال في (النهاية) : أي ترجرج، تجيء وتذهب.
[ (10) ] راجع (المغازي للواقدي) ج 3 ص 948.

(2/30)


مقالة رجل من المنافقين
وقال معتب بن قشير العمريّ يومئذ، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يعطي تلك العطايا:
إنها لعطايا ما يراد بها وجه اللَّه!! فأخبر عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بذلك فتغير لونه، ثم قال: يرحم اللَّه أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر [ (1) ] .

إحصاء الناس والغنائم وقسمتها
ثم أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه بإحصاء الناس والغنائم ثم فضّها [ (2) ] على الناس. وكانت سهمانهم: لكل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة. وإن كان فارسا أخذ اثنتي عشرة من الإبل أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له.

وفد هوازن وإسلامهم
وقدم وفد هوازن: وهم أربعة عشر رجلا- رأسهم [ (3) ] أبو صرد زهير ابن صرد الجشمي السعديّ- قد أسلموا وأخبروا بإسلام من وراءهم من قومه فقال أبو صرد: يا رسول اللَّه، إنّا أصل وعشيرة [ (4) ] وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفي عليك، إنما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنّا ملحنا [ (5) ] للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر. ثم نزل منا أحدهما بمثل الّذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته [ (6) ] ، وأنت خير المكفولين.
[وفي رواية [ (7) ] أنه قال: إنما في هذه الحظائر أخواتك وعماتك وبنات عماتك وبنات خالاتك، وأبعدهن قريب منك يا رسول اللَّه! بأبي أنت وأمّي! حضنّك في حجورهنّ، وأرضعتك بثديهنّ وتوركنك على أوراكهن! وأنت خير المكفولين] .
__________
[ (1) ] راجع (صحيح البخاري) ج 3 ص 70.
[ (2) ] فضها: فرّقها.
[ (3) ] في (خ) «وأسهم» .
[ (4) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «أصلك وعشيرتك، وهي رواية (الواقدي) ج 3 ص 950.
[ (5) ] ولو أنا ملحنا: قال في (النهاية) : «أي لو كنا أرضعنا لهما» .
[ (6) ] العائدة: الفضل.
[ (7) ] هي رواية (الواقدي) ج 3 ص 90.

(2/31)


امنن علينا رسول اللَّه في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندّخر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملأه من محضها الدّرر
امنن على نسوة إعتاقها [ (1) ] قدر ... ممزق شملها في دهرها غير
أبقت لما الدّهر هتّافا على حزن ... على قلوبهم الغمّاء والغمر
اللات [ (2) ] إذ كنت طفلا كنت ترضعها ... وإذ يزينك [ (3) ] ما تأتي وما تذر
إلا تداركها نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر
يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشّرر
إنا نؤمّل عفوا منك تلبسه ... هذي البريّة إذ تعفو وتنتصر [ (4) ]
فاعف عفا اللَّه عمّا أنت واهبه ... يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر
تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر آلاء وإن قدمت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر

جواب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن أحسن الحديث أصدقه، وعندي ما ترون من المسلمين، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول اللَّه! خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا [ (5) ] !! وما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فردّ علينا أبناءنا ونسائنا. فقال: أمّا ما [كان] [ (6) ] لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس. فإذا [أنا] [ (7) ] صليت الظّهر بالناس [فقوموا] [ (7) ] فقولوا [ (8) ] : إنا نستشفع برسول اللَّه إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول اللَّه! فإنّي سأقول لكم. ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأطلب لكم إلى الناس.
__________
[ (1) ] في (الواقدي) «قد عافها قدر» وذكرها (السهيليّ) كذا في (الروض الأنف) .
[ (2) ] في (خ) «اللاتي» وفي الواقدي «اللائي» وكلها بمعنى.
[ (3) ] في (خ) « «يريبك» وما أثبتناه من (السهيليّ) .
[ (4) ] في (خ) «تنتصروا» .
[ (5) ] كذا في (ط) وفي (خ) و (الواقدي) «وبين أموالنا» .
[ (6) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (7) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (8) ] في (خ) « «فقالوا: وما أثبتناه من (ط) و (الواقدي) .

(2/32)


رضي المهاجرين والأنصار ورد غيرهم
فلما صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الظهر بالناس، قاموا فتكلموا بما أمرهم به، فأجابهم بما تقدّم فقال المهاجرون: فما كان لنا فهو لرسول اللَّه! وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول اللَّه؟ وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا! وقال عيينة ابن حصن: أما أنا وفزارة فلا! وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا:
فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول اللَّه! فقال عباس: وهّنتموني [ (1) ] .

خطبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في أمر هوازن
ثم قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الناس خطيبا فقال: إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بهم فخيرتهم بين النّساء [ (2) ] والأبناء والأموال، فلم يعدلوا بالنساء والأبناء، فمن كان عنده منهن شيء فطابت [ (3) ] نفسه أن يردّه فسبيل [ (4) ] ذلك، ومن أبي منكم ويمسّك بحقه فليرد عليهم، وليكن فرضا علينا ستّ فرائض من أول ما يفيء اللَّه علينا به! فقالوا: يا رسول اللَّه! رضينا وسلمنا! قال. فمروا عرفاءكم أن يرفعوا ذلك إلينا حتى نعلم فكان زيد بن ثابت على الأنصار يسألهم: هل سلموا ورضوا؟ فخبروه أنهم سلموا ورضوا، ولم يتخلف منهم رجل واحد وبعث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى المهاجرين يسألهم. فلم يتخلف منهم أحد، وكان أبو رهم الغفاريّ يطوف على قبائل العرب. ثم جمعوا العرفاء واجتمع الأمناء الذين أرسلهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فاتفقوا على قول واحد: أنهم سلموا ورضوا. ودفع عند ذلك السّبي إليهم. وتمسكت بنو تميم مع الأقرع بن حابس بالسبي، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الفداء ست فرائض: ثلاث حقاق وثلاث جذاع [ (5) ] وقال يومئذ: لو كان ثابتا [ (6) ] على أحد من العرب ولاء أورق لثبت
__________
[ (1) ] وهنتموني: أضعفتموني.
[ (2) ] في (خ) «الشاء» ، وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 952.
[ (3) ] في (خ) «فطبت» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 952.
[ (4) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «فسبل» . وفي (الواقدي) «فليرسل» .
[ (5) ] الحقاق: جمع حقه وهي الناقة التي استكملت السنة الثالثة في شبابها. والجذاع جمع جذعة، وهي التي استكملت الرابعة ودخلت في الخامسة.
[ (6) ] في (خ) « «ثابت» .

(2/33)


اليوم، ولكن إنما هو إسار أو فدية: وجعل أبا حذيفة العدوي على مقاسم المغنم.

سؤاله عن مالك بن عوف
وقال للوفد [ (1) ] : ما فعل مالك بن عوف؟ قالوا: هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف فقال: إنه إن يأت [ (2) ] مسلما رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل.
وكان قد حبس أهل مالك بمكة عند [عمتهم أم عبد اللَّه بهمة [ (3) ] ابنة أبي أمية] [ (4) ] ، ووقف ماله فلم تجر فيه السهام. فلما بلغ ذلك مالكا [ (5) ] مر من ثقيف ليلا، وقدم الجعرانة وأسلم، وأخذ أهله وماله ومائة من الإبل. ويقال: بل قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو بمكة واستعمله على قومه، وعقد له لواء فقاتل أهل الشرك، وأغار على ثقيف وقاتلهم وقتل وغنم كثيرا. وبعث إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالخمس مما يغير عليه: فبعث مرة مائة بعير ومرة ألف شاة.

مقالة الأنصار إذ منعوا العطاء
ولما أعطى رسول اللَّه عطاياه وجد [ (6) ] الأنصار في أنفسهم- إذ لم يكن فيهم منها شيء- وكثرت القالة، فقال واحد: لقي رسول اللَّه قومه! أما حين القتال فنحن أصحابه! وأما حين القسم فقومه وعشيرته! ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا؟
إن كان هذا من اللَّه صبرنا، وإن كان هذا من رأي رسول اللَّه استعتبناه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فغضب غضبا شديدا. ودخل عليه سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه فقال له: ما يقول قومك؟ قال: وما يقولون يا رسول اللَّه؟! فذكر له ما بلغه وقال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال يا رسول اللَّه؟! فذكر له ما بلغه وقال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال يا رسول اللَّه، ما أن إلا كأحدهم وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟ قال: فاجمع لي من كان ها هنا من الأنصار.
فلما اجتمعوا، حمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال:
__________
[ (1) ] في (خ) «للوقد» .
[ (2) ] في (خ) «بات»
[ (3) ] في (خ) «بهمت» .
[ (4) ] يقول محقق (ط) : «ولم أجد أم عبد اللَّه هذه ولا خبرها» ، ونقول: «أم عبد اللَّه هذه وخبرها بتمامه في (المغازي للواقدي) ج 3 ص 955» .
[ (5) ] في (خ) «مالك» .
[ (6) ] وجد الأنصار في أنفسهم: غضب الأنصار في أنفسهم.

(2/34)


خطبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم؟ وجدة [ (1) ] وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلّالا فهداكم اللَّه؟ وعالة فأغناكم اللَّه، وأعداء فألف اللَّه بين قلوبكم؟ قالوا:
بلى! اللَّه ورسوله أمنّ وأفضل! قال: ألا تجيبوني؟ قالوا: وماذا نجيبك يا رسول اللَّه؟ قال: أما واللَّه لو شئتم قلتم فصدقتم: آتيتنا مكذّبا فصدّقناك! ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك! [وخائفا فأمّناك] [ (2) ] وجدتم في أنفسكم يا مشعر الأنصار في شيء من الدّنيا تألّفت به قوما أسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس [إلى رحالهم] [ (2) ] بالشاء والبعير، وترجعون برسول اللَّه إلى رحالكم؟ والّذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك [ (3) ] الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار. أكتب لكم بالبحرين كتابا من بعدي تكون لكم خاصة دون الناس؟ قالوا: وما حاجتنا بعدك يا رسول اللَّه؟ قال: إمّا لا فسترون بعدي أثره، فاصبروا حتى تلقوا اللَّه ورسوله، فإن موعدكم الحوض، وهو كما بين صنعاء وعمان، وآنيته أكثر من عدد النجوم. اللَّهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار [ (4) ] !! فبكوا حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول اللَّه حظا وقسما. وانصرفوا [ (5) ] .

مقامة بالجعرانة
وأقام عليه السلام بالجعرّانة ثلاث عشرة ليلة. وخرج ليلة الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة، وأحرم ولبّى حتى استلم الركن. وقيل: لما نظر إلى البيت قطع التلبية، وأناخ راحلته على باب بني شيبة، وطاف فرمل [ (6) ] في الأشواط الثلاثة. ولما أكمل طوافه سعى بين الصفا والمروة على راحلته، ثم حلق رأسه عند المروة حلقه أبو هند عند بني بياضة، وقيل حلقه خراش بن أمية. ولم يسق هديا.
ثم عاد إلى الجعرّانة من ليلته، فكان كبائت بها.
__________
[ (1) ] وجدة: من الموجدة وهي الغضب.
[ (2) ] زيادة من كتب السيرة.
[ (3) ] في (خ) «ولولا سلك» .
[ (4) ] كذا في (ط) ، في (خ) ، و (الواقدي) ج 3 ص 958: (وأبناء أبناء الأنصار) .
[ (5) ] راجع (صحيح البخاري) ج 3 ص 69، 70، 71.
[ (6) ] رمل: هرول.

(2/35)


مسيره إلى المدينة
وخرج يوم الخميس على سرف إلى مر الظهران، واستعمل على مكة عتّاب ابن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، وخلّف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري يعلمان الناس القرآن والتفقه في الدين.
وقال لعتاب: أتدري على من استعملتك؟ قال: اللَّه ورسوله أعلم! قال: استعملتك على أهل اللَّه، بلّغ عني أربعا: لا يصلح شرطان في بيع، ولا بيع وسلف، ولا بيع ما لم يضمن، ولا تأكل ربح ما ليس عندك [ (1) ] .

خبر الفتح بالمدينة
وكان أول من قدم المدينة بفتح حنين رجلان من بني عبد الأشهل، هما:
الحارث بن أوس، ومعاذ بن أوس بن عبيد بن عامر [ (2) ] . وقدم صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة.

بعثة عمرو بن العاص إلى ابني الجلندي
وفي هذه السنة- وهي سنة ثمان- بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو ابني الجلندي بعمان مصدّقا، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وأخذ الجزية من المجوس، وهم كانوا أهل البلد. وقيل: كان ذلك في سنة سبع. وفيها تزوّج صلى اللَّه عليه وسلّم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابية ثم فارقها.

مولد إبراهيم عليه السلام
فيها ولدت مارية إبراهيم ابن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في ذي الحجة، وفيها أقام عتاب ابن أسيد بالناس الحجّ، وحج الناس على ما كانت عادة العرب تحجّ، وحج ناس
__________
[ (1) ] (سنن ابن ماجة) ج 2 كتاب التجارات، باب رقم 20 في النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، حديث رقم 2187، 2188، 2189، ص 737، 738، (المغازي) ج 3 ص 959، و (سنن النسائي) ج 7 ص 288 باب (بيع ما ليس عند البائع) .
[ (2) ] لم أجد (معاذ بن أوس) هذا في (الإصابة) ولا في (الاستيعاب) ، وهكذا هو في (خ) .

(2/36)


من المشركين على مدّتهم.

فريضة الصدقات وبعثه المصدقين
ثم كانت فريضة الصدقات وبعثه المصدّقين لهلال المحرم سنة تسع، فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بريدة بن الحصيب بن عبد اللَّه بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح ابن عديّ بن سهم بن مازن بن الحارث بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة ابن عمرو بن عامر الأسلمي- إلى أسلم وغفار يصدّقهم. [ويقال: بل بعث كعب بن مالك الأنصاري ... وبعث عبّاد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة. وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة. وبعث الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب الكلابي إلى بني كلاب، وبعث بسر [ (1) ] بن سفيان الكعبي إلى بني كعب. وبعث ابن اللّتبيّة الأزديّ إلى بني ذبيان. وبعث رجلا من بني سعد إلى هذيم على صدقاتهم.

خبر بسر على صدقات بني كعب
فحرج بسر [ (1) ] بن سفيان على صدقات بني كعب، [ويقال: إنما خرج ساعيا عليهم نعيم بن عبد اللَّه النّحّام العدويّ] ، فجاء وقد حلّ بنواحيهم من بني تميم:
بنو عمرو بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، وهم يشربون علي غدير لهم بذات الأشظاظ، [ويقال: على عسفان] ، ثم أمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة، فحشرت عليه خزاعة الصدقة من كل ناحية، فاستكثرت ذلك بنو تميم، ومنعوا المصدّق وشهروا سيوفهم، ففرّ إلى المدينة، وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بذلك.

خبر خزاعة
وأما خزاعة فإنّها أخرجت التميميين من محالها إلى بلادهم وندب النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم الناس لحربهم، فانتدب [ (2) ] عيينة بن حصن الفزاري، فبعثه في خمسين فارسا ليس فهم مهاجر ولا أنصاريّ. فسار إلى العرج وخرج في آثارهم، حتى وجدهم قد عدلوا من السّقيا يؤمون أرض بني سليم، فلما رأوا الجمع ولوا، وأخذ منهم أحد عشر
__________
[ (1) ] في (خ) «بشر» .
[ (2) ] انتدب: أسرع وبادر.

(2/37)


رجلا وإحدى عشر امرأة وثلاثين صبيا، فجلبهم إلى المدينة فأمر صلى اللَّه عليه وسلّم بهم فحبسوا في دار رملة بنت الحارث.

وفد بني تميم
وقدم وفد بني تميم، وهو عشرة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب بن زرارة في سبعين، والزّبرقان بن بدر بن امرئ القيس بن خلف [ (1) ] بن بهدلة بن عوف ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم البهدلي التيمي السعدي أبو عياش [ (2) ] .
[وقيل أبو شذرة] ، وقيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منفر المنقريّ، وقيس ابن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم بن سنان بن خالد بن منفر، والأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، [والحتات ابن يزيد المجاشعيّ] [ (3) ] ، ورباح بن الحارث بن مجاشع، -[وكان رئيس الوفد:
الأعور بن شامة العنبريّ] [ (4) ]- ودخلوا المسجد قبل الظّهر، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في بيت عائشة رضي اللَّه عنها، وقد أذّن بلال والناس ينتظرون الصلاة فنادوا:
يا محمد! اخرج إلينا! وشهروا أصواتهم فخرج عليه السلام وقيل: إنما ناداه رجل واحد: يا محمد إنّ قدحي رين، وإن شتمي شين! وأقام بلال الصلاة، فتعلقوا به يكلّمونه، فوقف معهم مليا؟، ثم مضى فصلى بالناس الظهر: فلما انصرف إلى بيته ركع [ (5) ] ركعتين، ثم خرج فجلس.

خطبة عطارد بن حاجب
وقدّموا عطارد بن حاجب خطيبهم فقال: الحمد للَّه الّذي له الفضل علينا، والّذي جعلنا ملوكا، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثرهم مالا وأكثرهم عددا. فمن مثلنا من الناس؟ ألسنا برءوس الناس وذوي [ (6) ] فضلهم؟ فمن يفاخر. فليعدد مثل ما عددنا. ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا اللَّه. أقول قولي هذا لأن نؤتي بقول
__________
[ (1) ] في (خ) «خالد» .
[ (2) ] في (خ) «أبو هياش» .
[ (3) ] في (خ) ما بين القوسين ما نصه «وحباب» وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (4) ] زيادة من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «فركع» .
[ (6) ] في (خ) «وذي» .

(2/38)


هو أفضل من قولنا.

جواب ثابت بن قيس
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لثابت بن قيس: قم فأجب خطيبهم.
فقام- وكان من أجهر الناس صوتا- وما درى من ذلك بشيء، ولا هيّأ قبل ذلك ما يقول، فقال: الحمد للَّه الّذي السموات والأرض خلقه، قضي فيهنّ [ (1) ] أمره ووسع كلّ شيء علمه، فلم يكن شيء إلا من فضله، ثم كان ما قدّر أن جعلنا ملوكا، اصطفى لنا من خلقه رسولا، أكرمهم نسبا وأحسنهم زيا، وأصدقهم حديثا. أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه [ (2) ] : أصبح الناس وجها، وأفضل الناس فعالا. ثم كنا أول الناس إجابة حين [ (3) ] دعا رسول اللَّه، فنحن أنصار اللَّه ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه. فمن آمن باللَّه ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر باللَّه ورسوله جاهدناه في ذلك، وكان قبله علينا يسيرا، أقول قولي هذا واستغفر اللَّه [لي ولكم و] [ (4) ] للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس.

شعر الزبرقان بن بدر
وقالوا: يا رسول اللَّه ائذن لشاعرنا، فأذن له، فأقاموا الزّبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا [ (5) ] ... فينا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا [ (6) ] من الأحياء كلّهم ... عند النّهاب وفضل الخير يتبع
ونحن نطعمهم في القحط ما أكلوا ... من السّديف إذا لم يؤنس الفزع
[ثم ترى النّاس تأتينا سراتهم ... من كلّ أرض هوبا ثم تصطنع] [ (7) ]
وننحر الكوم عبطا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
[فلا ترانا إلى حيّ نفاخرهم ... إلا استقادوا، فكاد الرأس يقتطع
__________
[ (1) ] في (خ) «فيهما» .
[ (2) ] في (خ) «وذي رحمة» .
[ (3) ] في (خ) «حنين» .
[ (4) ] زيادة من (ابن كثير) وفي (خ) و (الواقدي) بدون هذه الزيادة.
[ (5) ] في (خ) ، (الواقدي) «نحن الملوك فلا حي يقاربنا» وما أثبتناه من (تاريخ الطبري) ج 3 ص 116.
[ (6) ] في (خ) «قرنا» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 977.
[ (7) ] زيادة من (تاريخ الطبري) ج 3 ص 117.

(2/39)


فمن يقادرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع] [ (1) ]
إنا أبينا ولا يأبى لنا أحد [ (2) ] ... إنا كذلك عند الفخر [ (3) ] نرتفع
تلك المكارم حزناها [ (4) ] مقارعة ... إذا الكرام على أمثالها اقترعوا

شعر حسان
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يا حسان! أجبهم.
فقال:
إنّ الذّوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا [ (5) ] سنة للناس تتبّع
يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الّذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوّهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفّهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
ولا يضنون عن جار بفضلهم ... ولا ينالهم من مطمع طبع [ (6) ]
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق الأدنى سبقهم تبع
أكرم بقوم رسول اللَّه شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
أعفّه ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد ببيشة في أرساغها فدع [ (7) ]
لا فخر إن هم أصابوا من عدوّهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع [ (8) ]
إذا نصبنا لحيّ [ (9) ] لم ندبّ لهم ... كما يدبّ إلى الوحشيّة الدّرع
__________
[ (1) ] زيادة من (تاريخ الطبري) ج 3 ص 117.
[ (2) ] في (خ) « «إذا أتتنا فلا يناما أحد» .
[ (3) ] في (خ) «الفجر» .
[ (4) ] في (خ) «خرناها» .
[ (5) ] في (خ) «قد شرعوا» وما أثبتناه من (ديوان حسان) ص 238.
[ (6) ] في (خ) « «طبعوا» وما أثبتناه من (الديوان) ص 238. وفي (ابن هشام وتاريخ الطبري) :
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع
[ (7) ] في (خ) «فرع» .
[ (8) ] في (خ) «لا فرح إن أصابوا في عدوهم» وما أثبتناه من (الديوان) ص 239 ورواية (الواقدي) «لا يفخرون إذا نالوا عدوهم» ج 3 ص 978.
[ (9) ] في (خ) «وإن أصبنا» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 978.

(2/40)


نسمو إلى الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا [ (1) ]
خذ منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همّك الأمر الّذي منعوا [ (2) ]
فإن في حربهم فاترك عداوتهم ... سمّا غريضا عليه الصاب والسّلع
أهدى لهم مدحه قلب يؤازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع
فإنّهم أفضل [ (3) ] الأحياء كلهم ... إن جدّ بالناس جدّ لقول أو شمعوا [ (4) ]
فسرّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون بمقام ثابت وحسّان، وخلا الوفد فقالوا:
إن هذا الرّجل مؤيد مصنوع له-[وفي رواية: إن هذا الرجل لمؤتّى له]- واللَّه لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولهو أحلم منا! فأسلموا، وكان الأقرع [بن حابس] [ (5) ] أسلم قبل ذلك.

ما نزل من القرآن في وفد بني تميم
وفيهم نزل قول اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (6) ] .

رد أسرى بني تميم
فرد عليهم صلى اللَّه عليه وسلّم الأسرى والسبي. ويقال: سألوه أن يحسن إليهم في سبيهم، فقال لسمرة بن عمرو: هذا يحكم بيننا وبينكم! فقالوا: عمه فينا وهو أفضل منه!
__________
[ (1) ] في (خ) «من أطرافها خشع» وهي رواية الواقدي، وما أثبتناه من (الديوان) .
[ (2) ] في (خ) «الّذي منه» والتصويب من (الديوان) .
[ (3) ] في (خ) «فإن أفضل» وما أثبتناه من (الديوان) .
[ (4) ] في (ط) «أو سمعوا» وصوابها «شمعوا» بالشين المعجمة وهي رواية (خ) ، (الواقدي) .
ومعنى شمعوا: أي هزلوا، وأصل الشمع الطرب واللهو.
[ (5) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (6) ] الآيات 2- 5 من سورة الحجرات، وفي (خ) فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... الآية.

(2/41)


فأبي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. فحكم سمرة أن يمنّ على الشطر ويفدوا الشطر، ففعل.

رئيس وفد بني تميم
كان رئيسهم الأعور بن بشامة العنبري، وكانت أخته صفية سبيت، فعرض النبيّ عليها نفسه فاختارت زوجها، فردها. وقام عمرو بن الأهتم يومئذ يهجو قيس ابن عاصم،
وقد أجازهم النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم كما كان يجيز الوفود إذا قدموا عليه، وقال:
هل بقي منكم من لم نجزه؟ فقالوا: غلام في الرّحل. فقال: أرسلوه نجزه! فقال قيس بن عاصم: إنه غلام لا شرف له! فقال: وإن كان، فإنه وافد وله حق!!
فقال عمرو [ (1) ] شعرا يريد به قيسا. وكانت جوائزهم على يد بلال رضي اللَّه عنه:
لكل واحد ثنتي عشر أوقية ونصف، ولغلام هو أصغرهم خمس أواقي.

بعثة الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق
ثم
كانت بعثة الوليد بن عقبة [بن أبي معيط] [ (2) ] إلى بني المصطلق ليأخذ صدقاتهم، فخرجوا يلقونه بالجزر والغنم فرحا به، فولّي راجعا إلى المدينة، وأخبر أنهم يلقونه بالسلاح ليحولوا بينه وبين الصدقة. فبلغهم ذلك عنه، فقدم وفدهم وقالوا: يا رسول! سل هل ناطقنا أو كلمنا؟ فنزلت فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [ (3) ] ، فقرأها عليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال: من تحبون أن أبعث إليكم؟
قالوا: عبّاد بن بشر، فخرج معهم يقرئهم القرآن ويعلمهم شرائع الإسلام، وقد قال له: خذ صدقات أموالهم، توقّ كرائم أموالهم. فأقام عندهم عشرا ثم انصرف راضيا.

سرية قطبة بن عامر إلى خثعم
وكانت سرية قطبة بن عامر إلى خثعم في صفر سن تسع، فخرج في عشرين رجلا معهم عشرة أبعرة يتعقبوها، [فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضر ويحذرهم. فضربوا عنقه، ثم أمهلوا حتى نام الحاضر فشنّوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعا: وقتل قطبة
__________
[ (1) ] في (خ) «عمر» .
[ (2) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (3) ] الآية 6/ الحجرات.

(2/42)


ابن عامر من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة: وجاء سيل أتيّ [ (1) ] فحال بينهم وبينه، فما يجدون إليه سبيلا. وكانت سهمانهم أربعة أبعرة أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشر من الغنم بعد أن أخرج الخمس] [ (2) ] .

سرية الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب
وكانت سرية الضحاك بن سفيان [ (3) ] بن عوف بن أبي بكر بن كلاب الكلابيّ إلى بني كلاب، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلهم بمن معه وهزمهم [ (4) ] وذلك في ربيع الأوّل.

كتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى بني حارثة بن عمرو
وكتب صلى اللَّه عليه وسلّم إلى بني حارثة بن عمرو بن قريظ يدعوهم إلى الإسلام مع عبد اللَّه ابن عوسجة من غرينة [ (5) ] ، مستهلّ ربيع الأول، فأخذوا [ (6) ] الصحيفة فغسلوها ورقعوا بها دلوهم، وأبوا أن يجيبوا، فقال صلى اللَّه عليه وسلّم- لما بلغه ما لهم ذلك-: ما لم؟
أذهب اللَّه عقولهم! فصاروا أهل رعدة وعجلة وكلام مختلط، وأهل سفه.
وقدم وفد بليّ في ربيع الأول هذا، فنزلوا على رويفع [بن ثابت] [ (7) ] البلويّ.

خبر رعية السحيمي
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبيد اللَّه بن موسى قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الشّعبي: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كتب إلى رعية السّحيمي بكتاب، فأخذ الكتاب فرقع به دلوه. فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سرية فأخذوا أهله وماله، وأفلت رعية- على فرس له- عريانا ليس عليه شيء فأتى ابنته- وكانت
__________
[ (1) ] السيل الأتي الّذي لا يدرى من أين أتي!!
[ (2) ] ما بين القوسين زيادة لتمام الخبر من (ابن سعد) ج 2 ص 162.
[ (3) ] في (خ) «إلى سفيان» .
[ (4) ] في (خ) «وهربهم» .
[ (5) ] في (خ) «بن عرينة» .
[ (6) ] في (خ) «فأخذ» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 982.
[ (7) ] زياد للإيضاح من (ط) .

(2/43)


متزوّجة في بني هلال، وكانوا أسلموا فأسلمت معهم، وكانوا دعوه إلى الإسلام [فأبى] [ (1) ]- وكان مجلس القوم بفناء بيتها، فأتى البيت من وراء ظهره. فلما رأته ابنته عريانا ألقت عليه ثوبا وقالت: مالك؟ قال كلّ الشرّ! ما ترك لي أهل ولا مال! أين بعلك؟ قالت: في الإبل! فأتاه فأخبره، فقال: خذ راحلتي برحلها، ونزودك من اللبن: قال: لا حاجة لي فيه، ولكن أعطني قعود [ (2) ] الرّاعي وإدواة من ماء [ (3) ] ، فإنّي أبادر محمدا لا يقسم أهلي ومالي! فانطلق وعليه ثوب: إذا غطى به رأسه خرجت استه، وإذا غطى استه خرج رأسه. فانطلق حتى دخل المدينة ليلا، فكان بحذاء [ (4) ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
فلما صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الفجر، قال له: يا رسول اللَّه! أبسط يدك لأبايعك! فبسط رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما ذهب رعية ليمسح عليها، قبضها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال له رعية: يا رسول اللَّه! أبسط يدك، قال: ومن أنت؟ قال رعية السحيميّ! قال: فأخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعضده فرفعه [ (5) ] ثم قال: أيها الناس! هذا رعية السحيمي الّذي كتبت إليه فأخذ كتابي فرقع بها دلوه!! أسلم، ثم قال: يا رسول اللَّه! أهلي ومالي! فقال: أما مالك فقد قسم بين المسلمين، وأما أهلك فانظر من قدرت عليه منهم! قال [رعية] [ (6) ] ، فخرجت فإذا ابن لي قد عرف الراحلة، وإذا هو قائم عندها، فأتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقلت: هذا ابني! فأرسل معى بلالا فقال: انطلق معه فسله: أبوك هو؟ فإن قال نعم، فادفعه إليه، قال [رعية] [ (7) ] : فأتاه بلال فقال: أبوك هو؟ قال: نعم، فدفعه إليه. قال: فأتي بلال رضي اللَّه عنه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: واللَّه ما رأيت واحدا منه مستعبرا إلى صاحبه! فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
ذلك جفاء الأعراب!
وقال أبو عمر بن عبد البر رعية السّحيميّ، [ويقال: الرّبعي، ويقال العرنيّ وهو الصواب. يروي أنه من سحيمة عرينة] كتب إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قطعة أدم،
__________
[ (1) ] في (خ) بعد قوله «دعوه إلى الإسلام» ما نصه: «فأتي ابنته» ، وما أثبتناه من (ط) .
[ (2) ] القعود في الإبل: ما يتخذه الراعي للركوب وحمل متاعه وزاده.
[ (3) ] الإداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
[ (4) ] في (خ) «بجدار» .
[ (5) ] في (خ) «فرفعها» .
[ (6) ] زيادة للسياق والإيضاح من (ط) .
[ (7) ] زيادة للبيان والإيضاح من (ط) .

(2/44)


فرقع دلوه بكتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقالت له [ابنته] [ (1) ] ما أراك إلا ستصيبك قارعة! عمدت إلى كتاب سيد العرب فرقعت به [ (2) ] دلوك؟ [وكانت ابنته قد تزوجت في بني هلال وأسلمت] [ (3) ] ،
وبعث إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خيلا.
فأخذوا أهله وماله وولده [ونجا هو عريانا] [ (3) ] ، فأسلم. وقدم علي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أغير على أهلي ومالي وولدي! فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أما المال فقد اقتسم، ولو أدركته قبل أن يقسم كنت أحق به! وأما الولد، فاذهب معه يا بلال، فإن عرفه [ (4) ] ولده فادفعه إليه، فذهب معه فأراه إياه، فقال لابنه، تعرفه؟ قال:
نعم! فدفعه إليه.

سرية علقمة بن مجزر إلى الشعيبة
ثم كانت سرية علقمة بن مجزر المدلجي في ربيع الآخر- في ثلاثمائة رجل- إلى ساحل البحر بناحية مكة وقد تراءى أهل [ (5) ] الشعيبة ناسا من الحبشة في مراكب.
[فانتهى علقمة وأصحابه إلى جزيرة في البحر، وقد خاض إليهم البحر] [ (6) ] ، ففروا منه، فرجع. واستأذنه بعض جيشه في الانصراف فأذن لهم. وأمّر عليهم عبد اللَّه ابن حذافة السّهميّ- وكانت فيه دعابة- فأمر أصحابه أن يتواثبوا في نار [ (7) ] لهم، فلما أرادوا ذلك قال: إنما كنت أضحك معكم! فلما ذكر ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه.

سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس صنم طيِّئ
ثم كانت سرية علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه إلى الفلس- صنم طيِّئ- ليهدمه، في ربيع الآخر، في خمسين ومائة رجل من وجوه الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا، حتى أغاروا على أحياء من العرب، وشنوا الغارة مع الفجر على
__________
[ (1) ] زيادة من (الاستيعاب) ج 3 ص 303.
[ (2) ] في (خ) «رقعت به» .
[ (3) ] زيادة من (ط) نقلها عن (أسد الغابة) .
[ (4) ] في (خ) «فإن عرف والده» هو فاسد المعنى.
[ (5) ] في (خ) «يراما» وفي (ابن سعد ج 2 ص 163 «تراءاهم أهل جدّة» .
[ (6) ] زيادة من (ط) لتمام المعنى.
[ (7) ] في (خ) «على نار» وما أثبتناه حق السياق.

(2/45)


محلة آل حاتم، فسبوا حتى ملئوا أيديهم من السّبي والنعم والشاء. وهدم عليّ رضي اللَّه عنه الفلس صنم طيِّئ وخرّب، ثم عاد. وكانت رايته سوداء، ولواؤه أبيض، ويحمل الراية سهل بن حنيف، واللواء جبّار بن صخر السّلمي، ودليله حريث من بني أسد. وكان فيمن سبي سفّانة بنت حاتم الجواد بن عبد اللَّه بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن أخزم بن أبي أخزم بن ربيعة بن نثل بن جرول بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ، ومن [ (1) ] أسر أسلم، ووجد في بيت الفلس ثلاثة أسياف:
رسوب والمخذم [ (2) ] واليماني وثلاثة أدراع. واستعمل على السبي أبا قتادة، وعلى الماشية والرّثّة [ (3) ] عبد اللَّه بن عتيك. وقسم السبي والغنائم إلا آل حاتم فإنه قدم بهم المدينة، وبالخمس مما غنموا، وبالأسياف الثلاثة صفيّا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.

خبر سفانة بنت حاتم الطائي
فنزلت [سفّانة بنت حاتم] [ (4) ] أخت عدي بدار رملة بنت الحارث. وكان عديّ بن حاتم قد فرّ- لما سمع بحركة عليّ رضي اللَّه عنه- إلى الشام،
فكانت أخت عدي إذا مرّ النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم تقول: يا رسول اللَّه! صلى اللَّه عليك وسلّم! هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علينا منّ اللَّه عليك! فيسألها: من وافدك؟ فتقول: عدي ابن حاتم! فيقول: الفارّ من اللَّه ورسوله؟! حتى يئست. فلما كان اليوم الرابع مرّ [ (5) ] ، فأشار إليها عليّ رضي اللَّه عنه: قومي فكلميه؟ فكلمته فخلى عنها ووصلها
أخاها عدي بن حاتم- وقد لحق بالشأم- فحسنت له أن يأتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقدم المدينة وأسلم، وله في إسلامه قصة.

موت النجاشي
وفي رجب سنة تسع نعي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم النجاشيّ للمسلمين، وصلى عليه بمن معه في اليوم الّذي مات فيه، على بعد ما بين الحجاز وأرض الحبشة، فكان ذلك علما [ (6) ] من أعلام النبوة كبيرا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «وممن» .
[ (2) ] في (خ) «والمحرم» .
[ (3) ] الرثة: المتاع، وهي في (خ) «والورثة» .
[ (4) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «مر يتكلم» .
[ (6) ] في (خ) «علم» ، «كبير» .

(2/46)