إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع غزوة تبوك
ثم كانت غزوة تبوك- وتسمي غزوة العسرة [ (1) ]- في غرة رجب، وسببها أن
أخبار الشأم كانت بالمدينة عند المسلمين، لكثرة من يقدم من الأنباط
بالدّرمك [ (2) ] والزيت، فذكروا أن الرّوم قد جمعت جموعا كثيرة [ (3) ]
بالشأم، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأقبلت مع لخم وجذام [ (4) ] وغسّان
وعاملة، وزحفوا، وقدموا مقدّماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل
بحمص.
ولم يكن ذلك، إنما ذلك شيء قيل لهم فقالوه.
الخبر عن الغزو والبعثة إلى القبائل
وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لا يغزو غزوة إلا ورّى بغيرها-
لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا- حتى كانت غزوة تبوك فغزاها في حرّ
شديد. واستقبل سفرا بعيدا، وعددا كثيرا، فجلى [ (5) ] للناس أمرهم
ليتأهّبوا لذلك أهبته، وأخبرهم بالوجه الّذي يريد. وبعث إلى القبائل وإلى
مكة يستنفرهم إلى عدوهم. فبعث بريدة ابن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع، وبعث
أبا رهم الغفاريّ إلى قومه، وأبا واقد اللّيثيّ إلى قومه، وأبا جعدة
الضّمريّ إلى قومه بالساحل، ورافع بن مكيث ابن جندب بن جنادة إلى جهينة،
ونعيم بن مسعود إلى أشجع، وبديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وبسر بن سفيان إلى
بني كعب بن عمرو، والعباس بن مرداس إلى بني سليم. وحضّ على الجهاد ورغّب
فيه.
صدقات المسلمين للغزو
وأمر بالصدقة فحملت صدقات كثيرة.
وأول من حمل صدقته أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه، جاء بماله كله أربعة
آلاف درهم، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. هل أبقيت شيئا؟
قال: اللَّه ورسوله! وجاء عمر رضي اللَّه عنه بنصف ماله، فقال
__________
[ (1) ] في (خ) «العشرة» .
[ (2) ] الدرمك: الدقيق الأبيض الجيد الخالص.
[ (3) ] في (خ) «كبيرة» .
[ (4) ] في (خ) «خدام» .
[ (5) ] في (خ) «وحكى» ، وجلّي الأمر: أظهره وأبانه.
(2/47)
له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم هل
أبقيت شيئا؟ قال: نعم، نصف مالي ما جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر رضي
اللَّه عنه فقال: ما استبقنا إلى خير إلا سبقني إليه.
وحمل العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه مالا يقال إنه تسعون ألفا. وحمل
طلحة ابن عبيد اللَّه مالا. وحمل عبد الرحمن بن عوف مائتي أوقية. وحمل سعد
بن عبادة ومحمد بن مسلمة [ (1) ] مالا. وتصدق عاصم بن عديّ بتسعين وسقا [
(2) ] تمرا، وجهز عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه ثلث ذلك الجيش، فكان من
أكثرهم نفقة، حتى كفي ثلث ذلك الجيش مؤنتهم، حتى إن كان ليقال: ما بقيت له
حاجة!! فجاء بألف دينار ففرغها في حجر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فجعل
يقلبها ويقول صلى اللَّه عليه وسلّم: ما ضرّ عثمان ما فعل بعد هذا اليوم!
قالها مرارا.
ورغب عليه السلام أهل الغني في الخير والمعروف، فتبادر المسلمون في ذلك،
حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين ويقول: هذا البعير بينكما
تعتقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج.
صدقات النساء
وأتت النساء بكل ما قدرن عليه، فكن يلقين- في ثوب مبسوط بين يدي النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم- المسك، والمعاضد والخلاخل، والأقرطة، والخواتيم،
والخدمات [ (3) ] .
وكان الناس في حر [ (4) ] شديد، وحين طابت الثمار، وأحبّت الظلال، والناس
يحبون المقام ويكرهون الشخوص عنها. وأخذ صلى اللَّه عليه وسلّم الناس بالجد
وعسكر بثنية الوداع، والناس كثير لا يجمعهم كتاب.
خبر المخلفين
وقال صلى اللَّه عليه وسلّم للجدّ بن قيس بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد
بن عديّ ابن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري: أبا وهب! هل لك العام تخرج معنا
لعلك تحتقب من بنات الأصفر [ (5) ] ! قال أو تأذن لي ولا تفتنّي؟ فو اللَّه
لقد عرف قومي ما أحد أشدّ عجبا بالنساء منّي، وإني لأخشى إن رأيت نساء بني
الأصفر أن لا
__________
[ (1) ] في (خ) «بن سلمة» .
[ (2) ] في (خ) «وستا» .
[ (3) ] سبق شرح معاني هذه الألفاظ.
[ (4) ] في (خ) «في عسر شديد» .
[ (5) ] بنات الأصفر: بنات الروم الكاثوليك.
(2/48)
أصبر عنهنّ. فقال: قد أذنت لك! فجعل يثبط
قومه ويقول: لا تنفروا في الحرّ.
فنزل فيه قوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ
رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ
جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ* فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [ (1) ] .
وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا
فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [
(2) ] .
البكاءون
وجاء البكاءون- وهم سبعة: أبو ليلى المازنيّ، وسلمة بن صخر الزّرقيّ،
وثعلبة بن غنمة السّلمي، وعلبة بن زيد الحارثي، والعرباض بن سارية السّلمي،
وهرمي بن عمر المزني وسالم بن عمير. [وقيل: وإن فيهم عبد اللَّه بن المغفّل
ومعقل ابن يسار. وقيل: البكاءون بنو مقرّن السّيمة، وهم من مزينة]-
يستحملون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وكانوا أهل حاجة فقال: لا أجد
ما أحملكم عليه فولّوا يبكون [ (3) ]
فلقي اثنان منهم يامين بن عمير بن كعب [بن عمر بن عمرو بن جحاش النضري] [
(4) ] فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما تتقوى [ (5) ] به على
الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
فأعطاهما ناضحا له [ (6) ] فارتحلاه، وزوّد كلّ واحد صاعين من تمر. وحمل
العباس بن عبد المطلب منهم رجلين، وحمل عثمان ابن عفان منهم ثلاثة.
النهي عن خروج أصحاب الضعف
وقال صلى اللَّه عليه وسلّم: لا يخرجنّ معنا إلا مقو [ (7) ] . فخرج رجل
على بكر صعب [ (8) ]
__________
[ (1) ] الآيتين 81- 82 التوبة، وفي (خ) ... وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي
الْحَرِّ، الآية.
[ (2) ] الآية 49/ التوبة، وفي (خ) « ... ولا تفتنّي، الآية» .
[ (3) ] خبر البكاءين في سورة التوبة، الآية 90 وما بعدها.
[ (4) ] في (خ) «مكان ما بين القوسين «بن عمرو بن جحاش النضري» ، وما
أثبتناه من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «تقوى» .
[ (6) ] الناضح: البعير الّذي يحمل عليه الماء.
[ (7) ] في (خ) «نقوى» ، يقال: رجل مقو: أي: ذو دابة قوية.
[ (8) ] الصعب: الّذي لا ينقاد.
(2/49)
فصرعه بالسويداء، فقال الناس: الشهيد!!
فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مناديا ينادي: لا يدخل الجنة إلا
مؤمن-[وإلا نفس مؤمنة]-، ولا يدخل الجنة عاص.
المنافقون
وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من غير
علة فأذن لهم، وهم بضعة وثمانون رجلا. وجاء المعذرون [ (1) ] من الأعراب
فاعتذروا وهم نفر من بني غفار فيهم خفاف بن إيماء بن رحضة، اثنان وثمانون
رجلا فلم يعذرهم اللَّه، وجاء عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول بعسكره- معه
حلفاؤه من اليهود والمنافقين- فضربه على ثنية الوداع. فكان يقال: ليس عسكر
ابن أبيّ بأقل العسكرين.
وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يستخلف على العسكر أبا بكر رضي
اللَّه عنه، فلما أجمع المسير استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ،
[وقيل محمد ابن مسلمة] .
تخليف علي بن أبي طالب
وخلف علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه علي أهله، فقال المنافقون: ما خلفه
إلا استقلالا له! فأخذ سلاحه ولحق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
بالجرف وأخبره ما قالوا، فقال: كذبوا! إنما خلّفتك لما ورائي! فارجع
فاخلفني في أهلي وأهلك، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا
أنه لا نبيّ بعدي، فرجع.
الأمر بحمل النعال
وسار عليه السلام وقال: استكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكبا ما
دام منعلا.
تخلف المنافقين
فلما سار تخلف ابن أبيّ فيمن تخلف من المنافقين وقال: يغزو محمد بني
__________
[ (1) ] المعذرون: الذين يعتذرون، ولا عذر لهم على الحقيقة.
(2/50)
الأصفر- مع جهد الحال والحر والبلد البعيد-
إلى مالا قبل له به؟! يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟! ونافق بمن معه
ممن هو على مثل رأيه، ثم قال: واللَّه لكأنّي انظر إلى أصحابه غدا مقرنين
في الحبال.
الألوية
فلما رحل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من ثنيّة الوداع عقد الألوية
والرايات. فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه، ورايته العظمي
إلى الزبير، وراية الأوس إلى أسيد بن الحضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة،
[ويقال: إلى الحباب بن المنذر ابن الجموح] ، وأمر كل بطن من الأنصار
والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء أو راية.
خبر العبد المملوك
فلقيه عبد لامرأة من بني ضمرة وهو متسلح، فقال: أقاتل معك يا رسول اللَّه؟
فقال: وما أنت؟ قال، مملوك لامرأة من بني ضمرة سيئة الملكة [ (1) ] فقال:
ارجع إلى سيّدتك! لا تقتل معي فتدخل النار!!
عدة المسلمين
وسار معه ثلاثون ألفا، وعشرة آلاف فرس، واثنا عشر ألف بعير. وقال أبو زرعة:
كانوا سبعين ألفا. وفي رواية: أربعين ألفا.
تخلف نفر من المسلمين
وتخلف نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب، منهم:
كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين [ (2) ] بن كعب بن سواد بن غنم ابن
كعب بن سلمة الأنصاريّ، وهلال بن أمية الواقفيّ، وأبو خيثمة عبد اللَّه ابن
خيثمة السالميّ، ومرارة بن الربيع العمري، ثم إن أبا خيثمة أدرك رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بتبوك.
__________
[ (1) ]
وفي الحديث: «لا يدخل الجنة سيّئ الملكة»
أي الّذي يسيء صحبة مماليكه وعبيده.
[ (2) ] في (خ) «القيس» .
(2/51)
وكان دليله عليه السلام علقمة بن الغفواء [
(1) ] الخزاعي. وجمع- من يوم نزل ذا خشب- بين الظهر والعصر في منزله: يؤخر
الظهر حتى يبرد ويعجّل العصر، ثم يجمع بينهما. فكان ذلك فعله حتى رجع من
تبوك.
المتخلفون
ولما مضى من ثنية الوداع، جعل يتخلف عنه قوم، فيقولون: يا رسول اللَّه!
تخلف فلان! فيقول: دعوه! فإن يك فيه خير فيلحقه اللَّه بكم، وإن يك غير ذلك
فقد أراحكم اللَّه منه.
وخرج معه ناس من المنافقين كثير، لم يخرجوا إلا رجاء الغنيمة.
خبر أبي ذر
وأبطأ أبو ذر رضي اللَّه عنه من أجل بعيره: كان نضوا أعجف [ (2) ] ، ثم عجز
فتركه وحمل متاعه على ظهره: وسار ماشيا في حر شديد وحده، حتى لحق رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم نصف النهار وقد بلغ منه العطش، فقال له:
مرحبا بأبي ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده! ما خلفك؟ فأخبره خبر
بعيره، فقال:
إن كنت لمن أعزّ أهلي عليّ تخلّفا! لقد غفر اللَّه لك بكلّ خطوة ذنبا إلى
أن بلغتني.
خبر أبي رهم
وسايره أبو رهم- كلثوم بن الحصين الغفاريّ- ليلة فألقى عليه النّعاس،
فزاحمت عليه راحلته راحلة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- ورجله في
الغرز- فما استيقظ إلا بقوله: حسّ [ (3) ] ! فقال: يا رسول اللَّه، استغفر
لي، فقال: سر! وجعل يسأله عمّن تخلّف من بني غفار ويخبره، فقال: ما منع أحد
أولئك حين تخلف أن يحمل علي بعيره رجلا نشيطا في سبيل للَّه ممّن يخرج
معنا، فيكون له مثل أجر الخارج! إن كان لمن أعزّ أهلي عليّ أن يتخلف عنّي:
المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم.
__________
[ (1) ] في (خ) «الغفراء» . لم أجده فيمن اسمه علقمة وأثبتناه من المغازي ص
999.
[ (2) ] النضو: الأعجف: الّذي أهزلته الأسفار وأذهب الجوع سمنه.
[ (3) ] كلمة تقال للتوجع.
(2/52)
جهد المسلمين
ومرّ على بعير قد تركه صاحبه من الضعف، فمرّ به مارّ فعلفه أياما ثم حمله
وقد صلح، فخاصمه فيه صاحبه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من
أحيا خفا أو كراعا بمهلكة من الأرض فهو له. وشكوا إليه صلى اللَّه عليه
وسلّم ما بظهرهم من الجهد، فتحين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مضيقا
سار الناس فيه وهو يقول: مرّوا باسم اللَّه، فجعل ينفح [ (1) ] بظهورهم وهو
يقول: اللَّهمّ احمل عليها في سبيلك، فإنك تحمل على القوى والضعيف، والرطب
واليابس، والبر والبحر! فلما بلغوا المدينة جعلت تنازعهم أزقتها بدعوته صلى
اللَّه عليه وسلّم.
وصلى يوما بأصحابه وعليه جبة صوف وقد أخذ بعنان فرسه، فبال الفرس فأصاب
الجبة فلم يغسله. وقال: لا بأس بأبوالها ولعابها وعرقها. لكنّ يعارضه قوله:
استنزهوا من البول، وهو أصحّ.
مقالة المنافقين
وكان رهط من المنافقين يسيرون، منهم: وديعة بن ثابت أخو بني عمرو ابن عوف،
والجلاس بن سويد بن الصامت، ومخشّي بن حميّر من أشجع حليف بني سلمة وثعلبة
بن حاطب، وقال ثعلبة: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ واللَّه لكأنّي
بكم غدا مقرنين في الحبال! وقال وديعة بن ثابت: ما لي أرى قراءنا [ (2) ]
هؤلاء أرغبنا [بطونا] [ (3) ] ، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؟ قال
الجلاس بن سويد- زوج أم عمير [ (4) ]-: هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل
منا، واللَّه لئن كان محمد صادقا لنحن شرّ من الحمير! ورسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم الصادق وأنت الكاذب! وقال مخشي بن حمير: واللَّه لو وددت
أنّي أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأننا ننفلت من أن ينزل فينا
قرآن بمقالتكم!
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لعمار بن ياسر رضي اللَّه عنه:
أدرك القوم فإنّهم قد
__________
[ (1) ] في (خ) «ينفخ» ، ينفح: يدفع.
[ (2) ] في (خ) «قرانا» .
[ (3) ] هذه الكلمة غير بينة في (خ) وفي (الواقدي) ، «أو عينا بطونا» ج 3 ص
103.
[ (4) ] عمير بن سعد الأنصاري.
(2/53)
اخترقوا [ (1) ] .
فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى! قد قلتم كذا وكذا!! فذهب إليهم فقال
لهم، فأتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يعتذرون إليه فقال وديعة بن
ثابت- ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على ناقته، وقد أخذ بحقبها [ (2)
]-: يا رسول اللَّه! إنما كنا نخوض ونلعب! فأنزل اللَّه فيه: وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ* لا
تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ
طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ [
(3) ] .
وقال مخشي بن حميّر: يا رسول اللَّه! قعد بي اسمي واسمي أبي! فكان الّذي
عفي عنه في هذه الآية مخشي، فتسمى عبد الرحمن، وسأل اللَّه أن يقتله شهيدا
لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر.
وجاء الجلاس فحلف ما قال من ذلك شيئا. فأنزل اللَّه فيه: يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ
إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ
أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ
خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً
أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [ (4) ] .
وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه- وكان محتاجا- فلما قدم رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة أخذها له فاستغنى بها.
وادي القرى
ومرّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في وادي القرى على حديقة امرأة
فقال: اخرصوها فجاء خرصها عشرة أوسق [ (5) ] فقال لها: احفظي ما خرج منها
حتى نرجع إليك.
__________
[ (1) ] في (خ) «احترقوا: بالحاء المهملة» والأجود بالخاء، من الاختراق،
وهو الاختلاق الكذب، من ذلك قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ
بِغَيْرِ عِلْمٍ، راجع هامش (ط) ، وفي (زاد المعاد) ج 3 ص 936 «احترقوا»
وأيضا في (تاريخ الطبري) ج 3 ص 108.
[ (2) ] الحقب: حزام يشد به البعير.
[ (3) ] الآيتان 65، 66/ التوبة، وفي (خ) ... نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، الآية.
[ (4) ] الآية 74/ التوبة، وفي (خ) وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ
وقوله تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
مِنْ فَضْلِهِ، الآية.
[ (5) ] الأوسق: جمع وسق، وهو حمل بعير.
(2/54)
نزول الحجر وهبوب
الريح
فلما أمسى بالحجر قال: إنها ستهبّ الليلة ريح شديدة، فلا يقومنّ منكم أحد
إلا مع صاحبه، ومن كان له بعير فليوثق عقاله، فهاجت ريح شديدة ولم يقم أحد
إلا مع صاحبه، إلا رجلين من بني ساعدة: خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في
طلب بعيره. فأما الّذي خرج لحاجته، فإنه خنق على مذهبه، وأما الّذي ذهب في
طلب بعيره فاحتملته الريح فطرحته بجبل طيِّئ فأخبر عليه السلام خبرهما
فقال: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا معه صاحب له؟ ثم دعا للذي أصيب على مذهبه
فشفى، وأما الآخر فإن طيِّئا قدمت به إلى المدينة.
هدية بني عريض
وأهدى له عليه السلام بنو عريض اليهودي هريسا فأكلها، وأطعمهم أربعين وسقا،
فلم تزل جارية عليهم [ (1) ] .
خبر بئر الحجر
واستقى الناس من بئر الحجر [ (2) ] وعجنوا، فنادى منادى النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم: لا تشربوا من مائها ولا توضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين
فاعلفوه الإبل، فجعل الناس يهريقون ما في أسقيتهم، وتحوّلوا إلى بئر صالح
عليه السلام فارتووا منها. وقال يومئذ: لا تسألوا نبيكم الآيات! هؤلاء قوم
صالح سألوا نبيهم آية، فكانت الناقة ترد عليهم من هذا الفجّ، تسقيهم من
لبنها يوم وردها ما شربت من مائهم.
فعقروها، فأوعدوا ثلاثا، وكان وعد اللَّه غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة،
وقال يومئذ: لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن
لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم ما أصابهم.
وجاء رجل بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذبين، فأعرض عنه واستتر بيده أن
ينظر إليه، وقال: ألقه! فألقاه.
وقال لأصحابه حين حاذاهم: إن هذا وادي القرى! فجعلوا يوضعون فيه
__________
[ (1) ] في (خ) «فلم يزل حارثة عليهم، وفي (الواقدي) ج 3 ص 1006 «فهي جارية
عليهم» .
[ (2) ] الحجر: ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام.
(2/55)
ركابهم حتى خرجوا منه. وأوضع صلى اللَّه
عليه وسلّم راحلته.
قلة الماء ودعاء رسول اللَّه بالمطر
وارتحل من وادي القرى فأصبح ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إليه، فاستقبل القبلة
ودعا- ولا يرى في السماء سحاب- فما برح يدعو حتى تألف السحاب من كل ناحية،
فما رام مقامه حتى سحب عليهم السماء بالرواء. ثم كشف اللَّه السماء من
ساعتها والأرض غدر [ (1) ] ، فسقى الناس وارتووا من آخرهم، فكبر رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وقال: أشهد أنّي رسول اللَّه! فقال عبد
اللَّه بن أبي حدرد لأوس ابن قيظي-، [ويقال لزيد بن اللصيت القينقاعيّ]-
وكان من المنافقين:
ويحك!! بعد هذا شيء؟ فقال: سحابة مارة.
خبر ناقة رسول اللَّه التي ضلّت ومقالة المنافق
وارتحل عليه السلام فأصبح في منزل، فضلّت ناقته القصواء، فخرج المسلمون في
طلبها، وكان زيد بن اللصيت أحد بني قينقاع، وكان يهوديا فأسلم فنافق، وكان
فيه خبث اليهود وغشهم، وكان مظاهرا لأهل النفاق، وقد نزل في رحل عمارة بن
حزم، وعمارة عند رسول اللَّه- فقال زيد: أليس محمد يزعم أنه نبيّ وهو
يخبركم بأمر السماء، ولا يدري أين ناقته؟ وأنّي واللَّه لا أعلم إلا ما
علمني اللَّه، وقد دلني عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا- لشعب به [
(2) ]- حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوا بها [ (3) ] .
فذهبوا، فجاءوا وقد وجدها الحارث بن خزمة [ (4) ] الأشهلي، كما قال عليه
السلام. فرجع عمارة بن حزم إلى رحلة فقال: العجب من شيء حدّثناه رسول
اللَّه آنفا عن مقالة قائل أخبره اللَّه عنه كذا وكذا!! - للذي قال زيد-
فقال أخوه عمرو بن حزم ولم يحضر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن
زيدا هو قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا! فأقبل عمارة بن حزم على زيد
بن اللّصيت يجأه [ (5) ] في عنقه ويقول: إن في رحلي لداهية [ (6) ] وما
أدري!! أخرج يا عدو اللَّه من رحلي! فقال زيد: لكأنّي لم أسلم إلا اليوم!
قد كنت شاكّا
__________
[ (1) ] في (خ) «غدرا» ، وغدر: جمع غدير وهو مستنقع الماء يغادره السيل.
[ (2) ] في (خ) «لشغب إليه» .
[ (3) ] في (خ) «حتى بانوا» .
[ (4) ] في (خ) «حزمة» .
[ (5) ] وجأ: لكز ووكز.
[ (6) ] في (خ) «أراهية» .
(2/56)
في محمد، وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرة،
أشهد أنه رسول اللَّه! فقيل: إنه تاب، وقيل: لم يزل فسلا [ (1) ] حتى مات.
نبوءة الفتوح
وقال ليلة وهم يسيرون: إن اللَّه أعطاني الكنزين: فارس والروم، وأمدني
بالملوك ملوك حمير: يجاهدون في سبيل اللَّه، ويأكلون فيء اللَّه [ (2) ] .
تأخره صلى اللَّه عليه وسلّم عن صلاة الصبح
ولما كان بين الحجر وتبوك ذهب لحاجته- وكان إذا ذهب أبعد-، فتبعه المغيرة
بن شعبة بماء في إدواة بعد الفجر، فأسفر الناس بصلاتهم حتى خافوا الشمس،
فقدّموا عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه فصلى بهم. فلما فرغ صلى اللَّه
عليه وسلّم من حاجته، صبّ عليه المغيرة من الإداوة فغسل وجهه. ثم أراد أن
يغسل ذراعيه فضاق كم الجبة- وكان عليه جبة رومية- فأخرج يديه من تحت الجبة
فغسلهما ومسح خفيه.
صلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بصلاة عبد الرحمن بن عوف رضي
اللَّه عنه
وانتهى إلى عبد الرحمن رضي اللَّه عنه وقد ركع بالناس ركعة، فسبح الناس حين
رأوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى كادوا أن يفتنوا، فجعل عبد
الرحمن يريد أن ينكص وراءه، فأشار إليه عليه السلام: أن أثبت! فصلى رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خلف عبد الرحمن ركعة، فلما جلس عبد الرحمن
تواثب الناس، وقام صلى اللَّه عليه وسلّم للركعة الباقية ثم سلم بعد فراغه
منها، وقال أحسنتم، إنه لم يتوفّ [ (3) ] نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته.
__________
[ (1) ] الفسل: الرديء الّذي لا مروءة له.
[ (2) ] في (خ) «في اللَّه» بغير همز، ونقله محقق (ط) بغير همز أيضا مما
أدى إلى فساد المعنى، الأمر الّذي جعله يقول: «ولم أجد الخبر» وما أثبتناه
من (الواقدي) ج 3 ص 1011.
[ (3) ] في (خ) «ولم يتوفى» .
(2/57)
خبر الأجير ورجل من
العسكر
وأتاه [ (1) ] يومئذ يعلى بن منية بأجير له قد نازع رجلا من العسكر فعضه
الرجل، فانتزع الأجير يده من في [ (2) ] العاضّ فانتزع ثنيته، فلزمه
المجروح وبلغ به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: يعمد أحدكم فيعضّ أخاه
كما يعض الفحل! فأبطل صلى اللَّه عليه وسلّم ما أصاب من ثنيته.
نهيه صلى اللَّه عليه وسلّم عن الشرب من عين تبوك حتى يقدم
وقال: إنكم ستأتون غدا إن شاء اللَّه تعال عين تبوك: وإنكم لن تأتوها حتى
يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمسّ من مائها حتى آتي، فسبق رجلان من
المنافقين إليها- والعين تبضّ بشيء [ (3) ] من ماء- فسألهما عليه السلام:
هل مسستما من مائها شيئا؟ قالا: نعم! فسبّهما وقال لهما ما شاء اللَّه أن
يقول. ثم غرفوا من العين بأيديهم قليلا حتى اجتمع في شيء ثم غسل فيه وجهه
ويديه ثم أعاده فيها، فجاءت العين بماء كثير فاستسقى الناس. ثم قال [لمعاذ
بن جبل] [ (4) ] : يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد مليء
جنانا!
وقال يوما في مسيره: من شهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له حرمه
اللَّه على النار.
خبر الحية التي سلمت عليه صلى اللَّه عليه وسلّم
وعارض الناس في سيرهم حية ذكر من عظمها وخلقها شيء كثير، فأقبلت حتى واقفت
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو على راحلته طويلا، والناس ينظرون
إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة، فأقبل الناس حتى لحقوا
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال لهم: هل تدرون من هذا [ (5) ] ؟
قالوا: اللَّه ورسوله أعلم! قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين
وفدوا إلى يستمعون القرآن، فرأى عليه من [ (6) ] الحق- حين ألمّ رسول
اللَّه ببلده- أن يسلم عليه، وها هو ذا يقرئكم السلام
__________
[ (1) ] في (خ) «وأياه» .
[ (2) ] من في: من فم.
[ (3) ] بض الماء: إذ خرج قليلا قليلا.
[ (4) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «ما هذا» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 1015.
[ (6) ] في (خ) «من من» مكررة.
(2/58)
فسلّموا عليه! فقال الناس جميعا: وعليه
السلام ورحمة اللَّه، فقال: أجيبوا عباد اللَّه من كانوا.
رقاده صلى اللَّه عليه وسلّم عن صلاة الفجر
ولما كان من تبوك على ليلة، رقد [ (1) ] صلى اللَّه عليه وسلّم فلم يستقيظ
حتى كانت الشمس قيد رمح [ (2) ] ، فقال: يا بلال، ألم أقل لك اكلأنا الليلة
[ (3) ] ؟ فقال: يا رسول اللَّه ذهب بي النوم، ذهب بي الّذي ذهب بك! فارتحل
عليه السلام من ذلك المكان غير بعيد ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم صلى
الفجر، ثم سار يومه وليلته فأصبح بتبوك فجمع الناس
ثم قال:
خطبته صلى اللَّه عليه وسلّم بتبوك
أيها الناس، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه، وأوثق العرى كلمة
التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنن محمد، وأشرف الحديث ذكر
اللَّه، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور
محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى
الضلالة الضلالة بعد الهدي، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدي ما أتّبع، وشر
العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السّفلى، وما قل وكفى خير مما
كثر وألهى. وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة. ومن
الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا، ومنهم من لا يذكر اللَّه إلا هجرا. ومن
أعظم الخطايا اللسان الكذوب.
وخير الغني غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة اللَّه، وخير
ما ألقى في القلب اليقين، والارتياب من الكفر. والنياحة من عمل الجاهلية،
والغلول من جمر جهنم، والسّكر كنّ من النار. والشّعر من إبليس، والخمر جماع
الإثم، والنساء حبالة إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب
الربا، وشر المال أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقىّ من شقي في
بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضوع أربع أذرع والأمر إلى آخره، وملاك
العمل خواتمه، وشر الرّؤيا رؤيا الكذب، وكلّ ما هو آت قريب. وسباب المؤمن
فسوق،
__________
[ (1) ] كذا في (ط) وفي (خ) ، (والواقدي) ج 3 ص 1015 «استوقد» .
[ (2) ] أي قدر رمح في ارتفاعها.
[ (3) ] اكلأنا: احفظنا.
(2/59)
وقتل المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية
اللَّه، وحرمة ماله كحرمة دمه. ومن يتألّ [ (1) ] على اللَّه يكذّبه، ومن
يعف يعف اللَّه عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره اللَّه، ومن يصبر على الرّزية
يعوّضه اللَّه. ومن يتتبع السّمعة يسمّع اللَّه به [ (2) ] . ومن يصبر
يضاعف اللَّه له، ومن يعص اللَّه يعذّبه. اللَّهمّ اغفر لي ولأمتي.
اللَّهمّ اغفر لي ولأمتي، أستغفر اللَّه لي ولكم.
عظته صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يطوف بالناس
وطاف على ناقته بالناس وهو يقول: يا أيها الناس، يد اللَّه فوق يد المعطي،
ويد المعطي الوسطي ويد المعطى السفلي، أيها الناس، فتغنّوا ولو بحزم الحطب.
اللَّهمّ هل بلغت! ثلاثا. فقال له رجل من بني عذرة- يقال له عدي-: يا رسول
اللَّه، إن امرأتين لي اقتتلتا، فرميت فأصبت إحداهما في رميتي؟ [يعني ماتت]
، فقال له: تعقلها [ (3) ] ولا ترثها.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم في أهل اليمن وأهل المشرق
ونظر بتبوك نحو اليمن، ورفع يديه يشير إلى أهلها وقال: الإيمان يمان! ونظر
نحو المشرق، وأشار بيده وقال: إن الجفاء وغلظ القلوب في الفدّادين [ (4) ]
أهل الوبر من المشرق حيث يطلع الشيطان قرنيه.
خبر البركة في الطعام
وجلس بتبوك في نفر من أصحابه هو سابعهم،
فجاء رجل من بني سعد بن هذيم فسلم فقال: اجلس، فقال: يا رسول اللَّه، أشهد
أن لا إله إلا اللَّه وأنك
__________
[ (1) ] أي يحكم عليه ويحلف كأن يقول: واللَّه ليدخلن اللَّه فلانا النار،
ونحوه.
[ (2) ] سمّع اللَّه به، فضحه وشهر به في أسماع الناس.
[ (3) ] تعقلها: تدفعه ديتها.
[ (4) ] الفدادون: أصحاب الإبل الكثيرة.
(2/60)
رسول اللَّه! فقال: أفلح وجهك، ثم قال: يا
بلال، أطعمنا! فبسط نطعا [ (1) ] ، ثم أخرج من حميت [ (2) ] له خرجات من
تمر معجون بسمن وإقط، ثم قال عليه السلام: كلوا: فأكلوا حتى شبعوا، فقال
الرجل: يا رسول اللَّه: إن كنت لآكل هذا وحدي! فقال: الكافر يأكل في سبعة
أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد.
ثم جاء من الغد متحيّنا الغداء ليزداد في الإسلام يقينا، فإذا عشرة حوله
عليه السلام فقال: هات أطعمنا يا بلال! فجعل يخرج من جراب تمرا بكفّه قبضة
قبضة، فقال:
أخرج ولا تخف من ذي العرش إقتارا! فجاء بالجراب فنثره فحرزه الرجل مدّين،
فوضع صلّى اللَّه عليه وسلّم يده على التمر. ثم قال: كلوا باسم اللَّه!
فأكل القوم وأكل الرجل- وكان صاحب تمر- حتى ما يجد [له] [ (3) ] مسلكا،
وبقي على النّطع مثل الّذي جاء به بلال، كأنهم لم يأكلوا منه تمرة واحدة.
ثم عاد الرجل من الغد، وعاد نفر. فكانوا عشرة أو يزيدون رجلا أو رجلين،
فقال عليه السلام: يا بلال أطعمنا! فجاء بذلك الجراب بعينه فنثره، ووضع
صلّى اللَّه عليه وسلّم يده عليه وقال: كلوا باسم اللَّه! فأكلوا حتى نهلوا
[ (4) ] ، ثم رفع مثل الّذي صبّ. ففعل ذلك ثلاثة أيام.
بعثة هرقل رجلا من غسان
وكان هرقل ملك الروم بعث رجلا من غسان إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
ينظر إلى صفته، وإلى علامته، فوعى أشياء من حاله، وعاد إليه فذكر ذلك. فدعا
هرقل الروم إلى التصديق به، فأبوا حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه لم
يتحرك ولم يوجف [ (5) ] . وكان الّذي خبّر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم-
عن تعبئته أصحابه، ودنوّه إلى أدنى الشام- باطلا [ (6) ] ، لم يرد ذلك هرقل
ولا همّ به.
__________
[ (1) ] النطع: مفرش من الجلد.
[ (2) ] الحميت: زق من الجلد لا شعر عليه يكون فيه السمن ونحوه.
[ (3) ] زيادة للسياق من (الواقدي) ج 3 ص 1018.
[ (4) ] كذا في (خ) ، و (الواقدي) ، وفي (ط) «حتى شبعوا» ، يقول محقق (ط)
[ونهل لا يكون إلا للشراب يشربه الرجل حتى يروي، فهو كالشبع من الطعام]
ونقول: النّهل من الطعام ما أكل، راجع (ترتيب القاموس) ج 4 ص 453.
[ (5) ] في (خ) «يرجف» ، أوجف خيله: أسرع به السير.
[ (6) ] في (خ) «باطل» .
(2/61)
المشورة في السّير إلى القتال
وشاور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في التقدم، فقال عمر بن الخطاب
رضى اللَّه عنه:
إن كنت أمرت بالمسير فسر! فقال: لو أمرت ما استشرتكم فيه.
قالوا: يا رسول اللَّه، إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل
الإسلام، وقد دنوت منهم حيث ترى، وقد أفزعهم دنوّك، فلو رجعت هذه السنة حتى
ترى، أو يحدث اللَّه لك في ذلك أمرا.
هبوب الريح لموت المنافق
وهاجت ريح شديدة بتبوك فقال عليه السلام: هذا لموت منافق عظيم النفاق، فلما
قدموا المدينة وجدوا منافقا قد مات عظيم النفاق.
وأتي بجبنة فقالوا: هذا طعام تصنعه فارس، وإنا نخشى أن يكون فيه ميتة،
فقال: ضعوا فيه السكين واذكروا اسم اللَّه.
النهي عن إخصاء الخيل
وأهدى إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل من قضاعة فرسا، فأعطاه رجلا من
الأنصار وأمر أن يربطه حياله، استئناسا بصهيله. فلم يزل كذلك حتى قدم عليه
السلام المدينة ففقد صهيله، فسأل عنه صاحبه فقال: خصيته يا رسول اللَّه!
فقال: مه! [ (1) ] فإن الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: وقام بتبوك
إلى فرسه الظّرب فعلّق عليه شعيرة ومسح ظهره [ (2) ] بردائه.
غزوة أكيدر بدومة الجندل
ثم كانت غزوة أكيدر بدومة الجندل، بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
خالد بن الوليد
__________
[ (1) ] مه: اسم فعل أمر بمعني «اكفف» .
[ (2) ] في (خ) «مسح بظهره» .
(2/62)
من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا- إلى
أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل في رجب، وهي على ليال من المدينة،
وكان أكيدر من كندة قد ملكهم، وكان نصرانيا. فقال خالد: يا رسول اللَّه:
كيف لي به وهو وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال ستجده يصيد
البقر فتأخذه! وقال: فلا تقتله وأت [ (1) ] به إليّ، فإن أبى فاقتلوه!
فخرج خالد، حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو
على سطح له من الحرّ، ومعه امرأته- الرباب بنت أنيف بن عامر- وقينته تغنيه
وقد شرب، فأقبلت البقر تحكّ بقرونها باب الحصن:
فأشرفت امرأته فرأت البقر فقالت: من يترك هذا؟! قال: لا أحد!! قال أكيدر:
واللَّه ما رأيت جاءتنا ليلا بقر غير تلك الليلة! ولقد كنت أضمّر لها
الخيل- إذا أردت أخذها- شهرا أو أكثر، ثم أركب بالرجال وبالآلة.
فنزل فأمر بفرسه فسرج، وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيته معه:
أخوه حسان ومملوكان له. فخرجوا من حصنهم بمطاردهم [ (2) ] ، وخيل خالد
تنتظرهم: لا يصهل منها فرس ولا يتحرك، فساعة فصل [ (3) ] أخذته الخيل.
وقاتل حسّان حتى قتل عند باب الحصن: وهرب المملوكان ومن كان معهما.
واستلب خالد بن الوليد حسّانا قباء ديباج مخوّصا بذهب، فبعث [به] [ (4) ]
إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع عمرو بن أميّة الضمريّ، فجعل
المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه، فقال عليه السلام: تعجبون من هذا!
والّذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنّة أحسن من هذا!! وأسلم حريث
[بن عبد الملك، أخو] [ (5) ] أكيدر، على ما في يده فسلم له.
فتح الحصن
وقال خالد لأكيدر: هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتي رسول اللَّه على أن
تفتح لي دومة؟ قال: نعم! فانطلق به في وثاق حتى أدناه من الحصن فنادى
__________
[ (1) ] في (خ) «ولا نقيله وأنت» .
[ (2) ] المطارد: جمع مطرد: وهو الرمح القصير.
[ (3) ] فصل: خرج.
[ (4) ] زيادة للسياق من (الواقدي) ج 3 ص 1026.
[ (5) ] في (خ) «حريث أكيد» ، وهذه الزيادة للسياق من (ط) .
(2/63)
أهله: افتحوا باب الحصن! فأرادوا ذلك، فأبى
عليهم مضاد [ (1) ] أخوه، فقال أكيدر لخالد: تعلم واللَّه لا يفتحون لي ما
رأوني في وثاقك، فحلّ عنى، ولك اللَّه والأمانة أن أفتح لك الحصن إن أنت
صالحتنى عل أهله. قال: فإنّي أصالحك [ (2) ] فقال أكيدر إن شئت حكّمتك وإن
شئت حكمتني. قال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت. فصالحه على ألفى بعير.
وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح- على أن ينطلق به وأخيه إلى
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيحكم فيهما حكمه.
فخلّى سبيله ففتح الحصن، ودخله خالد أوثق مضادا أخا أكيدر، وأخذ ما صالح
عليه من الإبل والرقيق والسلام.
الرجوع بأكيدر إلى المدينة
ثم خرج قافلا إلى المدينة ومعه أكيدر ومضاد، وعلى أكيدر صليب من ذهب، وعليه
الديباج ظاهر، ومع خالد الخمس مما غنموا، وصفيّ خالص لرسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم. وكانت السّهمان خمس فرائض لكلّ رجل معه سلاح ورماح.
فلما قدم بأكيدر، صالحه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الجزية.
وخلى سبيله وسبيل أخيه، وكتب لهم أمانا وختمه بظفره: لأنه لم يكن في يده
خاتم.
وأهدى [أكيدر] [ (3) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثوب حرير،
فأعطاه عليا فقال. شقّقه خمرا [ (4) ] بين الفواطم [ (5) ] .
كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأكيدر
ونسخة الكتاب بعد البسملة: «هذا كتاب من محمد رسول اللَّه لأكيدر،
__________
[ (1) ] في (ط) «مصاد» وفي (الواقدي) «مضاد» .
[ (2) ] بعد هذه العبارة وضع محقق (ط) عبارة [أهل الحصن قال أكيدر] وقال في
الهامش: «هذه الزيادة يوجبها للسياق، ولم أجد الخبر» ونقول: «الخبر بتمامه
بدون أية زيادة، في (المغازي للواقدي) ج 3 ص 1027، 1028» .
[ (3) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (4) ] خمر: جمع خمار وهو غطاء رأس المرأة.
[ (5) ] الفواطم: أراد بهن فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت حمزة. (النهاية) ج 3 ص 458 والحديث في (سنن ابن
ماجة) ج 2 ص 11899- باب لبس الحرير والذهب للنساء حديث رقم 3596.
(2/64)
حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد
والأصنام. مع خالد بن الوليد في دومة الجندل وأكنافها: أن له [ (1) ]
الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر
والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور بعد الخمس، لا تعدل
سارحتكم. ولا تعدّ فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات [ (2) ] ، ولا يؤخذ منكم
إلا عشر الثبات [ (3) ] . تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها عليكم
بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصّدق والوفاء، شهد اللَّه ومن حضر من
المسلمين» .
عودة أكيدر
وعاد أكيدر إلى حصنه. وقيل: إنه أسلم ثم ارتد، فقتله خالد بن الوليد في
الرّدّة. وقيل: لما منع في خلافة أبي بكر ما كان يؤديه إلى رسول اللَّه،
أخرج من جزيرة العرب في دومة، فلحق بالجزيرة [ (4) ] ، وابتنى بها-[قرب عين
التمر]- بناء سمّاه دومة.
قدوم يوحنا بن رؤبة وأهل أيلة
وخاف أهل أيلة [ (5) ] وتيماء، فقدم يوحنا بن رؤبة- ومعه أهل جرباء،
وأذرح-، وعليه صليب من ذهب، وقد عقد ناصيته. فلما رأى النبيّ عليه
__________
[ (1) ] في (خ) ، وفي (الأموال) ، وفي (مكاتيب الرسول) «ولنا» وما أثبتناه
من (ط) والضمير في قوله «له» أي لخالد بن الوليد، وبذلك يستقيم المعنى،
وانظر أيضا (معجم البلدان) ج 2 ص 488.
معاني المفردات: الضاحي: البارز. الضحل: الماء القليل. البور: الأرض التي
لم تستخرج.
المعامي: الأرض المجهولة. الأغفال: التي لا آثار فيها. الحلقة: الدروع.
الحافر: الخيل والبراذين والبغال والحمير. الحصن: دومة الجندل. الضامنة:
النخل الّذي معهم في الحصن. المعين: الظاهر من الماء الدائم. لا تعدل
سارحتكم: أي لا يصدقها المصدّق إلا في مراعيها. لا تعد فاردتكم: أي لا تضم
الفاردة إلى غيرها ثم يصدق الجميع فيجمع بين متفرق الصدقة. والسارحة:
الماشية التي تسرح في المراعي. والفاردة: الزائدة على فريضة الصدقات.
[ (2) ] وفي (خ) «الثياب» ، وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (3) ] في (خ) «الثياب» - والثبات: النخل القديم «هامش (ط) » .
[ (4) ] الجزيرة: هي جزيرة أقور، بين دجلة والفرات، كذا في هامش (ط) ، وفي
(معجم البلدان) ج 2 ص 488. «ولحق بالحيرة» وابتنى قرب عين التمر بناء وسماه
دومة» .
[ (5) ] في (خ) «واثلة» .
(2/65)
السلام، كفّر [ (1) ] وأومأ برأسه. فأومأ
إليه: [أن] [ (2) ] ارفع رأسك! وكساه بردا، وأنزله عند بلال. فصالحهم عليه
السلام، وقطع عليهم الجزية، فوضع على أهل أيلة ثلاثمائة دينار، وكانوا
ثلاثمائة رجل. وكتب لهم بعد البسملة:
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأهل أيلة ويوحنا بن رؤبة
«هذه [ (3) ] أمنة من اللَّه ومحمد النبي رسول اللَّه ليوحنا بن رؤبة وأهل
أيلة:
سفنهم وسيّارتهم [ (4) ] في البر والبحر، لهم ذمة اللَّه وذمة محمد النبي [
(5) ] ، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن [ (6) ]
أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس.
وإنه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه، من برّ أو بحر. هذا
كتاب جهيم بن الصّلت، وشرحبيل بن حسنة، بإذن رسول اللَّه» .
وقال الدولابيّ: أهدى أهل أيلة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم القلقاس
فأكله وأعجبه، وقال: ما هذا؟ فقالوا: شحمة الأرض فقال: إن شحمة الأرض
لطيّبة!
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهل جرباء
وكتب لأهل جرباء:
«هذا كتاب من محمد النبي رسول اللَّه لأهل جرباء [وأذرح] [ (7) ] : أنهم
آمنون بأمان اللَّه وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية
طيبة، واللَّه كفيل [عليهم] [ (8) ] » .
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهل أذرح
ونسخة كتاب أذرح [ (9) ] بعد البسملة:
__________
[ (1) ] كفّر: طأطأ رأسه في خضوع وذلة.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) «هذا» .
[ (4) ] في (خ) «وسارتهم» .
[ (5) ] في (خ) «رسول اللَّه» .
[ (6) ] في (خ) «ومن» .
[ (7) ] زيادة من كتب السيرة.
[ (8) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (9) ] في (خ) «أدرج» .
(2/66)
«من محمد النبي [رسول اللَّه] [ (1) ] لأهل
أذرح: أنهم آمنون بأمان اللَّه وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب
وافية طيبة، واللَّه كفيل عليهم بالنّصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ
[إليهم] [ (2) ] من المسلمين من المخافة، والتعزير إذا خشوا على المسلمين
وهم [ (3) ] آمنون حتى يحدث إليهم محمد قبل خروجه» [ (4) ] .
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهل مقنا
وكتب لأهل مقنا: أنهم آمنون بأمان اللَّه وأمان محمد، وأن عليهم ربع غزوهم
وربع ثمارهم.
وكان عبيد بن ياسر بن نمير [ (5) ] . ورجل من جذام قد قدما بتبوك وأسلما،
فأعطاهما ربع مقنا مما يخرج من البحر ومن الثمر من نخلها. وربع الغزل [ (6)
] وأعطى عبيد بن ياسر مائة ضفيرة [يعني حلة] [ (7) ] لأنه كان فارسا،
والجذاميّ راجلا، ثم قدما مقنا وبها يهود. فكانت تقوم على فرسه، وأعطاها
ستين ضفيرة من ضفائر فرسه وأهدي عبيد للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا
عتيقا يقال له مراوح، وقال: إنه سابق! فأجرى عليه السلام الخيل بتبوك فسبق
الفرس، ثم أعطاه المقداد بن عمرو.
تحريم النهبة
ومر عليه السلام بتبوك لحاجته، فرأى أناسا مجتمعين على بعير قد نحره رافع
ابن مكيث الجهنيّ، وأخذ منه حاجته، وخلّى بين الناس وبينه، فأمر أن يردّ
رافع ما أخذ الناس ثم قال: هذه نهبة لا تحلّ! قيل: يا رسول اللَّه! أن
صاحبه أذن في أخذه! فقال وإن أذن في أخذه.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) وليس في كتب السيرة.
[ (2) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (3) ] في (خ) «فهم» .
[ (4) ]
قوله «وهم آمنون حتى يحدث محمد إليهم قبل خروجه،
فكأنه جعل الخيار لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نقض العهد أو
تغيير بعض شرائطه إلى أن يخرج من تبوك لعدم الأمن من مكر اليهود وغوائلهم.
(مكاتيب الرسول) ص 296.
[ (5) ] في الإصابة: (عبيد بن يسر) .
[ (6) ] في (خ) «المغزل»
[ (7) ] كذا في (خ) .
(2/67)
أفضل الصدقة
وقال له رجل: أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: ظلّ خباء في سبيل اللَّه، أو خدمة
خادم في سبيل اللَّه، أو طروقة فحل [ (1) ] في سبيل اللَّه.
وقال بتبوك: اقطعوا قلائد الإبل من الأوتار. قيل: يا رسول اللَّه! فالخيل؟
قال: لا تقلدوها بالأوتار [ (2) ] .
الحرس بتبوك
وكان قد استعمل على حرسه بتبوك عبّاد بن بشر. وكان يطوف في أصحابه بالعسكر
مدّة إقامته عليه السلام. فسمع صوت تكبير من ورائهم في ليلة، فإذا هو سلكان
بن سلامة خرج في عشرة على خيولهم يحرسون الحرس. فقال صلّى اللَّه عليه
وسلّم:
رحم اللَّه حرس الحرس في سبيل اللَّه، فلكم قيراط من الأجر على من حرستم من
الناس جميعا أو دابة.
وفد بني سعد هذيم
وقدم من بني سعد هذيم قوم فقالوا: يا رسول اللَّه! إنا قدمنا عليك وتركنا
أهلنا على بئر لنا قليل ماؤها وهذا القيظ، ونحن نخاف إن تفرّقنا أن نقتطع،
لأن الإسلام لم يفش حولنا، فادع اللَّه لنا في مائنا، فإنا إن روينا به فلا
قوم أعز منّا، لا يقربنا أحد مخالف لديننا. فقال: ابغوني حصيّات، فدفع إليه
ثلاث حصيات فعركهنّ بيده، ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيّات إلى بئركم فاطرحوا
واحدة واحدة وسمّوا اللَّه. فانصرفوا، ففعلوا ذلك فجاشت بئرهم بالرواء [
(3) ] ، ونفوا [ (4) ] من قاربهم من المشركين ووطئوهم.
فما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من تبوك حتى أوطئوا من حولهم
غلبة. ودانوا بالإسلام.
__________
[ (1) ] طروقة فحل: هي الناقة التي بلغت من السن أن يضربها الفحل للنتاج.
[ (2) ] كذا في (خ) ورواية (مسند أحمد) ج 344 «ولا تقلدوا الأوتار» بغير
باء التعدية.
[ (3) ] الرواء: الكثير.
[ (4) ] في (خ) «ولعوا» .
(2/68)
الصيد في تبوك
واستأذنه رافع بن خديج في الصيد فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن ذهبت
فاذهب في عدة من أصحابك، وكونوا على خيل، فإنكم متفرقون من العسكر.
فانطلق في عشرة من الأنصار فيهم أبو قتادة- وكان صاحب طرد بالرّمح، وكان
رافع راميا- وأتوا بخمسة أحمرة وظباء كثيرة. فأمر عليه السلام رافعا فجعل
يعطى القبيلة بأسرها الحمار والظبي حتى فرّق ذلك، وصار لرسول اللَّه ظبي
واحد، فطبخه، ودعا أضيافه فأكلوا.
آية الطعام يوم تبوك
وكان عرباض بن سارية يلزم باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحضر
والسفر، فرجع ليلة من حاجته بتبوك- وقد تعشّى عليه السلام ومن معه من
أضيافه، وهو يريد أن يدخل قبّته على أمّ سلمة- فلما رأى العرباض سأله عن
غيبته فأخبره. ثم
جاء جمال بن سراقة وعبد اللَّه بن مغفّل المزني- وهم ثلاثتهم جياع-، فطلب
عليه السلام في بيته شيئا يأكله فلم يجده، فنادى بلالا: هل من عشاء لهؤلاء
النفر؟
فقال: لا، والّذي بعثك بالحق، لقد نفضنا جربنا وحمتنا [ (1) ] ! قال: انظر،
عسى أن تجد شيئا! فأخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا، فتقع التمرة والتمرتان
حتى اجتمع سبع تمرات، فوضعها عليه السلام في صحفة وسمي اللَّه، ثم قال:
كلوا باسم اللَّه! فأكلوا، وأحصى عرباض أربعا وخمسين تمرة أكلها يعدها
ونواها في يده الأخرى، وأكل كلّ واحد من الآخرين خمسين تمرة، ورفعوا
أيديهم، فإذا التمرات السبع [ (2) ] كما هي، فقال: يا بلال، أرفعها في
جرابك، فإنه لا يأكل منها أحد حتى نهل شبعا! فبات الثلاثة حول قبة رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقام يتهجّد على عادته، فلما صلّى بالناس
الصّبح جلس بفناء قبته وحوله عشرة من الفقراء، فقال: هل لكم في الغداء؟
فقال عرباض في نفسه: أي غداء؟ فدعا بلال بالتمر فوضع يده عليه في الصّحفة
ثم قال: كلوا باسم اللَّه! فأكلوا حتى شبعوا، وإذا التمرات كما هي، فقال
عليه السلام لولا أني أستحي من ربي لأكلنا من هذه التمرات حتى نرد
__________
[ (1) ] الجرب والحمت: أسماء أوعية من الجلد.
[ (2) ] في (خ) «فإذا السبع الثمرات» .
(2/69)
المدينة من آخرنا! وأخذ التمرات فدفعها إلى
غليّم، فولّي الغلام يلوكهنّ.
موت ذي البجادين
ومات بتبوك عبد اللَّه [بن عبد نهم المزني] [ (1) ] ذو البجادين [ (2) ] ،
فنزل صلّى اللَّه عليه وسلّم قبره عشاء وهيأه لشقّه، وقد دلّاه أبو بكر
وعمر رضي اللَّه عنهما. ثم قال: اللَّهمّ إني قد أمسيت عنه راضيا فارض عنه،
فقال عبد اللَّه بن مسعود: ياليتني كنت صاحب هذا اللحد.
مدة الإقامة بتبوك
وأقام عليه السلام بتبوك عشرين ليلة- وقيل بضع عشر ليلة- يصلّى ركعتين.
العسرة والجوع وآية النبوة
فلما أجمع المسير أرمل الناس [ (3) ] إرمالا شديدا، فشخص على ذلك، حتى
استأذنوه أن ينحروا ركابهم فأذن لهم. فلقيهم عمر رضي اللَّه عنه وهم على
نحرها، فأمرهم أن يمسكوا، ودخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال: أذنت للناس في حمولتهم يأكلونها [ (4) ] ؟ فقال: شكوا إليّ ما بلغ
منهم من الجوع فأذنت لهم، تنحر الرفقة البعير والبعيرين، ويتعاقبون فيما
فضل من ظهر، هم قافلون إلى أهليهم! فقال:
يا رسول اللَّه! لا تفعل، فإن يك في الناس فضل من ظهرهم يكن [ (5) ] خيرا،
ولكن ادع بفضل أزوادهم، ثم اجمعها فادع اللَّه فيها بالبركة- كما فعلت في
منصرفنا من الحديبيّة حيث أرملنا-، فإن اللَّه مستجيب لك. فنادى مناديه: من
كان عنده فضل زاد فليأت به. وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمدّ
الدقيق والسويق أو التمر، أو القبضة من الدقيق والسويق والتمر [ (6) ] ،
والكسر، فيوضع كلّ صنف على حدة، وكلّ ذلك قليل. فكان جميع ما جاءوا به من
الدقيق والسويق
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (2) ] لقب عبد اللَّه بن نهم.
[ (3) ] أرمل الناس: نفد زادهم.
[ (4) ] الحمولة من الإبل. التي تحمل الأثقال.
[ (5) ] في (خ) «يكون» .
[ (6) ] في (خ) «والسمن» وما أثبتناه من (ط) .
(2/70)
والتمر. ثلاثة أفرق حزرا [ (1) ] ثم توضّأ
وصلّى ركعتين ودعا اللَّه، ونادى مناديه هلمّوا [ (2) ] إلى الطعام خذوا
منه حاجتكم! فأقبل الناس فجعل كلّ من جاء بوعاء ملأه، فقال بعضهم: لقد طرحت
يومئذ كسرة من خبز وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين
فملأت أحدهما سويقا والآخر خبزا، وأخذت في ثوبي دقيقا ما كفانا إلى
المدينة. فجعل الناس يتزودون حتى نهلوا من آخرهم، حتى كان آخر ذلك أن أخذت
الأنطاع ونثر ما عليها،
فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول وهو واقف: أشهد أن لا إله
إلا اللَّه وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا
وقاه اللَّه حرّ النار.
خبر النهي عن الماء وخلاف المنافقين
وأقبل قافلا حتى كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة [ (3) ]- هو وادي
المشقّق [ (4) ] ، وكان فيه وشل [ (5) ] يخرج منه في أسفله قدر ما يروي
الراكبين والثلاثة- فقال: من سبقنا إلى ذلك الرمل [ (6) ] فلا يستقين منه
شيئا حتى نأتي. فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير والحارث بن
يزيد الطائيّ حليف بني عمرو بن عوف [ (7) ] ، ووديعة بن ثابت، وزيد بن
اللصيت، فقال عليه السلام: ألم أنهكم؟! ولعنهم ودعا عليهم ثم نزل فوضع يده
في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع منه في كفّه ماء قليل، ثم نضحه به، ثم
مسحه بيده، ثم دعا بما شاء اللَّه أن يدعو، فانخرق الماء [ (8) ] .
قال معاذ بن جبل: والّذي نفسي بيده، لقد سمعت له من شدة انخراقه مثل
الصواعق! فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم
__________
[ (1) ] في (خ) «أفراق» والفرق: ستة عشر رطلا.
[ (2) ] كذا في (خ) ، والأولى: «هلمّ» ، راجع (بصائر ذوي التمييز في لطائف
الكتاب العزيز) للفيروزآبادي ج 5 ص 431.
[ (3) ] يقول محقق (ط) [لم أجد من سمي هذا الوادي «وادي الناقة» في غير هذا
الكتاب] . ونقول:
راجع الخبر بتمامه في (المغازي) [ج 3 ص 1039] .
[ (4) ] في (خ) «القنق» .
[ (5) ] الوشل: الجبل أو الصخرة يقطر منه الماء قليلا.
[ (6) ] رواية (الواقدي) ص 1039 «إلى ذلك الوشل» .
[ (7) ] يقول محقق (ط) : [لم أجد ذكر الحارث بن يزيد هذا] ونقول: [انظر
المرجع السابق] .
[ (8) ] انخرق الماء: اتسع واندفق.
(2/71)
قال عليه السلام: لئن بقيتم- أو من بقي
منكم- لتسمعنّ بهذا الوادي وهو أخصب ممّا [ (1) ] بين يديه وما خلفه، فقال
سلمة بن سلامة بن وقش لوديعة بن ثابت:
ويلك [ (2) ] ! أبعد ما ترى شيء [ (3) ] ؟ أما تعتبر! فقال: قد كان يفعل
مثل هذا قبل هذا.
خبر أبي قتادة
ثم سار عليه السلام.
وعن أبي قتادة قال: بينما نحن في الجيش نسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم ليلا- وهو قافل وأنا معه- إذ خفق خفقة [ (4) ] وهو على راحلته
فمال على شقّه، فدنوت منه فدعمته [ (5) ] فانتبه، فقال: من هذا؟ قلت: أبو
قتادة يا رسول اللَّه، خفت أن تسقط فدعمتك، فقال: حفظك اللَّه كما حفظت
رسوله، ثم سار غير كبير ثم فعل مثلها، فأدعمه فانتبه، فقال: يا أبا قتادة،
هل لك في التعريس [ (6) ] ؟ فقلت: ما شئت يا رسول اللَّه.
التعريس، والنوم عن الصلاة
فقال: انظر من خلفك؟ فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم، فقلت، أجيبوا
رسول اللَّه! فجاءوا فعرّسنا، ونحن خمسة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم «ومعي إداوة فيها ماء: فنمنا فما انتبهنا إلا بحرّ الشمس، فقلت: إنا
للَّه! فاتنا الصبح! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. لنغيظن
الشيطان كما غاظنا! فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة، فقال: يا أبا قتادة،
احتفظ بما في الإداوة والرّكوة [ (7) ] فإن لهما شأنا، ثم صلّى بنا الفجر
بعد طلوع الشمس، فقرأ بالمائدة.
__________
[ (1) ] في (خ) «مما» وهي رواية (الواقدي) .
[ (2) ] في (خ) «وتلك» .
[ (3) ] في (خ) «شيئا» .
[ (4) ] خفق خفقة: نام نومة خفيفة فحرك رأسه من مسّ النوم.
[ (5) ] دعمه: أسنده.
[ (6) ] التعريس: الاستراحة في السفر مع النوم القليل.
[ (7) ] الركوة: إناء صغير من جلد.
(2/72)
ظمأ الجيش بتبوك
فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا. وذلك
أنهما أرادا أن ينزلا بالجيش على الماء فأبوا ذلك عليهما [ (1) ] ، فنزلوا
على غير ماء بفلاة [ (2) ] من الأرض.
فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلحق الجيش عند زوال الشمس- ونحن
معه-، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والخيل والركاب عطشا.
آيات النبوة في الماء بتبوك
فدعا بالرّكوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من
بين أصابعه، وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى تروّوا وأرووا خيلهم
وركابهم، وإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير- ويقال خمسة عشر ألف بعير-
والناس ثلاثون ألفا، والخيل عشرة آلاف فرس: وذلك
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي قتادة احتفظ بالركوة والإداوة.
وكان في تبوك أربعة أشياء [ (3) ] : فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم يسير منحدرا إلى المدينة- وهو في قيظ شديد-
عطش العسكر بعد المرّتين الأوليين عطشا شديدا، حتى لا يوجد للشّفة ماء قليل
ولا كثير، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأرسل أسيد بن
حضير- في يوم صائف وهو متلثم- فقال: عسى أن تجد لنا ماء!
فخرج أسيد- وهو فيما بين الحجر وتبوك- فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من
ماء مع امرأة من بلي، فكلّمها وخبّرها خبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، فقالت: هذا الماء، فانطلق به، فدعا فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم
بالبركة، ثم قال: هلمّوا [ (4) ] أسقيتكم! فلم يبق معهم سقاء إلا ملئوه، ثم
دعا بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت. ويقال إنه صلّى اللَّه عليه وسلّم
أمر بما [ (5) ] جاء به أسيد فصبّه [ (6) ] في قعب عظيم من عساس [ (7) ]
أهل البادية، فأدخل فيه يديه وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلّى ركعتين، ثم
رفع يديه مدا،
__________
[ (1) ] في (خ) «عليل عليهما» .
[ (2) ] في (خ) «بقلادة» ، والفلاة: الأرض الواسعة التي لا ماء فيها ولا
أنيس.
[ (3) ] في (خ) «أشياء» وما أثبتناه من (ط) .
[ (4) ] كذا في (خ) «والأولى «هلم» ، فبها نزل القرآن.
[ (5) ] في (خ) «بماء» .
[ (6) ] في (خ) «وصبه» .
[ (7) ] العساس: جمع عسّ: وهو قدح ضخم.
(2/73)
ثم انصرف وإن القعب ليفور فقال للناس [ (1)
] زوّدوا، فاتسع الماء وانبسط للنّاس، حتى يصفّ عليه المائة والمائتان،
فأرووا وإن القعب ليجيش بالرواء. ثم راح مبردا مترويا [ (2) ] من الماء.
كيد المنافقين بإلقاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الثنية
ولما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببعض الطريق مكر به أناس من
المنافقين، وائتمروا أن يطرحوه من عقبة، فلما بلغ تلك العقبة أرادوا أن
يسلكوها معه فأخبر خبرهم، فقال للناس [ (1) ] : اسلكوا بطن الوادي فإنه
أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي. وسلك صلّى اللَّه عليه وسلّم
العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن
اليمان يسوق خلفه، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسير في
العقبة، إذ سمع حسّ القوم قد غشوه فغضب وأمر حذيفة أن يردّهم، فرجع إليهم
فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا
الناس، وأتي حذيفة فسار به. فلما خرج من العقبة ونزل الناس قال: يا حذيفة،
هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول اللَّه، عرفت راحلة فلان
وفلان، وكان القوم متلثمين فلم أعرفهم من أجل ظلمة الليل.
التقاط ما سقط من المتاع
وكانوا قد أنفروا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسقط بعض متاع رحله،
فكان [ (3) ] حمزة ابن عمرو الأسلميّ يقول: فنور لي في أصابعي الخمس [ (4)
] ، فأضاءت حتى كنّا نجمع ما سقط، السّوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من
المتاع شيء إلا جمعناه.
وكان [حمزة بن عمرو الأسلمي] [ (5) ] قد لحق برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم بالعقبة.
أمر المنافقين
فلما أصبح [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ] قال له أسيد بن
الحضير: يا رسول اللَّه، ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل؟
فقال: يا أبا يحي! أتدري
__________
[ (1) ] في (خ) «فقال الناس» .
[ (2) ] من الإبراد والرّيّ.
[ (3) ] في (خ) «وكان» .
[ (4) ] في (خ) «الخمسة» .
[ (5) ] زيادة للبيان من (ط) .
(2/74)
ما أراد البارحة المنافقون وما همّوا به؟
قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع [ (1) ] راحلتي
ونخسوها حتى يطرحوني عن راحلتي؟
مشورة أسيد بن الحضير في قتل المنافقين
فقال أسيد: يا رسول اللَّه، فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كلّ بطن أن يقتل
الرجل الّذي همّ بهذا، فيكون الرجل الّذي يقتله من عشيرته، وإن أحببت
فنبّئني بهم، فو الّذي بعثك بالحق لا تبرح [ (2) ] حتى آتيك برءوسهم، وإن
كانوا في النّبيت [ (3) ] كفيتهم، وأمرت سيد الخزرج فكفاك من ناحيته، فإن
مثل هؤلاء لا يتركون يا رسول اللَّه! حتى متى نداهنم، وقد صاروا اليوم في
القلة والذلة وضرب الإسلام بجرانه؟! فما تستبقي من هؤلاء؟
قال: يا أسيد إني أكره أن يقول الناس إن محمدا- لما انقضت الحرب بينه وبين
المشركين- وضع يده في قتل أصحابه! فقال: يا رسول اللَّه، وهؤلاء ليسوا
بأصحاب! قال: أو ليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا اللَّه؟ قال: بلى، ولا
شهادة لهم! قال: أوليس يظهرون أني رسول اللَّه؟
قال بلى، ولا شهادة لهم! قال: فقد نهيت عن قتل أولئك.
عدة أهل العقبة أصحاب الكيد
وكان أهل العقبة الذين أرادوا ما أرادوا- ثلاثا عشر رجلا، قد سمّاهم رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحذيفة وعمّار. وقيل:. ربعة عشر، وقيل: خمسة
عشر، وقيل:
اثني عشر وهو الثّبت.
وقال ابن قتيبة [ (4) ] إن الذين همّوا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد
اللَّه بن أبي [ابن سلول] ، وسعد بن أبي سرح: [وهو أبو الّذي كان يكتب
لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان «غفور
__________
[ (1) ] الأنساع: قال في (النهاية) جمع نسعة، وهي سير مضفور يجعل زماما
للبعير وغيره.
[ (2) ] في (خ) «وإن أجبت والّذي بعثك بالحق فنبئني بهم فلا تبرح» وهي
رواية (الواقدي) وما أثبتناه من (ط) .
[ (3) ] النبيت: لقب عمرو بن مالك جد الأوس.
[ (4) ] راجع كتاب (المعارف) لابن قتيبة بتحقيق الدكتور ثروت عكاشة. طبعة
دار المعارف بمصر ص 343 باب [أسماء المنافقين الذين أرادوا أن يلقوا رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الثّنية في غزوة تبوك] ، وما بين الأقواس
زيادات منه.
(2/75)
رحيم» ، و «عزيز حكيم» ] ، وأبو حاضر
الأعرابيّ، والجلاس بن سويد [ابن الصامت] ، ومجمّع بن جارية [ (1) ] ،
ومليح التّيمي: [وهو] الّذي سرق طيب الكعبة وارتد [عن الإسلام] وانطلق فلا
يدري أين ذهب، وحصين بن نمير:
[وهو الّذي أغار على تمر الصدقة فسرقه] ، وطعيمة بن أبيرق، ومرّة بن ربيع،
[وكان أبو عامر رأسهم، وله بنوا مسجد الضرار، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة]
[ (2) ] . واعترض عليه بأن ابن أبي لم يشهد تبوك، وأن أبا عامر فرّ عن
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل هذا.
أصحاب مسجد الضرار
وأقبل صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى نزل بذي أوان: - بلد بينه وبين المدينة
ساعة من نهار-، وقد كان جاءه أصحاب مسجد الضرار [ (3) ] ، وهم خمسة: معتّب
بن قشير، وثعلبة ابن حاطب، وخذام [ (4) ] بن خالد، وأبو حبيبة بن الأزعر،
وعبد اللَّه بن نبتل ابن الحارث،
فقالوا: يا رسول اللَّه، إنّا رسل من خلفنا من أصحابنا، إنا قد بنينا مسجدا
لذي القلة والحاجة والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، ونحن نحب أن تأتينا
فتصلّي فيه! وكان يتجهز إلى تبوك، فقال: إني على جناح سفر وحال شغل-[أو كما
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (5) ] ، لو قدمنا- إن شاء اللَّه- أتيناكم
فصلينا بكم فيه.
الوحي بخبر المسجد وإرصاده لأبي عامر الفاسق
فلما نزل بذي أوان أتاه [ (6) ] خبر المسجد [ (7) ] وخبر أهله من السماء،
وكانوا إنما بنوه [يريدون ببنائه السّوأى، ضرارا لمسجد رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم، وكفرا باللَّه، وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لأبي
عامر الفاسق] [ (8) ] ، قالوا بينهم: يأتينا أبو عامر فيتحدث عندنا فيه،
فإنّه يقول: لا أستطيع أن آتي مسجد بني عمرو بن عوف،
__________
[ (1) ] في (خ) «محمد بن جارية» ، وفي (ابن قتيبة) «مجمّع بن حارثة» .
[ (2) ] في (خ) «مكان ما بين القوسين «وأبو عامر» .
[ (3) ] ويسمى أيضا مسجد الشقاق.
[ (4) ] في (خ) «خدام» .
[ (5) ] زيادة من كتب السيرة.
[ (6) ] في (خ) «أتاه أتاه» مكررة.
[ (7) ] في (خ) «أتاه خبره» وما أثبتناه من (ط) أبين للسياق.
[ (8) ] زيادة للسياق من (تفسير الطبري) عند الآية 107/ التوبة.
(2/76)
إنما أصحاب محمد يلحظوننا بأبصارهم. يقول
اللَّه تعالى: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني أبا
عامر.
هدم المسجد وتحريقه
فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عاصم بن عديّ العجلانيّ، ومالك بن
الدّخشم السّالميّ، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم
حرّقاه
فخرجا سريعين- على أقدامهما- حتى أتيا مسجد بني سالم [بن عوف، وهم رهط مالك
ابن الدخشم] [ (1) ] ، فقال مالك لعاصم: انظرني [ (2) ] حتى أخرج [ (3) ]
إليك بنار من أهلي فدخل إلى [ (4) ] أهله فأخذ سعفا من النخيل وأشعل فيه
نارا، ثم خرجا يعدوان حتى انتهيا إليهم بين المغرب والعشاء وهم فيه،
وإمامهم مجمّع بن جارية، فأحرقاه، - وثبت من بينهم زيد بن جارية بن عامر
حتى احترقت أليته [ (5) ]-، وهدماه حتى وضعاه بالأرض.
هجران أرض المسجد وشؤم أخشابه
فلما قدم صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة عرض على عاصم بن عدي المسجد يتخذه
دارا، فقال:
ما كنت لأتخذ مسجدا قد نزل فيه ما نزل دارا! فأعطاه ثابت بن أقرم [ (6) ]
وأخذ أبو لبابة بن عبد المنذر خشبا من مسجد الضّرار- كان قد أعانهم به،
وكان غير مغموص عليه في النّفاق- فبني به منزلا له، فلم يولد له في ذلك
البيت مولود، ولم يقف فيه حمام، ولم تحضن فيه دجاجة قط.
عدة من بني مسجد الضرار
وكان الذين بنوا مسجد الضرار اثني عشر [ (7) ] رجلا: جارية بن عامر بن
__________
[ (1) ] زيادة من ابن هشام.
[ (2) ] أنطرني: انتظرني.
[ (3) ] في (خ) «حتى أخرج حتى أخرج» مكررة.
[ (4) ] في (خ) «فدخل على أهله» و «إلى أهله» حق المعنى.
[ (5) ] الألية: العجيزة.
[ (6) ] في (خ) «أقدم» .
[ (7) ] في (خ) «اثنا عشرة» .
(2/77)
مجمّع [ (1) ] بن العطاف- وهو حمار الدار-،
وابناه [ (2) ] مجمّع بن جارية، [ويزيد ابن جارية] [ (3) ] ، ووديعة بن
ثابت، وعبد اللَّه بن نبتل [ (4) ] ونجاد بن عثمان، وأبو حبيبة بن الأزعر،
ومعتّب بن قشير، وعباد بن حنيف وثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد، وخزام
بن خالد من بني أحد بني مرو بن عوف، بني أميّة بن زيد، وخزام [ (5) ] بن
خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف، [ويخرج من بني ضبيهة] [ (6)
] .
من خبر المنافقين أصحاب المسجد
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: زمام خير من خزام، وسوط خير من
نجاد: وكان عبد اللَّه بن نبتل يستمع حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم ثم يأتي به المنافقين، فقال جبريل:
يا محمد! إن رجلا من المنافقين يأتيك فيستمع حديثك، ثم يذهب به إلى
المنافقين، فقال: أيهم [ (7) ] هو؟ قال: الرجل الأسود ذو الشعر الكثير،
الأحمر العينين، كأنهما قدران من صفر، كبده كبد حمار وينظر بعين شيطان.
ما نزل فيهم من القرآن
وفيهم نزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً
وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً،
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [ (8) ] .
وأرادوا ببنائه: أنهم كان يجتمعون في المسجد فيتناجون فيما بينهم، ويلتفت
__________
[ (1) ] في (خ) «جارية بن عمرو بن العطاف» وما أثبتناه هو ما اتفقت عليه
كتب التراجم والسير.
[ (2) ] في (خ) «وابنه» ، والمثنى أولى.
[ (3) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4.
[ (4) ] في (ابن هشام) ج 4 «ونبتل بن الحارث من ضبيعة» ولم يذكر «عبد
اللَّه بن نبتل» .
[ (5) ] في (خ) «خدام» .
[ (6) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4، وبها تتم عدة من بنى مسجد الضرار.
[ (7) ] في (خ) «إنهم» .
[ (8) ] الآيتان 107، 108/ التوبة وفي (خ) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا
مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً، إلى قوله تعالى:
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
(2/78)
بعضهم إلى بعض، فيلحظهم المسلمون بأبصارهم،
فشق ذلك عليهم، وأرادوا مسجدا يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن
هو على قبل رأيهم. وكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا [ (1) ]
! وذلك أنّ أصحاب محمد يلحظوني وينالون مني ما أكره. فقالوا: نحن نبني
مسجدا تتحدّث فيه عندنا.
المتخلفون عن تبوك
[وقد كان تخلف عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رهط من المنافقين،
وتخلف أولئك الرّهط الثلاثة المسلمين من غير شك ولا نفاق:
كعب بن مالك الأنصاريّ السّلميّ، ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أميّة
الواقفيّ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تكلمنّ أحدا من
هؤلاء الثلاثة! فاعتزل المسلمون كلام أولئك النّفر الثلاثة] [ (2) ] .
وأجمع كعب بن مالك أن يصدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
مقدمة إلى المدينة ودعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقدم صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة في رمضان، فقال: الحمد للَّه على ما
رزقنا في سفرنا هذا من أجر وحسبة ومن بعدنا شركاؤنا فيه. فقالت عائشة رضي
اللَّه عنها. أصابكم العسر [ (3) ] وشدّة السّفر، ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟
فقال: إن بالمدينة لأقواما ما سرنا من مسير، ولا هبطنا واديا إلا كانوا
معنا، حبسهم المرض، أو ليس اللَّه يقول في كتابه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [ (4) ] ؟ فحن غزاتهم وهم قعدتنا [ (5) ] ، والّذي
نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا!!.
دخول المسجد والنهي عن كلام المتخلفين
ولما قدم بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فجاء المخلفون
__________
[ (1) ] المربد: فناء وراء البيت، ربما حبست فيه الغنم فبناه رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم مسجدا، ولكن عدو اللَّه الفاسق كان يسمى المسجد
باسم ما كان عليه أولا.
[ (2) ] ما بين القوسين ساقط في (خ) وأثبتناه من (ابن هشام) ج 4 ص 129.
[ (3) ] في (خ) «أصابكم السفر» وهي رواية (الواقدي) عن عائشة. انظر
(المغازي) ج 3 ص 1056، وما أثبتناه من (ط) .
[ (4) ] من الآية 122/ التوبة.
[ (5) ] القعدة: جمع قاعد، وهو الّذي قعد عن الغزو.
(2/79)
فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، - وكانوا
بضعة وثمانين رجلا-، فقبل منهم علانيتهم وأيمانهم. وقيل: بل خرج [ (1) ]
عامّة المنافقين إليه بذي أوان،
فقال: لا تكلموا أحدا ممن تخلف عنا، ولا تجالسوه حتى آذن لكم، فلم يكلموهم.
المعذرون وقبول أعذارهم
فلما قدم المدينة جاءه المعذرون يحلفون له، فأعرض عنهم وأعرض المؤمنون، حتى
إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وعمه، فجعلوا يأتون النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم ويعتذرون بالحمّى والأسقام، فيرحمهم ويقبل علانيتهم وأيمانهم، وحلفوا
فصدّقهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللَّه.
خبر كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين خلّفوا
وجاء كعب بن مالك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس في
المسجد، فلما سلّم عليه تبسّم تبسم المغضب ثم قال: تعال! فجاء حتى جلس بين
يديه، فقال:
ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك [ (2) ] ؟ فقال: بلى يا رسول اللَّه، واللَّه
لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت
جدلا، ولكن واللَّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا لترضي عني،
ليوشكنّ اللَّه أن يسخط عليّ، ولئن حدثتك اليوم حديثا صادقا تجد على [ (3)
] فيه، إنّي لأرجو عقبى اللَّه فيه. لا واللَّه ما كان لي عذر! واللَّه ما
كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال عليه السلام: أمّا أنت فقد
صدقت! فقم حتى يقضى اللَّه فيك.
فقام ومعه رجال من بني سلمة، فقالوا له: واللَّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبا
قبل هذا! ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت بما اعتذر به المخلفون، قد كان كافيك
ذنبك استغفار رسول اللَّه لك. حتى كاد أن يرجع فيكذّب نفسه، فلقيه معاذ بن
جبل وأبو قتادة [ (4) ] ، فقالا لي: لا تطع أصحابك وأقم على الصدق، فإن
اللَّه سيجعل لك فرجا ومخرجا إن شاء اللَّه تعالى، فأما هؤلاء المعذرون،
فإن كانوا صادقين
__________
[ (1) ] في (خ) «بلخرج» .
[ (2) ] الظهر: الركاب التي تحمل الأثقال.
[ (3) ] تجد علي: تغضب علي.
[ (4) ] في (خ) «وأبا قتادة» .
(2/80)
فسيرى اللَّه ذلك ويعلم نبيه، وإن كانوا
غير ذلك يذمهم أقبح الذم ويكذّب حديثهم فقال لهم: هل أتى هذا (أحد) [ (1) ]
غيري؟ قالا: نعم! رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك! قال: من
هما؟ قالا: مرارة بن ربيع العمري وهلال بن أمية الواقفيّ.
النهي عن كلام الثلاثة وتمام أخبارهم
ونهي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن كلام الثلاثة من بين من تخلف
عنه، فاجتنبهم الناس وتغيّروا لهم، حتى تنكّرت لهم أنفسهم، فلبثوا على ذلك
خمسين ليلة. وقد قعد مرارة وهلال في بيوتهما، وكان كعب يخرج فيشهد الصلوات
مع المسلمين ويطوف بالأسواق فلا يكلّمه أحد. ويأتي رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم- وهو في مجلسه بعد الصلوات- فيسلم عليه ويصلى قريبا منه يسارقه
النظر وهو معرض عنه.
وتسوّر يوما جدار حائط أبي قتادة- وهو ابن عمه وأحبّ الناس إليه- فسلم عليه
فلم يردّ عليه السلام، فقال: يا أبا قتادة! أنشدك اللَّه! هل تعلمني أحبّ
اللَّه ورسوله؟ فسكت، وكرر ذلك فقال في الثالثة: اللَّه ورسوله أعلم! ففاضت
عيناه وانصرف: فلما مضت أربعون ليلة بعث إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم- وإلى هلال ابن أمية ومرارة بن ربيع- مع خزيمة بن ثابت يأمرهم أن
يعتزلوا نساءهم، فقال كعب لأمرأته: ألحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي
اللَّه في هذا الأمر ما هو قاض!!
هلال بن أمية
وبكي هلال بن أمية وامتنع عن الطعام وواصل اليومين والثلاثة ما يذوق طعاما،
إلا أن يشرب الشّربة من الماء أو الضّيح [ (2) ] من اللبن، ويصلّى الليل
ولم يخرج من بيته لأن أحدا لا يكلمه، حتى إن الولدان يهجرونه لطاعة رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وجاءت امرأته فقالت: يا رسول اللَّه، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا
خادم له، وأنا أرفق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أخدمه فعلت! قال:
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4.
[ (2) ] في (خ) «النصيح» ، والضيح: اللبن يصب عليه الماء حتى برق.
(2/81)
نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك، فقالت: يا
رسول اللَّه، ما به من حركة إليّ!
واللَّه ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. وإن لحيته لتقطر
دموعا الليل والنهار ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوّفت أن يذهب بصره.
التوبة على الثلاثة وما نزل من القرآن
فلما كملت خمسون ليلة- وهم كما قال اللَّه تعالي: حَتَّى إِذا ضاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ-
أنزل اللَّه توبتهم بقوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ
الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ
تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما
رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ
مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ
اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [ (1) ] .
فأعلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك عند الصّبح. فخرج أبو بكر
رضي اللَّه عنه فأوفي على سلع [ (2) ] فصاح: قد تاب اللَّه على كعب بن
مالك! يبشره. فأتاه حمزة بن عمرو فبشره، فنزع ثوبيه وكساهما إياه، ولا يملك
غيرهما، واستعار ثوبين من أبي قتادة فلبسهما، ثم انطلق إلى رسول اللَّه
والناس يهنئونه، وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل إلى هلال
يبشره فلما أخبره سجد ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي- لما أصابه من
الضعف والحزن والبكاء- حتى ركب حمارا. وبشّر مرارة بن ربيع بن سلكان بن
سلامة بن وقش، فأقبل حتى توافدوا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
انخلاع كعب من ماله
فقام طلحة بن عبيد اللَّه يتلقى كعب بن مالك. فلمّا سلّم على رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له- ووجهه يبرق من السرور-: أبشر بخير يوم مر
عليك منذر ولدتك أمّك! فقال: أمن عندك يا رسول اللَّه أو من عند اللَّه؟
قال: من عند اللَّه، وتلا
__________
[ (1) ] الآيات 117- 119/ التوبة، وفي (خ) «الأنصار» الآيات.
[ (2) ] سلع: جبل بسوق المدينة.
(2/82)
عليه الآيات [ (1) ] فقال كعب: يا رسول
اللَّه، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة! فقال: أمسك عليك [بعض] [ (2) ]
مالك فهو خير لك. قال: فالثلثان؟
قال: لا، قال: فالنصف [ (3) ] ؟ قال: لا، قال: فالثلث [ (4) ] ؟ قال: نعم.
ما نزل في المعذرين الكاذبين
ونزل في الذين كذبوا قوله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا
انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ
إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ*
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [ (5) ] .
توهم المسلمين انقطاع الجهاد
وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون. قد انقطع الجهاد! فجعل أهل القوى
منهم يشتريها لفضل قوّته، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال [ (6) ] عصابة من أمتي ظاهرين يجاهدون على
الحق حتى يخرج الدجّال.
ما نزل من القرآن في تبوك
وأنزل اللَّه في غزوة تبوك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا
قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ
أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ
الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [ (7) ] : الآيات من سورة «براءة»
[ (8) ] . وكشفت «براءة» منهم ما كان مستورا، وأبدت أضغانهم ونفاق من نافق
منهم.
__________
[ (1) ] أي الآيات 117- 119/ التوبة.
[ (2) ] زيادة لا بد منها من (ابن هشام) ج 4.
[ (3) ] في (خ) «بالنصف» .
[ (4) ] في (خ) «بالثلث» .
[ (5) ] الآيتان 95- 96/ التوبة، وفي (خ) .
[ (6) ] في (خ) «لا تزل» .
[ (7) ] الآية 38/ التوبة، وفي (خ) إلى قوله تعالى: إِلَى الْأَرْضِ.
[ (8) ] براءة: اسم من أسماء سورة التوبة، وأكثرها نزل في تبوك.
(2/83)
وفد ثقيف وإسلام
عروة بن معتب
وفي شهر رمضان هذا قدم وفد ثقيف.
وكان عروة بن مسعود بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد ابن عوف بن
ثقيف الثّقفي- حين حاصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل الطائف-
بجرش، ثم رجع بعد منصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقذف اللَّه
في قلبه الإسلام. فقدم المدينة بعد رجوع أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما من
الحج، فيما ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقيل: بل لحق رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم بين مكة والمدينة فأسلم، وهو قول ابن إسحاق.
دعاؤه ثقيف
ثم إنه [ (1) ] أراد أن يرجع إلى ثقيف فيدعوهم إلى الإسلام، فقال له عليه
السلام، إنهم إذا قاتلوك، قال: لأنا أحبّ إليهم من أبكار أولادهم! ثم
استأذنه الثانية، ثم الثالثة، فقال: إن شئت فاخرج] [ (2) ] ، وعاد إلى
الطائف عشاء، فدخل منزله ولم يأت الرّبة [ (3) ] ، فأنكر قومه ذلك، وأتوه
منزله، فدعاهم إلى الإسلام فاتهموه وآذوه، وخرجوا يأتمرون ما يصنعون به.
حتى إذا طلع الفجر أو في على غرفة فأذّن بالصلاة، فرماه وهب بن جابر-
ويقال: أوس بن عوف من بني مالك- فأصاب أكحله فلم يرفأ دمه، ومات، فلما بلغ
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتله قال:
مثل عروة مثل صاحب ياسين [ (4) ] ، دعا قومه إلى اللَّه تعالى فقتلوه!
ولحق ابنه أبو مليح وابن أخيه قارب بن الأسود برسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم فأسلما، ونزلا على المغيرة بن شعبة.
مشورة ثقيف عمرو بن أمية
وكان عمرو بن أمية- أحد بني علاج- من أدهى العرب، وكان مهاجرا
__________
[ (1) ] في (خ) «وإنه» .
[ (2) ] ما بين القوسين زيادة من كتب السيرة.
[ (3) ] الربة: صخرة تعبدها ثقيف بالطائف.
[ (4) ] هو الّذي يقول اللَّه فيه وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ
يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، الآيات من 20- 30 سورة
يس.
(2/84)
لعبد ياليل بن عمرو، فمشى إليه ظهرا حتى
دخل داره. [ثم أرسل إليه: إن عمرو ابن أمية يقول لك: أخرج إليّ! فقال عبد
ياليل للرسول: ويلك! أعمرو أرسلك إليّ! قال: نعم، وها هو ذا واقفا في دارك!
فقال: إن هذا شيء ما كنت أظنّه، لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك!] [ (1) ]
فخرج إليه، فدعاه إلى الدخول في الإسلام، [وقال له: إنه قد نزل بنا أمر
ليست معه هجرة! إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب
كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا في أمركم!] [ (1) ] فقال [عبد ياليل]
[ (1) ] : واللَّه قد رأيت ما رأيت، فائتمرت ثقيف فيمن يرسلونه إلى النبي
صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وفد ثقيف والأحلاف
حتى أجمعوا على أن يبعثوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير ورجلين [معه] [ (2) ]
من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك، فبعثوا عبد ياليل [ومعه] الحكم بن عمرو
ابن وهب بن معتّب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة- وهما من الأحلاف رهط عروة بن
مسعود-، وبعثوا من بني مالك: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد ابن دهمان
أخا بني يسار، وأوس بن عوف، ونمير بن خرشة بن ربيعة، ستة نفر، ويقال إن
الوفد قد كانوا بضعة عشر رجلا فيهم: سفيان بن عبد اللَّه، والحكم ابن عمرو
بن وهب.
مقدم الوفد إلى المدينة
فخرجوا- ورأسهم عبد ياليل- حتى قاربوا المدينة فإذا المغيرة بن شعبة يرعي
في نوبته ركاب أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكانت رعيتها
نوبا على أصحابه- فسلّم عليهم وترك الرّكاب عندهم، وخرج يشتدّ يبشر النبي
صلّى اللَّه عليه وسلّم بقدومهم، فبشره ثم عاد إليهم.
فأتوا إلى المسجد فقال الناس: يا رسول اللَّه! يدخلون المسجد وهم مشركون!
فقال: إن الأرض لا ينجسها شيء.
__________
[ (1) ] زيادات من (ابن سعد) ، و (ابن هشام) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (ط) .
(2/85)
ضيافة الوفد
ثم أنزل المغيرة في داره، وأمر لهم عليه السلام بخيمات ثلاث من حرير فضربن
في المسجد. فكانوا يستمعون القراءة بالليل وتهجّد الصحابة، وينظرون صفوفهم
في الصلوات المكتوبات، ويرجعون إلى منزل المغيرة فيطعمون ويتوضءون. وكان
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجري لهم الضيافة في دار المغيرة
فكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى
يأكل منه خالد بن سعيد بن العاص، فإنه كان يمشي بينهم وبين رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أسلموا.
بعض اعتراضهم
وكانوا يسمعون خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا يسمعونه يذكر
نفسه فقالوا: يأمرنا نشهد أنه رسول اللَّه، ولا يشهد به في خطبته! فلما بلغ
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قولهم قال: أنا أول من شهد أنّي رسول
اللَّه، ثم قام فخطب، وشهد أنه رسول اللَّه في خطبته.
إسلام عثمان بن أبي العاص
فمكثوا أياما يغدون على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويخلفون عثمان بن
أبي العاص على رحالهم- وكان أصغرهم- فكانوا إذا رجعوا وناموا بالهاجرة، خرج
فعمد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسأله عن الدين، فاستقرأه القرآن
وأسلم سرا وفقه وقرأ من القرآن سورا.
جدال الوفد في الزنا والربا والخمر
هذا
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعو الوفد إلى الإسلام، فقال له عبد
ياليل: هل أنت مقاضينا [ (1) ] حتى نرجع إلى قومنا، فقال إن أنتم أقررتم
بالإسلام قاضيتكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم. فقال عبد ياليل:
أرأيت الزنا! فإنا قوم عزّاب [ (2) ] لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على
العزبة [ (3) ] ! قال: هو مما حرّم اللَّه، قال:
__________
[ (1) ] قاضي مقاضاة: جعل بينه وبينه قضاء محكما.
[ (2) ] في (خ) «عذاب» .
[ (3) ] في (خ) «العدبة» ، والعزبة والعزوبة بمعنى.
(2/86)
أرأيت الربا! قال: الربا حرام! قال فإن
أموالنا كلها ربا! قال: لكم رءوس أموالكم، قال: أفرأيت الخمر! فإنّها عصير
أعنابنا ولا بد لنا منها! قال: فإن اللَّه حرّمها. فخلا بعضهم ببعض، وقال
عبد ياليل: ويحكم! نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال!! لا تصبر ثقيف عن
الخمر ولا عن الزنا أبدا.
كتاب الصلح
ومشى خالد بن سعيد بن العاص بينهم وبين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى
كتبوا الكتاب- وكتبه خالد- وأسلموا، وتعلموا فرائض الإسلام وشرائعه، وصاموا
بقية شهر رمضان.
فأمّر عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عثمان بن أبي العاص، وهو
أصغرهم، وقال له: اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا: وخرجوا إلى الطائف.
هدم ربّة ثقيف
وسار في إثرهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الربة صنمهم، فدخل
القوم الطائف، وكانت لهم مع قومهم أنباء حتى أسلموا. ودخل المغيرة في بضعة
عشر رجلا فهدموا الرّبّة، وانتزع كسوتها وما فيها من طيب وذهب وفضة.
فأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ممّا وجد فيه أبا مليح بن عروة،
وقارب بن الأسود، وناسا: وجعل في سبيل اللَّه وفي السّلاح منها.
ثم كتب لثقيف بعد البسملة:
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم لثقيف
«من محمد النبي رسول اللَّه [ (1) ] ، [هذا كتاب من النبي رسول اللَّه] [
(2) ] ، إلى المؤمنين: إن عضاه وج وصيده لا يعضد [ (3) ] ، ومن وجد يفعل
[شيئا] [ (4) ] من ذلك يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى [ذلك] [ (4) ] فإنه يؤخذ
فيبلغ [به] [ (4) ] النبيّ محمد، وإن [ (5) ] هذا أمر النبي محمد رسول
اللَّه.
وكتب خالد بن سعيد بأمر النبيّ
__________
[ (1) ] في (خ) «ورسول اللَّه» ، وما أثبتناه نص (ابن هشام) ج 4.
[ (2) ] هذا الكتاب، أعاد المؤلف صياغته من روايات مختلفة وكلها صحيحة إلا
أنه نسي التنبيه على اختلاف الرواية.
[ (3) ] في (خ) «عضاة» .
[ (4) ] زيادات من (ابن هشام) ج 4.
[ (5) ] في (خ) «فإن» وهذا نص (ابن هشام) ج 4.
(2/87)
محمد بن عبد اللَّه، فلا يتعده أحد فيظلم
نفسه فيما أمر به محمد رسول اللَّه.
حمي وج
ونهي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن قطع عضاه [ (1) ] وجّ وعن صيده، فكان الرجل
يؤخذ بفعل ذلك، فتنزع ثيابه. واستعمل على حمى وجّ سعد بن أبي وقّاص رضي
اللَّه عنه.
إسلام كعب بن زهير
وفي هذه السنة كان إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزنيّ
من، مزينة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر: وذلك أنه خرج هو وأخوه بجير
إلى أبرق العراق، فتركه بجير في غنمه وقدم المدينة فأسلم، فقال كعب شعرا
غضب منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهدر دمه. فكتب إليه بجير بعد
عودة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الطائف، وقال له: النّجاء
النّجاء!! وما أراك أن تفلت، ثم كتب إليه يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وقدم
على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وأنشده:
«بانت سعاد فقلبي اليوم متبول» .
.. القصيد.
خبره وخبر البردة
فكساه بردة كانت عليه. وقيل: أمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتله لأنه كان
يشبّب بأمّ هانئ بنت أبي طالب، وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: فلما
قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة منصرفا عن الطائف كتب بجير
بن زهير إلى أخيه كعب، فذكر الحديث.
وقيل: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأي زهيرا وله مائة سنة فقال:
اللَّهمّ أعذني من شيطانه! فما لاك بيتا حتى مات.
وقال ابن قتيبة [ (2) ] : أعطي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كعب بن
زهير راحلة وبردا، فباع البرد من معاوية [ (3) ] بعشرين ألفا، فهو عند
الخلفاء إلى اليوم.
__________
[ (1) ] في (خ) «عضاة» .
[ (2) ] في كتاب (الشعر والشعراء) ج 1 ص 162 طبعة ثالثة بتحقيق أحمد محمد
شاكر سنة 1977.
[ (3) ] في (خ) «معونة» .
(2/88)
الوفود
ولما أسلمت ثقيف ضربت إليه وفود العرب من كل وجه لمعرفتهم أنهم لا طاقة لهم
بحرب رسول اللَّه ولا عداوته، فدخلوا في دين اللَّه أفواجا.
وفد بني أسد:
فقدم وفد بني أسد وقالوا: أتيناك قبل أن ترسل إلينا!! فأنزل اللَّه:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ
إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [ (1) ] :
كتب ملوك حمير:
وقدمت كتب [ملوك] [ (2) ] حمير [ورسوله إليه بإسلامهم] [ (3) ] : الحارث بن
عبد كلال [ونعيم بن عبد كلال] [ (2) ] ، والنعمان قيل ذي رعين، [ومعافر] [
(3) ] وهمدان، أقرّوا بالإسلام.
وفد بهراء:
وقدم وفد بهراء، فنزلوا على المقداد بن عمرو [البهرانيّ] [ (4) ] .
وفود أخر:
وقدم وفد بني البكاء، ووفد فزارة وفيهم خارجة بن حصين، ووفد ثعلبة، ووفد
سعد بن بكر ووافدهم ضمام بن ثعلبة، ووفد الداريين من لخم وهم
__________
[ (1) ] آية 17/ الحجرات، وفي (خ) ، أَنْ أَسْلَمُوا، الآية.
[ (2) ] زيادة من ابن هشام.
[ (3) ] زيادة من ابن هشام، وفي (خ) «وقدمت كتب حمير مع الحارث بن عبد
كلال» وهذا خطأ، فإن كلا من الحارث والنعمان لم يفدا على رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم بل هو الّذي كتب إليهما،
وهذا هو نص كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهما «بسم اللَّه الرحمن
الرحيم، من محمد النبي رسول اللَّه إلى الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد
كلال والنعمان قيل ذي رعين، وهمدان ومعافر، أما بعد ذلكم فإنّي أحمد إليكم
اللَّه الّذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض
الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم وخبر ما قبلتم وأنبأنا بإسلامكم،
وقتلكم المشركين، وإن اللَّه قد هداكم بهدايته إن أصلحتهم وأطعتم اللَّه
ورسوله، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس اللَّه وسهم
نبيه وصفيه.
(راجع مكاتيب الرسول) ص 187. (وتاريخ الطبري) ج 3 ص 120، 121.
[ (4) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
(2/89)
عشرة [ (1) ] .
موت عبد اللَّه بن أبيّ
ومرض عبد اللَّه بن أبيّ في ليال من شوّال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه
عشرين يوما، كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده فيها، فلما دخل
عليه وهو يجود بنفسه قال له: نهيتك عن حبّ يهود! فقال: قد أبغضهم أسعد بن
زرارة، فما نفعه؟:
ثم قال: يا رسول اللَّه، ليس بحين عتاب، هو الموت! فإن مت فاحضر غسلي،
وأعطني قميصك أكفن فيه فأعطاه قميصه الأعلى- وكان عليه قميصان-، فقال:
الّذي يلي جلدك! فنزع قميصه الّذي يلي جلده فأعطاه ثم قال صلّ عليّ واستغفر
لي.
حضور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ويروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جاء بعد موته إلى قبره، فأمر به
فأخرج، فكشف عن وجهه، ونفث عليه من ريقه وأسنده إلى ركبتيه، وألبسه قميصه
الّذي يلي جلده:
قال الواقدي [ (2) ] : والأول أثبت أنه حضر غسله وكفّنه.
الصلاة عليه واعتراض عمر في ذلك
ثم
حمل إلى موضع الجنائز، فتقدم صلّى اللَّه عليه وسلّم ليصلي عليه، فلما قام
وثب إليه عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه، تصلي على
ابن أبي؟ فإنه قال يوم كذا وكذا [ (3) ] ، ويوم كذا وكذا، فعدّ عليه قوله:
فتبسم وقال: أخّر عني يا عمر، فإنّي خيرت فاخترت، [وقد قيل لي: اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] [ (4) ] ولو [ (5) ] أعلم أني إن
زدت [ (6) ] على السبعين غفر له زدت عليه!! فصلّى عليه وأطال الوقوف.
__________
[ (1) ] في (خ) «ووفد الدواس من لخم وهم عشيرة» وما أثبتناه من (الطبري) ج
3 ص 122.
[ (2) ] (المغازي) ج 3 ص 1057.
[ (3) ] في (خ) «يوم كذا وكذا» وما أثبتناه من (الواقدي) .
[ (4) ] من الآية 80/ التوبة، وما بين القوسين زيادة للسياق من (ابن هشام)
ج 4.
[ (5) ] في (ط) «فلو أعلم» وما أثبتناه من (خ) و (الواقدي) .
[ (6) ] في (ط) «إن زدت» وفي (خ) و (الواقدي) «إذا زدت» .
(2/90)
ما نزل من القرآن في
المنافقين
ونزل قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا
تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا
وَهُمْ فاسِقُونَ* وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ* وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا
بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ
مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ
يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ [ (1) ] فعرف عليه السلام في هذه الآية المنافقين فكان من مات
منهم لم يصلّ عليه.
دفن عبد اللَّه واجتماع المنافقين
ثم حمل ابن أبيّ إلى قبره، وقد غلب عليه المنافقون كسعد بن حنيف، وزيد ابن
الصليت وسلامة [ (2) ] بن الحمام [ (3) ] ونعمان بن أبي عامر [ (4) ] ،
ورافع ابن حرملة [ (5) ] ، ومالك بن أبي نوفل [ (6) ] ، وداعس، وسويد،
وهؤلاء أخابث المنافقين. وهم الذين كانوا يمرّضونه، وكان يقول: لا يليني
غيرهم، ويقول لهم:
أنتم واللَّه أحب إليّ من الماء على الظمأ! ويقولون: ليت إنا نفديك بالأنفس
والأموال والأولاد! فلما وقعوا على حفرته- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم واقف يلحظهم- ازدحموا على النزول في حفرته، وارتفعت الأصوات، حتى
أصيب أنف داعس وسال الدم، وكان يريد أن ينزل فنحّي، وجعل عبادة بن الصامت
رضي اللَّه عنه يذبهم ويقول:
اخفضوا أصواتكم عند رسول اللَّه، ونزل حفرته رجال من قومه أهل فضل وإسلام،
وهم: ابنه [عبد اللَّه] [ (7) ] وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت، وأوس ابن
خولي حتى بنوا عليه. ودلاه عليهم [ (8) ] الصحابة وأكابر الأوس والخزرج،
وهم قيام مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ودلاه عليه السلام بيديه إليهم،
ثم قام على القبر حتى دفن،
__________
[ (1) ] الآيات 84- 87/ التوبة، وفي (خ) «علي قبره الآيتان» .
[ (2) ] يقول محقق (ط) «ولم أجد له خبرا ولا ذكرا» ، ونقول: «الخبر بتمامه
في (المغازي للواقدي) ج 3 ص 1058، 1059 ومنه صوبنا بعض الأسماء والأنساب» .
[ (3) ] في (ط) «سلالة» .
[ (4) ] في (ط) «ونعمان بن أوفى بن عمرو» .
[ (5) ] في (ط) «حريملة» .
[ (6) ] في (ط) «قوقل» .
[ (7) ] زيادة من (ط) .
[ (8) ] في (خ) «عليه» وما أثبتناه من (ط) .
(2/91)
وعزّى ابنه وانصرف. وحثا المنافقون عليه
تراب قبره وهم يقولون: يا ليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك، وحثوا على
رءوسهم التّراب.
ابنته وحزنها
ولم تتخلف امرأة من الأوس والخزرج حتى أتت ابنته جميلة بنت عبد اللَّه ابن
أبي، وهي تقول: وا جبلاه! وا ركناه! وا أبتاه! وما ينهاها أحد ولا يعيب
عليها.
حج أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه
ثم كانت حجة أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه سنة تسع [ (1) ] . وكان رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- قبل أن ينزل عليه سورة براءة- قد عاهد ناسا
من المشركين عهدا، فلبث بعد مرجعه من تبوك أربعة أشهر وحضر الحجّ، فكره أن
يخرج ذلك العام حتى ينبذ [ (2) ] إلى كلّ من عهد إليه من المشركين عهده.
حج المشركين
وكانوا يحجون مع المسلمون، فإذا قال المسلمون «لبيك لا شريك لك» ، عارضهم
المشركون بقولهم [لبيك] [ (3) ] «لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما
ملك» ، عالية أصواتهم ليغلّطوهم بذلك، ويطوف رجال منهم عراة، ليس على أحد
منهم ثوب، يعظمون بذلك الحرمة [ (4) ] ، ويقول أحدهم: أطوف بالبيت كما
ولدتني أمي ليس عليّ شيء من الدنيا خالطة الظلم.
الخروج إلى الحج
فكره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يحج ذلك العام، فاستعمل أبا
بكر على الحج، [وكتب له بنفس الحج، لأنه اشتكى أنه لا علم له بالقضاء] [
(5) ] . فخرج في
__________
[ (1) ] في (خ) «سنة سبع» وهو خطأ.
[ (2) ] نبذ العهد: نقضه.
[ (3) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (4) ] حرمة البيت الحرام.
[ (5) ] كذا في (خ) ، وليس لهذه العبارة أو لمعناها نظير في كتب السيرة.
(2/92)
ثلاثمائة رجل. وبعث معه بعشرين بدنة قلدها
النعال وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب
الأسلمي، وساق أبو بكر رضي اللَّه عنه خمس بدنات. وحج عامئذ عبد الرحمن بن
عوف رضي اللَّه عنه فأهدى بدنا.
وأهلّ أبو بكر رضي عنه من ذي الحليفة، وسار حتى [إذا] [ (1) ] كان بالعرج
في السّحر سمع رغاء القصواء، فإذا علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه عليها
فقال: قد استعملك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الحج؟ قال: لا
ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس: فانبذ إلى كل ذي عهد عهده.
وقيل أدركه عليّ رضي اللَّه عنهما بضجنان.
صفة الحج
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عهد إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه
أن يخالف المشركين:
فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع
من جمع قبل طلوع الشمس فخرج حتى أتى مكة وهو مفرد بالحجّ، فخطب قبل التروية
بيوم بعد الظهر، وطاف يوم التروية- حين زاغت الشمس- بالبيت سبعا، ثم ركب
راحلته من باب بني شيبة! وصلّى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح
بمنى، ولم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير، فانتهى إلى نمرة، فنزل في قبة من
شعر فقال فيها وركب راحلته لما زاغت الشمس فخطب ببطن عرفة، ثم أناخ فصلّى
الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم ركب راحلته فوقف بالهضاب من عرفة، فلما
أفطر الصائم دفع يسير العنق [ (2) ] حتى نزل بجمع- قريبا من النار التي على
قزح [ (3) ] فلما طلع الفجر صلّى الفجر ثم وقف، فلما أسفر دفع.
وجعل يقول في وقوفه: يا أيها الناس. أسفروا [ (4) ] ،
ثم دفع قبل الشمس. وكان يسير العنق [ (2) ] حتى انتهى إلى محسّر فأوضع
راحلته، فلما جاز وادي محسّر عاد إلى مسيره الأول حتى رمي الجمرة راكبا
بسبع حصيّات، ثم رجع إلى المنحر فنحر ثم حلق.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (2) ] العنق: ضرب من السير سريع.
[ (3) ] قزح: هو القرن الّذي يقف الإمام عنده بالمزدلفة.
[ (4) ] أسفر بالفجر: أطال الصلاة حتى يتبين الفجر.
(2/93)
قراءة براءة
وقرأ علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه- يوم النحر عند الجمرة- براءة، ونبذ
إلى كل ذي عهد عهده، وقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا
يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
خطبة أبي بكر
وخطب أبو بكر رضي اللَّه عنه يوم النحر بعد الظهر على راحلته، وقام برمي
الجمار ماشيا: ذاهبا وجائيا: فلما رمي يوم الصدر [ (1) ] وجاوز العقبة،
ركب.
ويقال: رمي يومئذ راكبا، وصلّى بالأبطح الظهر والعصر، وصلّى بمكة المغرب
والعشاء، ثم خرج من ليلته قافلا إلى المدينة.
سيرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل براءة
[وكانت سيرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ]- قبل نزول براءة-: أن
يقاتل من قاتله، ومن كفّ يده كف عنه، فنسخت براءة ذلك.
وكان العرب إذا تحالف سيدهم أو رئيسهم مع آخر لم ينقض ذلك إلا الّذي يحالف
أو أقرب الناس قرابة به. وكان عليّ رضي اللَّه عنه هو الّذي عاهد المشركين،
فلذلك بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببراءة.
ولما رجع المشركون من حجهم لام بعضهم بعضا وقالوا: ما تصنعون وقد أسلمت
قريش؟! فأسلموا.
وفود غسان وغامد ونجران
ثم كانت سنة عشر. وفيها كان وفد غسّان [ (3) ] ووفد غامد في شهر رمضان.
وقدم وفد نجران: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرسل خالد بن
الوليد إلى بني الحارث ابن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا،
فإن أجابوا أقام فيهم
__________
[ (1) ] يوم الصدر: اليوم الرابع من أيام النحر.
[ (2) ] هذه العبارة مكررة في (خ) .
[ (3) ] في (خ) «غبشان» والتصويب من (الطبري) ج 3 ص 127.
(2/94)
وعلمهم شرائع الإسلام، وإن أبوا قاتلهم،
فخرج إليهم في ربيع الأول سنة عشر، ودعاهم فأجابوا وأسلموا، وأقام فيهم،
وكتب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمه إسلامهم، ثم عاد ومعه
وفدهم، فيهم: قيس بن الحصين بن زيد بن شداد ويقال له ابن ذي الغصّة [ (1) ]
، ويزيد بن عبد المدان، في آخرين، ثم عادوا في بقيّة شوال أو في ذي القعدة،
وأمّر عليهم قيس بن الحصين.
إسلامهم وكتاب النبي لهم
وخرج إليهم عمرو بن حزم يعلمهم شرائع الإسلام ويأخذ صدقاتهم. وكتب له رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا ليحملهم على ما فيه، وبين فيه الأحكام
والزكوات ومقادير الديات ويقال: كان ذلك في شهر ربيع الآخر، وقيل في جمادى
الأولى. فتوفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعمرو بن حزم على نجران.
المباهلة
وأرسل نصارى نجران العاقب والسّيّد في نفر، فأرادوا مباهلة [ (2) ] رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج ومعه فاطمة وعليّ والحسن والحسين
عليهم السلام، فلما رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على اللَّه أن يزيل
الجبال لأزالها!! ولم يباهلوا، وصالحوه على ألفي حلة: ثمن كل حلة أربعون
درهما، وجعل لهم عليه السلام ذمّة اللَّه وعهده على ألا يفتنوا عن دينهم،
ولا يعشروا [ (3) ] ولا يحشروا [ (4) ] ، ولا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا
[به] [ (5) ] .
سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن
ثم كانت سرية علي رضي اللَّه عنه في رمضان: بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم إلى اليمن [حين] [ (6) ] تتام أصحابه، وعقد له لواء: أخذ عمامة
فلفها مثنية مربعة وجعلها
__________
[ (1) ] في (خ) القصة.
[ (2) ] انظر آية المباهلة، وهي الآية رقم 16/ آل عمران، وأسباب النزول
للواحدي ص 74.
[ (3) ] في (خ) «يعاشروا» ، ومعنى لا يعشروا: لا يؤخذ عشر أموالهم في
التجارات.
[ (4) ] لا يحشروا: لا يندبون إلى المغازي.
[ (5) ] زيادة من (ط) عن (فتوح البلدان) ص 71.
[ (6) ] زيادة للسياق من (ط) .
(2/95)
في رأس الرّمح، ثم دفعها إليه وقال: هاك
هذا اللواء! وعممه عمامة ثلاثة أكوار، وجعل ذراعها بين يديه وشبرا من
ورائه، ثم قال: هكذا العمّة [ (1) ] !
وصية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم له
وقال له: امض ولا تلتفت! فقال على: يا رسول اللَّه، كيف أصنع؟ قال:
إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك. فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى
يقتلوا منك قتيلا، فإن قتلوا منك قتيلا فلا تقاتلهم، تلوّمهم [ (2) ] حتى
تريهم أناة. ثم تقول لهم: هل لكم أن تقولوا لا إله إلا اللَّه؟ فإن قالوا:
نعم، فقل هل لكم إلى أن تصلوا؟ فإن قالوا: نعم، فقل لهم: هل لكم إلى أن
تخرجوا من أموالكم صدقة تردّونها على فقرائكم؟ فإن قالوا: نعم، فلا تبغ
منهم غير ذلك، واللَّه لأن يهدي اللَّه على يديك رجلا واحدا خير لك مما
طلعت عليه الشمس أو غربت.
الغنائم
فخرج في ثلاثمائة فارس حتى انتهى إلى أرض مذحج ففرّق [ (3) ] أصحابه، فأتوا
بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك، فكانت أول خيل دخلت إلى تلك
البلاد، فجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب ثم لقي جمعا فدعاهم إلى الإسلام،
فأبوا ورموا بالنّبل والحجارة ساعة، فصفّ أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن
سنان السّلمي، وحمل عليه بمن معه، قتل منهم عشرين رجلا، فانهزموا فلم
يتبعهم، ودعاهم إلى الإسلام فأجابوا. وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام
وقالوا: نحن على من وراءنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق اللَّه.
قسمة الغنائم إلا الخمس
وجمع على الغنائم وجزأها خمسة أجزاء. وأقرع عليها، وكتب في سهم منها، فخرج
أوّل السهام سهم الخمس، ولم ينفل منه أحدا من الناس شيئا.
وكان من قبله من الأمراء يعطون أصحابهم- الحاضر دون غيرهم- من
__________
[ (1) ] العمة: هيئة الاعتمام، والعمامة: ما يعتمم به.
[ (2) ] تلومهم: انتظرهم.
[ (3) ] في (خ) «فعرق» .
(2/96)
الخمس، ثم يخبر بذلك رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم فلا يردّه عليهم، فطلبوا ذلك من علي فأبى وقال: الخمس
أحمله إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى فيه رأيه، وهذا رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوافي الموسم، ونلقاه به فيصنع ما أراه
اللَّه فانصرف راجعا، وحمل الخمس، وساق معه ما كان ساق.
وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن أحمال معكومة، ونعم مما غنموا، ونعم من
صدقة أموالهم.
ثم تعجل، وجعل أبا رافع على أصحابه وعلى الخمس، وكان عليّ ينهاهم عن ركوب
إبل الصدقة. فسأل القوم أبا رافع أن يكسوهم ثيابا يحرمون فيها، فكساهم
ثوبين.
خبر أبي رافع في الإعطاء من الخمس
فلما خرج علي يتلقاهم- وهم داخلون مكة ليقدم بهم- رأى عليهم الثياب فعرفها،
فقال لأبي رافع: ما هذا! فأخبره، فقال: قد رأيت إبائي عليهم ذلك، ثم
أعطيتهم وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت فتعطيهم؟! وجرّد بعضهم من ثوبيه.
فلما قدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شكوه، فدعاه [ (1) ]
وقال. ما لأصحابك يشكونك؟ فقال: ما أشكيتهم: قسمت عليهم ما غنموا. وحبست
الخمس حتى نقدم عليك وترى رأيك فيه، وقد كانت الأمراء يفعلون أمورا: ينفلون
من أرادوا من الخمس، فأردت أن أحمله إليك لترى فيه رأيك! فسكت عليه السلام.
قدوم علي في الحج
وكان عليّ رضي اللَّه عنه قد كتب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
لما ظهر علي عدوّه- مع عبد اللَّه بن عمرو بن عوف المزنيّ- بما كان من لقاء
القوم وإسلامهم، فأمر أن يوافيه في الموسم-، فعاد إليه عبد اللَّه.
وقدم عليّ من اليمن فوجد فاطمة عليها السلام ممن حلّ ولبست ثيابا صبيغا
واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: أمرني بهذا أبي، فذهب إلى رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم محرّشا عليها [ (2) ] ، مستفتيا في الّذي ذكرت،
وأخبره، فقال: صدقت! ماذا قلت
__________
[ (1) ] في (خ) «فدعاهم» .
[ (2) ] التحريش: الإغراء والتهييج بذكر ما يوجب العتاب.
(2/97)
حين فرضت الحج؟ قال: قلت اللَّهمّ إني أهلّ
بما أهلّ به رسولك! قال: فإن معي فلا تحلّ، وكان الهدي الّذي جاء به عليّ
رضي اللَّه عنه والّذي ساقه النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة مائة
بدنة، فأشرك عليا في هديه [ (1) ] .
وفد الأزد
فيها قدم [ (2) ] وفد الأزد، ورأسهم صرد بن عبد اللَّه في بضعة عشر رجلا
فأسلم، وأمّره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على من أسلم من قومه،
وأمره أن يجاهد المشركين فسار إلى مدينة جرش، فحصر خشعم نحو شهر، ثم رجع
كأنه منهزم، فخرجوا إليه، فعطف عليهم فقتلهم أشد قتل. وكان أهل جرش قد
بعثوا رجلين إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظران حاله، فأخبرهما
بما كان من أمر صرد بن عبد اللَّه، فرجعا، فوجدا أصحابهما قد أصيبوا في تلك
الساعة من ذلك اليوم الّذي ذكر صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها حالهم.
فقدم، وفد جرش فأسلموا، وحمي لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حول القرية
للفرس والراحلة والمثيرة. والمثيرة: بقرة الحرث [ (3) ] [لأنها تثير الأرض]
[ (4) ] .
وفد مراد
وقدم وفد مراد مع فروة بن مسيك بن الحارث بن سلمة بن الحارث بن كريب
الغطيفي ثم المرادي [ (5) ] مفارقا لملوك كندة، فاستعمله رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم على مراد وزبيدة ومذحج كلّها، وبعث معه خالد بن سعيد بن
العاص على الصدقة. وقيل:
كان إسلام فروة سنة تسع.
وفد فروة الجذامي
وقدم وفد فروة بن عمرو بن النّافرة الجذامي، عامل الروم على فلسطين وما
حولها وعلى من يليه من العرب، وكان موضعه بميعان من أرض فلسطين، وكتب
بإسلامه وأهدى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بغلة بيضاء، فطلبه
الروم وحبسوه ثم قتلوه.
__________
[ (1) ] في (خ) «هدية» .
[ (2) ] في (خ) «تقدم» .
[ (3) ] في (خ) «والمثرة بقر الحارث» .
[ (4) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (5) ] راجع (عيون الأثر) ج 2 ص 239.
(2/98)
وفد زبيد
وقدم وفد زبيد مع عمرو [ (1) ] بن معديكرب بن عبد اللَّه بن عمر عصم [ (2)
] ابن عمرو بن زبيد، ثم عاد. وقيل: كان إسلامه سنة تسع.
وفد عبد القيس
وقدم وفد عبد القيس، وفيهم الجارود بن عمرو بن حنش [ (3) ] بن يعلي، وكان
نصرانيا فأسلم، وأسلم من معه.
وفد بني حنيفة
وقدم وفد بني حنيفة، وفيهم مسيلمة الكذّاب بن ثمامة بن كبير بن حبيب ابن
الحارث بن عبد الحارث بن عدي، فنزل دار ابنة الحارث الأنصاريّة، وعاد إلى
اليمامة فتنبأ وادعى أنه شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في
النبوة، فاتبعه بنو حنيفة.
وفد كندة
وقدم وفد كندة- وهم ستون راكبا- مع الأشعث بن قيس بن معديكرب ابن معاوية بن
جبلة [ (4) ] بن عديّ بن ربيعة بن معاوية [الأكرمين] [ (5) ] بن الحارث
الأصغر بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مرنّع [واسمه عمرو] [ (5) ]
ابن معاوية بن ثور بن عفير [وثور بن عفير هو كندة، لأنه كند أباه النعمة] [
(6) ]
ابن عدي بن مرّة بن أرد بن زيد الكندي، فقال. نحن بنو آكل المرار. وأنت يا
محمد ابن آكل المرار! فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نحن بنو النضر بن
كنانة، لا نقفوا أمّنا ولا ننتفي من أبينا [ (7) ] .
وفد محارب
وقدم وفد محارب، ووفد الرّهاويين- وهم بطن من مذحج- ينسبون إلى
__________
[ (1) ] في (خ) «عمر» .
[ (2) ] في (خ) «حطم» .
[ (3) ] في (خ) «خنش» .
[ (4) ] في (خ) «حبله» .
[ (5) ] زيادة من (ط) عن (أسد الغابة) .
[ (6) ] زياد من (ط) عن (أسد الغابة) .
[ (7) ] في (خ) «لا يقفوا أمنا، ولا نتبه من أبينا» .
(2/99)
رهاء [بفتح الراء] بن منبّه بن حرب بن علة
بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد ابن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن
يشجب بن يعرب بن قحطان:
وفد عبس والصّدف وخولان وبني عامر بن صعصعة
ووفد عبس، ووفد الصدف، ووفد خولان، وكانوا عشرة، ووفد بني عامر ابن صعصعة،
فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس، وجبّار بن سلمى بن مالك ابن جعفر،
فأراد عامر الغدر برسول اللَّه [ (1) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له
قومه. إن الناس قد أسلموا فأسلم! فقال: لا أتبع عقيب هذا الفتى! ثم قال
لأربد: إذا قدمنا عليه فإنّي شاغله عنك فاعله بالسيف من خلفه،
فلما قدموا جعل عامر يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يقول: يا
محمد خالّني! قال: لا واللَّه حتى تؤمن باللَّه وحده. قال:
يا محمد! خالني! وجعل يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وينتظر من
أربد ما كان من أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئا، فلما رأى عامر ما يصنع
أربد، قال: يا محمد! خالّني! قال: لا، حتى تؤمن باللَّه وحده لا شريك له.
فلما أبى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أما واللَّه] [ (2)
] لأملأنها عليك خيلا ورجلا! فلمّا ولّي قال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اللَّهمّ اكفني عامرا!
فلما خرجوا قال عامر لأربد. لم لا قتلته؟ قال: كلما هممت بقتله دخلت بيني
وبينه حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟ فأرسل اللَّه في طريقهم على عامر
الطاعون، فقتله وهو في بيت امرأة سلوليّة حتى مات، وأرسل اللَّه على أربد
صاعقة فأحرقته.
وفد طيِّئ
وقدم وفد طيِّئ: فيهم زيد الخيل بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي فأسلم،
وسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد الخير، وقال: ما وصف لي أحد
في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون الصّفة غيرك. وأقطع له أرضين
في ناحيته، وأسلم قومه.
كتاب مسيلمة الكذاب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكتب مسيلمة الكذاب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من مسيلمة
رسول اللَّه إلى
__________
[ (1) ] في (خ) «يا رسول اللَّه» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (ط) .
(2/100)
محمد رسول اللَّه، أما بعد، فإنّي قد أشركت
معك في الأمر، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون» .
كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليه
فكتب إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد البسملة: «من محمد رسول
اللَّه إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فالسلام على من اتبع الهدى، أما بعد،
فإن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» .
وقدم بكتاب مسيلمة رجلان، فسألهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنه
فصدّقاه، فقال أما واللَّه لولا أن الرّسل لا تقتل لقتلتكما.
وقيل: إن دعوى مسيلمة، والأسود العنسيّ، وطليحة النبوّة، إنما كانت بعد حجة
الوداع. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قدم الوفود لبس أحسن ثيابه وأمر
أصحابه بذلك.
البعثة على الصدقات
وفيها بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمراءه إلى الصدقات، فبعث
المهاجر بن أبي أميّة ابن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم القرشي
إلى صنعاء، وبعث زياد بن لبيد ابن ثعلبة بن سنان بن عامر بن أمية بن بياضة
الأنصاريّ البياضيّ إلى حضرموت، وبعث عديّ بن حاتم بن عبد اللَّه [ (1) ]
بن سعد بن حشرج بن امرئ القيس ابن عدي (ابن أخزم بن أبي أخزم) [ (2) ] بن
ربيعة بن جرول بن نعل بن عمرو ابن الغوّث بن طيِّئ بن أدد بن زيد بن كهلان
الطائيّ على صدقة طيِّئ وأسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات حنظلة، وجعل
الزّبرقان بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن
زيد مناة بن تميم التميمي، وقيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد
بن الحارث (وهو مقاعس) ابن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم
المنقريّ التميميّ على صدقات سعد ابن زيد مناة، وبعث العلاء بن الحضرميّ
إلى البحرين.
__________
[ (1) ] في (خ) «بن عبد اللَّه بن اللَّه» مكررة.
[ (2) ] زيادة من نسبه من (ط) عن (أسد الغابة) .
(2/101)
بعثة علي رضي اللَّه عنه إلى نجران
وبعث عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه إلى نجران على صدقاتهم، فقدم على
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجّه، وأحرم كإحرامه، وذكر بعضهم أن
عليا رضي اللَّه عنه سار في هذه السنة إلى اليمن- بعد توجّه خالد بن الوليد
إليها- فقرأ على أهل اليمن كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت
كلها في يوم واحد فكتب بذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال:
السلام على همدان، وكرر ذلك ثلاثا، ثم تتابع [ (1) ] أهل اليمن على
الإسلام، فلما كتب ذلك عليّ سجد صلّى اللَّه عليه وسلّم شكرا للَّه تعالى.
وأنه بعثه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم، فلقيه
عليه السلام بمكة في حجّة الوداع ولم يذكر الواقديّ في مغازيه بعثة عليّ
رضي اللَّه عنه سوى إلى اليمن كما تقدم- في رمضان.
حجة الوداع
ثم كانت حجة الوداع، ويقال حجّة الإسلام، وحجّة البلاغ، وحجّة التمام، وقد
أجمع صلّى اللَّه عليه وسلّم الخروج في ذي القعدة سنة عشر من مهاجره [ (2)
] ، وقد أسلمت جزيرة العرب ومن شاء اللَّه من أهل اليمن- فصلّى الظهر بذي
الحليفة، وأذّن في الناس بالحجّ، فقدم المدينة بشر كثير يريدون أن يأتمّوا
برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويعملوا بعمله [ (3) ] .
المسير وصفه إحرامه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وسار من المدينة- متدهّنا [ (4) ] ومترجّلا [ (5) ] [متجردا في ثوبين
صحاريّين: إزار ورداء، وذلك] [ (6) ] يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة-،
ومعه أزواجه، وأهل بيته، وعامة المهاجرين والأنصار ومن شاء من قبائل العرب
وأفناء [ (7) ] الناس.
وقال ابن حزم: الصحيح أنه خرج لستّ بقين (من ذي القعدة) ، فصلّى
__________
[ (1) ] في (خ) «تبايع» .
[ (2) ] في (خ) «مهاجرة» .
[ (3) ] في (خ) «ويعملون بعمله» .
[ (4) ] متدهنا: بالطيب والزيت.
[ (5) ] مترجلا: مسرحا شعره وممشطه.
[ (6) ] ما بين القوسين زيادة من (ابن سعد) ج 2.
[ (7) ] الأفناء: الأخلاط.
(2/102)
الظهر بذي الحليفة ركعتين، وأحرم عند صلاة
الظهر من يومه ذلك. ويقال: انتهى إلى ذي الحليفة عند الظهر فبات لأن تجتمع
إليه أصحابه والهدي، حتى أحرم عند الظهر من الغد في ثوبين صحاريين. إزار
ورداء أبدلها بالتنعيم بثوبين من جنسهما.
وقيل صلّى الظهر يوم الخميس لستّ بقين من ذي القعدة، ثم خرج فصلّى العصر
بذي الحليفة، واجتمع إليه نساؤه وحجّ بهنّ جميعا في الهوادج.
فلما انتهى إليه اجتماع إليه اجتماع أصحابه والهدي، دخل مسجد ذي الحليفة
بعد أن صلّى الظهر فصلّى ركعتين، ثم خرج فدعا بالهدي فأشعره [ (1) ] في
الجانب الأيمن بيده، ووجّهه إلى القبلة، وقلده نعلين نعلين [ (2) ] ثم ركب
ناقته، فلما استوى بالبيداء أحرم. وقيل: أشعر هديه وقلده قبل أن يحرم.
والقول- أنه لم يبت- أثبت.
الهدي
وساق مائة بدنة، ويقال: إنه أمر أن يشعر ما فضل من البدن ناجية بن جندب
واستعمله على الهدي وكان مع ناجية بن جندب فتيان من أسلم، وكانوا يسوقونها
سوقا، يتبعون بها الرّعي، وعليها الجلال [ (3) ] ،
فقال ناجية بن جندب: يا رسول اللَّه، أرأيت ما عطب [ (4) ] منها كيف أصنع
به؟ قال تنحره، وتلقي قلائده في دمه.
ثم تضرب به صفحته اليمني [ (5) ] ، ثم لا تأكل منه ولا أحد من أهل رفقتك.
وأمر من كان معه هدي أن يهلّ كما أهلّ، وسار، وبين يديه وخلفه وعن يمينه
وعن شماله أمم لا يحصون كثرة: كلهم قد قدموا ليأتموا [ (6) ] به صلّى
اللَّه عليه وسلّم.
ويقال: كان معه تسعون ألفا، ويقال: مائة وأربعة عشر ألفا، ويقال: أكثر من
ذلك.
ومرّ صلّى اللَّه عليه وسلّم برجل يسوق بدنة، فقال: أركبها، ويلك! قال:
إنها بدنة؟ قال:
أركبها! وكان يأمر المشاة أن يركبوا على بدنه.
__________
[ (1) ] أشعر البدنة: أعلمها بشق جلدها ليعرف أنها هدي.
[ (2) ] قلد البدنة: علق في عنقها قلادة من نعل ونحوه ليعلم أنها هدي.
[ (3) ] الجلال: جمع جل، وهو ما تلبسه البدن لتصان به.
[ (4) ] عطب البعير: اعترته آفة تمنعه من السير.
[ (5) ] الصفحة: الجانب.
[ (6) ] في (خ) «ليابوا» .
(2/103)
إحرام عائشة
وطيّبته عائشة رضي اللَّه عنها لإحرامه بيدها، وأحرمت وتطيبت، فلما كانوا
بالقاحة [ (1) ] سال من الصفرة على وجهها [ (2) ] ،
فقال: ما أحسن لونك الآن يا شقيراء [ (3) ] .
الصلاة
وكان يصلّى بين مكة والمدينة ركعتين أمثالا لا يخالف إلا اللَّه. فلما قدم
مكة صلّى بهم ركعتين ثم سلم وقال: أتمّوا صلاتكم يا أهل مكة فإنّا سفر.
الإهلال بالعمرة والحج
وقد اختلف فيما أهلّ به: فعن أبي طلحة، أنه قرن مع حجّته عمرة.
وعن حفصة رضي اللَّه عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه، تأمر الناس أن يحلوا
ولم تحلّ أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبّدت رأسي، وقلدت هدي، فلا أحلّ حتى
أنحر هديي.
وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: أهلّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم بالعمرة وساق الهدي.
وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: أفرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
الحجّ:
وقد صحّ أنه أتاه آت من ربّه في وادي العقيق،
يأمره عن ربّه أن يقول في حجته: هذه حجّة في عمرة، ومعنى هذا أنّ اللَّه
أمره بأن يقرن الحج مع العمرة. فأصبح فأخبر الناس بذلك، وطاف على نسائه
بغسل واحد، ثم اغتسل وصلّى عند المسجد ركعتين، وأهل بحجة وعمرة معا روي ذلك
عنه ستة عشر صحابيا، وعنهم ستة عشر تابعيا.
منازل السير
وأصبح صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأحد بيلملم، ثم راح فتعشّى بشرف
السّيالة [ (4) ] وصلّى
__________
[ (1) ] القاحة أو الفاجة: مدينة على ثلاث مراحل من المدينة قبل السقيا
بنحو ميل (معجم البلدان) ج 4 ص 290.
[ (2) ] يريد صفر الطيب لما فيه من الزعفران.
[ (3) ] في (خ) «شقير» ونص (ابن سعد) : «إن لونك الآن يا شقراء لحسن» .
[ (4) ] شرف السيالة: موضع بين ملل والروحاء. (معجم البلدان) ج 3 ص 336.
(2/104)
المغرب والعشاء، ثم صلّى الصّبح بعرق
الظبية، بين الرّوحاء والسيالة، وهو دون الروحاء ثم نزل الروحاء فإذا بحمار
عقير فقال: دعوه حتى يأتي صاحبه. فأهداه له صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمر
به أبا بكر رضي اللَّه عنه فقسمه بين الصحابة. وقال: صيد البرّ لكم حلال
إلا ما صدتم أو صيد لكم. ثم راح من الرّوحاء فصلّى العصر بالمنصرف، وصلّى
المغرب والعشاء بالمتعشى وتعشى به، وصلّى الصبح بالأثاية، وأصبح يوم
الثلاثاء بالعرج.
خبر غلام أبي بكر الّذي أضل بعيره
وكان أبو بكر رضي اللَّه عنه قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
بالمدينة: إن عندي بعيرا نحمل عليه زادنا، فقال: فذاك إذا!
فكانت زاملة [ (1) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر رضي
اللَّه عنه واحدة. وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بزاد، دقيق وسويق، فجعل على
بعير أبي بكر رضي اللَّه عنه. فكان غلامه يركب عليه عقبة [ (2) ] ، فلما
كان بالأثاية عرّس الغلام وأناخ بعيره، فغلبته عيناه فقام البعير يجر خطامه
آخذا في الشّعب، وقام الغلام فلزم الطريق- يظن أنه سلكها- وهو ينشده، فلا
يسمع له بذكر. ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أبيات بالعرج،
فجاء الغلام، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه أين بعيرك؟
قال: ضلّ منى! قال: ويحك! لو لم يكن إلا أنا لهان الأمر [ (3) ] ، ولكن
رسول اللَّه وأهله! فلم ينشب [ (4) ] أن طلع به صفوان بن المعطل وكان على
ساقة [ (5) ] الناس- فأناخه، وقال لأبي بكر رضي اللَّه عنه: انظر هل تفقد
شيئا من متاعك؟ فنظر فقال ما نفقد شيئا إلا قعبا كنا نشرب به! فقال الغلام:
هذا القعب معي! فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه أدى اللَّه عنك الأمانة!.
رواية أخرى في خبر غلام أبي بكر
وروي أنه عليه السلام لما نزل بالعرج جلس وأبو بكر إلى جنبه، وعائشة إلى
جنبه الآخر وأسماء بجنب أبي بكر رضوان اللَّه عليهم،
وأقبل الغلام فقال له
__________
[ (1) ] الزاملة: البعير الّذي حمل عليه الزاد والمتاع.
[ (2) ] العقبة: مقدار فرسخين.
[ (3) ] في (خ) «لهان عن الأمر» .
[ (4) ] لم ينشب: ونشبه الأمر، لزمه (ترتيب القاموس) ج 4 ص 370.
[ (5) ] الساقة: المؤخرة.
(2/105)
أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: أضلني! فقام إليه
فضربه ويقول: بعير واحد يضل عنك؟! فجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم يتبسّم
ويقول: ألا ترون هذا المحرم وما يصنع؟! ولم ينهه.
طعام آل نضلة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وخبّر آل نضلة الأسلميون أن زاملة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضلت،
فحملوا حفنة من حيس [ (1) ] ، فأقبلوا بها حتى وضعوها بين يديه،
فقال: هلمّ يا أبا بكر! فقد جاءك اللَّه بغداء طيب! وجعل أبو بكر رضي
اللَّه عنه يغتاظ على الغلام، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هوّن
عليك! فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا معك! فقد كان الغلام حريصا على ألا
يضلّ بعيره. وهذا خلف مما كان معه.
فأكل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهله وأبو بكر، وكلّ من كان يأكل
مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى شبعوا.
مجيء البعير، وبعير سعد بن عبادة
ويجيء [ (2) ] سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه وابنه قيس بن سعد بزاملة حتى
يجدان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقفا قد أتى اللَّه بزاملته،
فقال سعد: يا رسول اللَّه! بلغنا أن زاملتك أضلت الغلام، وهذه زاملة
مكانها. فقال: قد جاء اللَّه بزاملتنا، فارجعا بزاملتكما بارك اللَّه
عليكما! أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟
فقال سعد: يا رسول اللَّه! المنّة للَّه ولرسوله، واللَّه يا رسول اللَّه،
للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الّذي تدع! قال صدقتم يا أبا ثابت! أبشر
فقد أفلحت إن الأخلاف [ (3) ] بيد اللَّه، فمن شاء أن يمنحه خلفا صالحا
منحه، ولقد منحك اللَّه خلفا صالحا، فقال سعد: الحمد للَّه، هو فعل ذلك.
سيادة بيت سعد بن عبادة
قال ثابت بن قيس بن شمّاس: يا رسول اللَّه: إن أهل بيت سعد في الجاهلية
سادتنا، والمطعمون في المحل منّا [ (4) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم: الناس معادن:
__________
[ (1) ] الحيس: الخلط، وتمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدا ثم يندر منه نواه
وربما جعل في سويق. (ترتيب القاموس) ج 1 ص 749.
[ (2) ] في (خ) «وجاء» ، والفعل المضارع أنسب لسياق العبارة.
[ (3) ] الأخلاف: جمع خلف، وهو العوض.
[ (4) ] المحل: الشدة.
(2/106)
خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا
فقهوا، لهم ما أسلموا عليه [ (1) ] .
احتجام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسيره
واحتجم صلّى اللَّه عليه وسلّم بلحى جمل [ (2) ]- وهو محرم- في وسط رأسه
ونزل السقيا يوم الأربعاء وأصبح بالأبواء، فأهدى له الصّعب بن جثامة بن قيس
الليثي عجز حمار يقطر دما، فرده وقال، أنا محرم. وأكل بالجحفة ثم راح منها،
وكان يوم السبت بقديد.
خبر المرأة وصغيرها
ومرّ يومئذ بامرأة في محفتها [ (3) ] ، ومعه ابن لها صغير، فأخذت بعضده
فقالت: يا رسول اللَّه، ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر!!
وكان يوم الأحد بعسفان. ثم راح. فلما كان بالغميم اعترض المشاة، فصفّوا
صفوفا فشكوا إليه المشي، فقال استعينوا بالنّسلان [ (4) ] ، ففعلوا، فوجدوا
لذلك.
__________
[ (1) ] في (خ) «له ما أسلم عليه» ، يقول محقق (ط) وكما أحفظه أثبته، ولم
أوفق للوقوف على مرجعه الآن»
ونقول: «ذكره (السخاوي) في (المقاصد الحسنة) ص 441 حرف النون، حديث رقم
1238 وقال: «حديث الناس معادن كمعادن الذهب والفضة. العسكري من حديث قيس بن
الربيع عن أبي حصين عثمان بن عاصم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة به
مرفوعا،
ولأبي هريرة في المرفوع حديث آخر لفظه: الناس معادن في الخير والشر خيارهم
في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، أخرجه الطيالسي وابن منيع
والحارث وغيرهم كالبيهقي من حديث ابن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة
وأصله في الصحيح. وللديلمي عن ابن عباس مرفوعا: الناس معادن والعرق دساس» .
وانظر أيضا: (كشف الخفاء ومزيل الالتباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة
الناس) ج 1 ص 414 حديث رقم 2793.
[ (2) ] لحي جمل: هي عقب الجحفة على سبعة أميال من السقيا.
راجع (سنن ابن ماجة) ج 1 ص 165 حديث رقم 490 وفيه « ... فقال جعفر بن عمرو
بن أمية أشهد على أبي أنه شهد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه
أكل طعاما مما غيرت النار، ثم صلّى ولم يتوضأ» .
«وقال علي بن عبد اللَّه بن عباس: وأنا أشهد على أبي بمثل ذلك» .
[ (3) ] المحفة: كالهودج إلا أنها لا تقبب.
[ (4) ] النسلان: مشى سريع دون العدو.
(2/107)
راحة. وكان يوم الاثنين بمر الظهران، فلم
يبرح حتى أمسى، وغربت الشمس بسرف، فلم يصلّ المغرب حتى دخل مكة.
وكان الناس لا يذكرون إلا الحجّ، فلما كانوا بسرف أمر عليه السلام النّاس
أن يحلّوا بعمرة إلا من ساق الهدي.
دخول مكة وعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقوله
ولما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما- بين كداء وكدي- ثم أصبح فاغتسل،
ودخلها نهار الاثنين الرابع من ذي الحجّة.
وذكر الواقدي: أنه دخل مكة يوم الثلاثاء من كداء على راحلته القصواء إلى
الأبطح، فدخل مكة من أعلاها حتى انتهى إلى باب بني شيبة، فلما رأى البيت
رفع يديه، فوقع زمام راحلته فأخذه بشماله، ثم قال حين رأى البيت اللَّهمّ
زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا، ولما دخل المسجد بدأ
بالطواف قبل الصلاة. قال طاوس: وطاف راكبا على راحلته. فما انتهى إلى الركن
استلمه وهو مضطبع بردائه، وقال: بسم اللَّه واللَّه أكبر. ثم رمل ثلاثة
ثلاثة [ (1) ] من الحجر إلى الحجر. وكان يأمر من استلم الركن أن يقول: باسم
اللَّه واللَّه أكبر، إيمانا باللَّه، وتصديقا بما جاء به محمد صلّى اللَّه
عليه وسلّم وقال فيما بين الركن اليمانيّ والأسود: رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. ولم
يستلم من الأركان إلا اليماني والأسود. ومشى أربعة [ (2) ] ثم انتهى خلف
المقام فصلّى ركعتين، يقرأ فيهما: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، وقُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثم عاد إلى الركن فاستلمه.
نهي عمر عن مزاحمة الطائف
وقال لعمر رضي اللَّه عنه: إنك رجل قوي، إن وجدت الركن خاليا فاستلمه، وإلا
فلا تزاحم عليه فتؤذي [الناس ممن يستلم الركن] [ (3) ] . وقال لعبد الرحمن
بن عوف رضي اللَّه عنه: كيف صنعت بالركن يا أبا محمد [ (4) ] ؟ فقالت:
استلمت وتركت، فقال: أصبت.
__________
[ (1) ] رمل: أسرع في مشيته.
[ (2) ] رمل ثلاثة، ومشى أربعة، تلك أشواط الطواف السبعة.
[ (3) ] زيادة للبيان.
[ (4) ] في (خ) «يا محمد» .
(2/108)
صفة سعيه بين الصفا
والمروة
ثم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وقال: أبدأ بما بدأ اللَّه به. وسعى
على راحلته، لأنه قدم وهو شاك وقيل: سعى على بغلته، والمعروف على راحلته.
فصعد على الصّفا فكبّر سبع تكبيرات وقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك
له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، صدق اللَّه وعده، ونصره
عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك. ونزل إلى المروة، فلما انصبت
قدماه في الوادي رمل. وقال في المشي. أيها الناس! إن اللَّه كتب عليكم
السعي فاسعوا، وسعى حتى انكشف إزاره عن فخذه. وقال في الوادي: ربّ اغفر
وارحم، ثم أنت الأعزّ الأكرم، فلما انتهى إلى المروة فعل عليها مثل ما فعل
على الصفا، فبدأ بالصفا وختم بالمروة.
فسخ حج من لم يسق الهدي إلى عمره
وأمر من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، ويتحلل حلا تاما، ثم يهلّ
بالحجّ [ (1) ] وقت خروجه إلى منى، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما
سقت الهدي ولجعلتها عمرة. وقدم عليّ من اليمن، فقال له: بم أهللت؟ قال:
بإهلال كإهلال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم. فقال: إني سقت الهدي وقرنت [
(2) ] . هكذا روي أبو داود بسند صحيح [ (3) ] .
نزول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأبطح
وكان قد اضطرب [ (4) ] بالأبطح، فقالت أم هانئ: يا رسول اللَّه، ألا ننزل
في بيوت مكة؟ فأبي، ولم ينزل بالأبطح حتى خرج يوم التروية [ (5) ] ، ثم رجع
من
__________
[ (1) ] الإهلال لغة: أن يرفع المعتمر بالبيت الحرام صوته بالتلبية، ثم
قالوا: أهل المحرم بحجة أو بعمرة: أحرم بها.
[ (2) ] القران بين الحج والعمرة: ان يجمع بينهما بنية واحدة وتلبية واحدة،
وإحرام واحد، وطواف واحد، وسعي واحد، فيقول: «لبيك بحجة وعمرة» وذلك الفعل
هو القران: أي الجمع بين الحج والعمرة.
[ (3) ] (سنن أبي داود) ج 2 ص 399 حديث رقم 1807، 1808 [باب 25 الرجل يهل
بالحج ثم يجعلها عمرة] .
[ (4) ] اضطرب بناء أو خيمة: إذا أقامه على أوتاد مضروبة في الأرض.
[ (5) ] يوم التروية. اليوم الثامن من ذي الحجة.
(2/109)
منى فنزل بالأبطح حتى خرج إلى المدينة. ولم
يدخل بيتا ولم يظله.
دخوله الكعبة وصلاته بها
ودخل الكعبة بعد ما خلع نعليه، فلما انتهى إلى بابها خلع نعليه. ودخل معه
عثمان بن أبي طلحة، وبلال وأسامة بن زيد رضي اللَّه عنهم، فأغلقوا عليهم
الباب طويلا ثم فتحوه، وصلّى فيه ركعتين بين الأسطوانتين المقدّمتين، وكان
البيت على ستة أعمدة. وقيل: بل كبّر في نواحيه ولم يصلّ.
وروي أنه دخل على عائشة رضي اللَّه عنها حزينا، فقالت: مالك يا رسول
اللَّه؟ قال: فعلت اليوم أمر ليتني لم أك فعلته! دخلت البيت، فعسى الرجل من
أمتى لا يقدر أن يدخله، فتكون في نفسه حزازة [ (1) ] ، وإنما أمرنا بالطواف
ولم نؤمر بالدخول.
وكسا البيت الحبرات [ (2) ] : وكانت الكعبة يومئذ ثمانية عشر ذراعا.
مدة إقامته بمكة
وأقام بمكة يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس، وكان يوم التروية يوم الجمعة،
فخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة.
وقام يوم التروية بين الرّكن والمقام، فوعظ الناس وقال: من استطاع أن يصلّى
الظهر بمنى فليفعل.
فصلّى في حجّته هذه صلاة أربعة أيام- وهو مقيم بمكة- حتى خرج إلى منى، وهو
في كل ذلك يقصر [ (3) ] ولم تكن إقامته هذه إقامة، لأنها ليست له بدار
إقامة، [وأنه لم ينو صلّى اللَّه عليه وسلّم أن] [ (4) ] يتخذها دار إقامة
ولا وطن، وإنما كان مقامه بمكة إلى يوم التروية كمقام المسافر في حاجة
يقضيها في سفره منصرفا إلى أهله، فهو مقام من لا نيّة له في الإقامة.
فلم ينو صلّى اللَّه عليه وسلّم جعلها مقامه. بل نوى الخروج منها إلى منى
يوم التروية عاملا في حجه حتى ينقضي وينصرف إلى المدينة.
__________
[ (1) ] الحزازة: جمع القلب من غيظ ونحوه. (ترتيب القاموس) ج 1 ص 632 وفي
(الواقدي) ج 3 ص 1100 «حرارة» وما أثبتناه من (ابن سعد) .
[ (2) ] الحبرات: جمع حبرة.
[ (3) ] يقصر أي في صلاته، فيصلي الصلاة الرباعية ركعتين ركعتين.
[ (4) ] ما بين القوسين بياض في (خ) وما أثبتناه من (ط) .
(2/110)
مسيره إلى منى
وركب حين زاغت الشمس في يوم التروية بعد أن طاف بالبيت أسبوعا فصلّى الظهر
والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، وكان بلال إلى جانب رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى منى، وبيده عود عليه (ثوبا وشيء) [ (1) ] .
يظله من الشمس.
وقالت له عائشة: يا رسول اللَّه، ألا نبني لك كنيفا [ (2) ] ؟ فأبى، وقال:
منى منزل من سبق!
وقيل: بني بمنى ليلة الجمعة التاسع من ذي الحجة.
مسيره إلى عرفة
ثم أصبح فسار إلى عرفة. ولم يركب من منى حتى رأى الشمس قد طلعت فركب إلى
عرفة، ونزل بنمرة، وقد ضرب له بها قبة من شعر. ويقال: إنما قال [ (3) ] إلى
فيء صخرة، وميمونة رضي اللَّه عنها تتبع ظلها حتى راح عنها، وأزواجه في
قباب- أو في قبّة- خزّ له فلما كان حين زاغت الشمس أمر براحلته القصواء
فرحلت برحل رثّ وقطيفة لا تسوى أربعة دراهم،
فلما توجّه قال: اللَّهمّ حجّة لا رياء فيها ولا سمعة!
ثم أتى بطن الوادي- بطن عرفة [ (4) ]-، وكانت قريش لا تشكّ أنه لا يتجاوز
المزدلفة يقف بها،
فقال نوفل بن معاوية الديليّ- وهو يسير إلى جنبه-: يا رسول اللَّه! ظن قومك
أنك تقف بجمع! فقال: لقد كنت أقف بعرفة قبل النبوة خلافا لهم،
وكانت قريش كلها تقف بجمع [ (5) ] ، إلا أن شيبة بن ربيعة من بينهم فإنه
كان يقف بعرفة.
صلاته بعرفة وخطبته صلّى اللَّه عليه وسلّم
وخطب صلّى اللَّه عليه وسلّم- حين زاغت الشمس- ببطن عرفة على ناقته، فلما
كان آخر خطبته أذّن بلال، وسكت صلّى اللَّه عليه وسلّم من كلامه.
فلما فرغ بلال من أذانه تكلم بكلمات، وأناخ راحلته، وأقام بلال، فصلّى-
__________
[ (1) ] في (خ) «عليه شيء يظله» وما أثبتناه من (ابن سعد) ج 3 ص 177.
[ (2) ] الكنيف: كل ما ستر من بناء أو حظيرة من الخشب يستظل بها من حر
الشمس.
[ (3) ] قال: من القيلولة وهي نوم الظهيرة. والفيء: ما كان شمسا فزال عنه
ونسخه الظل.
[ (4) ] بطن عرفة: وادي بحذاء عرفات.
[ (5) ] جمع: هو مزدلفة.
(2/111)
عليه السلام- الظهر، ثم أقام فصلّى العصر:
جمع بينهما بأذان وإقامتين ثم ركب وهو يشير بيده إلى الناس: ارتفعوا إلى
عرفة، وكان من خطبته بعرفة قبل الصلاتين.
خطبة عرفة
أيها الناس: إني واللَّه ما أدري لعلي لا ألقاكم بمكاني هذا، بعد يومكم
هذا، رحم اللَّه امرأ سمع مقالتي فوعاها، فربّ حامل فقه لا فقه له، وربّ
حامل فقه إلى من هو أفقه منه! واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة
يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. واعلموا أن الصدور لا تغلّ على
ثلاث [ (1) ] :
إخلاص العمل للَّه، ومناصحة أهل الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم
تحيط من ورائهم [ (2) ] . ألا إن كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدميّ
موضوع، وأول دماء الجاهلية أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث [بن عبد المطلب]
[ (3) ]-[كان مسترضعا في بني سعد [بن بكر] [ (3) ] فقتلته [ (4) ] هذيل]-،
وربا الجاهلية موضوع [ (5) ] كله وأول ربا أضعه ربا عبّاس بن عبد المطلب:
اتقوا اللَّه في النساء، إنما أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهنّ
بكلمة اللَّه، وإنّ لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكنّ أحدا تكرهونه، [وعليهنّ
أن لا يأتين بفاحشة مبينة] [ (6) ] . فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح،
[فإن انتهين] [ (6) ] ، فلهن [ (7) ] عليكم رزقهن وكسوتهنّ بالمعروف. وقد
تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب اللَّه وأنتم مسئولون
عنّي، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأديت ونصحت! ثم قال
بإصبعه السبّابة يشير إلى السماء يرفعها ويكبّها ثلاثا: اللَّهمّ اشهد.
المبلغ عنه بعرفة
وكان الّذي يبلّغ عنه بعرفة [ (8) ] ربيعة بن أميّة بن خلف لكثرة الناس،
فإنه
__________
[ (1) ] من الإغلال وهو الخيانة، أو من الغل وهو الحقد.
[ (2) ] أي تمنعهم وتحفظهم.
[ (3) ] زيادات للبيان من (ط) .
[ (4) ] في (خ) «نقتله» .
[ (5) ] في (خ) «موضع» .
[ (6) ] زيادات من كتب السيرة.
[ (7) ] في (خ) «ولهن» .
[ (8) ] في (خ) «عرفة» .
(2/112)
شهد الخطبة نحو من أربعين ألفا.
ذكر المناسك
ووقف بالهضاب من عرفة وقال: كل عرفة موقف إلا بن عرنة، وكل مزدلفة موقف إلا
[ (1) ] بطن محسّر، وكل منى منحر إلا خلف العقبة.
وبعث إلى من هو بأقصى عرفة فقال: الزموا مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث
إبراهيم عليه السلام.
دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعرفة
ومدّ يديه- وهو واقف بعرفة- ثم أقبل براحتيه على وجهه وقال: إن أفضل دعائي
ودعاء من كان قبلي من الأنبياء: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له
الملك وله الحمد، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير.
الاختلاف في صيامه بعرفة
واختلفوا في صيامه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: فقالت أم الفضل [ (2) ]
أنا أعلم لكم علم ذلك، فأرسلت إليه بعس من لبن [ (3) ] ، فشرب وهو يخطب.
ما نزل من القرآن بعرفة
ووقف على راحلته حتى غربت الشمس يدعو! ونزل عليه وهو واقف بعرفة، الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (4) ] .
النفر من عرفة
وكان أهل الجاهلية يدفعون [ (5) ] من عرفة إذا كانت الشمس على رءوس الجبال
__________
[ (1) ] في (خ) «إلي» .
[ (2) ] أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب عم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم.
[ (3) ] العس: قدح يسع ثمانية أرطال.
[ (4) ] من الآية 3/ المائدة، وفي (خ) دِينِكُمْ*، الآية.
[ (5) ] يدفعون: ينطلقون.
(2/113)
كهيئة العمائم على رءوس الرجال، وظنت قريش
أنه عليه السلام يدفع كذلك، فأخر دفعه حتى غربت الشمس. ثم سار عشيّة، وأردف
أسامة بن زيد [ (1) ] من عرفة إلى مزدلفة.
الإفاضة
وذكر الزّبير بن بكار، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفاض [ (2) ]
. عن يمينه أبو سفيان ابن حرب، وعن يساره الحارث بن هشام! وبين يديه يزيد
ومعاوية ابنا أبي سفيان على فرسين، فكان يسير العنق [ (3) ] ،
فإذا وجد فجوة نصّ [ (4) ] وقال: أيها الناس، على رسلكم [ (5) ] ، عليكم
بالسكينة، ليكفّ قويكم عن ضعيفكم.
النزول إلى المزدلفة
ومال إلى الشّعب- وهو شعب الأذاخر، عن يسار الطريق بين المأزمين [ (6) ]-
فبال، ولم يصلّ حتى نزل قريبا من الدار التي على قزح، وصلّى المغرب والعشاء
بالمزدلفة [بأذان واحد لهما وبإقامتين، لكل صلاة منهما إقامة] [ (7) ] ،
ولم يسبّح بينهما، ولا إثر واحدة منهما. فلما كان في السّحر أذن- لمن
استأذن من أهل الضعف من الذرية والنساء- في التقدم من جمع قبل حطمة الناس [
(8) ] ، وحبس نساءه حتى دفعن بدفعه [ (9) ] حين أصبح. فرمي [ (10) ] الذين
تقدّموا الجمرة قبل الفجر أو مع الفجر.
الدفع من مزدلفة
ولما برق الفجر، صلى عليه السلام الصبح، ثم ركب راحلته ووقف على قزح.
__________
[ (1) ] أردفه: أركبه خلفه.
[ (2) ] الإفاضة في الحج: اندفاع الناس بكثرة إلى منى منتشرين متفرقين بعد
اجتماعهم في عرفة.
[ (3) ] العنق: السير الهادي.
[ (4) ] النص: السير السريع، والفجوة: الفسحة بين جماعة الناس.
[ (5) ] الرّسل: اليسر وعدم العجلة.
[ (6) ] المأزمان: بين المشعر الحرام وعرفة وبه المسجد الّذي يجمع فيه
الحجيج بين صلاتي الظهر والعصر.
[ (7) ] في (خ) «مكان ما بين القوسين «بإقامة إقامة» .
[ (8) ] الحطمة: زحمة الناس.
[ (9) ] في (خ) «بدفعة» .
[ (10) ] في (خ) «فرأى» .
(2/114)
وكان أهل الجاهلية لا يدفعون من جمع حتى
تطلع الشمس على ثبير، يقولون:
«أشرق ثبير، كيما نغير» فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن قريشا
خالفت عهد إبراهيم.
فدفع قبل طلوع الشمس.
موقفه بمنى
وأردف الفضل بن العبّاس من مزدلفة إلى منى. وقال: هذا الموقف، وكل المزدلفة
موقف.
جمع الجمرات من مزدلفة
وحمل حصى العقبة من المزدلفة، وأوضع في وادي محسّر ولم يقطع التلبية حتى
رمي الجمرة، ورمي جمرة العقبة يوم النحر على ناقته [ (1) ] ، ولا ضرب ولا
طرد، ولا إليك إليك [ (2) ] .
نحر الهدي وتفريقه والأكل منه
ولما انتهى إلى المنحر [ (3) ] قال: هذا المنحر، وكل منى منحر، وكلّ فجاج
مكة طريق ومنحر، ثم نحر بيده ثلاثا وستين بدنة بالحربة، ثم أعطى رجلا فنحر
ما بقي، ثم أمر من كلّ بدنة نحرها ببضعة [ (4) ] فجعل في قدر فطبخه، فأكل
من لحمها وحسا من مرقها. وأمر عليا رضي اللَّه عنه أن يتصدق بجلال البدن
وجلودها ولحومها، ولا يعطي منها في جزرها شيئا.
التحليق
ولما فرغ من نحر الهدي دعا الحلاق، وحضر المسلمون يطلبون شعره، فناول [ (5)
] الحلاق شقّ رأسه الأيمن، ثم أعطاه أبا طلحة الأنصاري [ثم ناوله الشّق
الأيسر فحلقه. فأعطاه أبا طلحة، فقال اقسم بين الناس] [ (6) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «باقية» .
[ (2) ] إليك إليك: تنبيه يراد به الزجر، والمعنى أن الحج سمته الهدوء
والرّفق.
[ (3) ] في (خ) «النحر» .
[ (4) ] البضعة: القطعة من اللحم.
[ (5) ] في (خ) «أعطى الحلاق» ، وما أثبتناه من (ط) . وهي رواية الواقدي.
[ (6) ] ما بين القوسين تتمة من (ط) عن السيرة الحلبية.
(2/115)
ناصية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
لخالد بن الوليد، وحديث أبي بكر في أمر خالد
وكلمه خالد بن الوليد في ناصيته حين حلق، فدفعها إليه، فكان يجعلها في
مقدّم قلنسوته [ (1) ] . فلا يلقى جمعا إلا فضّه.. وكان أبو بكر الصديق رضي
اللَّه عنه يقول: كنت انظر إلى خالد بن الوليد وما نلقى منه في أحد، وفي
الخندق، وفي الحديبيّة، وفي كل موطن لاقانا، ثم نظرت إليه يوم النحر يقدّم
إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بدنة وهي تعتب في العقل [ (2) ] ،
ثم نظرت إليه ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحلق رأسه وهو يقول: يا
رسول اللَّه! ناصيتك! لا تؤثر عليّ بها أحدا [ (3) ] ! فداك أبي وأميّ!
فأنظر إليه أخذ ناصية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكان يضعها على
عينيه وفيه.
تفريق شعره صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الناس
وفرق صلّى اللَّه عليه وسلّم شعره في النّاس. ولما حلق رأسه، أخذ من شاربه
وعارضيه، وقلم أظافره، وأمر بشعره وأظفاره أن يدفنا.
المحلقون والمقصرون
وقصّر قوم وحلّق آخرون فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه المحلقين!
ثلاثا، كلّ ذلك يقال: والمقصرين يا رسول اللَّه! فقال: والمقصرين في
الرابعة.
وأصاب الطيب بعد أن حلق، ولبس القميص. وجلس الناس، فما سئل يومئذ عن شيء
قدّم أو أخر [ (4) ] إلا قال: افعله ولا حرج.
النهي عن الصيام أيام منى
وبعث عبد اللَّه بن حذافة السهمي- وقيل كعب بن مالك- ينادي في الناس بمنى:
إن رسول اللَّه قال: إنها أيام أكل وشرب وذكر اللَّه.
فانتهى المسلمون عن صيامهم، إلا محصر [ (5) ] أو متمتع بالعمرة إلى الحج.
فإن الرخصة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يصوموا أيام منى.
__________
[ (1) ] وفي (الواقدي) «كان يضعها على عينيه وفيه» .
[ (2) ] أي تمشي على ثلاث.
[ (3) ] في (خ) «أحد» .
[ (4) ] أي مناسك الحج على مراتبها.
[ (5) ] من الإحصار وهو الحبس.
(2/116)
الإفاضة يوم النحر
إلى مكة
وأفاض صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم النحر وأردف معاوية بن أبي سفيان من منى
إلى مكة واختلف أين صلّى الظهر يومئذ؟ ويقال أفاض من نسائه مساء يوم النحر،
وأمر أصحابه فأفاضوا بالنهار.
الشرب من زمزم
وأتى زمزم فأمر بدلو فنزع، فشرب منه وصبّ على رأسه وقال: لولا أن تغلبوا
عليها يا ولد عبد المطلب لنزعت منها.
ويقال: إنه نزع دلوا لنفسه.
رمي الجمرات
وكان يرمي الجمار حين تزيغ الشمس قبل الصلاة ماشيا- ذاهبا وراجعا- في
اليومين، ورمي يوم الصدر حين زاغت الشمس قبل الصلاة، وكان إذا رمي الجمرتين
علاهما، ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي وكان يقف عند الجمرة الأولى أكثر
مما يقف عند الثانية، ولا يقف عند الثالثة، فإذا رماها انصرف. وكان إذا رمي
الجمرتين وقف عندهما ورفع يديه، ولا يفعل ذلك في رمي العقبة، فإذا رماها
انصرف.
النهي عن المبيت بسوى منى
ونهى أن يبيت أحد ليالي منى بسوى منى، ورخص للرعاء أن يبعدوا عن منى.
ومن جاء منهم فرمي بالليل. رخص له في ذلك. وقال ارموا بمثل حصى الحذف.
وكان أزواجه يرمين مع الليل.
عدة الخطب في حجة الوداع
وخطب في حجته ثلاث خطب: الأولى قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة، والثانية
يوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، والثالثة يوم النحر
بمنى بعد الظهر على راحلته القصواء، وقيل: بل خطب الثانية ثاني يوم النّحر.
وقال المحبّ الطبري: دلت الأحاديث على أنّ الخطب في الحج خمس، خطبة
(2/117)
يوم السابع من ذي الحجّة وخطبة يوم عرفة،
وخطبة يوم النحر، وخطبة القرّ [ (1) ] وخطبة يوم النفر الأول [ (2) ] ، قال
الواقدي: فقال- يعنى في خطبة يوم النّحر بمنى-:
خطبة يوم النحر بمنى
أيها الناس، اسمعوا من قولي واعقلوه، فإنّي لا أدري: لعلي لا ألقاكم بعد
عامي هذا! أيها الناس! أيّ شهر هذا؟ فسكتوا، فقال: هذا شهر حرام، وأي باد
هذا؟ فسكتوا، فقال: بلد حرام، وأي [ (3) ] يوم هذا؟ فسكتوا، قال: يوم حرام،
ثم قال: إن اللَّه قد حرّم دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرمة شهركم هذا، في
بلدكم هذا، في يومكم هذا إلى أن تلقوا ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال:
اللَّهمّ اشهد، ثم قال: إنكم سوف تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل
بلغت؟ قال الناس: نعم، قال: اللَّهمّ اشهد، ألا ومن كانت عنده أمانة
فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، ألا وإنّ كلّ ربا في الجاهليّة موضوع، وإن
كل دم في الجاهلية موضوع، [ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون،
قضى اللَّه أنه ربا، وإن ربا عبّاس بن عبد المطلب موضوع كله] [ (4) ] وأوّل
دمائكم أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث-[كان مسترضعا في بني سعد بن ليث
فقتلته هذيل]-، ألا هل بلغت؟ قالوا: اللَّهمّ نعم، قال: اللَّهمّ اشهد،
فليبلغ الشاهد الغائب، ألا إن كل مسلم محرم على كل مسلم، ولا يحل مال امرئ
مسلم إلا ما أعطي عن طيب نفس.
__________
[ (1) ] يوم القر: الغد من يوم النحر.
[ (2) ] أيام الحج: اليوم السادس من ذي الحجة: يوم الزينة.
اليوم السابع من ذي الحجة: يوم التروية.
اليوم الثامن من ذي الحجة: يوم منى.
اليوم التاسع من ذي الحجة: يوم عرفة.
اليوم العاشر من ذي الحجة: يوم الأضحى يوم الحج الأكبر.
أيام التشريق: اليوم الحادي عشر من ذي الحجة يوم القر.
اليوم الثاني عشر من ذي الحجة يوم النفر الأول.
اليوم الثالث عشر من ذي الحجة يوم النفر الآخر.
[ (3) ] في (خ) «أي» بغير واو قبلها، وهي رواية الواقدي.
[ (4) ] ما بين القوسين تمام الخطبة من (ابن هشام) ج 4 ص 185.
(2/118)
فقال عمرو بن يثربي: يا رسول اللَّه، أرأيت
إن لقيت غنم ابن عمّي، أجتزر [ (1) ] منها شاة؟ فقال: إن لقيتها [نعجة] [
(2) ] تحمل شفرة [وأزنادا] [ (2) ] بحبت الجميش [ (3) ] فلا تهجها! ثم قال
أيها الناس: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا
عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ [ (4) ] ،
[ويحرموا ما أحلّ اللَّه] [ (5) ] ، ألا وإن الزّمان قد استدار كهيئته يوم
خلق اللَّه السموات والأرض، إن عدة الشهور عند اللَّه اثنا [ (6) ] عشر
شهرا في كتاب اللَّه منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية: ذو القعدة وذو الحجّة،
والمحرّم، ورجب الّذي يدعى شهر مضر: الّذي جاء بين جمادى الآخرة وشعبان،
والشهر تسعة وعشرون وثلاثون «ألا هل بلّغت؟ فقال الناس: نعم، فقال:
اللَّهمّ اشهد» .
ثم قال: أيها الناس، إن للنساء عليكم حقا وإن لكم عليهنّ حقا: فعليهن ألا
يوطئن فرشكم أحدا ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم، فإن فعلن فإن
اللَّه قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع [ (7) ] ، وأن تضربوهن ضربا غير
مبرّح، فإن انتهين وأطعنكم فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإنما النساء
عندكم عوان [ (8) ] ، لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنما أخذتموهنّ بأمانة
اللَّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللَّه، فاتقوا اللَّه في النساء واستوصوا
بهن خيرا، ألا هل بلغت؟
قال الناس: نعم، قال: اللَّهمّ اشهد.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع
فيما سوى ذلك مما تحقرونه [من أعمالكم] [ (9) ] . إن كلّ مسلم أخو المسلم،
وإنما المسلمون إخوة، ولا يحل لامرئ مسلم دم أخيه ولا ماله إلا بطيب
__________
[ (1) ] في (خ) «أجزر» ، وما أثبتناه من (مسند أحمد) ج 5 ص 113.
[ (2) ] زيادات من كتب السيرة.
[ (3) ] علم الصحراء بين مكة والمدينة (معجم البلدان) ج 2 ص 343.
[ (4) ] من الآية 37/ التوبة، وفي (خ) إلى قوله تعالى لِيُواطِؤُا عِدَّةَ
ما حَرَّمَ اللَّهُ.
[ (5) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4.
[ (6) ] في (خ) «اثنى عشر» .
[ (7) ] في (خ) «بالمضاجع» .
[ (8) ] العواني: جمع «عانية» وهي الأسيرة.
[ (9) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4، كان مكانها في (خ) «فقد رضي به» .
(2/119)
نفس منه، وإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم
على اللَّه، ولا تظلموا أنفسكم، ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب
بعض. إني قد تركت فيكم ما لا تضلون به: كتاب اللَّه. ألا هل بلغت؟ قال
الناس: نعم، قال: اللَّهمّ اشهد.
يوم الصدر
ثم انصرف إلى منزله، وصلّى الظهر والعصر يوم الصدر بالأبطح. قالت عائشة رضي
اللَّه عنها: إنما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمحصب لأنه
كان أسمح [ (1) ] لخروجه.
خبر صفية وعائشة
وذكر صفية بنت حييّ رضي اللَّه عنها، فقيل له: حاضت! فقال: أحابستنا هي؟
فقيل: يا رسول اللَّه، إنها قد. فاضت، قال: فلا إذن،
فلما جاءت عائشة رضي اللَّه عنها من التنعيم وقضت عمرتها، أمر بالرحيل.
ومرّ بالبيت فطاف به قبل الصبح.
الرجوع إلى المدينة ومدة إقامة المهاجر بمكة
ثم انصرف راجعا إلى المدينة. وقال إنما هي ثلاث يقيم بها [ (2) ] المهاجر
بعد الصدر.
وسأل سائل أن يقيم بمكة، فلم يرخص له أن يقيم إلا ثلاثة أيام، وقال:
إنها ليست بدار مكث ولا إقامة.
عيادة سعد بن أبي وقاص
وجاء سعد بن أبي وقاص بعد حجه يعوده من وجع أصابه. فقال: يا رسول اللَّه،
قد بلغ بي ما ترى من الوجع [ (3) ] ، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي،
فأتصدق بثلث [ (4) ] مالي؟ قال: لا! قال: فالشطر؟ قال: لا! [قال:
__________
[ (1) ] أسمع لخروجه: أسهل لخروجه من مكة إلى المدينة.
[ (2) ] أي بمكة.
[ (3) ] بلغ به: أي بلغ به المرض كل مبلغ.
[ (4) ] في (خ) «بثلث» .
(2/120)
فالثلث؟] [ (1) ] قال الثلث، والثلث كثير،
إنك إن تترك [ (2) ] ورثتك أغنياء خير [ (3) ] من أن تتركهم عالة يتكففون
[الناس] [ (4) ] ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت بها،
حتى ما تجعل في امرأتك! فقال: يا رسول اللَّه، أخلف بعد أصحابي؟ فقال: إنك
إن تخلف فتعمل صالحا تزدد خيرا ورفعة، ولعلك إن تخلف ينتفع بك أقوام ويضر
بك آخرون. اللَّهمّ أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم.
موت سعد بن خولة بمكة
لكن البائس سعد بن خولة! يرثي له أن مات بمكة، [وذلك أن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم كان يكره لمن هاجر أن يرجع إليها، أو يقيم بها أكثر من
انقضاء نسكه] [ (5) ] .
وخلّف علي سعد بن أبي وقاص رجلا، وقال: إن مات سعد بمكة فلا تدفنه بها يكره
[صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (6) ] أن يموت الرجل في الأرض التي هاجر منها.
وداع البيت الحرام
ولما ودّع صلّى اللَّه عليه وسلّم البيت وكان في الشّوط السّابع، خلّف
البيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من باب الحزورة [ (7) ] .
وكان إذا قف من حجّ أو عمرة أو غزوة، فأوفى على ثنية أو فدفد كبّر ثلاثا ثم
قال. لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت
وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. آئبون تائبون ساجدون
عابدون، لربّنا حامدون، صدق اللَّه وعده، ونصره عبده، وهزم الأحزاب وحده [
(8) ] ، اللَّهمّ إنا نعوذ بك من وعثاء السّفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر
في
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (2) ] في (خ) «إنك أنت تترك» .
[ (3) ] في (خ) «خيرا» .
[ (4) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (5) ] زيادة لتمام الخبر من (ابن سعد) .
[ (6) ] زيادة للبيان.
[ (7) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «خلف البيت» بمعنى الباب وهو كلام مضطرب، وفي
(عيون الأثر) ج 2 ص 280 «ثم خرج من كدي أسفل مكة من الثنية السفلى» .
[ (8) ] في (خ) «بعده» .
(2/121)
الأهل والمال، اللَّهمّ بلّغنا بلاغا صالحا
يبلغ إلى خير، مغفرة منك ورضوانا.
النزول بالمعرس والنهي عن طروق النساء ليلا
ولما نزل بالمعرّس [ (1) ] ، نهي أن يطرقوا النساء ليلا، فطرق رجلان
أهليهما، فكلاهما وجد ما يكره.
وأناخ بالبطحاء، وكان إذا خرج إلى الحج سلك على الشجرة [ (2) ] ، وإذا رجع
من مكة دخل المدينة من معرّس الأبطح، فكان في معرّسه في بطن الوادي، وكان
فيه عامة الليل، فقيل له: إنك ببطحاء مباركة.
إسلام جرير بن عبد اللَّه البجلي
وفي هذه السنة- وهي العاشرة- قدم جرير بن عبد اللَّه جابر- وهو الشّليل [
(3) ]- بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جشم بن عويف [ (4) ] بن خزيمة [ (5) ]
ابن حرب بن علي [ (6) ] بن مالك بن سعد بن نذير [ (7) ] بن نسر [ (8) ]-
وهو مالك- ابن عبقر بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث البجليّ [ (9) ]-
مسلما في شهر رمضان.
إسلام فيروز وباذان بن منبه، ووفد النخع
وفيها أسلم فيروز من الأبناء [ (10) ] ، وباذان، ووهب بن منبّه، باليمن.
وللنصف من محرم سنة إحدى عشرة، قدم وفد النّخع- وهم مائتا رجل، فنزلوا دار
رملة بنت الحارث بن عداء، وكان نصرانيا.
__________
[ (1) ] المعرس: هو مسجد ذي الحليفة.
[ (2) ] هي الشجرة التي ولدت عندها أسماء بنت محمد بن أبي بكر الصديق (رضي
اللَّه عنه) .
[ (3) ] في (خ) «جابر بن السليل» .
[ (4) ] في الإصابة «عوف» .
[ (5) ] في (خ) «خزيمة» .
[ (6) ] في (خ) «عدي» .
[ (7) ] في (خ) «زيد»
[ (8) ] في (خ) «تس» .
[ (9) ] البجلي: نسبة إلى «بجيلة» وهي أم ولد أنمار بن إراش وإليها ينسبون.
[ (10) ] الأبناء: هم قوم من أبناء فارس باليمن.
(2/122)
بعث أسامة بن زيد إلى أبني «غزو الروم»
ثم كان بعث أسامة بن زيد إلى أهل أبني [ (1) ] بالشّرارة [ (2) ] ناحية
بالبلقاء، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقام- بعد حجته-
بالمدينة بقيّة ذي الحجة والمحرّم، وما زال يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر
بن أبي طالب وأصحابه رضي اللَّه عنهم، ووجد عليهم وجدا شديدا. فلما كان يوم
الاثنين- لأربع بقين من صفر سنة إحدى عشر [من مهاجر رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ] ، أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
بالتّهيّؤ لغزو الرّوم، وأمرهم بالجدّ.
أمر أسامة بالغزو وتأميره
ثم دعا من الغد- يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر- أسامة بن زيد
فقال:
يا أسامة، سر على اسم اللَّه وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك فأوطئهم
الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحا على أهل أبني [ (1) ] وحرّق عليهم!
وأسرع السّير تسبق الخبر، فإن أظفرك اللَّه فأقلل اللبث [ (4) ] فيهم وخذ
معك الأدلاء، وقدّم العيون أمامك والطلائع.
ابتداء مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ووصيته لأسامة
فلما كان يوم الأربعاء- لليلتين بقيتا من صفر- ابتدأ مرض رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم فصدّع [ (5) ] وحمّ. وعقد يوم الخميس لأسامة لواء بيده.
وقال: يا أسامة! أغز باسم اللَّه في سبيل اللَّه، فقاتلوا من كفر باللَّه [
(6) ] . اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا تمنّوا لقاء
العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكن قولوا: اللَّهمّ اكفناهم:
واكفف بأسهم عنّا، فإن لقوكم قد أجلبوا وصيحوا فعليكم بالسكينة والصّمت،
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وقولوا اللَّهمّ إنا عبادك، نواصينا
ونواصيهم بيدك وإنما تغلبهم أنت! واعلموا أن الجنة تحت البارقة [ (7) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «أبناء» .
[ (2) ] في (خ) «بالشراة» .
[ (3) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2.
[ (4) ] في (خ) «الليث» .
[ (5) ] صدع: (بالبناء للمجهول والتشديد) أصابه الصداع، وهو وجع الرأس.
[ (6) ] في (ابن سعد) «فقاتل من كفر باللَّه» .
[ (7) ] البارقة: السيوف.
(2/123)
خروج أسامة وجيشه
فخرج أسامة فدفع لواءه إلى بريدة بن الحصيب، فخرج به إلى بيت أسامة، وعسكر
بالجرف، وخرج الناس ولم يبق أحد من المهاجرين الأولين [والأنصار] [ (1) ]
إلا انتدب [ (2) ] في تلك الغزوة، كعمر بن الخطاب [ (3) ] ، وأبي عبيدة،
وسعد بن أبي وقاص، وأبي الأعور سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل رضي اللَّه
عنهم، في رجال آخرين، ومن الأنصار عدة مثل، قتادة بن النعمان، وسلمة بن
أسلم ابن جريش.
طعن رجال من المهاجرين في تأمير أسامة
فقال رجال من المهاجرين- وكان أشدّهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة-:
يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين؟! فكثرت القالة، وسمع عمر رضي
اللَّه عنه بعض ذلك فردّه على من تكلم، وأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم به فغضب غضبا شديدا! وخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، ثم
صعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال:
خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أمر أسامة رضي اللَّه عنه
أما بعد أيها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟! واللَّه
لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله! وأيم اللَّه.
إن كان للإمارة لخليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب
الناس إليّ، وإنهما لمخيلان [ (4) ] لكل خير، فاستوصوا به خيرا فإنه من
خياركم.
توديع الغزاة
ثم نزل فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول. وجاء
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (2) ] انتدب: أسرع في النهوض إليها.
[ (3) ] ذكر (ابن سعد) «أبا بكر الصديق» قبل «عمر بن الخطاب» .
[ (4) ] كذا في (ط) ، و (الواقدي) ، وفي (خ) «لمجبلان» .
(2/124)
المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودّعون
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيهم عمر رضي اللَّه عنه.
الأمر بإنفاذ بعث أسامة
فقال: أنفذوا بعث أسامة.
ودخلت أم أيمن رضي اللَّه عنها فقالت يا رسول اللَّه لو تركت أسامة يقيم في
معسكره حتى تتماثل، فإن أسامة إن خرج على حاله هذه لم ينتفع بنفسه،
فقال أنفذوا بعث أسامة.
دخول أسامة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعاؤه له
فمضى الناس إلى المعسكر فباتوا ليلة الأحد، ونزل أسامة يوم الأحد- ورسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثقيل مغمور [ (1) ] ، وهو اليوم الّذي لدّوه
فيه [ (2) ] ، - فدخل عليه وعيناه تهملان [ (3) ]- وعنده العباس، والنساء
حوله- فطأطأ عليه أسامة فقبله، وهو [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (4) ] لا
يتكلم، إلا أنه يرفع يده إلى السماء ثم يصبّها على أسامة، كأنه يدعو له.
فرجع أسامة إلى معسكره. وغدا منه يوم الاثنين،
فأصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مفيقا، وجاءه أسامة، فقال: أغد
على بركة اللَّه، فودعه أسامة ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مفيق.
خروج أبي بكر إلى السنح
ودخل أبو بكر رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه، أصبحت مفيقا بحمد
اللَّه واليوم يوم ابنة خارجة [ (5) ] فأذن [لي] [ (6) ] فأذن له، فذهب إلى
السّنح [ (7) ] .
خروج الجيش
وركب أسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه: اللحوق بالعسكر، فانتهى إلى
__________
[ (1) ] مغمور: مغمى عليه.
[ (2) ] لدوه: أعطوه الدواء، واللدود: ما يصب بالسعط من الدواء في أحد شقي
الفم (ترتيب القاموس) ج 4 ص 135.
[ (3) ] تسيل دمعهما.
[ (4) ] زيادة.
[ (5) ] في (خ) «ابنه خارجة» ، وهي زوج أبي بكر الصديق والدة أم كلثوم بنت
أبي بكر.
[ (6) ] زيادة للسياق.
[ (7) ] السنح: إحدى محال المدينة من أطرافها وكان بها منزل أبي بكر.
(2/125)
معسكره فنزل، وأمر الناس بالرحيل وقد متع
النهار.
إبلاغ خبر وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لجيش أسامة
فبينا هو يريد أن يركب من الجرف، أتاه رسول أمّه- أم أيمن- يخبره أن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يموت فأقبل إلى المدينة معه عمر وأبو عبيدة
بن الجراح رضي اللَّه عنهما، فانتهوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم وهو يموت: فتوفي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين زاغت الشمس يوم الاثنين
لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول.
يوم وفاته صلّى اللَّه عليه وسلّم
وقال السهيليّ: لا يصلح أن تكون وفاته يوم الاثنين إلا في ثاني الشهر، أو
ثالث عشرة، أو رابع عشره، (أو خامس عشره) [ (1) ] . وذكر الكلبي وأبو مخنف
أنه توفي في الثاني من ربيع [ (2) ] . وقد صححه ابن حزم وغيره. وقال
الخوارزمي:
توفي أول ربيع.
رجوع الغزاة إلى المدينة
ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة ابن الحصيب
باللواء فغرزه معقودا عند باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما
بويع أبو بكر رضي اللَّه عنه أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة،
وألا يحمله أبدا حتى يغزوهم أسامة.
أمر أبي بكر بتوجيه الغزو
وقال [أبو بكر] لأسامة: أنفذ في وجهك الّذي وجهك فيه رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم وأخذ الناس بالخروج فعسكروا في موضعهم الأول، وخرج بريدة
باللواء، ومشى أبو بكر رضي اللَّه عنه إلى أسامة في بيته فكلمه في أن يترك
عمر رضي اللَّه عنه، ففعل وخرج فنادى مناديه: عزمة منى ألّا يتخلف عن أسامة
من بعثه أحد ممن انتدب معه في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فإنّي لن أوتي بأحد بطّأ عن الخروج إلا
__________
[ (1) ] زيادة من (الروض الأنف) .
[ (2) ] في (خ) «في ثامن ربيع» وما أثبتناه من (الروض الأنف) .
(2/126)
ألحقته به ماشيا. فلم يتخلّف عن البعث أحد.
تشييع أبي بكر أسامة
ثم خرج أبو بكر رضي اللَّه عنه يشيّع أسامة فركب من الجرف لهلال ربيع الآخر
في ثلاثة آلاف فيهم ألف فرس وسار أبو بكر رضي اللَّه عنه إلى جنبه ساعة
وقال: أستودع اللَّه دينك وخواتيم عملك، إني سمعت رسول اللَّه [صلّى اللَّه
عليه وسلّم] [ (1) ] يوصيك، فأنفذ لأمر رسول اللَّه، فأني لست آمرك ولا
أنهاك عنه، إنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه
وسلّم] [ (1) ] .
غزو أسامة
فحرج سريعا فوطئ بلادا هادئة لم يرجعوا عن الإسلام- جهينة وغيرها من قضاعة-
حتى نزل وادي القرى، فقدّم عينا له من بني عذرة يدعى حريثا، فانتهى إلى
أبنى [ (2) ] ، ثم عاد فلقى أسامة على ليلتين من أبني فأخبره أن الناس
غارون ولا جموع لهم، وحثّه على سرعة السّير قبل اجتماعهم، فسار إلى أبني
وعبأ أصحابه، ثم دفع عليهم الغارة فقتل وسبى، وحرّق بالنار منازلهم وحرثهم
ونخلهم، ورحل مساء حتى قدم المدينة، وقد غاب خمسة وثلاثين يوما وقيل: قدم
لشهرين وأيام.
خبر وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونعيه إلى نفسه
وكان من خبر وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن اللَّه تعالى
أنذره بموته حين أنزل عليه:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (3) ] ، فقال نعيت إلى نفسي! فحج
حجّة الوداع.
عرض القرآن في رمضان
وكان جبريل ينزل عليه في كل سنة مرّة، وفي شهر رمضان، فيعرض عليه القرآن
مرة واحدة، وكان يعتكف العشر الأواخر [من رمضان] [ (4) ] .
فلما كان في سنة موته، عرض عليه جبريل القرآن مرتين، فقال [صلّى اللَّه
عليه وسلّم] [ (5) ] : ما أظنّ أجلي
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] في (خ) «ابناه» .
[ (3) ] أول سورة النصر
[ (4) ] زيادة للبيان
[ (5) ] زيادة للبيان.
(2/127)
إلا قد حضر! فاعتكف العشر الأواسط [ (1) ]
والعشر الأواخر، وكان هذا نذيرا [ (2) ] بموته.
الخروج إلى البقيع والاستغفار لأهله
ثم أمر بالخروج إلى البقيع ليستغفر لأهله والشهداء ويصلى عليهم، وليكون
توديعا للأموات قبل الأحياء
فوثب من مضجعه في جوف الليل، فقالت عائشة رضي اللَّه عنها: أين؟ بأبي وأمي!
أي رسول اللَّه! قال: أمرت أن استغفر لأهل البقيع.
فخرج ومعه مولاه أبو موهبة- ويقال: أبو مويهبة، ويقال: أبو رافع- حتى جاء
البقيع، فاستغفر لهم طويلا، ثم قال: ليهنئكم [ (3) ] ما أصبحتم فيه بما
أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضها، يتبع
آخرها أوّلها، الآخرة شر من الأولى!!
التخيير
ثم قال: يا أبا مويهبة [ (4) ] ! إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد ثم
الجنة، فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة! فقال بأبي وأمي! فخذ خزائن
الدنيا والخلد ثم الجنة! فقال: يا أبا مويهبة! لقد اخترت لقاء ربّي والجنة.
خبر شكوى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ثم انصرف، وذلك ليلة الأربعاء، فأصبح يوم الأربعاء محموما- لليلتين بقيتا
من صفر سنة إحدى عشر- وهو في بيت زينب بنت جحش رضي اللَّه عنها واشتكى شكوى
جديدة حتى قيل: هو مجنوب، يعني ذات الجنب [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «الأوسط» .
[ (2) ] في (خ) «نذير» .
[ (3) ] في (خ) «لينهك» .
[ (4) ] في (خ) «موهبة» .
[ (5) ] ذات الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي وغير حقيقي، فالحقيقي: ورم حار
يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع. وغير الحقيقي: ألم يشبهه
يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات، فتحدث وجعا
قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي، إلا أن الوجع في هذا القسم محدود، وفي
الحقيقي ناخس (زاد المعاد) ج 4 ص 8.
(2/128)
مدة الشكوى
واجتمع إليه نساؤه كلهن، فاشتكى ثلاثة عشر ليلة، وقيل أربعة عشر يوما،
وقيل: اثنى عشر [ (1) ] ، بدئ صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت ميمونة رضي
اللَّه عنها.
صفة الشكوى
وأخذته بحّة شديدة مع حمىّ موصّمة [ (2) ] مع صداع، وكان ينفث في علته شيئا
يشبه نفث آكل الزبيب. ودخلت عليه أمّ بشر بن البراء بن معرور فقالت:
يا رسول اللَّه! ما وجدت مثل هذه الحمّى التي عليك على أحد! فقال: إنا
يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، ما يقول الناس! قالت: يقولون يا
رسول اللَّه:
ذات الجنب! فقال: ما كان اللَّه ليسلّطها على رسوله، إنها همزة الشيطان.
أكلة خيبر من الشاة المسمومة
ولكنها من الأكلة التي أكلت أنا وابنك بخيبر من الشاة، وكان يصيبني منها
عداد مرة بعد مرّة فكان هذا أوان انقطع أبهري؟ فمات صلّى اللَّه عليه وسلّم
شهيدا.
الخروج إلى الصلاة
وكان إذا خفّ عنه ما يجد خرج فصلّى بالناس، وإذا وجد ثقلة قال: مروا الناس
فليصلوا.
خبر اللدود
واشتد شكوه حتى غمر من شدّة الوجع، فاجتمع عنده أزواجه، وعمّه العبّاس،
وأمّ الفضل بنت الحارث، وأسماء بنت عميس رضي اللَّه عنهم، فتشاوروا في لدّه
[ (3) ] حين غمر- وهو مغمور- فلدوه، فوجدوا في جوفه حفلا [ (4) ] ، فلما
__________
[ (1) ] في (خ) «اثنا عشر» .
[ (2) ] في (خ) «معطمة» ، وما أثبتناه من (ط) ، ومعنى حمى موصمة: من قولك:
وصمته الحمى توصيما فتوصم، آلمته فتألم (ترتيب القاموس ج 4 ص 621)
[ (3) ] سبق شرح معناه.
[ (4) ] كذا في (خ) ، و (ط) ولم أجد ذكر هذه الكلمة ولا معناها فيما عندي
من كتب السيرة.
(2/129)
أفاق قال من فعل هذا؟ هذا عمل نساء جئن من
ها هنا! وأشار بيده إلى أرض الحبشة، وكانت أمّ سلمى وأسماء [بنت عميس] [
(1) ] رضي اللَّه عنهما لدّتاه، فقالوا: يا رسول اللَّه، خشينا أن يكون بك
ذات الجنب، قال: فبم [ (2) ] لددتموني؟
قالوا: بالعود الهنديّ، وشيء من ورس، وقطرات من زيت فقال: واللَّه ما كان
ليعذّبني بذلك الداء [ (3) ] .
أمره ألا يبقى في البيت أحد إلا لدّ
ثم
قال: عزمت عليكم لا يبقى في البيت أحد إلا لدّ،
إلا عم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ]- فجعل بعضهن يلدّ بعضا،
والتدت ميمونة وهي صائمة، لقسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
إقامته صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت ميمونة رضي اللَّه عنها
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت ميمونة سبعة أيام، يبعث إلى نسائه
أسماء بنت عميس يقول لهن: إن رسول اللَّه يشقّ عليه أن يدور عليكنّ،
فحلّلنه. فكن يحللنه. ويروي أن فاطمة عليها السلام- بنت رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم- هي التي كانت تدور على نسائه وتقول ذلك.
طوافه علي نسائه في شكواه
ويروي أنه كان يحمل في ثوب يطاف به على نسائه، وذلك أن زينب بنت جحش كلمته
في ذلك قال: فأنا أدور عليكنّ. فكن يحمل في ثوب يحمل بجوانبه الأربع، يحمله
أبو رافع مولاه، وأبو مويهبة، وشقران وثوبان حتى يقسم لهن كما كان يقسم.
فجعل يقول: أين أنا غدا؟ فيقولون: عند فلانة، فيقول: أين أنا بعد غد؟
فيقولون، عند فلانة!
فعرف أزواجه أنه يريد عائشة رضي اللَّه عنها.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «فيما» وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (3) ] في (خ) «الدابر» وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (4) ] يعني «العباس» .
(2/130)
هبة أمهات المؤمنين
أيامهن لعائشة
فقلن يا رسول اللَّه، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة وروي أنه لما ثقل واشتد
وجعه، استأذن أزواجه أن يمرّض في بيت عائشة، فأذن له، فخرج بين الفضل ابن
العباس وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما. تخط رجلاه في الأرض [ (1) ]-
وذلك يوم الأربعاء الآخر [ (2) ]- حتى دخل بيت عائشة رضي اللَّه عنها،
فأقام في بيتها حتى توفي.
اشتداد الحمى وإراقة الماء عليه
ولما اشتد وجعه بعد أن دخل بيتها. قال، أهريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أو
كيتهن [ (3) ] ، لعلّي أعهد إلى الناس، فأجلسوه في مخضب [ (4) ] لحفصة رضي
اللَّه عنها من صفر، ثم صبّوا عليه تلك القرب، ثم خرج إلى الناس فصلّى بهم
وخطبهم: وكانت تلك القرب من بئر أبي أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه.
خطبته قبل وفاته
وخرج يوم السبت عاشر ربيع الأول- مشتملا قد طرح طرفي ثوبه على عاتقيه،
عاصبا رسه بخرقة- فأحدق الناس به وهو على المنبر.
فقال: والّذي نفسي بيده، إني لقائم على الحوض الساعة- ثم تشهّد واستغفر
للشهداء الذين قتلوا بأحد-
ثم قال:
ذكر التخيير
إن عبدا من عباد اللَّه خيّر بين الدنيا وبين ما عند اللَّه فاختار ما عند
اللَّه العبد! فبكى أبو بكر رضي اللَّه عنه فقال: بأبي وأمي! نفديك بآبائنا
وأمهاتنا، وبأنفسنا وأموالنا، فقال: على رسلك [يا أبا بكر] [ (5) ] سدّوا
هذه الأبواب الشّوارع [ (6) ] إلى
__________
[ (1) ] في (خ) «ورجلاه تحط الأرض، وما أثبتناه من (ابن سعد) ج 2 ص 232.
[ (2) ] قوله: «بوم الأربعاء الآخر» أي التالي للأربعاء الأول الّذي بدئ
فيه.
[ (3) ] أريقوا، أهريقوا: صبوا: والأوكية جمع وكاء، وهو الخيط الّذي يشد به
فم السقاء أو الوعاء.
[ (4) ] في (خ) «محصب» ، والمخضب إناء واسع تغسل فيه الثياب.
[ (5) ] زيادة للبيان من (ابن سعد) .
[ (6) ] الشوارع: النافذة والمؤدية إلى المسجد.
(2/131)
المسجد إلا باب أبي بكر، فإنّ أمنّ [ (1) ]
الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذا في الناس خليلا لاتخذت
أبا بكر خليلا. ولكن أخوة الإسلام ومودته.
فقال عمر رضي اللَّه عنه: دعني يا رسول اللَّه افتح كوة: إليك حين تخرج إلى
الصلاة، فقال: لا. أيها الناس، [وكان باب أبي بكر رضي اللَّه عنه في غربيّ
المسجد] [ (2) ] . ثم ذكر أسامة بن زيد فقال، أنفذوا بعث أسامة- وكرر ذلك
ثلاثا- فلعمري لئن قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه واللَّه لخليق
للأمارة، وأبوه من قبله، وإن كان لمن أحب الناس الناس إليّ.
ويروي أنه قال أيضا- بعد [ذكر] [ (3) ] يا معشر المهاجرين! إنكم أصبحتم
تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، هي على هيئتها التي هي عليها اليوم، وإن
الأنصار عيبتي التي أويت إليها، ونعلي التي أطأ بها، وكرشي التي آكل فيها،
فاحفظوني فيهم، فأكرموا كريمهم، وأقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن من مسيئهم،
فقال رجل: يا رسول اللَّه! ما بال أبواب أمرت بها أن تفتح: وأبواب أمرت بها
أن تغلق؟ قال: ما فتحتها ولا سددتها عن أمري!!
خبر كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند موته
واشتدّ به صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعه يوم الخميس، فقال: ائتوني بدواة
وصحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا! فتنازعوا فقال بعضهم: ما له؟
أهجر [ (4) ] ؟! استعيدوه! وقالت زينب بنت جحش وصواحبها: ائتوا رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم بحاجته. فقال عمر رضي اللَّه عنه: قد غلبه الوجع،
وعندكم القرآن، حسبنا كتاب اللَّه، من لفلانة وفلانة؟ يعني مدائن الروم-
فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليس بميت حتى يفتحها، ولو مات لا ننظره
كما انتظرت بنو إسرائيل موسى!! فلما لغطوا عنده قال: دعوني! فما أنا فيه
خير مما تسألوني، ثم أوصاهم بثلاث [ (5) ] : أخرجوا المشركين من جزيرة
العرب، وأجيزوا الوفد بنحو بما كنتم تروني أجيزهم. وأنفذوا جيش أسامة،
__________
[ (1) ] أمنّ: أجود بماله وذات يده.
[ (2) ] في (خ) سياق هذه العبارة مضطرب، وما أثبتناه من (ط) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (4) ] هجر المريض أو النائم، إذا هذي ونكلم.
[ (5) ] في (خ) «ما أوسهم» ، و «ثم» هي حق العبارة.
(2/132)
قوموا.
خبر الكنيسة التي بالحبشة
وتذكر [ (1) ] بعض نسائه كنيسة رأينها [ (2) ] في أرض الحبشة.
فذكرت أمّ حبيبة بنت أبي سفيان وزينب بنت جحش [ (3) ] كنيسة رأينها بأرض
الحبشة يقال لها مارية، وما فيها من التصاوير، فرفع رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم رأسه فقال. أولئك [قوم] [ (4) ] إذا مات الرجل الصالح
منهم بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند
اللَّه! وطفق يلقي خميصة [ (5) ] على وجهه. فإذا اغتمّ بها ألقاها عن وجهه،
ويقول: لعنة اللَّه علي اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد!
[يحذّرهم مثل ما صنعوا] لا يبقين دينان بأرض العرب.
مقالته في شكواه
ولم يشك شكوى إلا سأل اللَّه العافية، حتى كان مرضه الّذي مات فيه، فإنه لم
يكن يدعو بالشفاء،
وطفق يقول: يا نفس مالك تلوذين كلّ ملاذ [ (6) ] ؟
التخيير بين الشفاء والغفران
وأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: إذا شئت شفيتك،
وكفيتك، وإن شئت توفيتك وغفرت لك!! فقال: ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء.
مقالته في كرب الموت
وكان لما نزل به، دعا بقدح من ماء، فجعل يمسح على وجهه ويقول: اللَّهمّ
أعنّي على كرب الموت، وأخذته بحّة شديدة فجعل يقول: مع الرفيق الأعلى!
__________
[ (1) ] في (خ) «وتذكر» .
[ (2) ] في (خ) «رأسها» .
[ (3) ] المعروف أن «أم سلمة» رضي اللَّه عنها هي التي هاجرت إلى الحبشة،
ولم يذهب أحد من رواة السيرة إلى أن «زينب بنت جحش» رضي اللَّه عنها، هاجرت
إلى الحبشة.
[ (4) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (5) ] الخميصة: كساء من الصوف أسود مربع له علمان.
[ (6) ] الملاذ: الملجأ.
(2/133)
وقد شخص بصره [ (1) ] .
وفاته في حجر عائشة وخبر الذهب
وتوفي في حجر عائشة رضي اللَّه عنها وقد قال لها لما حضر [ (2) ]- وهو
مستند إلى صدرها-: ما فعلت بالذّهب؟ فأتته بها وهي تسعة دنانير، فقال:
أنفقيها!! ما ظنّ محمّد بربه لو لقي اللَّه وهي عنده؟!
مسارة فاطمة
ودعا صلّى اللَّه عليه وسلّم ابنته فاطمة عليه السلام، فسارّها فبكت، ثم
دعاها فسارّها فضحكت، فسئلت عن ذلك بعد فقالت: دعاني أول مرّة فقال: إن
القرآن كان يعرض علي في كل عام مرة، وعرض عليّ العام مرتين ولا أراني إلا
ميتا في مرضي هذا! فبكيت. ثم دعاني فقال: أنت أسرع أهلي لحوقا بي! فضحكت.
فماتت بعد وفاته بستّة أشهر. وقيل: أقل من ذلك.
إمامة أبي بكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل موته
وقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ] : ما هلك نبيّ حتى يؤمّه رجل من
أمته. فلما كان يوم الاثنين، صلّى أبو بكر رضي اللَّه عنه بالناس الصبح،
فأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتوكأ على الفضل بن العباس
وثوبان، ولم يبق امرأة ولا رجل إلا أصبح في المسجد! لوجعه عليه السلام،
فخرج حتى جلس إلى جنب أبي بكر، فصلّى بصلاة أبي بكر، فلما قضي صلاته جلس-
وعليه خميصة له- فقال: إنكم واللَّه لا تمسكون عليّ بشيء، إني لا أحلّ إلا
ما أحل اللَّه في كتابه، ولا أحرّم إلا ما حرم اللَّه في كتابه! يا فاطمة
بنت محمد! ويا صفيّة بنت عبد المطلب!! اعملا لما عند اللَّه، لا أملك لكما
من اللَّه شيئا!
وصلّى أبو بكر رضي اللَّه عنه بالناس- إلى أن توفّي رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم- سبع عشرة صلاة.
__________
[ (1) ] شخص بصره: إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف.
[ (2) ] حضر بالبناء للمجهول: إذا دنا منه الموت أو نزل به.
[ (3) ] زيادة للبيان.
(2/134)
وفاته
وتوفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضحى يوم الإثنين لاثنتي عشرة مضت
من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مهاجره- وقيل مستهله، وقيل ثانيه-، فبعث
العبّاس رضي اللَّه عنه في طلب أبي عبيدة بن الجراح، وكان يشقّ: [يضرح] [
(1) ] وبعث في طلب أبي طلحة، وكان يلحد [ (2) ] ، وقال اللَّهمّ اختر
لنبيك! فوجد أبو طلحة.
حيث دفن
وقال أبو بكر رضي اللَّه عنه- وقد اختلفوا أين يدفن-: سمعت رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما مات نبي قط إلا دفن حيث يقبض.
فخط له صلّى اللَّه عليه وسلّم حول الفراش، ثم حوّل بالفراش في ناحية
البيت، وحفر أبو طلحة القبر، فانتهى به إلى أصل الجدار إلى القبلة، وجعل
رأسه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما يلي بابه الّذي كان يخرج منه إلى الصلاة.
ثم غسلوه من بئر عرس، وكان يشرب منها.
جهاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولما أخذوا في جهازه أمر العباس رضي اللَّه عنه فأغلق الباب، فنادت الأنصار
نحن أخواله، ومكاننا من الإسلام مكاننا، وهو ابن أختنا!! ونادت قريش: نحن
عصبته [ (3) ] ، فأدخل من الأنصار أوس بن خولي، وأحضروا الماء من بئر عرس،
واحضروا سدرا وكافورا، فأرسل اللَّه عليهم النوم فما منهم رجل إلا واضعا
لحيته على صدره وقائل يقول ما ندري من هو!: اغسلوا نبيكم وعليه قميصه!
فغسّل في القميص. وغسّل الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر
والثالثة بالماء والكافور.
الغسل
وغسّله عليّ والفضل بن عباس- وكان الفضل رجلا أيّدا [ (4) ]-، وكان يقلّبه
__________
[ (1) ] ضرح الضريح للميت: حفر له فشق في وسط القبر (وكان ذلك عمل أهل مكة
لموتاهم) .
[ (2) ] لحد اللحد للميت: حفر وشق في جانب القبر (وكان ذلك عمل أهل المدينة
لموتاهم) .
[ (3) ] عصب الرجل: أقاربه من جهة الأب.
[ (4) ] الأيد: الشديد القوي.
(2/135)
شقران، ووقف العباس بالباب وقال: لم يمنعني
أحضر غسله إلا أني كنت أراه يستحي أني أراه حاسرا [ (1) ] .
وذهب علي رضي اللَّه عنه يلتمس من بطن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ما
يلتمس من بطن الميت، فلم يجد شيئا، فقال: بأبي وأمي!! ما أطيبك حيا وميتا!!
وقيل غسله علي، والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران يصبون
الماء.
الكفن
واشترى له عليه السلام حلة حبرة بتسعة دنانير ونصف ليكفّن بها. ثم بدا لهم
فتركوها. فابتاعها عبد اللَّه بن أبي بكر. وكفّن صلّى اللَّه عليه وسلّم في
ثلاثة أثواب سحوليّة بيض [ (2) ] ، أحدها برد حبرة. وقيل: أحدها حلة حبرة
وليس فيها قميص ولا عمامة وأدرج في أكفانه.
وقيل: كفّن في حلة حبرة وقميص. وفي رواية: في حلة حمراء نجرانية وقميص.
وقيل: إن الحلة اشتريت له فلم يكفّن فيها. وقيل كفّن في سبعة أثواب، وهو
شاذ. وقيل: كفن في ثلاثة أثواب: قميصه الّذي مات فيه، وحلة نجرانية، وهو
ضعيف، وحنّط بكافور، وقيل: بمسك [ (3) ] .
الصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ثم وضع على سريره، وكان ألواحا ثم أحدثت له بعد ذلك قوائم، ووضع السرير على
شفير القبر، ثم كان الناس يدخلون زمرا زمرا. يصلون عليه.
أول من صلّى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وأوّل من صلّى عليه العباس وبنو هاشم. ثم خرجوا ودخل المهاجرون، ثم
الأنصار: زمرة زمرة، ثم دخل الصبيان، ثم النساء.
وقيل صلّي عليه اثنتان وسبعون صلاة [ (4) ] .
__________
[ (1) ] حاسرا: كاشفا ثيابه.
[ (2) ] سحولية: نسبة إلى سحول، وهي قرية باليمن.
[ (3) ] الحنوط طين يحنّط للميت.
[ (4) ] في (خ) «اثنان وسبعون» .
(2/136)
خبر أمهات المؤمنين
وقد قامت أمهات المؤمنين يلتدمن على صدورهن [ (1) ] : وقد وضعن الجلابيب عن
رءوسهن، ونساء الأنصار يضربن الوجوه، وقد بحّت حلوقهنّ من الصياح [ (2) ] .
الصلاة عليه
ولم يزل صلّى اللَّه عليه وسلّم موضوعا على سريره، من حين زاغت الشمس في
يوم الاثنين إلى حين زاغت الشمس يوم الثلاثاء، فصلي عليه وسريره على شفير
قبره.
يوم دفنه
ودفنوه ليلة الأربعاء سحرا. وقيل: دفن يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الثلاثاء.
وقيل: يوم الاثنين عند الزوال. قاله الحاكم وصحّحه. وقال ابن عبد البرّ:
أكثر الآثار على أنه دفن يوم الثلاثاء، وهو قول، أكثر أهل الأخبار.
فلما أرادوا أن يقبروه [ (3) ] نحّوا السرير قبل رجليه [ (4) ] ، فأدخل من
هناك.
لحده ومن دخل فيه
ودخل حفرته العبّاس، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وعلي، وشقران رضي
اللَّه عنهم، ويروي أنه نزل أيضا أسامة بن زيد وأوس بن خولي: وبني عليه في
لحده بتسع لبنات، وضرح في لحده سمل قطيفة نجرانية كان يلبسها [ (5) ] .
ثم خرجوا وهالوا التراب، وجعلوا ارتفاع القبر شبرا وسطحوه، وجعلوا عليه
__________
[ (1) ] لدمت المرأة صدرها أو التدمت صدرها: ضربته.
[ (2) ] لم يثبت عن أمهات المؤمنين أنهن قد قمن بشيء من لطم الخدود وغير
ذلك من الأعمال المنهي عنها شرعا عل لسان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وكل ما ورد في ذلك ما رواه (ابن سعد) ج 2 ص 289: «حتى إذا فرغت الرجال دخلت
النساء فكان منهن صوت وجزع لبعض ما يكون منهن فسمعن هذه في البيت ففرقن
فسكتن.
وروي (ابن الأثير) في (الكامل) ج 2 ص 320: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال: «دنا الفراق والمنقلب إلى اللَّه وسدرة المنتهى والرفيق الأعلى..» إلى
أن قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: « ... ثم ادخلوا على فوجا فوجا فصلوا على
ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة» . وانظر أيضا: (البداية والنهاية) ج 5 ص 278.
[ (3) ] في (خ) «بقبره» .
[ (4) ] نحّى الشيء: أبعده ناحية.
[ (5) ] السمل: الخلق البالي من الثياب.
(2/137)
حصباء ورش بلال رضي اللَّه عنه على القبر الماء بقربة: فبدأ من قبل رأسه من
شقه الأيمن حتى انتهى إلى رجليه، ثم ضرب الماء إلى الجدار، ولم يقدر أن
يدور من الجدار.
عمره عند وفاته صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكان عمره صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم توفاه اللَّه ثلاثا وستين سنة على
الصحيح. وقيل كان ستين. وقيل خمسا وستين. وهذه الأقوال الثلاثة في صحيح
البخاريّ عن ابن عباس رضي اللَّه عنه [ (1) ] . |