إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر كنية رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم
اعلم أن الكنية إنما وضعت لاحترام المكنى بها وإكرامه وتعظيمه، كي لا يصرح
في الخطاب باسمه، ومنه قول [الشاعر] [ (1) ] :
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسّوأة اللقبا
ويقال كنيت الرجل بأبي فلان، وأبا فلان على تعدية الفعل، بعد إسقاط الحرف
كلية بكسر الكاف وضمها.
وكذلك يقال: كنيته، وكنية فلان أبو فلان، وكذلك كنيته بالكسر، أي الّذي
يكنى به.
وقال اللحياني: يقال كنية، وكنية، وكنية، وكنوة، وكنوة، وكنوة.
وقال المبرد: الكنية من الكناية، والكناية ضرب من التعظيم والتفخيم، فيعظم
الرجل أن يدعى باسمه فيكنى. ووقعت الكنية في الصبي على جهة التفاؤل بأن
يكون له ولد فيدعى به، وفي الكبير بأن يصان اسمه باسم ابنه، وقال غيره:
يقال كنوته وكنيته.
وقال المطرزي: يقال أيضا: أكنيته من الكنية، ويقال-: إن الأصل في سبب الكنى
في العرب أن ملكا من ملوكهم الأول ولد له ولد، توسم فيه النجابة، فشغف به
حتى إذا نشأ وترعرع لأن يؤدب أدب الملوك، أحب أن يفرد له موضعا بعيدا من
العمارة، يكون فيه مقيما يتخلق بأخلاق الملوك من مؤدبيه، ولا يعاشر من يضيع
عليه بعض زمانه، فبنى له في البرية منزلا ونقله إليه، ورتب إليه من يؤدبه
بأنواع الآداب العلمية والملكية، فأقام له ما يحتاج إليه من أمر دنياه، ثم
أضاف
__________
[ (1) ] ما بين القوسين بياض في (خ) .
(2/146)
إليه من أقرانه وأضرابه من أولاد بني عمه،
وأمرائه ليؤنسوه ويتأدبوا بآدابه، ويحببوا إليه الأدب بموافقتهم له عليه.
وكان الملك في رأس كل سنة [يذهب] [ (1) ] إلى ولده، ويستصحب معه من أصحابه
من له عند ولده ولد، ليبصروا أولادهم، وكانوا إذا وصلوا إليهم سأل ابن
الملك عن أولئك الذين جاءوا مع أبيه ليعرفهم بأعيانهم، فيقال له: هذا أبو
فلان: وهذا أبو فلان، يعنون آباء الصبيان الذين هم عنده، فكان يعرفهم
بإضافتهم إلى أبنائهم، فمن هنالك ظهرت الكنى في العرب.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكنى بأبي القاسم، وبأبي إبراهيم،
خرّج البخاري ومسلم من حديث حميد عن أنس رضي اللَّه عنه قال: نادى رجل رجلا
بالبقيع:
يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال
[الرجل] [ (2) ] يا رسول اللَّه إني لم أعنك!! إنما دعوت فلانا، فقال رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي
واللفظ لمسلم [ (3) ] .
وقال البخاري: دعا رجل رجلا. وقال: سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، ذكره في
البيوع في باب ما ذكر في الأسواق. وفي لفظ له: كان النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبي صلّى اللَّه
عليه وسلّم، فقال [الرجل] [ (4) ] : إنما دعوت هذا، فقال النبي صلّى اللَّه
عليه وسلّم: سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي [ (5) ] . وذكره أيضا في المناقب.
وخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة عن سليمان ومنصور وقتادة، سمعوا
__________
[ (1) ] مكان هذه الكلمة في (خ) ما رسمه «بعنى» ، ولم أتبين معناه، ولعل ما
أثبتناه يعمم المعنى.
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] (صحيح البخاري) ج 2 ص 270، (سنن ابن ماجة) ج 2 ص 1230، 1231 باب
(33) الجمع بين اسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكنيته، الأحاديث أرقام
3735، 3736، 3737.
[ (4) ] زيادة للإيضاح.
[ (5) ]
سنن الترمذي ج 4 ص 214، 215 باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم وكنيته، الأحاديث أرقام 2997، 2998، 2999، 3000 وقال
فيه: حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا يحيى ابن سعيد القطان، أخبرنا قطر بن
خليفة حدثني منذر، وهو الثوري عن محمد، وهو ابن الحنفية عن علي بن أبي طالب
أنه قال: «يا رسول اللَّه أرأيت إن ولد لي بعدك أسميه محمدا وأكنيه بكنيتك؟
قال: نعم، قال: فكانت رخصة لي» ، هذا حديث حسن صحيح، انظر أيضا: سنن أبي
داود ج 5 باب قم 74، ورقم 75، ورقم 76 الأحاديث أرقام 4965، 4966، 4967،
4968.
(2/147)
سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد اللَّه
رضي اللَّه تعالى عنه قال: ولد لرجل من الأنصار غلام، فأراد أن يسميه
محمدا، قال شعبة في حديث منصور أن الأنصاري قال: حملته على عنقي، فأتيت به
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وفي حديث سليمان: ولد له غلام فأراد أن يسميه محمدا، قال: سموا باسمي ولا
تكنوا بكنيتي فإنّي جعلت قاسما أقسم بينكم، ذكره البخاري في كتاب الخمس وفي
كتاب الأدب.
وذكر له مسلم عدة طرق، في بعضها: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فإنما أنا
قاسم أقسم بينكم.
وفي بعضها: فإنما بعثت قاسما أقسم بينكم، وفي بعضها: فإنّي أنا أبو القاسم
أقسم بينكم.
وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي، أنا أبو القاسم،
اللَّه يرزق وأنا أقسم.
وخرج الدارميّ من حديث عقيل عن ابن شهاب عن أنس أنه لما ولد إبراهيم ابن
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من مارية جاريته، كان يقع في نفس النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم منه حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا
أبا إبراهيم [ (1) ] .
قال جامعه: وللناس في التكني بأبي القاسم ثلاثة مذاهب: المنع مطلقا، وإليه
ذهب الشافعيّ، والجواز مطلقا، وأن النهي خاص بحياة الرسول صلّى اللَّه عليه
وسلّم [ (2) ] .
والثالث: لا يجوز لمن اسمه محمد، ويجوز لغيره.
قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا هو الأصح: لأن الناس ما زالوا يفعلونه في
جميع الأعصار من غير إنكار.
وقال النووي: هذا مخالف لظاهر الحديث، وأما إطباق الناس عليه ففيه تقوية
للمذهب الثاني.
وحكي الطبري مذهبا رابعا له هو المنع من التسمية بمحمد مطلقا ومن التكنية
بأبي القاسم مطلقا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) ج 6 ص 650 باب كنية النبي.
[ (2) ] انظر التعليق السابق.
[ (3) ]
ذكر (البيهقي) في (السنن الكبرى) ج 9 ص 308، 309 في باب ما يكره أن يتكني
به: «قال
(2/148)
|