إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل [في العقب
والعاقب]
قال ابن سيده: والعقب والعقب والعاقبة: ولد الرجل وولد ولده الباقون بعده،
وقول العرب: لا عقب له، أي لم يبق له ولد ذكر. وقوله تعالى:
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [ (1) ] ، أراد عقب إبراهيم
عليه السّلام، يعنى لا يزال من ولده من يوحد اللَّه تعالى، والجمع: أعقاب،
وأعقب الرجل إذا ترك عقبا، يقال: كان له ثلاثة أولاد فأعقب منهم رجلان، أي
تركا عقبا ودرج واحد. قال: وعقب مكان أبيه يعقب عقبا وعقب إذا خلّف، وكذلك
عقبه يعقبه عقبا، الأول لازم والثاني متعدّ، وكل ما خلف شيئا فقد عقبه،
وعقبه وعقّبوا من خلفنا وعقبونا: أتوا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الزخرف: 28.
[ (2) ] قال في (البصائر) : عاقبة كلّ شيء: آخره، وقولهم: ليس لفلان عاقبة،
أي ولد. والعاقبة أيضا:
مصدر عقب فلان مكان أبيه عاقبة، أي خلفه، وهم اسم جاء بمعنى المصدر، كقوله
تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: 2] .
وعقب الرجل وعقبه: ولده وولد ولده، وقوله تعالى: وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] أي جعل كلمة التوحيد باقية في ولده.
والعقب والعقب- بضمة وبضمتين-: العاقبة، قال اللَّه تعالى: خَيْرٌ ثَواباً
وَخَيْرٌ عُقْباً [الكهف: 44] وتقول أيضا: جئت في عقب شهر رمضان، وفي
عقبانه: إذا جئت بعد ما يمضى كله.
ويعقوب اسم النبي، لا ينصرف للعجمة والتعريف، واسمه: إسرائيل، وقيل له
يعقوب، لأنه ولد مع عيصو في بطن واحد، ولد عيصو قبله، ويعقوب متعلق بعقبه،
خرجا معا، فعيصو أبو الروم. قاله الليث.
والعقبي: جزاء الأمر، وقوله تعالى: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: 15] ، أي
لا يخاف أن يعقّب على عقوبته من يدفعها، أي يغيّرها. وقيل: لم يخف القاتل
عاقبتها، والقاتل هو عاقرها أَشْقاها قدار بن سالف. وأعقبه بطاعته أي
جازاه.
وقوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً أي أضلهم بسوء فعلهم عقوبة لهم.
والمعقبات في قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
(6/22)
وقال أبو عمر بن عبد البر: وليس ولد البنات
من العقب ولا من الولد، إذ ليسوا من العصبات. قال ابن سيده: والعصبة الذين
يرثون الرجل عن كلاله [ (1) ] . من غير والد ولا ولد، فأما في الفرائض فكل
من لم تكن له فريضة مسماة فهو عصبة، إن يبقى شيء بعد الفرض أخذ.
__________
[ () ] [الرعد: 11] : ملائكة الليل والنهار لأنهم يتعاقبون، وإنما أنّث
لكثرة ذلك منهم، نحو نسّابة. وعلّامة.
وقيل: ملك معقّب، وملائكة معقّبة، ثم معقبات جمع الجمع.
وقوله تعالى: وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل: 10] ، أي لم يعطف،
وقيل: لم يرجع، وقيل: لم يمكث ولم ينتظر، وحقيقته لم يعقّب إقباله إدبارا
والتفاتا.
وعاقبت الرجل في الراحلة: إذا ركبت أنت مرة وهو مرة.
وقوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ
فَعاقَبْتُمْ [الممتحنة: 1] أي أصبتموهم في القتال حتى غنمتكم.
وقوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ
[النحل: 126] سمّى الأول عقوبة، وما العقوبة إلا الثانية لازدواج الكلام في
الفعل بمعنى واحد، ومثله قوله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما
عُوقِبَ بِهِ [الحج: 60] ، وكذلك قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُها [الشورى: 40] ، والمجازاة عليها حسنة، إلا أنها سميت سيئة لأنها
وقعت إساءة بالمفعول به، لأنه فعل ما يسوءه، والعقوبة، والمعاقبة، والعقاب،
يخص بالعذاب، قال تعالى: فَحَقَّ عِقابِ [ص: 14] . والعقب، مؤخر الرجل.
ورجع على عقبه، انثنى راجعا. قال تعالى: فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
تَنْكِصُونَ [المؤمنون: 66] (بصائر ذوى التمييز) : 4/ 81- 82 بصيرة رقم
(32) .
[ (1) ] قال في (المرجع السابق) : والكلالة: الرجل لا والد ولا ولد وقيل:
ما لم يكن من النسب لحّا [أي لاصق بالنسب] بنسبك، كابن العم وشبهه. وقيل:
هي الإخوة لأم، وقيل: هي من العصبة من ورث معه الإخوة لأمّ. وقيل: هم بنو
العم الأباعد.
وقال ابن عباس رضى اللَّه تعالى عنهما: هي اسم لما عدا الوالد،
وروى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سئل عن الكلالة فقال: «من مات وليس له
ولد ولا والد»
فجعله اسم الميت، وهو صحيح أيضاً، فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث
جميعا، وقيل: اسم لكلّ وارث. (بصائر ذوى التمييز) : 4/ 373- 374 بصيرة رقم
(23) .
(6/23)
فصل في ذكر أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خطب ثلاثين امرأة، منهن واحدة
وهبت نفسها، وإحدى عشرة امرأة دخل بهن، وسبع عقد عليهنّ ولم يدخل بهن، ومات
من نسائه في حياته اثنتان، وتوفي عن تسع، ولم يتزوج بكرا غير واحدة.
[أم المؤمنين خديجة بنت خويلد]
[ (1) ]
__________
[ (1) ] هي خديجة أم المؤمنين، وسيدة نساء العالمين في زمانها، أم القاسم
ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي بن كلاب، القرشية الأسدية، أم
أولاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأول من آمن به وصدقه قبل كل
أحد، وثبتت جأشه، ومضت به إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل، كما جاء في حديث
عائشة في البخاري: بدء الوحي، وفيه أن خديجة، قالت له صلّى اللَّه عليه
وسلم: كلا واللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل،
وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق. وفيه أنها انطلقت إلى
ابن عمها ورقة ابن نوفل وقالت له: اسمع من ابن أخيك،
وأخبره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بما رأى، فقال له ورقة: هذا
الناموس الّذي نزّل اللَّه على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيّا
إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟
قال: نعم،
لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
ومناقبها جمّة، وهي ممن كمل من النساء، كانت عاقلة، جليلة، ديّنة، مصونة،
كريمة، من أهل الجنة، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يثنى عليها،
ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث إن عائشة كانت
تقول: ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة، من كثرة ذكر النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم لها.
ومن كرامتها عليه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه لم يتزوج امرأة قبلها، وجاءه
منها عدة أولاد، ولم يتزوج عليها قط، ولا تسرّى إلى أن قضت نحبها، فوجد
لفقدها، فإنّها كانت نعم القرين، وكانت تنفق عليه من مالها، ويتجر هو صلّى
اللَّه عليه وسلم لها، وقد أمره اللَّه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا
صخب فيه ولا نصب.
والقصب في هذا الحديث: لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، وقد جاء تفسيره في
(كبير الطبراني) من حديث أبي هريرة ولفظه: «بيت من لؤلؤة مجوفة» ، والصّخب:
«اختلاط الأصوات» ،
(6/24)
__________
[ () ] والنصب: التعب.
قال الزبير بن بكار: كانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة، وأمها هي فاطمة
بنت زائدة العامرية. كانت خديجة أولا تحت أبى هالة زرارة التميمي، ثم خلف
عليها بعده عتيق بن عابد بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، ثم بعده النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم، فبنى بها وله خمس وعشرون سنة، وكانت أسنّ منه بخمس
عشرة سنة.
وقال مروان بن معاوية، عن وائل بن داود، عن عبد اللَّه البهي قال: قالت
عائشة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم
من ثناء عليها، واستغفار لها، فذكرها يوما فحملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك
اللَّه من كبيرة السن! قال: فرأيته غضب غضبا. أسقطت في خلدي، وقلت في نفسي:
اللَّهمّ إن أذهبت غضب رسولك عنى لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم ما لقيت، قال، واللَّه لقد آمنت بى إذ كذبني الناس،
وآوتنى إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه منى قالت: فغدا رواح
عليّ بها شهرا.
[الخلد، بالتحريك: الباب والقلب والنفس] .
هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، مما
كنت أسمع من ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لها، وما تزوجني إلا
بعد موتها بثلاث سنين.
محمد بن فضيل عن عمارة، عن أبى زرعة، سمع أبا هريرة يقول: أتى جبريل النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: هذه خديجة أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو
شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى وبشرها ببيت في الجنة
من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. متفق على صحته.
عبد اللَّه بن جعفر: سمعت عليا: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
يقول: خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران.
أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي: باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم خديجة وفضلها، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين،
والترمذي في المناقب.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «خير نسائها» ،
قال القرطبي: الضمير عائد على غير مذكور، لكنه يفسره الحال والمشاهدة، يعنى
به الدنيا، والمعنى أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها.
قال ابن إسحاق: تتابعت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المصائب
بهلاك أبى طالب وخديجة، وكانت خديجة وزيرة صدق، وهي أقرب إلى قصىّ من النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم برجل، وكانت متموّلة فعرضت على النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم أن يخرج في مالها إلى الشام، فخرج مع مولاها ميسرة، فلما قدم
باعث خديجة ما جاء به، فأضعف، فرغبت فيه، فعرضت نفسها عليه، فتزوجها،
وأصدقها عشرين بكرة.
(6/25)
__________
[ () ] قال الشيخ عزّ الدين بن الأثير: خديجة أول خلق اللَّه أسلم بإجماع
المسلمين. وقال الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق. والواقدي،
وسعيد بن يحيى: أول من آمن باللَّه ورسوله خديجة، وأبو بكر، وعليّ، رضى
اللَّه تعالى عنهم.
قال ابن إسحاق: حدثني إسماعيل بن أبى حكيم- أنه بلغه عن خديجة أنها قالت:
يا ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك؟ فلما جاءوه قال: يا خديجة،
هذا جبريل، فقالت: اقعد على فخذي ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت:
فتحول إلى الفخذ اليسرى، ففعل، قالت: هل تراه؟ قال، نعم، فألقت خمارها،
وحسرت عن صدرها، فقالت: هل تراه؟ قال: لا، قالت: أبشر، فإنه واللَّه ملك
وليس بشيطان.
[رجاله ثقات، لكنه منقطع] .
حماد بن سلمة، عن حميد، عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير، قال: وجد رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على خديجة حتى خشي عليه، حتى تزوج عائشة
[رجاله ثقات لكنه مرسل] .
معمر عن قتادة، وأبو جعفر الرازيّ، عن ثابت، واللفظ لقتادة، عن أس مرفوعا:
حسبك من نساء العالمين أربع. [إسناده صحيح وأخرجه الترمذي في المناقب،
والحاكم، وأحمد] .
الدراوَرْديّ، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس: قال رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم: سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم، فاطمة، وخديجة،
وامرأة فرعون آسية.
[رجاله ثقات] .
وروى عروة، عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، وقال الواقدي:
توفيت في رمضان، ودفنت بالحجون. وقال قتادة: ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين،
وكذا قال عروة.
* لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 52، 1/ 131- 133، (المستدرك) : 3/
200- 206، كتاب معرفة الصحابة، باب ومنهم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد
العزى رضى اللَّه تعالى عنها، الأحاديث من رقم (4834/ 432) إلى رقم (4856/
454) ، (الاستيعاب) : 4/ 1817- 1825، ترجمة رقم (2311) ، (المعارف) : 59،
70، 132، 144، 150، 219، 311، (جامع الأصول) : 9/ 120- 125، القسم الثاني
من الفرع الثاني من الباب الرابع في فضائل النساء الصحابيات رضى اللَّه
تعالى عنهن، الأحاديث من رقم (6666) إلى رقم (6670) ، (الإصابة) : / 600-
605 ترجمة رقم (11086) ، (كنز العمال) : 13/ 690- 693 باب فضائل أزواج
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مفصلة، أم المؤمنين خديجة رضى اللَّه عنها،
الأحاديث أرقام من (37762) إلى (37770) ، (شذرات الذهب) : 1/ 14.
(6/26)
فأول نسائه خديجة سعيد بن بهم، وأمها:
عاتكة ابنة عبد العزى بن قصي، وأمها: الحظيّا بنت كعب بن سعد بن تيم بن مرة
[بن كعب بن لؤيّ بن غالب] [ (1) ] ، وأمها نائلة ابنة حذافة بن جمح.
وكانت خديجة عند عتيق بن عائذ بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، فولدت له
جارية يقال لها: أم محمد هند، تزوجها ابن عمة لها يقال له صيفي بن أبى أمية
بن عائذ بن عبد اللَّه، وهلك عتيق عن خديجة، فتزوجها أبو هالة هند بن
النباش بن زرارة [بن وقدان بن حبيب بن سلامة ابن غوىّ بن جروة] [ (2) ] بن
أسيد بن عمرو بن تميم بن مرّ. وطابخة بن إلياس [أمه] [ (2) ] خندف [وهي
ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة] [ (2) ] .
وقيل: أبو هالة مالك بن إلياس بن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدي-
بضم العين وقيل بفتحها- ابن أسد- بضم الهمزة- ابن عمرو بن تميم بن مرّ بن
أسيد، فهو أسيدى بالتخفيف، فإذا نسب إليه قيل:
اسيّدىّ بالتشديد على ما قاله سيبويه.
وذكر الحافظ أبو محمد بن حزم [ (3) ] أن خديجة كانت عند عتيق فولدت له عبد
اللَّه، ثم خلف عليها أبو هالة فولدت له ذكرين هما هند والحرث،
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (جمهرة النسب) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سياقة مضطرب، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (3) ] قال الكلبي: كان زوج خديجة بنت خويلد قبل النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم، فولدت له هند بن هند، وابن ابنه هند ابن هند بن هند، شهد هند بن أبى
هالة بدرا، وقالوا: بل أحدا، وقتل هند بن هند بن أبى هالة مع ابن الزبير،
وانقرضوا ولا عقب لهم. (جمهرة النسب) لابن الكلبي) : 269، وقال في هامشه:
هند بن أبى هالة صحابىّ شهد بدرا وقيل: أحد، قتل مع على في واقعة الجمل.
وهند بن هند بن أبى هالة قتل مع مصعب بن الزبير يوم المختار بن أبى عبيد في
الكوفة، واختلف في اسم أبى هالة، فقيل: النباش بن زرارة بن وقدان بن حبيب
بن سلامة بن عدي بن جردة بن أسيد،
(6/27)
وابنة اسمها زينب، وأن هندا شهد أحدا،
والحرث قتله أحد الكفار عند الركن اليماني. قال العسكري: هو أول قتيل قتل
في الإسلام، ثم تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على ثنتى عشرة
أوقية، وهي أول امرأة تزوجها [ (1) ] .
وروى أنه أصدقها عشرين بكرة، زوجه إياها عمرو بن أسد بن عبد العزى، وعمرها
أربعون، وقيل ست وأربعون، وقيل ثمان وأربعون، وقيل خمسون، [وقيل] أربعون،
وقيل ثلاثون، وقيل ثمان وعشرون سنة، فأقامت معه صلّى اللَّه عليه وسلم
أربعا وعشرين سنة، منها قبل الوحي خمس عشرة سنة، وكان عمره صلّى اللَّه
عليه وسلم إذ تزوجها إحدى وعشرين، وقيل: كان ابن خمس وعشرين سنة وشهران
وعشرة أيام، وهو الأكثر، وقيل ابن ثلاثين.
فولدت له أربع بنات [هن:] زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم، وولدت له القاسم
وعبد اللَّه، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، وهي أول من آمن باللَّه ورسوله على
الصحيح، وقيل أبو بكر رضى اللَّه عنه، وكانت وزير صدق له، آزرته على أمره،
وثبتته وخففت عنه وهوّنت عليه ما كان يلقى من قومه، وتوفيت قبل الهجرة بخمس
سنين، وقيل بأربع سنين، وقيل بثلاث سنين، وهو الأصح، ويقال: توفيت لعشر
خلون من رمضان، وهي ابنة خمس وستون سنة، فدفنها رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم بالحجون [ونزل في قبرها ولم يتزوج] [ (2) ] في حياتها بسواها
لجلالتها وعظم محلها عنده.
وقد اختلف أيهما أفضل، هي أو عائشة؟ فرجح فضل خديجة جماعة من العلماء،
وماتت ولرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر،
وتركت من الأولاد هند بن أبى هالة، وبنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم الأربع،
__________
[ (1) ] (جمهرة أنساب العرب لابن حزم) : 16، 120، 142، 171، 210.
[ (2) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
(6/28)
وفضائلها كثيرة رضى اللَّه عنها.
قال الواقدي: حدثني موسى بن شيبة، عن عميرة بنت عبد اللَّه بن كعب عن أم
سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية، قالت: لما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم من الشام دخل مكة، وخديجة رضى اللَّه عنها في عليه لها فرأت
ملكين يظلانه، وكانت جلدة حازمة، وهي أوسط قريش نسبا وأوسطهم مالا، وكل
قومها حريص على نكاحها لو قدروا على ذلك، قد طلبوا وبذلوا لها الأموال،
فأرسلتنى دسيسا إلى محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بعد أن رجع من الشام، فقلت:
يا محمد، ما منعك أن تتزوج؟ قال: ما بيدي ما أتزوج به، قلت:
فإن كنت كذلك ودعيت إلى الجمال، والمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟ قال:
فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قلت عليّ فأنا أفعل، فذهبت
فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت الساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمها عمرو بن
أسد ليزوجها، ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في عمومته، فتزوجها
وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة.
وذكر أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا أن أبا طالب خطب يومئذ، فقال: الحمد
للَّه الّذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء معدّ، وعنصر مضر،
وجعلنا حصنة بيته، وسوّاس حزبه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا
الحكام على الناس، ثم إن ابن أخى هذا محمد بن عبد اللَّه لا يوزن به رجل
إلى رجح به، فإن كان في الكمال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد من
قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله
وعاجله من مالي، وهو واللَّه بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل.
(6/29)
وقال المطرز: ألقى أبو طالب على ولىّ خديجة
حلّة فقبلها، وكان قبول الحلّة تمام التزويج، قال أبو طالب: فجاءنا البشار
من زوايا الدار وأعلى الجدر، ولا أدرى ديارا ولا ناثرا.
وكانت التي غسّلت خديجة أم أيمن وأم الفضل زوجة العباس، وذلك قبل أن تفرض
الصلاة، ولم تكن يومئذ سنّة الجنازة والصلاة عليها، ودفنت بالحجون بمكة،
ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حفرتها، واشترى معاوية منزل خديجة
فجعله مسجدا.
(6/30)
[أم المؤمنين سودة بنت زمعة] [ (1) ]
وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نضر بن مالك
__________
[ (1) ] هي سودة أم المؤمنين- بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية، وهي أول
من تزوج بها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد خديجة، وانفردت به صلّى
اللَّه عليه وسلم نحوا من ثلاث سنين أو أكثر، حتى دخل بعائشة رضى اللَّه
عنها. وكانت سيدة جليلة، نبيلة، ضخمة، وكانت أولا عند السكران بن عمرو، أخى
سهيل بن عمرو العامري.
وهي التي وهبت يومها لعائشة رضى اللَّه عنها، رعاية لقلب رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم، وكانت قد فركت [قلّ ميلها للرجال] ، وقد أخرج البخاري في
النكاح، باب: المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، من حديث عائشة رضى اللَّه
عنها أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة، وأخرجه أيضا في الهبة، وزاد في آخره:
تبتغي بذلك رضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأخرجه مسلم عن عائشة رضى اللَّه عنها وفيه ... فلما كبرت جعلت يومها من
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعائشة، قالت: يا رسول اللَّه قد جعلت
يومى منك لعائشة.
وأخرجه أبو داود من طريق أحمد بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد- عن
هشام بن عروة عن أبيه، قال: قالت عائشة: يا ابن أختى كان رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قلّ
يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ
إلى التي هو يومها، فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت
أن يفارقها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه، يومى
لعائشة، فقبل ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منها، قالت: تقول في
ذلك أنزل اللَّه تعالى، وفي أشباهها، آراه قال: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ
مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً [النساء: 128] .
لها أحاديث، وخرّج لها البخاري، حدّث عنها: ابن عباس، ويحى بن عبد اللَّه
الأنصاري.
توفيت في آخر خلافة عمر رضى اللَّه عنه بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين.
وقال الواقدي: وهذا الثبت عندنا.
وروى عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبى هلال: أن سودة رضى اللَّه عنها توفيت
زمن عمر رضى اللَّه عنه.
قال ابن سعد: أسلمت سودة وزوجها، فهاجرا إلى الحبشة. وعن بكير بن الأشجّ:
أن السكران قدم من الحبشة بسودة، فتوفى عنها فخطبها النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم. فقالت: أمرى إليك. قال: مري رجلا من قومك يزوجك، فأمرت حاطب بن عمرو
العامري، فزوجها، وهو مهاجري بدريّ.
هشام الدستوائى
(6/31)
__________
[ () ] حدثنا القاسم بن أبى بزّة: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعث إلى
سودة بطلاقها، فجلست على طريقه فقالت:
أنشدك بالذي أنزل عليك كتابه، لم طلقتني؟ الموجدة؟ قال: لا، قالت: فأنشدك
اللَّه لما راجعتني، فلا حاجة لي في الرجال، ولكن أحب أن أبعث في نسائك
فراجعها. قالت: فإنّي قد جعلت يومى لعائشة. [أخرجه ابن سعد، وسنده صحيح،
لكنه مرسل، والصحيح أنه لم يطلقها كما تقدم] .
الأعمش، عن إبراهيم، قالت سودة: يا رسول اللَّه، صليت خلفك البارحة، فركعت
بى، حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطر الدم، فضحك صلّى اللَّه عليه وسلم.
وكانت تضحكه الأحيان بالشيء.
صالح مولى التوأمة، عن أبى هريرة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
في حجة الوداع: هذه ثم ظهور الحصر.
[ظهور الحصر: منصوب على تقدير: ثم الزمن، والحصر: جمع حصير، وهو ما يفرش في
البيوت، والمراد أن يلزمن بيوتهن، ولا يخرجن منها. والحديث
أخرجه ابن سعد وأحمد، وسنده قوى، وأبو داود في أول الحج من طريق عبد العزيز
بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن واقد بن أبى واقد الليثي، عن أبيه أن النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم قال لنسائه في حجته: هذه ثم ظهور الحصر.
وسنده حسن في الشواهد] .
وقالت عائشة رضى اللَّه عنها: استأذنت سودة ليلة المزدلفة، أن تدفع قبل
حطمة الناس- وكانت امرأة ثبطة- أي ثقيلة، فأذن لها. [وتمامه: فدفعت قبل
حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فلأن أكون استأذنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كما استأذنته سودة،
أحب إلى من مفروح به، والحطمة بفتح الحاء وسكون الطاء: الزحمة، أي قبل أن
يزدحموا، ويحطم بعضهم بعضا. أخرجه ابن سعد، والبخاري، ومسلم، وأحمد،
والنسائي] .
حماد بن يزيد عن هشام، عن ابن سيرين: أن عمر بعث إلى سودة بغرارة دراهم،
فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: في الغرارة مثل التمر! يا جارية،
بلّغينى القنع ففرّقتها.
يروى لسودة خمسة أحاديث: منها في الصحيحين: حديث واحد عند البخاري.
الواقدي: حدثنا موسى بن محمد بن عبد الرحمن، عن ريطة، عن عمرة عن عائشة رضى
اللَّه عنها قالت: لما قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم المدينة بعث زيدا،
وبعث معه أبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم، فخرجنا جميعا،
وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة، وبأم كلثوم، وبسودة بنت زمعة، وبأم أيمن،
وأسامة ابنه.
(*) لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 52- 58، (طبقات خليفة) . 335،
(المعارف) : 133، 284، 442، (الاستيعاب) : 4/ 1867 ترجمة رقم (3394) ،
(جامع الأصول) : 9/ 145، (تهذيب التهذيب) : 12/ 445 ترجمة رقم (2819) ،
(الإصابة) : /، ترجمة رقم () ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 484، ترجمة رقم
(87) ، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 265- 269 ترجمة رقم (40) ، (شذرات الذهب)
: 1/ 34 و 60.
(6/32)
ابن حسل بن عدي بن النجار تزوجها السكران
بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ- هو أخو سهيل بن عمرو- وهاجرت معه إلى
الحبشة ومات، فتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد موت خديجة رضى
اللَّه عنها، ولى تزويجها أباه أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس- ويقال أبوها-
وهو يومئذ شيخ، وأصدقها أربعمائة درهم، وتزوج بعائشة رضى اللَّه عنها،
وقيل: تزوج بعائشة قبلها، وكان تزويجه بسودة [وبناؤه] بها في شهر رمضان سنة
عشر من النبوة.
وكانت سودة قد رأت في النوم كأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وطئ على
عنقها، فأخبرت السكران بذلك، فقال: لئن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجك رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت: حجرا وسترا! ثم رأت ليلة أخرى كأن
قمرا انقضّ عليها من السماء، فتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
وذلك أن خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية- امرأة عثمان بن مظعون- قالت: يا
رسول اللَّه! إني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة فقال: أجل، أمّ العيال وربة
البيت، قال: ألا أخطب عليك؟ قال: بلى، إنك معشر النساء أرفق بذلك، فخطبت
عليه سودة بنت زمعة، وخطبت عليه عائشة بنت أبى بكر- وعائشة يومئذ ابنة ست
سنين حتى بنى بها حين قدم المدينة-.
وكانت امرأة ثقيلة ثبطة، وكان في أذنها ثقل، وأسنّت عند رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم فهمّ بطلاقها، ويقال طلقها في سنة ثمان من الهجرة تطليقة،
فجمعت ثيابها وجلست له على الطريق التي كان يسلكها إذا خرج إلى الصلاة،
فلما دنا منها بكت
وقالت: يا رسول اللَّه! أهل أعتددت عليّ في الإسلام بشيء؟ فقال: اللَّهمّ
لا،
فقالت: أسألك باللَّه لما راجعتني، فراجعها، وجعلت يومها لعائشة رضى اللَّه
عنها، وقالت: واللَّه ما غايتي إلا أن أرى وجهك وأحشر مع أزواجك، وإني لا
أريد ما تريد النساء.
(6/33)
فأمسكها حتى توفى عنها مع سائر من توفى
عنهن من أزواجه، وفيها نزلت: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها
نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ [يُصْلِحا]
بَيْنَهُما صُلْحاً [ (1) ] ، وتوفيت سنة ثلاث وعشرين، وصلّى عليها عمر بن
الخطاب رضى اللَّه عنه، وقيل: إنها توفيت في خلافه عثمان رضى اللَّه عنه،
ولها نحو من ثمانين سنة، وكانت قد لزمت بيتها فلم تحج حتى توفيت، وهي أول
امرأة وطئها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمدينة.
__________
[ (1) ] النساء: 128.
(6/34)
[أم المؤمنين عائشة
بنت أبى بكر]
[ (1) ] وعائشة بنت أبى بكر عبد اللَّه بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو
__________
[ (1) ] هي عائشة أم المؤمنين، بنت الإمام الصدّيق الأكبر، خليفة رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أبى بكر، عبد اللَّه بن أبى قحافة، عثمان بن
عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤيّ، القرشية
التيمية، المكية، النبويّة، زوجة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أفقه نساء
الأمة على الإطلاق، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر ابن عبد شمس، بن عتاب
بن أذينة الكنانية.
هاجر بعائشة أبواها، وتزوجها نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل مهاجره،
بعد وفاة الصدّيقة خديجة بنت خويلد رضى اللَّه عنها، وذلك قبل الهجرة ببضعة
عشر شهرا، وقيل بعامين، ودخل بها في شوال سنة اثنين، منصرفة صلّى اللَّه
عليه وسلم من غزوة بدر، وهي ابنة تسع.
روت عنه صلّى اللَّه عليه وسلم علما كثيرا طيبا مباركا فيه، وعن أبيها، وعن
عمر وفاطمة، وسعد، وحمزة بن عمر الأسلمي، وجدامة بنت وهب، رضى اللَّه تعالي
عن الجميع. وروى عنها خلق كثير.
بلغ مسند عائشة (2210) ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتفق لها البخاري ومسلم
على مائة وأربع وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم
بتسعة وستين.
وعائشة رضى اللَّه عنها ممن ولد في الإسلام، وهي أصغر من فاطمة بثماني
سنين، وكانت تقول:
لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان بالدين. وذكرت أنها لحقت بمكة سائس الفيل
شيخا أعمى يستعطى.
وكانت امرأة بيضاء جميلة، ومن ثمّ يقال لها: الحميراء، ولم يتزوج النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم بكرا غيرها، ولا أحبّ امرأة حبّها، ولا أعلم في أمة
محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقا امرأة أعلم منها. وذهب
بعض العلماء إلى أنها أفضل من أبيها، وهذا مردود، وقد جعل اللَّه لكل شيء
قدرا، بل تشهد أنها زوجة نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم في الدنيا والآخرة،
فهو فوق ذلك مفخر، وإن كان للصديقة خديجة شأو لا يلحق.
قال الحافظ الذهبي: وأنا واقف في أيتهما أفضل، نعم جزم بأفضلية خديجة عليها
الأمور ليس هذا موضعها.
هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم: أريتك في المنام ثلاث ليال، جاء بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه
امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا أنت فيه، فأقول: إن يك هذا من عند اللَّه يمضه.
[والسّرقة بفتح السين والراء والقاف: هي القطعة] . أخرجه أحمد، والبخاري في
مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عائشة رضى اللَّه
عنها، وفي النكاح، باب النظر إلى المرأة قبل التزويج، وفي التعبير، باب كشف
المرأة في المنام، وباب ثياب الحرير في المنام، ومسلم في فضائل الصحابة،
باب فضل عائشة من طرق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
وأخرج الترمذي من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن علقمة المكيّ، عن ابن أبى
حسين، عن ابن
(6/35)
__________
[ () ] مليكة، عن عائشة: أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة. حسّنه
الترمذي وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبد اللَّه، ورواه عبد الرحمن بن مهدي
عنه مرسلا. [أخرجه الترمذي في المناقب: باب فضل عائشة رضي اللَّه عنها،
ورجاله ثقات. وابن أبى حسين: هو عمر بن سعيد بن حسين النوفلي] .
بشر بن الوليد القاضي: حدثنا عمر بن عبد الرحمن، عن سليمان الشيباني عن على
بن زيد بن جدعان، عن جدته، عن عائشة أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتها
امرأة بعد مريم بنت عمران:
لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حتى أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا، وما تزوج بكرا، ولقد قبض ورأسه صلّى اللَّه
عليه وسلم في حجري، ولقد قبرته في بيتي، ولقد خفّت الملائكة بيتي، وإن كان
الوحي لينزل عليه وإني لمعه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل
عذرى من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما.
[رواه أبو بكر الآجري عن أحمد بن يحيى الحلواني، عنه، وإسناده جيد، إلا أن
على بن زيد بن جدعان ضعيف] .
وكان تزويجه بها إثر وفاة خديجة، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد، ثم دخل
بسودة، فتفرد بها ثلاثة أعوام حتى بنى بعائشة، رضى اللَّه عنها في شوال بعد
وقعة بدر، فما تزوج بكرا سواها، وأحبها حبا شديدا كان يتظاهر به، بحيث
إن عمرو بن العاص- وهو ممن أسلم سنة ثمان من الهجرة- سأل النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم: أي الناس أحب إليك يا رسول اللَّه؟ قال: عائشة، قال فمن الرجال؟
قال أبوها. [أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي، باب قول النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا، وفي المغازي، باب غزوة السلاسل،
وسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر رضى اللَّه عنه.
وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان إلا طيبا،
وقد قال: لو كنت متخذا خليلا من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة
الإسلام أفضل.
فأحب صلّى اللَّه عليه وسلم أفضل رجل من أمته، وأفضل امرأة من أمته، فمن
أبغض حبيبي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فهوى حرىّ أن يكون بغيضا إلى
اللَّه ورسوله. وحبه عليه السّلام لعائشة كان أمرا مستفيضا، ألا تراهم كيف
كانوا يتحرون بهداياهم يومها تقربا إلى مرضاته؟
قال حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان الناس
يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت: فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة، فقلن لها:
إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة،
فقولي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا له أينما
كان.
فذكرت أم سلمة له ذلك، فسكت، فلم يردّ عليها فعادت الثانية، فلم يردّ
عليها، فلما كانت الثالثة قال: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه
واللَّه ما نزل عليّ الوحي وأنا في لحاف امرأة غيرها..
[متفق على صحته، فقد أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب فضل عائشة، وفي
الهبة، باب من أهدى إلى أصحابه، وتحرى بعض نسائه دون بعض، من طريق حماد بن
زيد، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، وأخرجه مسلم مختصرا في فضائل
الصحابة، من طريق عبدة، عن هشام، عن
(6/36)
__________
[ () ] أبيه عن عائشة، وأخرجه مطولا من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن
أبيه، عن صالح، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن
عائشة، وفيه أن التي أرسلتها فاطمة، وليست أم سلمة] .
وهذا الجواب منه صلّى اللَّه عليه وسلم دالّ على أن فضل عائشة على سائر
أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها
صلّى اللَّه عليه وسلم.
إسماعيل بن جعفر: أخبرنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن، سمع أنسا يقول: قال
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على
سائر الطعام. [متفق عليه من طرق عن أبى طواله، فقد أخرجه البخاري في فضائل
أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، باب فضل عائشة رضى اللَّه عنها، وفي
الأطعمة، باب الثريد، وباب ذكر الطعام، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل
عائشة رضى اللَّه عنها، وأبو طوالة:
هو عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري، راوية عن أنس رضى اللَّه عنه.
شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن مرّة، عن أبى مرسى، عن النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران،
وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
[أخرجه البخاري ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل خديجة رضى اللَّه عنها] .
شعيب، عن الزهري: حدثني أبو سلمة، أن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم: يا عائش، هذا جبريل وهو يقرأ عليك السلام، قالت: وعليه
السّلام ورحمة اللَّه، ترى ما لا نرى يا رسول اللَّه.
زكريا بن أبى زائدة، عن عامر، عن أبى سلمة، أن عائشة رضى اللَّه عنها حدثته
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال لها: إن جبريل يقرئك السلام، قالت:
وعليه السّلام ورحمة اللَّه. [أخرجهما البخاري في فضل عائشة، وفي بدء
الخلق، باب ذكر الملائكة، وفي الأدب، باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا،
وفي الإستئذان، باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال، وباب إذا
قال: فلان يقرئك السلام، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضى اللَّه
عنها، وأبو داود، والترمذي، وأخرج النسائي من طريق معمر، عن الزهري، عن
عروة، عن عائشة نحو الأول، في عشرة النساء، باب حب الرجل بعض نسائه أكثر من
بعض
روى هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: تزوجني رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم متوفّى خديجة، وأنا بنت ستّ، وأدخلت عليه وأنا ابنة
تسع، جاءني نسوة وأنا ألعب على أرجوحة وأنا مجمّمة، فهيأننى، وصنعنى، ثم
أتين بى إليه صلّى اللَّه عليه وسلم. [أخرجه أبو داود في الأدب، باب
الأرجوحة، وإسناده صحيح. والمجممة: ذات جمة، ويقال للشعر إذا سقط عن
المنكبين، جمّة، وإذا كان الشعر إلى شحمة الأذنين: وفرة.
قال عروة: فمكثت عنده تسع سنين، وأخرج البخاري من قول عروة: أن خديجة رضى
اللَّه عنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين، فلبث صلّى اللَّه عليه وسلم سنين
أو قريبا من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين. [أخرجه البخاري في مناقب
الأنصار، باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عائشة، وقدومها المدينة
وبنائه
(6/37)
__________
[ () ] بها، وتمامه: ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين. وفي خبر عروة إشكال أجاب
عنه الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) ] .
هشام عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: كنت ألعب بالبنات يعنى اللّعب- فيجيء
صواحبي فينقمعن من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فيخرج رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم فيدخلن على، وكان يسرّبهن إليّ فيلعبن معى.
وفي لفظ: فكن جوار يأتين يلعبن معى بها، فإذا رأين رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم تقمّعن، فكان يسربهن إليّ.
[أخرجه البخاري في الأدب، باب الانبساط إلى الناس، ومسلم في فضائل الصحابة،
باب فضل عائشة، واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات، واللعب من
أجل لعب البنات بهن، وخصّ ذلك من عموم النهى عن اتخاذ الصور، وبه جزم
القاضي عياض، ونقله عنه الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات.
وعن عائشة قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا ألعب
بالبنات [أي اللعب] ، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: خيل سليمان ولها أجنحة،
فضحك. [أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في (الطبقات) من طريق الواقدي، وأخرجه أبو
داود في (السنن) في الأدب، باب اللعب بالبنات، بأطول من هذا،
والنسائي في (عشرة النساء) ، عن عائشة قالت: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهواتها ستر، فهبت ريح، فكشفت ناحية
الستر عن بنات لعائشة، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: ما هذا يا عائشة؟
قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع فقال: ما هذا الّذي أرى
وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الّذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرس له
جناحان! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك حتى بدت نواجذه.
وإسناده صحيح] .
الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: لقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، وإنه ليسترنى
بردائه لكي انظر إلى لعبهم، ثم يقف من أجلى حتى أكون أنا التي أنصرف،
فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ الحريصة على اللهو.
وفي لفظ معمر، عن الزهري: فما زلت انظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر
الجارية الحديثة السنّ، التي تسمع اللهو.
ولفظ الأوزاعي عن الزهري في هذا الحديث قالت: قدم وفد الحبشة على رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقاموا يلعبون في المسجد، فرأيت رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا انظر إليهم حتى أكون أنا التي
أسأم.
[أخرجه البخاري في المساجد، باب أصحاب الحراب في المسجد، وفي العيدين، باب
الحراب والدرق يوم العيد، وفي النكاح، باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من
غير ريبة، ومسلم، وأحمد والنسائي في العيدين، باب اللعب في المسجد يوم
العيد، ونظر النساء لذلك، والحميدي في (مسندة) ، والطحاوي في (مشكل الآثار)
، وأخرج النسائي في (عشرة النساء) من حديث يونس بن عبد الأعلى، بسنده عن
عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قالت: دخل الحبش المسجد يلعبون، قال
لي: يا حميراء، أتحبين أن تنظرى إليهم؟ فقلت: نعم، فقام بالباب وجئته،
فوضعت ذقني على عاتقه، فأسندت وجهي إلى خده، قالت: ومن قولهم يومئذ: أبا
القاسم طيبا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: حسبك قلت:
(6/38)
__________
[ () ] يا رسول اللَّه لا تعجل، فقام لي ثم قال: حسبك، فقلت: لا تعجل يا
رسول اللَّه، قالت: وما بى حب النظر إليهم، ولكنى أحببت أن يبلغ النساء
مقامه لي، ومكاني منه.
إسناده صحيح كما قال الحافظ في (الفتح) .
يحيى بن يمان، عن الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد اللَّه بن عروة، عن
أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في شوال،
وأعرس بى في شوال، فأى نسائه كان أحظى عنده منى.
[وكانت العرب تستحب لنسائها أن يدخلن على أزواجهن في شوال، أخرجه مسلم في
النكاح، باب استحباب التزوج والتزويج في شوال، واستحباب الدخول فيه،
والدارميّ في النكاح، باب بناء الرجل بأهله في شوال، وأحمد في (المسند) ،
وابن سعد في (الطبقات) ، وابن ماجة في النكاح، باب متى يستحب البناء
بالنساء، والنسائي في النكاح، باب التزويج في شوال، من طرق عن سفيان بن
عيينة، وفيه عندهم: وكانت عائشة رضى اللَّه عنها تستحب أن تدخل نساءها في
شوال.
وقالت عائشة رضى اللَّه عنها ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ما
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يذكرها. [أخرجه البخاري في فضائل
أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
خديجة وفضلها، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل خديجة رضى اللَّه عنها.
قال الحافظ الذهبي في (سير الأعلام) : وهذا من أعجب شيء! أن تغار رضى
اللَّه عنها من امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
بعائشة بمديدة، ثم يحميها اللَّه تعالى من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فهذا من ألطاف اللَّه بها وبالنبيّ صلّى
اللَّه عليه وسلم، لئلا يتكدر عيشهما، ولعله إنما خفّف أمر الغيرة عليها
حبّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لها، وميله إليها. فرضى اللَّه تعالى عنها
وأرضاها.
معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: دخلت امرأة سوداء على النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم. فأقبل عليها، قالت: فقلت يا رسول اللَّه! أقبلت على هذه
السوداء هذا الإقبال؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: إنها كانت تدخل على
خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان [رجاله ثقات، وأخرج الحاكم نحوه في
(المستدرك) من طريق صالح بن رستم،
عن ابن أبى مليكة، عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم وهو عندي، فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من أنت؟ قالت:
أنا جثامة المزينية، فقال: بل أنت حسّانة المزينية، كيف أنتم كيف حالكم؟
كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير، بأبي أنت وأمى يا رسول اللَّه. فلما خرجت قلت:
يا رسول اللَّه! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ قال: إنها كانت تأتينا
زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان.
صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في (التلخيص) .
وأخرج البخاري في النكاح، باب غيرة النساء ووجدهن، ومسلم في فضائل الصحابة،
باب فضل عائشة.. لأبى أسامة، عن هشام بلفظ: إني لأعلم إذا كنت عنى راضية
وإذا كنت عليّ غضبى، قالت: وكيف يا رسول اللَّه؟ قال: إذا كنت عنى راضية،
قلت: لا وربّ محمد، وإذا كنت عليّ غضبى، قلت: لا وربّ إبراهيم، قلت أجل
واللَّه، ما أهجر إلا اسمك.
(6/39)
__________
[ () ] هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها، قالت: سابقني
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فسبقته ما شاء، حتى إذا رهقني اللحم، سابقني،
فسبقني، فقال: يا عائشة، هذه بتلك. [إسناده صحيح، وهو في المسند، وأخرجه
الحميدي في (مسندة) ، وأبو داود في الجهاد: باب السبق على الرجل، وابن ماجة
والنسائي في عشرة النساء] .
قال الإمام أحمد في (المسند) : حدثنا يحيى القطان، عن إسماعيل: حدثنا قيس،
قال: لما أقبلت عائشة، فلما بلغت مياه بنى عامر ليلا، نبحت الكلاب، فقالت:
أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظننى إلا أننى راجعة. قال بعض من
كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون، فيصلح اللَّه ذات بينهم،
قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح
عليها كلاب الحوأب.
[إسناده صحيح كما قال الذهبي وصححه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه أحمد في
(المسند) ،
وقال الحافظ ابن كثير في (البداية) . وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم
يخرجوه، بعد أن ذكره من طريق الإمام أحمد. والحوأب: من مياه العرب على طريق
البصرة، قاله أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري، فيما نقله عنه ياقوت
الحموي في (معجم البلدان) ، وقال أبو عبيد البكري في (معجم ما استعجم) :
ماء قريب من البصرة على طريق مكة إليها، سمّى بالحوأب بنت كلب بن وبرة
القضاعية] .
قال عطاء بن أبى رباح: كانت عائشة رضى اللَّه عنها أفقه الناس، وأحسن الناس
رأيا في العامة، وقال الزهري: لو جمع علم عائشة رضى اللَّه عنها إلى علم
جميع النساء، لكان علم عائشة رضى اللَّه عنها أفضل. [ذكره الهيثمي في (مجمع
الزوائد) ونسبة إلى الطبراني. وقال: رجاله ثقات، وذكره أبو عبد اللَّه
الحاكم في (المستدرك) .
عروة بن الزبير: أن معاوية بعث مرة إلى عائشة رضى اللَّه عنها بمائة ألف
درهم فو اللَّه ما أمست حتى فرقتها، فقالت: لها مولاتها: لو اشتريت لنا
منها بدرهم لحما؟ فقالت: ألا قلت لي. [أخرجه أبو نعيم في (الحلية) والحاكم
في (المستدرك) ] .
يحيى بن أبى زائدة- عن حجاج، عن عطاء: أن معاوية بعث إلى عائشة رضى اللَّه
عنها بقلادة بمائة ألف، فقسّمتها بين أمهات المؤمنين.
الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها: أنها تصدقت
بسبعين ألفا، وإنها لترقع جانب درعها.
أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن ابن المنكدر، عن أم ذرّة، قالت: بعث ابن
الزبير إلى عائشة رضى اللَّه عنها بمال في غرارتين، يكون مائة ألف، فدعت
بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست، قال: هاتي يا جارية فطوري، فقالت أم
ذرّة: يا أم المؤمنين، أما استطعت أن تشترى لنا لحما بدرهم؟
قالت: لا تعنّفينى، لو أذكرتينى لفعلت. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، وأبو
نعيم في
(6/40)
__________
[ () ] (الحلية) ، ورجاله ثقات] .
ابن عليّة، عن أيوب، عن ابن مليكة، قال: قالت عائشة رضى اللَّه عنها توفى
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في بيتي، وفي يومى، وليلتي وبين تحرى
وسحري، ودخل عبد الرحمن بن أبى بكر، ومعه سواك رطب، فنظر إليه حتى ظننت أنه
يريده، فأخذته، فمضغته، ونفضته ثم دفعته إليه، فاستنّ به كأحسن ما رأيته
مستنّا قط، ثم ذهب يرفعه إليّ، فسقطت يده، فأخذت أدعو له بدعاء كان يدعو به
له جبريل، وكان هو يدعو به إذا مرض، فلم يدع به في مرضه ذاك، فرفع بصره إلى
السماء، وقال: الرفيق الأعلى، وفاضت نفسه صلّى اللَّه عليه وسلم، فالحمد
للَّه الّذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا. [أخرجه أحمد في
(المسند) ، وصححه الحاكم في (المستدرك) ، ووافقه الذهبي في (التلخيص) ،
والسّحر: الرئة، والنّحر: أعلى الصدر، واستن: استاك] .
العوام بن حوشب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ [النور: 3] ، قال: نزلت في عائشة رضى اللَّه عنها خاصة،
أخرجه الحاكم في (المستدرك) ، وصححه، ووافقه الذهبي في (التلخيص) ، وأورده
السيوطي في (الدر المنثور) ، وزاد نسبته لابن أبى حاتم وابن مردويه.
وحديث الإفك طويل ومشهور، ولذلك أمسكنا عن ذكره.
إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس، قال: قالت عائشة- وكانت تحدث نفسها أن تدفن
في بيتها- فقالت: إني أحدثت بعد رسول اللَّه حدثا، ادفنوني مع أزواجه.
فدفنت بالبقيع رضى اللَّه عنها [ابن سعد في (الطبقات) ، وصححه الحاكم في
(المستدرك) ، ووافقه الذهبي في (التلخيص) .
قال الذهبي: تعنى بالحدث مسيرها يوم الجمل، فإنّها ندمت ندامة كلّية، وثابت
من ذلك، على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة، قاصدة للخير، كما اجتهد طلحة بن
عبيد اللَّه، والزبير بن العوام، وجماعة من الكبار، رضى اللَّه عن الجميع
(سير الأعلام) .
وقد قيل إنها مدفونة بغربي جامع دمشق، وهذا غلط فاحش، لم تقدم رضى اللَّه
عنها إلى دمشق أصلا، وإنما هي مدفونة بالبقيع، ومدة عمرها: ثلاث وستون سنة
وأشهر.
ومن عالى حديثها: قال الحافظ الذهبي: قرأت على ابن عساكر، عن أبى روح:
أخبرنا تميم، حدثنا أبو سعد، أخبرنا ابن حمدان، أخبرنا أبو يعلى، حدثنا أبو
معمر إسماعيل بن إبراهيم، عن عليّ بن هاشم، عم هشام بن عروة، عن بكر بن
وائل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: ما ضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم امرأة قطّ، ولا ضرب خادما له قط، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد
في سبيل اللَّه، وما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه، إلا أن تنتهك محارم
اللَّه، فينتقم. [إسناده صحيح، وأخرجه مسلم في الفضائل، باب مباعدته صلّى
اللَّه عليه وسلم للآثام، وأحمد في (المسند) من طرق، عن هشام بن عروة، عن
أبيه، عن عائشة، رضى اللَّه عنها، وأخرج مالك والبخاري في صفة النبي، ومسلم
من طريق الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم، أنها قالت: ما خيّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
(6/41)
ابن كعب بن سعيد بن تيم بن مرة بن كعب،
الصديقة بنت [الصديق] حبيبة رسول اللَّه المبرأة من السماء، أم المؤمنين،
أم عبد اللَّه رضي عنها، أمها أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن
عتاب بن أرنبة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة،
والخلاف في أبيها إلى كنانة كثير جدا، وأجمعوا أنها من بنى غنم بن مالك بن
كنانة، من المهاجرات ذات الفضائل.
ولدت في السنة الرابعة من النبوة في أولها، تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم بمكة بعد سودة بشهر، على اثنى عشرة أوقية ونش، وقيل: أربعمائة
درهم، وقيل: قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث وهي بنت ست سنين، وقيل: بنت تسع
سنين، وقيل تزوجها في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة بثلاث سنين،
وأعرس بها بالمدينة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره.
وقال الواقدي: بنى بها في الأولى، وصححه الدمياطيّ، وتوفى عنها وهي بنت
ثماني عشرة سنة، كان مكثها معه تسع سنين وخمسة أشهر، ولم ينكح بكرا غيرها،
ولم يأته الوحي في لحاف واحدة من نسائه سواها، ولم يحب أحدا من النساء
مثلها، وقد كانت لها مآثر وخصائص ذكرت في
__________
[ () ] بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعد
الناس منه، وما انتقم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لنفسه إلا أن
تنتهك حرمة اللَّه عزّ وجلّ] .
(*) لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 7/ 46 وما بعدها، (طبقات ابن سعد) 8/ 58-
81، (طبقات خليفة) : 333، (تاريخ خليفة) 225، (المعارف) : 134، 176، 208،
550، (المستدرك) :
4/ 15- 17، (حلية الأولياء) : 2/ 43، (الاستيعاب) : 4/ 1881، ترجمة رقم
(4029) ، (جامع الأصول: 9/ 132، (تهذيب التهذيب) : 12/ 461، ترجمة رقم
(2840) ، (الإصابة) : 8/ 16، ترجمة رقم (11457) ، (خلاصة تذهيب الكمال) :
3/ 387، ترجمة رقم (106) ، (كنز العمال) : 13/ 693، (سير أعلام النبلاء) :
2/ 135، ترجمة رقم (19) ، (شذرات الذهب) :
1/ 9، 61- 63، (المواهب اللدنيّة) : 2/ 81- 83، (صفة الصفوة) : 2/ 9- 27.
(6/42)
القرآن والنسب، وكانت لها ليلتان، ولكل
امرأة سواها ليلة، لأن سودة وهبتها ليلتها.
وخرجت بعد قتل عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه إلى الكوفة تدعو الناس لأخذ
ثأره من قتلته، وكانت وقعة الجمل، ثم عادت إلى المدينة وبها توفيت ليلة
الثلاثاء لسبع عشر خلون من رمضان سنة ثمان وخمسين، وقيل: سبع وخمسين، ودفنت
ليلا بعد الوتر بالبقيع، وصلّى عليها أبو هريرة، ونزل في قبرها خمسة: عبد
اللَّه [وعروة والقاسم بن محمد وعبد اللَّه بن محمد بن أبى بكر، وعبد
اللَّه بن عبد الرحمن بن أبى بكر] .
وكان عمرها يوم ماتت ستا وستين سنة، وكانت أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن
الناس رأيا في العامة: تعرف من الطب والشعر شيئا كثيرا، ولا نعلم امرأة في
هذه الأمة بلغت من العلم مبلغها.
وروى عنها ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث مرفوعة، اتفقا منها على مائة
وأربعة وسبعين حديثا، انفرد منها البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بستة وستين
وفضائلها وأخبارها كثيرة جدا.
(6/43)
غزيّة
[ (1) ] وغزّية بنت دودان بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن منقذ بن عمرو
بن معيص بن عامر بن لؤيّ، وهي أم شريك التي وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللَّه
عليه وسلم، وقيل: هي غزية بنت عوف بن
جابر بن صبابه بن حجير بن عبد بن معيص، كانت عند أبى العكر مسلم بن الحارث
الأزدي،. فولدت له شريكا فكنيت به، قيل: [بنى بها] رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم بمكة، وقيل: لم يدخل بها، وأنها هي أم شريك الأنصارية لأنه كره
غيرة نساء الأنصار، وقيل: هي التي وهبت نفسها فلم يتزوجها ولم يردها، وقيل:
رأى بغزية كبرة فطلقها،
__________
[ (1) ] هي الواهبة نفسها له صلّى اللَّه عليه وسلم، واختلف من هي، فقيل:
أم شريك القرشية العامرية، واسمها غزية- بضم الغين المعجمة وفتح الزاى،
وتشديد المثناة التحتية- بنت جابر بن عوف، من بنى عامر بن لؤيّ، وقيل: بنت
دودان بن عوف، وطلقها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، واختلف في دخوله بها.
وقيل: هي أم شريك غزيّة الأنصارية من بنى النجار، وفي (صفة الصفوة) : هي أم
شريك غزية بنت جابر الدوسية، قال: والأكثرون على أنها هي التي وهبت نفسها
له صلّى اللَّه عليه وسلم، فلم يقبلها، فلم تتزوج حتى ماتت، وذكر ابن قتيبة
في (المعارف) عن أبى اليقظان: أن الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمي،
ويجوز أن يكونا وهبتا أنفسهما من غير تضاد.
وقال عروة بن الزبير: كانت خولة بنت حكيم، من اللاتي وهبن أنفسهن للنّبيّ
صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت عائشة رضى اللَّه عنها: أما تستحي المرأة أن
تهب نفسها للرجل؟ فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي
إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [الأحزاب: 51] ، قالت عائشة رضى اللَّه عنها: يا رسول
اللَّه! ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك. [رواه الشيخان] . وهذه خولة هي
زوجة عثمان بن مظعون، ولعل ذلك وقع منها قبل عثمان.
عن قتادة: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إني أحب أن أتزوج في
الأنصار، ثم إني أكره غيرتهن، قال: فلم يدخل بها [ذكره الحاكم في المستدرك]
.
لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 154- 157، (طبقات خليفة) : 335، (الجرح
والتعديل) : 9/ 464، (المستدرك) : 4/ 37، (الاستيعاب) :
4/ 1942- 1943، ترجمة رقم (4169) ، (الإصابة) : 8/ 236- 237، ترجمة رقم
(12097) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 498، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 255- 256،
ترجمة رقم (33) ، (صفة الصفوة) : 2/ 37- 38، ترجمة رقم (134) ، (المواهب
اللدنية) : 2/ 94.
(6/44)
فأوثقها أهلها. وحملوها من مكة إلى البدو،
وكانت تدخل على النساء بمكة فتدعوهن إلى الإسلام، وكانت على ذلك بعد طلاقها
تدعو إلى الإسلام.
ويقال: أم شريك العامرية، ويقال: الأنصارية، ويقال: الدوسية، ويقال بل
اسمها عزيلة، روت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وروى عنها جابر بن عبد
اللَّه، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وشهر بن حوشب، ولها أحاديث في
البخاري ومسلم، والترمذي والنسائي، وقال ابن عبد البر: وقد ذكرها بعضهم في
أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ولا يصح من ذلك شيء لكثرة الاضطراب
فيه.
(6/45)
[أم المؤمنين حفصة
بنت عمر]
[ (1) ] وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رباح بن عبد
اللَّه بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب، أمها وأم عبد اللَّه بن عمر زينب بنت
مظعون بن حبيب بن حذافة بن جمح، فمن فضلها: أن [أباها عمر] .
وعمها زيد، وأخوالها عثمان وحذافة وعبد اللَّه بنى مظعون، وابن خالها
السائب بن عثمان، شهدوا جميعاً بدرا، وولدت قبل المبعث بخمس سنين وقريش
تبنى البيت، ثم تزوج بها خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي.
فلما تأيمت ذكرها عمر لأبى بكر رضى اللَّه عنهما فلم يرجع عليه أبو بكر،
كلمة فغضب، ثم عرضها على عثمان رضى اللَّه عنه- وقد ماتت رقية عليها
السلام- فقال: ما أريد أن أتزوج اليوم، فانطلق إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم وشكا إليه ذلك،
فقال: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هو خير من حفصة،
فتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
في شعبان قبل أحد بشهرين من سنة ثلاث، وقيل: في سنة اثنتين، زوجة أبوها
وأصدقها صلّى اللَّه عليه وسلم أربعمائة درهم.
قال الدار قطنى في (العلل) : هذا صحيح من حديث الزهري عن سالم عن أبيه، عن
عمر رضى اللَّه عنه، تأيمت حفصة من خنيس بن حذافة
__________
[ (1) ] هي حفصة أم المؤمنين، السّتر الرّفيع، بنت أمير المؤمنين، أبى حفص
عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، تزوجها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد
انقضاء عدّتها من خنيس بن حذافة السهمي، سنة ثلاث من الهجرة.
وخنيس كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، هاجر إلى أرض الحبشة، وعاد إلى
المدينة، وشهد بدرا وأحدا، وأصابه بأحد جراحات، فمات رضى اللَّه عنه.
قالت عائشة رضى اللَّه عنها: هي التي كانت تسامينى من أزواج النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم، وروى أن مولدها كان قبل المبعث بخمس سنين، فعلى هذا يكون
دخول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بها ولها نحو من عشرين سنة.
(6/46)
__________
[ () ] روت عنه عدة أحاديث.
وكانت لما تأيمت،
عرضها أبوها على أبى بكر، فلم يجبه بشيء، وعرضها على عثمان فقال: بدا لي
ألا أتزوج اليوم، فوجد عليهما وانكسر، وشكا حاله إلى النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم، فقال: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير
من حفصة، ثم خطبها، فزوجه عمر- وزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
عثمان بابنته رقية بعد وفاة أختها-[أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ] ،
والبخاري في النكاح، باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير) .
ولما أن زوجها عمر، لقيه أبو بكر فاعتذر، وقال: لا تجد عليّ، فإن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، كان قد ذكر حفصة، فلم أكن لأفشى سرّه، ولو
تركها لتزوجتها. [أخرجه البخاري، وهو قطعة من الحديث السابق] .
وروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، طلّق حفصة تطليقة، ثم راجعها
بأمر جبريل عليه السّلام له بذلك، وقال: إنها صوّامة قوّامة، وهي زوجتك في
الجنة. [حديث صحيح أخرجه أبو داود، وابن ماجة، من حديث عمر: أن رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها. وأخرجه النسائي من حديث ابن
عمر، واسناده صحيح] .
وحفصة، وعائشة، هما اللتان تظاهرتا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأنزل
اللَّه تعالى فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما
وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ
وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ، بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ* عَسى
رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ
مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ
وَأَبْكاراً [التحريم: 4- 5] أخرجه البخاري في التفسير، باب تَبْتَغِي
مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرّم
امرأته.
موسى بن على بن رباح، عن أبيه، عن عقبة، قال: طلق رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم حفصة، فبلغ ذلك عمر رضى اللَّه عنه، فحثا على رأسه التراب، وقال:
ما يعبأ اللَّه بعمر وابنته. فنزل جبريل من الغد، وقال للنّبيّ صلّى اللَّه
عليه وسلم: إن اللَّه يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر- رضى اللَّه
عنهما-[أخرجه الطبراني في (الكبير) ] .
توفيت حفصة سنة إحدى وأربعين، وقيل: توفيت سنة خمس وأربعين بالمدينة، وصلّى
عليها والى المدينة مروان. [قاله الواقدي، عن معمر، عن الزهري، عن سالم.
ذكره ابن مسعود في (الطبقات) ] .
ومسندها في كتاب (بقي بن مخلد) ستون حديثا، اتفق لها الشيخان على أربعة
أحاديث، وانفرد مسلم بستة أحاديث، [فما اتفقا عليه هو في البخاري في
الأذان، باب الأذان بعد الفجر، ومسلم في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي
سنة الفجر، والبخاري في الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ومسلم في
الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم والبخاري في
الحج- باب التمتع والقرآن والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى،
ومسلم في الحج، باب أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحج المفرد، وما
انفرد به مسلم: هو عنده في صلاة
(6/47)
السهمي، رواه عنه جماعة من الثقات الحفاظ،
واتفقوا على إسناده، منهم:
شعيب بن أبى حمزة، وصالح بن كيسان، ويونس، وعقيل، ومحمد بن أخى الزهراء،
وسفيان بن حسين، والوليد بن محمد الموقرى، وعبيد اللَّه بن أبى زياد
الرصافيّ، وغيرهم، واتفقوا على لفظ واحد في قول أبى بكر لعمر رضى اللَّه
عنهما: لم يمنعني أن أرجع إليك شيئا إلا أنى قد كنت علمت أن رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم ذكر حفصة.
ورواه معمر بن راشد عن الزهري بهذا الإسناد فجوّده وأسنده وقال فيه:
لم يمنعني أنى أرجع إليك شيئا إلا أنى كنت سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم يذكرها، ولم أكن لأفشى سرّ رسول اللَّه، وهو حديث صحيح عن
الزهري، أخرجه البخاري في الصحيح من حديث معمر، ومن حديث صالح بن كيسان
وشعيب عن الزهري، إلا أن معمرا قال فيما حكى عنه هشام بن يوسف:
قال فيه خنيس بن حذافة أو حذيفة، والصحيح أنه خنيس بن حذافة بن
__________
[ () ] المسافرين، وفي الصيام، وفي الطلاق، وفي الفتن] .
ويروى عن عمر رضى اللَّه عنه: أن حفصة ولدت إذ قريش تبنى البيت، وقيل: بنى
بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في شعبان سنة ثلاث.
قال الواقدي: حدثني عليّ بن مسلم، عن أبيه، رأيت مروان فيمن حمل سرير حفصة،
وحملها أبو هريرة من دار المغيرة إلى قبرها. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ،
والحاكم في (المستدرك) ] .
حماد بن سلمة: أخبرنا أبو عمران الجونى، عن قيس بن زيد، أن النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم، طلّق حفصة، فدخل عليها خالاها: قدامة، وعثمان، فبكت،
وقالت: واللَّه ما طلقني عن شبع. وجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال:
قال لي جبريل: راجع حفصة، فإنّها صوّامة، قوّامة، وإنها زوجتك في الجنة.
[أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، والحاكم في (المستدرك) ، والطبراني كما في
(مجمع الزوائد) . وقيس بن زيد تابعي صغير مجهول، وباقي رجاله ثقات] .
لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 81- 86، (طبقات خليفة) : 334، (تاريخ
خليفة) : 66 (المعارف) : 135- 158- 184- 550، (المستدرك) :
4/ 17- 18، الاستيعاب) : 4/ 1811، ترجمة رقم (3297) ، (تهذيب التهذيب) :
12/ 439، ترجمة رقم (2763) ، (الإصابة) : 7/ 581، ترجمة رقم (11047) ،
(خلاصة تذهيب الكمال) :
(كنز العمال) : 13/ 697، (شذرات الذهب) : 1/ 10 و 16، (صفة الصفوة) : 2/
28، ترجمة رقم (128) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 83، (سير أعلام النبلاء) :
2/ 2227.
(6/48)
قيس، أخو عبد اللَّه بن حذافة الّذي
استعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو الّذي كان ينادى في أيام منى عن
أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أنها أيام أكل وشرب، وهو الّذي
قال: من أبى يا رسول اللَّه؟ قال: أبوك حذافة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر رضى اللَّه
عنه قال: تأيمت حفصة من رجل من قريش يقال له خنيس بن حذيفة أو حذافة، [شهد
مع] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بدرا، مات بالمدينة، فلقى عثمان رضى
اللَّه عنه فقال: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، قال: انظر في ذلك.
فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: ما أريد النكاح يومى هذا، فوجدت في نفسي، ثم
لقيت أبا بكر رضى اللَّه عنه فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فلم يرجع
إليّ شيئا، وكان وجدي عليه أشد من وجدي على عثمان، فلبثت ليالي، فخطبها إلى
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فزوجها إياه، فلقيني أبو بكر رضى اللَّه
عنه فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضت عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال:
قلت: نعم، قال: فإنّي كنت سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يذكرها،
ولم أكن لأفشى سرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولو تركها تزوجتها.
ورواه ابن وهب فقال: أخبرنى يونس عن ابن شهاب، أن سالم بن عبد اللَّه كان
يحدث أن عمر رضى اللَّه عنه حين تأيمته حفصة ... ، ثم ذكر نحو حديث معمر،
ورواه سويد بن سعيد فقال: حدثنا الوليد بن محمد عن الزهري، عن سالم، أنه
سمع أباه يحدث أن عمر قال: إن حفصة كان طلّقها أبو حذافة، قال عمر: فلقيت
عثمان ... ، ثم ذكر الحديث، ولم يذكر ابن عمر.
ورواه صالح عن ابن شهاب، أخبرنى سالم بن عبد اللَّه أنه سمع عبد اللَّه ابن
عمر يحدث أن عمر بن الخطاب حين تأيمته حفصة بنت عمر من
(6/49)
خنيس بن حذافة السهمي- وكان من أصحاب رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فتوفي بالمدينة- فقال عمر: أتيت عثمان بن
عفان ... ، الحديث.
ورواه يزيد بن هارون، أخبرنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم، عن ابن
عمر قال: لما [تأيمت] حفصة لقي عمر عثمان فعرضها عليه، فقال عثمان: ما لي
في النساء من حاجة، فلقيت أبا بكر فعرضتها عليه فسكت، فغضب على أبى بكر،
فإذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد خطبها فتزوجها، فلقى عمر أبا
بكر فقال: إني عرضت على عثمان ابنتي فردّ لي، وعرضت عليك فسكت، فأنا كنت
عليك أشد غضبا حين سكت عثمان، وقد روى فقال أبو بكر رضى اللَّه عنه [إن
رسول اللَّه] صلّى اللَّه عليه وسلم قد ذكر معنا شيئا وكان سرا وكرهت أن
أفشى السر.
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى جاريته مارية، وقد خرجت حفصة
من بيتها فجاءته، فدخلت حفصة وهي معه، فقالت: يا رسول اللَّه! أفي بيتي
وعلى فراشي؟ فقال: اسكتي، فلك اللَّه ألا أقربها أبدا ولا تذكري هذا لأحد،
فأخبرت به عائشة- وكانت لا تكتمها شيئا، إنما كان أمرهما واحدا
- فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ [ (1) ] ، الآيات، فكفر عن يمينه،
فقوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً [
(2) ] ، وقوله: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ [ (3) ] ، يعنى عائشة وحفصة رضى
اللَّه عنهما، فطلق حفصة تطليقة ثم راجعها [ (4) ] .
خرج الحاكم من حديث عمرو بن عون، حدثنا هشيم، وأخبرنا حميد عن أنس قال: لما
طلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حفصة أمر أن يراجعها فراجعها، قال
__________
[ (1) ] التحريم: 1
[ (2) ] التحريم: 3.
[ (3) ] التحريم: 4.
[ (4) ] (تفسير ابن كثير) : 4/ 412.
(6/50)
الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه [ (1) ] .
أيضا من حديث يحيى بن زكريا بن أبى زائدة، عن صالح بن صالح عن سلمة بن
كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن عمر رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها، قال: هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه [ (1) ] .
وله من حديث سليمان بن المغيرة، عم ثابت عن أنس، أن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم كانت له أمة، فلم تزل به حفصة حتى جعلها على نفسه حراما،
فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ [ (2) ] . الآية قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم [ (1) ] .
وخرج الطبراني من حديث ابن وهب، حدثني عمرو بن صالح الحضرميّ، عن موسى بن
على بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
طلق حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فوضع التراب على رأسه وقال: ما يعبأ
اللَّه بابن الخطاب بعد هذا، فنزل جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
فقال: إن اللَّه يأمرك أن تراجع حفصة [ (1) ] .
وقيل في سبب نزول الآيات غير ذلك، وقيل هم بطلاقها ولم يطلقها، وتوفيت في
جمادى سنة إحدى وأربعين، وقيل خمس وأربعين، وقيل سبع وعشرين، وأثبتها سنة
خمسة وأربعين، وصلّى عليها مروان بن الحكم، ونزل في قبرها عبد اللَّه بن
عمر، وعاصم بن عمر، وحمزة بن عبد اللَّه بن عمر، وعبيد اللَّه بن عبد
اللَّه بن عمر، ودفنت بالبقيع، وحمل مروان- وهو أمير المؤمنين يومئذ-
سريرها، ثم حمله أبو هريرة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 535، تفسير سورة التحريم، حديث رقم (3824/ 961) ،
وقال الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم، 4/ 16- 17، ذكر أم المؤمنين حفصة
بنت عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنهما- حديث رقم (6753/ 2351) ، (6754/ 2352)
، وكلاهما سكت عنه الذهبي في (التلخيص) .
[ (2) ] التحريم: 1.
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 16، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (6752/ 2350) ،
وقال الذهبي في (التلخيص) : هذه رواية الواقدي، وقد استقر الإجماع على
وهنه.
(6/51)
[أم المؤمنين زينب
بنت خزيمة]
[ (1) ] وزينب أم المساكين، بنت خزيمة بن الحارث بن عبد اللَّه بن عمرو بن
عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة العامرية، أخت ميمونة بنت الحارث بن
حرث، لأنها تزوجها الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد منافس بن قصي، أخو
عبيدة بن الحارث، ثم طلقها، فخلف عليها أخوه فأصيب يوم بدر، ومات بالصفراء،
فتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في شهر رمضان سنة ثلاث، زوجه
أبوها قبيصة بن عمر الهلالي، وأصدقها أربعمائة درهم، وقيل كانت تحت عبد
اللَّه بن جحش فلما قتل يوم أحد تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فأقامت عنده ثمانية أشهر، وقيل شهرين أو ثلاثة، وتوفيت في آخر شهر ربيع
الآخر، فدفنها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبقيع بعد ما صلّى
عليها.
__________
[ (1) ] هي زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد اللَّه الهلالية، وتدعى: أم
المساكين لكثرة معروفها. قتل زوجها عبد اللَّه بن جحش يوم أحد، فتزوجها
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولكن لم تمكث عنده إلا شهرين أو أكثر،
وتوفيت رضى اللَّه عنها.
وقيل: كانت أولا عند الطفيل بن الحارث، وما روت شيئا. وقال النسّابة عليّ
بن عبد العزيز الجرجاني:
كانت عند الطفيل، ثم خلف عليها أخوه الشهيد: عبيدة بن الحارث المطلبي.
لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 115- 116، (المعارف) : 87 و 135 و 185،
(المستدرك) : 4/ 37- 38، (الاستيعاب) : 4/ 1853، ترجمة رقم (3359) ،
(الإصابة) :
7/ 672، ترجمة رقم (11230) ، (شذرات الذهب) : 1/ 10، (المواهب اللدنية) :
2/ 89، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 218.
(6/52)
[أم المؤمنين أم
سلمة]
[ (1) ] وأم سلمة هند- وقيل: رملة، وليس بشيء- بنت أبى أمية، حذيفة ابن
المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت
له سلمة وعمر وزينب ودرة، ثم مات عنها في جمادى الآخرة سنة أربع، فلما
انقضت عدتها تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأعرس بها في شوال
منها، ويقال: إنه خطبها إلى نفسها فجعلت أمرها إليه.
ويقال: إنه قال لها: مري ابنك سلمة بن أبى سلمة يزوجك، فزوجها رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم وهو غلام.
ويقال: إن الّذي زوجه إياها عمر بن أبى سلمة، كما رواه [النسائي وأحمد] .
وقيل: إن عمر هذا هو عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، لأنه كان هو الخاطب
لها. والثابت أن سلمة زوّجه إياها.
قال أبو الحسن المدائني، عن إبراهيم بن أبى يحيى، عن حسين بن عبد اللَّه
ضمرة- مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم- عن جده، عن على رضى اللَّه عنه
قال: خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم سلمة فقالت: من يزوجني
ورجالي غيّب؟ قال:
ابنك، ويشهد أصحاب النبي، فزوجها ابنها وهو غلام.
__________
[ (1) ] هي السيدة المحجّبة، الطاهرة، هند بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبد
اللَّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرة، المخزومية، بنت عم خالد بن
الوليد، سيف اللَّه، وبنت عم أبى جهل بن هشام.
من المهاجرات الأول، كانت قبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عند أخيه من
الرضاعة: أبى سلمة بن عبد الأسد المخزومي، الرجل الصالح، دخل بها النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم في سنة أربع من الهجرة، وكانت من أجمل النساء
وأشرفهن نسبا، وكانت من آخر من مات من أمهات المؤمنين، عمّرت حتى بلغها
مقتل الحسين الشهيد، فوجمت لذلك، وغشي عليها، وحزنت عليه كثيرا، لم تلبث
بعده إلا يسيرا. وانتقلت إلى رحمة اللَّه.
ولها أولاد صحابيون: عمر، وسلمة، وزينب، ولها جملة، أحاديث، روى عنها سعيد
بن المسيب، وشقيق بن سلمة، والأسود بن يزيد، والشعبىّ، وأبو صالح السمان،
ومجاهد، ونافع بن جبير بن
(6/53)
__________
[ () ] مطعم، ونافع مولاها، ونافع مولى بن عمر، وعطاء بن أبى رباح، وشهر بن
حوشب، وابن أبى مليكة، وخلق كثير.
عاشت نحوا من تسعين سنة، وكانت تعدّ من فقهاء الصحابيات.
وأبوها: هو زاد الراكب، أحد الأجواد، قيل: اسمه حذيفة، وقد وهم من سماها:
رملة، تلك أم حبيبة. [قال في (اللسان) : وأزواد الركب من قريش: أبو أمية بن
المغيرة، والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى، ومسافر بن أبى عمرو
بن أمية عم عقبة. كانوا إذا سافروا فخرج معهم الناس، فلم يتخذوا زادا معهم
ولم يوقدوا، يكفونهم ويغنونهم] .
الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن سعيد بن يربوع، عم
عمر بن أبى سلمة، قال بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبى إلى أبى
قطن، في المحرّم سنة أربع، فغاب تسعا وعشرين ليلة، ثم رجع في صفر، وجرحه
الّذي أصابه يوم أحد منتقض، فمات منه، لثمان خلون من جمادى الآخرة، وحلّت
أمى في شوال، وتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ذكره ابن سعد في
(الطبقات) ] ، إلى أن قال:
وتوفيت سنة تسع وخمسين في ذي الحجة.
ابن سعد: أخبرنا أحمد بن إسحاق الخضرمي: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا
عاصم الأحول، عن زياد بن أبى مريم، قالت أم سلمة لأبى سلمة، بلغني أنه ليس
امرأة يموت زوجها، وهو من أهل الجنة، ثم لم تزوج إلا جمع اللَّه بينهما في
الجنة، فتعال أعاهدك ألا تزوج بعدي، ولا أتزوج بعدك، قال: أتطيعيننى؟ قالت:
نعم: قال: إذا مت تزوجي، اللَّهمّ ارزق أم سلمة بعدي رجلا خيرا منى، لا
يحزنها ولا يؤذيها.
فلما مات قلت: من خير من أبى سلمة؟ فما لبثت، وجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم فقام على الباب، فذكر الخطبة إلى ابن أخيها، أو ابنها، فقالت:
أردّ على رسول اللَّه، أو أتقدم عليه بعيالي. ثم جاء الغد فخطب. [رجاله
ثقات، وأخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، وفيه: ثم جاء الغد، فذكر الخطبة، فقلت
مثل ذلك، ثم قالت لوليها: إن عاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فزوّج،
فعاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فتزوجها] .
عفان:
حدثنا حماد، حدثنا ثابت، حدثني ابن عمر بن أبى سلمة. عن أبيه: أن أم سلمة
لما انقضت عدتها، خطبها أبو بكر، فردّته، ثم عمر، فردته، فبعث إليها رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: مرحبا، أخبر رسول اللَّه أنى غيري،
وأنى مصيبة، وليس أحد من أوليائي شاهدا. فبعث إليها: أما قولك إني مصيبة،
فإن اللَّه تعالى سوف يكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيري، فسأدعو اللَّه أن
يذهب غيرتك، وأما الأولياء، فليس أحد منهم إلا سيرضى بى. قالت يا عمر، قم
فزوج رسول اللَّه، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أما إني لا
أنقصك مما أعطيت فلانة، رحيين، وجرتين، ووسادة من أدم حشوها ليف،
قال: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأتيها، فإذا جاء أخذت زينب
فوضعتها في حجرها لترضعها، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حييا
كريما، يستحى فيرجع، فعل ذلك مرارا، ففطن عمار بن ياسر لما تصنع، قال:
فأقبل صلّى اللَّه عليه وسلم ذات يوم وجاء عمار- وكان أخاها لأمها- فدخل
عليها، فانتشلها من حجرها وقال: دعي هذه
(6/54)
وعن الأجلح عن الشعبي قال: قال رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم، أزوج بنت حمزة سلمة بن أبى سلمة مكافأة له، حيث
زوجني أمه. ذكره في كتاب (من زوّج أمه) .
__________
[ () ] المقبوحة المشقوحة، التي اذيت بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم، فدخل، فجعل يقلب بصرة في البيت يقول: أين زناب؟ ما فعلت زناب؟ قالت:
جاء عمار فذهب بها، قال: فبنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بأهله، ثم
قال: إن شئت أن أسبع لك سبّعت للنساء. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ،
وأحمد، والنسائي في النكاح، باب إنكاح الابن لأمه، وإسناده صحيح كما قال
الحافظ ابن حجر في (الإصابة) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) ، ووافقه
الذهبي في (التلخيص) ] . قولها: غبرى: كثيرة الغبرة، ومصبية: ذات صبيان
وأولاد صغار.
أبو أسامة، عن الأعمش، عن شقيق، عن أم سلمة، قالت: لما توفى أبو سلمة، أتيت
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت: كيف أقول؟ قال: قولي: اللَّهمّ أغفر
لنا وله، وأعقبنى منه عقبى صالحة، فقلتها، فأعقبني اللَّه محمدا صلّى
اللَّه عليه وسلم [إسناده صحيح، وأخرجه مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند
المريض، وأبو داود في الجنائز، باب ما يستحب أن يقال عند الميت من الكلام،
والترمذي في الجنائز، باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له
عنده والنسائي في الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر،
من طرق عن الأعمش، عن أبى وائل شقيق بن سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن
الملائكة يؤمنون على ما تقولون، قالت: فلما مات أبو سلمة، أتيت النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا حضرت
المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون، قالت:
فلما مات أبو سلمة، أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول
اللَّه، إن أبا سلمة قد مات، قال: قولي: اللَّهمّ اغفر لي وله، وأعقبنى منه
عقبى حسنة، قالت: فقلت، فأعقبني اللَّه من هو خير لي منه، محمدا صلّى
اللَّه عليه وسلم.
وقوله: أعقبنى، أي بدلنى وعوضني منه، أي في مقابلته عقبى حسنة، أي بدلا
صالحا.]
إسحاق السلولي: حدثنا عيسى بن عبد الرحمن السلمي، عن أبى إسحاق، عن صلة، عن
حذيفة، أنه قال لامرأته: إن سرّك أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تزوجي بعدي،
فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا، فلذلك حرم على أزواج النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم أن ينكحن بعده، لأنهن أزواجه في الجنة.
[رجاله ثقات] . وقد تزوجها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين حلت في شوال
سنة أربع، وتوفيت سنة إحدى وستين، رضى اللَّه تعالى عنها، ويبلغ مسندها
ثلاث مائة وثمانية وسبعين حديثا. اتفق البخاري ومسلم لها على ثلاثة عشر،
وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثلاثة عشر. رضى اللَّه تعالى عن الجميع. لها
ترجمة في: (مسند أحمد) : 6/ 288، (طبقات ابن سعد) : 8/ 86- 96، (طبقات
خليفة) : 334، (المعارف) : 128- 136، (الجرح والتعديل) : 9/ 464،
(المستدرك) : 4/ 19- 22، (الاستيعاب) :
4/ 1920- ترجمة رقم (4111) ، (تهذيب التهذيب) : 12/ 483، ترجمة رقم (2904)
(الإصابة) : 8/ 221، ترجمة رقم (12061) ، (وخلاصة تذهيب الكمال) :، (كنز
العمال) :
13/ 499، (شذرات الذهب) : 1/ 69، (المواهب اللدنية) : 2/ 84، (صفة الصفرة)
: 2/ 29 ترجمة رقم (129) ، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 201.
(6/55)
ويقال: كان السفير بن النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم وبين أم سلمة عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، ويقال: حاطب بن أبى
بلتعه، فقالت: إني مسنّة، فقال: وأنا أسنّ منك، قالت: فإنّي مصبية، قال: هم
في عيال اللَّه ورسوله، قالت:
فإنّي غيور، قال: أنا أدعوا اللَّه أن يذهب عنك الغيرة، فدعا لها، ثم إنه
تزوجها وأصدقها صلّى اللَّه عليه وسلم فراشا حشوه ليف، وقدما، وصحفة،
ومجشة، وابنتي لها في بيت أم المساكين، فوجد فيه جرة فيها شيء من شعير،
وإذا رحاء وبرمة، وفيها قعب من إهالة، فكان ذلك طعام رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم وأهله ليلة عرسه، وقال لها في صبحيتها: إنه ليس بك على
أهلك هوان، فإن شئت ثلّث لك أو خمّس أو سبّع، فإنّي لم أسبّع لامرأة من
نسائي قط، فقالت: اصنع ما شئت، فإنما أنا امرأة من نسائك.
ويقال: إنه قال لها: لك عندنا قطيفة تلبسينها في الشتاء وتفرشينها في
الصيف، ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحيان تطحنين بهما، وجرتان في إحداهما
ماء وفي الأخرى دقيق، وجفنة تعجنين وتثردين فيها، فقالت:
رضيت، فكان ذلك مهرها، ونزلت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمنزلة
لطيفة.
وتوفيت في شوال سنة تسع وخمسين، ودفنت بالبقيع، ونزل في قبرها ابناها سلمة
وعمر، وابن أخيها عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبى أمية، وقيل:
توفيت في شهر رمضان منها، وقيل: توفيت يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وصلّى
عليها أبو هريرة، وقيل: سعيد بن زيد، وهي آخر أمهات المؤمنين [موتا] ، وقال
عطاء: آخرهن موتا صفية، وهي أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وقيل: بل ليلى
بنت أبى خيثمة، زوج عامر بن ربيعة العنزي، خليفة الخطاب بن نفيل.
(6/56)
[أم المؤمنين زينب
بنت جحش]
[ (1) ] وزينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم
__________
[ (1) ] هي زينب بنت جحش بن رباب، وابنة عمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم، أمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، وهي أخت حمزة، وأبى أحمد، من
المهاجرات الأول، وكانت عند زيد، مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهي
التي يقول اللَّه فيها: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ
أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ
مَفْعُولًا [الأحزاب: 37] ، والّذي أخفاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: هو
إخبار اللَّه إياه أنها ستصير زوجته، وكان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول
الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد اللَّه تعالى إبطال ما كان أهل الجاهلية
عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الّذي
يدعى ابنا، ووقوع ذلك من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ليكون أدعى لقبولهم،
وقد أخرج الترمذي من طريق داود بن أبى هند، عن الشعبي، عن عائشة قالت:
لو كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي، لكتم هذه
الآية.
فزوجها اللَّه تعالى بنص كتابة، بلا ولى ولا شاهد، فكانت تفخر بذلك على
أمهات المؤمنين، وتقول زوجكن أهاليكن، وزوجني اللَّه من فوق عرشه. [أخرجه
البخاري في التوحيد، باب وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ،
من طريق أنس، قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم يقول: اتّق اللَّه وأمسك عليك زوجك.
قال أنس لو كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كاتما شيئا لكتم هذه.
قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تقول: زوجكم
أهاليكن، وزوجني اللَّه تعالى من فوق سبع سماوات. وفي رواية البخاري: كانت
تقول: إن اللَّه أنكحنى في السماء، أخرجه البخاري من حديث أنس قال: نزلت
آية الحجاب في زينب بنت جحش، وأطعم عليها يومئذ خبزا ولحما، وكانت تفخر على
نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وكانت تقول: إن اللَّه أنكحنى في
السماء.
وكانت رضى اللَّه عنها من سادة النساء، دينا، وورعا، وجودا، ومعروفا،
وحديثها في الكتب الستة، روى عنها ابن أخيها محمد بن عبد اللَّه بن جحش،
وأن المؤمنين أم حبيبة، وزينب بنت أبى سلمة، وأرسل عنها القاسم بن محمد.
توفيت في سنة عشرين، وصلّى عليها عمر رضى اللَّه عنه، وعن ابن عمر: لما
ماتت بنت جحش أمر عمر رضى اللَّه عنه مناديا: ألا يخرج معها إلا ذو محرم،
فقالت بنت عميس: يا أمير المؤمنين، ألا أريك شيئا رأيت الحبشة تصنعه
بنسائهم؟ فجعلت نعشا وغشته ثوبا، فقال: ما أحسن هذا وأستره! فأمر مناديا
فنادى: أن اخرجوا على أمكم. [إسناده صحيح، وهو في (طبقات ابن سعد) ، لكن
سقط من إسناده فيه ابن عمر، واستدركناه من (سير الأعلام) .
وهي التي كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: أسرعكن لحوقا بى أطولكن
يدا. وإنما عنى طوال يدها بالمعروف.
قالت عائشة: فكن يتطاولن أيهن أطول يدا، وكانت زينب تعمل وتصدّق، [والحديث
أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل زينب أم المؤمنين.
من طريق عائشة بنت طلحة، عن
(6/57)
__________
[ () ] عائشة أم المؤمنين قالت قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
أسرعكن لحاقا بى أطولكن يدا.
قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا قالت: فكانت أطولنا يدا زينب- لأنها كانت
تعمل بيدها وتصدّق.] .
وروى عن عائشة قالت: كانت زينب، أتقى اللَّه، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم،
وأعظم صدقة رضى اللَّه عنها [أخرجه مسلم في فضائل الصحابة من طريق الزهري،
أخبرنى محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن عائشة رضى اللَّه عنها في
خبر مطوّل، وفيه: قالت عائشة رضى اللَّه عنها:
فأرسل أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم، وهي التي كانت تسامينى منهن في المنزلة عند رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى
اللَّه، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشدّ ابتذالا لنفسها في
العمل الّذي تصدّق به، وتقرب به إلى اللَّه تعالى، ما عدا سورة من حدّة
كانت فيها، تسرع منها الفيئة] .
[وأخرجه أحمد من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة بلفظ: ولم أر امرأة خيرا
منها، وأكثر صدقة، وأوصل للرحم، وأبذل لنفسها في كل شيء يتقرب به إلى
اللَّه عز وجل، من زينب، ما عدا سورة من غرب حدّ كان فيها، توشك منها
الفيئة] .
ابن جريح عن عطاء، سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة رضى اللَّه عنها تزعم
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان يمكث عن زينب بنت جحش ويشرب عندها
عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها، فلتقل: إني أجد منك ريح
مغاير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، قال:
بل شربت عسلا عند زينب، ولن أعود له. فنزل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ
تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إلى قوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُما- الآيات من أول سورة التحريم- يعنى حفصة وعائشة، قوله:
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً: قوله بل شربت
عسلا. [أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب إذا حرّم طعاما. وفي الطلاق،
باب لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، ومسلم في الطلاق، باب وجوب
الكفارة على من حرّم امرأته ولم ينو الطلاق، وابن سعد في (الطبقات) ،
والبخاري في التفسير عن عائشة بلفظ: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا يدخل
عليها، فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغاير، قال: لا، ولكنى كنت
أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، لن أعود له، وقد حلفت ألا تخبري بذلك أحدا] .
[والمغافير: شراب مصنوع من الصمغ له ريح منكرة. وثمة سبب آخر في نزول
الآية: فقد أخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح فيما قاله الحافظ إلى مسروق
قال: حلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لحفصة لا يقرب أمته، وقال: هي
عليّ حرام، فنزلت الكفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل اللَّه له] .
[وأخرج الضياء المقدس في (المختارة) ، من مسند الهيثم بن كليب، ثم من طريق
جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم لحفصة: لا تخبري أحدا أن أم إبراهيم عليّ حرام، قال: فلم
يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل اللَّه تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ،
وأخرج الطبراني في عشرة النساء، وابن مردويه من طريق أبى بكر بن عبد
الرحمن، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم بمارية ببيت حفصة، فجاءت فوجدتها معه، فقالت: يا رسول اللَّه في بيتي
تفعل هذا معى دون نسائك، فذكر نحوه. وللطبراني من طريق الضحاك، عن ابن عباس
(6/58)
ابن دودان بن أسد بن خزيمة، أمها أميمة بنت
عبد المطلب بن هاشم، عمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، تزوجها زيد بن
حارثة- حبّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- وشكاها
__________
[ () ] قال: دخلت حفصة بيتها، فوجدته صلّى اللَّه عليه وسلم يطأ مارية،
فعاتبته، فذكر نحوه. قال الحافظ: وهذه طرق يقوى بعضها بعضا، فيحتمل أن تكون
الآية نزلت في السببين معا. وقد روى النسائي من طريق حماد، عن ثابت، عن أنس
هذه القصة مختصرة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم
تزل به حفصة وعائشة رضى اللَّه عنها حتى حرمها، فأنزل اللَّه تعالى: يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ] .
ويروى عن عمرة عن عائشة، قالت: يرحم اللَّه زينب، لقد نالت في الدنيا الشرف
الّذي لا يبلغه شرف، إن اللَّه زوجها، ونطق به القرآن، وإن رسول اللَّه قال
لنا: أسرعكن بى لحوقا أطولكن باعا.
فبشرها بسرعة لحوقها به، وهي زوجته في الجنة.
قال الحافظ الذهبي: وأختها هي حمنة بنت جحش، التي نالت من عائشة في قصة
الإفك، فطفقت تحامى عن أختها زينب، وأما زينب فعصمها اللَّه تعالى بورعها،
وكانت حمنة زوجة عبد الرحمن ابن عوف. ولها هجرة، وقيل: بل كانت تحت مصعب بن
عمير، فقتل عنها، فتزوجها طلحة، فولدت له محمد، وعمر، وكانت زينب بنت جحش
رضى اللَّه تعالى عنها صناع اليد، فكانت تدبغ، وتخرز، وتصدّق.
وقيل: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج بزينب في ذي القعدة سنة خمس،
وهي يومئذ بنت خمس وعشرين سنة، وكانت صالحة، صوامة، قوامة بارّة، ويقال
لها: أم المساكين.
سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
قال لزيد: اذكرها عليّ، قال:
فانطلقت، فقلت لها: يا زينب، أبشرى، فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
أرسل يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى، فقامت إلى مسجدها،
ونزل القرآن، وجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدخل عليها بغير
إذن.
[أخرجه مسلم في النكاح، باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب، والنسائي في
النكاح، باب صلاة المرأة إذا خطبت واستخارت ربها] .
ولزينب بنت جحش أحد عشر حديثا، اتفقا لها على حديثين. [البخاري في الجنائز،
باب إحداد المرأة علي غير زوجها، وفي الفتن، باب يأجوج ومأجوج، ومسلم في
الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وفي أول الفتن] .
وعن عثمان بن عبد اللَّه الجحشى، قال: باعوا منزل زينب بنت جحش من الوليد
بخمسين ألف درهم، حين هدم المسجد. لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 101،
115، (طبقات خليفة) :
332، (المعارف) : 215، 457، 555، (المستدرك) : 4/ 27- 29، (الاستيعاب) : 4/
1849، ترجمة رقم (3355) ، (تهذيب التهذيب) : 12/ 449، ترجمة رقم (2800) ،
(الإصابة) :
7/ 667 ترجمة رقم (11221) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 382، ترجمة رقم 68،
(كنز العمال) : 13/ 700، (شذرات الذهب) : 1/ 10، 31، (صفة الصفوة) : 2/ 33،
ترجمة رقم (131) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 87، (سير أعلام النبلاء) : 2/
211- 218، ترجمة رقم (21) .
(6/59)
إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
وقال: إنها سيئة الخلق، واستأمره في طلاقها، فقال له:
أمسك عليك زوجك يا زيد، ورآها صلّى اللَّه عليه وسلم فأعجبته، ثم إن زيدا
ضاق ذرعا بما رأى من سوء خلقها، فطلقها [ (1) ] ، فزوجها اللَّه بنبيه حين
انقضت عدتها، بغير مهر، ولا تولى أمرها أحد كسائر أزواجه.
وذكر ابن إسحاق أن [أخاها أحمد] بن جحش زوّجها، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلم
أصدقها أربعمائة درهم، وأولم عليها بشاة واحدة، ودعا الناس في صبيحة عرسها
فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون ولم يقوموا، فآذوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم،
فأنزل اللَّه تعالى آية الحجاب، وأنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ
غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [ (2) ] ، أي بلوغه ... الآية،
__________
[ (1) ]
قال أبو حيان الأندلسى: فجاء زيد فقال: يا رسول اللَّه، إني أريد أن أفارق
صاحبتي، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم:
أرابك منها شيء؟ قال: لا واللَّه، ولكنها تعظم عليّ لشرفها، وتؤذيني
بلسانها، فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، أي لا تطلقها، وهو أمر ندب،
وَاتَّقِ اللَّهَ في معاشرتها، فطلقها، وتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم بعد انقضاء عدتها،
وعلل تزويجه إياها بقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ
في أن يتزوجوا زوجات من كانوا يتبنوه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست
داخلات فيما حرّم في قوله:
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ، [النساء: 23] (البحر المحيط) : 8/ 481.
وقال على بن الحسين: كان قد أوحى اللَّه إليه أن زيدا سيطلقها، وأنه
يتزوجها بتزويج اللَّه إياها، فلما شكا زيد خلقها، وأنها لا تطيعه، وأعلمه
بأنه يريد طلاقها، قال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ،
على طريق الأدب والوصية، وهو يعلم أنه سيطلقها، وهذا هو الّذي أخفى في
نفسه، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق، ولما علم من أنه سيطلقها، وخشي رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد
زيد، وهو مولاه، أمره بطلاقها، فعاتبه اللَّه على هذا القدر في شيء قد
أباحه اللَّه بأن قال: أَمْسِكْ، مع علمه أن يطلق، فأعلمه أن اللَّه أحق
بالخشية، أي في كل حال، (المرجع السابق) : 482.
وهذا المروي عن على بن الحسين، هو الّذي عليه أهل التحقيق من المفسرين،
كالزهرى، وبكر بن العلاء، والقشيري، والقاضي أبى بكر بن العربيّ، وغيرهم.
والمراد بقوله: وَتَخْشَى النَّاسَ، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء
الأبناء، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم معصوم في حركاته وسكناته. ولبعض
المفسرين كلام في الآية، يقتضي النقص من منصب النبوة، ضربنا عنه صفحا
(المرجع السابق) : 482.
وروى أبو عصمة: نوح بن أبى مريم، بإسناد رفعه إلى زينب أنها قالت: ما كنت
أمتنع منه، غير أن اللَّه منعني منه، وقيل: إنه منذر تزوجها لم يتمكن من
الاستمتاع بها. وروى أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها. (المرجع
السابق) : 483.
[ (2) ] الأحزاب: 53.
(6/60)
وقالت زينب للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم
لست كسائر نسائك، إني أدلّ بثلاث ما من نسائك من يدلّ بهن: جدك وجدي واحد،
ونكحتك من السماء، وكان جبريل السفير في أمرى.
وقالت عائشة: رضى اللَّه عنها: يرحم اللَّه زينب، لقد نالت الشرف الّذي لا
يبلغه شرف في الدنيا: أن اللَّه زوجها نبيّه، ونطق بذلك كتابه، وأن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال ونحن حوله: أسرعكن لحوقا بى أطولكن يدا-
أو قال:
باعا- فبشرها بسرعة لحاقها به، وأنها زوجته في الجنة،
وكانت زينب تقول لأزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: زوجكن أولياؤكن
بمهور، وزوجني اللَّه.
وكان تزويج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إياها في سنة خمس، وقيل في
سنة ثلاث، ولما بشّرت بتزويج اللَّه نبيه إياها، ونزول الآية في ذلك، جعلت
على نفسها صوم شهرين شكرا للَّه، وأعطيت من بشّرها حليا [كانت] عليها.
ولا خلاف أنها كانت قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تحت زيد بن
حارثة، وأنها التي ذكر اللَّه تعالى في قوله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها
وَطَراً زَوَّجْناكَها [ (1) ] ، ولما دخلت عليه قال: ما اسمك؟ قالت: برّة،
فسماها زينب، ولم يكن أحد من نسائه يشارك عائشة رضي اللَّه عنها في حسن
المنزلة غير زينب بنت جحش، وغضب عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
لقولها في صفية بنت حيّى:
حتى تلك اليهودية، وهجرها لذلك ذا الحجة والمحرم وبعض صفر، ثم أتاها بعد
وعاد إلى ما كان عليه معها.
وذكر الحاكم أنه رضى عنها في شهر ربيع الأول الّذي قبض فيه، فلما دخل عليها
قالت: ما أدرى ما أجزئك، فوهبت له جارية اسمها نفيسة [ (2) ] .
وخرج من حديث عبد العزيز الأريش، حدثنا عبد الرحمن بن أبى
__________
[ (1) ] الأحزاب: 53.
[ (2) ] سبق تخريجه في ترجمتها.
(6/61)
الرجال عن أبيه، عن عمرو عن عائشة قالت:
أهدى لي لحم، فأمرنى رسول اللَّه أن أهدى منه لزينب، فأهديت لها فردته،
فقال: زيديها، فزدتها، فردته، فقال: أقسمت عليك إلا زدتيها، فزدته، فدخلتني
غيره، فقلت:
لقد أهانيك، [فقال] : أنت وهي أهون على اللَّه من أن يهينني منكن أحد،
أقسمت لا أدخل عليكن شهرا.
فغاب عنا تسعا وعشرين، ثم دخل علينا مساء الثلاثين فقلت: كنت [حلفت] أن لا
تدخل شهرا، فقال: شهر هكذا وشهر هكذا، وفرق بين كفيه وأمسك في الثالث
الإبهام. قال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وفيه البيان أن
أقسمت على كذا يمين وقسم.
وتوفيت سنة عشرين، وقيل: إحدى وعشرين، وصلّى عليها عمر رضى اللَّه عنه،
ودفنت بالبقيع، ونزل في قبرها محمد بن عمر بن جحش، وعبد اللَّه بن أحمد بن
جحش، وأسامة بن زيد، وضرب عمر على قبرها فسطاطا من شدة الحر، فكانت أول
أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وفاة بعده.
(6/62)
[أم المؤمنين أم
حبيبة]
[ (1) ] وأم حبيبة رملة، وقيل: هند- ورملة أثبت- ابنة أبى سفيان صخر بن
__________
[ (1) ] هي السيدة المحجّبة: رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد
شمس ابن عبد مناف بن قصي. مسندها خمسة وستون حديثا، واتفق لها البخاري
ومسلم على حديثين، وتفرد مسلم بحديثين [البخاري في النكاح، باب وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، وفي الطلاق، باب
الكحل للحادة، ومسلم في الرضاع، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة، وفي
الطلاق، باب وجوب الإحداد، وفي صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة قبل
الفرائض وبعدهن، وفي الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن
من مزدلفة إلى مني في أواخر الليل قبل زحمة الناس] .
وهي من بنات عم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم، ليس في أزواجه من هي أقرب
نسبا إليه منها، ولا في نسائه من هي أكثر صداقا منها، ولا من تزوج بها وهي
نائية الدار أبعد منها، عقد له صلّى اللَّه عليه وسلم عليها بالحبشة،
وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربعمائة دينار وجهزها بأشياء، روت عنه عدّة
أحاديث، وقبرها بالمدينة.
قال ابن سعد: ولد أبو سفيان: حنظلة المقتول يوم بدر، وأم حبيبة، توفى عنها
زوجها الّذي هاجر بها إلى الحبشة: عبيد اللَّه بن جحش بن رياب الأسدي،
مرتدا متنصرا.
عقد عليها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم بالحبشة سنة ست، وكان الولي عثمان
بن عفان. [ (الاستيعاب) (والمستدرك) ] معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أم
حبيبة: أنها كانت تحت عبيد اللَّه، وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
تزوجها بالحبشة، زوجها إيها النجاشىّ، ومهرها أربعة آلاف درهم، وبعث بها مع
شرحبيل بن حسنة، وجهازها كله من عند النجاشىّ. [إسناده صحيح، أخرجه أبو
داود في النكاح، باب الصداق، والنسائي في النكاح، باب القسط في الأصدقة،
وأحمد في (المسند) ] .
وقيل: إن أم حبيبة لما جاء أبوها إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ليؤكد
عقد الهدنة، ودخل عليها، فمنعته أن يجلس على فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم لمكان الشرك. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) من طريق الواقدي، عن
محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري] .
وأما ما ورد من طلب أبى سفيان من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن يزوجه بأم
حبيبة، فما صحّ، ولكن الحديث في مسلم، وحمله الشارحون على التماس تجديد
العقد. [مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبى سفيان بن حرب، وقد أعله
غير واحد من الأئمة] .
وقد كان لأم حبيبة حرمة وجلالة، ولا سيما في دولة أخيها ولمكانه منها قيل
له: خال المؤمنين [كذا قاله الذهبي في (سير الأعلام) . لكن قال القسطلاني
في (المواهب اللدنية) : ولا يقال: بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن
وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخوتهن ولا أخواتهن أخوال وخالات] .
قال الواقدي، وأبو عبيد، والفسوي: ماتت أم حبيبة سنة أربع وأربعين.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري، قال: لما قدم أبو سفيان
المدينة، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم
(6/63)
حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أمها
صفيّا بنت أبى العاص، عمة عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه، تزوجها عبيد
اللَّه بن جحش، فولدت له جارية سميت حبيبة، فكنيت بها، وهاجر بها إلى
الحبشة، فتنصّر، وثبتت أم حبيبة على الإسلام، فلما هلك عبيد اللَّه رأت في
منامها أباها يقول لها: يا أم المؤمنين.
وكتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سنة سبع- وهو الثابت- كتابين
إلى النجاشي يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويأمره في الثاني أن يخطب عليه
أم حبيبة، وأن يبعث من قبله من المسلمين مع عمرو بن أمية الضمريّ، وهو كان
رسوله بالكتابين.
وقال الحافظ أبو نعيم: فأما بعثة عمرو بن أمية الضمريّ من قبل رسول اللَّه
إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان وإجابته إلى ذلك، فلا أعلم
خلافا أنه كان بعد مرجعه صلّى اللَّه عليه وسلم من خيبر، وذلك بعد خمس سنين
__________
[ () ] يريد غزو مكة، فكلمه في أن يزيد في الهدنة، فلم يقبل عليه، فقام
فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم طوته دونه، فقال: يا بنية! أرغبت بهذا الفراش عنى، أم بى عنه؟
قالت: بل هو فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأنت امرؤ نجس مشرك،
فقال: يا بنيه، لقد أصابك بعدي شرّ.
[أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ] .
قال عطاء: أخبرنى ابن شوال، أن أم حبيبة أخبرته، أن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم أمرها أن تنفر من جمع بليل. [أخرجه مسلم في الحج، باب
استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى منى قبل زحمة
الناس، وابن سعد في (الطبقات) ، وجمع: علم للمزدلفة، وابن شوال هو سالم
مولى أم حبيبة] .
قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن أبى سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عوف بن
الحارث:
سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا ما
يكون بين الضرائر، فغفر اللَّه لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر اللَّه لك
ذلك كله وحلّلك من ذلك، فقالت: سررتني سرّك اللَّه، وأرسلت إلى أم سلمة،
فقالت لها مثل ذلك: [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، والحاكم في (المستدرك) ]
. لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 7/ 577- 581، (طبقات ابن سعد) :
8/ 96- 100، (طبقات خليفة) : 332، (تاريخ خليفة) : 79، 86، (المعارف) :
136، 344، (الجرح والتعديل) : 9/ 461، (المستدرك) : 4/ 21- 24، (الاستيعاب)
: 4/ 1929، ترجمة رقم (4136) ، (تهذيب التهذيب) : 12/ 448، ترجمة رقم
(2793) ، (الإصابة) : 7/ 651- 654، ترجمة رقم (11185) ، (خلاصة تذهيب
الكمال) : (شذرات الذهب) : 1/ 54، (صفة الصفوة) : 2/ 31- 33 ترجمة رقم
(130) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 85- 87، (سير أعلام النبلاء) :
2/ 218، ترجمة رقم (23) .
(6/64)
وأشهر مضت من هجرته إلى المدينة، وأن
النجاشي أصدقها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعمائة دينار،
دفعها من ماله إليها [ (1) ] .
وفي صحيح ابن حبان عن ابن شهاب عن عروة، عن عائشة قالت: هاجر عبد اللَّه بن
جحش بأم حبيبة بنت أبى سفيان- وهي امرأته- إلى أرض الحبشة، فلما قدم أرض
الحبشة مرض، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى رسول اللَّه، فتزوج رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة، وبعث بها النجاشي مع شرحبيل بن حسنة [ (2)
] .
فأسلم النجاشي، ووجه إلى أم حبيبة جارية له يقال لها: أبرهة لتعلمها بذلك
وتبشرها بذلك وتبشرها به، فوهبت لها أم حبيبة [حلة] كانت عليها وكستها.
ثم وكلت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية- وهو ابن عمها- بتزويجها، فخطبها
عمرو بن أمية إليه، فزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ومهرها عنه
النجاشىّ أربعمائة دينار- وقيل: مائتي دينار، وقيل أربعة آلاف درهم- وبعث
بها إليها مع أبرهة، فوهبتها منها خمسين مثقالا فلم تقبلها، وردت ما كانت
أعطتها أولاد، وذلك أن النجاشي أمرها برده.
وهيأ النجاشي طعاما أطعمه من حضره من المسلمين، وأهدى إلى رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم كسوة جامعة، وأمر نساءه أن يبعثن إلى أم حبيبة فبعثن لها
بعود وروس وعنبر وزيادة كثير، قدمت به على رسول اللَّه، وكان يراه عندها
وعليها فلا ينكره.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه في ترجمتها.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 6/ 429، باب (66) القسط في الأصدقة، حديث رقم
(3350) ، (سنن أبى داود) : 2/ 583، كتاب النكاح، باب (29) الصداق، حديث رقم
(2107) ، (2108) ، وقال الخطابي في (معالم السنن) : وقد روى أصحاب السير أن
الّذي عقد النكاح عليها خالد بن سعيد بن العاص، وهو ابن عم أبى سفيان- وأبو
سفيان إذا ذاك مشرك- وقبل نكاحها عمرو بن أبى أمية الضمريّ، وكله رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، (مسند أحمد) : 7/ 579 حديث رقم (26862) ،
(الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 13/ 385- 386، كتاب الوصبة، باب ذكر
إباحة وصية المرء وهو في بلد ناء إلى الموصى إليه في بلد آخر، حديث رقم
(6027) ، وإسناد صحيح على شرط البخاري.
(6/65)
فلما قدم عمرو بن أمية بأم حبيبة المدينة،
ابنتي بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والثابت أنها قدمت مع عمرو
في إحدى السفينتين أيام خيبر، وقيل: بل بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم أبا عامر الأشعري حين بلغه خطبة عمرو أم حبيبة وتزويج خالد إياها،
فحملها إليه قبل قدوم أهل السفينتين وهيأ النجاشي طعاما أطعمه من حضره من
المسلمين، وأهدى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كسوة جامعة، وأمر
نساءه أن يبعثن إلى أم حبيبة فبعثن لها بعود وروس وعنبر وزياد كثير، قدمت
به على رسول اللَّه، وكان يراه عندها وعليها فلا ينكره.
وأن أبا سفيان قال: أنا أبوها أم أبو عامر؟ وقيل: بل بعث إليها شرحبيل بن
حسنة فجاءه بها.
قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، أن أم حبيبة بعث بها
النجاشي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة، ولما بلغ أبو
سفيان تزوّج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة قال: ذلك الفحل لا
[يقدع] أنفه [ (1) ] .
وقال ابن عباس رضى اللَّه عنه في قول اللَّه تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [
(2) ] ، نزلت حين تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى
سفيان بن [حرب] [ (3) ] وقيل قدم عمرو بن أمية بأم
__________
[ (1) ] القدع: الكفّ والمنع، وفلان لا يقدع أنفه، أي لا يرتدع، وهذا فحل
لا يقدع أي لا يضرب أنفه، وذلك إذا كان كريما، وفي حديث زواجه صلّى اللَّه
عليه وسلم خديجة رضى اللَّه عنها: قال ورقة ابن نوفل: محمد يخطب خديجة، هو
الفحل لا يقدع أنفه (لسان العرب) : 8/ 260.
[ (2) ] الممتحنة: 7.
[ (3) ] وقد قال مقاتل بن حيان: إن هذه الآية نزلت في أبى سفيان صخر بن
حرب، فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج ابنته، فكانت هذه مودة ما
بينه وبينه. وفي هذا يقول العلامة محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسى
الغرناطي: ومن ذكر أن هذه المودة هي تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أم
حبيبة بنت أبى سفيان، وأنها كانت بعد الفتح فقد أخطأ، لأن تزويجها كان وقت
هجرة الحبشة، وهذه الآيات سنة ست من الهجرة، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا
أن يسوقه مثالا، وإن كان متقدما لهذه الآية، لأنه استمر
(6/66)
حبيبة مع أصحاب السفينتين فخطبها رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه، فزوجه
إياها، والأول أثبت، وتوفيت رضى اللَّه عنها سنة أربع وأربعين، وقيل سنة
اثنتين وأربعين، وصلّى عليها مروان.
وقد وقع في صحيح مسلم من حديث عكرمة بن عمار قال: حدثنا أبو زميل قال:
حدثني ابن عباس رضى اللَّه عنه قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبى سفيان
ولا يقاعدونه، فقال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم يا نبي اللَّه! ثلاثة
أعطينهنّ، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبى سفيان
أزوجكها، قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال: نعم، قال:
وتؤمّرنى حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم.
قال أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما أعطاه
ذلك، لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال: نعم [ (1) ] .
قال أبو عبد اللَّه محمد بن أبى نصر الحميدي رحمه اللَّه: قال لنا بعض
الحفاظ: هذا الحديث وهم فيه بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين اثنين من أهل
المعرفة بالأخبار، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج أم حبيبة رضى
اللَّه عنها قبل الفتح بدهر وهي بأرض الحبشة، وأبوها كافر يومئذ [ (2) ] .
__________
[ () ] بعد الفتح كسائر ما نشأ من المؤدّات، قاله ابن عطية. (البحر المحيط)
: 10/ 156.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 296، كتاب (44) ، فضائل الصحابة باب (40)
من فضائل أبى سفيان بن حرب، رضى اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (168) .
[ (2) ] قال الإمام محيي الدين أبو زكريا بن شرف النووي: واعلم أن هذا
الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال، ووجه الإشكال أن أبا سفيان إنما
أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل.
قال أبو عبيدة، وخليفة بن خياط، وابن البرقي، والجمهور: تزوجها سنة ست،
وقيل: سنة سبع، قال القاضي عياض: واختلفوا أين تزوجها، فقيل: بالمدينة بعد
قدومها من الحبشة، وقال الجمهور: بأرض الحبشة. قال: واختلفوا فيمن عقد له
عليها هناك، فقيل: عثمان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص بإذنها، وقيل:
النجاشىّ لأنه كان أمير الموضع وسلطانه.
(6/67)
قال كاتبه: وقد استغرب من مسلم رحمه اللَّه
كيف لم ينتبه لهذا الحديث؟ فإنه لا يخفى عليه أن أبا سفيان إنما أسلم ليلة
فتح مكة، وقد كان بعد تزويج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة
بأكثر من سنة بلا خلاف، وقد أشكل هذا الحديث على الناس واختلفوا فيه، ووجه
إشكاله أن أم حبيبة تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل إسلام
أبى سفيان كما تقدم، زوّجها إياه النجاشي، ثم قدمت على رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم قبل أن يسلم أبوها، فكيف يقول بعد الفتح: أزوجك أمّ
حبيبة؟ فقالت طائفة من أهل الحديث: هذا الحديث كذب لا أصل له.
قال أبو محمد على بن سعيد بن حزم: كذبه عكرمة بن عمار وحمل عليه، واستعظم
ذلك آخرون وقالوا: إني يكون في صحيح مسلم حديث مرفوع؟ وإنما وجه الحديث أنه
طلب من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن يجدد له العقد على
__________
[ () ] وقال القاضي عياض: والّذي في مسلم هنا أنه زوّجها أبو سفيان غريب
جدا، وخبرها مع أبى سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور، ولم يزد
القاضي على هذا.
وقال ابن حزم: هذا الحديث وهم من بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين الناس أن
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل الفتح بدهر وهي بأرض
الحبشة، وأبوها كافر، وفي رواية عن ابن حزم أيضا أنه قال: أنه موضوع. قال:
والآفة فيه من عكرمة بن عمار، الراويّ عن أبى زميل، وأنكر الشيخ أبو عمرو
بن الصلاح رحمه اللَّه هذا أيضا على ابن حزم، وبالغ في الشناعة عليه.
قال: وهذا القول من جسارته فإنه كان هجوما على تخطئة الأئمة الكبار، وإطلاق
اللسان فيهم.
قال: ولا نعلم أحدا من أئمة الحديث نسب عكرمة بن عمار إلى وضع الحديث، وقد
وثقه وكيع، ويحيى بن معين، وغيرهما، وكان مستجاب الدعوة.
قال: وما توهمه ابن حزم من منافاة هذا الحديث لتقدم زواجها غلط منه وغفلة،
لأنه يحتمل أنه سأله تجديد عقد النكاح تطييبا لقلبه، لأنه ربما يرى عليها
غضاضة من رياسته ونسبه، أن تزوج بنته بغير رضاه، أو أنه ظن أن إسلام الأب
في مثل هذا يقتضي تجديد العقد، وقد خفي أوضح من هذا على أكبر مرتبة من أبى
سفيان ممن كثر علمه، وطالت صحبته، هذا كلام أبى عمرو رحمه اللَّه، وليس في
الحديث أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم جدّد العقد: ولا قال لأبى سفيان أنه
يحتاج إلى تجديده، فلعله صلّى اللَّه عليه وسلم أراد بقوله: نعم، أن مقصودك
يحصل، وإن لم يكن بحقيقة عقد. واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) :
16/ 296.
(6/68)
ابنته ليتقى له بذلك وجهه بين المسلمين.
واعترض على هذا القول بأن في الحديث: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وعده
وهو الصادق الوعد، ولم ينقل أحد قط أنه صلّى اللَّه عليه وسلم جدد العقد
على أم حبيبة، ومثل هذا لو كان لنقل، فحيث لم ينقله أحد قط علم أنه لم يقع.
ولم يردّ القاضي [عياض] على استشكال الحديث فقال: والّذي وقع في مسلم من
هذا غريب جدا عند أهل الخبر، وخبرها مع أبى سفيان عند وروده المدينة بسبب
تجديد الصلح ودخوله عليها مشهور.
وقالت طائفة: ليس الحديث بباطل، وإنما سأل أبو سفيان النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم، أن يزوجه ابنته الأخرى على أختها أم حبيبة، قالوا: ولا يبعد أن
يخفى هذا على أبى سفيان لحداثة عهده بالإسلام، كما خفي على ابنته أم حبيبة
حتى
سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يتزوجها، فقال: إنها لا تحل لي،
فأراد أبو سفيان أن يتزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ابنته الأخرى،
والتبعة على الراويّ. وذهب وهمه إلى أنها أم حبيبة وهذه التسمية من غلط بعض
الرواة لا من قول أبى سفيان.
قال شيخنا العماد عمر بن كثير- رحمه اللَّه-: والصحيح في هذا أن أبا سفيان
لما رأى صهر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [رفع من قدره] [ (1) ] أحب أن
يزوجه ابنته الأخرى- وهي عزة- واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، كما أخرجاه
في الصحيحين عن أم حبيبة أنها قالت: يا رسول اللَّه! أنكح أختى بنت أبى
سفيان، فقال: وتحبين ذلك؟ قلت: نعم.. الحديث [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق، ومكانها مطموس في (خ) .
[ (2) ]
أخرجه البخاري في (الصحيح) قال: حدثنا عبد اللَّه بن يوسف، حدثنا الليث عن
عقيل، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير أخبره أن زينب ابنة أبى سلمة أن أم
حبيبة قالت: قلت: يا رسول اللَّه، أنكح أختى بنت أبى سفيان، قال: وتحبين؟
قلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختى، فقال النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قلت: يا رسول اللَّه، فو اللَّه إنا
لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبى سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ فقلت: نعم،
قال: فو اللَّه لو لم تكن في حجري ما
(6/69)
__________
[ () ] حلت لي، إنها لابنة أخى من الرضاعة، أرضعتنى وأبا سلمة ثويبة- فلا
تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن. (فتح الباري) : 9/ 198، كتاب النكاح، باب
(27) وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، حديث
رقم (5107) ، (مسلم بشرح النووي) : 9/ 278، كتاب الرضاع، باب (4) تحريم
الربيبة وأخت المرأة، حديث رقم (15) ،
وقال الإمام النووي: هذا الإسناد فيه أربعة تابعيون:
أولهم: بكير بن عبد اللَّه بن الأشج، روى عن جماعة من الصحابة، والثاني عبد
اللَّه بن مسلم الزهري أخو الزهري المشهور وهو تابعي سمع ابن عمرو آخرين من
الصحابة، وهو أكبر من أخى الزهري المشهور، والثالث: محمد بن مسلم الزهري
المشهور، وهو أخو عبد اللَّه الراويّ عنه كما ذكرنا، والرابع: حميد بن عبد
الرحمن بن عوف، وهو الزهري، تابعيان مشهوران.
ففي هذا الإسناد ثلاث لطائف من علم الإسناد: إحداها: كونه جمع أربعة تابعين
بعضهم عن بعض، الثانية: أن فيه رواية الكبير عن الصغير، لأن عبد اللَّه
أكبر من أخيه محمد كما سبق، الثالثة: أن فيه رواية الأخ عن أخيه.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي
إنها ابنة أخى من الرضاعة» ،
معناه أنها حرام عليّ بسببين: كونها ربيبة، وكونها بنت أخى، فلو فقد أحد
السببين حرمت بالآخر، والربيبة بنت الزوجة، مشتقة من الربّ، وهو الإصلاح،
لأنه يقوم بأمورها، ويصلح أحوالها.
ووقع في بعض كتب الفقه أنها مشتقة من التربية، وهذا غلط فاحش، فإن من شرط
الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية، ولام الكلمة، وهو الحرف الأخير مختلف،
فإن آخر ربّ باء موحدة، وفي آخر ربّى ياء مثناة من تحت، واللَّه تعالى
أعلم.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «ربيبتي في حجري» ،
ففيه حجة لداود الظاهري أن الربيبة لا تحرم إلا إذا كانت في حجر زوج أمها،
فإن لم تكن في حجره فهي حلال له، وهو موافق لظاهر قوله تعالى:
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ، ومذهب العلماء كافة سوى داود
أنها حرام، سواء كانت في حجره أم لا.
قالوا: والتقييد إذا خرج على سبب لكونه الغالب، لم يكن له مفهوم يعمل به،
فلا يقصر الحكم عليه، ونظيره قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ
مِنْ إِمْلاقٍ، ومعلوم أنه يحرم قتلهم بغير ذلك أيضا، لكن خرج التقييد
بالإملاق لأنه الغالب، وقوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى
الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً، ونظائره في القرآن كثيرة.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «أرضعتنى وأباه ثويبة» ،
أباها بالباء الموحدة، أي أرضعتنى أنا وأبوها أبو سلمة، من ثوبية بثاء
مثلثة مضمومة، ثم واو مفتوحة ثم ياء التصغير ثم باء موحدة ثم هاء، وهي
مولاة لأبى لهب، ارتضع منها صلّى اللَّه عليه وسلم قبل حليمة السعدية رضى
اللَّه عنها.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «فلا تعرضوا عليّ بناتكن ولا أخواتكن» ،
إشارة إلى أخت أم حبيبة، وبنت أم سلمة، واسم أخت أم حبيبة هذه: عزّة، بفتح
العين المهملة، وهذا محمول على أنها لم تعلم حينئذ تحريم
(6/70)
وعلى هذا فيصح الحديث الأول، ويكون قد وقع
الوهم من بعض الرواة في قوله: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة، وإنما قال:
عزة، فشبه على الراويّ، أو أنه قال- يعنى الشيخ-: ابنته، فتوهم السامع أنها
أم حبيبة، إذا لم يعرف سواها، ولهذا النوع من الغلط شواهد كثيرة، قلما قررت
سرد ذلك في خبر مفرد لهذا الحديث، وللَّه الحمد، وهذا القول جيد، لكن سرده
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: نعم، فأجابه إلى ما سأل، ولو كان
المسئول أن يزوجه أخت أم حبيبة لقال: إنها لا تحل لي كما قال ذلك لأم
حبيبة، ولولا هذا لكان هذا التأويل في الحديث من أحسن التأويل.
وقال ابن طاهر المقدسي في (مسألة الانتصار) : والشبهة التي حملته- يعنى ابن
حزم- على الكلام في عكرمة بن عمار بغير حجة، هي أن النجاشي زوّج أم حبيبة
من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، ثم بعث بها إلى المدينة
قبل إسلام أبى سفيان.
والجواب عن هذه الشبهة: أن أبا سفيان لما أسلم أراد بهذا القول تجديد
النكاح، لأنه إذا ذاك كان مشركا، فلما أسلم ظن أن النكاح [يجدد] بإسلام
الولي، وخفي ذلك عليه، وقد خفي على أمير المؤمنين على بن أبى طالب الحكم في
الّذي [] [ (1) ] مع قدم إسلامه وصحبته وعلمه وفقهه، حتى أرسل المقداد فسأل
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن ذلك، وخفي على عبد اللَّه بن عمر
الحكم في طلاق الحائض، حتى سأل عمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فأمره بالسنة
__________
[ () ] الجمع بين الأختين، وكذا لم تعلم من عرض بنت أم سلمة تحريم الربيبة،
وكذا لم تعلم من عرض بنت حمزة تحريم بنت الأخ من الرضاعة، أو لم تعلم أن
حمزة أخ له من الرضاع، واللَّه تعالى أعلم.
(المرجع السابق) .
وأخرجه أيضا الحافظ البيهقي في (السنن الكبرى) : 7/ 162، كتاب النكاح، باب
ما جاء في قول اللَّه تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) .
(6/71)
في ذلك.
ولهذا نظائر غير خافية بين أهل النقل، [والرجوع] إلى هذا التأويل أولى من
التخطي إلى الكلام في رجل ثقة، وإبطال حديث ورد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم، متصل الإسناد، معتمد الرواة. وأما قول أبى زميل: حدثنا ابن
الوليد، فهو مقصور عليه، لم ينسبه إلى من فوقه، فتكلم عليه.
قال جامعة: وقد تبع ابن طاهر على هذا الجواب أبو عمر بن الصلاح إلى الشيخ
أبى زكريا النووي في (شرح مسلم) ، وهذا تأويل بعيد جدا، لأنه لو كان كذلك
لم يقل: عندي أحسن العرب وأجمله، إذ قد رآها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم منذ سنة فأكثر، وتوهّم فسخ نكاحها بإسلامه بعيد جدا.
وقالت طائفة لم يتفق أهل النقل على أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج أم
حبيبة بأرض الحبشة، حكاه أبو محمد المنذرىّ، وهذا من أضعف الأجوبة لوجوه.
أحدها: أن هذا القول لا يعرف به أثر صحيح ولا حسن، ولا حكاه أحد ممن يعتمد
على نقله.
الثاني: أن قصة تزوج أم حبيبة وهي بأرض الحبشة قد جرت مجرى التواتر،
كتزويجه صلّى اللَّه عليه وسلم خديجة بمكة، وعائشة بمكة، وبنائه بعائشة
بالمدينة، وتزويجه حفصة بالمدينة، وصفية عام خيبر، وميمونة في عمرة
[القضية] [ (1) ] ، ومثل هذه الوقائع شهرتها عند أهل العلم موجبة بقطعهم
بها، فلو جاء سند ظاهره الصحة يخالفها، عدوّه غلطا، ولم يلتفتوا إليه ولا
يمكنهم مكابرة نفوسهم في ذلك.
الثالث: أنه من [المعلوم] [ (1) ] عند أهل العلم بسيرة النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم وأحواله، أنه لم يتأخر نكاحه أم حبيبة إلى بعد فتح مكة، ولا يقع
ذلك في وهم
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
(6/72)
أحد منهم أصلا.
الرابع: أن أبا سفيان لما قدم المدينة دخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب
ليجلس على فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا
بنية! ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش؟ أم رغبت به عنى؟ قالت: بل هو فراش
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: واللَّه لقد أصابك يا بنية بعدي
شرّ، وهذا الخبر مشهور عند أهل المغازي والسّير، ذكره ابن إسحاق وغيره في
قصة قدوم أبى سفيان المدينة لتجديد الصلح.
الخامس: أن أم حبيبة [كانت] [ (1) ] من مهاجرات الحبشة مع زوجها عبد اللَّه
بن جحش، ثم تنصر زوجها وهلك بأرض الحبشة، ثم قدمت حتى جاءت على رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم بعد ما زوجه النجاشي إياها، فكانت عندك صلّى اللَّه
عليه وسلم ولم تكن عند أبيها، وهذا مما لا يشك فيه أحد من أهل النقل، [ومن
المعلوم أن أبا سفيان] [ (1) ] لم يسلم إلا عام الفتح، فكيف يقول: عندي
أجمل العرب أزواجك إياها؟ وهل كانت عنده بعد هجرتها وإسلامها قط؟
فإن كان قال ذلك القول قبل إسلامه فهو محال، فإنّها لم تكن عنده، ولم يكن
له عليها ولاية أصلا، وإن كان قاله بعد إسلامه فمحال أيضا، لأن نكاحها لم
يتأخر إلى بعد الفتح، فإن قيل: بل بيقين أن يكون نكاحها بعد الفتح لأن
الحديث الّذي رواه مسلم صحيح، ورجال إسناده ثقات حفاظ، وحديث نكاحها بأرض
الحبشة من رواية محمد بن إسحاق مرسلا، والناس مختلفون بمسانيد ابن إسحاق،
فكيف بمراسيله؟ فكيف بها إذا خالفت المسانيد الثابتة؟ وهذه طريقته في تصحيح
حديث ابن عباس هذا، والجواب من وجوه:
أحدها: أن ما ذكره هذا القائل إنما يمكن عند تساوى النّقلين، فيترجح ما
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
(6/73)
ذكره، وأما مع تحقق بطلان أحد النقلين فلا
يلتفت إليه فإن لا يعلم نزاع بين اثنين من أهل العلم بالسير والمغازي،
وأحوال رسول اللَّه في ذلك قط، ولو قاله قائل لعلموا بطلان قوله ولم يشكوا
فيه.
الثاني: أن الاعتماد في هذا [الحديث] [ (1) ] على رواية ابن إسحاق وحده لا
متصلة ولا مرسلة، بل النقل المتواتر عند أهل المغازي والسير، أن أم حبيبة
هاجرت مع زوجها، وأنه هلك نصرانيا بأرض الحبشة، وأن النجاشي زوجها النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم وأمهرها من عنده، وقصتها في كتب المغازي والسير.
وقد ذكرها أيضا أئمة العلم، واحتجوا بها على جواز الوكالة في النكاح،
قال الشافعيّ رحمه اللَّه في رواية الربيع في حديث عقبة بن عامر رضى اللَّه
عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا نكح الوليان فالأول
أحق،
فيه دلالة على أن الوكالة في النكاح جائزة، مع توكيل النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ فزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان.
وقال في (الأم) أيضا: ولا يكون الكافر وليا لمسلمة، ولو كانت بنته، [و] [
(1) ] قد زوج ابن سعيد بن العاص النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة بنت
أبى سفيان، وأبو سفيان حي، لأنها كانت مسلمة وابن سعيد مسلم، ولا أعلم
مسلما أقرب لها منه، ولم يكن لأبى سفيان [فيها] [ (2) ] ولاية، لأن اللَّه
تعالى قطع الولاية بين المسلمين والمشركين في المواريث [والعقل] [ (3) ]
وغير ذلك [ (4) ] .
وابن سعيد هذا هو خالد بن سعيد بن العاص، ذكره ابن إسحاق وغيره، وذكر عروة
والزهري أن عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه هو الّذي ولى
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] في (خ) : «عليها» .
[ (3) ] في (خ) : «القتل» ، والعقل في الشرع: الدية.
[ (4) ] (الأم) : 5/ 13، من لا يكون له الولاء من ذي القرابة، والتصويبات
السابقة منه.
(6/74)
نكاحها، وكلاهما ابن عم أبيها، لأن عثمان
بن عفان بن أبى العاص بن أمية، وخالد بن سعيد بن أبى العاص بن أمية، وأبو
سفيان هو صخر بن حرب بن أمية.
والمقصود أن أئمة الفقه والسير، ذكروا أن نكاحها كان بأرض الحبشة، وهذا
يبطل وهم من توهم أنه تأخر إلى بعد الفتح، احترازا منه بحديث عكرمة بن
عمار.
الثالث: أن عكرمة بن عمار- راوي حديث ابن عباس هذا- قد ضعفه كثير من أئمة
الحديث. قال على بن المديني: سألت يحى بن سعيد عن أحاديث عكرمة بن عمار عن
يحى بن أبى كثير فضعفها وقال: ليست بصحاح، وقال الإمام أحمد: ضعاف ليست
بصحاح، قال عبد اللَّه: قلت له: من عكرمة أو من يحى؟ قال: لا، إلا من
عكرمة، وقال البخاري:
عكرمة بن عمار يضطرب في حديث يحى بن أبى كثير، ولم يكن عنده كتاب، ومرة
قال: منكر الحديث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال المفضل الغلابي: حدثنا رجل من أهل اليمامة، وسألته عن عكرمة
فقال: هو عكرمة بن عمار بن عقبة بن حبيب بن شهاب بن ذباب بن الحارث بن
حمضانة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل.
وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: عكرمة مضطرب الحديث عن يحيى بن
أبى كثير، وقال أيضا عن أبيه: عكرمة مضطرب الحديث عن غير إياس بن سلمة،
وكان حديثه عن إياس صالحا.
وقال أبو زرعة الدمشقيّ: سمعت أحمد يضعف رواية أيوب بن عتبة، وعكرمة بن
عمار عن يحى ابن أبى كثير، وقال: عكرمة أوثق الرجلين.
وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد اللَّه هل كان باليمامة أحد يقدم على
عكرمة اليمامي مثل أيوب ابن عتبة، وملازم بن عمرو. وهؤلاء؟ فقال: عكرمة فوق
هؤلاء أو نحو هذا، ثم قال: روى عنه شعبة أحاديث.
وقال معاوية بن صالح. عن يحيى بن معين: ثقة. وقال الغلابي عن يحى: ثبت.
وقال ابن أبى خيثمة، عن ابن معين: صدوق ليس به بأس. وقال أبو حاتم، عن ابن
معين: كان أميا، وكان حافظا.
وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: أيوب بن عتبة أحب إليك أو عكرمة بن
عمار؟ فقال:
(6/75)
__________
[ () ] عكرمة أحب إليّ، وأيوب ضعيف.
وقال ابن المدائني: أحاديث عكرمة عن يحى بن أبى كثير ليست بذاك، مناكير كان
يحى بن سعيد يضعفها. وقال في موضع آخر: كان يحى يضعف رواية أهل اليمامة،
مثل عكرمة وضربه.
وقال محمد بن عثمان بن أبى شيبة، عن على بن المديني: كان عكرمة عند أصحابنا
ثقة ثبتا. وقال العجليّ ثقة، يروى عنه النضر بن محمد ألف حديث. وقال
البخاري: مضطرب في حديث يحى بن أبى كثير، ولم يكن عنده كتاب. وقال الآجري،
عن أبى داود: ثقة، وفي حديثه عن يحي بن أبى كثير اضطراب.
وقال النسائي: ليس به بأس، إلا في حديث يحى بن أبى كثير. وقال أبو حاتم:
كان صدوقا، وربما وهم في حديثه، وربما دلّس، وفي حديثه عن يحى بن أبى كثير
بعض الأغاليط.
وقال الساجي صدوق، وثّقه أحمد ويحى، إلا أن يحي بن سعيد ضعّفه في أحاديثه
عن يحي بن أبي كثير، وقدم ملازما عليه. وقال عكرمة بن عمار ثقة عندهم، وروى
عنه ابن مهدي: ما سمعت فيه إلا خيرا.
وقال في موضع آخر: هو أثبت من ملازم، وهو شيخ أهل اليمامة. وقال على بن
محمد الطنافسي:
حدثنا وكيع عن عكرمة بن عمار، وكان ثقة. وقال صالح بن محمد الأسدي: كان
يتفرد بأحاديث طول، ولم يشركه فيها أحد.
قال: وقدم البصرة، فاجتمع إليه الناس. فقال: ألا أرانى فقيها وأنا لا أشعر،
وقال صالح بن محمد أيضا: إن عكرمة بن عمار صدوق، إلا أن في حديثه شيئا. روى
عنه الناس.
وقال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاري: ثقة، روى عنه الثوري، وذكره بالفضل،
وكان كثير الغلط، ينفرد عن إياس بأشياء.
وقال ابن خراش: كان صدوقا، وفي حديثه نكرة. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن
عدي: مستقيم الحديث إذا روى عنه ثقة. وقال عاصم بن على: كان مستجاب الدعوة.
قال معاوية بن صالح: مات في إمارة المهدي، وقال ابن معين وغيره: مات سنة
(159) . قلت: وكذا ذكر ابن حبان في الثقات، وقال: في روايته عن يحى بن أبى
كثير اضطراب، كان يحدث عن غير كتابة.
وقال أبو أحمد الحاكم: جل حديثه عن يحى وليس بالقائم. وقال يعقوب بن شيبة:
كان ثقة ثبتا.
وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح: أنا أقول: إنه ثقة، واحتج به
وبقوله.
له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 12/ 234، ترجمة رقم (475) ، (الكامل في
ضعفاء الرجال) : 5/ 272- 277، ترجمة رقم (444/ 1412) . (تاريخ بغداد) : 12/
257- 262، ترجمة رقم (6705) ، (الضعفاء الكبير) : 3/ 378- 379، ترجمة رقم
(1415) ، (المغنى في
(6/76)
وقال أبو حاتم: عكرمة هذا صدوق، وربما وهم،
وربما دلّس، وإذا كان هذا حال عكرمة، فلعله دلّس هذا الحديث عن غير حافظ،
أو غير ثقة، أو وهم هو فيه، فإنه كان أميا لا يكتب. ومسلم- رحمه اللَّه- قد
رواه عن عباس بن عبد العظيم، عن النضر بن محمد عن عكرمة بن عمار عن أبى
زميل، عن ابن عباس هكذا معنعنا، لكن رواه الطبراني فقال: حدثنا محمد بن
محمد الجدوعى، حدثنا العباس بن عبد العظيم، حدثنا النضر ابن محمد بن عكرمة
بن عمار، حدثنا زميل قال: حدثني ابن عباس..
فذكره.
وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي: في هذا الحديث وهم من بعض الرواة لا شك
فيه ولا تردد، وقد اتهموا فيه ابن عمار راوي الحديث، قال: وإنما قلنا: إن
هذا وهم لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبد اللَّه بن
جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر، وثبتت أم
حبيبة على دينها، فبعث إلى النجاشي يخطبها عليه فزوجه إياها، وأصدقها عن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعة آلاف درهم، وذلك في سنة سبع من
الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة فدخل بيتها، [فطوت عنه فراش] رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى لا يجلس عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان
ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان، ولا يعرف أن رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلم [] أبا سفيان.
وقال أبو محمد بن حزم: هذا حديث موضوع لا شك فيه، والأنة فيه من عكرمة بن
عمار، ولا يختلف اثنان من أهل المعرفة بالأخبار في أن النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم لم يتزوج أم حبيبة رضى اللَّه عنها إلا قبل الفتح بدهر وهي بأرض
__________
[ () ] الضعفاء) : 2/ 438، ترجمة رقم (4168) ، (الضعفاء والمتروكين) : 2/
185، ترجم رقم (2337) ، (سير أعلام النبلاء) : 7/ 134- 139، ترجمة رقم (49)
، (الجرح والتعديل) :
7/ 10، ترجمة رقم (14) ، (ثقات ابن حبان) : 5/ 233، (التاريخ الكبير
للبخاريّ) : 7/ 50، ترجمة رقم (226) .
(6/77)
الحبشة، ومثل هذا لا يكون خطأ أصلا، ولا
يكون إلا قصدا، نعود باللَّه من البلاء.
[و] قال محمد بن طاهر المقدسي [في كتاب] (الانتصار لإمامى الأمصار) : هذا
كلامه بعينه ورمته، وهو كلام رجل مجازف، هتك فيه حرمة كتاب مسلم، و [صار]
إلى الغفلة عما اطلع هو عليه، وصرح أن عكرمة بن عمار وضعه، وهذا ارتكاب
بطرق لم تسلكها أئمة النقل [أو علماء] الحديث، فإنا لا نعلم أحدا منهم نسب
عكرمة إلى الوضع البتة، وهم أهل مائة الذين عاصروه وعرفوا أمره، وحملوا عنه
واحتجوا بأحاديثه، وأخرجوها في الدواوين الصحيحة.
واعتمد عليه مسلم في غير حديث من كتابه الصحيح، [وروى] عنه الأئمة، مثل عبد
الرحمن بن مهدي، وعبد اللَّه بن المبارك، وأبو عامر العقدي، وزيد بن
الحباب، ففي مسلم- وهو [من] الأئمة المقتدى بهم في تزكية الرواة الذين
عاهدوهم وأخذوا عنهم- ثم ذكر بسنده: قال وكيع عن عكرمة- وكان ثقة- وعن يحى
بن معين: عكرمة بن عمار صدوق وليس به بأس، وفي روايته كان أمينا وكان
حافظا، وعن الدار قطنى أنه قال: عكرمة بن عمار يماني ثقة، ثم قال: فكان
الرجوع إلى قول الأئمة الحفاظ في تعديله أولى من قوله وحده في تجريحه.
فإن قيل: لم ينفرد عكرمة بهذا الحديث بل توبع عليه، فقال الطبراني:
حدثنا على بن سعيد الرازيّ، حدثنا عمر بن خليف بن إسحاق بن مرسال الحنفي
قال: حدثني عمى إسماعيل بن مرسال عن أبى زميل الحنفي قال:
حدثني ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبى سفيان ولا يفاتحونه،
فقال: يا رسول اللَّه، ثلاث أعطينهن ... ، الحديث. فهذا إسماعيل ابن مرسال
قد رواه عن أبى زميل، كما رواه عكرمة بن عمار، يبرئ
(6/78)
عكرمة من عهدة التفرد به.
قيل: هذه المتابعة لا تفيد قوة، فإن هؤلاء مجاهيل لا يعرفون بنقل العلم،
ولا هم ممن يحتج به، فضلا [عن] أن تقدم روايتهم على النقد المستفيض المعلوم
خاصة عند أهل العلم وعامتهم، فهذه المتابعة إن لم تزده وهنا لم تزده قوة.
وقالت طائفة، منهم البيهقي والمنذري- رحمهما اللَّه-: يحتمل أن تكون مسألة
أبي سفيان النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة وقعت في بعض
خرجاته إلى المدينة وهو كافر، حين كان سمع نفى زوج أم حبيبة بأرض الحبشة،
والمسألة الثانية والثالثة وقعتا بعد إسلامه، فجمعهما الراويّ.
وعورض هذا بأن أبا سفيان إنما قدم آمنا بعد الهجرة في زمن [الهدنة] [ (1) ]
قبيل الفتح، وكانت أم حبيبة إذ ذاك من نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم،
ولم يقدم أبو سفيان قبل ذلك إلا مع الأحزاب عام الخندق، ولولا الهدنة
والصلح الّذي كان بينهم وبين النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لم يقدم المدينة،
فمتى [قد تزوج] [ (1) ] النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة، وهذا وهم
بيّن، ومع ذلك فإنه لا يصح أن يكون تزويجه إياها في حال كفره، إذ لا ولاية
له عليها، ولا تأخّر تزوجه إياها بعد إسلامه لما تقدم.
فعلى التقريرين لا يصحّ قوله: أزوجك أم حبيبة، هذا، وظاهر الحديث يدل على
أن المسائل الثلاثة وقعت منه في وقت واحد، فإنه قال: ثلاث أعطينهن ... ،
الحديث.
ومعلوم أن سؤاله [تزويجها] [ (1) ] واتخاذ معاوية كاتبا، إنما يتصور بعد
إسلامه، فكيف يقال: سأل بعض ذلك حال كفره، وبعضه وهو مسلم، وسياق الحديث
يرده.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(6/79)
وقالت طائفة: بل يمكن حمل الحديث على محمل
صحيح يخرج به عن كونه موضوعا، إذ القول بأنه في صحيح مسلم حديث موضوع مما
يسهل.
قال: ووجهه أن تكون معنى [أزوّجك] [ (1) ] بها: أرضى بزواجك بها، فإنه كان
على زمن منى وبدون اختياري، وإن كان نكاحك صحيحا، لكن هذا أجمل وأحسن
وأكمل، لما فيه من تأليف القلوب. قال: وتكون إجابة النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم بنعم له، كانت تأنيسا له، ثم أخبره بعد بصحة العقد، وأنه لا يشترط
رضاك، ولا ولاية لك عليها، لاختلاف دينكما حالة العقد. قال:
وهذا مما لا يمكن دفع احتماله.
وردّ هذا بأن ما ذكرتم لا يفهم من لفظ الحديث، فإن قوله: عندي أجمل العرب
أزوجكها، لا يفهم منه أحد أن زوجتك التي هي في عصمة نكاحك أرضى زواجك بها،
ولا يطابق هذا المعنى أن يقول له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
نعم، فإنه إنما سأل من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أمرا تكون الإجابة إليه
من جهته صلّى اللَّه عليه وسلم، وأما رضاه بزواجه بها فأمر قائم بقلبه هو،
فكيف يطلب من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم؟
ولو قيل: طلب منه أن يقره على نكاحه إياها- وسمى إقراره نكاحا- لكان مع
فساده أقرب إلى اللفظ، وكل هذه تأويلات لا يخفى شدة بعدها، وأنها مستنكرة
[و] [ (1) ] في غاية المنافرة للفظ ولمقصود الكلام.
وقالت طائفة: كان أبو سفيان يخرج إلى المدينة كثيرا، [فجاءها وهو كافر] [
(1) ] وبعد إسلامه حين كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم آلى من نسائه شهرا
واعتزلهن، فتوهم أن ذلك الإيلاء طلاق، كما توهمه عمر رضى اللَّه عنه، فظن
وقوع الفرقة به، فقال هذا القول للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، متعطفا
ومتعرضا لعله يراجعها، فأجابه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على تقدير إن
امتد الإيلاء أوقع طلاق، فلم يقع شيء من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(6/80)
ذلك.
وردّ هذا بأن قوله: عندي أجمل العرب وأحسنه أزوجك إياها، لا يفهم منه ما
ذكر من شأن الإيلاء ووقوع الفرقة به، ولا يصح أن يجاب بنعم، ولا كان أبو
سفيان حاضرا وقت الإيلاء، فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اعتزل في مشربة
[و] [ (1) ] حلف أن لا يدخل على نسائه شهرا، وجاء عمر بن الخطاب رضى اللَّه
عنه فاستأذن في الدخول عليه مرارا، فأذن له في الثالثة، فقال: طلقت نساءك؟
قال: لا، قال عمر: اللَّه أكبر، واشتهر عند الناس أنه لم يطلق نساءه، وأين
كان أبو سفيان حينئذ؟
وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون أبو سفيان قال ذلك كله قبل إسلامه بمدة
تتقدم على تاريخ النكاح، كالمشترط ذلك في إسلامه، ويكون التقدير: ثلاث إن
أسلمت تعطيهن: أم حبيبة أزوجكها، ومعاوية يسلم فيكون كاتبا بين يديك،
وتؤمرنى بعد إسلامي فأقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، [حيث قد كان
الناس] [ (1) ] لا ينظرون إلى أبى سفيان ولا يقاعدونه، فقال: يا نبي
اللَّه! ثلاث أعطينهنّ ... ، لا يليق أن يصدر منه وهو بمكة قبل الهجرة أو
بعد الهجرة وهو يجمع الأحزاب لحرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أو
وقت قدومه المدينة، وأم حبيبة عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لا عنده،
فما هذا إلا تكلف وتعسف، فكيف يقول- وهو كافر-: حتى أقاتل المشركين كما كنت
أقاتل المسلمين؟ وكيف ينكر جفوة المسلمين له وهو جاهد مجد في قتالهم وحربهم
وإطفاء نور اللَّه؟
وهذه قصة إسلام أبى سفيان معروفة، لا اشتراط فيها ولا تعرض لشيء من هذا،
ومن أنصف علم أن هذه التأويلات كلها بعيدة، وأن الصواب في الحديث أنه غير
محفوظ، بل وقع فيه تخبيط، واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
(6/81)
أم المؤمنين جويرية
بنت الحارث
[ (1) ] جويرية، واسمها برة بنت الحارث بن أبى ضرار بن حبيب بن الحارث بن
__________
[ (1) ] هي جريرية بنت الحارث بن أبى ضرار المصطلقية، سبيت يوم غزوة
المريسيع في السنة الخامسة، وكان اسمها برّة [أخرجه مسلم في صحيحه من طريق
سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس قال:
كانت جويرية اسمها برة، فحول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اسمها إلى
جويرية، وقد أخرجه أيضا ابن سعد في (الطبقات) ، والإمام أحمد في (المسند) .
وكانت من أجمل النساء، وكان أبوها سيدا مطاعا، حدّث عنها ابن عباس وعبيد بن
السباق، وكريب، ومجاهد، وأبو أيوب يحى بن مالك الأزدي، وآخرون.
أخرج ابن هشام في (السيرة) عن ابن إسحاق، ومن طريقه الإمام أحمد في
(المسند) ، حدثني محمد ابن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة
قالت: لما قسّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبايا بنى المصطلق، وقعت
جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس- أو لابن عم له-
فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملّاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه،
فأتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تستعينه في كتابتها، قالت عائشة:
فو اللَّه ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه صلّى
اللَّه عليه وسلم سيرى فيها ما رأيت.
فدخلت عليه فقالت: يا رسول اللَّه، أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيد
قومه، وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس
بن الشماس- أو لابن عم له- فكاتبته على نفسي- فجئتك أستعينك على كتابتى.
قال: فهل لك خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول اللَّه، قال: قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد تزوج
جويرية ابنة الحارث بن أبى ضرار، فقال الناس: أصهار رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق لتزويجه إياها مائة
أهل بيت من بنى المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.
[إسناده صحيح، فقد صرح ابن إسحاق بالتحديث] .
قال ابن سعد وغيره: بنو المصطلق من خزاعة، وكان زوجها قبل أن يسلم ابن عمها
مسافع بن صفوان ابن أبى الشّفر. [ذكره ابن سعد في (الطبقات) ، والحاكم في
(المستدرك) ، وابن حجر في (الإصابة) ] ، وقدم أبوها على النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم فأسلم] عن جويرية قالت: تزوجني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم وأنا بنت عشرين، وقال ابن سعد في (الطبقات) : توفيت أم المؤمنين
جويرية في سنة خمسين، وقال خليفة في (طبقاته) : توفيت سنة ست وخمسين، رضي
اللَّه تعالي عنها، جاء لها سبعة أحاديث: منها عند البخاري حديث، وعند مسلم
حديثان.
(6/82)
عائذ بن مالك بن جذيمة، وهو المصطلق بن
سعيد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقاء بن عامر بن حارثة بن امرؤ
القيس بن ثعلبة بن مازن ابن الأزد.
كانت أولا في الجاهلية عند مسافع بن صفوان بن ذي الشفر الخزاعي،
__________
[ () ] أيوب، عن أبى قلابة، قال: أتى والد جويرية فقال: إن بنتي لا يسبى
مثلها، فأنا أكرم من ذلك، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أرأيت إن
خيّرناها؟ فأتاها أبوها فقال: إن هذا الرجل قد خيّرك، فلا تفضحينا، فقالت:
فإنّي قد اخترته، قال: قد واللَّه فضحتنا.
[إسناده صحيح لكنه مرسل، أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ] .
زكريا عن الشعبي، قال: أعتق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جويرية
واستنكحها، وجعل صداقها عتق كل مملوك من بنى المصطلق. [إسناده صحيح، لكنه
مرسل، أخرجه عبد الرزاق في (المصنف) ، وابن سعد في (الطبقات) ، وذكره
الهيثمي في (المجمع) ، وقال: رواه الطبرانىّ مرسلا، ورجاله رجال الصحيح] .
همام، وغيره، عن قتادة، عن أبى أيوب الهجريّ، عن جويرية بنت الحارث، أن
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دخل عليها يوم جمعة وهي صائمة، فقال لها: أصمت
أمس؟ قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومى غدا؟ قالت:
لا، قال: فأفطرى. [أخرجه البخاري في الصوم، باب صوم يوم الجمعة، وأبو داود
في الصوم، وأحمد، وابن سعد، وإسناده صحيح] .
شعبة وجماعة، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، سمعت كريبا، عن ابن
عباس، عن جويرية قالت: أتى عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غدوة
وأنا أسبّح، ثم انطلق لحاجته، ثم رجع قريبا من نصف النهار، فقال: أما زلت
قاعدة؟ قلت: نعم، قال: ألا أعلمك كلمات لو عدلن بهن عدلتهن، أو وزن بهنّ
وزنتهنّ- يعنى جميع ما سبّحت-: سبحان اللَّه عدد خلقه، ثلاث مرات، سبحان
اللَّه زنة عرشه، ثلاث مرات، سبحان اللَّه رضا نفسه، ثلاث مرات، سبحان
اللَّه مداد كلماته، ثلاث مرات.
[إسناده صحيح- أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند
النوم،
وابن سعد وأحمد] . لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 7/ 457، (طبقات ابن سعد) :
8/ 116- 120، (طبقات خليفة) : (342) ، (تاريخ خليفة) : (224) ، (المعارف) :
138، 139، (المستدرك) :
4/ 27- 30، (الاستيعاب) : 4/ 1804 ترجمة رقم (3282) ، (تاريخ الإسلام) : 2/
593، (تهذيب التهذيب) : 12/ 436، ترجمة رقم (2754) ، (الإصابة) : 7/ 565،
ترجمة رقم (11002) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : (489) ، (كنز العمال) : 13/
706، (شذرات الذهب) : 1/ 61، (أسماء الصحابة الرواة) : (195) ، ترجمة رقم
(251) . (صفة الصفوة) :
2/ 35، ترجمة رقم (132) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 90- 91، (سير أعلام
النبلاء) :
2/ 261- 265، ترجمة رقم (39) ، (أعلام النساء) : 1/ 227.
(6/83)
فقتل يوم المريسيع كافرا، فصارت جويرية في
سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وابن عم له، فكاتباها على تسع أواقي
ذهب. وكانت جارية حلوة، لا يكاد يراها أحد إلا ذهبت بنفسه، فبينا النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم على الماء، إذا دخلت عليه تسأله في كتابتها، فقالت:
يا رسول اللَّه، إني امرأة مسلمة، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول
اللَّه،
وأنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار، بنت سيد قومه، أصابنا من الأمر ما قد
علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس ابن شماس وابن عم له، فخلصني من ابن عمه
بنخلات بالمدينة، وكاتبني على ما لا طاقة لي به ولا يدان، وما أكرهنى على
ذلك إلا أنى رجوتك- صلّى اللَّه عليك- فأعنى في مكاتبتي، فقال: أوخير لك من
ذلك؟ قالت: فما هو يا رسول اللَّه؟ قال:
أؤدّي عنك كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول اللَّه قد فعلت، فأرسل إلى
ثابت فطلبها منه، فقال: هي لك يا رسول اللَّه، بأبي وأمى، فأدى رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم ما كان عليها من كتابتها وأعتقها وتزوجها،
وخرج الخبر إلى الناس، ورجال بنى المصطلق قد اقتسموا وملكوا ووطئ ونساؤهم،
فقال المسلمون: أصهار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم! فأعتقوا ما بأيديهم من
ذلك السبي، وهم مائة أهل بيت، فكانت جويرية أعظم امرأة بركة على قومها.
وقالت جويرية: رأيت قبل قدوم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بثلاث ليال كأنّ
القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبرها أحدا من الناس، حتى
قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جعل صداقها عتق كل أسبية من
بنى المصطلق، ويقال: جعل صداقها عتق أربعين من قومها، وقيل: افتدى جويرية،
أبوها من ثابت بن قيس، ثم خطبها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى
أبيها، فأنكحها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكان اسمها برة، فسماها
جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من بيت برة.
(6/84)
وأثبت الأقوال: أن النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم قضى عنها كتابتها وأعتقها وتزوجها، وضرب عليها الحجاب، وقسم لها كما
يقسم لنسائه، وفرض لها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ستة آلاف [ (1) ] ،
ويقال: فرض لها اثنى عشر ألفا.
وتوفيت في شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين، وصلّى عليها مروان.
__________
[ (1) ] بعد قوله: «ستة آلاف» ، عبارة مقحمة لا تتناسب مع السياق فلم
نضبتها حيث لم نجد لها توجيها.
(6/85)
أم المؤمنين صفية
بنت حيي
[ (1) ] وصفية بنت حيي بن أخطب بن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن
__________
[ (1) ] هي صفية بنت حيي بن أخطب بن سعيه، من سبط اللاوى بن نبي اللَّه
إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، ثم من ذرية رسول اللَّه هارون
عليه السّلام. تزوجها قبل إسلامها: سلام ابن أبى الحقيق، ثم خلف عليها
كنانة بن أبى الحقيق، وكانا من شعراء اليهود، فقتل كنانة يوم خيبر عنها،
وسبيت، وصارت في سهم دحية الكلبي، فقيل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم
عنها، وأنها لا ينبغي أن تكون إلا لك، فأخذها من دحية، وعوضه عنها سبعة
أرؤس. أخرجه أحمد في (المسند) ، ومسلم في النكاح:
باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وأبو داود في الخراج والإمارة، باب ما
جاء في سهم الصفي، وابن سعد في (الطبقات) ، كلهم من حديث حماد بن سلمة، عن
ثابت البناني، عن أنس بن مالك.
وأخرجه مسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: جمع السبي- يعنى
بخيبر- فجاءه دحية الكلبي فقال: يا رسول اللَّه! أعطنى جارية من السبي فقال
صلّى اللَّه عليه وسلم: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى
نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا نبي اللَّه! أعطيت دحية صفية
بنت حيي سيد قريظة والنضير؟ ما تصلح إلا لك، قال صلّى اللَّه عليه وسلم:
ادعوه بها، قال فجاء بها، فلما نظر اليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال:
خذ جارية من السبي غيرها، قال: وأعتقها صلّى اللَّه عليه وسلم وتزوجها.
وأخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر عن طريق حماد بن زيد عن ثابت عن
أنس، وفيه: وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم.
ثم إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما طهرت، تزوجها وجعل عتقها صداقها.
[أخرجه البخاري من حديث أنس في المغازي، باب غزوة خيبر، وفي النكاح، باب من
جعل عتق الأمة صداقها، وفي النكاح، باب الوليمة ولو بشاة، ومسلم في النكاح،
باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وأخرجه أيضا: أبو داود، والترمذي،
والنسائي، وعبد الرزاق] .
حدث عنها على بن الحسين، وإسحاق بن عبد اللَّه بن الحارث، وكنانة مولاها،
وآخرون وكانت رضى اللَّه عنها شريفة عاقلة، ذات حسب، وجمال، ودين.
قال أبو عمر بن عبد البرّ في (الاستيعاب) : روينا أن جارية لصفية أتت عمر
بن الخطاب، فقالت: إن صفية تحبّ السبت، وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها،
فقالت: أما السبت، فلم أحبه منذ أبدلني اللَّه به الجمعة، وأما اليهود، فإن
لي فيهم رحما، فأنا أصلها، ثم قالت الجارية: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت:
الشيطان، قالت: فاذهبي فأنت حرة.
وأخرج الترمذي في (الجامع) ، من طريق هاشم بن سعيد الكوفي، حدثنا كنانة:
حدثتنا صفية بنت حيي، قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام، فذكرت له ذلك،
(6/86)
الخزرج بن أبى حبيب بن النضير بن النحام بن
ينحوم الإسرائيلي، من سبط هارون بن عمران عليه السّلام، أمها مرة بنت
سموأل، كانت عند سلام بن
__________
[ () ] فقال: ألا قلت: وكيف تكونان خيرا منى وزوجي محمد، وأبى هارون، وعمى
موسى؟ وكان بلغها أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلم منها، نحن أزواجه، وبنات عمه. [أخرجه الترمذي في المناقب، والحاكم،
وإسناده ضعيف، لضعف هاشم بن سعيد الكوفي، وباقي رجاله ثقات، لكن يشهد له
حديث أنس عند أحمد، والترمذي من طريق عبد الرزاق، عن معمر عن ثابت، عن أنس
قال: بلغ صفية أن حفصة قالت، بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم وهي تبكى، فقال:
ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي صلّى اللَّه
عليه وسلم: إنك لابنة نبي، وان عمك لنبي، وانك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟
ثم قال: اتقى اللَّه يا حفصة.
وإسناده صحيح] .
قال ثابت البناني: حدثتني سمية- أو شميسة- عن صفية بنت حيي: أن النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم حج بنسائه، فيرك بصفية جملها، فبكت، وجاء رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم لما أخبروه فجعل يمسح دموعها بيده، وهي تبكى، وهو
ينهاها،
فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالناس، فلما كان عند الرواح، قال
لزينب بنت جحش: أفقرى أختك جملا- وكانت من أكثرهن ظهرا- فقالت: أنا أفقر
يهوديتك! فغضب فلم يكلمها، حتى رجع إلى المدينة، ومحرم وصفر، فلم يأتها،
ولم يقسم لها، ويئست منه.
فلما كان ربيع الأول دخل عليها، فلما رأته قالت: يا رسول اللَّه، ما أصنع؟
قال: وكانت لها جارية تخبؤها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت:
هي لك- قال: فمشى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى سريرها، وكان قد رفع،
فوضعه بيده، ورضى عن أهله صلّى اللَّه عليه وسلم [أخرجه أحمد في (المسند) ،
وابن سعد في (الطبقات) ،
وقوله: أفقرى أختك،
أي أعيرها إياها للركوب، ومنه حديث جابر، أنه اشترى منه بعيرا، وأفقره ظهره
إلى المدينة، مأخوذ من ركوب فقار الظهر، وهو خرزاته، والواحدة فقارة] .
وكانت صفية رضى اللَّه عنها ذات حلم ووقار، قيل: توفيت سنة ست وثلاثين،
وقيل: توفيت سنة خمسين، [والثاني هو الصحيح، لأن على بن الحسين قد سمع منها
حديث زيارتها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في اعتكافه في المسجد، وهو
مما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم، وعلى بن الحسين إنما ولد بعد سنة
أربعين أو نحوها، ذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) ] . وقبرها بالبقيع.
لها ترجمة في:
(مسند أحمد) : 7/ 473- 475، (طبقات ابن سعد) : 8/ 120- 129، (تاريخ خليفة)
: 82، 83، 86، (المعارف) : 138، 215، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 231- 238،
ترجمة رقم (26) ، (المستدرك) : 4/، (الاستيعاب) : 4/ 1871، ترجمة رقم () ،
(جامع الأصول) : 9/ 143، (تهذيب التهذيب) : 12/ 429، ترجمة رقم () ،
(الإصابة) : / ترجمة رقم () ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 492، (كنز العمال) :
13/ 637، 704، (المواهب اللدنية) : 2/، (صفة الصفوة) : 2/، ترجمة رقم () ،
(شذرات الذهب) : 1/ 12 ورد لها من الحديث عشرة أحاديث، منها واحد متفق عليه
[أخرجه البخاري في الاعتكاف.
(6/87)
مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبى الحقيق
اليهودي، فقتل يوم خيبر، وكانت صفىّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من
مغانم خيبر، ويقال: بل وقعت في سهمه يومئذ هي وأختها، فتزوجها ووهب أختها
لدحية بن خليفة، ويقال بل اشتراها بسبعة أرؤس.
وقيل: لما جمع سبى خيبر جاء دحية فقال: يا رسول اللَّه! أعطنى جارية من
السبي، فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية، فقيل: يا رسول اللَّه! إنها سيدة
قريظة والنضير ما تصلح إلا لك، فقال لدحية: خذ جارية غيرها من السبي.
والثابت أنها صارت في سهمه، فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وحجبها وأولم عليها
بتمر وسويق وقسم لها، فكانت إحدى أمهات المؤمنين، وكانت حليمة عاقلة فاضلة،
توفيت في رمضان سنة خمس.
وقال محمد بن عائد. - في (كتاب المغازي) -: حدثنا الوليد عن ابن لهيعة، عن
أبى الأسود عن عروة قال: وقد كان قال قبل وفاته: مروا جويرية ابنة الحارث
بالحجاب وصفية بنت حيي، وردوا وفود العرب وجهزوهم.
وخرج الطبراني من حديث إسماعيل بن عياش، عن الحجاح بن أرضأة، عن الزهري، عن
أنس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم استبرأ صفية بحيضة.
(6/88)
أم المؤمنين ميمونة
بنت الحارث
[ (1) ] وميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد
اللَّه بن
__________
[ (1) ] هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد
اللَّه بن هلال بن عامر بن صعصعة، الهلالية، زوج النبي صلّى اللَّه عليه
وسلم، وأخت أم الفضل زوجة العباس، وخالة خالد بن الوليد، وخالة ابن عباس.
تزوجها أولا مسعود بن عمرو الثقفي قبيل الإسلام، ففارقها، وتزوجها أبو رهم
بن عبد العزى، فمات، فتزوج بها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في وقت فراغه
من عمرة القضاء، سنة سبع في ذي القعدة، وبنى بها بسرف، وكانت من سادات
النساء.
روت عدة أحاديث: سبعة في (الصحيحين) ، وانفرد لها البخاري بحديث، ومسلم
بخمسة، وجميع ما روت ثلاثة عشر حديثا.
حدّث عنها ابن عباس، وابن أختها الآخر: عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، وعبيد
ابن السّباق، وابن أختها الثالث: عبد الرحمن بن الصائب الهلالي، وابن أختها
الرابع: يزيد بن الأصم، وكريب مولى بن عباس، ومولاهما: سليمان بن يسار،
وأخوه عطاء بن يسار وآخرون.
قال ابن سعد في (الطبقات) : أخبرنا محمد بن عمر، حدثني إبراهيم بن محمد بن
موسى، عن الفضيل بن أبى عبد اللَّه، عن على بن عبد اللَّه بن عباس، قال:
لما أراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الخروج إلى مكة عام القضية [أي
عام عمرة القضية أو القضاء، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وقد دخل مكة، ثم
خرج بعد إكمال عمرته] بعث أوس بن خوليّ، وأبا رافع إلى العباس، فزوجه
بميمونة، فأضلا بعيريهما، فأقاما أياما ببطن رابغ، حتى أدركهما رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم بقديد، وقد ضمّا بعيريهما، فسارا معه حتى قدم مكة،
فأرسل إلى العباس، فذكر له ذلك، وجعلت ميمونة أمرها إلى [العباس] ، فخطبها
إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فزوجها إياه.
قال عبد الكريم الجزري، عن ميمون بن مهران: دخلت على صفية بنت شيبة عجوز
كبيرة، فسألتها: أتزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ميمونة وهو محرّم؟
قالت: لا، واللَّه لقد تزوجها وإنهما لحلالان [أخرجه ابن سعد في (الطبقات)
من طريق عبد اللَّه بن جعفر الرقى، ورجاله ثقات] .
أيوب، عن يزيد بن الأصم، قال: خطبها صلّى اللَّه عليه وسلم وهو حلال، وبنى
بها وهو حلال [أخرجه مسلم في النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته،
وابن ماجة عن يزيد بن الأصم، حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلم تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس] .
جرير بن حازم، عن أبى فزارة، عن يزيد بن الأصم، قال: دفنّا ميمونة بسرف، في
الظلة التي
(6/89)
هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن
هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قبيس بن غيلان بن مضر، أمها هند بنت
عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة، من حمير، وقيل: من كنانة، وهي أخت أم
الفضل لبابة الكبرى، امرأة العباس، ولبابة الصغرى امرأة الوليد بن المغيرة
المخزومي أم خالد بن الوليد، وأخت عصماء امرأة أبىّ بن خلف، وعزة امرأة
زياد بن عبد اللَّه الهلالي، وأخت أسماء بنت عميس، وسلمى بنت عميس، وسلامة
بنت عميس، وزينب بنت خزيمة.
وكانت عند أبى سبرة بن أبى رهم، وقيل: بل كانت عند أبى رهم عبد العزى بن
قيس بن عبد ودّ بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن
__________
[ () ] بنى بها فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد كانت حلقت في
الحج، نزلت في قبرها أنا وابن عباس. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) والحاكم
في (المستدرك) ، وصححه الذهبي، وأقره في (التلخيص) ] .
وعن عطاء: توفيت ميمونة بسرف، فخرجت مع ابن عباس إليها، فقال: إذا رفعتم
نعشها فلا تزلزلوها، ولا تزعزعوها. وقيل: توفيت بمكة، فحملت على الأعناق
بأمر ابن عباس إلى سرف، وقال: أرفقوا بها، فإنّها أمكم. [أخرجه ابن سعد في
(الطبقات) ، والحاكم في (المستدرك) .
وصححه الذهبي في (التلخيص) ] . وقال خليفة في (طبقاته) : توفيت سنة إحدى
وخمسين.
لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 7/ 463- 473، (طبقات ابن سعد) : 8/ 132- 140،
(طبقات خليفة) ، 338، (تاريخ خليفة) : 86، 218، (المعارف) : 137- 344،
(المستدرك) : 4/ 33، (الاستيعاب) : 4/ 1914، (تهذيب التهذيب) : 12/ 480،
ترجمة رقم (2898) ، (الإصابة) : 8/ 126، ترجمة رقم (11779) ، (خلاصة تذهيب
الكمال) :
496، (كنز العمال) : 13/ 708، (شذرات الذهب) : 1/ 12، 58، (المواهب
اللدنية) :
2/ 89- 90، (أسماء الصحابة الرواة) : 68، ترجمة رقم (44) ، (سير أعلام
النبلاء) :
2/ 238- 245، ترجمة رقم (27) .
وقال أبو عبد اللَّه الحاكم: ومما يتعجب من قضاء اللَّه تعالى وقدره: أن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بنى بميمونة بنت الحارث بسرف، وردها إلى
المدينة عند منصرفه من عمرة القضاء، وبقيت عنده إلى أن خرج رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم لفتح مكة، وقد أخرجها معه إلى أن فتح الطائف، وانصرف
راجعا إلى المدينة، فماتت ميمونة بسرف في الموضع الّذي بنى بها رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلم عند تزويجها. (المستدرك) :
4/ 33، كتاب معرفة الصحابة باب ذكر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضى
اللَّه عنها، حديث رقم (6796/ 2394) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) :
على شرط مسلم، ثم قال: وعن ابن شهاب قال: وقدر اللَّه أن يكون موتها بسرف،
وقبرت بها.
(6/90)
لؤيّ، وقيل: عند حويطب بن عبد العزى، وقيل:
عند أبى رهم بن عبد العزى، وقيل: عند فروة بن عبد العزى بن أسد بن غنم بن
دودان، وهو خطأ.
وقيل: هي التي وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، وفيها نزلت:
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ [ (1) ] الآية،
والثابت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [أرسل] [ (2) ] أبا رافع مولاه،
ورجلا من الأنصار يقال له: أوس بن خولى إلى مكة فخطباها عليه، فلما قدم مكة
في عمرة القضاء تزوج بها، زوّجه إياها العباس على عشر أواقي ونشّ، وقيل:
أربعمائة درهم، ويقال:
تزوجها على ما تركت زينب بنت خزيمة، وخرج من مكة، وخلّف أبا رافع ليحملها،
فوافاه بها بسرف، فبنى بها.
وقيل: بل بعث إليها بجعفر بن أبى طالب فخطبها، فجعلت أمرها إلى العباس
فزوّجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، وقيل: بل لقي العباس رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالجحفة حين اعتمر عمرة القضية فقال له: يا
رسول اللَّه، إن ميمونة بنت الحارث تأيمت، هل لك أن تتزوجها؟ فتزوجها وهو
محرم، كما خرجاه في الصحيحين من حديث ابن عباس، وقيل: بل كان حلالّا، كما
رواه مسلم عن ميمونة، والترمذي عن أبى رافع وكان اسمها برة، فسماها رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ميمونة، وبنى بها بسرف بعد ما خرج من مكة،
وتوفيت بسرف في الموضع الّذي ابنتي بها فيه رسول اللَّه، وذلك سنة إحدى
وخمسين، وقيل: سنة ست وستين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وصلّى عليها عبد اللَّه
بن عباس، ودخل قبرها هو ويزيد بن الأصم، وعبد اللَّه بن شداد بن الهادي،
وهم بنو أخواتها، وعبيد اللَّه الخولانيّ وكان يتيما في حجرها، وهي آخر من
تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقيل: ماتت بمكة فحملت إلى سرف [ (3) ]
فدفنت هناك.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] موضع على ستة أميال من مكة (معجم البلدان) : 3/ 329، موضع رقم
(6378) .
(6/91)
|