إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

فصل في ذكر من جعله النبي عليه السلام على مغانم حروبه
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل على مغانم حروبه غير واحد من أصحابه فجعل على المغانم يوم بدر في قول ابن إسحاق: عبد اللَّه بن كعب بن عمرو ابن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن النجار أبا الحارث. وقيل:
أبا يحيى الأنصاري المازني، وقال أبو عمر بن عبد البر: شهد بدرا وكان على غنائم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر، وشهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وكان على خمس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في غيرها. كانت وفاته بالمدينة سنة ثلاثين، وصلّى عليه عثمان [ (1) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وذكر الواقدي [ (2) ] : أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمل على غنائم بدر عبد اللَّه بن كعب، هذا أتم. قال: وقد قيل: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمل عليها خباب بن الأرتّ [ (3) ] بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، التميمي بالنسب، الخزاعي بالولاء، الدهري بالحلف، أحد المهاجرين الأولين، جعله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أسرى بدر.
ذكر أبو محمد بن حزم بن عبد اللَّه بن عبد يغوث بن عويج بن عمرو أن زيد الأصغر الّذي ولاه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الغنائم يوم بدر. وقال ابن عبد البر
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 981.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 100.
[ (3) ] هو خباب بن الأرت، أصله عربي ولحقه سباء في الجاهلية فبيع بمكة وهو أحد السابقين وممن عذب في اللَّه تعالى وكان سادس ستة في الإسلام، وكان حدادا يصنع السيوف. وشهد بدرا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمشاهد كلها.
قال الشعبي: سأل عمر بن الخطاب خبابا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عما لقي من المشركين فقال: يا أمير المؤمنين انظر إلى ظهري، فنظر، فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل. قال خباب: لقد أوقدت نارا وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري. روى عنه ابنه عبد اللَّه ومسروق وقيس بن أبى حازم وغيرهم. نزل الكوفة وتوفى بها سنة (37) وهو أول من دفن بظهر الكوفة من الصحابة. (أسماء الصحابة الرواة) : 100، ترجمة رقم (89) .

(9/290)


كان من مهاجرة الحبشة وتأخر إقفاله منها، وأول مشاهده المريسيع واستعمله، رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأخماس. وذكر مسلم [ (1) ] في كتاب الزكاة أن محمية بن جزء استعمله الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأخماس.
وقال الواقدي [ (2) ] في غزاة المريسيع: حدثني أبو بكر بن عبد اللَّه بن أبى سبرة، عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن أبى الجهم، قال: أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ]
(مسلم بشرح النووي) : 7/ 186- 187، كتاب الزكاة باب (51) ترك استعمال آل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الصدقة، حديث رقم (168) ، ولفظه: حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب أخبرنى يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل الهاشمي، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب والعباس بن عبد المطلب قالا لعبد المطلب بن ربيعة وللفضل بن عباس ائتيا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وساق الحديث بنحو حديث مالك وقال فيه: فألقى عليّ رداءه ثم اضطجع عليه وقال أنا أبو حسن القرم واللَّه لا أريم مكاني حتى يرجع اليكما ابناكما بحور ما بعثتما به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقال في الحديث: ثم قال لنا: إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولآل محمد، وقال أيضا:
ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادعوا لي محمية بن جزء
وهو رجل من بنى أسد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمله على الأخماس.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم «ادعوا لي محمية بن جزء وهو رجل من بنى أسد» :
أما محمية فبميم مفتوحة ثم حاء مهملة ساكنة ثم ميم أخرى مكسورة ثم ياء مخففة، وأما جزء فبجيم مفتوحة ثم زاي ساكنة ثم همزة، هذا هو الأصح قال القاضي: هكذا تقوله عامة الحفاظ وأهل الإتقان ومعظم الرواة، وقال عبد الغنى بن سعيد: يقال: جزي بكسر الزاى يعنى وبالياء وكذا وقع في بعض النسخ في بلادنا. قال القاضي: وقال أبو عبيد: هو عندنا جزّأ مشدد الزاى، وأما قوله: «وهو رجل من بنى أسد» ، فقال القاضي: كذا وقع والمحفوظ أنه من بنى زبيد لا من بنى أسد. (شرح النووي) .
وقال الواقدي استعمل على الأسرى شقران مولاه، واستعمل على مقسم الخمس وصهبان المسلمين محمية بن جزء الزبيدي، فأخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الخمس من جميع المغنم، فقال يليه محمية بن جزء الزبيد. (مغازي الواقدي) : 1/ 410.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 409- 410.

(9/291)


بالأسرى فتكفوا وجعلوا ناحية، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب، وأمر بما وجد في رحالهم من رثة [المتاع] والسلاح فجمع، وعمد إلى النعم والشاء فسيق واستعمل عليهم شقران مولاه، وجمع الذرية ناحية، واستعمل على المقسم- مقسم الخمس- وسهمان المسلمين محمية بن جزء الزبيدي، فأخرج الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الخمس من جميع المغنم، فكان يليه محمية بن جزء.
[ولما نزل بنو قينقاع على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وربطوا جعل على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي، وأجلاهم محمد بن مسلمة الأنصاري [ (1) ] ، وقبض أموالهم [ (2) ]] .
وقال الواقدي [ (3) ] أيضا: وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبادة بن الصامت [ (4) ] أن يجليهم، فجعلت قينقاع تقول: يا أبا الوليد، من بين الأوس والخزرج- ونحن مواليك- فعلت هذا بنا؟ فقال لهم عبادة: لما حاربتم جئت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللَّه إني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم. وكان عبد اللَّه ابن أبيّ ابن سلول، وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف. فقال عبد اللَّه بن أبي: تبرأت من حلف مواليك؟ ما هذه بيدهم عندك. فذكّره مواطن
__________
[ (1) ] هو محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة أبو عبد اللَّه وأبو سعيد الأنصاري، ولد قبل البعثة باثنين وعشرين سنة، شهد بدرا وأحدا، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا تبوك ومات بالمدينة سنه (46) أو (47) وله (77) سنة وهو أحد الذين قتلوا كعب بن الأشرف.
واستخلفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المدينة في بعض غزواته.. واستعمله عمر على صدقات جهينة.
(أسماء الصحابة الرواة) : 134 ترجمة (140) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 179- 180.
[ (4) ] هو عبادة بن الصامت بن قيس بن صرم بن فهر بن ثعلبة بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري، الخزرجي، توفى سنة (34) بالرملة، عاش (45) سنه. من مناقبه: نزل فيه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] . لما تبرأ من حلفه من بنى قينقاع لما خانوا المسلمين في غزوة الخندق.
(أسماء الصحابة الرواة) : 51 ترجمة (20) ، (الإصابة) : 3/ 624، (الاستيعاب) : 807- 808.

(9/292)


قد أبلوا فيها. فقال عبادة: أبا الحباب، تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، أما واللَّه إنك لمعتصم بأمر سترى غبه غدا! فقالت قينقاع: يا محمد، إن لنا دينا في الناس. قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: تعجلوا وضعوا! وأخذهم عبادة بالرحيل والإجلاء، وطلبوا التنفس فقال لهم: ولا ساعة من نهار، لكم ثلاث لا أزيدكم عليها!
هذا أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولو كنت أنا ما نفستكم. فلما مضت ثلاث خرج في آثارهم حتى سلكوا الشام، وهو يقول: الشرف الأبعد، الأقصى، فأقصى، وبلغ خلف ذباب [ (1) ] ، ثم رجعوا ولحقوا بأذرعات [ (2) ] .
وولى إخراج بني النضير محمد بن مسلمة، الّذي قبض أموالهم والحلقة وكشفهم عنها.
قال الواقدي أيضا [ (3) ] : وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد استعمل على أموال بني النضير- يعني التي جعلها اللَّه تعالى خاصة- أبا رافع مولاه، وربما جاءه بالباكورة منها.
وقال في بنى قريظة: فلما جهدهم الحصار ونزلوا على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بأسراهم فكتفوا رباطا، وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة ونحوا ناحية، وأخرجوا النساء والذرية من الحصون وكانوا ناحية، واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليهم عبد اللَّه بن سلام.
قال الواقدي [ (4) ] : فحدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد بن طلحة، عن أبيه، قال: لما سبى بنو قريظة النساء والذرية باع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم
__________
[ (1) ] ذباب بكسر أوله وباءين: جبل بالمدينة، له ذكر في المغازي والأخبار، ذكر ابن هشام في سيرته في غزوة تبوك: وضرب عبد اللَّه بن أبىّ مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على حدة عسكره أسفل منها، نحو ذباب، فلما سار رسول اللَّه تخلف عنه عبد اللَّه بن أبىّ في من تخلف من المنافقين وأهل الريب. (معجم البلدان) : 3/ 3.
[ (2) ] أذرعات: بالفتح، ثم السكون، وكسر الراء، وعين مهملة، وألف وتاء. كأنه جمع أذرعة، جمع ذراع جمع قلة: وهو بلد في أطراف الشام، يجاور أرض البلقاء وعمان، ينسب إليه الخمر. (المرجع السابق) : 1/ 158.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 378.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 523- 524.

(9/293)


من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف طائفة وبعث طائفة، إلى نجد، وبعث طائفة إلى الشام مع سعد بن عبادة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، يبيعهم ويشترى بهم سلاحا وخيلا.
ويقال باعهم بيعا من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فاقتسما فسهمه عثمان بمال كثير، وجعل عثمان على كل من جاء من سبيهم شيئا موفيا، فكان يوجد عند العجائز المال ولا يوجد عند الشواب، فربح عثمان مالا كثيرا- وسهم عبد الرحمن- وذلك أن عثمان صار في سهمه العجائز.
ويقال: لما قسم جعل الشواب على حدة والعجائز على حدة، ثم خير عبد الرحمن عثمان، فأخذ عثمان العجائز.
قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: كان السبي ألفا من النساء والصبيان، فأخرج الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسة قبل بيع المغنم، وجزّأ السبي خمسة أجزاء، فأخذ خمسا، فكان يعتق منه، ويهب منه، ويخدم منه من أراد. وكذلك صنع بما أصاب من رثتهم، قسمت قبل أن تباع، وكذلك النخل، عزل خمسة. وكل ذلك يسهم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسة أجزاء ويكتب في سهم منها «للَّه» ثم يخرج السهم، فحيث صار سهمه أخذه ولم يتخير. وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدي، وهو الّذي قسم المغنم بين المسلمين.
حدثني عبد اللَّه بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يسهم ولا يتخيبر [ (1) ] .
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يفرق بين بنى قريظة في القسم والبيع والنساء والذرية.
وذكر ابن فتحون في (الذيل على كتاب الاستيعاب) : أن صاحب المغانم يوم خيبر هو كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري، وعن ابن وهب أنه كان على المغانم يوم خيبر أبو اليسر كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 524.

(9/294)


سواد بن غنم ابن كعب بن سلمة الأنصاري [ (1) ] ، [وقيل كعب بن عمر بن تميم ابن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي] [ (2) ] .
وقال الواقدي [ (3) ] : واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الغنائم يوم خيبر فروة ابن عمرو البياضي الأنصاري. فكان قد جمع ما غنم المسلمون في حصون النطاة، وحصون الشق، وحصون الكتيبة، لم يترك على أحد من أهل الكتيبة إلا ثوبا على ظهره من الرجال والنساء والصبيان، جمعوا أثاثا كثيرا وسلاحا كثيرا، وغنما وبقرا، وطعاما وأدما كثيرا، فأما الطعام والأدم والعلف فلم يخمس، يأخذ منه الناس حاجتهم، وكان من احتاج إلى سلاح يقاتل به أخذه من صاحب المغنم، حتى فتح اللَّه عليهم فرد ذلك إلى المغنم، فلما اجتمع ذلك كله أمر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجزّى خمسة أجزاء، وكتب في سهم منها «اللَّه» وسائر السهمان أغفال، فكان أول ما خرج سهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يتخير في الأخماس، ثم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببيع الأربعة الأخماس فيمن يزيد، فجعل فروة يبيعها فيمن يزيد،
فدعا فيها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبركة، وقال: اللَّهمّ ألق علينا النفاق!
قال فروة ابن عمرو: فلقد رأيت الناس يتداركون علي ويتواثبون حتى نفق في يومين، ولقد كنت أرى أنا لا نتخلص منه حينا لكثرته.
وفي مسند الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سبى يوم خيبر ستة آلاف بين امرأة وغلام فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عليها أبا سفيان بن الحارث رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
__________
[ (1) ] هو كعب بن عمرو الأنصاري. شهد بدرا بعد العقبة، وهو الّذي أسر العباس بن عبد المطلب يوم بدر، وهو الّذي انتزع راية المشركين، ثم شهد صفين مع على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، يعد في أهل المدينة، ومات بها وله (55) سنة. (الاستيعاب) : 4/ 1776.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين: زيادة للسياق من (الإصابة) : 7/ 468.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 680.

(9/295)


وذكر أبو محمد بن حزم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمل أبا الجهم [ (1) ] عامر بن عبيد بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد اللَّه بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب القرشي العدوي على الغنائم يوم خيبر.
وذكر عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الأثير في كتاب (الكامل في التاريخ) [ (2) ] أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم خيبر أمر بالسبايا والأموال فجمعت إلى الجعرانة، وجعله عليها بديل بن ورقاء [بن عمرو بن ربيعة بن عبد العزى ابن ربيعة بن جرى بن عامر بن مازن بن عدي بن عمرو بن ربيعة] [ (3) ] بن ربيعة الخزاعي.
وذكر البخاري عند سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي عن أبيه، عن ابن إسحاق قال: حدثني إبراهيم ابن أبي عبلة، عن ابن بديل بن ورقاء، سمع أبيه يقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بديلا أن يحبس السبايا والأموال بالجعرانة حتى
__________
[ (1) ] كان من أعلم الناس بأنساب قريش وله صحبة، وكان يخاف للسانه، والجهامة غلظ الوجه وبه سمى الأسد جهمنا. ومنه قولهم: تجاهمنى فلان، إذا لقيني لقاء بشعا. (جمهرة النسب للكلبي) :
108، (الاشتقاق) : 104، (الاستيعاب) : 4/ 1623، ترجمة رقم (2899) .
[ (2) ] (الكامل في التاريخ) : 2/ 266، وكان ذلك في غزوة هوازن بحنين.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة للنسب من (الإصابة) ، قال ابن السكن: له صحبة. سكن مكة، وفي (المغازي) عن ابن إسحاق وغيره- أن قريشا لجئوا يوم فتح مكة إلى دار بديل ابن ورقاء ودار رافع مولاه، وكان إسلامه قبل الفتح، وقيل يوم الفتح.
وروى البخاري في (تاريخه) والبغوي من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني إبراهيم بن أبى عبلة، عن ابن بديل بن ورقاء، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أمره أن يحبس السبايا والأموال بالجعرانة حتى يقدم عليه ففعل.
وروى أبو نعيم، من طريق ابن جريج، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أم الحارث بنت عياش بن أبى ربيعة، أنها رأت بديل بن ورقاء يطوف على جمل أورق يمنى يقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينهاكم أن تصوموا هذه الأيام، فإنّها أيام أكل وشرب، (الإصابة) : 1/ 275- 276، ترجمة رقم: (614) ، (الاستيعاب) : 1/ 150، ترجمة رقم: (167) .

(9/296)


يقدم عليه ففعل. وقال ابن إسحاق كان على المغانم يوم حنين مسعود بن عمرو [الغفاريّ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ] .
وقال الواقدي: فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الجعرانة أقام يتربص أن يقدم عليه وفدهم، وبدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس.
وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد غنم فضة كثيرة، أربعة آلاف أوقية، فجمعت الغنائم بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فجاء أبو سفيان بن حرب وبين يديه الفضة، فقال: يا رسول اللَّه، أصبحت أكثر قريش مالا! فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال [أبو سفيان] :
أعطنى من هذا المال يا رسول اللَّه! فقال يا بلال، زن لأبى سفيان أربعين أوقية وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني يزيد أعطه! قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان:
ابني معاوية، يا رسول اللَّه! قال: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل.
قال أبو سفيان: إنك لكريم، فداك أبي وأمي-! واللَّه لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك اللَّه خيرا! وأعطى في بنى أسد.
قال الواقدي: وحدثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، قالا: حدثنا حكيم بن حزام قال: سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحنين مائة من الإبل فأعطانيها. ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا حكيم بن حزام، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من السفلى، وابدأ بمن تعول!
قال: فكان حكيم يقول: والّذي بعثك بالحق، لا أرزأ [ (2) ] أحدا بعدك شيئا! فكان عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يدعوه إلى عطائه فيأبى يأخذه، فيقول عمر: أيها الناس، إني أشهدكم على حكيم أنى
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 129، سبايا حنين وأموالها، ثم قال: وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسبايا والأموال إلى الجعرانة فحبست بها. وما بين الحاصرتين زيادة للنسب من (ابن هشام) .
[ (2) ] لا أرزأ: أي لا آخذ من أحد. (النهاية) : 2/ 78.

(9/297)


أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه. قال: حدثنا ابن أبى الزناد، قال: أخذ حكيم المائة الأولى ثم ترك.
وفي بنى عبد الدار: النضير، وهو أخو النضر بن الحارث بن كلدة، مائة من الإبل. وفي بنى زهرة: أسيد بن حارثة حليف لهم، مائة من الإبل.
وأعطى العلاء بن جارية خمسين بعيرا، وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا، وقد رأيت عبد اللَّه بن جعفر ينكر أن يكون أخذ مخرمة في ذلك، وقال: ما سمعت أحدا من أهلي يذكر أنه أعطى شيئا، ومن بنى مخزوم:
الحارث بن هشام مائة من الإبل، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل.
وأعطى في بنى جمح صفوان بن أمية مائة بعير، ويقال: إنه طاف مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتصفح الغنائم إذ مر بشعب مما أفاء اللَّه عليه، فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء، فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه.
فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا بنى، وأشهد أنك رسول اللَّه! وأعطى قيس بن عدي مائة من الإبل، وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل.
وفي بنى عامر بن لؤيّ أعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة من الإبل، وأعطى هشام بن عمر خمسين من الإبل، وأعطى في العرب الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن بدر الفزارىّ مائة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل. وأعطى العباس بن مرداس السلمي أربعا من الإبل، فعاتب النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في شعر قاله [ (1) ] .
__________
[ (1) ] وذكر الواقدي شعر العباس بن مرداس السلمي فقال:
كانت نهابا تلافيتها ... بكرّى على القوم في الأجرع
وحثّى الجنود لكي يدلجوا ... إذا هجع القوم لم أهجع
فأصبح نهى ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
إلّا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع

(9/298)


فرفع أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أبياته إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للعباس: أنت الّذي تقول: «أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة» ؟ فقال أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: بأبي وأمى يا رسول اللَّه، ليس هكذا! قال، قال: كيف؟ قال: فأنشده أبو بكر كما قال عباس، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: سواء ما يضرك بدأت بالأقرع أم عيينة! فقال أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: بأبي أنت وأمى، ما أنت بشاعر ولا راوية، ولا ينبغي لك [ (1) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقطعوا لسانه عنى.
فأعطوه مائة من الإبل، ويقال خمسين من الإبل، ففزع منها أناس، وقالوا: أمر بعباس يمثل به. وقد اختلف علينا فيما أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ الناس.
فحدثني عبد اللَّه بن جعفر، عن ابن أبى عون، عن سعد، عن إبراهيم ويعقوب بن عتبة، قالا: كانت العطايا فارعة من الغنائم. قال: حدثني موسى ابن إبراهيم، عن أبيه، قال: كانت من الخمس. فأثبت القولين أنها من الخمس.
__________
[ () ]
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
معاني المفردات:
- كانت: يعنى الإبل والماشية.
- النهاب: جمع نهب، وهو ما ينهب ويغنم.
- الأجرع: المكان السهل.
- العبيد: فرس عباس بن مرداس.
- أفائل: جمع أفيل، وهي الصغار من الإبل.
- ذا تدرإ: أي ذا دفع، من قولك: درأه إذا دفعه.
[ (1) ] يشر بذلك إلى قوله تعالى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ* لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ [يس: 69- 70] .

(9/299)


قال سعد بن أبى وقاص: يا رسول اللَّه، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمريّ! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما والّذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكنى تالفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
وجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ وفي ثوب بلال فضة يقبضها للناس على ما أراه اللَّه، فأتاه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول اللَّه! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويلك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر: يا رسول اللَّه، ائذن لي أن أضرب عنقه! قال: دعه، إن له أصحابا! يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر [الرامي] في قذذه فلا يرى شيئا، ثم ينظر في نصله فلا يرى شيئا، ثم ينظر في رصافه فلا يرى شيئا، قد سبق الفرث والدم، يخرجون على فرقة من المسلمين، رأيتهم إن فيهم رجلا أسود، إحدى يديه [مثل ثدي] المرأة وكبضعة تدردر [ (1) ] .
فكان أبو سعيد يقول:
أشهد لسمعت عليا يحدث هذا الحديث [ (2) ] .
قال عبد اللَّه بن مسعود: سمعت رجلا من المنافقين يومئذ ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعطى تلك العطايا، وهو يقول: إنها العطايا ما يراد بها وجه اللَّه! قلت:
__________
[ (1) ] تدردر: أي ترجرج، تجيء وتذهب، والأصل تتدردر، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا (النهاية) 2/ 20.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 766، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام حديث رقم (3610) ، وتمامة: قال أبو سعيد: فأشهد أن سمعت هذا الحديث من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأشهد إن على بن أبى طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتى به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي نعته. وأخرجه في الأدب باب (95) ، وفي استتابة المرتدين باب (7) ، (مسلم) في الزكاة، (148) - (156) - (157) ، و (أبو داود) : في السنة، باب (38) ، والإمام أحمد في (المسند) : 3/ 459 حديث رقم (11143) ، 3/ 473، حديث رقم (11227) ، كلاهما من مسند أبى سعيد الخدريّ.

(9/300)


أما واللَّه لأبلغن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قلت. فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته، فتغير لونه حتى ندمت على ما صنعته، فوددت أنى لم أخبره، ثم قال: يرحم اللَّه أخى موسى! قد أوذى بأكثر من هذا فصبر!
وكان المتكلم بهذا معتب بن قشير العمرى. ثم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثم فضها على الناس، فكانت سهامهم، لكل رجل أربع من الإبل أو أربعون شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنتي عشرة من الإبل، أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له [ (1) ] .

فصل في ذكر من كان على ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
خرّج البخاري [ (2) ] من حديث ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كان على ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل يقال له كركرة [فمات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هو في النار،
فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها] [ (3) ] [يعنى يوم خيبر] [ (4) ] .
وخرج مسلم [ (5) ] من حديث سفيان بن عيينة، عن صالح بن كيسان، عن سليمان بن يسار، قال: قال أبو رافع: لم يأمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أنزل
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 944، وما بعدها، مختصرا.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 230، كتاب الجهاد والسير، باب (190) ، القليل من الغلول، حديث رقم (3074) ، وفي الحديث تحريم قليل الغلول وكثيرة، وقوله: «هو في النار» أي يعذب على معصية، أو المراد هو في النار إن لم يعف اللَّه عنه، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) :
2/ 950، كتاب الجهاد، باب (34) الغلول، حديث رقم (2849) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (الأصل) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) 9/ 67، كتاب الحج باب (59) استحباب النزول بالمحصب يوم النفر، والصلاة به، حديث رقم (1313) ، قال الكتاني: ترجمة في (الإصابة) لعبد اللَّه بن زيد بن عمرو بن مازن الأنصاريّ، فقال: ذكره ابن مندة وأخرجه من طريق يونس بن بكير، عن

(9/301)


بالأبطح حين خرج من منى، ولكنى جئت فضربت فيه قبته، فجاء فنزل.
قال أبو بكر في رواية صالح: قال: سمعت سليمان بن يسار. وفي رواية قتيبة قال: عن أبى رافع رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وكان على ثقل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [في حجة الوداع واللَّه أعلم] .

فصل في ذكر من حدا [ (1) ] برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أسفاره
اعلم أنه حدا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى خيبر: عامر بن الأكوع وهو عامر بن سنان بن عبد اللَّه بن قشير الأسلمي، المعروف بابن الأكوع، عم سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان، ويقال أخوه. أحد من بايع تحت الشجرة [ (2) ] .
__________
[ () ] ابن إسحاق، أنه كان على ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتعقبه أبو الفتح بأن الّذي كان على الثقل عبد بن كعب بن عمرو بن عوف. وترجم لعبد اللَّه بن كعب الأنصاريّ فذكر أنه كان على ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. (التراتيب الإدارية) 1/ 351- 352، باب في ذكر صاحب الثقل متاع المسافر وحشمه.
[ (1) ] حدا الإبل، وحدا بها، يحدو حدوا وحداء، ممدود: زجرها خلفها وساقها. قال الجوهري:
الحدو سوق الإبل والغناء لها. (لسان العرب) : 14/ 168.
[ (2) ] ثبت ذكره في الصحيح من حديث سلمة في قصة خيبر، قال: فقاتل أخى عامر قتالا شديدا فارتد عليه سيفه فقتله، فقالوا: حبط عمله،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذب من قال، إنه لجاهد ومجاهد قلّ عربىّ نشأ بها مثله.
قال ابن عبد البر: قرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم، حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة. حدثنا هاشم بن القاسم. حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع، قال أخبرنى أبى قال: لما خرج عمى عامر بن سنان إلى خيبر مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل يرتجز بأصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وفيهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعل يسوق الركاب، وهو يقول:
باللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا-

(9/302)


خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة بن الأكوع رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر فسرنا ليلا، وقال البخاري: فسرنا ليلا. فقال رجل من القوم لعامر: يا ابن الأكوع، يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللَّهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا ... وثبت الأقدام ان لاقينا
وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع قال يرحمه اللَّه، قال رجل من القوم: وجببت يا نبي اللَّه، لولا أمتعتنا به، قال:
فأتينا خيبر فحاصرناهم، حتى أصابتنا مخمصة شديدة. ثم قال: إن اللَّه عز وجل فتحها عليكم، قال: فلما أمسى الناس مساء اليوم الّذي فتحت عليهم
__________
[ () ]
إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبّت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من هذا؟ قالوا: عامر يا رسول اللَّه. قال: غفر لك ربك. وقال:
وما استغفر لإنسان قط يخصه بالاستغفار إلا استشهد. قال: فلما سمع ذلك عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: يا رسول اللَّه، لو متعتنا بعامر، فاستشهد يوم خيبر.
(الإصابة) : 3/ 582- 583، ترجمة رقم (4396) ، (الاستيعاب) : 2/ 785- 787، ترجمة رقم (1317) .
[ (1) ] (فتح الباري) 7/ 589، كتاب (المغازي) ، باب (39) غزوة خيبر، حديث رقم (4196) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 408- 412، كتاب الجهاد والسير، باب 43 غزوة خيبر، من طرق وبسياقات مختلفة، بنحو حديث البخاري، حديث رقم (123) .

(9/303)


أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما هذه النيران؟ على أي شيء يوقدون؟ فقالوا: على لحم، قال: أي لحم؟ وقال البخاري: على أي لحم قالوا: لحم حمر الإنسية، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أهريقوها، واكسروها، فقال رجل من القوم أو يهريقوها ويغسلوها؟ وقال البخاري: فقال رجل يا رسول اللَّه أو نهريقها ونغسلها؟ قال: أو ذاك، فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق يهودي ليضربه، ويرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبة عامر فمات منه.
قال: فلما قفلوا، قال سلمة وهو آخذ بيدي: قال فلما رآني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ساكتا قال: مالك؟ قلت له: فداك أبى وأمه، زعموا أن عامرا حبط عمله، قال: من قاله؟ قلت: فلان وفلان، وأسيد بن حضير الأنصاريّ، فقال: كذب من قاله. إن له لأجرين، وجمع بين إصبعيه، إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله. وخالف قتيبة محمدا في الحديث في حرفين. وفي رواية ابن عباد: وألق سكينة علينا.
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبى عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وذكر الحديث.
ذكره في الأدب، في باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، وفيه: فلما قفلوا قال سلمة: رآني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شاحبا، فقال لي: ما لك؟
فقلت: فدى لك أبي وأمي ... الحديث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 658- 659، كتاب الأدب باب (90) ما يجوز من الشعر، والرجز، والحداء، وما يكره منه، وقوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: 224- 227] ، قال ابن عباس: في كل لغو يخوضون، حديث رقم (6148) . قال الحافظ: وأما الرجز فهو بفتح الراء والجيم بعدها زاي، وهو نوع من الشعر عند الأكثر، وقيل: ليس بشعر لأنه يقال راجز، لا شاعر وسمى رجزا لتقارب أجزائه واضطراب اللسان به، ويقال: رجز

(9/304)


وذكره في غزوة خيبر بهذا الإسناد إلى آخره، وقال فيه: فسرنا ليلا، وفيه: قال: على أي لحم؟ وقال: فاغفر، فداء لك ما اتقينا [ (1) ] .
__________
[ () ] البعير إذا تقارب خطوه واضطرب لضعف فيه، وأما الحداء فهو بضم الحاء وتخفيف الدال المهملتين يمد ويقصر: سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، والحداء في الغالب إنما يكون بالرجز وقد يكون بغيره من الشعر وبذلك عطفه على الشعر والرجز، وقد جرت عادة الإبل أنها تسرع السير إذا حدى بها.
وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن طاوس مرسلا، وأورده موصولا عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في بعض: إن أول من حدا الإبل عبد لمضر بن نزار بن معد بن عدنان كان في إبل لمضر فقصر، فضربه على يده فأوجعه فقال: يا يداه يا يداه، وكان حسن الصوت فأسرعت الإبل لما سمعته في السير، فكان ذلك مبدأ الحداء.
ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد.
وأخرجه البخاري (الأدب المفرد) أيضا من حديث عبد اللَّه بن عمر مرفوعا بلفظ:
الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. وسنده ضعيف. وأخرجه الطبراني في (الأوسط) ، وقال: لا يروى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بهذا الإسناد. وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعيّ. واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر.
وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية والاقتصار على نسبة ذلك للشافعي، وقد شاركهم في ذلك ابن بطال وهو مالكي، وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال: لا بأس به ما لم يكن فحشا. (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 588- 589، كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر، حديث رقم (4195) ، قوله: «إنه لجاهد مجاهد» كذا للأكثر باسم الفاعل فيهما وكسر الهاء والتنوين، والأول مرفوع على الخبر. والثاني إتباع للتأكيد، كما قالوا: جاد مجد. وقال ابن التين:
الجاهد من يرتكب المشقة، ومجاهد أي لأعداء اللَّه تعالى. -

(9/305)


وذكره في كتاب الدعاء من حديث مسدد، حدثنا يحيى عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة، حدثنا سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر، قال رجل من القوم: أيا عامر لو أسمعتنا من هنيهاتك، فنزل يحدو بهم يذكر «تاللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا» وذكر شعرا غير هذا، ولكنى لم أحفظه.
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع. قال: يرحمه اللَّه. فقال رجل من القوم: يا رسول اللَّه، لولا متعتنا به. فلما صافّ القوم قاتلوهم، فأصيب عامر بقائمة سيف نفسه، فمات. فلما أمسوا أوقدوا نارا كثيرة. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هذه النار، على أي شيء توقدون؟ قالوا:
على حمر إنسية. فقال: أهريقوا ما فيها وكسروها. قال رجل: يا رسول اللَّه، ألا نهريق ما فيها ونغسلها؟ قال: أو ذاك [ (1) ] .
وخرّج مسلم [ (2) ] بعد حديث حاتم بن إسماعيل [ (3) ] من حديث ابن وهب قال أخبرني يونس بن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن ونسبه غير ابن وهب، فقال: ابن عبد اللَّه بن كعب بن مالك أن سلمة بن الأكوع قال: لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا شديدا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فارتد عليه سيفه فقتله، فقال أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك وشكّوا فيه: رجل مات في سلاحه، وشكوا في بعض أمره، قال سلمة: فقفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيبر، فقلت: يا رسول اللَّه ائذن أن أرجز لك، فأذن له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: أعلم ما تقول،
قال: فقلت:
__________
[ (-) ] قوله: «قلّ عربي مشى بها مثله» كذا في هذه الرواية بالميم، والقصر من المشي، والضمير للأرض، أو المدينة، أو للحرب، أو للخصلة. (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ]
(فتح الباري) : 11/ 163، كتاب الدعوات باب (19) قول اللَّه تبارك وتعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، ومن خص أخاه بدعاء دون نفسه، وقال أبو موسى: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اغفر لعبيد أبى عامر، اللَّهمّ اغفر لعبد اللَّه بن قيس ذنبه، حديث رقم (6331) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 411- 412، كتاب الجهاد والسير، باب (43) غزوة خيبر، حديث رقم (124) .
[ (3) ] حديث حاتم بن إسماعيل هو الحديث رقم (123) .

(9/306)


واللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صدقت:
وأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
قال فلما قضيت وجزى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من قال هذا؟ قلت له:
أخي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يرحمه اللَّه، قال: فقلت: يا رسول اللَّه إن ناسا ليهابون الصلاة عليه، يقولون: رجل مات بسلاحه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
مات جاهدا مجاهدا، قال ابن شهاب: ثم سألت ابنا لسلمة بن الأكوع فحدثني عن أبيه مثل ذلك، غير أنه قال حين قلت: إن ناسا يهابون الصلاة عليه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبوا، مات جاهدا مجاهدا، فله أجره مرتين، وأشار بإصبعيه.
قال الواقدي [ (1) ] : فلما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى خيبر، قال لعامر بن سنان انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك، فاقتحم عامر عن راحلته ثم ارتجز برسول اللَّه وهو يقول:
واللَّهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يرحمك اللَّه،
فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: وجبت واللَّه يا رسول اللَّه فقال رجل من القوم لولا متعتنا به يا رسول اللَّه! فاستشهد عامر يوم خيبر.
وخرج النسائي [ (2) ] من حديث يونس عن ابن شهاب قال: أخبرنى عبد الرحمن وعبد اللَّه ابنا كعب بن مالك، أن سلمة بن الأكوع قال: لما كان
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 638- 639.
[ (2) ] (سنن النسائي) 6/ 338- 339، كتاب الجهاد، باب (29) من قاتل في سبيل اللَّه فارتد عليه سيفه فقتله.

(9/307)


يوم خيبر قاتل أخى قتال شديدا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فارتد عليه سيفه فقتله، فقال أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وشكوا فيه: رجل مات بسلاحه،
قال سلمة: فقفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيبر، فقلت: يا رسول اللَّه أتأذن لي أن أرتجز بك؟
فأذن له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أعلم ما تقول قلت:
واللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صدقت فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا فلما قضيت رجزى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من قال هذا؟ قلت: أخى، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يرحمه اللَّه، فقلت: يا رسول اللَّه، واللَّه إن ناسا لا ليهابون الصلاة عليه، يقولون: رجل مات بسلاحه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مات جاهدا مجاهدا.
قال ابن شهاب: ثم سألت ابنا لسلمة بن الأكوع فحدثني عن أبيه مثل ذلك، غير أنه قال حين قلت: إن ناسا ليهابون الصلاة عليه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
كذبوا مات جاهدا مجاهدا، فله أجره مرتين وأشار بإصبعيه.
وذكر الواقدي [ (1) ] في مسير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر: أنه قال لعبد اللَّه بن رواحة: ألا تحرك بنا الركب، فنزل عبد اللَّه عن راحلته فقال:
واللَّه لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ ارحمه،
فقال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: وجبت يا رسول اللَّه، قال الواقدي: قتل يوم مؤتة شهيدا.
وخرّج الترمذي [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث عبد الرزاق قال: أنبأنا جعفر ابن سليمان، حدثنا ثابت، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن النبي
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 639.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 127- 128، كتاب الأدب، باب (70) ، ما جاء في إنشاد الشعر، حديث رقم (2847) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 5/ 222،

(9/308)


صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد اللَّه بن رواحة بين يديه يمشى وهو يقول: -
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي حرم اللَّه تقول الشعر؟ فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: خل عنه يا عمر، فلهى أسرع فيهم من نضح النبل.
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث أيضا عن معمر عن الزهري عن أنس نحو هذا، وروى في غير هذا الحديث أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه، وهذا أصح عند بعض أهل الحديث لأن عبد اللَّه بن رواحة قتل يوم مؤتة، وإنما كانت عمرة القضاء بعد ذلك.
قلت: من قال: أن عمرة القضاء كانت بعد مؤتة، لأنه لم يكن بعد مؤتة الأصح مكة وكانت عمرة الحديبيّة وهي التي صدّ المشركون فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن البيت في ذي القعدة سنة ست وفيها صالح المشركين على أن يرجع إلى المدينة ثم يعتمر من قابل، وكان فتح مكة في رمضان في عمرة القضاء.
__________
[ () ] كتاب المناسك، باب (109) إنشاد الشعر في الحرم والمشي بين يدي الإمام، حديث رقم (2873) ، وأخرجه النسائي أيضا في باب (121) استقبال الحج، حديث رقم (2893) ، وقوله: «فقال له عمر إلخ» كأنه رأى أن الشعر مكروه فلا ينبغي أن يكون بين يديه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي حرمه تعالى ولم يلتفت إلى تقرير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لاحتمال أن يكون قلبه مشتغلا بما منعه عن الالتفات إلى الشعر.
قوله: «أسرع فيهم» أي في التأثير في قلوبهم من نضح النبل، بنون وضاد معجمة، وحاء مهملة، من الرمي بالسهم، أي فيجوز للمصلحة واللَّه تعالى أعلم. (حاشية السندي على سنن النسائي) .

(9/309)


وقال موسى بن عقبة في عمرة القضاء: أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه أن يكشفوا عن المناكب وأن يسعوا في الطواف ليرى المشركون جلدكم وقوتكم فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يطوف بالبيت بين أصحابه] أهل مكة والرجال والنساء ينظرون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه وهم يطوفون.
وكان يحدو بالإبل غلام حسن الحداء يقال له أنجشة، فكانت الإبل تزيد في الحركة لحدائه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رويدك يا أنجشة رفقا بالقوارير،
يعني النساء [ (1) ] .
وإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ظلله في الحر أبو بكر وأسامة ظلله من الحر أبو بكر الصديق وأسامة بن زيد وبلال المؤذن [ (2) ] .
فخرج البخاري [ (3) ] من حديث ابن شهاب قال: فأخبرني عروة بن الزبير، فذكر حديث الهجرة وقدوم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أن قال: فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بنى عمرو بن عوف، وذلك في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه للناس وجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار- ممن لم ير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- يحيى أبا بكر، حتى
__________
[ (1) ] كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال، وكان أنجشة حسن الصوت، وكان إذا حدا أسرعت الإبل، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أنجشة رويدك [أي على مهل] بالقوارير [أو انى الزجاج] الواحدة قارورة شبه النساء لضعف قلوبهن بقوارير الزجاج. (التراتيب الإدارية) : 1/ 342- 343، باب في الحادي.
[ (2) ] ذكر ابن إسحاق في خبر هجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ووصوله إلى المدينة وخروج الناس إليه سرعانا:
فلما زال الظل عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قام إليه أبو بكر فأظله بردائه، وفي صحيح مسلم عن أم الحصين بنت إسحاق الأخمصية أو الأخمسية قالت: حجبت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حجة الوداع فرأيت أسامة بن زيد وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة.
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 303- 304، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) ، هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3906) .

(9/310)


أصابت الشمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأقبل أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك، فلبث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بنى عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الّذي أسس على التقوى، وصلّى فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ثم ركب راحلته، فسار يمشى معه الناس، حتى بركت عند مسجد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة، وهو يصلى فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مريدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء اللَّه المنزل.
ثم عاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: لا، بل نهيه لك يا رسول اللَّه، فأبى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول- وهو ينقل اللبن: -
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللَّهمّ إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
فتمثل بعشر رجل من المسلمين لم يسم لي.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا- في الأحاديث- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.
ذكره في آخر كتاب الكفالة، في باب جوار أبي بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعقده [ (1) ] .
وخرج مسلم [ (2) ] من حديث معقل عن زيد بن أبي أنيسه عن يحيى بن حصين عن جدته أم الحصين قال: سمعتها تقول: حججت مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 599- 600، كتاب الكفالة، باب (4) جوار أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعقده، حديث رقم (2297) .
[ (2) ]
(صحيح مسلم) : 9/ 51- كتاب الحج باب (51) استحباب رمى جمرة العقبة يوم النحر راكبا، وبيان قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لتأخذوا منا مناسككم، حديث رقم (311) ،
وفيه جواز تسميتها حجة الوداع، وفيه الرمي راكبا كم سبق وفيه جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره.

(9/311)


حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشمس، قالت: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قولا كثيرا، ثم سمعته يقول: إن أمّر عليكم عبد مجدع، حسبتها قالت: أسود يقودكم بكتاب اللَّه، فاسمعوا له وأطيعوا.
وفي لفظ [ (1) ] : حججت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة.
خرج عمر بن شبة من حديث يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد أبو مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة بنحو حديث علي بن زيد، عن القاسم بن أبي أمامة عمن رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سائرا إلى منى يوم التروية وإلى جانبه بلال في يده عود عليه ثوب يظل به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشمس.
وخرجه الإمام أحمد [ (2) ] من حديث الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبى العاتكة، عن على بن زيد عن القاسم، عن أبى أمامة عمن رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإلى جانبه بلال فذكره.
__________
[ () ] وقال مالك وأحمد لا يجوز وإن فعل لزمته الفدية وعن أحمد رواية أنه لا فدية وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز ووافقونا على أنه إذا كان الزمان يسيرا في المحمل لا فدية وكذا لو استظل بيده.
وعن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه أبصر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال: اضح لمن أحرمت له.
ورواه البيهقي بإسناد صحيح، وعن جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من محرم يضحى للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه. رواه البيهقي وضعفه واحتج الجمهور بحديث أم الحصين،
وهذا المذكور في مسلم ولأنه لا يسمى لبسا وأما حديث جابر فضعيف كما ذكرنا مع أنه ليس فيه نهى وكذا فعل عمر وقول ابن عمر ليس فيه نهى ولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (312) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 6/ 359، حديث رقم (21802) ، من حديث أبى أمامة الباهلي.

(9/312)


قال الواقدي: وقدّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد بن حارثة، وعبد اللَّه بن رواحة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما من الأثيل، فجاءوا يوم الأحد شد الضحى، وفارق عبد اللَّه بن زيد بالعقيق منصرفة من غزوة بدر، فجعل عبد اللَّه ينادي على راحلته: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقتل المشركين وأسرهم! قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة ابن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمر ذو الأنياب في أسرى كثيرة، ونزل آيات في ذلك، قال عاصم بن عدي: فقمت إليه فنحوته فقلت:
أحق ما تقول يا ابن رواحة؟ قال: إي واللَّه، وغدا يقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن شاء اللَّه ومعه الأسرى مقرنين، ثم اتبع دور الأنصار بالعالية، فبشرهم دارا دارا، والصبيان يشتدون معه ويقولون: قتل أبو جهل الفاسق! حتى انتهوا إلى بنى أمية بن زيد [ (1) ] [وعبد اللَّه بن رواحة يرجز بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متوشحا السيف وهو يقول:] [ (2) ]
[خلوا بني الكفار عن سبيله ... أنى شهدت أنه رسوله
حقا وكل الخير في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله [ (2) ]]
ويذهل الخليل عن خليله
ولأبي داود الطيالسي من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كان أنجشة يحدو بالنساء،
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) 1/ 114، من أحداث غزوة بدر الكبرى.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين مكانه في المغازي 2/ 736، من أحداث غزوة القضية، وعلى ذلك التلفيق واضح في سياق هذه الفقرة.

(9/313)


وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال، وكان أنجشة حسن الصوت، وكان إذا حدا أعنقت الإبل [ (1) ] ، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير.
وخرجه البخاري [ (2) ] من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، وأيوب عن قلابة، عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] العنق، من السير: المنبسط، والعنيق، كذلك وسير عق وعنيق: معروف، وقد اعنقت الدابة، فهي معنق، ومعناق وعنيق.
وفي حديث معاذ وأبى موسى: أنهما كانا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، في سفر ومعه أصحابه فأناخوا ليلة وتوسد كل رجل منهم بذراع راحلته، قالا: فانتبهنا ولم نر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عند راحلته فاتبعناه، فأخبرنا، عليه السّلام، أنه خير بين أن يدخل نصف أمته الجنة وبين الشفاعة، وأنه اختار الشفاعة، فانطلقنا معانيق إلى الناس نبشرهم، قال شمر: قوله معانيق أي مسرعين، يقال: أعنقت إليه أعنق إعناقا.
وفي حديث أصحاب الغار: فانفرجت الصخرة فانطلقوا معانقين أي مسرعين، من عانق مثل أعنق إذا سارع وأسرع، ويروى: فانطلقوا معانيق، ورجل معنق وقوم معنقون ومعانيق، قال: والعنق ضرب من سير الدابة والإبل، وهو سير منبسط. مختصرا من (لسان العرب) :
10/ 273- 274.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 675، كتاب الأدب، باب (95) ما جاء في قول الرجل «ويلك» حديث رقم (6161) ، وأخرجه والحديثين بعده في كتاب الأدب باب (90) ، ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه حديث رقم (6149) ، وقال في آخره: قال أبو قلابة: فتكلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بكلمات لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه، وأخرجه في باب (111) ، من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا، حديث رقم (620) ، وفيه:
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا أنجش» ،
وفي باب (116) ، المعاريض مندوحة عن الكذب، وقال إسحاق: سمعت أنس: مات ابن لأبى طلحة، فقال: كيف الغلام؟ قالت أم سليم: هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح. وظن أنها صادقة، حديث رقم (6209) ، وفيه:
«أرفق يا أنجشة- ويحك- بالقوارير» ،
وحديث رقم (6210) ، وفيه: «قال أبو قلابة: القوارير يعنى النساء» ، وحديث رقم (6211) ، وفيه:
«قال قتادة: يعنى ضعفة النساء» . -

(9/314)


__________
[ () ] وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب (18) ، رحمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للنساء، وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهن،
حديث رقم (70) ، وفيه: «يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير»
وحديث رقم (71) ، وفيه: «ويحك يا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير»
وحديث رقم (72) ، وفيه: «أي أنجشة رويدا سوقك بالقوارير» ،
وحديث رقم (73) ، وفيه: «رويدا يا أنجشة لا تكسر القوارير
يعنى ضعفة النساء» .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم (يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير)
وفي رواية ويحك يا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير،
وفي رواية: يا أنجشة لا تكسر القوارير
يعنى ضعفة النساء، أما أنجشة فهمزة مفتوحة وإسكان النون وبالجيم وبشين معجمة، وأما رويدك فمنصوب على الصفة بمصدر محذوف أي سق سوقا رويدا، ومعناه الأمر بالرفق بهن وسوقك منصوب بإسقاط الجار، أي أرفق في سوقك بالقوارير، قال العلماء: سمى النساء قوارير لضعف عزائمهن تشبيها بقارورة الزجاج لضعفها، وإسراع الانكسار إليها واختلف العلماء في المراد بتسميتهن قوارير على قولين: ذكرهما القاضي وغيره، أصحهما عند القاضي وآخرين وهو الّذي جزم به الهروي وصاحب (التحرير) وآخرون: أن معناه أن أنجشة كان حسن الصوت وكان يحدو بهن وينشد شيئا من القريض والرجز، وما فيه تشبيب، فلم يأمن أن يفتنهن ويقع في قلوبهن حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك، ومن أمثالهم المشهورة: الغناء رقية الزنا، قال القاضي: هذا أشبه بمقصوده صلّى اللَّه عليه وسلّم وبمقتضى اللفظ، قال: وهو الّذي يدل عليه كلام أبى قلابة المذكور في هذا الحديث في مسلم والقول الثاني: أن المراد به الرّفق في السير، لأن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي، واستلذته فأزعجت الراكب، وأتعبته، فنهاه عن ذلك لأن النساء يضعفن عند شدة الحركة، ويخاف ضررهن، وسقوطهن.
وأما «ويحك» فهكذا وقع في مسلم ووقع في غيره «ويلك» قال القاضي: قال سيبويه:
«ويل» كلمة تقال لمن وقع في هلكة، «وويح: تقال لمن أشرف على الوقوع في هلكة، وقال الفراء: «ويل وويح وويس» بمعنى، وقيل: «ويح» كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها- يعنى في عرفنا- فيرثى له، ويترحم عليه، و «ويل» ضده، قال القاضي: قال بعض أهل اللغة: لا يراد بهذه الألفاظ حقيقة الدعاء وإنما يراد بها المدح، والتعجب. -

(9/315)


في سفر، وكان معه غلام له أسود يقال له أنجشة يحدو، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويحك يا أنجشة، رويدك بالقوارير.
وروى عن حماد بن زيد قال أنبأنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال كان عبد أسود يقال له أنجشة فبينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر وكان أنجشة يحدو، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويحك يا أنشجة رويدك سوقك بالقوارير
وكان يسوق بالنساء وكانت فيهن أم سليم.
قال أبو عمر بن عبد البر [ (1) ] : أنجشة العبد الأسود كان يسوق أو يقود بنساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، عام حجة الوداع، وكان حسن الحداء، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رويدا يا أنجشة، رفقا بالقوارير،
يعنى النساء.
حديثه عند أنس بن مالك، أخبرنا أحمد بن عبد اللَّه، حدثنا سلمة بن قاسم، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن الأصبهاني، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال، وكان إذا حدا أعنقت الإبل، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير.
__________
[ () ] وفي هذه الأحاديث جواز الحداء، وهو بضم الحاء، ممدود، وجواز السفر بالنساء، واستعمال المجاز، وفيه مساعدة النساء من الرجال، ومن سماع كلامهم إلا الوعظ، ونحوه.
(شرح النووي) : 15/ 86- 88.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 35، حديث رقم (12532) ، 4/ 102، حديث رقم (12964) ، كلاهما من مسند أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وأخرجه الحافظ البيهقي في (السنن الكبرى) : 10/ 227، كتاب الشهادات باب لا بأس باستماع الحداء ونشيد الأعراب كثر أو قل، وفيه:
«رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير» .
[ (1) ] (الاستيعاب) : 1/ 140، ترجمة أنجشة رقم (151) .

(9/316)


وروى حماد بن زيد، قال حدثنا أيوب عن أبى قلابة عن أنس، قال: كان عبد أسود يقال له أنجشة، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، وكان أنجشة يحدو بهم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويحك يا أنجشة، رويدك بالقوارير،
وكان يسوق بالنساء. قال: وكانت فيهن أم سليم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] هي أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، اختلف في اسمها، فقيل: سهلة. وقيل: رميلة. وقيل: رميثة، وقيل: ملكية، ويقال: الغمصياء، أو الرميصاء، كانت تحت مالك بن النضر، أبى أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت له أنس بن مالك، فلما جاء اللَّه بالإسلام، أسلمت مع قومها، وعرضت الإسلام على زوجها، فغضب عليها، وخرج إلى الشام، فهلك هناك، ثم خلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاريّ، خطبها مشركا، فلما علم أنه لا سبيل له إليها إلا بالإسلام أسلم وتزوجها وحسن إسلامه، فولد له منها غلام كان قد أعجب به فمات صغيرا، فأسف عليه، ويقال: إنه أبو عمير صاحب النغير.
ثم ولدت له عبد اللَّه بن أبى طلحة فبورك فيه، وهو ولد إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة الفقيه وإخوته، وكانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم، وروت أم سليم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحاديث.
وكانت من عقلاء النساء، روى عنها ابنها أنس بن مالك، وروى سليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس، قال: أتيت أبا طلحة وهو يضرب أمى. فقلت: تضرب هذه العجوز ... في حديث ذكره، وروى عن أم سليم أنها قالت: لقد دعا لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ما أريد زيادة.

(9/317)