إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر وزير رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم
الوزير [ (1) ] الّذي يحمل نعل الملك ويعينه، وقد استوزره، وهي الوزارة
بكسر الواو وفتحها والكسر أعلى، وأوزره على الأمر: أعانه وقوّاه، الأصل
أوزر، وقد اختلف في اشتقاق الوزير فقيل من الوزر بفتح الواو والزاي وهي
الملجأ لأن الوزير يلجأ إلى رأيه، وقيل سمى وزيرا من الوزر بكسر الواو
وسكون الزاي وهي النعل لأنه يحمل عن صاحبه نعله ويعينه.
قال ابن قتيبة: وما حمله الإنسان على ظهره، وآزرني فلان أعانني ووازرني صار
لي وزيرا، وقال ابن جريج: وأزر الرجل الرجل موازرة أعانه، وكذلك آزره. قال:
السبكي الوزير مأخوذ من أزر، وكان الأصل أزير فقيل وزير.
ومن عرف سيرة أبي بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وعمر بن الخطاب رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه وكيف كانا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
من الهوى، والعصبية، وإعراض عن تقليد الآباء والمشيخة، تبين له أنهما كانا
منه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنزلة الوزيرين.
__________
[ (1) ] قال الإمام أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي
المصري: وازره على الأمر: أعانه وقواه، والأصل آزره. قال بن سيده: ومن
هاهنا ذهب بعضهم إلى أن الواو في وزير بدل من الهمزة. وفي التنزيل العزيز:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، [طه: 29] ، قال: الوزير في اللغة
اشتقاقه من الوزر، وكذلك وزير الخليفة معناه الّذي يعتمد على رأيه في أموره
ويلتجئ إليه، وقيل لوزير السلطان: وزير لأنه يزر عن السلطان أثقال ما أسند
إليه من تدبير المملكة أي يحمل ذلك. الجوهري: الوزير الموازر كالأكيل
المواكل لأنه يحمل عنه وزره أي ثقله. وقد استوزر فلان، فهو يوازره الأمر
ويتوزر له. وفي حديث السقيفة: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، جمع وزير وهو
الّذي يوازره فيحمل عنه ما حمله من الأثقال والّذي يلتجئ الأمير إلى رأيه
وتدبيره، فهو ملجأ له ومفزع. ووزرت الشيء أزره وزرا أي حملته، ومنه قوله
تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. [الإسراء: 15] .
(9/318)
وقد خرج أبو عيسى الترمذي [ (1) ] من حديث
تليد بن سليمان عن أبي الجحاف عن عطية عن أبي سعيد الخدريّ رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما من نبي إلا له وزيران من أهل
السماء، ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل،
وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر،
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وأبو الجحاف واسمه داود بن أبي عوف. ويروى عن سفيان الثوري حدثنا أبو
الجحاف وكان رافضيا، وتليد بن سليمان يكنى أبا إدريس وهو شيعىّ.
وخرج الحاكم [ (2) ] من حديث عطاء بن عجلان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد
الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم وزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل، ومن أهل الأرض أبو بكر
وعمر،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وإنما يعرف هذا الحديث
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 576، كتاب المناقب، باب (7) مناقب أبى بكر،
حديث رقم 3680، (حلية الأولياء) : 8/ 160، ترجمة وهيب بن الورد رقم (369) ،
(تاريخ بغداد) : 3/ 298، ترجمة محمد بن مجيب الثقفي الكوفي رقم (1385) على
الحديث رقم (6462) : في سنده محمد بن مجيب الثقفي، وهو كذاب، ومع ذلك فقد
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال الشيخ الألباني: ضعيف كما في المشكاة: (6056) ، (ضعيف الجامع الصغير)
، (55223) ، (ضعيف سنن الترمذي) : (492) ، قوله: «فأما وزيراي من أهل
السماء فجبرئيل وميكائيل» فيه دلالة ظاهرة على فضله صلوات اللَّه وسلامه
عليه على جبرئيل وميكائيل عليهما السلام كما أن فيه إيماء إلى تفضيل
جبرئيل. «وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» فيه دلالة ظاهرة على
فضلهما على غيرهما من الصحابة وهم أفضل الأمة وعلى أن أبا بكر أفضل من عمر
لأن الواو وإن كان لمطلق الجمع ولكن ترتيبه في لفظه الحكيم لا بد له من أثر
عظيم. قوله: «وهذا حديث حسن غريب» ، وأخرجه الحاكم وصححه وأقروه، والحكيم
في (نوادره) عن ابن عباس، وغيره وابن عساكر، وأبو يعلى، وغيرهما عن أبى ذر
بأسانيد ضعيفة، كذا في (التيسير) ، (تحفة الأحوذي) : 10/ 114.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 290- 291، كتاب التفسير، حديث رقم (3047) ، قال
الحافظ الذهبي في (التخليص) : صحيح.
(9/319)
من حديث سوار بن مصعب عن عطية العوفيّ عن
أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن لي وزيران من
أهل السماء، ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل
وميكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض، فأبو بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنهما قال: ورواه عبيد بن القاسم بن سلام عن أبى معاوية عن عطية بلفظ آخر.
وخرج أيضا من حديث ربيعة بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب قال: كان أبو
بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
مكان الوزير، فكان يشاوره في جميع أموره، وكان ثانية في الإسلام، وكان
ثانية في الغار، وكان ثانية في العريش يوم بدر، وكان ثانية في القبر، ولم
يكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقدم أحدا [ (1) ] [إلا هو هذا] [
(2) ] .
أما ما أخرجه البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ] من حديث إبراهيم بن سعد قال
حدثنا ابن سعد عن أبيه عن سعد بن أبى وقاص رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 66، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4409) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة في الأصل، وليست في (المستدرك) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 454، كتاب المغازي، باب (18) إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ حديث رقم (4054) ، 10/ 347، كتاب اللباس،
باب (24) الثياب البيض، حديث رقم (5826) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 72- 73، كتاب الفضائل، باب (10) في قتال
جبريل وميكائيل عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد، حديث رقم (46/
3206) ، وحيث رقم (47) من أحاديث الباب ولفظه: « ... حدثنا سعد بن أبى وقاص
قال: لقد رأيت يوم أحد عن يمين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن
يساره رجلين، عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أشد
القتال، ما رأيتها قبل ولا بعد» .
وفي هذا الحديث بيان كرامة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على اللَّه تعالى،
وإكرامه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن الملائكة تقاتل، وأن
قتالهم لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب، خلافا لمن زعم اختصاصه به، فهذا
صريح في الرد عليه.
وفيه فضيلة الثياب البيض، وأن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء، بل يراهم
الصحابة والأولياء. -
(9/320)
قال: لقد رأيت يوم أحد عن يمين رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد
القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد.
ذكره البخاري في [المغازي] وأخرجه في كتاب اللباس. وأخرجه مسلم في المناقب
من حديث سعد عن سعيد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سعد قال: رأيت عن يمين رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما
رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل [عليهما السلام] . لم يقل
البخاري: يعني جبريل وميكائيل.
قال الواقدي: حدثني أبو إسحاق بن أبي عبد اللَّه، عن عبد الواحد بن أبى
عون، عن صالح بن إبراهيم قال: كان عبد الرحمن بن عوف رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه يقول: لقد رأيت يوم بدر رجلين عن يمين النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم أحدهما، وعن يساره أحدهما، يقاتلان أشد القتال ثم ثلثهما ثالث من
خلفه ثم ربعهما رابع أمامه [ (1) ] . وحدثني أبو إسحاق بن أبي عبد اللَّه
عن عبد الواحد بن أبي عون، عن زياد مولى سعد، عن سعد رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه قال: رأيت رجلين يوم بدر [يقاتلان] عن النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم أحدهما عن يساره والآخر عن يمينه وإني لأراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا
مرة سرورا بما ظفره اللَّه تعالى [ (2) ] .
__________
[ () ] وفيه منقبة لسعد بن أبى وقاص الّذي رأى الملائكة. واللَّه تعالى
أعلا وأعلم. (مسلم بشرح النووي) .
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 78
[ (2) ] (المرجع السابق) .
(9/321)
فصل في ذكر صاحب سر رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هو حذيفة بن اليمان
لقب، وإنما هو عبد اللَّه حذيفة بن حسن ويقال: حسيل بن جابر بن عمرو بن
ربيعة بن جروة ويقال لجروة اليمنى أيضا ابن الحارث بن قطيعة العبسيّ بن
بغيض بن ريث بن غطفان العبسيّ القطيعي. حليف لبني عبد الأشهل المعروف
بالصحابة بصاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، شهد أحدا، وكان من
كبار الصحابة، وشهد نهاوند، فأخذ الراية بعد مقتل النعمان بن مقرن، ففتح
اللَّه على يديه همذان والري والدينور في سنة اثنين وعشرين، ومات سنة ست
وثلاثين على الصحيح [ (1) ] .
خرج البخاري [ (2) ] من حديث إسرائيل عن المغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال:
قدمت الشام وصليت ركعتين ثم قلت اللَّهمّ يسر لي جليسا صالحا، فأتيت قوما
فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي. فقلت: من هذا؟
قالوا أبو الدرداء رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقلت: إني دعوت اللَّه عز
وجل أن ييسر لي جليسا صالحا فيسرك لي، قال: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة
قال: أوليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟
أفيكم الّذي أجاره اللَّه يعنى من الشيطان على لسان نبيه؟ أوليس فيكم صاحب
سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي لا يعلم أحد غيره؟ قال: كيف
يقرأ عبد اللَّه
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 1/ 334- 2335 ترجمة رقم 492، (الإصابة) : 2/ 44- 45،
ترجمة رقم (1649) ، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 361- 369، ترجمة رقم (76) ،
(كنز العمال) :
13/ 343، (تهذيب التهذيب) : 2/ 193، ترجمة رقم (405) ، (حلية الأولياء) :
1/ 270- 283، (التاريخ الكبير) : 3/ 95، (الجرح والتعديل) : 3/ 256، (تاريخ
خليفة) : 182، طبقات خليفة) : 48، 130، (طبقات ابن سعد) : 6/ 15، 7/ 317.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 113- 114، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه
عليه وسلّم، باب (20) مناقب عمار وحذيفة رضى اللَّه عنهما، حديث رقم (3742)
.
(9/322)
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى فقرأت عليه
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثى فقال: واللَّه لقد أقرأنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم من فيه إلى في.
ومن حديث شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال: ذهب علقمة إلى الشام فلما دخل
المسجد قال: اللَّهمّ يسر لي جليسا صالحا، فجلس إلى أبي الدرداء، فقال أبو
الدرداء: ممن أنت؟ قال من أهل الكوفة. قال: أليس فيكم- أو منكم صاحب السر
الّذي لا يعلمه غيره؟ يعنى حذيفة. قال: قلت بلى. قال أليس فيكم- أو منكم-
الّذي أجاره اللَّه على لسان نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ يعنى من
الشيطان، يعنى عمارا، قلت: بلى. قال: أليس فيكم- أو منكم- صاحب السواك،
والوساد، أو السرار؟ قال: بلى. قال: كيف كان عبد اللَّه يقرأ: وَاللَّيْلِ
إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى؟ قلت: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثى، قال: ما زال بى هؤلاء حتى كادوا يستنزلونى عن شيء سمعته من
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. ذكرهما في مناقبهما [ (1) ] وذكر في كتاب
فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 114، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم، باب (20) مناقب عمار وحذيفة، رضى اللَّه عنهما، حديث رقم (3743) .
قوله: «قال: أوليس عندكم ابن أم عبد» يعنى عبد اللَّه بن مسعود، ومراد أبى
الدرداء بذلك أنه فهم منهم أنهم قدموا في طلب العلم، فبين لهم أن عندهم من
العلماء من لا يحتاجون معهم إلى غيرهم، ويستفاد منه أن المحدث لا يرحل عن
بلده حتى يستوعب ما عند مشايخها.
قوله: «صاحب النعلين» أي نعلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان عبد
اللَّه بن مسعود يحملها.
قوله: «الّذي أجاره اللَّه من الشيطان، يعنى على لسان نلبيه» زعم ابن التين
أن المراد بذلك
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى
النار
«وهو محتمل، ويحتمل أن يكون المراد بذلك حديث عائشة رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنها مرفوعا:» ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما أخرجه
الترمذي.
ولأحمد من حديث ابن مسعود مثله، أخرجهما الحاكم، فكونه يختار أرشد الأمرين
دائما يقتضي أنه أجير من الشيطان.
(9/323)
شعبة قريبا [ (1) ] منه. وذكره أيضا في
مناقب عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه من حديث أبي عوانة
عن مغيرة باختلاف ألفاظ [ (2) ] .
__________
[ () ] قوله: «والوساد» في رواية شعبة: «صاحب السواك- بالكاف- أو السواد
بالدال، ووقع في رواية الكشميهني هنا: «الوساد» ورواية غيره أوجه. والسواد:
السرار- براءين- يقال: ساودته سوادا أي ساررته سرارا، وأصله أدنى السواد،
وهو الشخص من السواد.
قوله: «والمطهرة» في رواية السرخسي «والمطهر» بغير هاء، وأغرب الداوديّ
فقال: معناه أنه لم يكن يملك من الجهاز غير هذه الأشياء الثلاثة، وكذا قال،
وتعقب ابن التين كلامه فأصاب،
وقد روى مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: «إذنك
عليّ أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي»
أي سراري، وهي خصوصية لابن مسعود.
قوله: «أوليس فيكم صاحب سر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي لا يعلم أحد
غيره» كذا فيه بحذف المفعول، وفي رواية الكشميهني «الّذي لا يعلمه» والمراد
بالسر ما أعلمه به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من أحوال المنافقين.
قوله: ثم قال كيف يقرأ عبد اللَّه" يعنى ابن مسعود، وفي هذا بيان واضح أن
قراءة ابن مسعود كانت كذلك، وفي رواية إسرائيل عن مغيرة في المناقب
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بحذف
وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى كذا في رواية أبى ذر، وأثبتها الباقون، ومن
عداهم قرءوا وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وعليها استقر الأمر مع قوة
إسناد ذلك إلى أبى الدرداء ومن ذكر معه.
والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة على علقمة وعن ابن مسعود،
وإليها تنتهي القراءة بالكوفة، ثم لم يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام،
حملوا القراءة عن أبى الدرداء. ولم يقرأ أحد منهم بهذا، فهذا مما يقوى أن
التلاوة بها نسخت.
(فتح الباري) : 7/ 115- 116، 8/ 917 مختصرا.
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 114، كتاب فضائل أصحاب النبي، باب (20) مناقب
عمار وحذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (3743) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 128، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم، باب (27) مناقب عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
حديث رقم (3761) .
(9/324)
وخرجه الترمذي من حديث قتادة عن خيثمة بن
أبي سبرة قال أتيت المدينة فسألت اللَّه أن ييسر لي جليسا صالحا. [فيسر لي
أبا هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فجلست إليه فقلت له: إني سألت
اللَّه إن ييسر لي جليسا صالحا] فوفقت لي، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل
الكوفة جئت ألتمس الخير وأطلبه فقال: أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة،
وابن مسعود صاحب طهور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبغلته؟ وحذيفة
صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعمار الّذي أجاره اللَّه من
الشيطان على لسان نبيه، وسلمان صاحب الكتابين، قال قتادة: الكتابان الإنجيل
والفرقان. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب [صحيح] وخيثمة هو ابن عبد الرحمن
بن أبي سبرة، إنما نسب إلى جده [ (1) ] .
وقال الحاكم في (المستدرك) : اتفق الشيخان على إخراج حديث شعبة عن عدي بن
ثابت عن عبد اللَّه بن يزيد عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال:
أخبرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما هو كائن إلى يوم القيامة
فما من شيء إلا وقد سألته عنه إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من
المدينة [ (2) ] .
وخرجه الحاكم من حديث إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: قال أبو
إدريس [عائذ اللَّه] الخولانيّ: سمعت حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
يقول: واللَّه إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة،
وما ذاك أن يكون حدثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بها من شيء لم
يحدث بها
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) 5/ 633، كتاب المناقب، باب (38) مناقب عبد اللَّه بن
مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3811) ، وقال الحافظ في
(الفتح) : تنبيه: توارد أبو هريرة في وصف المذكورين مع أبى الدرداء بما
وصفهم وزاد عليه، فروى الترمذي من طريق خيثمة ابن عبد الرحمن، قال ... وذكر
الحديث. (فتح الباري) : 7/ 116، تعقيبا على الحديث رقم (3743) .
[ (2) ] (المستدرك) 4/ 472، كتاب الفتن والملاحم، آخر الحديث رقم (8311) ،
وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم، وقال أبو عبد اللَّه
الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، فليعلم طالب هذا العلم أن حذيفة
بن اليمان صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(9/325)
غيري ولكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم قال وهو يحدث في مجلس أنا فيه عن الفتن وهو يعد الفتن فيهن ثلاث لا
تذرن شيئا منهن كهياج الصيف منها صغار ومنها كبار فذهب أولئك الرهط كلهم
غيري. قال: هذا حديث صحيح [ (1) ] [على شرط الشيخين ولم يخرجاه] .
وخرجه مسلم عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب قال أنبأنا يونس بن يزيد عن ابن
شهاب [ (2) ] .
وخرج الترمذي من حديث زائدة عن عاصم، عن زر عن حذيفة رضي اللَّه تبارك
وتعالى عنه أنه قال: أخبرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما هو
كائن إلى يوم القيامة فما من شيء إلا وسألته عنه إلا أنى لم أسأله عن ما
يخرج أهل المدينة من المدينة.
قال: قال أبو إدريس الخولانيّ سمعت حذيفة يقول واللَّه إني لأعلم الناس بكل
فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة وما ذاك أن يكون حدثني رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم بشيء لم يحدث به غيري، ولكن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم قال وهو يحدث في مجلس أنا فيه عن الفتن وهو يعد الفتن
كذا لا يذرن شيئا منهن كرياح الصيف، ومنها صغارا ومنها كبارا، فذهب أولئك
الرهط كلهم غيري. قال:
هذا حديث صحيح خرجه مسلم عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب قال: أنبأنا يونس بن
يزيد عن ابن شهاب [ (3) ] .
وخرج الترمذي من حديث زائدة عن عاصم عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
قال: قام فينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقام خير أخبر فيه ما
يكون
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 518، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8454) ، وقال
الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 231، كتاب الفتن وأشراط الساعة باب (6) ،
إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما يكون إلى قيام الساعة، حديث رقم
(2819) .
[ (3) ] سبق تخريجه من طرق.
(9/326)
فيه إلى قيام الساعة، عقله منا من عقله،
ونسيه من نسيه. قال: حديث صحيح [ (1) ] .
سلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العقبة [وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ
بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق خلفه] فبينا إذ سمع حس
القوم قد غشوه فغضب وأمر حذيفة أن يردهم فرجع حذيفة إليهم فجعل يضرب وجوه
رواحلهم [بمحجن في يده] فانحطوا من العقبة وأقبل حذيفة فلما خرج رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 604، كتاب القدر، باب (4) وَكانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، حديث رقم (6604) ولفظه: «عن حذيفة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه قال: لقد خطبنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبة ما ترك
فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله، إن كنت
لأرى الشيء قد نسيته، فأعرف كما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه» .
قوله: «لقد خطبنا» في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: «قام فينا رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقاما» .
قوله: «إلا ذكره» ، في رواية جرير: «إلا حدث به» .
قوله: «علمه من علمه وجهله من جهله» في رواية جرير: «حفظه من حفظه ونسيه من
نسيه» وزاد: «قد علمه أصحابى هؤلاء» ، أي علموا وقوع ذلك المقام وما وقع من
الكلام (فتح الباري) .
وقد سبق ذكر حديث مسلم من طريق أبى إدريس الخولانيّ عن حذيفة، والّذي قال
في آخره: «فذهب لأولئك الرهط غيري» ، وهذا لا يناقض الأول، بل يجمع بأن
يحمل على مجلسين، أو المراد بالأول أعم من المراد بالثاني. (فتح الباري) .
قال الحافظ في (الفتح) : أخرج هذا الحديث القاضي عياض في (الشفاء) من طريق
أبى داود بسنده إلى قوله: «ثم إذا رآه عرفه» ، ثم قال حذيفة: «ما أدرى أنسي
أصحابى أم تناسوه واللَّه ما ترك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من
قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا بلغ من معه ثلاثمائة إلا قد سماه لنا» .
قلت: ولم أر هذه الزيادة في كتاب أبى داود، وإنما أخرجه أبو داود بسند آخر
مستقل من وجه آخر عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [في أول كتاب الفتن
والملاحم] باب (1) ذكر الفتن ودلائلها، حديث رقم (4240) ] ولم أجده في (سنن
الترمذي) كما ذكر المقريزي عليه رحمة اللَّه.
(9/327)
العقبة وترك الناس قال: يا حذيفة هل عرفت
أحدا من الركب الذين ركبوا قال:
يا رسول اللَّه عرفت راحلة فلان وفلان وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من
أجل ظلمة الليل [ (1) ] .
قال الواقدي حدثني يعقوب بن محمد عن [ربيح] بن عبد الرحمن بن أبي سعيد
الخدريّ عن أبيه عن جده قال: كان أهل العقبة الذين أرادوا بالنبيّ صلّى
اللَّه عليه وسلّم ما أرادوا ثلاثة عشر رجلا قد سماهم رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم لحذيفة وعمار [ (2) ] .
وحدثني معمر بن راشد عن الزهري فقال نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم عن راحلته فأوحى إليه وراحلته باركة فقامت تجر زمامها حتى أمسكها
حذيفة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فأخذ بزمامها فاقتادها حين رأى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا فأناخها ثم جلس عندها حتى قام النبي
صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتاه فقال: من هذا؟ قال:
أنا حذيفة فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإنّي مسر إليك أمرا فلا
تذكرنه: إني- نهيت أن أصلى على فلان وفلان رهط عدة من المنافقين ولا يعلم
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكرهم لأحد غير حذيفة.
فلما توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان عمر بن الخطاب رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه في خلافته إذا مات الرجل ممن يظن به أنه من أولئك
الرهط أخذ بيد حذيفة فقاده إلى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلّى عليه
عمر، وإن انتزع يده وأبى أن يمشي انصرف معه.
حدثني ابن أبي سبرة عن سليمان بن أبى سحيم عن نافع بن جبير قال:
لم يخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدا إلى حذيفة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه. قال الواقدي: وهم اثنا عشر رجلا ليس فيهم قرشي وهذا
الأمر المجتمع عليه عندنا [ (3) ] وأبو ذر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.] [
(4) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1042- 1043 مختصرا.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 3/ 1044.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1044- 1045 مختصرا.
[ (4) ] زيادة في (الأصل) .
(9/328)
خرج الإمام أحمد من حديث خالد بن ذكوان
حدثني أيوب بن بشير عن فلان الغبرى [الغزى ولم يقل] [ (1) ] أنه أقبل مع
أبي ذر فلما رجع تقطع الناس عنه فقلت: يا أبا ذر إني سائلك [عن] [ (2) ]
بعض أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن كان سرا من سر رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم أحدثك به قلت ليس بسر ولكن كان إذا لقي
الرجل يأخذ بيده يصافحه قال على الخير سقطت لم يلقني قط إلا أخذ بيدي غير
مرة واحدة وكانت تلك آخرهن أرسل إلي في مرضه الّذي توفى فيه، فوجدته مضطجعا
فأكببت عليه فرفع يده فالتزمني [ (3) ] [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم] [ (2) ] .
وخرجه من حديث حماد بن سلمة قال أخبرني ابن أبى الحسين عن أيوب بن بشير بن
كعب العدوي عن رجل من عتر أنه قال لأبي ذر حين سير من الشام فذكر الحديث
وقال فيه: هل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصافحكم إذا لقيتموه
منه فقال: ما لقيته قط إلا صافحني [ (4) ] [فقال أنس بن مالك رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (5) ] .
خرج البخاري في كتاب الاستئذان باب حفظ السر من حديث معتمر بن سليمان قال
سمعت أبي قال سمعت أنس بن مالك [ (6) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
__________
[ (1) ] زيادة من (مسند أحمد) .
[ (2) ] زيادة في (الأصل) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 6/ 204، حديث رقم (20932) .
[ (4) ] (مسند أحمد) : 6/ 211، حديث رقم (20965) .
[ (5) ] زيادة في (الأصل) .
[ (6) ] (فتح الباري) : 11/ 97 كتاب الاستئذان، باب (46) حفظ السر، حديث
رقم (6289) ولفظه: «سمعت أنس بن مالك أسر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
سرا فما أخبرت به أحدا بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به» .
قال بعض العلماء: كأن هذا السر كان يختص بنساء النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه وقال ابن بطال: الّذي
عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه
(9/329)
وخرج مسلم [ (1) ] من حديث معتمر قال:
وسمعت أبى يحدث عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال أسر إلي
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سرا فما أخبرت به أحدا بعد ولقد سألتني عنه
أم سليم رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فما أخبرتها به.
وخرج مسلم من حديث معمر قال أنبأنا عمار قال أنبأنا ثابت عن أنس رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه قال: أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا
ألعب مع الغلمان قال فسلم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت
قالت: ما حبسك قلت: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحاجة قالت:
ما حاجته قالت؟ إنها سر،
__________
[ () ] منه مضرة، وأكثرهم يقول: إنه إذا مات لا يلزمه كتمانه ما كان يلزم
في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة.
قال الحافظ: الّذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت: إلى ما يباح، وقد يستحب ذكره
ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك.
وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الّذي أسار إليه ابن بطال، وقد يجب كأن
يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر
لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك.
ومن الأحاديث الواردة في حفظ السر، حديث أنس «أحفظ سرى تكن مؤمنا» أخرجه
أبو يعلى والخرائطى، وفيه على بن زيد، وهو صدوق كثير الأوهام، وقد أخرج
أصله الترمذي وحسنه، ولكن لم يسق هذا المتن، بل ذكر بعض الحديث ثم قال: وفي
الحديث طول.
وحديث «إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه
ما يكره» أخرجه عبد الرزاق من مرسل أبى بكر بن حزم.
وحديث جابر رفعه «إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة» . أخرجه ابن
أبى شيبة، وأبو داود، والترمذي، وله شاهد من حديث أنس عند أبى يعلى. (فتح
الباري) مختصرا.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 274، كتاب فضائل الصحابة، باب (32) من
فضائل أنس ابن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (146) .
(9/330)
قالت: لا تحدثن بسر رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم أحدا قال أنس: [واللَّه لو] حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت
[ (1) ] .
فصل في ذكر من كان يكتب الوحي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن الوحي [ (2) ] على قسمين: متلو، وهو كتاب اللَّه تعالى الّذي لا
يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ (فصلت: 42) ،
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) حديث رقم (145- 2482) وسنده: حدثنا أبو بكر بن
نافع، حدثنا بهز حدثنا حماد، أخبرنا ثابت عن أنس.
[ (2) ] الوحي: ما يقع به الإشارة القائمة مقام العبارة من غير عبارة، فإن
العبارة يجوز منها إلى المعنى المقصود بها، ولذا سميت عبارة، بخلاف الإشارة
التي هي الوحي فإنّها ذات المشار إليه والوحي هو المفهوم الأول، والإفهام
الأول، ولا تعجب من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه، فإن لم
تحصل لك هذه النكتة فلست بصاحب وحي، ألا ترى أن الوحي هو السرعة، ولا سرعة
أسرع مما ذكرنا. فهذا الضرب من الكلام يسمى وحيا، ولما كان بهذه المثابة
وأنه تجل ذاتي، لهذا ورد في الحديث الّذي رواه ابن حبان في صحيحه وغيره: أن
اللَّه إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاة
فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم
فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق، فينادون الحق، وهو العلى
الكبير، وما سالت فالوحى: ما يسرع أثره من كلام الحق في نفس السامع، ولا
يعرف هذا إلا العارفون بالشئون الإلهية فإنّها عين الوحي الإلهي في العالم
وهم لا يشعرون. فافهم.
وقد يكون الوحي إسراع الروح الإلهي بالإيمان بما يقع به الإخبار والمفطور
عليه كل شيء مما لا كسب فيه من الوحي أيضا، كالمولود يلتقم ثدي أمه، ذلك من
أثر الوحي الإلهي إليه كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ
وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ
. [الواقعة: 85] ، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة: 154] وقال تعالى:
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً
وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:
68] فلولا أنها فهمت من اللَّه وحيه لما صدر منها ما صدر، ولهذا لا تصور
معه المخالفة إذا كان الكلام وحيا، فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم،
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا
(9/331)
__________
[ () ] خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7] ، ولذا فعلت
ولم تخالف، والحالة تؤذن بالهلاك، ولم تخالف ولا ترددت، ولا حكمت عليها
البشرية بأن هذا من أخطر الأشياء، فدل على أن الوحي أقوى سلطانا في نفس
الموحى إليه من طبعه الّذي هو عين نفسه، قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، [ق: 16] ، حبل الوريد من ذاته، فإذا زعمت
يا ولى بأن اللَّه أوحى إليك فانظر نفسك في التردد والمخالفة، فإن وجدت
لذلك أثر تدبير أو تفصيل أو تفكر فلست بصاحب وحي، فإن حكم عليك وأعماك
وأصمك، وحال بينك وبين فكرك وتدبيرك، وأمضى حكمه فيك، فذلك هو الوحي، وأنت
عند ذلك صاحب وحي، وعلمت عند ذلك أن رفعتك وعلو مرتبتك أن تلحق بمن يقول
إنه دونك من حيوان أو نبات أو جماد، فإن كل شيء مفطور على العلم باللَّه
إلا مجموع الإنس والجان، فإنه من حيث تفضيله منطو على العلم باللَّه كسائر
ما سواهما من المخلوقات من ملك وحيوان ونبات وجماد، فما من شيء فيه من:
شعر، وجلد، ولحم، وعصب، ودم، وروح، ونفس، وظفر، وناب إلا وهو عالم باللَّه،
حتى ينظر ويفكر ويرجع إلى نفسه فيعلم أن له صانعا صنعه، وخالقا خلقه، فلو
أسمعه اللَّه نطق جلده، أو يده، أو لسانه، أو عينه، لسمعه ناطقا بمعرفته
بربه، مسبحا لجلاله، مقدسا لجماله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ. [النور: 24] . الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ
وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ، [يس: 65] ، وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا. فالإنسان من حيث تفصيله عالم
باللَّه، ومن حيث جملته جاهل باللَّه حتى يتعلم، أي يعلم بما في تفصيله،
فهو العالم الجاهل فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ. [السجدة: 17] .
قال أبو القاسم الأصفهاني: الوحي: الإشارة سريعة، ولتضمّن السرعة قيل: أمر
وحىّ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو التعريض وقد يكون بصوت مجرد عن
التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على كل ذلك قوله تعالى
فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] . فقد
قيل: رمز، وقيل: أشار، وقيل: كتب. وحمل على هذه الوجوه أيضا قوله تعالى:
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً، [الأنعام:
112] ، وقوله: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ،
[الأنعام: 121] ، فذلك بالوسواس المشار إليه بقوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ
الْخَنَّاسِ، [الناس: 4] ، ويقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن للشيطان
لمة» الحديث.
(9/332)
__________
[ () ] ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى [إلى] أنبيائه وأوليائه وحي، وذلك
أضرب حسب ما دل عليه قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ، [الشورى: 51] ، وذلك إما برسول مشاهد ترى
ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل عليه السلام للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم
في صورة معينة، وإما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى عليه السّلام
كلام اللَّه تعالى، وإما بإلقاء في الروع كما ذكر صلّى اللَّه عليه وسلّم:
«إن روح القدس نفث في روعي» وإما بإلهام نحو قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ، [القصص: 7] ، وإما بتسخير نحو قوله تعالى:
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] ، وإما بمنام كما قاله صلّى
اللَّه عليه وسلّم: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» . [أخرجه الإمام أحمد
وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس] . فالإلهام والتسخير والمنام دل عليه
قوله تعالى: إِلَّا وَحْياً، [الشورى: 51] ، وسماع الكلام من غير معانية دل
عليه: مِنْ وَراءِ حِجابٍ وتبليغ جبريل عليه السّلام في صورة معنية دل
عليه: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ وقوله تعالى:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، [الأنعام: 93] ، فذلك ذم لمن يدعى
شيئا من أنواع ما ذكرنا من الوحي، أي نوع ادعاه من غير أن حصل له.
وقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي
إِلَيْهِ، [الأنبياء: 25] ، فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه، وذلك أن
معرفة وحدانية اللَّه تعالى، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي
المختص بأولي العزم من الرسل بل ذلك يعرف بالعقل والإلهام، كما يعرف
بالسمع، فإذا القصد من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف
وحدانية اللَّه تعالى ووجوب عبادته.
وقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ، [المائدة: 111] ، فذلك
وحي بوساطة عيسى عليه السّلام. وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ
الْخَيْراتِ، [الأنبياء: 73] فذلك وحي إلى الأمم بوساطة الأنبياء عليهم
السّلام. ومن الوحي المختص بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: اتَّبِعْ ما
أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، [الأنعام: 106] ، وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى وَأَخِيهِ، [يونس: 87] ، فوحيه إلى موسى بوساطة جبريل، وإلى هارون
بوساطة موسى عليه السّلام. وقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ
أَنِّي مَعَكُمْ، [الأنفال: 12] فذلك وحي إليهم بوساطة اللوح والقلم فيما
قبل.
(9/333)
الأمين [ (1) ] جبريل عليه السّلام على
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان يمله رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم على كتبة الوحي، فيكتبون- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، كما
يمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وكانت كتابتهم لذلك في العسب،
واللخاف، والأكتاف والرقاع.
والقسم الآخر من الوحي: سنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ودونت بعد
وفاته صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان كتاب الوحي: عثمان بن عفان، وعلى بن أبى
طالب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فإن غابا كتب أبى بن كعب، وزيد بن
ثابت، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وكان أبىّ ممن كتب لرسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم، الوحي قبل زيد بن ثابت، وكتب معه أيضا.
وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان زيد وأبىّ يكتبان الوحي بين يدي
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة،
كتب من حضر من الكتاب، وهم: معاوية بن أبى سفيان، وخالد بن سعيد، وأبان بن
سعيد، والعلاء بن الحضرميّ، وحنظلة بن الربيع، وكتب عبد اللَّه بن سعد بن
أبى سرح الوحي، ثم ارتد [ (2) ] .
__________
[ () ] وقوله: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، [فصلت: 12] ، فإن كان
الوحي إلى أهل السماء فقط فالموحى إليه محذوف ذكره كأنه قال: أوحى إلى
الملائكة، لأن أهل السماء هم الملائكة ويكون كقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلائِكَةِ، وإن كان الموحى إليه هي السماوات فذلك تسخير عند من
يجعل السماء غير حي، ونطق عند من يجعله حيا. وقوله:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها، [الزلزلة: 5] قريب من الأول. وقوله: وَلا
تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، [طه:
114] فحث له على التثبت في السماع، وعلى ترك الاستعجال في تلقيه وتلقنه.
(البصائر) : 5/ 177- 182.
[ (1) ] الشعراء: 193.
[ (2) ] قال ابن حديدة الأنصاريّ في (المصباح المضيء) : 1/ 28: وقد كتب له
عدة من أصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم: الخلفاء الأربعة، وعبد اللَّه
بن الأرقم، ومعيقيب بن أبى فاطمة، وخالد ابن سعيد وأخوه أبان، وزيد بن
ثابت، وعبد اللَّه بن أبىّ بن سلول، وأبىّ بن كعب القارئ، ومعاوية
(9/334)
|