إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

فصل في ذكره من جلده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري [ (1) ] من حديث يحى بن بكير قال: حدثني الليث قال حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبى هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رجلا على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان اسمه عبد اللَّه وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد جلده في الشراب فأتى به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم فقال اللَّهمّ العنة ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تلعنوه فو اللَّه ما علمت إنه يحب اللَّه ورسوله.
وخرج من حديث بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بسكران فأمر يضربه، فمنا من ضربه بيده، ومنا من ضربه بنعله، ومنا من ضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه اللَّه! فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم.
ترجم عليهما ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة [ (2) ] .
__________
[ () ] وقال ابن أبى ليلى وابن شبرمة: لا تقطع الخمس إلا في الخمسة دراهم، وقد روى ذلك عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه خلاف الرواية الأولى.
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 89، كتاب الحدود، باب (5) ما يكر من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج عن الملة، حديث رقم (6780) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6781) . قال الحافظ في (الفتح) : قوله: «باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة «يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمنه حديث الباب من النهى عن لعنه وما تضمنه حديث الباب الأول
«لا يشرب الخمر وهو مؤمن»
وأن المراد به نفى كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة، وعبر بالكراهة هنا إشارة إلى أن النهى للتنزيه في حق من يستحق اللعن إذا قصد به اللاعن محض السب لا إذا قصد معناه الأصلي وهو الإبعاد عن رحمة اللَّه، فأما إذا قصده فيحرم ولا سيما في حق من لا يستحق اللعن

(10/31)


__________
[ () ] كهذا الّذي يحب اللَّه ورسوله ولا سيما مع إقامة الحد عليه، بل يندب الدعاء له بالتوبة والمغفرة، وسبب هذا التفصيل عدل عن قوله في الترجمة كراهية لعن شارب الخمر إلى قوله:
«ما يكره من» فأشار بذلك إلى التفصيل، وعلى هذا التقرير فلا حجة فيه لمنع الفاسق المعين مطلقا، وقيل: إن المنع خاص بما يقع في حضرة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لئلا يتوهم الشارب عند عدم الإنكار أنه مستحق لذلك، فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فتنه، وإلى ذلك الإشارة بقوله في
حديث أبى هريرة «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم»
وقيل المنع مطلقا في حق من أقيم عليه الحد، لأن الحد قد كفر عنه الذنب المذكور، وقيل المنع مطلقا في حق ذي الزلة والجواز مطلقا في حق المجاهرين.
قال النووي في (الأذكار) : وأما الدعاء على إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي فظاهر الحديث أنه لا يحرم وأشار الغزالي إلى تحريمه وقال في «باب الدعاء على الظلمة» بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز قال الغزالي: وهي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء حتى على الظالم مثل «لا أصح اللَّه جسمه» وكل ذلك مذموم انتهى. والأولى حمل كلام الغزالي على الأول.
أما الأحاديث فتدل على الجواز كما ذكره النووي في
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم للذي قال له كل: بيمينك فقال: لا أستطيع فقال «لا استطعت
فيه دليل على جواز الدعاء من خالف الحكم الشرعي، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد والمنع بعد إقامته.
وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين، لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي أو يقنطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك وباعثا لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهى عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريبا.
واحتج شيخا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه بأن اللاعن لها الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والّذي قاله شيخنا أقوى فإن الملك معصوم والتأسي بالمعصوم مشروع البحث في جواز لعن المعين وهو الموجود.

(10/32)


__________
[ () ] قوله: (إن رجلا كان على عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان اسمه عبد اللَّه وكان يلقب حمارا) ذكر الواقدي في غزوة خيبر من (مغازيه) عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال ووجد حصن الصعب ابن معاذ فذكر ما وجد من الثياب وغيرها إلى أن قال: (وزقاق خمر فأريقت، وشرب يومئذ من تلك الخمر رجل يقال له عبد اللَّه الحمار) وهو باسم الحيوان المشهور، وقد وقع في حديث الباب أن الأول اسمه والثاني لقبه وجوز ابن عبد البر أنه النعيمان المبهم في حديث عقبة بن الحارث فقال في ترجمة النعيمان «كان رجلا صالحا وكان له ابن انهمك في الشراب فجلده النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فعلى هذا يكون كل من النعيمان وولده عبد اللَّه جلد في الشرب.
وقوى هذا عنده بما أخرجه الزبير بن بكار في (المفاكهة) من حديث محمد بن عمرو بن حزم قال: كان بالمدينة رجل يصيب الشراب فكان يؤتى به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم ويحثون عليه التراب، فلما كثر ذلك منه قال له رجل هل الشارب النعيمان أو ابن النعيمان والراجح النعيمان فهو غير المذكور هنا لأن قصة عبد اللَّه كانت في خيبر فهي سابقة على قصة النعيمان فإن عقبة بن الحارث من مسلمة الفتح والفتح كان بعد خيبر بنحو من عشرين شهرا.
قوله (وكان يضحك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم) أي يقول بحضرته أو يفعل ما يضحك منه، وقد
أخرج أبو يعلى من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم بسند الباب «ان رجلا كان حمارا وكان يهدى لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم العكة من السمن والعسل فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن يتبسم ويأمر به فيعطى «ووقع في حديث محمد ابن عمرو بن حزم بعد قوله: «يحب اللَّه ورسوله» قال: «وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول ألم تهده إلى؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر بثمنه»
وهذا مما يقوى أن صاحب الترجمة والنعيمان واحد واللَّه أعلم.
قوله: (قد جلده في الشراب) أي بسبب شربه الشراب المسكر وكان فيه مضمرة أي كان قد جلده، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم بسنده هذا عند عبد اللَّه الرزاق «أتى برجل قد شرب الخمر فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد أربع مرات» .
قوله: (ما أكثر ما يؤتى به) في رواية الواقدي «ما يضرب» وفي رواية معمر «ما أكثر ما يشرب وما أكثر ما يجلد» .

(10/33)


__________
[ () ] قوله: (لا تلعنوه)
في رواية الواقدي «لا تفعل يا عمر»
وهذا قد يتمسك به من يدعى اتحاد القصتين، وهو لما بينته من اختلاف الوقتين، ويمكن الجمع بأن ذلك وقع للنعيمان ولابن النعيمان وأن اسمه عبد اللَّه ولقبه حمار، واللَّه أعلم.
قوله: (فو اللَّه ما علمت إنه يحب اللَّه ورسوله)
كذا للأكثر بكسر الهمزة، ويجوز على رواية ابن السكن الفتح والكسر، وقال بعضهم الرواية بفتح الهمزة.
وفي هذا الحديث من الفوائد جواز التلقيب وقد تقدم القول فيه في كتاب الأدب، وهو محمول هنا على أنه كان لا يكرهه، أو أنه ذكر به على سبيل التعريف لكثرة من كان يسمى بعبد اللَّه، أو أنه لما تكرر منه الإقدام على الفعل المذكور نسب إلى البلادة فأطلق عليه اسم من يتصف بها ليرتدع بذلك. وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهى عن لعنه والأمر بالدعاء له. وفيه أن لا تنافى بين ارتكاب النهى وثبوت محبة اللَّه ورسوله في قلب المرتكب لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم أخبر بأن المذكور يحب اللَّه ورسوله مع وجوب ما صدر منه، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة اللَّه ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفى الايمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفى كماله كما تقدم، ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة اللَّه ورسوله في قلب العاصي مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه شيء حتى يسلب منه، نسأل اللَّه العفو والعافية. وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة.
وله من طريق أخرى عن أبى هريرة، أخرجها عبد الرزاق، وأحمد، والترمذي تعليقا، والنسائي، كلهم من رواية سهيل بن أبى صالح، عن أبيه عنه بلفظ «إذا شربوا فاجلدوهم ثلاثا، فإذا شربوا الرابعة فاقتلوهم «وروى عن عاصم بن بهدلة عن أبى صالح فقال أبو بكر بن عياش عن أبى صالح عن أبى سعيد كذا أخرجه حبان من رواية عثمان بن أبى شيبة عن أبى بكر.
أخرجه الترمذي عن أبى كريب عنه فقال: «عن معاوية» بدل «أبى سعيد» وهو المحفوظ. وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان العطار عنه، وتابعه الثوري وشيبان بن عبد الرحمن وغيرهما عن عاصم، ولفظ الثوري عن عاصم «ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه»

(10/34)


وخرج البخاري [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] من حديث يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتى برجل قد شرب الخمر فقال: اضربوه قال أبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك اللَّه فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تقولوا هكذا لا تعينوا الشيطان عليه.
***
__________
[ () ] ووقع في رواية أبان عند أبى داود «ثم إن شربوا فاجلدوهم» ثلاث مرات بعد الأولى ثم قال:» إن شربوا فاقتلوهم» .
ثم ساقه أبو داود من طريق حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر قال: «وأحسبه قال في الخامسة ثم إن شربها فاقتلوه «قال وكذا في حديث عطيف في الخامسة، قال: أبو داود «وفي رواية عمر بن أبى سلمة عن أبيه وسهيل بن أبى صالح عن أبيه كلاهما عن أبى هريرة في الرابعة «وكذا في رواية عبد اللَّه بن عمرو بن العاص والشريد.
وفي رواية معاوية: «فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه
«وقال الترمذي بعد تخريجه:
وفي الباب عن أبى هريرة والشريد وشرحبيل بن أوس وأبى الرمداء وجرير وعبد اللَّه بن عمرو وقلت: وقد ذكرت حديث أبى هريرة، وأما حديث الشريد وهو ابن أوس الثقفي فأخرجه أحمد والدارميّ والطبراني وصححه الحاكم بلفظ «إذا شرب فاضربوه» وقال في آخره «ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه.
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 77، كتاب الحدود، باب (4) الضرب بالجريد والنعال، حديث رقم (6777) ، وأخرجه أيضا في باب (5) ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج عن الملة، حديث رقم (6780) ، وقد سبق تخريجه وشرحه.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 620، كتاب الحدود، باب (36) الحد في الخمر، حديث رقم (4477) .

(10/35)


فصل في ذكر فارس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: أبو قتادة الأنصاري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فارس رسول اللَّه وكان يعرف بذلك. اختلف في اسمه، فقيل: الحارث بن ربعي بن بلدمة، وقيل: النعمان بن عمر بن بلدمة، وقيل:
عمر بن ربعي بن بلدمة، وقيل بلدمة بن خناس بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة.
اختلف في شهوده بدرا. فقال بعضهم: كان بدريا. ولم يذكره ابن عقبه، ولا ابن إسحاق في البدريين، وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد كلها. [ (1) ]
__________
[ (1) ] قال الحافظ في (الاستيعاب) : 4/ 1731) ، ترجمة رقم (3130) ، (الإصابة) : المشهور أن اسمه الحارث. وجزم الواقدي، وابن القداح، وابن الكلبي، بأن اسمه النعمان. وقيل اسمه عمرو. وأبوه ربعي هو ابن بلدمة بن خناس، بضم المعجمة وتخفيف النون، وآخره مهملة، ابن غنم بن سلمة بن الأنصاري الخزرجي السلمي. وأمه كبشة بنت مطهر بن حرام بن سواد ابن غنم.
اختلف في شهوده بدرا، فلم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق، واتفقوا على أنه شهد أحدا وما بعدها، وكان يقال له فارس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. ثبت ذلك في صحيح مسلم، في حديث ابن الأكوع الطويل الّذي فيه قصة ذي قرد وغيرها.
وأخرج الواقدي من طريق يحيى بن عبد اللَّه بن أبى قتادة، عن أبيه، قال: أدركنى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم ذي قرد، فنظر إلى فقال: اللَّهمّ بارك في شعره وبشره، وقال- أفلح وجهه فقلت: ووجهك يا رسول اللَّه. قال: ما هذا الّذي بوجهك؟ قلت: سهم رميت به. قال ادن.
فدنوت، فبصق عليه، فما ضرب على قط ولا فاح
- ذكره في حديث طويل.
وقال سلمة بن الأكوع في حديثه الطويل الّذي أخرجه مسلم: خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة بن الأكوع.
ووقعت في هذه القصة بعلو في (المعرفة) لابن مندة، ووقعت لنا من حديث أبى قتادة نفسه في آخر (المعجم الصغير) للطبراني، وكان يقال له فارس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.

(10/36)


__________
[ () ] وروى أيضا عن معاذ وعمر. روى عنه ابناه: ثابت، وعبد اللَّه، ومولاه أبو محمد نافع الأفرغ، وأنس، وجار، وعبد اللَّه بن رباح، وسعيد بن كعب بن مالك، وعطاء ابن يسار، وآخرون.
قال ابن سعد: شهدا أحدا وما بعدها. وقال أبو أحمد الحاكم: يقال كان بدريا.
وقال إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: خير فرساننا أبو قتادة.
وقال أبو نضرة، عن أبى سعيد: أخبرنى من هو خير منى أبو قتادة.
ومن لطيف الرواية عن أبى قتادة ما فرى على فاطمة بنت محمد الصالحية ونحن نسمع، عن أبى نصير بن الشيرازي أخبرنا عبد الحميد بن عبد الرشيد في كتابه، أخبرنا الحافظ أبو العلاء العطار، أخبرنا أبو على الحداد، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا الطبراني، حدثتنا عبدة بنت عبد الرحمن مصعب بن ثابت بن عبد اللَّه بن أبى قتادة، حدثني أبى عبد الرحمن، عن أبيه مصعب، عن أبيه ثابت، عن أبيه عبد اللَّه، عن أبيه أبى قتادة- أنه حرس النّبي صلى اللَّه عليه وسلّم ليلة بدر، فقال: اللَّهمّ احفظ أبا قتادة كما حفظ نبيك هذه الليلة.
وبه عن أبى قتادة، قال: انحاز المشركون على لقاح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأدركتهم فقتلت مسعدة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين رآني: أفلح الوجه
قال الطبراني: لم يروه عن أبى قتادة إلا ولده، ولا سمعناها إلا منه عنده، وكانت امرأة فصيحة عاقلة متدينة.
قلت: الحديث الأول جاء عن أبى قتادة في قصة طويلة من رواية عبد اللَّه بن رباح، عن أبى قتادة، قال: كنت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره إذ مال عن راحلته، قال: فدعمته فاستيقظ- فذكر الحديث، وفيه: حفظك اللَّه كما حفظت نبيه.
أخرجه مسلم مطولا، وفيه: ليس التفريط في النوم. وفي آخره: إن ساقى القوم آخر القوم آخرهم شربا. وقوله في رواية عبدة ليلة بدر غلط، فإنه لم يشهد بدرا، والحديث الثاني قد تقدمت الإشارة إليه.
وكانت وفاة أبى قتادة بالكوفة في خلافة على. ويقال إنه كبر عليه ستا. وقال: إنه بدري. وقال الحسن بن عثمان: مات سنة أربعين، وكان شهد مع مشاهده. وقال خليفة:
ولاه على مكة ثم ولاها قثم بن العباس. وقال الواقدي: مات بالمدينة سنة أربع وخمسين، وله اثنتان وسبعون سنة. ويقال ابن سبعين. قال: ولا أعلم بين علمائنا اختلافا في ذلك. وروى أهل الكوفة أنه مات بالكوفة وعلى بها سنة ثمان وثلاثين، وذكره البخاري في (الأوسط) فيمن

(10/37)


فصل ذكر أمناء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أنه كان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عدة أمناء،
فخرج البخاري ومسلم من حديث أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة: أنشدك اللَّه هل سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: يا حسان أجب عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، اللَّهمّ أيده بروح القدس؟ قال أبو هريرة: نعم.
ذكره البخاري في كتاب الصلاة، في باب الشعر في المسجد. وذكره في كتاب الأدب في باب هجاء المشركين [ (1) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة عن عدي بن ثابت قال سمعت:
البراء بن عازب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول لحسان بن ثابت اهجهم أو هاجهم وجبريل معك.
ذكره البخاري في كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، وفي كتاب المغازي، في آخر باب مرجع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة ومحاصرته إياهم، من حديث عدي بن ثابت عن البراء بن عازب رضى اللَّه
__________
[ () ] مات بين الخمسين والستين، وساق بإسناد له أن مروان لما كان واليا على المدينة من قبل معاوية أرسل إلى أبى قتادة ليريه مواقف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فانطلق معه فأراه.
ويدل على تأخره أيضا ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل- أن معاوية لما قدم المدينة تلقاه الناس، فقال لأبى قتادة: تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار، (الإصابة) : 7/ 327- 329، ترجمة رقم (10405) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 720، كتاب الصلاة باب (68) الشعر في المسجد، حديث رقم (453) ، (فتح الباري) : 6/ 374، كتاب بدء الخلق باب (6) ذكر الملائكة، حديث رقم (3212) (فتح الباري) : 10/ 669، كتاب الأدب باب (91) هجاء المشركين حديث رقم (6152) .

(10/38)


تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم قريظة لحسان من ثابت: اهج المشركين، فإن جبريل معك [ (1) ] .
وخرج مسلم [ (2) ] من حديث عمارة بن غزية عن محمد بن إبراهيم عن سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أن رسول
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 529، كتاب المغازي، باب (31) مرجع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة، ومحاصرته إياهم، حديث رقم (4142) ، (فتح الباري) : 10/ 669، كتاب الأدب باب (91) هجاء المشركين، حديث رقم (6153) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 282- 284، كتاب فضائل الصحابة باب (34) فضائل حسان ابن ثابت رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (157) ، وتمامه: قال حسان:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند اللَّه في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا حنيفا ... رسول اللَّه شيمته الوفاء
فإن أبى ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وفاء
ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفى كداء
يبارين الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتموا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم ... يعز اللَّه فيه من يشاء
وقال اللَّه قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء
وقال اللَّه قد يسرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء
يلاقى كل يوم من معدّ ... سباب أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول اللَّه منكم ... ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول اللَّه فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
قوله «لأفرينهم بلساني فرى الأديم» أي لأمزقن أعراضهم تمزيق الجلد.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم «هجاهم حسان فشفى واشتفى»
أي شفى المؤمنين واشتفى هو بما ناله من أعراض الكفار ومزقها ونافخ عن الإسلام والمسلمين قوله «هجوت محمدا برا تقيا» وفي كثير من النسخ حنيفا بدل تقيا فالبر بفتح الباء الواسع الخير وهو مأخوذ من البر بكسر الباء وهو الاتساع في

(10/39)


__________
[ () ] الإحسان وهو اسم جامع للخير وقيل البر هنا بمعنى المتنزه عن المآثم وأما الحنيف فقيل هو المستقيم والأصح أنه المائل إلى الخير وقيل الحنيف التابع إبراهيم صلى اللَّه عليه وسلّم. قوله: «شيمته الوفاء» أي خلقه. قوله:
«فان أبى ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء»
هذا مما احتج به ابن قتيبة لمذهبه أن عرض الإنسان هو نفسه لا أسلافه لأنه ذكر عرضه وأسلافه بالعطف وقال غيره: عرض الرجل أموره كلها التي يحمد بها ويذم من نفسه وأسلافه وكان ما لحقه نقص يعيبه وأما قوله وقاء فبكسر الواو وبالمد وهو ما وقيت به الشيء. قوله «تثير النقع» أي ترفع الغبار وتهيجه. قوله: «من كنفى كداء» هو بفتح النون أي جانبي كداء بفتح الكاف وبالمد هي ثنية على باب مكة سبق بيانها في كتاب الحج وعلى هذه الرواية في هذا البيت أقواء مخالف لباقيها وفي بعض النسخ: غايتها كداء وفي بعضها: موعدها كداء. قوله «يبارين الأعنة» ويروى يسار عن الأعنة، قال القاضي: الأول هو رواية الأكثرين ومعناه أنها لصرامتها وقوة نفوسها تضاهي أعنتها بقوة جبذها لها وهي منازعتها لها أيضا قال القاضي وفي رواية ابن الحذاء يبارين الأسنة وهي الرماح قال فان صحت هذه الرواية فمعناها أنهن يضاهين قوامها واعتدالها.
قوله «مصعدات» أي مقبلات إليكم ومتوجهات يقال: أصعد في الأرض إذا ذهب فيها مبتدئا ولا يقال للراجع.
قوله: «على أكتافها الأسل الظماء» أما أكتافها فبالتاء المثناة فوق والأسل بفتح الهمزة والسين المهملة وبعدها لام هذه رواية الجمهور، والأسل الرماح والظماء الرقاق فكأنها لقلة مائها عطاش وقيل المراد بالظماء العطاش لدماء الأعداء وفي بعض الروايات الأسد الظماء بالدال أي الرجال المشبهون للأسد العطاش الى دمائكم.
قوله: «تظل جيادنا متمطرات» أي تظل خيولنا مسرعات يسبق بعضها بعضا. قوله «تلطمهن بالخمر النساء» أي تمسحهن النساء بخمرهن بضم الخاء والميم جمع خمار أي يزلن عندهم الغبار وهذا لعزتها وكرامتها عندهم وحكى القاضي أنه روى بالخمر بفتح الميم جمع خمرة وهو صحيح المعنى لكن الأول هو المعروف وهو الأبلغ في إكرامها.

(10/40)


اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: اهجوا قريشا فإنه أشدّ عليها من رشق النبل، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال: والّذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فرى الأديم، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول اللَّه قد لخص لي نسبك، والّذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، قالت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها:
فسمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن اللَّه ورسوله، وقالت: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى.
وقد تقدم التعريف بحسان بن ثابت الأنصاري، وكعب بن مالك، وأبى ابن كعب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم. وعبد اللَّه بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ أبو محمد، أحد النقباء، شهد العقبة وبدرا وما بعدها، واستشهد بمؤتة في جمادى سنة ثمان، وهو أحد الأمينين، وأحد الشعراء، وفي حسان وكعب بن مالك نزل قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [ (1) ] .
***
__________
[ () ] قوله: «وقال اللَّه قد يسرت جندا» أي هيأتهم وأرصدتهم. قوله: «عرضتها اللقاء» هو بضم العين أي مقصودها ومطلوبها. قوله: «ليس له كفاء» أي مماثل ولا مقاوم. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
[ (1) ] الشعراء: 227، وفي (الأصل) : حتى وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً.

(10/41)


فصل في ذكر شعراء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مدحه بالشعر جماعة من الرجال والنساء، ذكر من ذكره منهم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن عبد عبد البر نحو مائة وعشرين [ (1) ] ، وجمعهم الحافظ فتح الدين محمد بن محمد الأندلسى المعروف بابن سيد الناس في قصيدة ميمية ثم شرحها في مجلد سماه (منح المدح) ، أو (فتح المدح) ، ورتبهم على حروف المعجم، قارب بهم المائتين وكان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة شعراء يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش وهم حسان بن ثابت، وعبد اللَّه بن رواحة، وكعب بن مالك، وهم من الأنصار، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
***
__________
[ (1) ] كان شعراء المسلمين: حسان بن ثابت، وعبد اللَّه بن رواحة، وكعب بن مالك، وأما شعراء المشركين: فعمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن الزبعري، وأبو سفيان بن الحارث.
قال أبو عمر بن عبد البر: قيل لعلى بن أبى طالب: اهج عنا القوم الذين يهجوننا فقال:
إن أذن لي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فعلت، فقالوا: يا رسول اللَّه ائذن له، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن عليا ليس عنده ما يراد في ذلك منه، أو ليس في ذلك هنالك، ثم قال ما يمنع القوم الذين نصروا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟
قال ابن سيرين: وانتدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار: حسان، وكعب، وعبد اللَّه بن رواحة، فكان حسان وكعب يعرضان بهم في الوقائع والأيام والمآثم ويذكران مثالبهم، وكان عبد اللَّه بن رواحة يعيرهم بعبادة ما لا ينفع.
فكان قوله أهون عليهم يومئذ، وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم، فلما أسلموا وفقهوا كان أشد القول عليهم قول عبد اللَّه بن رواحة، وفي ترجمة حسان بن ثابت من (الإصابة) :
قال أبو عبيدة: فضل حسان بن ثابت على الشعراء بثلاثة: وكان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.

(10/42)