إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

عصمة سائر الأنبياء والملائكة عليهم السلام
قال ابن سيده: عصمه يعصمه منعه ووقاه [ (1) ] وفي التنزيل: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي لا معصوم إلا المرحوم. والاسم:
العصمة.
__________
[ (1) ] العصمة في كلام العرب: المنع وعصم اللَّه عبده: أن يعصمه مما يوبقه. عصمه يعصمه عصما: منعه ووقاه. وفي التنزيل: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي لا معصوم إلا المرحوم، قيل: هو على النسب أي ذا عصمة، وذو العصمة يكون مفعولا كما يكون فاعلا، فمن هنا قيل: إن معناه لا معصوم، وإذا كان ذلك فليس المستثنى هنا من غير نوع الأول بل هو من نوعه، وقيل: إلا من رحم مستثنى ليس من نوع الأول، وهو مذهب سيبويه، والاسم العصمة، قال الفراء: من في موضع نصب، لأن المعصوم خلاف العاصم، والمرحوم، فكان نصبه بمنزلة قوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ، قال:
ولو جعلت عاصما في تأويل المعصوم، أي لا معصوم اليوم من أمر اللَّه جاز رفع من، قال:
ولا تنكرن أن يخرج المفعول على الفاعل، ألا ترى قوله عز وجل: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ معناه مدفوق وقال الأخفش: لا عاصم اليوم يجوز أن يكون إلا ذا عصمة أي معصوم، ويكون إلا من رحم رفعا بدلا من لا عاصم، قال أبو العباس: وهذا خلف من الكلام لا يكون الفاعل في تأويل المفعول إلا شاذا في كلامهم، والمرحوم معصوم، والأول عاصم، ومن نصب بالاستثناء المنقطع، قال: وهذا الّذي قاله الأخفش يجوز في الشذوذ، وقال الزجاج في قوله تعالى: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أي يمنعني من الماء، والمعنى من تفريق الماء، قال: لا عاصم اليوم من أمر اللَّه إلا من رحم، هذا استثناء من الأول، وموضع من نصب المعنى لكن من رحم اللَّه فإنه معصوم، قال: وقالوا يجوز أن يكون عاصم في معنى معصوم، ويكون معنى لا عاصم لا ذا عصمة، ويكون من في موضع رفع، ويكون المعنى لا معصوم إلا المرحوم، والحذاق من النحويين اتفقوا على أن قوله لا عاصم بمعنى لا مانع، وأنه فاعل لا مفعول، وأن من نصب على الانقطاع، واعتصم فلان باللَّه إذا امتنع به، والعصمة:
الحفظ، يقال: عصمته فانعصم. واعتصمت باللَّه إذا امتنعت بلطفه من المعصية.

(11/182)


قلت: المراد بالعصمة هنا منع الأنبياء عليهم السلام من المعاصي، وقد اتفقت الأمة على أن الأنبياء معصومون من الكفر، إلا الفضيلية من الخوارج فإنّهم يجوزون صدور الذنب عنهم، وهو كفر عندهم وجوزت الروافض عليهم إظهار كلمة الكفر على سبيل التقية وأجمعوا على أنه لا يجوز عليهم التحريف والخيانة في تبليغ الشرائع والأحكام عن اللَّه- تعالى- لا عمدا ولا سهوا وإلا لم يوثق بشيء من الشرائع، وأجمعوا على أنه لا يجوز عليهم تعمدا الخطأ في الفتوى فأما على سبيل السهو فقدا اختلفوا فيه، وأما ما يتعلق بأحوالهم وأفعالهم فقد اختلف فيه على خمسة مذاهب:
الأول: قالت: الحشوية يجوز عليهم الإقدام على الكبائر والصغائر.
الثاني: قال: أكثر المعتزلة لا يجوز تعمد الكبيرة ويجوز تعمد الصغيرة إن لم يكن منفرا، فإن كان منفرا فلا يجوز عليهم كالتضعيف دون الحية.
الثالث: قال: لا يجوز عليهم تعمد الكبيرة ولا الصغيرة ولكن يجوز على سبيل الخطأ.
الرابع: لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة، ولا عمدا ولا بالتقويل الخطأ.
الخامس: قالت: الروافض لا يجوز ذلك لا عمدا ولا تقويلا، ولا سهوا ولا نسيانا.
ثم هذه العصمة عند الأكثرين لم تجب إلا في زمان النبوة، وعند غير الروافض تجب من أول العمر، وذهب أبو محمد علي بن حزم إلى أن الملائكة لا تعصي البتة بوجه من الوجوه لا بعمد، ولا بخطإ ولا بسهو، ولا كبيرة، ولا صغيرة، وأن الأنبياء لا يعصون البتة بعمد لا صغيرة، ولا كبيرة، وربما كان منهم الشيء- على سبيل السهو وعلى سبيل إرادة الخير- فلا يوافقون مراد اللَّه- تعالى إلا أنهم لا يقارهم اللَّه على ذلك بل نبهم وربما عاقبهم على ذلك في الدنيا بالكلام، وربما ببعض المكروه في الدنيا كالذي أصاب يونس عليه السلام.
وهم- عليهم السلام- بخلافنا في هذا فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه، ولا بما قصدنا به وجه اللَّه- تعالى، بل نحن مأجورون على هذا الوجه،

(11/183)


وقد أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن اللَّه- تعالى- قرن بكل أحد شيطانا وأن اللَّه- تعالى- أعانه على شيطانه فأسلم،
فلا يأمره إلا بخير، والملائكة برآء من هذا الا أنهم مخلوقون من نور لا من أمشاج، والنور لا كدر فيه ولا مزاح بل هو ظاهر سليم، وبهذا نقول.
وقال: سيف الدين الآمدي اختلف في السهو، فذهب الأسفرايني وكثير إلى امتناعه، وذهب أبو بكر الباقلاني إلى جوازه، وأما الإمام فخر الدين فادعى في بعض كتبه الإجماع على امتناعة، وفي بعضهما نقل الخلاف، وحاصل الخلاف راجع إلى أن ذلك هل هو داخل تحت دلالة المعجزة على التصديق أم لا؟ فمن جعله غير داخل جوّزه، وفي كلام إمام الحرمين إشارة إلى ذلك فيما يختلف ببيان الشرائع بسواء كان قولا أو فعلا، وميله إلى الجواز، واحتج بقصة ذي اليدين.
وقال أبو العالي بن الزملكاني: الّذي يظهر أن ما طريقته التبليغ فيه ما يقطع بدخوله تحت دلالة المعجزة على الصدق، فهذا لا نزاع في أنه لا يجوز فيه التحريف، ولا الخيانة، ولا الكذب، ولا السهو، وما لا يكون كذلك وهو مما طريقه التبليغ والبيان للشرائع هو محل الخلاف، ويحتمل كلام فخر الدين حين نقل الإجماع على القسم الأول، ويحمل كلامه وكلام الآمدي حين نقلا الخلاف على الثاني.
ونقل القاضي عياض الإجماع على عدم جواز السهو والنسيان في الأقوال البلاغية، وخص الخلاف بالأفعال.
قلت: هذا تفصيل اختلاف الأمة في مسألة العصمة على الجملة، وحجج المحققين وشبه المبطلين في هذه المسألة كثيرة جدا.
وقال القاضي عياض: اعلم أن الطوارئ من التغييرات والآفات على آحاد البشر لا تخلوا أن تطرأ على جسمه، أو على حواسه، بغير قصد واختيار، كالأمراض والأسقام أو تطرأ بقصد واختيار، وكله في الحقيقة عمل وفعل ولكن جرى رسم المشايخ لتفصيله إلى ثلاثة أنواع: عقد بالقلب ... وقول باللسان..
وعمل بالجوارح..

(11/184)


وجميع البشر تطرأ عليهم الآفات والتغيرات بالاختيار وبغير الاختيار في هذه الوجوه كلها، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإن كان من البشر ويجوز على جبلته ما يجوز على جبلة البشر، فقد قامت البراهين القاطعة، وتمت كلمة الإجماع على خروجه عنهم، وتنزيهه من كثير من الآفات التي تقع على الاختيار، وعلى غير الاختيار، كما سنبينه إن شاء اللَّه- تعالى.
قال: وقد ذكر حكم عقد قلبه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ما تعلق منه بطريق التوحيد والعلم باللَّه وصفاته والإيمان به، وبما أوحى به فعلى غاية المعرفة، ورسوخ العلم، واليقين والانتفاء عن الجهل بشيء من ذلك، أو الشك، أو الريب فيه، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك واليقين، هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه، ولا يصح بالبراهين الواضحات أن يكون في عقول الأنبياء سواه، ولا يعترض على هذا بقول إبراهيم عليه السّلام: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ (1) ] إذا لم يشك إبراهيم في إخبار اللَّه- تعالى- بإحياء الموتى، ولكن أراد طمأنينة القلب، وترك المنازعة، ومشاهدة الإحياء، فحصل له العلم الأول بوقوعه، وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته.
الوجه الثاني: أن إبراهيم- عليه السلام- إنما أراد اختيار منزلته عند ربه- تعالى- وعلم إجابته دعوته بسؤال ذلك من ربه، ويكون قوله: أو لم تؤمن أي تصدق بمنزلتك منى وخلتك واصطفائك؟
الوجه الثالث: أنه سأل زيادة يقين وقوة طمأنينة وإن لم يكن في الأول شك إذا العلوم الضرورية والنظرية قد تتفاضل في قوتها وطرئان الشكوك على الضروريات ممتنع، ومجوز في النظريات، فأراد الانتقال من النظر والخبر إلى المشاهدة، والترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، فليس الخبر كالمعانية، ولهذا قال: سهل بن عبد اللَّه: سال كشف غطاء العيان، ليزداد بنور اليقين تمكنا في حاله.
__________
[ (1) ] البقرة: 260.

(11/185)


الوجه الرابع: أنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيى ويميت، طلب ذلك من ربه، ليصح احتجاجه عيانا.
الوجه الخامس: قول بعضهم هو سؤال عن طريق المراد: أقدرني على إحياء الموتى، قوله لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ (1) ] عن هذه الأمنية.
الوجه السادس: أنه أرى من نفسه الشك- وما شك- لكن ليجاوب فيزاد قربه.
وقول نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم: نحن أحق بالشك من إبراهيم
نفى لأن يكون إبراهيم شك وإبعاد للخواطر الضعيفة أن نظن هذا بإبراهيم، أي نحن موقنون بالبعث وإحياء اللَّه الموتى، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه، إما على طريق الأدب، أو أن يريد منه الذين يجوز عليهم الشك أو على طريق التواضع والإشفاق إن حملت قصة إبراهيم على اختيار حاله أو زيادة بقينه.
وقال أبو محمد بن حزم: وكذلك قوله عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [ (2) ] ، ولم يقره ربنا- تعالى- وهو يشك في إيمان إبراهيم خليله تعالى اللَّه عن هذا ولكن تقريرا للإيمان في قلبه، وإن لم ير كيف إحياء الموتى، فأخبر عليه السّلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وأنه إنما أراد أن يرى الكيفية فقط، ويعتبر بذلك، وما شك إبراهيم قط في أن اللَّه يحيي الموتى، وإنما أراد أن يرى الهيئة، كما أنا لا نشك في صحة وجود الفيل، والتمساح، وزيادة النهر، والخليفة، ثم يرغب من لم ير ذلك منا أن يراه، لا شكا في أنه حق، ولكن ليرى العجب الّذي تتمثله نفسه، ولم تقع عليه حاسة بصره فقط، وأما ما
روى من قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نحن أحق بالشك من إبراهيم قال كاتبه: فإنه حديث صحيح.
__________
[ (1) ] البقرة: 260.
[ (2) ] البقرة: 260.

(11/186)


خرّجه البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من طريق ابن وهب. قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. ويرحم اللَّه لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف.
وقال: البخاري ما لبث يوسف لأجبت الداعي، وله عندهما طرق.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قوله عز وجل: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ وباب (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ، وباب قوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ وفي التفسير، باب (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وفي التعبير، باب رؤيا أهل السجون والفساد والشرك.
[ (2) ] أخرجه مسلم في الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب، حديث رقم (151) وفي الفضائل، باب فضائل إبراهيم الخليل عليه السّلام، حديث رقم (151) .
وأخرجه الترمذي في التفسير، باب ومن سورة يوسف، حديث رقم (3115) .
قال الحافظ في (الفتح) : اختلفوا في معنى
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «نحن أحق بالشك» ،
فقال بعضهم: نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم، وقيل: معناه إذا لم نشك نحن، فإبراهيم أولى أن لا يشك، أي لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم، وقد علمتم أنى لم أشك، فاعلموا أنه لم يشك، وإنما قال ذلك تواضعا منه، أو من قبل أن يعلمه اللَّه بأنه أفضل من إبراهيم.
وهو كقوله
في حديث أنس عند مسلم: «إنّ رجلا قال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا خير البرية، قال:
ذاك إبراهيم» .
وقيل: إن سبب هذا الحديث: أن الآية لما نزلت قال بعض الناس: «شك إبراهيم ولم يشك نبينا» فبلغه ذلك، فقال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»
أراد: ما جرت به العادة في المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئا.

(11/187)


وقال ابن حزم: فمن ظن أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شك قط في قدرة ربه- تعالى- فقد كفر، وهذا الحديث حجة لنا، ونفى الشك عن إبراهيم أو لو كان هذا الكلام من إبراهيم شكا، لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهده إبراهيم ليس شاكا، فإبراهيم أبعد من الشك، ومن نسب هاهنا إلى الخليل الشك فقد نسب إليه الكفر، ومن كفّر نبيا فهو كافر، وأيضا فلو كان ذلك شكا من إبراهيم، كذا نحن أحقّ بالشك منه، فنحن إذا شكاك أو جاحدون كفار، وهذا كلام نعلم وللَّه الحمد بطلانه من أنفسنا، ونحن وللَّه الحمد مؤمنون مصدقون باللَّه وقدرته على كل شيء يسأل عنه.
قال كاتبه- والّذي أثار هذا ما حكاه محمد بن جرير الطبري، عن ابن جرير، قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى. قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ليريه.
ثم احتج الطبري بقوله: نحن أحق بالشك من إبراهيم. قال الطوفي:
وليس هذا بشيء، إذ برهان القدرة واضح فكيف مثله على إبراهيم عليه السّلام مع استخراجه حدوث العالم، وقدم الصانع بلطف النظر من أقوال الكواكب والشمس والقمر.
وقد أورده بعضهم أن قول إبراهيم: بلى أنه آمن أي بلى، آمنت، وقوله:
وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، يقتضي أن قلبه لم يطمئن إلى الآن، لكن الإيمان يلزمه الطمأنينة، وحينئذ يصير كأنه قال: آمنت ما آمنت أو اطمأن قلبي ولم يطمئن، وهو تناقض.
وأجيب بأن معناه بلى آمنت بالقدرة ولكن ليطمئن قلبي، وكان قد جعل إظهاره على إحياء الموتى علامة على اتخاذه خليلا وعلى هذا فلا تناقض، وهذا كان قريبا ممكنا غير أن المختار غيره، وهو أن الإيمان يستند إلى العلم، والعلم له مراتب:
علم اليقين: وهو ما حصل عن النظر والاستدلال.
عين اليقين: وهو ما حصل عن شهادة ويقين عيان.

(11/188)


حق اليقين: وهو ما حصل عن العيان مع المباشرة.
فالأول: كمن علم بالعادة أن في البحر ماء.
والثاني: كمن مشى حتى وقف على ساحله وعاينه.
والثالث: كمن خاض فيه واغتسل وشرب منه، وإذا عرفت فإيمان إبراهيم- عليه السلام- بالقدرة على إحياء الموتى قبل أن يراه كان علم يقين نظري، فأراد أن يطمئن قلبه بالإيمان بذلك عن عين اليقين وحق اليقين، فلذلك قيل له: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [ (1) ] إلى آخره، أي باشر هذا الأمر ليحصل عين اليقين عيانا. وحق اليقين مباشرة.
وفي الحديث: ليس الخبر كالعيان، أن موسى بلغه أن قومه قد فتنوا فلم يتغير، فلما رآهم عاكفين على العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه، وفي هذا المعنى قيل:
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
وحينئذ يكون معنى الكلام: بل آمنت عن نظر واستدلال، ولكن أريد طمأنينة القلب بنظر العيان.
قال كاتبه: وهذا الّذي قاله الطوفي يتضمنه كلام القاضي عياض، ولكن باختصار، وقال: وقد روى عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في قوله تعالى: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ (2) ] ، قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك.
وقال ابن خزيمة: سمعت المزني يقول- وذكر هذا الحديث:
نحن أحق بالشك من إبراهيم،
قال المزني: إنما شك إبراهيم أن يجيبه اللَّه إلى ما سأل أم لا.
وقال أبو عوانة الأسفرايينى: سمعت أبا حاتم الرازيّ يقول: يعنى نحن أحق بالمسألة، وسمعت القاضي إسماعيل يقول: كان يعلم بقلبه أن اللَّه يحيى الموتى، ولكن أحب أن يرى معاينة، وعن سعيد بن جبير وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
__________
[ (1) ] البقرة: 260.
[ (2) ] البقرة: 260.

(11/189)


قال: ليزداد إيمانا، وفي رواية: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قال: بالخلة، وعن ابن المبارك قال: اعلم أنك اتخذتني خليلا، وقال القاضي عياض: فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ* وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ [ (1) ] .
فاحذر- ثبت اللَّه قلبك- أن يخطر ببالك، كما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أوحى إليه وأنه من البشر فمثل هذا لا يجوز عليه جملة، بل قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لم يشك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يسأل، ونحوه عن ابن جبير والحسن، وحكى قتادة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما أشك ولا أسأل، وعامة المفسرين على هذا، واختلفوا في معنى الآية فقيل: المراد قل يا محمد للشاك إن كنت في شك ... ، الآية قالوا: وفي السورة نفسها ما دل على هذا التأويل قوله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ (2) ] .
وقيل: المراد بالخطاب العرب وغير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، كما قال لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ (3) ] ، الخطاب له والمراد غيره ومثله فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [ (4) ] ، ونظيره كثير.
قال بكر بن العلاء: ألا تراه يقول وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ [ (5) ] ، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم كان المكذّب فيما يدعو إليه؟ فكيف يكون ممن كذب به؟
فهذا كله يدل على أن المراد بالخطاب غيره.
__________
[ (1) ] يونس: 93- 94.
[ (2) ] يونس: 104- 105.
[ (3) ] الزمر: 65.
[ (4) ] هود: 109.
[ (5) ] يونس: 95.

(11/190)


ومثل هذه الآية قوله تعالى: الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [ (1) ] ، المأمور هاهنا غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ليسأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هو الخبير المسئول لا المستخبر السائل، وقال: إن هذا الّذي أمر غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بسؤال الذين يقرءون الكتاب إنما فيما قصد من إخبار الاسم لا فيما دعا إليه من التوحيد والشريعة.
ومثل هذا قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [ (2) ] ، المراد به المشركون والخطاب موجه للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال العتبي: وقيل: معناه سلنا عمن أرسلنا من قبلك، فخذ الخافض، وتم الكلام ثم ابتدأ أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ (3) ] على طريق الإنكار أي ما جعلنا، حكاه مكي، وقيل: أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يسأل الأنبياء ليلة الإسراء عن ذلك، فكان أشد يقينا أن يحتاج إلى السؤال،
ويروى أنه قال: لا أسأل قد اكتفيت، قاله: ابن زيد،
وقيل: سل أمم من أرسلنا: هل جاءوهم بغير التوحيد؟ وهو معنى قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة.
والمراد هنا بهذا والّذي قبله إعلامه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما بعث به الرسل، وأنه- تعالى- لم يأذن في عبادة غيره لأحد، ردا على مشركي العرب وغيرهم في قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ (4) ] ، وكذلك قوله تعالى:
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ (5) ] ، أي في علمهم بأنك رسول اللَّه وإن لم يقروا بذلك، وليس المراد به شكه فيما ذكر في أول الآية.
وقد يكون أيضا على مثل ما تقدم، أي قل لمن امترى يا محمد في ذلك لا تكونن من الممترين بدليل قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً [ (6) ] ، وأن
__________
[ (1) ] الفرقان: 59.
[ (2) ] الزخرف: 45.
[ (3) ] الزخرف: 45.
[ (4) ] الزمر: 3.
[ (5) ] الأنعام: 114.
[ (6) ] الأنعام: 114.

(11/191)


النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يخاطب به غيره. وقيل: هو تقدير كقوله: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ (1) ] ، وقد علم أنه لم يقل.
وقيل: معناه ما كنت في شك فاسأل، تزدد طمأنينة وعلما إلى علمك ويقينك، وقيل: إن كنت تشك فيما شرفناك وفضلناك به، فسلهم عن صفتك في الكتب ونشر فضائلك، وحكي عن أبي عبيدة: أن المراد إن كنت في شك من غيرك مما أنزلنا.
قال كاتبه: وذهب محمد بن جرير إلى أن معناه: كقول القائل: إن كنت ابني فبرني، وهو لا يشك في أنه ابنه، وإن ذلك من كلام العرب صحيح فيهم.
ومنه قوله تعالى: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [ (2) ] ، وقد علم- تعالى- أن عيسى لم يقل ذلك فهذا من ذلك لم، يكن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شاكا في حقيقية خبر اللَّه- تعالى- وصحته، واللَّه- تعالى- بذلك من أمره كان عالما، ولكنه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضا إذ كان القرآن بلسانهم نزل: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ (3) ] ، خبر من اللَّه- تعالى- مبتدأ بقوله تعالى: أقسم لقد جاء الحق اليقين من الخبر بأنك لك رسول اللَّه وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك ويجدون بعثك عندهم في كتبهم:
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ (4) ] يقول: فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته.
وقال الحافظ أبو محمد بن حزم: وذكروا قول اللَّه تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، وهذا إنما عهدناه يعترض به الكفار، وأما المؤمن فما ظن قط بنبي أنه يشك فيما يدعو الناس وهذا غاية الوسواس، نعود باللَّه من الخذلان، ولنا في هذه الآية رسالة مشهورة، وجملة حل هذا الشك أنّ (إن) هنا
__________
[ (1) ] المائدة: 116.
[ (2) ] المائدة: 116.
[ (3) ] البقرة: 147.
[ (4) ] البقرة: 147.

(11/192)


بمعنى (ما) وإنما هي وجحد بمعنى، وما كنت في شك وأمره أن يسأل أهل الكتاب تقريرا لهم على أنهم يجدونه حقا في التوراة والإنجيل، وقال القرطبي:
وقيل: الشك ضيق الصدر، أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء، فاصبر وسل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك بصبر الأنبياء قبلك على أذى قومهم، وكيف كانت عاقبة أمرهم، فالشك في اللغة أصله الضيق يقال: شك الثوب أي ضمه بخلال حتى يصير كالوعاء، وكذلك السفرة تمتد علائقها حتى تقبض، فالشك يقبض الصدور ويغمها حتى تضيق.
وقال الطوفى: قد يتوهم من ظاهرها أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعترضه شك في بعض الأوقات فيما أنزل إليه- كما توهمه بعض النصارى- فأورده متعلقا به، وليس كذلك في أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم معصوم من الشك والارتياب لقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [ (1) ] ، وإنما وجه الآية: صرف الخطاب إلى من يجوز عليه الشك من أتباعه وأخصامه: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [ (2) ] ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ (3) ] ، فإن لم يكن بد من صرف الكلام إليه على ظاهر اللفظ فمعناه على تقدير إن تشك فاسأل وإن كان ذلك التقدير لا يقع نحو: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [ (4) ] ، أي لو قدر آلهة أخرى لزم الفساد، لكن ذلك التقدير ممتنع.
وقال القاضي عياض: فإن قيل فيما معنى قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [ (5) ]- على قراءة التخفيف؟ قلنا:
المعنى في ذلك، ما قالته عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- معاذ اللَّه أن تظن الرسل بربها، وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم وعلى هذا أكثر المفسرون.
__________
[ (1) ] الشرح: 1.
[ (2) ] الرعد: 43.
[ (3) ] الأنبياء: 7.
[ (4) ] الأنبياء: 22.
[ (5) ] يوسف: 110.

(11/193)


قال كاتبه: قول عائشة هذا خرجه البخاري من حديث إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة قالت- وهو يسألها عن قول اللَّه- عز وجل: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ [ (1) ] ، قال: قلت: أكذبوا أم كذبوا؟ قالت عائشة: كذبوا. قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فيما هو الظن؟ قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا ذلك فقلت لها:
وظنوا أنهم قد كذبوا، قالت: معاذ اللَّه لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت:
فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم كذبوهم، جاء نصر اللَّه عند ذلك.
وخرجه من حديث شعيب عن الزهري، أخبرني عروة، فقلت: لعلها كذبوا، قالت: معاذ اللَّه بنحوه [ (2) ] . ذكرهما في تفسير سورة يوسف.
وخرجه في كتاب الأنبياء أيضا من حديث الليث، عن عقيل عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة أنه سأل عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. أرأيت قول اللَّه عز وجل حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أو كذبوا؟ قالت:
بل كذبهم قومهم، قلت: واللَّه لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن، فقالت: يا عرية لقد استيقنوا بذلك، فقلت: فلعلها كذبوا قالت: معاذ اللَّه لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ فقالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأست الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنوا أن أتباعهم كذبوهم جاءهم نصر اللَّه، قال أبو عبد اللَّه استيأسوا: استفعلوا من يئست [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 467- 468، كتاب التفسير، باب (6) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ، حديث رقم (4695) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4696) .
[ (3) ] حديث رقم (3389) .

(11/194)


وخرّجه في تفسير سورة البقرة [ (1) ] ، من حديث هشام، عن ابن جريج:
سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خفيفة، قال: ذهب بها هنالك وتلا: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، فلقيت عروة بن الزبير، فذكرت ذلك له فقال: قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: معاذ اللَّه! واللَّه ما وعد اللَّه رسوله من شيء إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن من معهم يكذبونهم، وكانت تقرأها: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مثقلة.
قال القاضي عياض: وقيل: إن الضمير في ظنوا عائد على الأتباع والأمم لا الأنبياء والرسل وهو قول ابن عباس والنخعي وابن جبير وجماعة من العلماء.
وبهذا المعنى قرأ مجاهد كذبوا بالفتح فلا تشغل بالك من شاذ التفسير الواهي مما لا يليق بمنصب العلماء، فكيف بالأنبياء عليهم السلام؟ وقال ابن حزم: وذكروا قول اللَّه- تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بتخفيف الذال- وليس هذا على ما ظنه من جهل أمر اللَّه- تعالى- وإنما هو أنهم ظنوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوهم في وعدهم، ومن المحال أن يظن من له أدنى فهم من الناس أن ربه- تعالى- يكذبه، هذا ما لا يظنه ذو عقل البتة، فكيف صفوة اللَّه في أرضه من خلقه؟ وإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ على المصيبة، هؤلاء الذين يجيزون على الأنبياء مثل هذا الكفر، ونعوذ باللَّه من الخذلان.
قال كاتبه تحذير القاضي عياض وابن حزم من قبله إنما هو مما ذكره الطوفي، فإنه وإن كان بعدهما بدهر حكى كلام من في عقده وهن، ومال إليه، قال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بالتشديد، أي كذبهم قومهم فلا يتابعهم أحد جاءهم نصرنا بإمالة اللَّه قلوب الناس إليهم، وكذبوا
__________
[ (1) ] باب (38) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، حديث رقم (4524) ، (4525) .

(11/195)


بالتخفيف، أي أخلفهم اللَّه وعده في النصر، وأنهم ليسوا على شيء جاءَهُمْ نَصْرُنا، بإنجائهم ومن أتبعهم وإهلاك الكافرين.
وقد أنكرت عائشة هذا التأويل، تنزيها للأنبياء- عليهم السلام- من الشك في أمرهم، واختارت الوجه الأول أو نحوه، وليس ما أنكرته بالمنكر، إذ الإنسان يطرأ عليه خوف، أو حزن، أو مرض، أو هم، أو غم، أو أحوال، يقول ويظن فيها أقوالا وظنونا، هو فيها معذور لغلبة ذلك الحال.
ألا ترى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لما تراخى عنه الوحي في مبادئ أمره، خرج ليتردى من شواهق الجبال وجدا لانقطاع الوحي، والرسل- عليهم السلام- يوم القيامة، يقال لهم: ماذا أجبتم؟ فيقولون: لا علم لنا ينسون أو يدهشون، لغلبة تلك الحال عليهم، ثم يتذكرون فيشهدون بما علموا فكذا ظن الرسل هنا أنهم قد كذبوا، هو من هذا الباب، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
قال كاتبه: هذه- لعمري- وهلة من وهلات الطوفي، إذ سوى الرسل بسائر البشر في غلبة الحال عليهم حتى باللَّه يظنوا السوء، وقد عصمهم اللَّه من ذلك، ومما دونه أيضا.
قال القاضي عياض: وكذلك ما ورد في حديث السيرة ومبتدأ الوحي من قوله لخديجة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: لقد خشيت على نفسي، ليس معناه الشك فيما أتاه اللَّه بعد رؤية الملك، ولكن لعله يخشى أن لا تتحمل قوته مقاومة الملك، وأعباء الوحي لينخلع قلبه أو تزهق نفسه، هذا على ما ورد في الصحيح أنه قال بعد لقاء الملك أو يكون ذلك قبل لقياه الملك وإعلام اللَّه- تعالى- بالنّبوّة لأول ما عرضت عليه من العجائب، وسلّم عليه الحجر والشجر، وبدأته المنامات والتباشير، كما ورد في بعض طرق هذا الحديث، أن ذلك كان أولا في المنام ثم أرى في اليقظة مثله، تأنيا له صلّى اللَّه عليه وسلّم لئلا يفجأه الأمر مشاهدة ومشافهة، فلا تتحمله لأول حاله بنيته البشرية.
وفي الصحيح عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة، قالت: ثم حبب إليه الخلاء، وقالت: إلى أن جاءه الحق، وهو في غار حراء، الحديث- وعن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة خمس عشرة سنة

(11/196)


يسمع الصوت، ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئا وثمان سنين قبل أن يوحى إليه.
وقد روى ابن إسحاق، عن بعضهم: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وذكر جواره بغار حراء قال: فجاءني، وأنا نائم، فقال: اقرأ، قلت: وما أقرأ وذكر نحو حديث عائشة وإقرائه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [ (1) ] السورة. قال: فانصرف عني وهببت من نومي، كأنها صورت في قلبي، ولم يكن أبغض إلى من شاعر أو مجنون قلت: لا تحدث عنى قريش بهذا أبدا إلا عمدت إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنّها فبينا أنا عامد لذلك إذ سمعت مناديا ينادي من السماء: محمد أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، فرفعت رأسي فإذا جبريل- عليه السلام- على صورة رجل، وذكر الحديث.
فقد بين في هذا أن قوله: لما قال وقصده ما قصد إنما كان قبل لقاء جبريل، وقيل إعلام اللَّه له بالنّبوّة وإظهاره واصطفاءه له بالرسالة.
ومثله
حديث عمرو بن شرحبيل أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة: إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت أن يكون هذا الأمر،
ومن حديث حماد بن سلمة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: الحديث إني لأسمع صوتا، وأرى ضوءا، وأخشى أن يكون بي جنون،
وكل هذا يتأول لو صح قوله في بعض الأحاديث: أن الأبعد شاعر أو مجنون، وألفاظا يفهم منها معاني الشك في تصحيح ما رآه كله في ابتداء أمره، وقبل لقاء الملك له، وإعلام اللَّه له أنه رسوله، فكيف وبعض هذه الألفاظ لا يصح طرقها؟ وأما بعد إعلام اللَّه- تعالى- ولقاء الملك، فلا يصح فيه ريب، ولا يجوز عليه شك فيما ألقى.
وقد روى ابن إسحاق عن شيوخه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرقى بمكة من العين قبل أن ينزل عليه، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه، فقالت له خديجة: أوجه إليك من يرقيك؟ قال: أما الآن فلا،
وحديث خديجة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وإخبارها أمر جبريل بكشف رأسها ...
الحديث، إنما ذلك في حق خديجة، لتتحقق صحة نبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن
__________
[ (1) ] العلق: 1.

(11/197)


الّذي يأتيه ملك، ويزول الشك عنها، لا أنها فعلت ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وليختبر هو حاله بذلك.
بل قد روى في حديث عبد اللَّه بن محمد بن يحيى بن عروة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن ورقة أمر خديجة أن تخبر الأمر بذلك.
وفي حديث إسماعيل بن أبي الحكم أنها قالت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا بن عم هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك؟ قال: نعم: فلما جاء جبريل- عليه السلام- أخبرها، فقالت له: اجلس إلى شقي، وذكر الحديث إلى آخره، وفيه قالت: ما هذا بشيطان هذا الملك يا بن عم فاثبت وأبشر وآمنت به، فهذا يدل على أنها مستثبتة بما فعلته لنفسها ومستظهره لإيمانها لا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقول معمر: ثم فتر الوحي، فحزن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حزنا غدا منه مرار كي ينزو من شواهق الجبال، لا يقدح في هذا الأصل، لقول معمر عنه فيما بلغنا ولم يسنده، ولا ذكر رواته، ولا من حدث به، ولا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قاله، ولا يعرف هذا إلا من جهة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر كما ذكرناه، أو أنه فعل ذلك لما خرجه من تكذيب من بلغه كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ [ (1) ] .
ويصحح معنى هذا التأويل حديث شريك، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد اللَّه، أن المشركين لما اجتمعوا بدار الندوة للتشاور في أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واتفق رأيهم على أن يقولوا: ساحر اشتدّ ذلك عليه، وتزمل في ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [ (2) ] يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (3) ] ، أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب منه، وخشي أن تكون عقوبة من ربه، ففعل ذلك بنفسه، ولم يرد بعد شرع بالنهي عن ذلك فيعترض به.
__________
[ (1) ] الكهف: 6.
[ (2) ] المزمل: 1.
[ (3) ] المدثر: 1.

(11/198)


ونحوها فرار يونس- عليه السّلام- خشية تكذيب قومه له لما وعدهم به من العذاب، وقول اللَّه- تعالى- في يونس: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى [ (1) ] معناه أن نضيق عليه مسلكه في خروجه، وقيل: حسن ظنه بمولاه أنه لا يقتضي عليه العقوبة، وقيل: يقدر عليه ما أصابه، وقد قرئ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بالتشديد.
وقيل: نؤاخذه بغضبه، وقال ابن زيد: معناه أفظن أن لن نقدر عليه؟
على الاستفهام؟ ولا يليق أن يظن بنبي أن يجهل بصفة من صفات ربه، وكذلك قوله تعالى: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [ (2) ] ، لقومه لكفرهم، وهو قول ابن عباس، والضحاك، وغيرهم، ولا لربه، إذ مغاضبة اللَّه معاداة له، ومعاداة اللَّه كفر لا يليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام- وقيل: مستحييا من قومه أن يسموه بالكذب، أو يقتلونه كما ورد في الخبر.
وقيل: مغاضبا لبعض الملوك فيما أمره به، من التوجه إلى أمر ربه الّذي أمره به على لسان نبي آخر، فقال له يونس غيري أقوى عليه مني فعزم عليه فخرج لذلك مغاضبا. وقد روى عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن إرسال يونس رسوله إنما بعد أن الحوت، واستدلت الآية بقوله: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ (3) ] ، ثم قال: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [ (4) ] ، فتكون هذه العصمة إذا قبل نسوته.
وقال أبو محمد بن حزم: فان ذكروا أمر يونس- عليه السّلام- بقوله- تعالى- عنه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [ (5) ] ، وقوله- تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
__________
[ (1) ] الأنبياء: 87.
[ (2) ] الأنبياء: 87.
[ (3) ] الصافات: 145- 147.
[ (4) ] الصافات: 145- 147.
[ (5) ] الأنبياء: 87.

(11/199)


[ (1) ] ، وقوله تعالى لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ* لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [ (2) ] ، وقوله- تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [ (3) ] ، وقوله تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [ (4) ] ، قالوا: ولا ذنب أعظم من المغاضبة للَّه- تعالى، ومن ذنب من ظن أن لن يقدر عليه اللَّه، وقد أخبر- تعالى، أنه استحق الذم لولا أن تداركه نعمة من عنده وأنه استحق الملاومة، وأنه أقر على نفسه أنه كان من الظالمين، ونهى اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يكون مثله، وهذا كله لا حجه لهم فيه بل هو حجه لنا على صحة قولنا.
أما إخبار اللَّه- تعالى- أنه ذهب مغاضبا فلم يغاضب ربه قط، ولا أخبر- تعالى- أنه غاضب ربه، والزيادة في القرآن لا تحل فإذ لا شك في شك ولا يجوز أن يظن من له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب اللَّه- تعالى:
فكيف بنبيّ من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه ولم يكن ذلك مرادا للَّه تعالى فعوقب لذلك وإن كان لم يقصد بذلك إلا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وأما قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ فليس على تأولوه من الظن السخيف الّذي لا يظن مثله بضعفة من ضعائف النساء أو ضعفاء الرجال، فكيف بنبي من الأنبياء؟ ومن أبعد المحال أن يكون نبي يظن أن ربه عاجز عنه، وهو يرى أن آدميا مثله يقدر عليه، ولا شك أن من ينسب هذا النوك إلى النبي الفاضل فإنه يشتد غضبه، لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه، فإذا قد بطل ظنهم السخيف، فباليقين نعلم أن معنى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، إما معناه فظن
__________
[ (1) ] الصافات: 143- 144.
[ (2) ] القلم: 48- 49.
[ (3) ] الصافات: 142.
[ (4) ] الأنبياء: 87.

(11/200)


أن لن نضيق عليه، كما قال تعالى: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [ (1) ] ، فظن يونس- عليه السلام- أن اللَّه- تعالى- لا يعاقبه على ذلك الفعل من المغاضبة لقومه، إذ ظن أنه محسن في ذلك.
وأما نهى اللَّه- تعالى- لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يكون كصاحب الحوت، فنعم نهاه عن مغاضبة قومه، وأمره- تعالى- بالصبر على أذاهم بالمطاولة لهم، فأما قول اللَّه- تعالى- أنه استحق الذم والملامة وأنه لولا النعمة التي تداركه بها للبث معاقبا في بطن الحوت، فهذا يقين ما قلناه عن الأنبياء- عليهم السلام- يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه مما يظنونه خيرا وقربة إلى اللَّه- تعالى- إذ لم يوافق ذلك مراد ربهم، وعلى هذا أقر على نفسه أنه كان من الظالمين، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، فلما وضع المغاضبة في غير موضعها، اعترف في ذلك بالظلم على أنه قصده، وهو يرى أنه ظلم.
وقال الطوفي: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، قد علم أن لولا يقتضي امتناع شيء لوجود غيره، والّذي امتنع هاهنا لوجود النعمة هو نبذه بالعراء مذموما، لا مجرد نبذه بالعراء وهو الصحراء لأنه قد وجد بديل، فنبذناه بالعراء وهو سقيم فدل على النبذ بالعراء مجردا عن صفة الذم بديل: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ومن يكن مجتبى صالحا لا يكون مذموما، وسقط بهذا اللعن على يونس- عليه السلام.
وقال يونس، عن ابن عبد الحق، عن ربيعة بن عبد الرحمن، قال:
سمعت وهب بن منبه، وهو في مسجدنا، وذكر له يونس النبي- عليه السّلام- فقال: كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة، ولها أثقال، فلما جعلت عليه تفسح تحتها نفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فألقاها عنه، وخرج هاربا.
قال القاضي عياض: فإن قيل: فما معنى
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه ليغان على قلبي فاستغفر اللَّه- تعالى- كل يوم مائة مرة
؟ ومن طريق: في اليوم أكثر من سبعين مرة فاحذر أن يقع ببالك أن يكون هذا الغين وسوسة أو ريبا وقع في
__________
[ (1) ] الفجر: 16.

(11/201)


قلبه صلّى اللَّه عليه وسلّم بل أصل الغين في هذا ما يتغشى القلب ويغطيه، قال أبو عبيد: وأصله من غين السماء، هو إطباق الغيم عليها، وقاله غيره.
والغين شيء يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية كالغيم الرقيق الّذي يعرض في الهواء فلا يمنع ضوء الشمس، وكذلك لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة أو أكثر من سبعين في اليوم، إذا ليس يقتضيه لفظه الّذي ذكرناه، وهو أكثر الروايات، وإنما هذا عدد للاستغفار، لا للغين، فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه، وفترات نفسه، وسهرها عن مداومة الذكر، ومشاهدة الحق، مما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم دفع إليه من مقاساة البشر، وسياسة الأمة ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحتة النفس، كلفه من أعباء أداء الرسالة، وحمل الأمانة وهو في كل هذا في طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم أرفع الخلق إلى اللَّه مكانة، وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حاله عند خلوص قلبه، وخلو همه، وتفرده بربه، وإقباله بكليته عليه، ومقامه هنالك أرفع حالته، رأى صلّى اللَّه عليه وسلّم حال فترته عنها، فاستغفر اللَّه من ذلك، هذا أولى وجوه الحديث وأشهرها.
وإلى معنى ما أشرنا عنه مال كثير من الناس إليه، وحام حوله، فقارب ولم يرد، وقد قربنا غامض معناه، وكشفنا للمستفيد محيّاه، وهو مبني على جواز الفترات والغفلات، والسهو في غير طريق البلاغ على ما سيأتي.
قال كاتبه: نعم ما قرره القاضي إلا أنى أقوال: ليس مع ذلك فترة منه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا غفلة، ولا سهو، وإنما هو شغل بالتبليغ إلى الخلق من الاستغراق في جناب الحق، فإذا فرغ من ذلك، ارتاح لما هنالك، فاستغفر ربه لا من ذنب بل تعرض منه صلّى اللَّه عليه وسلّم للنفحات الربانية.
قال القاضي: وذهبت طائفة من أرباب القلوب ومشيخة المنصوفة ممن قال بالتنزيه للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عن هذا جملته، وأجعله أن يجوز عليه، في حال سهوا وفترة إلا أن معنى الحديث ما يهم خاطره، وبعد فكره من أمر أمته صلّى اللَّه عليه وسلّم لاهتمامه بهم، وكثرة شفقته عليهم، فيستغفر اللَّه لهم، قالوا وقد يكون الغين على قلبه

(11/202)


السكينة التي تتغشاه، لقوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [ (1) ] ، ويكون استغفاره عندها إظهار العبوديّة والافتقار.
وقال ابن عطاء: استغفاره وفعله هذا تعريف للأمة يحملهم على الاستغفار، وقد يحتمل أن تكون هذه الإغاثة حالة خشية وإعظام يغشى قلبه، فيستغفر حينئذ شكرا للَّه- تعالى، وملازمة لعبوديته كما قال في ملازمة العبادة: أفلا أكون عبدا شكورا؟.
وعلى هذه الوجوه الأخيرة يحمل ما روى في بعض طرق هذا الحديث
عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه ليغان على قلبي في اليوم أكثر من سبعين مرة، فأستغفر اللَّه.
قال القاضي فإن قلت: فما معنى قوله- تعالى- لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [ (2) ] ، وقوله- تعالى- لنوح عليه السّلام: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [ (3) ] ، فاعلم أنه لا يلتفت في ذلك إلى قول من قال في آية نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لا تكونن ممن يجهل أن اللَّه لو شاء لجمعهم على الهدى، وفي آية نوح:
لا تكونن ممن يجهل ان وعد اللَّه حق، لقوله- تعالى: إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات اللَّه، وذلك لا يجوز على الأنبياء، والمقصود: وعظهم أن يتشبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين، كما قال:
إِنِّي أَعِظُكَ وليس في آية منهما دليل على كونهم على تلك الصفة التي نهاهم عن الكون عليها، فكيف وآية نوح: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؟
فحمل ما بعدها على، قبلها أولى، لأن مثل هذا قد يحتاج إلى إذن، وقد تجوز إباحة السؤال فيه ابتداء فنهاه اللَّه- تعالى- أن يسأله عن ما طوى علمه عنه، وأكنه في غيبه، من السبب الموجب لهلاك ابنه، ثم أكمل اللَّه- تعالى- نعمته بإعلامه ذلك بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ حكى معناه مكي.
__________
[ (1) ] التوبة: 40.
[ (2) ] الأنعام: 35.
[ (3) ] هود: 46.

(11/203)


كذلك أمر نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم في الآية الأخرى بالتزام الصبر على إعراض قومه لا يخرج عند ذلك، فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر، حكاه أبو بكر بن فورك.
وقيل: معنى الخطاب لأمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم أي فلا تكونوا من الجاهلين، حكاه أبو محمد مكي، وقال: في القرآن كثير، فبهذا الفصل وجب القول بعصمة الأنبياء منه بعد النبوة قطعا.
وقال أبو محمد بن حزم: وذكروا قول اللَّه- تعالى- لنوح- عليه السلام: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، وهذا لا حجة لهم فيه، لأن نوح تأول وعد اللَّه- تعالى- له أن يخلصه وأهله، فظن أن ابنه من أهله وهذا لو فعله أحدنا لكان مأجورا، ولم يسأل نوح تخليص من أيقن أنه ليس من أهله لكن هو أقرب القرابة إليه فقرع على ذلك ونهى أن يكون من الجاهلين فتذمم- عليه السلام- من ذلك ونزع، وليس هاهنا عمد للمعصية البتة.
وقال الطوفي: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [ (1) ] ، يحتج به من يرى العموم وأن له صيغة والتمسك به بأن نوحا إنما تمسك في هذا السؤال لعموم قوله- تعالى: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [ (2) ] ، وهو اسم جنس مضاف يفيد العموم، فصار تقدير سؤال نوح- عليه السّلام إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وقد وعدتني بإنجاء أهلي قال: يا نوح إنه ليس من أهلك يحتمل وجوها:
أحدها: أن ابنك مخصوص في علمنا من عموم أهلك، فليس هو من أهلك الناجين.
الثاني: أنه ليس من أهل دينك بذلك، إنه عمل غير صالح وحينئذ يكون الأهل في قوله- تعالى- مجازا عن الموافقين في الإيمان.
الثالث: ما قيل إن هذا الولد كان ابن زوجته أو أنه ولد على فراشه من غيره، بدليل أنه عمل غير صالح برفعة عمل ونحوه مما لا يليق بعضه
__________
[ (1) ] هود: 45.
[ (2) ] هود: 40.

(11/204)


بالأنبياء، وعلى كل حال فلا بد لهذه القصة من استعمال المجاز في أهلك أو تخصيص عمومه بالابن المذكور، أو تجوز نوح بولده عن ابن امرأته، فيحتج بها على استعمال المجاز أو التخصيص في الكلام: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [ (1) ] ، كأن نوحا لما قال: إن ابني من أهلي كان ذلك طلبا لنجاة ولده، لأن اللَّه- تعالى- قد حكم بإنجاء أهله فحمله لا يتغير، فلا فرق بين شفاعة نوح في أهله في ابنه وعدمها، فلذلك قوبل بهذا الكلام الّذي يصعب موقعه، فقال:
إن نوحا- عليه السلام- بكى من هذا الكلام دهرا.
قال القاضي عياض: فإن قلت: فإذا قررت عصمتهم من هذا، وأنه لا يجوز عليهم شيء من ذلك، فما معنى إذا وعد اللَّه لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم على ذلك إن فعله وتحذيره منه، كقوله- تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ (2) ] ، قوله- تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [ (3) ] ، وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ [ (4) ] ، وقوله- تعالى: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [ (5) ] ، وقوله- تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ (6) ] ، وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [ (7) ] ، وقوله- تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [ (8) ] ، وقوله تعالى: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [ (9) ] .
__________
[ (1) ] هود: 46.
[ (2) ] الزمر: 65.
[ (3) ] يونس: 106.
[ (4) ] الإسراء: 75.
[ (5) ] الحاقة: 45.
[ (6) ] الأنعام: 116.
[ (7) ] الشورى: 24.
[ (8) ] المائدة: 67.
[ (9) ] الأحزاب: 1.

(11/205)


فاعلم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يصح ولا يجوز عليه أن لا يبلغ، وأن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك، ولا يتقول على اللَّه ما لا يجب، أو يفترى عليه، أو يضل، أو يختم على قلبه، أو يطيع الكافرين.
لكن يسر أمره بالمكاشفة والبيان في البلاغ للمخالفين، فإن إبلاغه لم يكن بهذه السبيل، وكان ما بلغ وطيب نفسه، وقوى قلبه، بقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ (1) ] ، كما قال لموسى وهارون عليهما- السلام: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [ (2) ] ، لتشتد بصائرهم في الإبلاغ وإظهار دين اللَّه، ويذهب عنهم خوف العدو المضعف للنفس.
وأما قوله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [ (3) ] ، وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ [ (4) ] ، فمعناه: أن هذا جزاء من فعل هذا، وجزاؤك لو كنت ممن يفعله، وهو لا يفعله.
وكذلك قوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [ (5) ] ، فالمراد غيره كما قال- تعالى: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [ (6) ] ، وقوله- تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [ (7) ] ، وقوله- تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ (8) ] ، وما أشبهه، فالمراد غيره، وإن هذه حال من أشرك، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يجوز عليه ذلك. وقوله- تعالى: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [ (9) ] ، فليس فيه أنه أطاعهم، واللَّه- تعالى- ينهاه عما يشاء ويأمره بما يشاء، كما قال
__________
[ (1) ] المائدة: 67.
[ (2) ] طه: 46.
[ (3) ] الحاقة: 44.
[ (4) ] الإسراء: 75.
[ (5) ] الأنعام: 116.
[ (6) ] آل عمران: 149.
[ (7) ] الشورى: 24.
[ (8) ] الزمر: 65.
[ (9) ] الأحزاب: 1.

(11/206)


- تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [ (1) ] ، وما كان طردهم، وما كان من الظالمين.
قال: وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة، فللناس فيه خلاف، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل باللَّه وصفاته والتشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء- عليهم السلام- بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق نور المعارف ونفحات الطاف، السعادة، ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبّئ واصطفى ممن عرف بكفر وإشراك قبل هذا.
ومستند هذا الباب النقل، وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله، وأنا أقول: إن قريشا قد رمت نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بكل ما افترته وغير كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها، واختلقته بما نص اللَّه- تعالى- عليه أو نقلته إليه الرواة، ولم نجد في شيء من ذلك تعيير الواحد منهم برفضه آلهته، وتقريعه بذمة ترك ما كان قد جاء معهم عليه، ولو كان لكانوا لذلك مبادرين، وبتلونه في معبوده محتجين، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم، وما كان يعبد آباؤهم من قبل، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه، وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عنه تحويل القبلة، وقالوا: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [ (2) ] كما حكاه اللَّه- تعالى- عنهم.
وقد استدل القاضي القشيري على تنزيهم عن هذا بقوله- تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [ (3) ] ، وقوله- تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [ (4) ] ، إلى قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [ (5) ] ، قال:
__________
[ (1) ] الأنعام: 52.
[ (2) ] البقرة: 142.
[ (3) ] الأحزاب: 7.
[ (4) ] آل عمران: 81.
[ (5) ] آل عمران: 81.

(11/207)


فأظهره اللَّه في الميثاق، وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه ثم يأخذ ميثاق النبيين بالإيمان به ونصره قبل مولده بدهور ويجوز عليه الشرك أو غيره من الذنوب، هذا ما لا يجوزه إلا ملحد، هذا معنى كلامه.
وكيف يكون ذلك؟ وقد أتاه جبريل- عليه السّلام- وشق قلبه صغيرا، واستخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله وملأه حكمة وإيمانا كما تظاهرت به أخبار المبدإ.
قال كاتبه: يكون نبيا وآدم بين الماء والطين، ثم يجوز عليه شيء من النقائص التي نزه اللَّه عنها أنبياءه، هذا ما لا يقوله جاهل ومعاند.
قال القاضي: ولا يشتبه عليك بقول إبراهيم- عليه السّلام- في الكواكب والقمر والشمس: هذا ربي فإنه قد قيل: كان هذا في سن الطفولية وابتداء النظر والاستدلال، وقبل لزوم التكليف.
وذهب معظم الحذاق من العلماء والمفسرين إلى أنه إنما قال ذلك مبكتا لقومه ومستدلا عليهم، وقيل: معناه الاستفهام الوارد مورد الإنكار، والمراد:
أفهذا ربي؟ قال الزجاج قوله: هذا ربي أي على قولكم: أين شركائي؟ أي عندكم، ويدل على أنه لم يعبد شيئا من ذلك، ولا أشرك باللَّه قط طرفة عين.
قول اللَّه- تعالى عنه: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ [ (1) ] ، ثم قال: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ [ (2) ] ، ثم قال- تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [ (3) ] ، وقوله- تعالى: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [ (4) ] ، أي من الشرك، وقوله- تعالى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [ (5) ] ، فان قلت: فما معنى قوله:
لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، قيل: إنه إن لم يؤيدني
__________
[ (1) ] الشعراء: 70.
[ (2) ] الشعراء: 75.
[ (3) ] الشعراء: 75- 77.
[ (4) ] الصافات: 84.
[ (5) ] إبراهيم: 35.

(11/208)


بمعونته أكن مثلكم في ضلالكم وعبادتكم، على معنى الإشفاق والحذر، وإلا فهو معصوم في الأزل من الضلال.
وقال أبو محمد بن حزم: وأما قوله: إذ رأى الشمس والقمر، فقال:
هذا ربى، فقد قال قوم: إن هذا كان محققا أول خروجه من الغار، وهذه خرافة موضوعة ظاهرة الافتعال ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حدّ التمييز والكلام بمثل هذا، ولم ير قط ضوء شمس بنهار، ولا ضوء قمر بالليل، وقد أكذب اللَّه- تعالى- هذا الظن بقوله الصادق: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [ (1) ] ، فمحال أن يكون من آتاه رشده من قبل يدخل في عقله أن الكواكب والقمر أو الشمس ربه، من أجل أنها أكبر قرصا من القمر، هذا ما لا يظنه إلا مقلد سخيف.
والصحيح من ذلك أنه- عليه السلام- إنما قال ذلك موبخا لقومه، كما قال ذلك لهم في الكبير من الأصنام، ولا فرق، لأنهم كانوا على دين الصالحين يعبدون الكواكب، ويصورون الأوثان على صورها، وأسمائها في هياكلهم، ويعدون لها الأعياد، ويذبحون لها الذبائح، ويقربون لها القرابين والدخن، ويقولون: إنها تعقل، وتدبر، وتضر، وتنفع، ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة، وقد وبخهم الخليل- عليه السّلام- على ذلك وسخر منهم، وجعل يريهم تعظيم الشمس لكبر جرمها، كما قال- تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [ (2) ] ، فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم هذه الأجرام المسخرة الجمادية، وبين لهم أنها مدبرة تنتقل في الأماكن، ومعاذ اللَّه أن يكون الخليل أشرك قط برب أو شك في أن الفلك بما فيه مخلق، وبرهان قولنا هذا أن اللَّه تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكرنا ولا عنفه على ذلك، فصح أن هذا بخلاف ما وقع لآدم- عليه السّلام، وأنه وافق مراد اللَّه- تعالى- فيما قال من ذلك، وبما فعل، يعني إبراهيم- عليه السّلام.
__________
[ (1) ] الأنبياء: 51.
[ (2) ] المطففين: 34.

(11/209)


وقال الطوفي [في قوله تعالى] : وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [ (1) ] ، هذا يدل على أن قوله [تعالى] :
وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ (2) ] ، أراد به طمأنينة العيان، لأن اللَّه- تعالى- أخبر أنه أراه الملكوت ليوقن، وإحياء الموتى من قبيل الملكوت العيني: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي [ (3) ] ، حاصلها أنه استدلال بحركات الكواكب وأفولها على عدم إلهيتها وربوبيتها وذلك بناء على مقدمات:
الأولى: إثبات الأعراض:
وهي ما لا يقوم بنفسه فيفتقر إلى موضوع يقوم به كالحركة والسكون.
والألوان وهي الاجتماع والافتراض وغير ذلك من الأعراض وإثباتها شهادة بالحس.
الثانية: أن الأعراض مغايرة للجواهر: بدليل أن الجوهر الواحد تتعاقب عليه الأضداد من الأعراض كالحركة والسكون، والسواد والبياض، وذاته في الحالين واحدة، فالجوهر الباقي غير العرض الفاني.
الثالثة: أن الأعراض لا تنفك عن الجواهر: إذ لو انفكت عنها، لزم قيام العرض بذاته، وأنه محال.
الرابعة: أن الأعراض حادثة، وهذا لأنها تتعاقب على الجواهر وجودا وعدما مسبوقا بعضها ببعض، والحدوث من لوازم المسبوقية، والملزوم موجود قطعا، فاللازم كذلك.
الخامسة: أن ما لا ينفك عن الحادث أو لا ينفك عنه الحادث يجب أن يكون حديثا، إذ لو كان قديما مع أنه لم يفارق الحادث لزم تقدمه على الحادث، وذلك يوجب انفكاكه عن الحادث فيما قبل وجود الحادث، وذلك يستلزم أنه انفك عن الحادث على تقدير أنه لم ينفك عنه، وأنه محال، ولأن زيدا وعمرا لو ولدا في ساعة واحدة، ثم استمرا إلى تسعين سنة من مولدهما استحال أن يكون عمر
__________
[ (1) ] الأنعام: 75.
[ (2) ] البقرة: 261.
[ (3) ] الأنعام: 76.

(11/210)


أحدهما مائة دون الآخر، وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبتت حدوث الجواهر، لعدم انفكاكها عن الأعراض الحادثة.
وينتظم البرهان هكذا: الجواهر لا تفارق الحوادث، وكل ما لا يفارق الحوادث حادث.
فالجوهر حادث، والعالم إما جواهر وإما أعراض، وقد ثبت حدوثها فالعالم المؤلف منهما بأسره حادث.
والحادث: إما أن يكون الموجد له هو، وهو محال أو غيره، فهو إما حادث فيلزم الدور أو التسلسل أو قديم، وهو المطلوب كما سبق تقريره، فهذه الطريقة العامة في إثبات حدوث العالم وقدم الصانع، فهي مستفادة من إبراهيم- عليه السلام- في مقامه هذا النظري، ولقد أوتى رشده من قبل، ومتكلمو الإسلام تلاميذه في هذه الطريقة، وهي أيسر الطرق وأحسنها، والرشد الإبراهيمي عليها ظاهر، ونور برهانها ساطع باهر، وحاجه قومه هذه المحاجة إنما تقومت بإبراهيم وقومه، لأنها مفاعلة تستدعى أكثر من فريق واحد، ففيها أدل دليل على الحجاج والجدال في طلب الحق في أصول الدين وفروعه، اقتداء بإبراهيم- عليه السلام.
قال القاضي عياض- رحمه اللَّه: فإن قلت: فما معنى قوله- تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [ (1) ] ، ثم قال- تعالى- بعد عن الرسل: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها؟ فلا يشكل عليك لفظة العود، وأنها تقتضي أنهم إنما يعودون إلى ما كانوا فيه من ملتهم، فقد تأتى هذه اللفظة في كلام العرب لغير ما ليس له ابتداء بمعنى الصيرورة، كما جاء في حديث الجهنميين عادوا حمما، ولم يكونوا قبل كذلك ومثله قول الشاعر:
فعادا بعد أبوالا
__________
[ (1) ] إبراهيم: 13.

(11/211)


وما كانا قبل كذلك، وقال الأستاذ أثير الدين أبو حيان في قوله- تعالى:
لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [ (1) ] ، عاد لها استعمالان:
أحدهما: أن تكون بمعنى [تعود] ، قال:
تعود فيكم جزر الجزور ماحنا ... ويرفعن بالأسياف منكسرات.
والثاني: بمعنى رجع إلى ما كان عليه فعلى الأول لا إشكال في قوله:
(أَوْ لَتَعُودُنَّ) فعلا مسندا إلى شعيب وأتباعه، ولا يدل على أن شعيبا كان في ملتهم.
وعلى المعنى الثاني: يشكل، لأن شعيبا لم يكن في ملتهم قط، لكن أتباعه كانوا فيها.
وأجيب عن هذا بوجوه:
أحدها: أن يراد بعود شعيب إلى الملة حال سكوته عنهم قبل أن يبعث، لا حالة الضلال، فإنه كان يخفى دينه إلى أن أوحى اللَّه- تعالى- إليه.
الثاني: أن يكون من باب تغليب حكم الجماعة على الواحد، لما عطفوا أتباعه على ضميره في الإخراج، استحبوا عليه حكمهم في العود، وإن كان شعيب بريئا مما كان عليه قبل الإيمان.
الثالث: أن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل التلبيس على العامة والإيهام أنه كان منهم.
وقال الطوفي: قول شعيب: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها [ (2) ] ، لما ما كان منشؤه في قوم كفار انعقد له سبب موافقتهم، فتجوز به عن ملابسة ملتهم، فسمى إعراضه عنها بهداية اللَّه- عز وجل- إياه نجاة، ودخوله فيها لو قدر عودا إليها.
__________
[ (1) ] الأعراف: 88.
[ (2) ] الأعراف: 89.

(11/212)


قال القاضي عياض: فإذا قلت: فما معنى قوله- تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [ (1) ] ؟ فليس هو في الضلال الّذي هو الكفر، قيل: ضالا عن النبوة فهداك إليها، قاله الطبري، وقيل: ووجدك بين أهل الضلال، فعصمك من ذلك وهداك للإيمان وإلى إرشادهم، ونحوه عن السدي وغير واحد، وقيل:
ضالا عن شريعتك، أي لا تعرفها، فهداك إليها، والضلال هاهنا التحير ولهذا، كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يخلوا بغار حراء في طلب ما يتوجه إلى ربه وينشرح به، حتى هداه اللَّه- تعالى- إلى الإسلام، قال معناه القشيري، وقيل: لا تعرف الحق فهداك إليه، وهذا مثل قوله- تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[ (2) ] ، قاله على بن عيس.
قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لم يكن له صلّى اللَّه عليه وسلّم ضلالة معصية، وقيل: إني أبين أمرك بالبراهين، وقيل: وجدك ضالا بين مكة والمدينة فهداك إلى المدينة، وقيل: وجدك فهدى بك ضالا، وعن جعفر بن محمد: ووجدك ضالا عن محبتي لك في الأزل، أي لا تعرفها، فمننت عليك بمعرفتي.
وقرأ الحسن بن علي: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [ (3) ] ، أي اهتدى، وقال: ابن عطاء ووجدك ضالا، أي محبا لمعرفتي، والضال المحب، كما قال- تعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [ (4) ] ، أي محبتك القديمة، ولم يريدوا هاهنا إذ لو قالوا ذلك في نبي اللَّه لكفروا.
ومثله عند هذا قوله- تعالى: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (5) ] ، أي محبة بينة، وقال الجنيد: ووجدك متحيرا في بيان ما أنزل إليك فهداك، لبيان
__________
[ (1) ] الضحى: 7.
[ (2) ] النساء: 103.
[ (3) ] الضحى: 7.
[ (4) ] يوسف: 95.
[ (5) ] يوسف: 30.

(11/213)


قوله- تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [ (1) ] ، وقيل: وجدك لم يعرفك أحد بالنّبوّة حتى أظهرك، فهدى بك السعداء ولا أعلم أحدا من المفسرين قال فيها: ضالا عن الإيمان وكذلك في قصة موسى- عليه السلام قوله تعالى: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [ (2) ] ، أي من المخطئين الفاعلين شيئا بغير قصد، قاله ابن عرفة.
قال الأزهري: معناه من الناسبين، وقد قيل في قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [ (3) ] ، أي ناسيا، كما قال- تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [ (4) ] ، وقال عطية وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [ (5) ] ، أي على غير طريق هذا الدين الّذي بعثت به، ولم يكن صلّى اللَّه عليه وسلّم في ضلال الكفار ولا في غفلتهم، لأنه لم يشرك قط، وإنما كان مستهديا ربه- عز وجل- موحدا والسائل عن الطريق المتحير يقع عليه في اللغة اسم ضال وقال الطوفي: وقيل: لما نشأ بين قوم كفار نعقد له سبب الضلال، فلولا أن أنقذه اللَّه- تعالى- من ملتهم بهداه وبوحيه لضل، فسمى انعقاد سبب الضلال ضلالا على المجاز، كما يقال: وجدت فلانا غريقا فأنقذته، أو قتيلا بين أعدائه فأحييته ونحوه إذا انعقد له سبب ذلك.
وفي هذه الآية عشرين قولا، هذا أقربها إلى التحقيق وإليه يرجع قوله ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [ (6) ] .
قال القاضي عياض: فإن قلت: ما معنى قوله- تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [ (7) ] ، فالجواب أن السمرقندي قال: معناه ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الايمان، قال أبو بكر
__________
[ (1) ] النحل 44.
[ (2) ] الشعراء: 20.
[ (3) ] الضحى: 7.
[ (4) ] البقرة: 282.
[ (5) ] الضحى: 7.
[ (6) ] الشورى: 52.
[ (7) ] الشورى: 52.

(11/214)


القاضي نحوه قال: ولا الإيمان الّذي هو الفرائض والأحكام، قال: فكان قبل مؤمنا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فزاد بالتكليف إيمانا.
وكذلك الحديث الّذي يرويه عثمان بن أبي شيبة بسنده، عن جابر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يشهد مع المشركين مشاهدهم فسمع مليكن خلفه، أحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى تقوم خلفه، فقال الآخر: كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام، فلم يشهدهم بعد، فهذا حديث أنكره أحمد بن حنبل، وقال: هنا موضوع أو شيبة بالموضوع.
وقال الدارقطنيّ: إن عثمان وهم في إسناده والحديث بالجملة منكر، غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه، والمعروف عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند أهل العلم من
قوله: بغضت إلى الأصنام
وقوله- في الحديث الآخر حين كلمه عمه وآله في حضور بعض أعيادهم وعزموا عليه فيه بعد كراهته لذلك، فخرج معهم ورجع مرعوبا- فقال: كلما دنوت عليها من صم تمثل لي شخص أبيض طويل يصيح بى وراءك لا تمسه فما شهد بعد لهم عيدا.
وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم باللات والعزى إذا لقيه بالشام في سفره مع عمه أبي طالب وهو صبي، ورأى فيه علامات النبوة، فأخبره بذلك، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تسألنى بهما فو اللَّه ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرا: فباللَّه إلا ما أخبرتنى عما اسألك عنه، فقال: سل ما بدا لك،
وكذلك المعروف من سيرته صلّى اللَّه عليه وسلّم وتوفيق اللَّه- تعالى- له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج، وكان يقف هو بعرفة، لأنه كان موقف إبراهيم- عليه السلام.
قال الطوفي في قوله- تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، مع
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين:
وأنه حين ولد خر ساجدا مشيرا بإصبعه إلى السماء، وأنه لم يزل صلّى اللَّه عليه وسلّم كارها الأصنام مبغضا لها قبل النبوة، ولم يحلف بها، ولا أكل مما ذبح لها.
وإجماع الناس على أن نبيا من الأنبياء لم يكفر باللَّه وخلا من الإيمان به طرفه عين، فالواجب تأويل الآية على ما يزيل عنها هذا المحذور، مثل أن

(11/215)


المراد ما ما كنت تدري ما الكتاب. ولا كيفية ماهية الإيمان وحقيقته، ولا يلزم من كونه مؤمنا معرفة ذلك، بدليل أن أكثر الناس هم كذلك، أو ما كنت تدري ما الكتاب ولا الدعاء إلى الإيمان، إذ كيفية دعاء الناس إلى الإيمان، إنما تعلم بالوحي، فقبل الوحي من أين تعلم؟ ولا يلزم من كون الإنسان مؤمنا في نفسه أن يدرى كيف يدعو إلى ما يدعو غيره لجواز أن يتعبد اللَّه- تعالى- كل إنسان بأمر غير ما تعبد به الآخر، اختص النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بخواص تعبد لم تكن لغيره.
قال القاضي عياض: قد بان مما قدمناه عقود الأنبياء في التوحيد والإيمان والوحي، وعصمتهم في ذلك- على ما بيناه- فأما ما عدا هذا الباب من عقود قلوبهم، فجماعها أنها مملوءة علما ويقينا على الجملة وإنما احتوت من المعرفة بأمور الدين والدنيا ما لا شيء فوقه، ومن طالع الأخبار واعتنى بالحديث وتأمل ما قلناه، وجده إلا أن أحوالهم في هذه المعارف تختلف، فأما ما تعلق منها بأمر الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء- عليهم السلام- العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه، ولا وصم عليهم فيه إذ هممهم متعلقة بالآخرة وأسبابها وأمر الشريعة وقوانينها، وأمور الدنيا تضادهم بخلاف غير هم الذين: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [ (1) ] ، كما سنبين- إن شاء اللَّه تعالى- ولكنه لا يقال إنهم لا يعلمون شيئا من أمر الدنيا، فإن ذلك يؤدى إلى الغفلة والبله، وهم المنزهون عنه، بل قد أرسلوا إلى أهل الدنيا، وقلدوا سياستهم وهدايتهم والنظر في مصالح دينهم ودنياهم، وهذا لا يكون مع هدم العلم بأمور الدنيا بالكلية، وأحوال الأنبياء وسيرتهم في هذا الباب معلومة، ومعرفتهم بذلك كله مشهورة، وإن كان هذا العقد مما يتعلق بالدين، فلا يصح من النبي إلا العلم، ولا يجوز عليه جهله جملة لأنه لا يخلو أن يكون حصل عنده ذلك عن وحي من اللَّه- تعالى- فهو ما لا يصح الشك منه على ما قدمناه، فكيف الجهل؟ بل حصل له العلم اليقين أو يكون فعل ذلك باجتهاده، فلما لم ينزل عليه فيه شيء على القول بتجويز الاجتهاد منه في ذلك على قول المحققين، وعلى مقتضى حديث
__________
[ (1) ] الروم: 7.

(11/216)


أم سلمه إني انما أقتضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه، وخرّجه الثقات، وكقصة أسرى بدر، والإذن للمتخلفين- على رأى بعضهم- فلا يكون أيضا ما يعتقده مما يثمره اجتهاده إلا حقا، وصحيحا، هذا هو الحق الّذي لا يلتفت إلى خلاف من خالف فيه، لا على القول بتصويب المجتهدين الّذي هو الحق، والصواب عندنا لا على القول الآخر بأن الحق في طرف واحد، لعصمة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الخطأ في الاجتهاد في الشرعيات، ولأن القول في تخطئة المجتهدين، إنما هو استقراء الشرع ونظر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واجتهاده إنما هو فيما لم ينزل عليه فيه شيء، ولم يشرع له قبل هذا فيما عقد عليه قلبه فأما ما لم يعقد عليه قلبه، من أمر النوازل الشرعية، فلقد كان لا يعلم منها أولا إلا ما علمه اللَّه شيئا، حتى استقر علم جملتها عنده، إما بوحي من اللَّه- تعالى- وإذن أن يشرع في ذلك ويحكم بما أراه.
وقد كان ينتظر الوحي في كثير منها، ولكنه لم يمت حتى اسقر علم جملتها عنده صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتقررت معارفها لديه على التحقيق، ورفع الشك والريب، وانتفاء الجهل، وبالجملة فلا يصح منه الجهل بشيء من تفاصيل الشرع الّذي أمر بالدعوة إليه، إذ لا تصح دعوته إلى ما لا يعلمه.
قال جامعه ومؤلفه: قد اختلف في اجتهاد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما لا نص عنده فيه، فاحتج من أجاز ذلك بقوله- تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [ (1) ] ، وقد اختلفت عبارات المفسرين في معناها.
فقال الكرماني: بما أراك اللَّه، بما علمك وعرفك في الحجة، وهو من الرأى الّذي هو الاعتقاد، لأن الرأى بمعنى العلم يستدعى ثلاثة مفاعيل، قال الرازيّ: وهذه الآية تدل على أنه- صلوات اللَّه تعالى عليه- ما كان يحكم إلا بالوحي والنص.
وقال الزمخشريّ: بما أراك اللَّه، بما عرفك وأوحى به إليك، وعن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لا يقل أحدكم قضيت بما أرانى اللَّه، لأن
__________
[ (1) ] النساء: 105.

(11/217)


اللَّه لم يجعل ذلك إلا لنبيه، ولكن ليجتهد رأيه، لأن الرأي من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مصيبا، لأن اللَّه كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكليف.
وقال الماتريدي: قوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، أي موافقا لما هو الحق في فعل كل أحد، وهو التكليف دون الأعمال، أو بما له عاقبة حميدة، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل، أو مبينا بما هو الحق للَّه على العباد، وبما لبعضهم على بعض، ليعملوا بذلك، أو بيانا لأمر هو حق كائن ثابت، وهو البعث والقيامة، ليتزودوا له، أو مما يحمد عليه فاعله، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل، بما أراك اللَّه وألهمك.
وفيه دليل على جواز اجتهاده كالنص، لأن اللَّه- تعالى- أخبر أنه يريه ذلك، ولا يريه غير الصواب.
وقال ابن حيان: معنى قوله: بِما أَراكَ اللَّهُ، يريد به بما أراك اللَّه- تعالى- من القرآن وعلمك إياه، وقال الأثير أبو حيان: ومعنى: بِما أَراكَ اللَّهُ بما أعلمك من الوحي، وقيل: بالنظر فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم محروس في اجتهاده معصوم الأقوال والأفعال، وقيل: بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة، وصفاء الباطن، واحتج من أجاز ذلك أيضا بأن منصب الاجتهاد في الأحكام منصب كمال، فلا ينبغي أن يفوته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقد دل على وقوعه منه
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو قلت: نعم، لوجبت،
وقوله:
لو كنت سمعت شعرها ما قتلت أباها،
في قضيتين مشهورتين:
أما القضية الأولى:
فخرّج مسلم [ (1) ] من حديث يزيد بن هارون عن الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال:
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 108- 110، كتاب الحج، باب (73) فرض الحج مرة في العمر، حديث رقم (1337) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: (يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول اللَّه فسكت، حق قالها ثلاثا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو قلت: نعم لو جبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا

(11/218)


__________
[ () ] أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)
هذا الرجل السائل هو الأقرع بن حابس كذا جاء مبينا في غير هذه الرواية واختلف الأصوليون في أن الأمر هل يقتضي التكرار، والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه، والثاني يقتضيه، والثالث يتوقف فيما زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضائه ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف، لأنه سأل فقال: أكل عام؟ ولو كان مطلقة يقتضي التكرار أو عدمه لم يسأل، وقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا حاجة إلى السؤال، بل مطلقة محمول على كذا، وقد يجيب الآخرون عنه بأنه سأل استظهارا واحتياطا،
وقوله: «ذروني ما تركتكم»
ظاهر في أنه يقتضي التكرار.
قال الماوردي: ويحتمل أنه إنما احتمل التكرار عنده من وجه آخر، لأن الحج في اللغة قصد فيه تكرار فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق لا من مطلق الأمر، قال: وقد تعلق بما ذكرناه عن أهل اللغة هاهنا من قال بإيجاب العمرة، وقال: لما كان قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يقتضي تكرار قصد البيت بمحكم اللغة والاشتقاق، وقد أجمعوا على أن الحج لا يجب إلا مرة كانت العودة الأخرى إلى البيت تقتضي كونها عمرة، لأنه لا يجب قصده لغير حج وعمرة بأصل الشرع.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو قلت نعم لوجبت
ففيه دليل للمذهب الصحيح أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان له أن يجتهد في الأحكام، ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي، وقيل: يشترط، وهذا القائل يجيب عن هذا الحديث بأنه لعله أوحى إليه ذلك، واللَّه أعلم.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: (ذروني ما تركتكم)
دليل على أن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع، وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه استطعتم
هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويدخل فيه ما لا يحصي من الأحكام كالصلاة بأنواعها فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه جماعة من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم أو نحوه، وأمكنه البعض فعل الممكن وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا منحصرة وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك. -

(11/219)


خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا أيها الناس قد فرض اللَّه الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت- حتى قالها ثلاثا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لو قلت نعم لو جبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه.
وخرّجه النسائي [ (1) ] من حديث أبي هاشم المغيرة بن سلمة المخزومي ثقة بصري، قال: أنبأنا الربيع بن مسلم- إلى آخره بمعناه، وقال فيه: ولو وجبت ما قمتم بها، وقال في آخره فاجتنبوه مكان فدعوه.
__________
[ () ] وهذا الحديث موافق لقول اللَّه- تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وأما قوله- تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، ففيه مذهبان: أحدهما أنها منسوخة بقوله- تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، والثاني- وهو الصحيح أو الصواب- وبه جزم المحققون أنها ليست منسوخة، بل قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مفسرة ومبينة للمراد بها، قالوا:
وحق تقاته هو امتثال أمره واجتناب نهيه ولم بأمر- سبحانه وتعالى- إلا بالمستطاع قال اللَّه- تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
وقال- تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، واللَّه أعلم. وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
(وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ،
فهو على إطلاقه فإن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الإكراه، أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك، فهذا ليس منهيا عنه في هذه الحال واللَّه أعلم، وأجمعت الأمة على أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة بأصل الشرع وقد تجب زيارة بالنذر، وكذا إذا أراد دخول الحرم لحاجة لا تكرر كزيارة وتجارة- على مذهب من أوجب الإحرام لذلك- بحج أو عمرة.
[ (1) ] (سنن النسائي) : 5/ 116- 117، كتاب مناسك الحج، باب (1) وجوب الحج، حديث رقم (2618) .
قال الحافظ السندي: قوله: (في كل عام) أي هو مفروض على كل إنسان مكلف في كل سنة، أو هو مفروض عليه مرة واحدة
(لو قلت نعم لوجبت إلخ) ،
أي لوجب الحج كل عام وهذا بظاهره يقتضي أن أمر افتراض الحج كل عام كان مفوضا إليه، حتى لو قال: نعم، لحصل وليس بمستبعد، إذ يجوز أن يأمر اللَّه- تعالى- بالإطلاق، ويفوض أمر التقييد إلى-

(11/220)


وخرّج النسائيّ [ (1) ] من حديث سعيد بن أبي مريم، قال: أنبأنا موسى بن سلمة، قال: حدثني عبد الجليل بن حميد عن ابن شهاب، عن أبي سنان الدؤلي، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قام فقال: إن اللَّه قد كتب عليكم الحج، فقال الأقرع بن حابس التميمي: كل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت، ثم قال: لو قلت: نعم لوجبت، ثم إذا لا تسمعون، ولا تطيعون، ولكنه حجة واحدة.
وخرّجه قاسم بن أصبغ من حديث محمد بن كثير، أنبأنا سليمان، عن الزهري عن سنان بن أبي سنان، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه كتب عليكم الحج، فقيل: يا رسول اللَّه كل عام؟ قال: لا. ولو قلتها لوجبت الحج مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع [ (2) ] .
__________
[ () ] الّذي فوض إليه البيان، فهو إن أراد أن يبقيه على الإطلاق يبقيه عليه، وإن أراد أن يقيده بكل عام يقيده به، ثم فيه إشارة إلى كراهة السؤال في النصوص المطلقة والتفتيش عن قيودها، بل ينبغي العمل بإطلاقها، حتى يظهر فيها قيد وقد جاء القرآن موافقا لهذه الكراهة
(ذروني)
أي اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات،
(ما تركتكم)
عن التكليف في القيود فيها، وليس المراد لا تطلبوا مني العلم ما دام لا أبين بنفسي
(واختلافهم)
عطف على كثرة السؤال، إذ الاختلاف وإن قل يؤدى إلى الهلاك، ويحتمل أنه عطف على سؤالهم فهو إخبار عمن تقدم بأنه كثر اختلافهم في الواقع فأداهم إلى الهلاك، وهو لا ينافي أن القليل من الاختلاف مؤد إلى الفساد
(فإذا أمرتكم إلخ)
يريد أن الأمر المطلق لا يقتضي دوام الفعل، وإنما يقتضي جنس المأمور به، وأنه طاعة مطلوبة ينبغي أن يأتي كل إنسان منه على قدر طاقته وأما النهي فيقتضي دوام الترك، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2619) .
[ (2) ] راجع الحواشي السابقة.

(11/221)


وخرجه أبو داود [ (1) ] من حديث يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سنان، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه الحج في كل سنه أو مرة واحدة؟ قال: بل مرة واحدة، فمن زاد فتطوع، قال أبو داود: وهو أبو سنان الدؤلي، كذا قال عبد الجليل بن حميد وسليمان بن كثير جميعا، عن الزهري، وقال عقيل: عن سنان.
وأما القضية الثانية:
فقال أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر: قتيلة بنت النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أباها يوم بدر صبرا، قال الواقدي: أسلمت قتيلة يوم الفتح، قال ابن عبد البر: كانت شاعرة محسنة، ولما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بدر كتبت إليه في أبيها، وذلك قبل إسلامها [ (2) ] .
يا راكبا إن الأثيل مظنة
الأبيات. فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذلك بكى، حتى اخضلت بالدموع لحيته،
وقال: لو بلغني شعرها هذا قبل أن أقتله لعفوت عنه، ذكر هذا الخبر عن عبد اللَّه بن إدريس في حديثه، وذكره الزبير بن بكار، وقال: فرق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى دمعت عيناه، وقال لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لو كنت سمعت شعرها ما قتلت أباها،
قال الزبير: وسمعت بعض أهل العلم يغمز أبياتها هذه، ويقول: أنها مصنوعة [ (3) ] ، واللَّه- تعالى- اعلم.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 2/ 344- 345، كتاب المناسك، باب (1) فرض الحج، حديث رقم (1721) .
[ (2) ] (الإستيعاب) : 4/ 1904، ترجمة رقم (4070) .
[ (3) ] (الإستيعاب) : 4/ 1905، (سيرة ابن هشام) : 3/ 309.

(11/222)


وأحتج من منع اجتهاده صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله- تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [ (1) ] ، فأخبر- تعالى- أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يحكم إلا بالوحي، قالوا والسنة الواردة عنه كانت توحى إليه.
كما
خرّجه أبو داود [ (2) ] ، من حديث جرير بن عثمان، عن عبد الرحمن ابن أبي عون، عن المقدام بن معديكرب، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه.
ورواه بقية عن الزبيدي، عن مروان بن رؤبة، عن عبد الرحمن بن عوف الجرشي، عن المقدام بن معديكرب، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ألا إني أوتيت الكتاب، وما يعدله، يوشك رجل شبعان على أريكته، فذكره مثله إلى آخره [ (3) ] .
وخرّج أبو داود من حديث أشعث بن شعبة، قال: حدثنا أرطاة بن المنذر قال: سمعت حكيم بن عمير أبا الأحوص يحدث عن العرباض بن سارية، قال:
نزلنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر، فذكر الحديث، وفيه: أمر مناديا أن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة، فاجتمعوا وصلّى بهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم قال:
أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن اللَّه لم يحرم شيئا إلا في القرآن، ألا وإني قد أمرت ووعظت، ونهيت عن أنهما لمثل القرآن أو أكثر، وأن اللَّه لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب لنسائهم، ولا أكل
__________
[ (1) ] النجم: 3- 4.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 5/ 10- 12، كتاب السنة، باب (6) في لزوم السنة، حديث رقم (4604) .
[ (3) ] أخرجه الترمذي في العلم، حديث رقم (2666) ، باب ما ينهى أن يقال عند حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجة في المقدمة، حديث رقم (12) ، وحديث أبي داود أتم من حديثيهما.

(11/223)


ثمارهم إذا أعطوكم الّذي عليهم،
قال أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي قوله:
أتيت الكتاب، ومثله معه، يتحمل وجهين من التأويل:
أحدهما: أنه أوتى من الوحي الباطن غير المتلو، مثل ما أعطى من الظاهر.
والثاني: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوتى الكتاب وحيا يتلى وأوتى من البيان مثله، أي أذن له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخصص ويزيد عليه ويشرح ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالزاهر المتلو من القرآن،
وقوله:
كالظاهر يوشك رجل شبعان على أريكته،
الحديث يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها، مما ليس في القرآن له ذكر.
قالوا: وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: في الرضى والغضب، والجد والمزاح حق،
لما
خرجه الترمذي [ (1) ] من حديث أسامة بن زيد عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قالوا: يا رسول اللَّه إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقا،
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
وخرّج أبو بكر بن أبي شيبة [ (2) ] ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان. عن أبي عبيد بن الأخنس، قال: حدثني الوليد بن عبد اللَّه، عن يوسف بن مالك، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتكلم في الرضى والغضب، فأمسكت فذكرت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأشار بيده إلى فيه، فقال: اكتب فو الّذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق.
خرجه أبو داود قال: أنبأنا مسدد، وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا يحيى ابن سعيد، عن عبيد اللَّه بن الأخنس، عن الوليد بن عبد اللَّه بن أبي معتب، إلى آخره بنحوه،
قالوا: ولأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قادر على يقين الوحي، والاجتهاد لا يفيد،
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 314، كتاب البر والصلة، باب (57) ما جاء في المزاح، حديث رقم (1990) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[ (2) ] (المصنف) : 5/ 314، باب (173) من رخص في كتابه العلم، حديث رقم (26419) .

(11/224)


فجوازه في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم والحالة هذه كالتيمم مع القدرة على الماء، ثم على القول بأن الاجتهاد جائز، هل يقع منه الخطأ فيه أم لا؟ فيه قولان للأصوليين:
أحدهما: لا يقع منه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطأ في اجتهاده من الخطأ مطلقا.
والثاني: نعم بشرط أن لا يقر عليه، واستدل من ذهب إلى هذا بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [ (1) ] ، قالوا: فعوتب صلّى اللَّه عليه وسلّم حيث أذن لهم في التخلف عن الغزو في غير موضع الإذن، وأجيب عن ذلك أن عفا اللَّه عنك افتتاح كلام أعلمه اللَّه- تعالى- عنه به أنه لا حرج عليه فيما فعل من الإذن، وليس هو عفوا عن ذنب، إنما هو أن اللَّه- تعالى- أعلمهم أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم، كما
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: عفا اللَّه لكم عن صدقة الخيل، والرقيق وما وجبتا قط،
ومعناه ترك أن يلزمكم ذلك، قاله أبو حيان، ونقل عن أبي عبد اللَّه بن إبراهيم ابن عرفة نفطويه، أنه قال: ذهب ناس إلى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم معاتب في هذه الآية وحاشاه من ذلك بل كان له أن يفعل، وأن لا يفعل، وقد قال تعالى:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ، لأنه كان له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي، واستأذنه المخلفون في التخلف، واعتذروا فاختار صلّى اللَّه عليه وسلّم أيسر الأمرين تكرما منه وتفضلا، فأبان اللَّه- تعالى- أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا على النفاق الّذي في قلوبهم، وأنهم كاذبون في الطاعة والمشاورة، قاله أبو حيان ووافقه عليه قوم، فقالوا،: ذكر العفو هنا لم يكن عن تقديم ذنب، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العرب أن تخاطب بمثله تعظمه وترفع عن قدره، يقصدون بذلك الدعاء له، فيقولون: أصلح اللَّه الأمير كان كذا وكذا، فعلى هذا صيغته الخبر، ومعناه الدعاء.
وكلام الزمخشريّ في تفسير قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، يجب اطراحه فضلا عن أن يذكر فيرد عليه، واستدلوا أيضا بقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [ (2) ] ، ويتعلق بهذا مسألة التفويض،
__________
[ (1) ] التوبة: 43.
[ (2) ] الأنفال: 67، وتمامها: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

(11/225)


وهي أنه هل يجوز أن يفرض اللَّه- تعالى- إلى نبي حكم الأمة أن يقول:
احكم بينهم باجتهادك، وما حكمت به فهو حق، أو أنت لا تحكم إلا بالحق، فيه قولان: أقربهما الجواز، وهو قول موسى بن عمران من الأصوليين، لأنه مضمون له إصابة الحق، وكل مضمون له إصابة ذلك جاز له الحكم، أو يقال:
هذا التفويض لا محذور فيه، وكل ما كان كذلك كان جائزا واللَّه- تعالى- أعلم.
قال القاضي عياض: وأما ما تعلق بعقده صلّى اللَّه عليه وسلّم من ملكوت السموات والأرض، وخلق اللَّه- تعالى- وتعيين أسمائه- تعالى- وآياته الكبرى، وأمور الآخرة، وأشراط الساعة، وأحوال السعداء والأشقياء، وعلم ما كان ويكون، ما لا يعلمه إلا بوحي، فعلى ما تقدم من أنه معصوم فيه لا يأخذه فيما أعلم منه شك ولا ريب، بل هو في غاية اليقين، لكنه لا يشترط له العلم بجميع تفاصيل ذلك، وان كان عنده من علم ذلك ما ليس عند البشر،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لا أعلم إلا ما علمني ربي،
ولقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولا خطر على قلب بشر، ولا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين،
وقول موسى للخضر- عليهما السلام: لا هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [ (1) ] ،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: أسألك اللَّهمّ بأسمائك الحسنى ما علمت منها، وما لم أعلم،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك،
وقد قال اللَّه- تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [ (2) ] ، قال زيد بن أسلم وغيره: حتى ينتهى العلم إلى اللَّه- تعالى، وهذا ما لا خفاء فيه، إذا معلوماته- تعالى- لا يحاط بها، ولا منتهى لها، هذا حكم عقد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوحيد، والشرع، والمعارف، والأمور الدينية.
قال: واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشيطان وكفايته منه لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس ثم ذكر
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول اللَّه؟
__________
[ (1) ] الكهف: 66.
[ (2) ] يوسف: 76.

(11/226)


قال: وإياي ولكن اللَّه أعاننى عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير،
قال: فإذا كان هذا حكم شيطانه وقرينه المسلط على بني آدم، فكيف بمن بعد عن سنته ولم يلزم شخصه، ولا قدر على الدنوّ منه؟
وقد جاءت الآثار بتصدي الشياطين له في غير موطن، رغبة في إخفاء نوره وإبانة نفسه، وإدخال شغل عليه، إذ يئسوا من أعوانه، فانقلبوا خاسرين، كتعرضه له في الصلاة، فأخذه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأسره.
ففي الصحاح قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إن الشيطان عرض لي، قال عبد الرزاق: في صورة هرّ فشدّ عليّ يقطع على الصلاة، فأمكننى اللَّه منه فذعته، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية، حتى تصبحوا تنظرون إليه، فذكرت قول: أخى سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً [ (1) ] الآية، فرده اللَّه خاسئا.
وفي حديث أبي الدرداء رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن عدو اللَّه إبليس جاءني بشهاب من نار، ليجعله في وجهي، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة، وذكر تعوذه باللَّه منه، ولعنه له، ثم أردت آخذه وذكر نحوه، وقال:
لأصبحنه موثقا يتلاعب به ولدان أهل المدينة.
وكذلك في حديث الأسماء وطلب العفريت له بشلغه، فعلمه جبريل ما يتعوذ به منه، ذكره في (الموطأ) [ (2) ] ، ولما لم يقدر على أذاه بمباشرته تثبت بالتوسط الى عداه كقضيته مع قريش في الائتمار بقتل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتصوره في صورة الشيخ النجدي، ومرة أخرى يوم بدر في صورة سراقة بن مالك، وهو قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [ (3) ] الآية، ومرة ينذر بشأنه
__________
[ (1) ] ص: 35، وتمامها: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
[ (2) ] ورواه مسلم: في المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، حديث رقم (542) .
والنسائي: 3/ 13 في السهو، باب لعن إبليس والتعوذ منه في الصلاة.
[ (3) ] الأنفال: 48، وتمامها: وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.

(11/227)


عند بيعة العقبة، وكل هذا قد كفاه اللَّه أمره، وعصمه ضره، وشره، وقد
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن عيسى- عليه السّلام- كفى من لمسه، فجاء ليطعن بيده في خاصرته حين ولد فطعن في الحجاب،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: حين لد في مرضه وقيل له: خشينا أن يكون بك ذات الجنب، فقال إنها من الشيطان، ولم يكن اللَّه ليسلطه على.
فإن قيل: فما معنى قوله- تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [ (1) ] الآية، فقد قال بعض المفسرين: إنها راجعة إلى قوله:
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [ (2) ] ، ثم قال: وإما ينزغنك أي يستخفنك غضب يحملك على ترك الإعراض عنهم، فاستعذ باللَّه فقيل: النزغ هنا الفساد كما قال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [ (3) ] ، وقيل: ينزغنك يغرينك، ويحركنك، والنزغ أدنى الوسوسة، فأمره اللَّه- تعالى- أنه متى تحرك عليه عدوه أو رام الشيطان من إغرائه به، وخواطر أدنى وساوسه، ما لم يجعل له سبيل اليه أن يستعيذ عنه فيكفى أمره، ويكون سبب تمام عصمته، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له، ولم يجعل له قدرة عليه، وقد قيل في هذه الآية غير هذا، وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان في صورة الملك، ويلبس عليه، لا في أول الرسالة، ولا بعدها، والاعتماد في ذلك دليل المعجزة، بل لا يشك النبي أن ما يأتيه من اللَّه الملك ورسوله حقيقة، إما بعلم ضروري يخلقه اللَّه له، أو ببرهان يظهره لديه، لتتم كلمة ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته، فإنه قيل: فما معنى قوله- تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ (4) ] . الآية، فاعلم أن للناس في هذه الآية أقاويل منها السهل، والغث، والسمين، والغث، وأولى ما يقال فيها ما عليه الجمهور من المفسرين أن التمني هاهنا التلاوة وإلقاء الشيطان فيها اشتغاله بخواطر وأذكار من أمور الدنيا للتالي، حتى يدخل عليه
__________
[ (1) ] الأعراف: 200، وتمامها إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
[ (2) ] الأعراف: 199.
[ (3) ] يوسف: 100.
[ (4) ] الحج: 52، وتمامها: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

(11/228)


الوهم، والنسيان، أو يدخل عليه غير ذلك على إيهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله، وينسخه ويكشف لبسه، ويحكم آياته.
وقال أبو محمد بن حزم: الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها، وقد يكون ذلك الشيء الّذي يلقى الشيطان في أمنية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خوفا من آدمي عدو له، أو تمنى إسلام مشرك قريب له لم يأذن اللَّه بإسلامه، أو ما أشبه هذا اللَّه ذلك في نفسه المقدسة ويطهرها منه.
قال: وأما الحديث الّذي ذكر فيه وأنهن الغرانيق العلى وكذب مختلف موضوع بلا شك، ولم يصح قط، بطريق النقل، فلا معنى للاشتغال به، قال القاضي عياض: وقد حكى السمرقندي إنكار قول من قال: سلط الشيطان على ملك سليمان وغلبه عليه، وإن مثل هذا لا يصح، وقال مكي في قصة أيوب- عليه السلام- وقوله: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ (1) ] ، لا يجوز لأحد أن يقال: أن الشيطان هو الّذي أمرضه، وألقى الضر في بدنه، ولا يكون ذلك إلا بفعل اللَّه- تعالى، وأمره ليبتليهم، ويثبتهم، وقال مكي:
وقيل: إن الّذي أصابه الشيطان ما وسوس به إلى أهله، فإن قلت: فما معنى قوله تعالى عن يوشع: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [ (2) ] ، وقوله عن يوسف:
فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [ (3) ] ،
وقول نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم حين نام عن الصلاة يوم الوادي: إن هذا واد به شيطان،
وقول موسى- عليه السلام- في وكزته:
هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [ (4) ] ، فاعلم أن هذا الكلام قد يرد في جميع هذا على مورد مستمر في كلام العرب في وصفهم كل قبيح من شخص، أو فعل بالشيطان، أو فعله، كما قال- تعالى: كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [ (5) ] .
__________
[ (1) ] ص: 41.
[ (2) ] الكهف: 63، وتمامها: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً.
[ (3) ] يوسف: 42، وتمامها: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
[ (4) ] القصص: 15 وتمامها: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.
[ (5) ] الصافات: 65.

(11/229)


وأيضا فإن قول يوشع- عليه السّلام- لا يلزمنا الجواب عنه، إذ لم تثبت له في ذلك الوقت نبوة مع موسى- عليه السّلام- قال اللَّه- تعالى:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [ (1) ] ، المروي أنه إنما نبئ بعد موت موسى، وقيل:
قبيل موته، وقول موسى كان قبل نبوته بدليل القرآن الكريم.
__________
[ (1) ] الكهف: 60، وتمامها: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً.

(11/230)


بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم وبه التوفيق ومنه الإعانة [ (1) ]

وأما ذهاب الصورة المصورة بوضع يد المصطفى عليها صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث بشر بن بكر ... قال: حدثنا الأوزاعي عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: دخل علي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا مستترة بقرام [ (3) ] فيه صورة فهتكه، ثم قال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق اللَّه.
قال الأوزاعي: قالت عائشة: أتاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببرنس فيه تمثال عقاب، فوضع عليه يده فأذهبه اللَّه [ (4) ] .

وأما إعلامه بأن اللَّه تعالى يعطيه إذا سأل ما لم تجر به العادة
فخرّج أبو نعيم من حديث ابن لهيعة، عن بكير بن عبد اللَّه الأشج، عن الحسن بن على، أن ابن أبي رافع حدثه: أن أبا رافع حدثه: أنه صاحب الذراع، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ناولني الذراع، فناولته، ثم قال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا نبي اللَّه وللشاة غير
__________
[ (1) ] كذا بالأصل.
[ (2) ] (سنن البيهقي) : 7/ 267: كتاب الصداق، باب المدعو يرى في الموضع الّذي يدعى فيه صورا منصوبة ذات أرواح فلا يدخل.
[ (3) ] القرام ثوب من صوف ملون، فيه ألوان، وهو صفيق يتخذ سترا، والجمع قرم (لسان العرب) : 12/ 474.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 81، باب ما جاء في التمثال الّذي وضع عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده فأذهبه اللَّه- عز وجل.

(11/231)


ذراعين؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو ناولتني ما زلت تناولني، قال أبو نعيم: رواه عمرو بن الحارث، عن بكير [ (1) ] .
وله من حديث أبي جعفر الرازيّ، عن داود بن أبي هند عن شرحبيل، عن أبي رافع [قال] : دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد جعلنا شاة في قدر، فقال: يا أبا رافع ناولني الذراع، فناولته، فانتهشها، ثم قال: ناولني الذراع، فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه إنما يكون للشاة ذراعان، فقال: لو ناولتني لم تزل تناولني، حتى أسكت، ثم قام يصلى وما مس ماء [ (2) ] ، قال: ودخل على يوما آخر وعندي لحم بارد فأكل منه، ثم قام فصلى، ولم يتوضأ.
قال أبو نعيم: رواه عن شرحبيل بن سعدة، عن أبي رافع في أكل اللحم، وأنه صلى ولم يتوضأ جماعة منهم أبو خالد الدالاني، وسماك بن حرب، وزيد ابن أبي أنيسة، وسليمان بن أبي داود.
وخرّج أيضا من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ، عن فائد عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن أبي رافع- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
قال: أمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أصلي له شاة فصليتها له، ثم جئته بها، فقال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: كم لها من ذراع؟ فقال: [لو] سكتّ لوجدتها ما دعوت بها [ (3) ] .
ومن حديث حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن أبي رافع، عن عمته سلمى، عن أبي رافع قال: دخل علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعندنا شاة مطبوخة، فقال: يا أبا رافع ناولني الذراع فناولته، فأكلها، ثم قال: ناولني الذراع، فناولته، فأكلها، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه وهل للشاة إلا ذراعان؟ فقال: لو سكت لأعطيتني أذرعا ما دعوتها [ (4) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] سبق تخريجه.
[ (3) ] سبق تخريجه.
[ (4) ] سبق تخريجه.

(11/232)


وخرّج من حديث أبان بن يزيد عن شهر بن حوشب، عن أبي عبيد قال:
طبخت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قدرا، فقال: ناولني الذراع، وكان يعجبه الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه! وكم للشاة من ذراع؟ فقال: والّذي نفسي بيده لو سكتّ، لأعطيتني ما دعوت بها.
وخرج من حديث أبي مسلم الكوفي، قال: حدثنا أبو عاصم عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن شاة طبخت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه إنما للشاة ذراعان، فقال: أما إنك لو التمستها لوجدتها [ (1) ] .
ومن حديث طالوت بن عباد قال: حدثنا سعيد بن راشد: حدثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يعجبه في الشاة إلا الكتف، فذبح ذات يوم شاة، فقال: يا غلام ائتني بالكتف، فأتاه بها ثم قال له أيضا، فأتاه بها ثم قال له أيضا فأتاه بها، ثم قال: يا رسول اللَّه، إنما ذبحت شاة وقد أتيتك بثلاثة أكتاف، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو سكت لجئت بها ما دعوت بها [ (2) ] .
ومن حديث ابن كاسب قال: حدثنا ابن أبي حازم عن العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دعا بذراع شاة فأكلها، ثم دعا بذراع أخرى فأكلها، ثم دعا بذراع أخرى، فقالوا: يا رسول اللَّه إنما للشاة ذراعان، فقال:
والّذي نفسي بيده لو سكتم لوجدتموها [ (3) ] .
وخرّج من حديث معاوية بن يحيى الصدفي أبي روح عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أسامة بن زيد: أن امرأة أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بشاة مصلية، فقال لي: يا أسيم ناولني الذراع، فأصلحت الذراع فناولته فأكلها، ثم قال لي:
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] سبق تخريجه.
[ (3) ] سبق تخريجه.

(11/233)


يا أسيم ناولني ذراعها، فقلت: يا رسول اللَّه، إنك قلت: ناولني الذراع فناولتكها، ثم قلت: ناولني الذراع، فناولتكها، ثم قلت: ناولني الذراع، وإنما للشاة ذراعان، فقال: إنك لو لم تراجعني ثم أهويت إليها، ما زلت تجد فيها ذراعا ما قلت لك [ (1) ] .
قال أبو نعيم ووجه الدلالة من هذه الأخبار إعلامه صلّى اللَّه عليه وسلّم فضيلته بأن اللَّه يعطيه، إذا سأله ما لم تجر العادة به تفضيلا له، وتخصيصا، ليكون ذلك آية له في نفسه، ورفعة له في مرتبته، وإبانته في الكرامة عن الخليقة، أن لو التمس صلّى اللَّه عليه وسلّم ذراعا ثالثة من شاة واحدة، لكان اللَّه- عز وجل- يجيبه إلى مسألته، فأما إذا لم يسأل اللَّه- تعالى- فالفضيلة ثابتة، وإن كانت الآية معدومة، لأنها آية عطاء اللَّه- تعالى- نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 437، ذكر الأخبار التي أخرجتها أسلافنا في جملة دلائله صلّى اللَّه عليه وسلّم: قصة أذرع وأكتاف الشاة، عقب الحديث رقم (346) ، (347) .

(11/234)


وأما صدق رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلّم عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها في المنام وصنع اللَّه له في تزويجها به بذهاب ما كان في نفس أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وعنها من عدة مطعم بن عدي بها لابنه
فخرّج البخاري [ (1) ] في كتاب النكاح في باب النظر إلى المرأة قبل التزويج، وخرّج مسلم [ (2) ] في المناقب من حديث حماد بن زيد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي، فأقول: إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه.
وقال البخاري: فقال لي: هذه امرأتك، ولم يقل ثلاث ليال، وخرّجه مسلم [ (3) ] من حديث ابن نمير، حدثنا ابن إدريس، وأبي أسامة، عن هشام بهذا الإسناد.
وخرّجه البخاري في كتاب النكاح [ (4) ] في باب نكاح الأبكار، وفي كتاب التعبير [ (5) ] في باب كشف المرأة في المنام من حديث أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أريتك في المنام مرتين إذا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 225، كتاب النكاح، باب (36) النظر إلى المرأة قبل التزويج، حديث رقم (5126) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 212، كتاب فضائل الصحابة، باب (13) فضل عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم.
[ (3) ] المرجع السابق، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (4) ] (فتح الباري) : 9/ 150، كتاب النكاح، باب (10) نكاح الأبكار، حديث رقم (5078) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : 12/ 494، كتاب التعبير، باب (20) كشف المرأة في المنام، حديث رقم (7011) .

(11/235)


رجل يحملك في سرقة حرير، فيقول: هذه امرأتك فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه.
وخرّجه أيضا في التعبير [ (1) ] من حديث أبي معاوية عن هشام عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أريتك قبل أن أتزوجك مرتين: رأيت الملك يحملك في سرقة من حرير، فقلت له: اكشف فكشف، فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه، ثم أريتك يحملك في سرقة، فقلت:
اكشف فكشف، فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه،
ترجم عليه باب ثياب الحرير في المنام.
وخرّجه في كتاب البعث في باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عائشة من حديث وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لها:
أريتك في المنام مرتين، أرى أنك في سرقة، ويقول: هذه امرأتك، فاكشف عنها فإذا هي أنت، وأقول: إن يك هذا من عند اللَّه يمضه.
وخرّج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة ويحيى، قالا: لما هلكت خديجة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون، فقالت: يا رسول اللَّه ألا تزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكرا، أو إن شئت ثيبا. قال: فمن البكر؟ قالت: بنت أحب خلق اللَّه إليك، عائشة بنت أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك، واتبعتك على ما تقول، قال: فاذهبي فاذكريهما علي،
فدخلت بيت أم رومان [ (3) ] ، فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل اللَّه عليكم من الخير والبركة؟
قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلنى رسول اللَّه أخطب عليه عائشة، قالت:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 494، كتاب التعبير، باب (21) ثياب الحرير في المنام، حديث رقم (7012) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 301- 302، حديث رقم (20241) من حديث السيدة عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها.
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المسند) : «بيت أبي بكر» .

(11/236)


انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقالت: يا أبا بكر، ماذا أدخل اللَّه عليك من الخير والبركة؟
قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول اللَّه أخطب عائشة، قال: وهل تصلح له، إنما هي بنت أخيه، فرجعت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له، فقال: انتظري، وعند ما خرجت خولة، قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي كان قد ذكرها على ابنه، فو اللَّه ما وعد وعدا فأخلفه لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فدخل أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على مطعم بن عدي، وعنده امرأته أم الفتى، فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصب صاحبنا مدخله في دينك الّذي أنت عليه إن تزوج إليك، [قال أبو بكر- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- للمطعم بن عدي: أقول هذه تقول، قال: أنها تقول ذلك] [ (1) ] ، فخرج من عنده وقد أذهب اللَّه ما في نفسه من عدته التي وعده، فرجع، فقال لخولة: ادعى لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعته فزوجها إياه وعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- يومئذ بنت ست سنين، ثم خرجت، فدخلت على سودة بنت زمعة، فقالت: ماذا أدخل اللَّه عليك من الخير والبركة؟ قالت:
وما ذاك؟ قالت: أرسلنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخطبك عليه، قالت: وددت أدخلي على أبي فاذكرى له ذلك، وكان شيخا كبيرا قد أدركته السن وتخلف عن الحج.
فدخلت عليه فحيته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ فقال: خولة بنت ابنة حكيم، قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلنى محمد بن عبد اللَّه أخطب عليه سودة، قال: كفؤ كريم، فماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذاك، قال:
ادعها إلى فدعتها، فقال: أي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب أرسل يخطبك، وهو كفؤ كريم. أتحبين أن أزوجك به؟ قالت:
نعم، قال: أدعية لي، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فزوجها إياه، فجاء أخوها عبد اللَّه بن زمعة من الحج، فجعل يحثى التراب في رأسه، فقال: بعد ما أسلم:
لعمرك إني لسفيه يوم أحثى في رأسي التراب أن تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سودة بنت زمعة.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المسند) .

(11/237)


قالت عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج بالسنح، قالت: فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدخل بيتنا، واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء فجاءتني أمي، وأنى لفي أرجوحة [بين عذقين] ترجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة، ولى جميمة [ (1) ] ، ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودنى حتى وقفت عند الباب، وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلسني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك اللَّه لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء، وخرجوا وبني بي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيتنا ما نحرت على جزور، ولا نحرت شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بجفنة، كان يرسل بها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
__________
[ (1) ] خصلة شعر صغيرة.

(11/238)


وأما تعليم اللَّه تعالى له جواب ما يسأله عنه السائلون في مقامه فيه الّذي قام صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة [ (1) ] ، وفي كتاب العلم [ (2) ] في باب الغضب في الموعظة والتعليم، وخرّج مسلم [ (3) ] كلاهما من حديث أبي أسامة عن بريد بن أبي بردة، عن أبي موسى- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: سئل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس: سلوا عما شئتم، فقام رجل فقال: من أبي يا رسول اللَّه؟ قال: أبوك حذافة، فقام آخر، فقال: من أبي يا رسول اللَّه، قال: أبوك سالم مولى شيبة، فلما رأى عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ما في وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] حديث رقم (7291) باب (3) ما يكره من كثرة السؤال، وتكلف ما لا يعنيه.
[ (2) ] حديث رقم (92) .
[ (3) ] حديث رقم (2360) باب (37) توقيره صلّى اللَّه عليه وسلّم وترك إكثار سؤاله، قال الإمام النووي: مقصود أحاديث الباب أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهاهم عن إكثار السؤال، والابتداء بالسؤال عما لا يقع، وكره ذلك لمعان:
منها: أنه ربما كان في الجواب ما يكره السائل ويسوؤه، ولهذا أنزل اللَّه- تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، كما صرح به في الحديث في سبب نزولها.
ومنها: أنه ربما كان سببا لتحريم شيء على المسلمين فيلحقهم به المشقة، وقد بين هذا
بقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته.
ومنها: أنهم ربما أحفوه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمسألة والحفوة المشقة والأذى، فيكون ذلك سببا لهلاكهم.
(مسلم بشرح النووي) .

(11/239)


من الغضب، قال: يا رسول اللَّه إنا نتوب إلى اللَّه، وخرّج مسلم في المناقب من حديث ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب [ (1) ] .
وخرّج البخاريّ [ (2) ] في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من حديث شعيب عن الزهري، ومن حديث عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري، قال:
أخبرني أنس بن مالك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلّم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورا عظاما، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء، فليسأل عنه، فو اللَّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا.
قال أنس: فأكثر الناس البكاء حين سمعوا ذلك من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأكثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقول: سلوني، قال أنس: فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول اللَّه؟ قال: النار، فقام عبد اللَّه بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول اللَّه؟ قال: أبوك حذافة، قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني، قال: فبرك عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على ركبتيه، فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا.
قال: فسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قال عمر ذلك، ثم قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط، وأنا أصلى، فلم أر كاليوم في الخير والشر.
وزاد هشام بعقبه، قال ابن شهاب: أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، قال: قالت أم عبد اللَّه بن حذافة لعبد اللَّه بن حذافة: ما سمعت بابن قط
__________
[ (1) ]
عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم،
حديث رقم (1337) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 329، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (3) ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، حديث رقم (7294) .

(11/240)


أعق منك! أأمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد اللَّه بن حذافة: واللَّه لو أحلقنى بعبد أسود للحقته.
ولم يذكر مسلم في حديثه قوله، فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول اللَّه؟ قال: النار،
ولا ذكر البخاري قوله حين سمعوا ذلك من رسول اللَّه.
وخرّج مسلم من حديث عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، ومن حديث أبي اليمان قال: أخبرنا شعيب كلاهما، عن الزهري، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذا الحديث، وحديث عبيد اللَّه معه غير أن شعيبا قال: عن الزهري، قال: أخبرنا عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، قال: حدثني رجل من أهل العلم أن أم عبد اللَّه قالت مثل حديث يونس.
وذكره البخاري [ (1) ] أيضا في كتاب الصلاة في باب وقت الظهر بعد الزوال [وقال جابر: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي بالهاجرة] [ (2) ] من حديث أبي اليمان، قال:
أخبرني شعيب عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك، وذكر الحديث بنحو ما تقدم، وقال فيه: فذكر أن فيها أمورا عظاما، وقال: فقام عبد اللَّه بن حذافة السهمي، وقال: وبمحمد نبيا، ولم يذكر فيه سؤال الرجل له، والّذي نفسي بيده ولا ذكر الزيادة التي زادها مسلم بعقبة.
وذكره البخاري [ (3) ] أيضا في كتاب العلم في باب من برك على ركبتيه عند العالم والمحدث، ولفظه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج، فقام عبد اللَّه بن حذافة، فقال: من أبي، فقال: أبوك حذافة، ثم أكثر أن يقول: سلوني،
فبرك عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على ركبتيه فقال: رضينا باللَّه ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم نبيا، فسكت.
__________
[ (1) ] حديث رقم (540) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (صحيح البخاري) .
[ (3) ] حديث رقم (93) .

(11/241)


وخرّج مسلم [ (1) ] في المناقب من حديث النضر بن شميل، قال شعبة: حدثنا موسى بن أنس، عن أنس بن مالك قال: بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أصحابه شيء، فخطب، فقال: عرضت عليّ الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، قال: فما أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أشد منه، قال: فغطوا رءوسهم وله خنين، قال: فقام عمر، فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا.
قال: فقام ذلك الرجل، فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان، قال: فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [ (2) ] .
وخرّجه أيضا من حديث روح بن عبادة [ (3) ] قال: حدثنا شعبة، قال:
أخبرني موسى بن أنس، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل: يا رسول اللَّه من أبي؟ قال: أبوك فلان، قال: فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ تمام الآية.
وخرجه البخاري [ (4) ] في التفسير من حديث منذر بن الوليد بن عبد الرحمن ابن الجارود أخبرنا أبي، حدثنا شعبة، عن موسى بن أنس، عن أنس، قال: خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، قال: فغطى أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجوههم ولهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، رواه أبو النضر وروح ابن عبادة، عن شعبة، ذكره في تفسير سورة المائدة.
__________
[ (1) ] باب (37) توقيرة صلّى اللَّه عليه وسلّم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو ما لا يتعلق به تكليف، حديث رقم (2359) .
[ (2) ] المائدة: 101.
[ (3) ] حديث رقم (135) من الباب السابق.
[ (4) ] تفسير سورة المائدة، باب (12) لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، حديث رقم (4621) .

(11/242)


وخرّج في كتاب الاعتصام [ (1) ] من حديث روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني موسى بن أنس، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل: يا رسول اللَّه من أبي، قال: أبوك فلان، قال: ونزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية.
وخرّج مسلم [ (2) ] في المناقب من حديث عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن الناس سألوا نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحفوه بالمسألة، فحرج ذات يوم، فصعد المنبر، فقال: سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم، فلما سمع ذلك القوم، أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر.
قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا، فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكى، فأنشأ رجل من المسجد كان يلاحى، فيدعى لغير أبيه، قال: يا نبي اللَّه، من أبى؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا عائذا باللَّه من سوء الفتن.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لم أر كاليوم قط في الخير والشر، إني صورت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط.
وخرّجه أيضا من حديث خالد يعني ابن الحارث [ (3) ] ، ومحمد بن بشار حدثنا محمد بن أبي عدي كلاهما عن هشام.
وفي حديث معتمر قال: سمعت أبي، قالا جميعا: حدثنا قتادة عن أنس بهذه القصة.
وخرّج البخاري [ (4) ] في كتاب الدعاء في باب التعوذ من الفتن من حديث هشام، عن قتادة، عن أنس قال: سألوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحفوه بالمسألة،
__________
[ (1) ] باب (3) ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ حديث رقم (7295) .
[ (2) ] باب (37) توقيره صلّى اللَّه عليه وسلّم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، ألا يتعلق به بتكليف، حديث رقم (137) .
[ (3) ] الحديث الّذي يلي حديث رقم (137) ، بدون رقم.

(11/243)


فغضب، فصعد المنبر فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم، فجعلت انظر يمينا وشمالا، فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكى، فإذا رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي اللَّه من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر، فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، نعوذ باللَّه من سوء الفتن.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط صورت لي الجنة والنار، حتى رأيتهما وراء الحائط.
وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
وفي حديث سعيد حدثنا قتادة أن أنسا حدثهم عن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذا، وقال:
عائذا باللَّه من سوء الفتن، أو قال: أعوذ باللَّه من سوء الفتن.
ومن حديث معتمر عن أبيه قال قتادة: أن أنسا حدثهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذا، وقال: عائذا باللَّه من شر الفتن.
وذكره البخاري [ (1) ] أيضا في كتاب الصلاة في باب رفع البصر إلى الإمام من حديث محمد بن سنان حدثنا فليح، حدثنا هلال بن علي عن أنس بن مالك، قال: صلى لنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم رقى، فأشار بيده قبل قبلة المسجد، ثم قال: لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين في قبلة هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ثلاثا، وذكره في كتاب الرقاق [ (2) ] .
قال أبو نعيم فأظهر صلّى اللَّه عليه وسلّم نعمة اللَّه- تعالى- لديه في تعليمه إياه جواب سؤال السائلين لو سألوه في مقامه ذلك، فلو سئل لورد جواب مسألتهم حسب ما سبق من اللَّه له الوعد به.
__________
[ () ] (4) حديث رقم (6362) . وقولة: إذا لاحى بمهملة خفيفة أي خاصم، وفي الحديث: أن غضب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يمنع من حكمه، فإنه لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا، وفيه فهم عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وفضل عمله. (فتح الباري) .
[ (1) ] حديث رقم (749) .
[ (2) ] باب (18) القصد والمداومة على العمل، حديث رقم (6468) .

(11/244)


فالفضيلة بموعود اللَّه له تأتيه، وإن لم يسأل، فزاده اللَّه بها بصيرة وثقة بربه- تعالى، وازداد المؤمنون إيمانا، وثباتا على ما عهدوا من صدق دعوته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال ابن عبد البر: وأما قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم إني رأيت الجنة، ورأيت النار، فالآثار في رؤيته لهما كثيرة، وقد رآهما مرارا على ما جاءت به الآثار عنه، وعند اللَّه علم كيفية رؤيته لهما، فممكن أن يمثلا له فينظر إليهما بعيني وجهه كما مثل له بيت المقدس حين كذبه الكفار في الإسراء فنظر إليه، وجعل يخبرهم عنه، وممكن أن يكون ذلك برؤية القلب، والظاهر هو أنه رأى الجنة والنار رؤية عين، وتناول من الجنة عنقودا، ويؤيد ذلك قوله فيه: لم أر كاليوم منظرا قط، وحق النظر إذا أطلق، والرؤية أن لا يتبعوا بهما رؤية العين لا يدل بدليل على أن الجنة والنار مخلوقتان.

وأما إشارته إلى أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى أنه لم ينس بعد ذلك شيئا حفظه منه
فخرّج البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة، وقال النسائي في سياقته عن سفيان قال: حدثنا الزهري، قال: سمعت أبا هريرة يقول، قال مسلم في سياقته عن سفيان، عن الزهري، عن الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة يقول:، وقال البخاري في سياقته عن سفيان حدثنا الزهري.
أنه سمعه من الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة، قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واللَّه الموعد أنني كنت امرأ مسكينا ألزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال النسائي: أصحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال مسلم: أخدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني، وكان المسلمون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم،
وقال: من يبسط رداءه، حتى أقضى مقالتي فلا ينسى شيئا سمعه منى، فبسطت بردة

(11/245)


كانت على،
قال النسائي: حتى قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقالته، ثم قبضتها إلى.
وقال مسلم: فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه، ثم ضممته إلي.
قال البخاري والنسائي: فو الّذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا، ولم يقل مسلم:
فو الّذي بعثه بالحق. قال: فما نسيت شيئا سمعته منه.
ذكر النسائي [ (1) ] هذا الحديث في كتاب العلم في باب حفظ العلم، وذكره مسلم [ (2) ] في كتاب المناقب.
وذكره البخاري [ (3) ] في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة في باب الحجة على من قال إنّ أحكام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ظاهرة، وما كان بعضهم يغيب عن مشاهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمور الإسلام.
وخرّجه مسلم [ (4) ] أيضا من حديث معن، عن مالك، ومن حديث عبد الرزاق، قال: أخبرنا معتمر- كلاهما- عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ولم يذكر في حديثه الرواية عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من بسط ثوبه إلى آخره.
وخرجه البخاري [ (5) ] في كتاب الحرث والمزارعة في باب ما جاء في الغرس، من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: يقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث واللَّه الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثله كان يشغلهم الصفق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون.
__________
[ (1) ] لعله في الكبرى.
[ (2) ] باب (35) من فضائل أبي هريرة الدوسيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (2492) .
[ (3) ] حديث رقم (7354) .
[ (4) ] الحديث الّذي يلي حديث رقم (2492) ، بدون رقم.
[ (5) ] حديث رقم (2350) .

(11/246)


وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما: لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمعه إلى صدره، فينسى من مقالتي شيئا أبدا، فبسطت نمرة ليس على ثوب غيرها حتى قضى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فو الّذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومى هذا، واللَّه لولا آتيان في كتاب اللَّه ما حدثتكم شيئا أبدا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله: الرحيم.
وخرّج البخاري [ (1) ] والنسائي من حديث مالك عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب اللَّه ما حدثت حديثا، ثم يتلون إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.
وقال النسائي: ويقول على أثر الآيتين إن إخواننا من الأنصار ... الحديث، وقال فيه: فيحضر ما لا يحضرون، ذكره البخاري في كتاب العلم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 285، كتاب العلم، باب (42) حفظ العلم، حديث رقم (118) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 285، كتاب العلم، باب (42) حفظ العلم، حديث رقم (118) قال الحافظ في (الفتح) : وقد روى البخاري في (التاريخ) ، والحاكم في (المستدرك) من حديث طلحة بن عبيد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- شاهدا لحديث أبى هريرة هذا، ولفظه:
لا أشك أنه سمع من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما لا تسمع، وذلك أنه كان مسكينا لا شيء له، ضيفا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
واخرج البخاري في (التاريخ) ، والبيهقي في المدخل، من حديث محمد بن عمارة بن حزم، أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلا، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه، ثم يحدثهم بالحديث كذلك حتى فعل مرارا، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس.

(11/247)


وخرّج مسلم بعد حديث سفيان بن عيينة المفتتح به، وبعد ما ذكر من حديث مالك، ومعمر عن الزهري حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟ جاء، فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسمعني، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضى سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يسرد الحديث كسردكم [ (1) ] .
قال ابن شهاب: وقال ابن المسيب: إن أبا هريرة قال: يقولون: أن أبا هريرة قد أكثر واللَّه الموعد، ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون بمثل أحاديثه، وسأحدثكم عن ذلك إن إخوانه من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضهم، وإن إخوانه من المهاجرين، كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا،
ولقد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما: أيكم يبسط ثوبه، فيأخذ منى حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لن ينسى شيئا سمعه، فبسطت بردة على حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به، ولولا آيتان أنزلهما اللَّه- عز وجل- في كتابه ما حدثت شيئا أبدا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى [ (2) ] إلى آخر الآيتين [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 86، كتاب فضائل الصحابة، باب (35) من فضائل أبي هريرة الدوسيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حديث رقم (2492) .
[ (2) ] البقرة: 159- 160، وتمامها: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 286- 287، كتاب فضائل الصحابة باب (35) من فضائل أبي هريرة الدوسيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (2492) .

(11/248)


وخرّج في المناقب [ (1) ] بعد ما تقدم له من الروايات في هذا الباب من حديث أبي اليمان عن شعيب، عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمثل حديث أبي هريرة؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا.
وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة أعي حين ينسون،
وقد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث يحدثه:
أنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضى مقالتي هذه، ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، الحديث الّذي يلي رقم (2493) ، بدون رقم، وآخر «يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنحو حديثهم قوله: كنت أخدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني» أي ألازمه وأقنع بقوتي، ولا أجمع مالا لذخيرة ولا لغيرها، ولا أزيد على قوتي.
والمراد من حيث حصل القوت من الوجوه المباحة، وليس هو من الخدمة بالأجرة، وقوله: «يقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث واللَّه الموعد» معناه فيحاسبنى إن تعمدت كذبا، ويحاسب من ظن بي السوء وقوله: «يشغلهم، الصفق بالأسواق» هو بفتح الياء من يشغلهم، وحكى ضمها، وهو غريب. والصفق: هو كناية عن التبايع، وكانوا يصفقون بالأيدي من المتبايعين بعضها على بعض. والسوق مؤنثة، ويذكر وسميت به لقيام الناس فيها على سوقهم.
وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بسط ثوب أبي هريرة. قوله: «كنت أسبح فقام قبل أن أقضى سبحتي» معنى أسبح: أصلى نافلة، وهي السبحة بضم السين، قبل:
المراد هنا صلاة الضحى، وقوله: «لم يكن يسرد الحديث كسردكم» أي يكثره ويتابعه واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم (شرح النووي) .

(11/249)


أقول، فبسطت نمرة على، حتى إذا قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلك من شيء [ (1) ] .
وأخرجه النسائي أيضا في كتاب العلم في باب حفظ العلم من حديث شعيب عن الزهري.
وخرج البخاري في- كتاب العلم- من حديث ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قلت: يا رسول اللَّه، إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه، قال: ابسط رداءك، فبسطته فغرف بيده، قال: هلم، فضممته، فما نسيت شيئا بعد [ (2) ] .
ومن حديث ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال:
حفظت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعاءين، فأما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر: فلو بثثته قطع هذا الحلقوم [ (3) ] .
وخرج في كتاب العمل في الصلاة- في باب تفكر الرجل في الشيء في الصلاة، من حديث ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري قال: قال أبو هريرة:
يقول الناس أكثر أبو هريرة، فلقيت رجلا، فقلت: بم قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 361، كتاب البيوع وقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275] ، وقوله تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ [البقرة: 282] ، باب (1) ما جاء في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة: 10- 11] ، وقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء:
29] ، حديث رقم (2047) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 286، كتاب العلم، باب (42) حفظ العلم، حديث رقم (119) .
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (120) .

(11/250)


البارحة في العتمة؟ فقال: لا أدري، فقلت: ألم تشهدها؟ قال: بلى، قلت:
لكن أنا أدرى، فقرأ بسورة كذا وكذا [ (1) ] .
وخرّج الحاكم من حديث إسماعيل بن أمية أن محمد بن قيس بن مخرمة، حدثه أن رجلا جاء زيد بن ثابت، فسأله عن شيء، فقال: عليك بأبي هريرة، فإنه بينا أنا، وأبو هريرة، وفلان في المسجد ذات يوم ندعو اللَّه، ونذكر ربنا، خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى جلس إلينا، فقال: عودوا إلى الّذي كنتم فيه، فقال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يؤمن على دعائنا، قال: ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللَّهمّ إني أسألك مثل الّذي سألك صاحباي هذان، أسألك علما لا ينسى، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: آمين، فقلنا: يا رسول اللَّه، ونحن نسألك علما لا ينسى، فقال: سبقكما بها الدوسيّ،
قال الحاكم: صحيح الإسناد [ (2) ] .
ومن حديث زيد الأحوص عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أبو هريرة وعاء العلم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 115- 116، كتاب العمل في الصلاة، باب (18) يفكر الرجل الشيء في الصلاة، وقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: إني لأجهز جيشي وانا في الصلاة، حديث رقم (1223) ، وفيه الإشارة الى سبب إكثاره، وأن كان المهاجرين والأنصار كان يشغلهم المعاش، وهذا يدل على أنه يقول هذا المقالة أما ما يريد أن يحدث به، مما يدل على صحة إكثاره، وعلى السبب في ذلك، وعلى سبب استمراره، وعلى التحديث، قوله: «البارحة» أي أقرب ليلة مضت، وفي القصة إشارة إلى سبب إكثار أبي هريرة، وشدة إتقانه وضبطه، بخلاف غيره، وفي هذه القصة إشارة إلى سبب إكثار أبي هريرة، وشاهد الترجمة دلالة الحديث على عدم ضبط ذلك الرجل، كأنه اشتغل بغير أمر الصلاة حتى نسي السورة التي قرئت، أو دلالته على ضبط أبي هريرة، كأنه شغل فكرة بأفعال الصلاة حتى ضبطها وأتقنها كذا وذكر الكرماني هذين الاحتمالين، وبالأول جزم غيره، واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) .
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 582، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (6158) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : حماد بن شعيب ضعيف.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6159) وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .

(11/251)


وقال وكيع عن الأعمش عن أبي صالح قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وقال هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن سعيد بن الحسن، قال: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثر حديثا عنه من أبي هريرة.
وقال جرير عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي حذيفة، قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال ابن عمر: أعيذك باللَّه أن تكون في شك مما يجيء به، ولكنه اجترأ وجبنا [ (2) ] .
وقال الربيع عن الشافعيّ: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6161) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6165) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .

(11/252)


وأما حفظ عثمان بن أبي العاص [ (1) ] القرآن رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بعد نسيانه بضرب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في صدره
فخرّج النسائي من حديث الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب، عن زيد بن الحكم، عن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت: يا رسول اللَّه إني لأنسى القرآن، قال:
فضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في صدري، ثم قال: اخرج يا شيطان من صدر عثمان، فما نسيت شيئا بعد أن حفظته.

وأما هداية اللَّه تعالى أم أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما إلى الإسلام بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما كان ابنها يدعوها إلى ذلك فتأبى
فخرّج مسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي كثير، قال: حدثني أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما، فأسمعتني في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما أكره، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أبكى، قلت: يا رسول اللَّه إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتنى فيك ما أكره، فادع اللَّه أن يهدي أم أبي
__________
[ (1) ] هو عثمان بن أبي العاص الثقفي الطائفي أبو عبد اللَّه، واستعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الطائف، وأقره أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال ابن عبد البر: هو الّذي افتتح توج وإصطخر في زمن عثمان، قال: وهو الّذي أمسك ثقيفا عن الردة، قال لهم: يا معشر ثقيف! كنتم آخر الناس إسلاما، فلا تكونوا أولهم ارتدادا. (تهذيب التهذيب) : 7/ 117- 118، ترجمة رقم (270) مختصرا.

(11/253)


هريرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اهد أم أبي هريرة،
فخرجت مستبشر بدعوة نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما جئت وصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشفة قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت، ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله: قال:
فرجعت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: أبشر قد استجاب اللَّه دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد اللَّه، وقال: خيرا.
قال: قلت: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يحببني أنا وأمى إلى عبادة المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ حبب عبيدك هذا يعنى أبا هريرة، وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين، فما خلف مؤمن يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني [ (1) ] ، وخرّجه البخاري في الأدب المفرد.

وأما سلامة منديل مر على وجهه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم تحرقه النار لما طرح فيها
فخرّج أبو نعيم [ (2) ] من حديث محمد بن رميح، قال: حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة، حدثنا أبو معمر عباد بن عبد الصمد، قال: أتينا أنس بن مالك نسلم عليه، فقال: يا جارية، هلمي المائدة نتغدى، فأتته بها فتغدينا، ثم قال: يا جارية هلمي المنديل، فأتته بمنديل وسخ، فقال: يا جارية أسجرى التنور، فأوقدته، فأمر بالمنديل، فطرح فيه، فخرج أبيض كأنه اللبن.
فقلت: يا أبا حمزة! ما هذا؟ قال: هذا منديل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمسح به وجهه، وإذا اتسخ صنعنا به هكذا، لأن النار لا تأكل شيئا مر على وجوه الأنبياء- عليهم السلام.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النوري) : 16/ 284- 285، كتاب فضائل الصحابة، باب (35) من فضائل أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (2491) .
[ (2) ] لم أجده.

(11/254)


وأما نهضة بعير جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في مسيره بعد تخلفه وإعيائه عند ما نخسة الرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو ضربه
فخرّج البخاري [ (1) ] في كتاب الشروط من حديث أبي نعيم.
وخرّج مسلم [ (2) ] في كتاب البيوع من حديث عبد اللَّه بن نمير كلاهما، عن زكريا، عن عامر، قال: حدثني جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 35/ 393، كتاب الشروط، باب (4) إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، حديث رقم (2718)
قوله: «ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك»
كذا وقع هنا،
وقد رواه على بن عبد العزيز عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: «أتراني وإنما ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك حمالك» أخرجه أبو نعيم في (المستخرج) عن الطبراني عنه، وكذا أخرجه مسلم من طريق عبد اللَّه بن نمير عن زكريا، ولكن قال في آخره: «فهو لك»
وعليها اقتصر صاحب (العمدة) ،
ووقع لأحمد عن يحى القطان عن زكريا بلفظ قال: أضننت حين ماكستك، اذهب بجملك؟ خذ جملك وثمنه فهما لك،
وقوله: «ماكستك»
هو من المماكسة أي المناقصة في الثمن وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع كما تقدم قال ابن الجوزي: هذا من أحسن التكرم، لأن من باع شيئا هو في الغالب محتاج لثمنه، فإذا تعوض من الثمن بقي في قلبه من المبيع أسف على فراقه، كما قيل:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... نفائس من رب بهن ضنين
فإذا رد عليه المبيع مع ثمنه، ذهب الهم عنه وثبت فرحه، وقضيت حاجته، فكيف مع ما انضم إلى ذلك من الزيادة في الثمن؟! (فتح الباري) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 33- 34، كتاب المساقاة، باب (21) بيع البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (715) ، قال الإمام النوري: وحديث جابر احتج به أحمد ومن وافقه في جواز بيع الدابة، ويشترط البائع لنفسه ركوبها، وقال مالك: يجوز ذلك إذا كانت مسافة الركوب قريبة، وحمل هذا الحديث على هذا، وقال الشافعيّ وأبو حنيفة وآخرون: لا يجوز ذلك، سواء قلت المسافة أو كثرت، ولا ينعقد البيع، واحتجوا بالحديث السابق في النهى عن-

(11/255)


عنه، أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعاني، وضربه، فصار يسير لم يسر مثله، قال: بعنيه بأوقية، قال:
لا، ثم قال: بعينه بأوقية، فبعته بأوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم قال رجعت، فأرسل في أثرى. فقال:
أتراني ماكستك لأخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك،
هكذا سياقة مسلم.
ولم يذكر فيه البخاري، فأراد أن يسيبه، وقال في آخره ثم انصرفت، فأرسل على أثرى،
فقال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك.
وخرّجه النسائي من حديث يزيد، قال: أخبرنا زكريا عن عامر، عن جابر أنه كان يسير مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على جمل فأعيا ... الحديث، وقال فيه:
أتبيعه بأوقية، والأوقية أربعون درهما، وقال في آخره: إنما ماكستك لأخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهما لك، ذكره في الجهاد.
وخرج بعد حديثه من حديث عيسى بن يونس، عن زكريا، عن عامر، قال: حدثني جابر بن عبد اللَّه- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- بمثل حديث ابن نمير، وترجم البخاري على حديثه: باب اشتراء البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى، وقال بعد هذا الحديث: وقال شعبة: عن مغيرة، عن عامر، عن جابر: أفقرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ظهره إلى المدينة، وقال إسحاق: عن جرير، عن مغيرة: على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة.
وقال عطاء وغيره: ولك ظهره إلى المدينة، وقال محمد بن المنكدر [ (1) ] عن جابر شرط ظهره إلى المدينة، وقال زيد بن أسلم عن جابر: ولك ظهره حتى ترجع.
وقال أبو الزبير عن جابر: أفقرناك ظهره إلى المدينة، وقال الأعمش:
عن سالم، عن جابر، تبلغ عليه إلى أهلك، قال أبو عبد اللَّه: الاشتراء أكثر
__________
[ () ] بيع الثنيا، وبالحديث الآخر في النهى عن بيع وشرط، وأجابوا عن حديث جابر بأنها قضية عين تتطرق إليها الاحتمالات: قالوا: ولأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أراد أن يعطيه الثمن، ولم يرد حقيقة البيع، قالوا: ويحتمل أن الشرط كان سابقا، فلم يؤثر، ثم تبرع صلّى اللَّه عليه وسلّم بإركابه. (شرح النووي) .
[ (1) ] زيادة للسياق من (البخاري) .

(11/256)


وأصح عندي. وقال عبد اللَّه، وابن إسحاق عن وهب، عن جابر: واشتراه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأوقية، وتابعه زيد بن أسلم، عن جابر، وقال ابن جريح: عن عطاء وغيره، عن جابر: وأخذته بأربعة دنانير، وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة.
ولم يبين الثمن مغيرة عن الشعبي، عن جابر وابن المنكدر، وأبو الزبير، عن جابر، وقال الأعمش: عن سالم، عن جابر، وفيه ذهب.
وقال أبو إسحاق: عن سالم، عن جابر بمائتي درهم، وقال داود بن قيس: عن عبد اللَّه بن مقسم، عن جابر اشتراه بطريق تبوك، أحسبه قال:
بأربعة أواق، وقال أبو نضرة، عن جابر: اشتراه بعشرين دينارا، وقول الشعبي: بأوقية أكثر [ (1) ] .
وخرّج البخاري [ (2) ] في كتاب الجهاد، ومسلم [ (3) ] في البيوع من حديث جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: غزوت مع
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 393- 394 كتاب الشروط، باب (4) إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، باقي روايات وسياقات الحديث رقم (2718) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 149- 150، كتاب الجهاد والسير، باب (113) استئذان الرجل الإمام لقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 62] ، حديث رقم (2967) .
قولة: «باب استئذان الرجل» أي من الرعية «الإمام» أي في الرجوع أو التخلف عن الخروج أو نحو ذلك. قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ قال ابن التين: هذه الآية احتج بها الحسن على أنه ليس لأحد أن يذهب من العسكر حتى يستأذن الأمير، وهذا عند سائر الفقهاء كان خاصا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، كذا قال، والّذي يظهر أن الخصوصية في عموم وجوب الاستئذان، وإلا فلو كان ممن عينه الإمام، فطرأ له ما يقضى التخلف أو الرجوع، فإنه يحتاج إلى الاستئذان.

(11/257)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلاحق بي وتحتى ناضح لي قد أعيا، وقال البخاري: قال:
فتلاحق بى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا على ناضح لنا قد أعيا فلا يكاد يسير، قال: فقال لي:
ما لبعيرك؟ قال: قلت: عليل، وقال البخاري: قال: قلت: عيى، قال:
فتخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فزجره، ودعا له فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير، قال: فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتك، قال:
أفتبيعنه؟ قال: فاستحييت، ولم يكن لنا ناضح غيره، قال: فقلت: نعم، فبعته إياه على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة، قال: فقلت يا رسول اللَّه:
أنى عروس فأستأذنته فأذن لي، فتقدمت الناس إلى المدينة حتى انتهيت، فلقيني
__________
[ () ] قوله في آخر هذا الحديث: «قال المغيرة: هذا في قضائنا حسن لا نرى به بأسا» هذا موصول بالإسناد المذكور إلى المغيرة وهو ابن مقسم الضبيّ أحد فقهاء الكوفة، ومراده بذلك ما وقع من جابر من اشتراط ركوب جمله إلى المدينة، وأغرب الداوديّ فقال: مراده جوازه زيادة الغريم على حقه، أن ذلك ليس خاصا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد تعقبه ابن التين بأن هذه الزيادة لم ترد في الطريق هنا، وهو كما قال.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 34- 36، كتاب المساقاة، باب (21) بيع البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (110) .
قال الإمام النووي: واعلم أن في حديث جابر هذا فوائد كثيرة أحدها: هذه المعجزة الظاهرة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في انبعاث جمل جابر، وإسراعه بعد إعيائه. الثانية: جواز طلب البيع، ممن لم يعرض سلعته للبيع. الثالثة: جواز المماكسة في البيع، وسبق تفسيرها.
والرابعة: سؤال الرجل الكبير أصحابه عن أحوالهم والإشارة عليهم بمصالحهم. الخامسة:
استحباب نكاح البكر. السادسة: استحباب ملاعبة الزوجين. السابعة: فضيلة جابر في أنه ترك حظ نفسه من نكاح البكر، واختار مصلحة أخواته بنكاح ثيب تقوم بمصالحهن. الثامنة:
استحباب الابتداء بالمسجد وصلاة ركعتين فيه عند القدوم من السفر. التاسعة: استحباب الدلالة على الخير. العاشرة: استحباب إرجاح الميزان فيما يدفعه. الحادية عشرة: أن أجرة وزن الثمن على البائع. الثانية عشرة: التبرك بآثار الصالحين لقوله: لا تفارقه زيارة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
الثالثة عشرة: جواز تقدم بعض الجيش الراجعين بإذن الأمير. الرابعة عشرة: جواز الوكالة في أداء الحقوق ونحوها، وفيه غير ذلك مما سبق. واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (شرح النووي) .

(11/258)


خالي، وقال البخاري: حتى أتيت المدينة، فلقيني خالي، فسألني عن البعير، فأخبرته بما صنعت فيه، قال: وقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لي حين استأذنته:
ما تزوجت؟ أبكرا أم ثيبا؟ فقلت له: تزوجت ثيبا، قال: أفلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك.
فقلت: يا رسول اللَّه توفى والدي أو استشهد، ولي أخوات صغار، فكرهت أن أتزوج إليهن مثلهن فلا تؤدبهن، ولا تقوم عليهنّ، فتزوجت ثيبا، لتقوم عليهنّ وتؤدبهن، قال: فلما تقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة غدوت عليه بالبعير، فأعطاني ثمنه، ورده على.
زاد البخاري بعد هذا، قال المغيرة: هذا في قضائنا حسن لا نرى به بأسا ترجم عليه البخاري باب استئذان الرجل الإمام لقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ الآية [ (1) ] ، وذكر القصة في أول كتاب الاستقراض، في باب من اشترى بالدين، وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته [ (2) ] .
__________
[ (1) ] النور: 62، وتمامها: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[ (2) ]
(فتح الباري) : 5/ 68، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب (1) من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه، أو ليس بحضرته، حديث رقم (2385) ، ولفظه: حدثنا محمد بن يوسف- هو البيكندي- أخبرنا جرير عن المغيرة عن الشعبي عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: «غزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كيف ترى بعيرك؟ أتبيعه؟ قلت:
نعم، فبعته إياه، فلما قدم المدينة غدوت إليه بالبعير، فأعطاني ثمنه» .
قولة: «باب من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته» أي فهو جائز، وكأنه يشير إلى ضعف ما
جاء عن ابن عباس مرفوعا «لا أشترى ما ليس عندي ثمنه» وهو حديث أخرجه أبو داود والحاكم من طريق سماك عن عكرمة عنه في أثناء حديث تفرد به شريك عن

(11/259)


وخرّج مسلم [ (1) ] بعد حديث جرير، عن مغيرة حديث جرير، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: خرجنا من مكة إلى المدينة مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وساق الحديث بقصته، وفيه ثم قال: بعنى جملك هذا، قال: قلت: لا بل هو لك. قال: لا بل بعنيه، قال: قلت: لا بل هو لك يا رسول اللَّه، قال: لا بل بعنيه.
قلت: فإن لرجل عليّ أوقية من ذهب فهو لك بها، قال: قد أخذته فبلغ به [ (2) ] إلى المدينة، قال: فلما قدمت المدينة قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لبلال: أعطه أوقية من ذهب، وزده، قال: فأعطاني أوقية من ذهب، وزادني قيراطا.
__________
[ () ] سماك
واختلف في وصله، ثم أورد فيه حديث جابر في شرائه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جملة في السفر وقضائه ثمنه في المدينة، وهو مطابق للركن الثاني من الترجمة.
وحديث عائشة في شرائه صلّى اللَّه عليه وسلّم من اليهودي الطعام الى أجل، وهو مطابق للركن الأول، قال ابن المنير: وجه الدلالة منه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لو حضره الثمن ما أخره، وكذا ثمن الطعام لو حضره لم يرتب في ذمته دينا، لما عرف من عادته الشريفة من المبادرة إلى إخراج ما يلزمه إخراجه.
(فتح الباري) .
[ (1) ]
(مسلم بشرح النووي) : 11/ 36، كتاب المساقاة، باب (21) بيع البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (111) قوله: «فإن لرجل على أوقية من ذهب فهو لك بها، قال: قد أخذته به»
هذا قد يحتج به أصحابنا في اشتراط الإيجاب والقبول في البيع، وأنه لا ينعقد بالمعاطاة، ولكن الأصح المختار انعقاده بالمعاطاة يجوز هذا فلا يرد عليه، ولأن المعاطاة، إنما تكون إذا حضر العوضان فأعطى وأخذ، فاما إذا لم يحضر العوضان أو أحدهما، فلا بد من لفظ، وفي هذا دليل لأصح الوجهين عند أصحابنا، وهو انعقاد البيع بالكناية،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد أخذته به»
مع قول جابر: «هو لك» ، وهذان اللفظان كناية في
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لبلال: أعطه أوقية من ذهب وزده
«فيه جواز الوكالة في قضاء الديون وأداء الحقوق، وفيه استحباب الزيادة في أداء الدين وإرجاح الوزن. قوله «: فأخذه أهل الشام يوم الحرة» يعنى حرة المدينة، كان قتال ونهب من أهل الشام هناك سنة ثلاث وستين من الهجرة.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي مسلم: «فتبلغ عليه» .

(11/260)


قال: فقلت: لا تفارقني زيادة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: وكان في كيس لي، فأخذه أهل الشام يوم الحرة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] الحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها أحرقت بالنار، والحرار كثيرة في بلاد العرب، أكثرها حوالي المدينة والشام، والحرة التي وقعت فيها هذه الواقعة تقع في شرقى المدينة، اسمها حرة واقم، وكانت هذه الوقعة في خلال خلافة يزيد بن معاوية على أهل المدينة سنة (63) هـ حيث تولى الخلافة بعد وفاة معاوية سنة (60) وحتى توفى سنة (63) هـ، وكان موفور الرغبة في اللهو والقنص والنساء، وكان أيضا فصيحا كريما شاعرا، ولي ثلاث سنين: في السنة الأولى قتل الحسين، وفي السنة الثانية نهب المدينة وأباحها، وفي السنة الثالثة غزا الكعبة، وكان من أخبار يوم الحرة أن مسلم بن عقيل أمر عبد اللَّه بن عضاه الأشعري فمشى في خمسمائة حتى دنوا من ابن الغسيل [ابن حنظلة] وأصحابه، وأخذوا ينضحونهم بالنبل، فقال ابن غسيل: علام تستهدفون لهم؟ من أراد التعجل إلى الجنة فليلزم هذه الراية، فقام إليه كل مستميت، فقال: اتعدوا إلى ربكم، فو اللَّه إني لأرجو أن تكونوا بعد ساعة قريري عين، فنهض القوم بعضهم إلى بعض، فاقتتلوا أشد قتال رئي في ذلك الزمان ساعة من نهار، وأخذ يقدم بنيه أمامه واحدا واحدا حتى قتلوا بين يديه، وابن الغسيل يضرب بسيفه ويقول:
بعد لمن رام الفساد وطغى ... وجانب الحق وآيات الهدى
لا يبعد الرحمن إلا من عصى
فقتل ومعه أخوه لأمه، محمد بن ثابت، وقتل معه محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، فمر عليه مروان بن الحكم، فقال: رحمك اللَّه فرب سارية قد رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها. وغلبت الهزيمة على أهل المدينة، وأباحها مسلم ثلاثا، يقتلون الناس، ويأخذون الأموال، فأفزع ذلك من كان بها من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدريّ حتى دخل في كهف في الجبل، فبصر به رجل من أهل الشام، فجاء حتى اقتحم عليه الغار.
قال أبو سعيد: دخل إلى الشامي يمشى بسيفه، فانتضيت سيفي، ومشيت إليه لأرعبه، لعله ينصرف عنى، فأبى إلا الإقدام على، فلما رأيت أن قد جد، شمت سيفي ثم قلت له: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، فقال لي: من أنت؟ للَّه أبوك فقلت: أنا أبو سعيد الخدريّ، قال: صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قلت:
نعم، فانصرف عني. (أيام العرب في الإسلام) . 419- 420.

(11/261)


وخرّج أيضا من حديث عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا الجريريّ، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فتخلف ناضحي، وساق الحديث، قال فيه: فنخسه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال لي: اركب بسم اللَّه، وزاد أيضا قال: فما زال يزيدني، ويقول: واللَّه يغفر لك [ (1) ] .
وخرّج البخاري [ (2) ] من حديث ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، وغيره، يزيد بعضهم على بعض، لم يبلغه كلهم رجل منهم. عن جابر بن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 37، كتاب المساقاة، باب (21) بيع البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (112) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 610، كتاب الوكالة، باب (8) وإذا وكل رجلا أن يعطي شيئا ولم يبين له كم يعطي، فأعطى ما يتعارفه الناس، حديث رقم (2309) .
قوله: «ولم يبلغه كلهم رجل منهم بعنه» ، أي ليس جميع الحديث عند واحد منهم بعينهن وإنما عند بعضهم منه ما ليس عند الآخر.
قوله: «على جمل سفال» بفتح المثلثة بعدها فاء خفيفة، هو البعير البطيء السير، يقال:
ثفال وثفيل، وأما الثفال بكسر أوله فهو ما يوضع تحت الرحى لينزل عليه الدقيق، وقال ابن التين: من ضبط الثفال الّذي هو البعير بكسر أوله فقد أخطأ.
وقوله: «أربعه دنانير» ، كذا للجميع، وذكره الداوديّ الشارح بلفظ «أربعة دنانير» ، وقال: سقطت الهاء لما دخلت الألف واللام، وذلك جائز فيما دون العشرة، وتعقبه ابن التين بأنه قول مخترع، لم يقله أحد غيره.
وقوله: «فلم يكن القيراط يفارق قراب جابر» كذا لأبى ذر والنسفي بقاف، قال الداوديّ الشارح: يعنى خريطته، وتعقبه ابن التين بأن المراد قراب السفينة، وأن الخريطة لا يقال لها قراب.
قال ابن بطال: فيه الاعتماد على العرف، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يعين قدر الزيادة في قوله: «وزده» ، فاعتمد بلال على العرف، فاقتصر على قيراط، فلو زاد مثلا دينارا لتناوله مطلق الزيادة، ولكن العرف يأباه، كذا قال، وقد ينازعه في ذلك باحتمال أن يكون هذا القدر كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أذن في زيادته، وذلك القدر الّذي زيد عليه كأنه يكون أمره أن يزيد من يأمر له بالزيادة على كل دينار ربع قيراط، فيكون عمله في ذلك بالنص لا بالعرف. (فتح الباري) .

(11/262)


عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فكنت على جمل ثقال، إنما هو في آخر القوم، فمر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: من هذا؟ فقلت: جابر بن عبد اللَّه.
قال: مالك قلت إني على جمل ثقال، قال: أمعك قضيب؟ قلت: نعم قال: أعطنيه، فضربه، فزجره فكان من ذلك المكان من أول القوم، قال:
بعنيه، قال: قلت: بل هو لك يا رسول اللَّه، فقال: بل بعنيه، قد أخذته بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة، فلما دنونا من المدينة أخذت أرتحل، قال: أين تريد؟، قلت: تزوجت امرأة قد خلا منها، قال: فهلا جارية تلاعبها، وتلاعبك؟ قلت: إن أبي توفي، وترك بنات، فأردت أن أنكح امرأة قد جربت خلا منها، قال: فذلك، فلما قدمنا المدينة قال: يا بلال اقضه، وزده، فأعطاه أربعة دنانير، وزاده قيراطا،
قال: لا تفارقني زيادة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يكن القيراط يفارق قراب جابر بن عبد اللَّه.
ذكره في كتاب الوكالة، وترجم عليه إذا وكل رجلا أن يعطى شيئا، ولم يتبين كم يعطي فأعطى على ما يتعارفه الناس.
وذكر مسلم [ (1) ] منه طرفا يسيرا من حديث ابن جريج عن عطاء، عن جابر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: قد أخذت جملك بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة لم يزد على هذا.
وخرّج أيضا من حديث حماد، قال: حدثنا أيوب عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أعيا بعيري، فنخسه، فوثب فكنت بعد ذلك أجبس خطامه لأسمع حديثه، فما أقدر عليه، فلحقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ولك ظهره إلى المدينة بعنيه فبعته منه بخمس أواق، قال: قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال: فلمّا قدمت المدينة أتيته به، فزادني أوقية ثم وهبه لي [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 39، كتاب المساقاة، باب (21) البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (117) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (113) .

(11/263)


وخرّج بعد حديث أبي الزبير هذا من حديث بشير بن عقبة، عن أبي المتوكل الناجي، عن جابر بن عبد اللَّه قال: سافرت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره، أظنه قال غازيا واقتصر الحديث، وزاد فيه: قال: يا جابر استوفيت الثمن؟ قلت: نعم، قال: لك الثمن، ولك الجمل [ (1) ] ، لك الثمن، ولك الجمل،
هكذا ذكره كما كتبناه.
وخرّج البخاري [ (2) ] من حديث عقيل، حدثنا أبو المتوكل الناجي قال: أتيت جابر بن عبد اللَّه الأنصاري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فقلت له:
حدثني بما سمعت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: سافرت معه في بعض أسفاره، قال أبو عقيل: لا أدرى غزوة أم عمرة، فلما أن أقبلت قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من أحب أن يتعجل أهله فليتعجل، قال جابر: فأقبلنا وأنا على بعير لي أرمك ليس فيه شية، والناس من خلفي، فبينا أنا كذلك إذ قام على، فقال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا جابر استمسك، فضربه بسوط ضربة، فوثب البعير مكانه، فقال: أتبيع الجمل؟
قلت: نعم، فلما قدمنا المدينة ودخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المسجد في طوائف أصحابه، فدخلت إليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط، فقلت له: هذا جملك، فخرج فجعل يطيف بالجمل، ويقول: الجمل جملنا، فبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أواق من ذهب،
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (114) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 81- 82، كتاب الجهاد والسير، باب (49) من ضرب دابة غيره في الغزو، حديث رقم (2861) .
قوله: «من ضرب دابة غيره في الغزو» أي إعانة له رفقا به، قوله: «أرمك» ، براء، وكاف، وزن أحمر: ما خالط حمرته سواد، وقوله: «ليس فيها شية» بكسر المعجمة وفتح التحتانية الخفيفة، أي علامة، [وقال تعالى في وصف بقرة بنى إسرائيل: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها [البقرة:] المراد أنه ليس فيه لمعه من غير لونه، ويحتمل أن يريد ليس فيه عيب ويؤيد قوله: «والناس خلفي، فبينا أنا كذلك إذا قام على» لأنه يشعر بأنه أراد أنه كان قويا في سيره، لا عيب فيه من جهة ذلك حتى كأنه صار قدام الناس. فطرأ عليه حينئذ. الوقوف، قوله: «إذا قام علي» أي وقف فلم يسر من التعب. (فتح الباري) .

(11/264)


فقال: أعطوها جابرا، ثم قال: استوفيت الثمن؟ قلت: نعم، قال: الثمن والجمل لك.
ذكره في كتاب الجهاد وترجم باب من ضرب دابة غيره في الغزو، وذكره مختصرا محذوف الإسناد في كتاب المظالم، وترجم عليه باب من عقل بعيرا على البلاط، أو في باب المسجد [ (1) ] .
قال كاتبه- يعنى مؤلفه-: وكانت قصة بعير جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- هذه التي أوردت من طرقها ما أمكن إيراده في غزوة ذات الرقاع [ (2) ] كما تقدم.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 147- 148، كتاب المظالم، باب (26) من عقل بعيره على البلاط أو باب المسجد، حديث رقم (2470) ، والبلاط: حجارة مفروشة كانت عند باب المسجد. وقوله: «فعقلت الجمل في ناحية البلاط» فإنه يستفاد منه جواز ذلك إذا لم يحصل به ضرر. (فتح الباري) .
[ (2) ] غزوة ذات الرقاع: اختلف أهل التاريخ فيها، متى كانت؟ فعند ابن إسحاق: بعد بني النضير سنه أربع، في شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى، وعند ابن سعد وابن حبان: في المحرم سنة خمس، وجزم أبو معشر: بأنها بعد بنى قريظة في ذي العقدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع في آخر السنة الخامسة وأول التي تليها.
وقد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك بأمور، ومع ذلك ذكرها قبل خيبر، فلا أدري هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين كما أشار البيهقي، على أن، أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمانها.
وأما تسميتها بذات الرقاع، فلأنهم رقعوا فيها راياتهم، قاله ابن هشام، وقيل: لشجرة في ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع، وقيل: الأرض التي نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض، وكأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت ذات الرقاع لذلك، وتميل غير ذلك.
قال السهيليّ: وأصحّ من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري.
قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة ونحن ستة نفر، وبيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا،

(11/265)


وقال الواقدي- وقد ذكر غزوة ذات الرقاع-: ثم رحنا مبردين. قال جابر: فإنا لنسير إذ أدركني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال مالك: يا جابر، فقلت: يا رسول اللَّه جدي أن يكون لي بعير سوء، وقد مضى الناس وتركوني، قال:
فأناخ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعيره.
فقال: أمعك ماء؟ فقلت: نعم، فجئته بقعب من ماء، فنفث فيه، ثم نضح رأسه وظهره وعلى عجزه، ثم قال: أعطني عصا، فأعطيته عصا، أو قال: قطعت له عصا من شجرة، قال: ثم نخسة نخسات، ثم قرعه بالعصا، ثم قال: اركب يا جابر، فركبت.
قال: فخرج، والّذي بعثه بالحق يواهق [ (1) ] ناقته مواهقة ما تفوته ناقته، قال: وجعلت أتحدث مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال لي: يا أبا عبد اللَّه أتزوجت، قلت: نعم، قال: بكرا أم ثيبا؟ فقلت: ثيبا، فقال: ألا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ فقلت: يا رسول اللَّه- بأبي وأمى، إن أبي أصيب يوم أحد، فترك تسع بنات فتزوجت امرأة جامعة تلم شعثهن، وتقوم عليهنّ، قال: أصبت.
ثم قال: أما أنا لو قدمنا صرارا [ (2) ] أمرنا بجزور، فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها، قال: قلت: واللَّه يا رسول اللَّه ما لنا نمارق، قال: أما إنها ستكون، فإذا قدمت فاعمل عملا كيسا.
قال: قلت: أفعل ما استطعت، قال: ثم قال: بعني جملك هذا يا جابر، قلت: بل هو لك يا رسول اللَّه، فقال: لا بل بعنيه، قال: قلت: نعم سمنى به، قال: فإنّي آخذه بدرهم، قال: قلت: تغبنني يا رسول اللَّه؟ قال: لا
__________
[ () ] ونقبت قدماي، وسقطت أظافري، فلكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع.
(المواهب اللدنية) : 1/ 433- 435 مختصرا.
[ (1) ] أي يباريها في السير ويماشيها، ومواهقة الإبل: مد أعناقها في السير. (النهاية) : 4/ 234.
[ (2) ] صرار: بكسر أوله وآخره مثل ثانيه، وهي الأماكن المرتفعة التي لا يعلوها الماء، يقال لها صرار، وقيل: صرار موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق. (معجم البلدان) : 3/ 452، موضع رقم (7505) .

(11/266)


لعمري. قال جابر: فما زال يزيدني درهما حتى بلغ أربعين درهما وأوقية، فقال: أما رضيت، فقلت هو لك، قال: فظهره لك حتى تقدم المدينة.
قال: ويقال: إنه قال: آخذه منك بأوقية، وظهره لك، فباعه على ذلك، قال: فلما قدمنا صرارا أمر بجزور، فنحرت وأقام به يومه، ثم دخلنا المدينة.
قال جابر: فقلت للمرأة: قد أمرنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أعمل عملا كيسا، قالت:
سمعا وطاعة لأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدونك فأفعل، قال: ثم أصبحت، فأخذت برأس الجمل، فانطلقت حتى أنخته عند حجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وجلست حتى خرج.
فلما خرج قال: أهذا الجمل؟ قلت: نعم يا رسول اللَّه الّذي اشتريت، فدعا بلالا، فقال: اذهب فأعطه أوقية، وخذ برأس جملك يا بن أخي، فانطلقت مع بلال.
فقال: أنت ابن صاحب الشعب، فقلت: نعم، فقال: لأطيبنك ولأزيدنك، فزادني قيراطا أو قيراطين.
قال: فما زال يثمر ذلك ويزيدنا اللَّه به، ونعرف موضعه، حتى أصيب هاهنا قريبا يعنى الجمل.
هكذا ساق الواقدي هذه القصة في مغازيه كما كتبتها [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 399- 401، غزوة ذات الرقاع.

(11/267)


وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلّم في فرس أبي طلحة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى صار لا يجاريه فرس بعد أن كان قطوفا بطيئا
فخرّج البخاري [ (1) ] من حديث غندر نا شعبة، قال: سمعت قتادة عن أنس ابن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لنا يقال له: مندوب، فقال: ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحرا، ذكره في الجهاد في باب اسم الفرس والحمار، وخرّجه في كتاب الهبة [ (2) ] من
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 73، كتاب الجهاد، باب (46) اسم الفرس والحمار، حديث رقم (2857) .
وقوله: «باب اسم الفرس والحمار» ، أي مشروعية تسميتهما، وكذا غيرهما من الدواب بأسماء تخصها غير أسماء أجناسها، قد اعتنى من ألف في السيرة النبويّة بسرد ما ورد في الأخبار من خيله صلّى اللَّه عليه وسلّم وغير ذلك من دوابه، وفي الأحاديث الواردة في هذا الباب ما يقوى قول من ذكر أنساب بعض الخيول العربية الأصيلة، لأن الأسماء توضع للتمييز بين أفراد الجنس.
(فتح الباري) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 5/ 301، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (33) من استعار من الناس الفرس، حديث رقم (2627) . قوله: «من استعار من الناس الفرس» والبخاري أضاف العارية إلى الهبة، لأنها هبة المنافع، والعارية بتشديد التحتانية ويجوز تخفيفها. قال الأزهري:
مأخوذة من عار إذا ذهب وجاء، ومنه سمى العيار لأنه يكثر الذهاب والمجيء وقال الجوهري:
منسوب إلى العار، لأن طلبها عار، وتعقب بوقوعها من الشارع في مثل ذلك لبيان الجواز، وهي في الشرع هبة المنافع دون الرقبة، ويجوز توقيتها، وحكم العارية إذا تلفت في يد المستعير أن يضمنها إلا فيما إذا كان ذلك من الوجه المأذون فيه، هذا قول الجهور [] ، عن المالكية والحنفية: إن لم يتعد لم يضمن.
قوله: «كان فزع بالمدينة» أي خوف من عدو، قوله: «من أبي، قيل» سمي بذلك من الندب، وهو الرهن عند السباق، وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجرح.
قوله: «إن وجدناه لبحرا»
قال الأصمعي: يقال للفرس بحر إذا كان واسع الجري، أو لأنه جريه لا ينفذ كما لا ينفذ البحر (فتح الباري) مختصرا.

(11/268)


حديث آدم، عن شعبة، عن قتادة قال: سمعت أنسا يقول: كان فزع بالمدينة، واستعار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا من أبي طلحة، يقال له: المندوب، فركب فلما رجع قال: ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا، ترجم عليه باب من استعار من الناس الفرس والدابة.
وخرّجه أيضا في باب مبادرة الإمام عند الفزع [ (1) ] من حديث يحيى، عن شعبة، حدثني قتادة عن أنس بن مالك- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كان بالمدينة فزع فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة، فقال: ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحرا.
وخرّج مسلم في المناقب [ (2) ] من حديث وكيع، حدثنا شعبة عن قتادة، عن أنس، قال: كان بالمدينة فزع فاستعار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة، يقال له:
مندوب، فركب، فقال: ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحرا، وخرجه من حديث محمد بن جعفر، وخالد بن الحارث عن شعبة بهذا الإسناد [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 151- 152، كتاب الجهاد والسير، باب (116) مبادرة الإمام عند الفزع، حديث رقم (2968) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 74، كتاب الفضائل، باب (11) في شجاعة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتقدمه في الحرب، حديث رقم (49) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق، بدون رقم، قال الإمام النووي: وفيه فوائد: منها بيان شجاعته صلّى اللَّه عليه وسلّم من شدة عجلته في الخروج الى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس، وفيه بيان عظيم بركته صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان يبطأ، وهو معنى قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: وجدناه بحرا أي واسع الجرى. وفيه جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدو ما لم يتحقق الهلاك، وفيه جواز العارية وجواز الغزو على الفرس المستعار لذلك وفيه استحباب تقلد السيف في العنق، واستحباب تبشير الناس بعدم الخوف إذا ذهب، ووقع في هذا الحديث تسميه هذا الفرس مندوبا، قال القاضي: وقد كان في أفراس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مندوب، فلعله صار إليه بعد أبي طلحة، هذا كلام القاضي، قال الإمام النووي:
ويحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم.

(11/269)


وخرّج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس ابن مالك- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس.
وقال البخاري: الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت.
وقال البخاري: فاستقبلهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة ما عليه سرج، في عنقه سيف، قال: وجدنا بحرا، وإنه لبحر، قال: وكان فرسا ثبطا، لم يذكر البخاري: وكان فرسا ثبطا.
وخرّج البخاري في كتاب الجهاد [ (3) ] في باب إذا فزعوا في الليل من حديث حماد يعنى ابن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة، فسمعوا صوتا، قال: فتلقاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على فرس لأبي طلحة عرى وهو متقلد سيفه، فقال: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وجدته بحرا يعنى الفرس.
وخرّج في باب الحمائل [ (4) ] وتعليق السيف بالعنق، هذا الحديث بهذا الإسناد، ولفظه عن أنس قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس، وأشجع الناس،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 118، كتاب الجهاد والسير، باب (82) الحمائل وتعليق السيف بالعنق، حديث رقم (2908) . مقصود المصنف من هذه التراجم أن يبين زي السلف في آلة الحرب، وما سبق استعماله في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليكون أطيب للنفس وأنفى للبدعة.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 73، كتاب الفضائل، باب (11) في شجاعة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتقدمه للحرب، حديث رقم (2307) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 201، كتاب الجهاد، باب (165) إذا فزعوا بالليل، حديث رقم (3040) ، أي ينبغي لأمير العسكر أن يكشف الخبر بنفسه أو بمن يند به لذلك.
[ (4) ] سبق تخريجة.

(11/270)


ولقد فزع أهل المدينة، فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم
قال: وجدناه بحرا،
وقال: إنه لبحر، وذكره في باب الشجاعة في الحرب [ (1) ] ، وفي باب ركوب الفرس العري [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث يزيد بن زريع حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة كان يقطف [ (3) ] ، أو كان فيه قطاف [ (4) ] ، فلما رجع
قال: وجدنا فرسكم هذا بحرا،
وكان بعد ذلك لا يجاري.
ذكره في كتاب الجهاد، وترجم عليه باب الفرس القطوف، وخرجه أيضا في باب السرعة والركض في الفزع من حديث جرير بن حازم عن محمد، عن أنس بن مالك قال: فزع الناس، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة بطيئا، وخرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه،
فقال: لم تراعوا إنه لبحر فما سبق بعد ذلك اليوم.
__________
[ (1) ] حديث رقم (2820) .
[ (2) ] حديث رقم (2866) .
[ (3) ] حديث رقم (2867) ، القطوف: أي البطيء المشي.
[ (4) ] حديث رقم (2969) .

(11/271)


وأما فراهة فرس جعيل [ (1) ] بعد عجفها وتأخر مسيرتها وبيعة نتاجها بمال جم بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم له فيها بالبركة
خرّج البيهقي [ (2) ] من حديث رافع بن سلمة بن زياد الأشجعي، قال: حدثني عبد اللَّه بن أبي الجعد الأشجعي، عن جعيل، قال: غزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا على فرس لي عجفاء ضعيفة.
قال: فكنت في أخريات الناس، فلحقني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: سر يا صاحب الفرس، فقلت: يا رسول اللَّه عجفاء ضعيفة، قال: فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مخفقة معه، فضربها بها، وقال: اللَّهمّ بارك له فيها، فقال: فلقد رأيتني وأنا أمسك في رأسها أن نتقدم الناس، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا.
__________
[ (1) ] هو جعيل بن زياد ويقال: ابن حمزة الأشجعي، روى عن عبد اللَّه بن أبي الجعد حديثا حسنا في أعلام النبوة، قال: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض غزواته على فرس لي ضعيفة عجفاء في أخريات الناس فذكر الحديث. له ترجمة في: (الإستيعاب) : 1/ 246، ترجمة رقم (330) ، (الإصابة) : 1/ 490، ترجمة رقم (1173) ، (تهذيب التهذيب) : 2/ 94، ترجمة رقم (172) .
[ (2) ] (دلائل النبوة) : 6/ 153.

(11/272)


وأما ضربه برجله صلّى اللَّه عليه وسلّم ناقة لا تكاد تسير فصارت سابقة
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث مروان بن معاوية، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أو قال فتى، فقال: إني تزوجت امرأة، فقال: هل نظرت إليها فإن في أعين الأنصار شيئا؟
قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ فذكر شيئا قال: وكأنكم تنحتون الذهب والفضة من عرض هذا الجبل؟ ما عندنا شيء نعطيكه، ولكن سأبعثك في وجه تصيب فيه، فبعث بعثا إلى بني عبس، وبعث الرجل فيهم، فأتاه، فقال: يا رسول اللَّه قد أعيتني ناقتي أن تنبعث، قال: فناوله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده كالمعتمد عليه للقيام، فأتاه، فضربها برجله، قال أبو هريرة: والّذي نفسي بيده لقد رأيتها تسبق القائد.
قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح [ (2) ] عن يحيى بن معين، عن مروان.
قال كاتبه [ (3) ] : خرّج مسلم في النكاح من حديث ابن أبي عدي حدثنا سفيان، عن يزيد بن كيسان بن أبي حازم، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتاه رجل، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب، فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا.
قال مسلم: وحدثني يحيى بن معين، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا.
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 6/ 154.
[ (2) ] رواه مسلم في كتاب النكاح، باب (12) ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد النكاح، حديث رقم (75) .
[ (3) ] هو التقي المقريزي- رحمه اللَّه.

(11/273)


قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ قال على أربع أواق، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه، قال: فبعث بعثا إلى بني عبس وبعث ذلك الرجل فيهم،
هكذا سياقة مسلم، ولم يذكر فيه قصة الناقة.
وقد خرّج الحاكم [ (1) ] هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية [ (2) ] ، قال:
حدثنا أبو إسماعيل الأسلمي أن أبا حازم حدثه عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رجلا أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار على ثماني أواق، فتفزع لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل؟ هل رأيتها فإن في عيون الأنصار شيئا.
قال: قد رأيتها؟ قال: ما عندنا شيء ولكنا سنبعثك في بعث وأنا أرجو أن تصيب خيرا،
فبعثه في ناس إلى ناس من بني عبس، فأمر لهم بناقة، فحملوا عليها متاعهم، فلم ترم إلا قليلا حتى بركت، فأعيتهم أن تنبعث، فلم يكن في القوم أصغر من الّذي تزوج، فجاء إلى نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو مستلق في المسجد، فقام عند رأسه كراهية أن يوقظه، فانتبه نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا نبي اللَّه إن الّذي أعطيتنا أعيينا أن نبعثه، فناوله نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمينه وأخذ رداءه بشماله، فوضعه على عاتقه، وانطلق يمشى حتى أتاها، فضربها بباطن قدمه، والّذي نفس أبي هريرة بيده لقد كانت بعد ذلك تسبق القائد، وإنهم نزلوا بحضرة العدو، وقد أوقدوا النيران، فأحاطوا بهم، وتفرقوا عليهم، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وأن اللَّه- تعالى- هزمهم وأسر منهم.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، بهذه السياقة.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 193- 194، كتاب النكاح، حديث رقم (2729) ، وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : على شرط البخاري ومسلم وأبو إسماعيل هو بشير بن سلمان، أخرج مسلم بعضه.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .

(11/274)


إنما خرّج مسلم من حديث شعبة عن أبي إسماعيل، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: أن رجلا تزوج، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هلا نظرت إليها
فقط، وقال أبو إسماعيل هذا هو بشير بن سليمان [ (1) ] ، وقد احتجا جميعا به.
قال كاتبه: بشير بن سليمان أبو إسماعيل هذا يروي عن أبي حازم الأشجعي وخيثمة بن يوسف الفرياني، وطائفة، وثقة ابن معين وأحمد بن حنبل، خرج له مسلم والأربعة، وخرج له البخاري خارج الصحيح أظنه في كتاب (الأدب المفرد) [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هو بشير بن سليمان الكندي أبو إسماعيل الكوفي، روى عن أبي حازم الأشجعي، وخيثمة بن أبي خيثمة، وسيار أبي الحكم، وقيل: عن سيار أبي حمزة، ومجاهد وعكرمة وغيرهم، وعنه ابنه الحكم والسفيانان وابن المبارك، وابن فضيل، ووكيع والفرياني، وأبو نعيم وغيرهم، قال أحمد وابن معين والعجليّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح حديث، وهو أحب إليّ من يزيد بن كيسان، قال الحافظ: وقال ابن سعد: كان شيخا قيل الحديث وقال البزار: حدث بغير حديث لم يشاركه فيه أحد وذكره ابن حبان في (الثقات) . (تهذيب التهذيب) : 1/ 408 ترجمة رقم (858) .
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.

(11/275)


وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لبعير الرجل أن يحمله اللَّه عليه فمكث عنده عشرين سنة
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث جعفر بن عوف، قال: أخبرنا الأعمش عن مجاهد أن رجلا اشترى بعيرا، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: اشتريت بعيرا، فادع اللَّه أن يبارك لي فيه، فقال: اللَّهمّ بارك له فيه، فلم يلبث إلا يسيرا أن نفق، ثم اشترى بعيرا آخر، فأتي به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه إني اشتريت بعيرا، فادع اللَّه أن يبارك لي فيه، فقال: اللَّهمّ بارك له فيه، فلم يلبث إلا يسيرا أن نفق، ثم اشترى بعيرا، فأتي به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه إني اشتريت بعيرا، فادع اللَّه أن يحملني عليه، قال: فقال اللَّهمّ احمله عليه، قال: فمكث عنده عشرين سنة.
قال البيهقي: هذا مرسل، ودعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم صار إلى أمر الآخرة في المرتين الأوليين، ثم سأله صاحب البعير الدعاء أن يحمله عليه، فوقعت الإجابة [إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل زكاة وأطيبها وأنماها] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 6/ 154- 155.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(11/276)


وأما ذهاب الجوع عن فاطمة الزهراء- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها- بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج أبو نعيم [ (1) ] ، والبيهقي [ (2) ] من حديث مسهر بن عبد الملك بن مسلع الهمدانيّ، عن عتبة أبي معاذ البصري عن عكرمة [مولى ابن عباس] ، عن عمران بن الحصين- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أقبلت فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، فوقعت بين يديه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنظر إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد ذهب الدم من وجهها، وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فنظر إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ادني يا فاطمة، فدنت حتى قامت بين يديه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرفع يده الشريفة صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوضعها على صدرها في موضع القلادة، وفرج بين أصابعه، ثم قال: اللَّهمّ مشبع الجاعة، ورافع الوضيعة ارفع فاطمة بنت محمد [ (3) ] ، وفي رواية لا تجع فاطمة بنت محمد [ (4) ] .
قال عمران: فنظرت إليها، وقد ذهبت الصفرة من وجهها، وغلب الدم كما كانت الصفرة غلبت على الدم، قال عمران: فلقيتها بعد، فسألتها، فقالت:
ما جعت بعد يا عمران.
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 462، حديث رقم (390) ، وأخرجه الطبراني في (الأوسط) وفيه عتبة بن حميد أبو معاذ، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجاله وثقوا.
[ (2) ] (دلائل النبوة) : 6/ 108، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم لابنته- فاطمة عليها السلام، وما ظهر فيه من الإجابة.
[ (3) ] كذا في (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] كذا في (دلائل أبي نعيم) .

(11/277)


قال البيهقي- رحمه اللَّه: والأشبه أنه رآها صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل نزول آية الحجاب [ (1) ] .

وأما كفاية علي بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه الحر والبرد بدعائه له صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج أبو نعيم من حديث أبى بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا علي بن شهاب، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم والمنهال وعيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يخرج في الشتاء في إزار ورداء، ثوبين خفيفين، وفي الصيف في القباء المحشو والثوب الثقيل، فقال الناس لعبد الرحمن: لو قلت لأبيك فإنه يسمر معه.
قال: فسألت أبي أن الناس قد رأوا من أمير المؤمنين شيئا استنكروه، قال: وما ذاك، قلت: يخرج في الحر الشديد في القباء المحشو والثوب الثقيل، لا يبالي، ويخرج في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين والملاءتين والخفيفتين لا يبالي ذلك، ولا يتقى بردا، فهل سمعت في ذلك؟ فقد أمروني أن أسألك أن تسأله إذا أسمرت عنده، فسمر عنده.
فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تفقدوا منك شيئا، قال: وما هو؟
قلت: تخرج في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين والملاءتين ولا تبالي، وتخرج في الحر الشديد في القباء المحشو والثوب الثقيل، ولا تبالي بردا ولا حرا.
قال: وما كنت معنا يا أبا ليلى بخيبر؟ قلت: بلى، واللَّه كنت معكم، قال: فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللَّه ورسوله ويحبه
__________
[ (1) ]
وزاد أبو نعيم: وقال سليمان: فبسط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أصابعه، ثم وضع كفه بين ترائبها، فرفع رأسه وقال: «اللَّهمّ مشبع الجاعة، وقاضى الحاجة، ورافع الوضيعة، لا تجع فاطمة بنت محمد، ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك، يا عمران.

(11/278)


اللَّه ورسوله يفتح اللَّه عليه ليس بفرار، قال: فدعاني، فأتيته وأنا أرمد لا أبصر شيئا.
قال: فتفل في عيني، ثم قال: اللَّهمّ اكفه الحر والبرد، قال: فما أذاني بعد حر ولا برد [ (1) ] .
وخرّجه من حديث محمد بن عمران بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: اجتمع إليّ نفر من أهل المسجد، فقالوا: إنا قد رأينا من أمير المؤمنين شيئا أنكرناه، قلت: وما هو؟، قالوا: يخرج علينا في الشتاء في إزار، ورداء، وفي الصيف في قباء محشو، فدخلت فذكرت ذلك لأبي، فلما راح إلى على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: إن الناس قد رأوا منك شيئا أنكروه، قال: وما هو؟ قلت: لباسك، قال: أوما كنت معنا حين دعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أرمد فتفل في راحتيه وألصق بهما على عيني، وقال: اللَّهمّ أذهب عنه الحر والبرد، والّذي بعثه بالحق ما وجدت لواحدة منهما أذى حتى الساعة [ (2) ] .
قال كاتبة حديث
لأعطين الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله، حديث. خرّجه البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ] ، وسيأتي في طرقه عن قريب إن شاء اللَّه،
وليست فيه قصة الحر والبرد، ولكن وقعت في النسائي.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 212- 213، باب ما جاء في بعث السرايا إلى حصون خيبر، وإخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بفتحها على يدي علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ودعائه له وما ظهر في ذلك من آثار النبوة ودلالات الصدق، وقد ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) :
9/ 122، وقال: ورواه الطبراني في (الأوسط) وإسناده حسن.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 463، حديث رقم (391) ، رواه الطبراني في (الأوسط) ، وإسناده حسن.
[ (3) ] أخرجه في المغازي، باب (38) في غزوة خيبر.
[ (4) ] أخرجه في فضائل الصحابة، باب (4) من فضائل علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (34) .

(11/279)


خرّجه من حديث عبد اللَّه قال: حدثنا ابن أبي ليلى عن الحكم والمنهال، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه أنه قال لعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكان يسير معه: إن الناس قد أنكروا منك أنك تخرج في البرد في الملاءتين، وتخرج في الحر في الحشو والثوب الغليظ.
قال: أولم تكن معنا بخيبر؟ قال: بلى، قال: فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
بعث أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وعقد له لواء، فرجع الناس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطينّ الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله ليس بفرار.
قال: فأرسل إلي وأنا أرمد، فتفل في عيني، وقال: اللَّهمّ [أذهب عنه] الحر والبرد، قال: فما وجدت حرا بعد ذلك ولا بردا.
ومن حديث فردوس الأشعري قال: حدثنا مسعود بن سليمان: حدثنا حبيب ابن أبي ثابت، عن الجعد مولى سويد بن غفلة، أنه قال: لقيت عليا- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو في ثوبين في شدة الشتاء، فقلت: لا تغني بأرضنا هذه، فإنّها أرض مقرة [ (1) ] ، وليست مثل أرضك فقال: أما إني كنت مقرورا [ (2) ] ، فلما بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر قلت: ما لي لا أدفأ به، وإني لأرمد، فتفل في عيني، ودعا لي فما وجدت بردا بعد، ولا رمدت عيناي.
وخرّج أبو نعيم من حديث محمد بن فضيل، عن أبي حيان التيمي، عن شبرمة بن الطفيل قال: رأيت عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بذي قار عليه إزار ورداء، وهو يهنأ بعيرا له في يوم شديد البرد، وإن جبينه ليرشح عرقا.
__________
[ (1) ] مقرة: باردة شديدة البرودة.
[ (2) ] المقرور: من أصابه القر، وهو شدة البرد.

(11/280)


وأما شفاؤه مما يشكو من الوجع بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث أبي داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، قال:
أخبرني عمرو بن مرة قال: سمعت عبد اللَّه بن سلمة يقول: سمعت عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا شاك أقول: اللَّهمّ إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فأرفق بي [ (2) ] .
وإن كان بلاء فصبرني، فضربني برجله، وقال: كيف قلت؟ فأعدت عليه، فقال: اللَّهمّ اشفه، أو قال: اللَّهمّ عافه، قال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فما اشتكيت وجعي ذاك بعد.
وخرّجه النسائي من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد اللَّه بن سلمة يحدث عن علي- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: مر على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أقول: اللَّهمّ إن كان أجلى حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فأرفق بي، وإن كان بلاء فصبرني، فضربني برجله، وقال: اللَّهمّ اشفه، اللَّهمّ عافه، فما اشتكيت بعد ذلك، وخرّجه عبد بن حميد من حديث شعبة.
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 6/ 179، باب ما جاء في دعائه لعلي ابن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ولغيره بالشفاء، وإجابة اللَّه تعالى به فيما دعاه.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) :
«فار، عنى» .

(11/281)


وأما شفاؤه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه من رمد ببصاق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعائه له
فخرّج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] والنسائي من حديث يعقوب بن عبد الرحمن بن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم خيبر:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 605، كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر، حديث رقم (4210) ،
قوله: «لأعطينّ الراية غدا أو ليأخذنّ، الراية غدا»
هو شك من الراويّ، والراية يم، عنى اللواء، وهو العلم الّذي في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر.
[ (2) ] من فضائل علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: «كانت راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سوداء ولواؤه أبيض» مثلة، عند الطبراني، عن بريدة، وعند ابن عدي، عن أبي هريرة وزاد «مكتوبا فيه لا إله لا اللَّه محمد رسول اللَّه» ، وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية، وقد ذكر ابن إسحاق وكذا أبو الأسود، عن عروة أن أول ما وجدت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية» .
قوله: (يحبه اللَّه ورسوله) زاد في حديث سهل بن سعد «ويحب اللَّه ورسوله» ، وفي رواية ابن إسحاق «ليس بفرار،» وفي حديث بريدة «لا يرجع حتى يفتح اللَّه له» .
قوله: (فنحن نرجوها) في حديث سهل «فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها» وقوله: «يدوكون» بمهملة مضمومة أي باتوا في اختلاط واختلاف، والدوكة بالكاف: الاختلاط، وعند مسلم من حديث أبي هريرة «إن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ» ، وفي حديث بريدة» فما منا رجل له منزلة، عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا وهو يرجوا أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها، فدعا عليا وهو يشتكي عينه فمسحها، ثم دفع إليه اللواء «ولمسلم من طريق إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: «فأرسلني إلى علي قال: فجئت به أقوده أرمد فبزق في عينه، فبرأ» قوله: (فقيل هذا علي) كذا وقع مختصرا، وبيانه في رواية إياس بن سلمة، عند مسلم،
وفي حديث سهل بن سعد الّذي بعده «فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلهم يرجوا أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طلب؟ قالوا: يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتوا به»

(11/282)


__________
[ () ] وقد ظهر من حديث سلمة بن الأكوع انه هو الّذي أحضره، ولعل عليا حضر إليهم بخيبر ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فحضر من المكان الّذي نزل به، أو بعث إليه إلى المدينة فصادف حضوره.
قوله: (فبرأ) بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم، وعند الحاكم من حديث على نفسة قال: فوضع رأسي في حجره، ثم بزق في ألية راحته، فدلك بها عيني» وعند بريدة في «الدلائل البيهقي «فما وجعها على حتى مضى لسبيله» أي مات، عند الطبراني من حديث علي: «فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الراية يوم خيبر» ، وله من وجه آخر «فما اشتكيتها حتى الساعة، قال: ودعا لي فقال: اللَّهمّ أذهب، عنه الحر والقر، قال فما اشتكيتهما حتى يومي هذا» .
قوله: (فأعطاه ففتح عليه) في حديث سهل «فأعطاه الراية» ، وفي حديث أبي سعيد، عند أحمد «فانطلق حتى يفتح اللَّه عليه خيبر وفدك، وجاء بعجوتهما» وقد اختلف في فتح خيبر هل كان، عنوة أو صلحا، وفي حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس التصريح بأنه كان، عنوة وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال فتحت صلحا قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم، وهو ضرب من الصلح لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى.
والّذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمر «: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قاتل أهل خيبر، فغلب على النخل والجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يجلوا منها، وله الصفراء والبيضاء والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا» الحديث وفي آخره «فسبى نساءهم وذريتهم، وقسم أموالهم للنكث الّذي نكثوا، وأراد أن يجليهم فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها «الحديث أخرجه أبو دواد والبيهقي وغيرهما، وكذلك أخرجه أبو الأسود في المغازي، عن عروة، فعلى هذا كان قد وقع الصلح، ثم حدث النقض منهم فزال أثر الصلح، ثم منّ عليهم بترك القتل وإبقائهم عمالا بالأرض ليس لهم فيها ملك، ولذلك أجلاهم عمر- كما تقدم في فتح فرض الخمس احتجاج الطحاوي على أن بعضها صلحا بما أخرجه هو وأبو داود من طريق بشير بن يسار» : أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه، وقسم نصفها بين المسلمين» وهو حديث اختلف في وصله وإرساله، وهو ظاهر في أن بعضها فتح صلحا، واللَّه اعلم.

(11/283)


لأعطينّ هذه الراية رجلا يفتح اللَّه عليه يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلهم يرجون أن يعطاها.
فقال أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول اللَّه يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه فأتى به، فبصق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كان لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول اللَّه أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: أنفد على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام،
__________
[ () ] قوله:
في حديث سهل (فقال علي يا رسول اللَّه، أقاتلهم)
هو بحذف همزة الاستفهام.
قوله: (حتى يكونوا مثلنا)
أي حتى يسلموا
قوله: (فقال انفذ)
بضم الفاء بعدها معجمة.
قوله: (على رسلك)
بكسر الراء أي على هينتك.
قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام)
ووقع في حديث أبي هريرة، عند مسلم «فقال علي يا رسول اللَّه علام أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن إله إلا اللَّه وان محمدا عبده ورسوله» واستدل بقوله: «ادعهم»
أن الدعوة شرط في جواز القتال، والخلاف في ذلك مشهور فقيل:
يشترط مطلقا، وهو، عن مالك سواء من بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم، قال: إلا أن يعجلوا المسلمين، وقيل: لا مطلقا و، عن الشافعيّ مثله، وعنه لا يقاتل من لم تبلغهم حتى يدعوهم، وأما من بلغته فتجوز الإغارة عليهم بغير دعاء، وهو مقتضى الأحاديث، ويحمل ما في حديث سهل على الاستحباب بدليل أن في حديث أنس أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أغار على أهل خيبر لما لم يسمع النداء، وكان ذلك أول ما طرقهم، وكانت قصة على بعد ذلك، وعن الحنفية تجوز الإغارة عليهم مطلقا وتستحب الدعوة.
قوله: (فو اللَّه لأن يهدى اللَّه بك رجلا إلخ)
يؤخذ منه تألف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله (فتح الباري) ، هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منه، وقد سبق بيان أن تشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا، وإنما هو التقريب من الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة الباقية خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها لو تصورت، وفي هذا الحديث بيان فضيلة العلم والدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة (شرح النووي) .

(11/284)


وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللَّه فيه، فو اللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
هكذا سياقة مسلم، وقال فيه البخاري: والنسائي: لأعطين هذه الراية غدا، ولم يذكر النسائي فيه قوله: فبات الناس يذكرون ليلتهم أيهم يعطاها.
ذكره البخاري في غزوة خيبر، وذكره مسلم في المناقب، وذكره النسائي في فضائل على، وذكره البخاري أيضا في الجهاد في باب فضل من أسلم على يديه رجل [ (1) ] ، وذكره في المناقب [ (2) ] من حديث عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح اللَّه على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلهم يرجو أن يعطاها.
فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول اللَّه، قال: فأرسلوا إليه، فأتى [ (3) ] به، فلما جاء بصق في عينيه، فدعا له حتى كأن لم يكن به وجع، الحديث إلى آخره مثله.
وخرّجه في كتاب الجهاد، في باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الإسلام والنبوة [ (4) ] ، من حديث عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، عن سهل بن سعد، سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يفتح اللَّه على يديه، فناموا يرجون ذلك
__________
[ (1) ] حديث رقم (3009) ، باب (143) .
[ (2) ] باب (9) مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي: «أنت مني وأنا منك»
وقال عمر: «توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو، عنه راض» ، حديث رقم (3701) .
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي البخاري:
«فأتوني به» .
[ (4) ] باب (102) دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون اللَّه، وقوله- تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79] ، حديث رقم (2942) .

(11/285)


أيهم يعطي؟ إذ كلهم يرجون أن يعطي [ (1) ] ، فقال: أين علي؟، فقيل: يشتكي عينيه، فأمر فدعا به فبصق في عينيه. فبرأ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال علي رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فو اللَّه لأن يهدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم.
وخرّج البخاري في الجهاد في باب ما قيل في لواء النبي [ (2) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي مناقب علي، وخرّج مسلم في المناقب: كلاهما من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سلمة بن الأكوع، قال: كان علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قد تخلف عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في خيبر كان رمدا، وقال البخاري: وكان به رمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فلما كان في مساء الليلة التي فتحها اللَّه في صباحها، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين الراية أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه اللَّه ورسوله، أو قال: يحب اللَّه ورسوله، يفتح اللَّه عليه، فإذا نحن بعلي، وما نرجوه. فقالوا: هذا على فأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ففتح اللَّه عليه،
لفظهما فيه متقارب.
وخرّج النسائي [ (3) ] من حديث الحسين بن واقد، عن عبد اللَّه بن بريدة، قال: سمعت أبي بريدة يقول: حاصرنا خيبر، فأخذ اللواء أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولم يفتح له وأخذه من الغد عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فانصرف ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رافع لوائي غدا إلى رجل يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له ربنا طيبة أنفسنا أن الفتح غدا فلما أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغداة، ثم قام قائما، ودعا باللواء والناس على مصافهم، فما منا إنسان له منزلة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا هو يرجو أن يكون صاحب اللواء فدعا علي بن
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، وفي البخاري: «فغدوا وكلهم يرجو أن يعطي» .
[ (2) ] باب (121) ، حديث رقم (2975) .
[ (3) ] في كتاب الجهاد من (الكبرى) .

(11/286)


أبي طالب، وهو أرمد فتفل في عينيه ودفع إليه اللواء، وفتح اللَّه له، وقال: أنا فيمن تطاول لها.
وخرّجه من حديث ميمون أبي عبد اللَّه أن عبد اللَّه بن بريدة حدثه عن بريد الأسلمي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: لما كان حيث نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اللواء عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فنهض معه من نهض من الناس فلقوا أهل خيبر، فانكشف هو وأصحابه، فرجعوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين اللواء رجلا يجب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله، فلما كان من الغد تصادر أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فدعا عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو أرمد، فتفل في عينيه، ونهض معه من الناس من نهض، فلقى أهل خيبر،
فإذا مرحب يرتجز وهو يقول:
قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تلهب
وخرّج أبو نعيم من حديث محمد بن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن منذر الثوري قال: سمعت الربيع بن خيثم يقول: أتيت عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فسألته عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لأعطين الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله لا يرجع حتى يفتح اللَّه عليه، فجعل أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتصدونه، فقال: أين على بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول اللَّه إنه أرمد لا يبصر، فأخذ الراية، فدعاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتى به فتفل في عينيه فأبصر، ثم نهر له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: فو الّذي نفسي بيده ما صعد آخرنا حتى فتح اللَّه على أولنا.
ومن حديث عباد بن يعقوب، والنضر بن سعد بن صهيب قالا: حدثنا عبد اللَّه بن بكير، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم خيبر: لأدفعن الراية إلى رجل يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله، لا يرجع حتى يفتح اللَّه

(11/287)


عليه، فأصبح الناس طيبة وجوههم رجاء أن يدفها إليهم، فدعا عليا، وهو أرمد، فتفل في عينيه، ثم دفع الراية إليه، ففتح اللَّه عليه.
وخرّج من حديث أبي عوانة، عن أبي فليح، عن عمرو بن ميمون قال:
كنت عند ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فجاءه نفر تسعة، فقالوا:
يا ابن عباس قم معنا، فقام معهم، فما ندري ما قالوا غير أنه رجع ينفض ثوبه، ويقول: أف وأف وقعوا في رجل قال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأدفعن رايتي هذه إلى رجل يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله، يفتح اللَّه على يديه، فأرسل إلى علي وهو في الرحل يطحن، وما كان أحدهم ليطحن، فجاءوا به رمدا. فقال: يا رسول اللَّه: ما أكاد أبصر، فنفث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينيه وأخذ الراية بيده، فهزها ثلاثا ثم دفعها إليه، ففتح له،
فجاء بصفية بنت حيي.
ومن حديث بكير بن مسمار قال: سمعت عاصم بن سعد يقول: أن أباه سعدا، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين هذه الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله فتطاولنا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أين علي، فقالوا: هو أرمد، قال: فدعوناه، فبصق في عينيه، ثم أعطاه الراية، ففتح اللَّه عليه.
ومن حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، عن مسلم الملامى، عن خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي وقاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين الراية رجلا يحبه اللَّه ورسوله، ويحب اللَّه ورسوله، لا يرجع حتى يفتح عليه، فلما أصبح صلّى الفجر، ثم نظر صلّى اللَّه عليه وسلّم في وجوه الناس، فرأى عليا منكسا في ناحية القوم يشتكي عينيه، فدعاه فقال: يا رسول اللَّه، إني أرمد فأخذ يفتح عينيه، ودعا له، قال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: فو الّذي بعثه بالحق ما اشتكيتها بعد.
وخرّج من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه، ومن حديث أبي عوانة، وأبي بكر بن أبي شيبة عن جرير، ومن حديث هشيم كلهم عن مغيرة، عن أم موسى سرية علي، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ما

(11/288)


رمدت، ولا صدعت، منذ تفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عيني حين بعثني في خيبر، قال: ورواه الحكم [ (1) ] وعيسى عن ابن أبي ليلى، عن علي.
وخرّج من حديث عباد بن يعقوب، قال: حدثنا عمر بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن حبشي قال: سمعت عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: كنت أرمد من دخان الحصن، فدعاني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فتفل في عيني، فما رمدت بعده.
وخرّج من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر بن أبي قحافة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- برايته إلى حصن من خيبر، فقاتل، ولم يك فتح، وقد جهد، ثم بعث عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بالغد، فقاتل ولم يك فتح، وقد جهد. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللَّه ورسوله يفتح اللَّه على يديه ليس بفرار، فدعا بعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو أرمد، فتفل في عينيه، فقال: خذ هذه الراية وامض بها، حتى يفتح اللَّه عليك.
قال سلمة: فخرج بها واللَّه يهرول هرولة، وأنا لخلفه متتبع أثره، حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: يقول اليهودي:
غلبتم [ (2) ] وما أنزل على موسى، أو كما قال، فما رجع حتى فتح اللَّه على يديه [ (3) ] .
قال أبو نعيم، ورواه عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه،
قال: فما رواه سلمة يدل على تقدم علم اليهودي من رواياتهم وكتبهم
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «عليتم» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 209- 2110، باب ما جاء في بعث السرايا إلى حصون خيبر وإخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بفتحها على يدي علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ودعائه له، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة ودلالات الصدق.

(11/289)


بتوجيه من وجه إليهم ويكون الفتح على يديه، ويكون فيه فضيلة شريفة لعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ورواه يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة.
وخرّج من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب أظنه، عن أبي هريرة، ومن حديث معمر، عن عثمان الجريريّ، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله، ليس بفرار يفتح اللَّه خيبر على يديه، فتشرف لها المهاجرون والأنصار، فسأل، عن عليّ فقالوا: هو أرمد، فدعاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فنفث في عينيه، ثم دعا له وأعطاه الراية، ففتح اللَّه على يديه.
ومن حديث مسدد قال: حدثنا أبو عوانة، حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللَّه ورسوله يفتح اللَّه على يديه، فدعا عليا فنفثه، ثم قال: اذهب فقاتل حتى يفتح اللَّه عليك.
وخرّجه من طريق إسرائيل، عن عبد اللَّه بن عصمة، عن أبي سعيد الخدريّ، ومن حديث منصور بن المعتمر، عن ربعي بن خراش، عن عمران ابن حصين، ومن حديث الخليل بن مرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد اللَّه.
ومن حديث أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه
- وبعضهم يزيد على بعض وينقص في حديثه- فالمعنى واحد.
وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد المعروف بالزاهد غلام ثعلب في كتاب (اليواقيت) قال ابن الأعرابي: كانت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وأبو طالب غائب، فوضعته فسمته أسدا يحيي اسم أبيها، فقدم أبو طالب، فسماه عليا، فكانت أم مرحب كاهنة، فقالت: يا مرحب لا تبرز في الحرب إلى رجل يكتنى ويرتجز بحيدرة، فإنه قاتلك، قال: فلما كانت ليلة خيبر قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لأعطين الراية غدا الرجل يحبه اللَّه ورسوله، ويحب اللَّه ورسوله.
قال بعض الأنصار فما زالوا يدوكون تلك الليلة من هو فلما كان الغد، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أين علي؟ فإذا هو عليل، قالوا: هو عليل، قال: أين علي؟
فإذا هو أرمد العين، قال: فجاء وعينه رمدة، فقال: ادن مني، فدنا منه،

(11/290)


فوضع رأسه في حجره، فتفل فيها صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسحها بألية يده، قال: فانفتحت عين علي فرأيتها، وكأنها جزعة من حسنها، قال: فمشى والراية معه، فسمعت صياحه بالنداء، ووجهه إلى العدو وظهره إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يقول: يا رسول اللَّه، علام أقاتل الناس؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: على أن يقولوا لا إله إلا اللَّه وأنى محمد رسول اللَّه.
قال: فجاء إلى اليهود أجمع ما كانوا فشدوا عليه شدة رجل واحد، فيثبت، ثم حملوا عليه، فثبت، فحمل عليهم فانهزموا إلى الحصون، فلما رأوا إمرة علي داروه، وكان مرحب أشجع اليهود فصاحوا: يا مرحب اليوم.
قال: فخرّج مبادرا مدلا، فلما توافقا قال مرحب: ما اسمك يا فتى؟
قال: عليّ، فاطمأن قلبه، وأقبل نحو عليّ وهو يرتجز.
أنا الّذي سمتني أمي مرحب ... شاك سلاحي بطل مجرب
[إذا الليوث أقبلت نلهب ... وأحجمت، عن صولة المغلب] [ (1) ]
قال: فقال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-:
أنا الّذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات غليظ القسورة
ويروى:
أنا الّذي سمتني أمي حيدرة ... أضرب بالسيف رءوس الكفرة
أكيلهم بالصاع كيل السندرة
قال: فضربه على ضربه قده [ (2) ] باثنتين
قال ابن عباس: كانت لعلي ضربتان إذا تطاول قد، وإذا تقاصر قط. قال ثعلب: اختلف الناس في قوله:
السندرة، فقال ابن الأعرابي: هو مكيال كبير مثل القنقل [ (3) ] ، وقال غيره:
__________
[ (1) ] هذا البيت زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] القد: الشق طولا، والقط: الشق عرضا. قال تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ.
[ (3) ] السندرة: السرعة، والسندرة: الجرأة، والسندر: الجريء المتشبع، والسندرة: ضرب من الكيل غراف جراف واسع، والسندر: مكيال معروف:
وفي حديث على- عليه السلام:
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
قال أبو العباس أحمد بن يحيى: لم تختلف الرواة أن هذه الأبيات
لعلي- عليه السلام:

(11/291)


السندرة امرأة كانت تبيع القمح، وكانت توفى الكيل، قال ثعلب: فعلى هذا إني أكيلكم كيلا وافيا. قال: وقال غيرهما: السندرة العجلة، فعلى هذا إني أبادركم، قبل الفرار.
وقال ابن قتيبة: ويحتمل أن يكون مكيالا اتخذ من السندرة، وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي.
قال الأنصاري: فرأيت أم مرحب وهي تندبه وهو بين يديها، فقلت من قتل مرحبا؟ قالت: من كان يقتله إلا أحد رجلين، قلت: من الرجلين؟ قالت:
محمد أو علي، قلت: فمن قتله منهما؟ قالت: علي، قال: وأنشدني:
للَّه در أبي طالب ودر ... رمنجبه لقد انحبى
قال: وكنت في الجيش، فو اللَّه ما استتم به آخرنا حتى فتح على أولنا بركة علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- هكذا ساق غلام ثعلب.
وخرّج البيهقي من حديث يونس بن بكير بن مسلم الأزدي قال: حدثنا عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربما أخذته الشقيقة، فيلبث اليوم، واليومين لا يخرج، ولما نزل خيبر أخذته الشقيقة [ (1) ] فلم يخرج إلى الناس، وإن أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أخذ راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع. فأخذها عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقاتل قتالا هو أشد من القتال الأول، ثم رجع فأخبر بذلك رسول
__________
[ () ]
أنا الّذي سمتني أمى حيدرة ... كليت غابات غليظ القصرة
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
قال: واختلفوا في السندرة. فقال ابن الأعرابي وغيره: هو مكيال كبير ضخم مثل القنقل والجراف، أي أقتلكم قتلا واسعا كبيرا وذريعا، وقيل: السندرة امرأة كانت تبيع القمح وتوفى الكيل، أي أكيلكم كيلا وافيا، وقال آخر: السندرة العجلة، والنون زائدة، يقال: رجل سندرى إذا كان عجلا في أموره حادا، أي أقاتلكم بالعجلة وأبادركم قبل الفرار، ويحتمل أن يكون مكيالا اتخذت من السندرة، وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي، ومنه قيل: سهم سندري. (لسان العرب) : 4/ 382 مختصرا.
[ (1) ] الشقيقة: صداع يعرض في مقدم الرأس.

(11/292)


اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: لأعطينها غدا رجلا يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله، يأخذها عنوة وليس ثم علي، فتطاولت لها قريش ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح وجاء على بعيره حتى أناخ قريبا، وهو أرمد قد عصب عينه بشقة برد قطري.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مالك؟ قال: رمدت بعدك!! قال: ادن منى، فدنا منه، فتفل في عينه فما وجعها حتى مضى بسبيله، ثم أعطاه الراية، فنهض بالراية وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها فأتى مدينة خيبر، وعليه مغفر يماني، وحجر قد نقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي سلاحي بطل مجرب
إذا الليوث أقبلت تلهب ... وأحجمت عن صولة المغلّب
فقال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
أنا الّذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات شديد القسورة
أكيلهم بالصاع كيل السندرة
فاختلفا ضربتين، فبدره على فضربه فقد الحجر والمغفرة، ورأسه ووقع في الأضراس، وأخذ المدينة [ (1) ] .

وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي بالهداية والسداد، وقد ضرب بيده المقدسة في صدره فأجيب فيه دعواته صلوات اللَّه وسلامه عليه
فخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهل اليمن لأقضي بينهم، فقلت: يا رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 211- 212.

(11/293)


لا علم لي بالقضاء [ (1) ] ، فضرب بيده على صدري [ (2) ] ، قال: اللَّهمّ اهد قلبه، وسدد [ (3) ] لسانه، قال: فو الّذي فلق الحبة [ (4) ] فما شككت في قضاء بين اثنين [ (5) ] حتى جلست مجلسى هذا.
وخرّجه عبد بن حميد من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي قال:
بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللَّه تبعثني وأنا شاب أقضى بينهم ولا أدري ما القضاء، فضرب بيده في صدري، وقال: اللَّهمّ أهد قلبه، وثبت لسانه، قال: والّذي فلق الحبة ما شككت بعد في قضاء بين اثنين [ (6) ] .
وخرّجه النسائي من حديث أبي معاوية بمثله قال النسائي: روى هذا الحديث شعبة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، فقال: أخبرني من سمع عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وأرضاه.
__________
[ (1) ] كذا
في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «يا رسول اللَّه تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدرى ما القضاء؟.
[ (2) ] كذا في (الأصل) وفي (دلائل البيهقي) :
«في صدري» .
[ (3) ] كذا في (الأصل) وفي (دلائل البيهقي) :
«وثبت» .
[ (4) ] ما بين الحاضرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 397، باب بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى أهل بحران، وبعثه الى اليمن بعد خالد بن الوليد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهذا الحديث إسناده ضعيف لانقطاعه، وأبو البختري ثبت، ولم يسمع من علي شيئا، قاله ابن معين، والحديث في (طبقات ابن سعد) ، (سنن ابن ماجة) ، (ومسند أحمد) ، وله إسناد متصل، عند أبي داود، وروى الترمذي بعضه وحسنة،
ورواه الإمام أحمد في (المسند) باسناد صحيح، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه، أنك تبعثني إلى قوم هم أنس منى لأقصى بينهم، قال: اذهب، فإن اللَّه- تعالى- سيثبت لسانك ويهدى قلبك.
(هامش الدلائل) .
[ (6) ] راجع التعليق السابق.

(11/294)


قال النسائي والبختري: لم يسمع من على شيئا، ولم يره أيضا، وقال يحيى بن معين: أبو البختري الطائي اسمه سعد، وهو ثبت ولم يسمع من علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- شيئا.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة سمع أبا البختري يقول: حدثني من سمع عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: لما بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه تبعثني وأنا رجل حديث السن لا علم لي بكثير من القضاء، قال: فضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده في صدري، وقال: إن اللَّه- عز وجل- سيثبت لسانك، ويهدي قلبك، قال: فما أعياني قضاء بين اثنين.
وخرّجه ابن عساكر من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
ومن حديث جعفر بن محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومن حديث شريك، عن سماك، عن حنش، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومن حديث سلمة الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما.

وأما صرف الوباء عن المدينة النبويّة وانتقال الحمى عنها إلى الجحفة ببركة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البخاري من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أنها قالت: لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وعك أبو بكر وبلال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قالت:
فدخلت عليهما يا أبه كيف تجدك؟ ويا بلال [فقلت:] كيف تجدك؟ قالت:
وكان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إذا أخذته الحمى يقول
كل امرئ مصح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته، ويقول:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل

(11/295)


وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته، فقال: اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أشد وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها، فاجعلها بالجحفة.
ذكره في باب من دعا برفع الوباء والحمى [ (1) ] ، وفي كتاب الهجرة [ (2) ] ، وفي كتاب المرضي في باب عيادة النساء [ (3) ] الرجال.
__________
[ (1) ] حديث رقم (5677) باب (22) من كتاب المرضي قوله: (باب الدعاء برفع الوباء والحمى) الوباء يهمز، وجمع المقصور بلا همز أوبية، وجمع المهموز أوباء، يقال أوبأت الأرض فهي مؤبئة، ووبئت بضم الواو فهي موبوءة، قال عياض: الوباء عموم الأمراض، وقد أطلق بعضهم على الطاعون أنه وباء لأنه من أفراده، لكن ليس كل وباء طاعونا، وعلى ذلك يحمل قول الداوديّ لما ذكر الطاعون: الصحيح أنه الوباء، وكذا جاء، عن الخليل بن أحمد أن الطاعون هو الوباء، وقال ابن الأثير في النهاية: الطاعون المرض العام، والوباء الّذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان، وقال ابن سيناء: الوباء ينشأ، عن فساد جوهر الهواء الّذي هو مادة الروح ومدده، قلت: ويفارق الطاعون الوباء بخصوص سببه الّذي ليس هو كونه من طعن الجن كما سأذكره مبينا في «باب ما يذكر من الطاعون» من كتاب الطب إن شاء اللَّه تعالى.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 333، كتاب مناقب الأنصار، باب (46) مقدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه المدينة، حديث رقم (3926) قوله: (قدمنا المدينة) في رواية أبي أسامة، عن هشام «هي أوبأ أرض اللَّه» وفي رواية محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة نحوه وزاد «قال هشام وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له انهق، فينهق كما ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر لعمري لئن غنيت من خفة الردى ... نهيق حمار أننى لمروع قوله: (وعك) بضم أوله وكسر ثانيه أي أصابه الوعك وهي الحمى. قوله: (كيف تجدك) أي تجد نفسك أو جسدك، وقوله: (مصبح) بمهملة ثم موحدة وزن وقد يفجأه الموت في بقية النهار وهو مقيم بأهله. قوله: (شراك) بكسر المعجمة وتخفيف الراء: السير الّذي يكون في وجه النعل، وألم، عنى أن الموت أقرب إلى الشخص من شراك نعله لرجله. قوله: (أقلع، عنه) بفتح أوله أي الوعك وبضمها، والإقلاع الكف، عن الأمر. قوله: (يرفع عقيرته) أي صوته

(11/296)


وخرّجه في آخر كتاب الحج [ (1) ] ، من حديث أبي أسامة، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: لما قدم
__________
[ () ] ببكاء أو بغناء، قال الأصمعي: أصلة أن رجلا انعقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال: رفع عقيرته، وإن لم يرفع رجلة قال ثعلب وهذا من الأسماء التي استعملت على غير أصلها. قوله: (وجليل) بالجيم موضع على أميال من مكة وكان به سوق، تقدم بيانه في أوائل الحج. قوله «يبدون» أي يظهر، وشامة وطفيل جبلان بقرب مكة، وقال الخطابي: كنت أحسب أنهما جبلان حتى ثبت، عندي أنهما عينان، وقوله: «أردن ويبدون» بنون التأكيد الخفيفة، وشامة بالمعجمة والميم مخففا، وزعم بعضهم أن الصواب بالموحدة بدل الميم والمعروف بالميم، وزاد المصنف أخر كتاب الحج من طريق أي اسامة، عن هشام به «ثم يقول بلال: اللَّهمّ العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا» أي أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا، وزاد ابن إسحاق في روايته، عن هشام وعمرو بن عبد اللَّه ابن عروة، عن عائشة عقب قول أبيها «فقلت واللَّه ما يدري أبي ما يقول» . قالت: «ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة وذلك أن يضرب علينا الحجاب- فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقة ... كالثور يحمي جسمه برقه
وقالت في آخره: «فقلت: يا رسول اللَّه انهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى» .
والزيادة في قوله عامر بن فهيرة رواها مالك أيضا في «الموطإ» ، عن يحيى بن سعيد، عن عائشة منقطعا.
[ (3) ] باب (8) ، حديث رقم (5654) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 124، كتاب فضائل المدينة، باب (12) بدون ترجمة، حديث رقم (1889) ، وفيه بعد
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «وانقل حماها إلى الجحفة» :
«قالت وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض اللَّه، فكان بطحان يجرى نجلا، تعنى ماء أجنا قوله: (قالت) يعنى عائشة، والقائل عروة متصل. قوله: (وهي أوبأ) بالهمز بوزن أفعل من الوباء والوباء مقصور يهمز ويغير همز هو المرض العام، ولا يعارض قدومهم عليها وهي بهذه الصفة نهيه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عن القدوم على الطاعون، لأن ذلك كان قبل النهى، أن النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع لا

(11/297)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وعك أبو بكر، وبلال، وكان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللَّهمّ العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء، قم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللَّهمّ بارك لنا في صاعنا، وفي مدنا وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة. قالت:
وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قالت: فكان بطحان يجرى ثجلا يعني ماء أجنا.
__________
[ () ] المرض ولو عم. قوله: (قالت فكان بطحان) يعنى واد بالمدينة وقولها: (يجرى نجلا، تعنى ماء آجنا) هو من تفسير الراويّ، عنها، عرضها بذلك بيان السبب في كثرة الوباء بالمدينة، لأن الماء الّذي هذه صفته يحدث، عنده المرض، وقيل: النخل الزيتون وزاي، يقال استنجل الوادي إذا ظهر نزورة. و «نجلا» بفتح النون وسكون الجيم وقد تفتح حكاه ابن التين، وقال ابن فارس: النجل بفتح الجيم سعة العين وليس هو المراد هنا، وقال ابن السكيت: النجل العين حين تظهر وينبع عين الماء. وقال الحربي نجلا أي واسعا، ومنه عين نجلاء أي واسعة، وقيل: هو الغدير الّذي لا يزال فيه الماء. قوله: (تعنى ماء آجنا) بفتح الهمزة وكسر الجيم بعدها نون أي متغيرا، قال عياض: هو خطأ ممن فسره فليس المراد هنا الماء المتغير. قلت: وليس كما قال فأن عائشة قالت ذلك في مقام التعليل لكون المدينة كانت وبيئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بكونه الماء الحاصل من النز فهو بصدد أن يتغير» وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء في العادة.
أما أثر عمر فذكر ابن سعد سبب دعائه بذلك، وهو ما أخرجه بإسناد صحيح، عن عوف بن مالك أنه رأى رؤيا فيها أن عمر شهيد مستشهد، فقال لما قصها عليه أنى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب لست أغزو والناس حولي ثم قال: بلى بها اللَّه إن شاء.

(11/298)


وخرّجه في كتاب الدعاء من حديث سفيان، عن هشام بن عروة، عن عائشة قالت: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللَّهمّ بارك لنا في مدنا وصاعنا،
ذكره في باب الدعاء برفع الوباء [ (1) ] .
وخرّجه مسلم [ (2) ] من حديث عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قدمنا المدينة وهي وبئة، فاشتكى أبو بكر واشتكى بلال- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شكوى أصحابه قال: اللَّهمّ حبب
__________
[ (1) ] حديث رقم (6372) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 158- 159، كتاب الحج، باب (86) الترغيب في سكنى المدينة والصبر على وبائها، حديث رقم (1374) ، قولها (قدمنا المدينة وهي بيئة) وهي بهمزة ممدودة يعنى ذات وباء بالمد والقصر وهو الموت الذريع هذا أصلة ويطلق أيضا على الأرض الوخمة التي تكثر بها الأمراض لا سيما للغرباء الذين ليسوا مستوطنيها. فإن قيل كيف قدموا على الوباء وفي الحديث الآخر في الصحيح النهى، عن القدوم النهى عن القدوم عليه فالجواب من جهتين ذكرهما القاضي أحدهما أن القدوم كان قبل النهي، لأن النهي كان في المدينة بعد استيطانها، والثاني أن المنهي، عنه هو القدوم على الوباء الذريع والطاعون، وأما هذا الّذي كان المدينة فإنما كان وخما يمرض بسببه كثير من الغرباء واللَّه أعلم.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: (وحول حماها إلى الجعفة)
قال الخطابي وغيره: كان ساكنو الجحفة في ذلك الوقت يهودا، ففيه دليل للدعاء على الكفار بالأمراض والأسقام والهلاك وفيه الدعاء للمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها وكشف الضر والشدائد، عنهم وهذا مذهب العلماء كافة قال القاضي وهذا خلاف قول بعض المتصرفة أن الدعاء قدح في التوكل والرضا وانه ينبغي تركه وخلاف قول بعض المتصوفة ان الدعاء قدح في التوكل والرضا وانه ينبغي تركه وخلاف قول المعتزلة أن لا فائدة في الدعاء مع سبق القدر ومذهب العلماء كافة أن الدعاء عبادة مستقلة ولا يستجاب منه إلا ما سبق به القدر واللَّه اعلم، وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوة نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم فان الجعفة من يومئذ مجتنبة ولا يشرب أحد من مائها إلا حم. ورواه الإمام مالك في (الموطأ) في الجامع، باب ما جاء في وباء المدينة.

(11/299)


إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها، ومدها وحول حماها إلى الجحفة.
وخرّجه أيضا من حديث أبي أسامة، وابن نمير، عن هشام بن عروة [ (1) ]
قال ابن عبد البر: وقد ذكر حديث خالد، عن هشام، ولم يختلف رواة الموطأ فيها علمت، عن مالك في إسناد هذا الحديث ولا في متنه، ولم يذكر مالك- رحمه اللَّه- فيه قول عامر بن فهيرة، وسائر رواة هشام يذكرون عنه فيه بهذا الإسناد.
وذكره مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد قال: قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: وكان عامر بن فهيرة يقول:
قد رأيت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
قال: ورواه ابن عيينة، ومحمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فجعلا الداخل على أبي بكر وبلال وعامر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لا عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها.
وقد تابع مالكا على روايته في ذلك سعيد بن عبد الرحمن، فذكر من طريق ابن وهب قال: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أنها قالت: لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وعك أبو بكر وبلال وعامر بن فهيرة، قالت: فدخلت عليهم، وهم في بيت، فقلت: يا أبه كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
ويقول عامر بن فهيرة:
قد ذقت طعم الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
وكان بلال إذا أقلع عنه يقول: ألا ليت شعرى، فذكر البيتين والحديث إلى آخره كرواية مالك سواء إلا أنه ذكر فيه قول عامر بن فهيرة كما ترى، وجعل الداخلة عليهم عائشة.
__________
[ (1) ] الحديث الّذي يليه بدون متن وبدون رقم.

(11/300)


وأما
حديث سفيان بن عيينة، فذكره من طريق الحميدي قال: حدثنا سفيان حدثنا هشام بن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت دخل رسول اللَّه المدينة مع أصحابه، فدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يعوده، فقال: كيف تجدك يا أبا بكر؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت: ودخل على عامر بن فهيرة، فقال: كيف تجدك؟ فقال:
وجدت وجدت طعم الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كالثور يحمى جلده بروقه
قالت: ودخل على بلال، فقال: كيف تجدك؟ فقال:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بفج وحولي إذخر وجليل
وربما قال سفيان براد:
وهل أردن يوما مياة مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لأهل مكة، اللَّه بارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، وبارك لنا في مدينتنا.
قال سفيان: ورواه، قال في فرقنا اللَّه: اللَّهمّ حببنا فيها ضعفي ما حببت إلينا مكة أو أشد، وصححها، وانقل وباءها إلى خم أو الجحفة،
هكذا قال ابن عيينة في هذا الحديث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هو كان الداخل على أبي بكر وعلي بلال وعامر بن فهيرة يعودهم، وهو كان المخاطب لهم، وشك في قوله بلال في البيت الّذي أنشده بفج أو بواد.
وقال في حديثه: وانقل وباءها إلى مهيعة وهي الجحفة،
قال ابن عبد البر:
وقد روي ابن أبي الزناد، عن موسى ابن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: رأيت في المنام امرأة سوداء ثائرة ثقيلة، أخرجت من المدينة فأسكنت مهيعة، فأولتها وباء المدينة ينقله اللَّه إلى مهيعة.
قال كاتبه وقد خرج البخاري في هذا الحديث من طريق سليمان بن بلال، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت

(11/301)


كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس [ (1) ] ، خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة وهي الجحفة، فأولت أن وباء المدينة ينقل إليها.
ترجم عليه باب إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة، فأسكنه موضعا آخر [ (2) ] .
وخرّجه في باب المرأة السوداء، من حديث فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثني سالم بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في المدينة: رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة، وهي الجحفة [ (3) ] .
وخرّجه في باب المرأة الثائرة الرأس [ (4) ] من حديث سليمان ابن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت....
وقد خرّج البيهقي [ (5) ] وغيره من حديث مسدد حدثنا حماد بن زيد، عن هشام، عن عروة، عن عائشة قالت: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وهي وبئة،
__________
[ (1) ] في (الأصل) :
«ثائرة الشعر»
وما أتيناه من البخاري.
[ (2) ] باب (41) ، حديث رقم (7038) من كتاب التعبير.
[ (3) ] باب (42) ، حديث رقم (7039) من كتاب التعبير.
[ (4) ] باب (43) ، حديث رقم (7040) من كتاب التعبير.
[ (5) ] (دلائل النبوة) : 2/ 586، باب ما لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وباء المدينة حين قدموها، وعصمة اللَّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عنها، ثم ورد في دعائه بتصحيحها لهم ونقل وبائها عنهم إلى الجحفة، واستجابة دعائه، ثم تحريمه المدينة ودعائه لأهلها بالبركة، وعنه نقله الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيئا فأسرف عليه إنسان قيل له: انهق كنهق الحمار! فإذا فعل ذلك لم يضرة وباء ذلك الوادي، وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة:
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهيق الحمار إنني لجزوع

(11/302)


فذكر الحديث، قال: وقال: هشام: فكان المولود يولد بالجحفة، ولا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى.
وقال الواقدي في غزوة بدر: لما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيوت السقيا، فحدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد اللَّه بن قتادة، عن أبيه أن رسول اللَّه عند بيوت السقيا، ودعا يومئذ لأهل المدينة، فقال: اللَّهمّ إن إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيك دعاك لأهل مكة، وإني محمد عبدك ونبيك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم، ومدهم، وثمارهم، اللَّهمّ حبب إلينا المدينة واجعل ما بها من الوباء بخم [ (1) ] ، اللَّهمّ إني قد حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم خليلك مكة [ (2) ] .
__________
[ () ] قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فاشتكى أبو بكر وبلال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وذكر الحديث بنحو حديث أبي أسامة، إلا أنه قال: فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما أصاب أصحابه، دعا اللَّه، فذكره
وقال فيه: وبارك لنا في صاعها ومدها. (دلائل البيهقي) : 2/ 576.
[ (1) ] خم: على ميلين من الجحفة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 22.

(11/303)


وأما شفاء سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وإتمام اللَّه تعالى هجرته بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ووقوع ما أشار به صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البخاري من حديث الجعيد، عن عائشة بنت سعد أن أباها قال:
تشكيت بمكة شكوى شديدة، فجاءني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعودني، فقلت: يا نبي اللَّه إني أترك مالا، وإني لا أترك إلا ابنة واحدة، وأوصى بثلثي مالي، وأترك الثلث؟
قال: لا، فقلت: فأوصى بالثلث وأترك لها الثلثين؟ قال: الثلث، والثلث كثير، ثم وضع يده على جبهتي، ثم مسح وجهي وبطني، ثم قال: اللَّه اشف سعدا وأتمم له هجرته، فما زلت أجد برد يده على كبدي فيما يخيل إلى حتى الساعة.
ذكره في كتاب المرضي، وترجم عليه باب وضع اليد [ (1) ] على المريض.
وخرّجه النسائي [ (2) ] بهذا الإسناد بمعناه، قال: وصح وجهي وصدري وبطني، وقال: فما زلت أجد أحد برد يده على كبدي حتى الساعة.
وخرّجه مسلم من حديث الثقفي، عن أيوب السختياني، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدث، عن أبيه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على سعد يعوده بمكة، فبكى، فقال: ما يبكيك؟
فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اشف سعدا- ثلاث مرات، فقال: يا رسول اللَّه إن لي مالا كثيرا، وإنما ترثني أفأوصى بمالي كله؟ قال: لا، قال: فبالثلثين؟ قال: لا،
__________
[ (1) ] باب (12) وضع اليد على المريض، حديث رقم (5659) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 6/ 553، كتاب الوصايا، باب (3) الوصية بالثلث، حديث رقم (3631) ، وقد الفرد به النسائي في (المجتبى) ، ولكن حديث الباب في عشرة النساء من (الكبرى) باب ثواب النفقة التي يبتغى بها وجه اللَّه- تعالى، حديث رقم (325) .

(11/304)


قال فبالنصف؟ قال: لا قال: فبالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إن صدقتك من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإنك تدعهم يتكففون الناس وقال بيده [ (1) ] .
وخرّجه أيضا من حديث حماد بن زيد قال: حدثنا أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن ثلاثة من ولد سعد، قالوا:
مرض سعد بمكة، فأتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده، فذكره بنحو حديث الثقفي [ (2) ] .
وخرّجه من حديث عبد الأعلى، حدثنا هشام، عن محمد بن حميد بن عبد الرحمن، قال: حدثني ثلاثة من ولد سعد بن مالك كلهم يحدثنه بمثل حديث صاحبه، فقال: مرض سعد بمكة، فأتاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده بنحو حديث عمرو بن سعيد، عن الحميري [ (3) ] .
وخرّج البخاري من حديث زكريا بن عدي: حدثنا مروان، عن هاشم بن هاشم، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: مرضت عادني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه ألا يردني على عقبي، قال: لعل اللَّه يرفعك وينفع بك ناسا، فقلت: أريد أن أوصى وإنما لي ابنة، فقلت: أوصى بالنصف؟
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 90، كتاب الوصية باب (1) الوصية بالثلث، حديث رقم (8) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (9) قوله: (عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدثه، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على سعد يعوده بمكة) في الرواية الأخرى، عن حميد، عن ثلاثة من ولد سعد قالوا مرض سعد بمكة فأتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده فهذه الرواية مرسلة والأولى متصلة لأن أولاد سعد تابعيون وانما ذكر مسلم هذه الروايات المختلفة في وصله وإرساله ليبين اختلاف الرواة في ذلك قال القاضي وهذا وشبهه من العلل التي وعد مسلم في خطبة كتابه أنه يذكرها في مواضعها، فظن ظانون أنه يأتي بها مفردة، وانه توفى قبل ذكرها والصواب أنه ذكرها في تضاعيف كتابه كما أوضحناه في أول هذا الشرح، ولا بقدح هذا الخلاف في صحة هذه الرواية ولا في صحة أصل الحديث، لأن أصل الحديث ثابت من طرق من غير جهة حميد، عن أولاد سعد، وثبت وصله، عنهم في بعض الطرق التي ذكرها مسلم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث رقم (9) بدون رقم.

(11/305)


قال: النصف كثير، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كبير وكثير، قال: فأوصى الناس بالثلث، فجاز ذلك لهم ذكره في باب الوصية بالثلث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 464، كتاب الوصايا، باب (3) الوصية بالثلث وقال الحسن: لا يجوز للذمي وصية إلا الثلث، وقال اللَّه عز وجل: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:
49] ، حديث رقم (2744) قوله: (باب الوصية بالثلث) أي جوازها أو مشروعيتها، وقد سبق تقرير ذلك في الباب الّذي قبله، واستقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث، لكن اختلف فيمن كان له وارث، وسيأتي تحريره في «باب لا وصية الوارث» وفيمن لم يكن له وارث خاص فمنعه الجمهور وجوزه الحنففية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية، وهو قول علي وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة بالآية فقيدتها السنة بمن له وارث فيبقى من لا وارث له على الأطلاق، وقد تقدم في الباب الّذي قبله توجيه لهم آخر، واختلفوا أيضا هل يعتبر ثلث المال حال الوصية أو حال الموت؟ على قولين، وهما وجهان للشافعية أصحهما الثاني، فقال بالأول مالك وأكثر العراقيين وهو قول النجعى وعمر بن عبد العزيز، وقال بالثاني أبو حنيفة وأحمد والباقون وهو قول علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه وجماعة من التابعين، وتمسك الأولون بأن الوصية عقد والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله، اعتبر ذلك حالة النذر اتفاقا، وأجيب بأن الوصية ليست عقدا من كل جهة، ولذلك لا تعتبر بها الفورية ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصية بأنها يصح الرجوع عنها والنذر يلزم بما علمه الموصي دون ما خفي غليه أو تجدد له ولم يعلم به؟ وبالأول قال الجمهور، وبالثاني قال مالك وحجة أنه لا يشترط ان يستحضر تعداد مقدار المال حالة الوصية اتفاقا، ولو كان عالما بجنسه، فلو كان العلم به شرطا لما جاز ذلك، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصية، اختلفوا أيضا: هل يحسب الثلث من جميع المال أو تنفذ (فائدة) : أول من أوصى بالثلث في الإسلام البراء بن المعرور بمهملات، أوصى به للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان قد مات قبل أن يدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة بشهر، فقبله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ورده على ورثته، أخرجه الحاكم وابن المنذر من طريق يحيى بن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، عن جده.
قوله: (وقال الحسن) أي البصري (لا يجوز للذمي وصية إلا بالثلث) ، قال ابن بطال:
أراد البخاري بهذا الرد على من قال كالحنفية بجواز الوصية بالزيادة على الثلث لمن لا وارث له، قال: ولذلك احتج بقول اللَّه- تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ والّذي حكم به

(11/306)


وقد خرّج البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق إبراهيم بن سعد، قال:
حدثنا ابن شهاب، حدثنا عامر بن سعد عن أبيه، ومن حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه، ومن حديث سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه.
وخرّجه مسلم من حديث زهير: حدثنا سماك بن حرب قال: حدثني مصعب بن سعد، عن أبيه، ولم يذكر دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لسعد بالشفاء.
__________
[ () ] النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الثلث هو الحكم بما أنزل اللَّه، فمن تجاوز ما حده فقد أتى ما نهى عنه، وقال ابن المنير: لم يرد البخاري هذا، وإنما أراد الاستشهاد بالآية على أن الذمي إذا تحاكم إلينا ورثته لا ينفذ من وصيته إلا الثلث، لأنا لا نحكم فيهم إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الآية، قوله: (، عن هاشم بن هاشم) أي ابن عتبة بن أبي وقاص، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين، لأنه يروى، عن مكي بن إبراهيم، ومكي يروى، عن هاشم المذكور، وسيأتي في مناقب سعد له بهذا الإسناد حديث، عن مكي، عن هاشم، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قوله: (فقلت يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن لا يردني على عقبي) هو إشارة إلي ما تقدم من كراهية الموت بالأرض التي هاجر منها وقد تقدم توجيهه وشرحه في الباب الّذي قبله،
قوله: (لعل اللَّه يرفعك)
زاد أبو نعيم في (المستخرج) في روايته من وجه آخر، عن زكريا بن عدي «عنى يقيمك من مرضك» ،
قوله: في هذه الرواية (قلت أوصى بالنصف؟
قال: النصف كثير)
لم أر في غيرها من طرقه وصف النصف بالكثرة فكيف امتنع النصف دون الثلث؟ وجوابه أن الرواية الأخرى التي فيها جواب التي فيها جواب النصف دلت على منع النصف ولم يأت مثلها في الثلث بل اقتصر على وصفه بالكثرة، وعلل بأن إبقاء الورثة أغنياء أولى، وعلى هذا فقوله: «الثلث» خبر مبتدإ محذوف تقديره مباح، ودل قوله: «والثلث كثير» على أن الأولى أن ينقص منه، واللَّه- تعالى- أعلم، قوله: (قال وأوصى الناس بالثلث فجاز ذلك لهم) ظاهرة أنه من قول سعد بن أبي وقاص، ويحتمل أن يكون من قول من دونه واللَّه- تعالى- أعلم، وكان البخاري قصد بذلك الإشارة إلى أن النقص من الثلث في حديث ابن عباس للاستحباب لا للمنع منه، جمعا بين الحديثين، واللَّه أعلم.

(11/307)


ذكره البخاري في حجة الوداع، وفي كتاب الهجرة [ (1) ] ، وفي كتاب الدعاء في باب الدعاء برفع الوباء والوجع [ (2) ] ، وذكره في الفرائض في باب ميراث البنات [ (3) ] ، وذكره في كتاب الوصايا [ (4) ] ، وفي كتاب النفقات في باب فضل النفقة على الأهل [ (5) ] .
وأورده مالك (في الموطأ) [ (6) ] ، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: جاءني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعودني في عام حجة الوداع وبي وجع قد اشتد بي، فقلت: يا رسول اللَّه قد اشتد بي الوجع، ما ترى وأنا ذو مال ولا ترثني ألا كلالة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت:
فالشطر؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير وكبير، ما إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك، قال: قلت: يا رسول اللَّه أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به رفعة ودرجة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، اللَّهمّ أمض لأصحابي هجرتهم، لا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثى له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن مات بمكة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 343، كتاب (مناقب الأنصار) ، باب (49)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللَّهمّ أضمن لأصحابي هجرتهم» ،
ومرثيته لمن مات بمكة، حديث رقم (3936) ، والمرئية تعديد محاسن الميت، والمراد هنا التوجع له، لكونه مات في البلد الّذي هاجر منه.
[ (2) ] باب (42) الدعاء برفع الوباء والوجع، حديث رقم (6373) .
[ (3) ] باب (6) ميراث البنات، حديث رقم (6733) .
[ (4) ] باب (2) أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، حديث رقم (2742) .
[ (5) ] باب (1) فصل النفقة على الأهل، وقول اللَّه- عز وجل: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وقال الحسن: العفو: الفضل، حديث رقم (5354) .
[ (6) ] (الموطأ) : 541، الوصية في الثلث لا يتعدى.

(11/308)


قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث قد اتفق أهل العلم على صحة إسناده إلا أن في بعض ألفاظه اختلافا عند نقلته، فمن ذلك أن ابن عيينة قال فيه: عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه: مرضت عام الفتح، انفرد بذلك، عن ابن شهاب، وقد روينا هذا الحديث من طريق معمر ويونس ابن يزيد، وعبد العزيزي بن أبي سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن أبي عتيق وإبراهيم بن سعد، وكلهم قال فيه:، عن ابن شهاب عام حجة الوداع، كما قال مالك، قال يعقوب ابن شبة، سمعت علي بن المدني، وذكر الحديث فقال: وقال معمر ويونس، وذلك حجة الوداع وقال ابن عيينة عام الفتح، قال: والذين قالوا حجة الوداع أصوب.
قال أبو عمر بن عبد البر، لم أجد ذكر عام الفتح إلا في رواية ابن عيينة، لهذا الحديث، وفي حديث عمر والقاري رجل من الصحابة في هذا الحديث.
رواه عفان بن مسلم، عن وهيب بن جابر، عن عبيد اللَّه بن عثمان بن خثيم، عن عمرو بن القاري، عن أبيه، عن جده عمرو القاري، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قدم مكة عام الفتح، فخلف سعدا مريضا، حتى يخرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرا، دخل عليه وهو وجع مغلوب، فقال سعد: يا رسول اللَّه إن لي مالا وإني أورث كلالة أفأوصى بمالي كله؟ أو تصدق بمالي كله؟ قال: لا،
وذكر الحديث هذا في حديث عمرو القاري أفأوصى على الثلث أيضا.
وأما حديث ابن شهاب، فلم يختلف عنه أصحابه لا ابن عيينة ولا غيره أنه قال فيه: أفأتصدق بمالي كله؟ أو بثلثي مالي؟ ولم يقل: أفأوصى.
قال أبو عمرو: وأما قول سعد أأخلف بعد أصحابي؟ فمعناه عندي:
أتخلف بمكة بعد أصحابي المهاجرين والمنصرفين معك إلى المدينة، ويحتمل أن يكون لما سمع
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه،
وتنفق فعل مستقبل أنفق أنه لا يموت من مرضه ذلك، فأستفهمه هل يبقى بعد أصحابه؟
فأجابه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بضرب من قوله: لن تنفق نفقه تبتغي بها وجه اللَّه، وهو قوله: إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به رفعة ودرجة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون،
وهذا كله ليس

(11/309)


بصريح، ولكنه قد قال كل ما قاله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصدق في ذلك ظنه، وعاش سعد حتى انتفع به قوم، واستضر به آخرون.
روى أن وهبا قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشبح، قال: سألت عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبيه عام حجة الوداع: لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون. فقال:
أمر سعد على العراق، فقتل أقواما على ردة، فأضربهم، واستتاب قوما سجعوا سجع مسيلمة، فتابوا، فانتفعوا به.
قال أبو عمر: مما يشبه قوله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لسعد هذا الكلام قوله للرجل الشعث: ما له ضرب اللَّه عنقه؟ فقال الرجل: في سبيل اللَّه؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: في سبيل اللَّه، فقتل الرجل في تلك الغزوة
ومثله
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة مؤتة أميركم زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد اللَّه بن رواحة.
فقال بعض أصحابه: نعى إليهم أنفسهم، فقتلوا بالاسهم في تلك الغزاة، وتلك ومثل ذلك أيضا
قصة عامر بن سنان حين ارتجز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى خيبر، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: غفر لك ربك يا عامر؟ فقال له عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: يا رسول اللَّه لو أسعدتنا به؟ قال: وذلك أنه ما استغفر لإنسان قط إلا استشهد،
فاستشهد عامر يوم خيبر، وهذا كله ليس بتصريح من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القول، ولا يبقين في المراد والمعنى، ولكنه كان يخرج كله كما ترى.
وقد خلف سعد بن أبي وقاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بعد حجة الوداع نحو خمسين وأربعين سنة، وتوفى في سنة خمس وخمسين.

(11/310)


وأما شفاء أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث بشر بن المفضل قال: حدثنا شاكر أبو الفضل قال: حدثني رجل من آل الزبير أن أسماء بنت أبي بكر أصابها ورم في رأسها، ووجهها، وأنها بعثت إلى عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: اذكري وجعي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعل اللَّه يشفيني، فذكرت عائشة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجع أسماء، فانطلق حتى دخل على أسماء، فوضع يده على وجهها ورأسها من فوق الثياب، فقال: بسم اللَّه أذهب سوءه، وفحشه بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك، بسم اللَّه- ضع ذلك ثلاث مرات- فأمرها أن تقول ذلك، فقالت: ثلاثة أيام فذهب الورم،
قال أبو الفضل: يصنع ذلك عند حضور الصلوات المكتوبة يقولها ثلاثا.

وأما استجابة دعاء المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم لابن المرأة
فخرّج البيهقي [ (2) ] من طريق ابن عون، عن محمد بن سيرين: أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: هذا ابني، وقد أتى عليه كذا وكذا، على اللَّه أن يميته، فقال: أدعو اللَّه- عز وجل- أن يشفيه ويثبت به، ويكون رجلا صالحا، فيقاتل في سبيل اللَّه- تعالى- فيقتل فيدخل الجنة، فدعا له، فشفاه اللَّه عز وجل وثبت، وكان رجلا صالحا، فقاتل في سبيل اللَّه، فقتل فدخل الجنة،
قال البيهقي: هذا من تمثيل جيد.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 181- 182، باب ما جاء في دعائه لعلى بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولغيره بالشفاء، وإجابة اللَّه تعالى فيما دعاه.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 182.

(11/311)


وأما ظهور بركة دعائه في طول قامة رجل ولد صغير الخلقة
فقال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه، قال: ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو ألطف من ولد، فأخذه جده أبو أمه أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري في ليفة فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هذا منك يا أبا لبابة؟، قال: ابن ابنتي يا رسول اللَّه: أرأيت مولودا أصغر خلقة منه؟! فحنكه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومسح على رأسه، ودعا فيه بالبركة. قال: فما رئي عبد الرحمن بن زيد مع قوم في صف إلا فرعهم طولا
[قال مصعب: كان عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فيما زعموا أطول الرجال وأتمهم [ (1) ]] .

وأما شفاء الصبى من الجنون بمسح الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه ودعائه له
فخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن مرقد السنجى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن امرأة جاءت بابن لها، فقالت: يا رسول اللَّه إن بابني جنون وإنه يأخذه عند غدائنا، وعشائنا، فيفسد علينا، قال: فمسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه ودعائه فثع ثعة، فخرج من جوفه مثل الجر والأسود يسعى، وخرّجه أبو نعيم [ (3) ] من حديث حجاج بن المنهال، عن حماد بمثله.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 2/ 833، ترجمة رقم (1415) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 186، باب ما جاء في المرأتين اللتين اغتابتا وهما صائمتان، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة ودلالة صدق القرآن، وفيه حديث الصبى الّذي كان يجن فدعا له فخرج من جوفه جرو أسود.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 465، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشفاء المريض، حديث رقم (395) ، أخرجه الإمام أحمد في (المسند) برقم (2133) و (2288) ، والدارميّ برقم (19) ، ثغ: قاء.

(11/312)


وأما استجابة اللَّه دعاءه صلّى اللَّه عليه وسلّم للمرأة التي كانت تنكشف إذا صرعت
فخرّج البخاري من حديث مسدد قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عمران أبو كر قال: حدثني عطاء ابن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت:
بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع اللَّه لي، قال: إن شئت صبرت، ولك الجنة، وإن شئت دعوت اللَّه أن يعافيك، قالت: أصبر، فقالت: أنى أتكشف فادع اللَّه لي ألا أتكشف، فدعا لها [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 141، كتاب المرضي، باب (6) فضل من يصرع من الريح، حديث رقم (5652) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
قوله: «باب فضل من يصرع من الريح» ، انحباس الريح قد يكون سببا للصراع، وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسية، عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الرماغ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصبا بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصراع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية، وإما لإيقاع الأذية به، والأول هو الّذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها، وممن نص على ذلك أبقراط، فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الّذي سببه أخلاط، وأما الّذي يكون من الأرواح فلا، قوله:
(وأني أتكشف)
بمثناة وتشديد المعجمة من التكشف، وبالنون الساكنة مخففا من الانكشاف، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر، وذكر ابن سعد وعبد الغنى في «المبهمات» من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالزيارة كما سيأتي ذكرها في كتاب الأدب إن شاء اللَّه تعالى، وقد يؤخذ من الطرق التي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط،
وقد أخرجه

(11/313)


وخرّجه مسلم [ (1) ] من حديث عبيد اللَّه القواريري، عن يحيى بن سعيد وبشر ابن المفضل قالا: حدثنا عمران أبو الفضل، فذكره وخرّجه النسائي أيضا، وقد أورد البخاري في كتاب المرضي، في باب من صرع من الريح،
وقال بعده:
__________
[ () ] البزار وابن حبان من حديث أبي هريرة- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- شبيها بقصتها ولفظه «جاءت امرأة بها لمم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: ادع اللَّه. فقال: إن شئت دعوت اللَّه فشفاك، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك. قالت: بل أصبر ولا حساب على»
وفي الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف، عن التزام الشدة، وفيه من العلاج بالعقاقير، وان تأثير ذلك وانفعال البدن، عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين:
أحدهما العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوى وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل، واللَّه- تعالى- أعلم.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 367، كتاب البر والصلة والآداب، باب (14) ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة بشاكها، حديث رقم (2576) . وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 156- 157، باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للمرأة التي كانت تصرع وتتكشف بالعافية إن لم تصبر أو بأن لا تنكشف إن صبرت ولها الجنة، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، وقال: أخره: لفظ حديث مسدد رواه البخاري في الصحيح، عن مسدد، ورواه مسلم، عن عبيد اللَّه القواريري، عن يحيى، بسنده إلى قال: أخبرني عطاء: أنه رأى أم زمر تلك المرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 571، حديث رقم (3230) من مسند عبد اللَّه بن عباس، ولفظه: «قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه السوداء أنت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت: إني أصرع وأتكشف- فادع اللَّه لك أن يعافيك؟ قالت: لا، بل أصبر فادع اللَّه أن لا أتكشف- أو لا ينكشف، عنى- قال: فدعا لها
وفيه دليل على جواز ترك التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها والالتجاء إلى اللَّه- تبارك وتعالى- أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك انفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجح بأمرين أحدهما من جهة العليل، وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوى بحسن التوكل» .

(11/314)


حدثني محمد أنبأنا مخلد، عن ابن جريج، أخبرني عطاء أنه رأى أم رومان امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة.

وأما شفاء عبد اللَّه بن رواحة من وجع ضرسه بوضع يده ودعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم له
فخرّج البيهقي من حديث يحيى بن يحيى، قال: أخبرني إسماعيل بن عياش، عن يزيد بن نوح بن ذكوان أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما بعث عبد اللَّه بن رواحة مع زيد وجعفر إلى مؤتة، قال: يا رسول اللَّه إني أشتكي ضرسي، آذاني، واشتد عليّ، فقال: ادن مني، والّذي بعثني بالحق [نبيا] [ (1) ] لأدعون لك بدعوة لا يدعو بها مؤمن مكروب إلا كشف اللَّه عنه كربه، فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده على الخد الّذي فيه الوجع، وقال: اللَّهمّ أذهب عنه سوء ما يجد، وفحشه، بدعوة نبيك المبارك، المكين عندك، سبع مرار، قال: فشفاه اللَّه عز وجل قبل أن يبرح.
هذا منقطع [ (2) ] .

وأما شفاء بطن رافع بن رفاعة بمسح المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بطنه
فخرج البيهقي من حديث يعقوب بن سفيان قال: حدثنا أبو صالح، قال:
حدثني الليث، قال: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي أمية الأنصاري، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أنه قال، ومن حديث سعيد بن شرحبيل، وعبد اللَّه بن صالح قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن خالد ابن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي أمية الأنصاري، عن عبيد بن
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) وليست في (الدلائل) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 183، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى، عنه- ولغيره بالشفاء، وإجابة اللَّه تعالى له فيما دعاه.

(11/315)


رفاعة، عن رافع بن خديج قال: دخلت يوما على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعنده قدر يفور بلحم، فأعجبتني شحمة، فأخذتها، فازدردتها فاشتكيت منها سنة، ثم إني ذكرت ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له: كان فيها أنفس سبعة أناسى، ثم مسح بطني، فألقيتها خضراء، فو الّذي بعثه بالحق ما اشتكيت بطني حتى الساعة.
قال البيهقي: [كذا عن رافع في الكتاب] والصحيح رواية يعقوب.
قال يعقوب: وأظن أن المدائني كان صيره، عن رافع [بن خديج] ، وكان كما شاء اللَّه، وكان عند ابن أبي بكير، عن عبيد بن رفاعة، ليس فيه، عن أبيه، وغلط، عبيد ليست له صحبة.
وخرّجه من طريق ابن وهب قال: أخبرني يزيد بن عياض، عن عبد الكريم، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أنه دخل بيتا من بيوت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإذا قدر يجيش بلحم، وإذا فيها شحمة، فأهويت فأخذتها فالتقمتها، فاشتكيت بطني عليها سنة، فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكرت ذلك له. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنها كانت فيها أنفس سبعة أناس، قال: فمسح بطني فوضعتها خضراء، فما اشتكيت بطني بعد [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 183- 184.

(11/316)


وأما شفاء أبي طالب بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج الحفاظ أبو أحمد بن عدي [ (1) ] ، وأبو نعيم أحمد، وأبو بكر البيهقي ...
من حديث الهيثم بن جماز الحنفي البصري، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن أبا طالب مرض فعاده النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا ابن أخي ادع ربك الّذي تعبد أن يعافيني، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اشف عمي، فقام أبو طالب كأنما نشط من عقال، قال: يا ابن أخي إن ربك الّذي تعبد ليطيعك، قال: وأنت يا عماه!! لئن أطعت اللَّه ليطيعك.
قال البيهقي [ (2) ] تفرد به الهيثم بن جماز، عن ثابت البناني، والهيثم ضعيف عند أهل العلم بالحديث.
وفي رواية أبي نعيم، عن أنس قال: لما مرض أبو طالب مرضه الّذي مات فيه أرسل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادع ربك أن يشفيني، فإن ربك يعطيك، وابعث إلى بقطف من قطاف الجنة، فأرسل إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأنت يا عم إن أطعت اللَّه أطاعك.
قال أبو نعيم: رواه عقبة بن مكرم، فقال: حدثنا شريك بن عبد المجيد حدثنا الهيثم حدثنا ثابت، عن أنس. فذكر الحديث، وزاد فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اشف عمي، قال: فقام كأنما نشط من عقال.
__________
[ (1) ] (الكامل في ضعفاء الرجال) : 7/ 102، في ترجمة الهيثم بن جماز- بمعجمتين- الحنفي البكاء بصري معروف، روى، عن يحيى بن أبي كثير، وثابت البناني. قال يحيى بن معين:
كان قاضيا- أو قاصا- بالبصرة، ضعيف، قال مرة: ليس بذاك، وقال أحمد والنسائي والساجي: متروك الحديث، وذكره البرقي في (الكذابين) ، وضعفه أبو حاتم، وزاد: منكر الحديث، ترجمته في (لسان الميزان) : 6/ 246، ترجمة رقم (108/ 9864) ، و (الكامل) :
7/ 101، ترجمة رقم (1/ 2018) ، وقال ابن حبان: كان من العباد والبكاءين ممن غفل، عن الحديث والحفظ، واشتغل بالعبادة حتى كان يروى المعضلات، عن الثقات توهما، فلما ظهر ذلك منه بطل الاحتجاج به. (هامش دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 184- 185.

(11/317)


قال كاتبه: قد ذكر ابن عدي الهيثم هذا في كتاب (الكامل) [ (1) ] على ما لخصته في (مختصره) ، فقال: كان قاضيا بالبصرة.
قال ابن معين: ضعيف، ومرة قال: ليس بشيء، وفي موضع آخر:
ليس بذاك، يروي عنه هشيم، وقال أحمد بن حنبل: كان منكر الحديث، ترك حديثه.
وقال السعدني: ضعيف، روى عن ثابت معاضيل، وقال ابن عدي:
وأحاديثه أفراد، عن ثابت بن عدي، وفيه ما ليس بالمحفوظ.

وأما مسح المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم ساق علي بن الحكم السلمي [ (2) ] وقد دق جدار الخندق فبرئ من وقته
فقال أبو عمر بن عبد البر: وروى كثير بن معاوية بن الحكم، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأنزى أخي علي بن الحكم فرسا له خندقا، فدق جدار الخندق ساقه، فأتينا به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح ساقه فما نزل عنها حتى برئ [ (3) ] ، فقال معاوية بن الحكم في قصيدته:
وأنزاها عليّ فهي تهوى ... هوى الرجل تنزعه برجل
فقصت رجله فسما عليها ... سمو الصقر صادف يوم طل
فقال محمد صلّى عليه ... مليك الناس قولا غير فعل
__________
[ (1) ] سبق تخريج الحديث وذكر الترجمة و (مختصر الكامل لا بن عدي) أحد مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.
[ (2) ] هو علي بن الحكم السلمي، أخو معاوية بن الحكم، له صحبة، من أهل قباء. (الإستيعاب) :
3/ 1089، ترجمة رقم (1853) .
[ (3) ] سياق هذا الحديث مضطرب في (الأصل) ، ولم أجده في (الاستيعاب) ، وصوبناه من (الإصابة) : 4/ 562- 563، ترجمة على بن الحكم السلمي رقم (5687) ،
وقال فيه: «فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسحها وقال: بسم اللَّه، فما آذاه منها شيء،
ثم قال الحافظ: قال ابن منك: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال الحافظ أيضا: في الإسناد صفار بن حميد لا يعرف.

(11/318)


لعا لك فأستمر بها سويا ... وكانت بعد ذاك أصح رجل
ومعاوية بن الحكم السلميّ كان ينزل بالمدينة، ويسكن في بني سليم، روى عنه عطاء بن يسار، وأخوه عليّ بن الحكم له صحبة، وأيضا ذكرهما ابن عبد البر في كتاب (الصحابة) . وقد ذكر البيهقي [ (1) ] هذا الحديث بنحو ما تقدم من غير ذكر الشعر.

وأما ذهاب البلاء عن ابن الخثعمية بشربة ماء غسل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها يديه وتمضمض
فخرج أبو نعيم من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا أحمد بن راشد، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن عمر ابن الأحوص، عن أمه أم جندب، قالت: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اتبعته امرأة من خثعم، ومعها صبي لها به بلاء، فقالت: يا رسول اللَّه إن صبيي هذا وبقية أهلي به بلاء لا يتكلم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ائتوني بشيء من الماء، فأتي بماء، فغسل يديه، ثم مضمض فاه، ثم أعطاها، فقال: اسقيه منه، وصبي عليه منه، واستشفي اللَّه له.
قالت: فلقيت المرأة، فقلت: لو وهبت لي منه، فقالت: إنما هو لهذا المبتلى. قالت: فلقيت المرأة من الحول، فسألتها عن الغلام، فقالت: برئ
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 185، ولفظه:
وفي كتاب (المعجم) لأبي القاسم البغوي، بإسناده، عن كثير، عن معاوية بن الحكم، عن أبيه، قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأنزى أخي عليّ ابن الحكم فرسا له خندقا، فأصاب رجله جدار الخندق فدمّتها فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما نزل، عن فرسه فمسحها وقال: بسم اللَّه، فما آذاه منها شيء.

(11/319)


وعقل عقلا ليس كعقول الناس [ (1) ] قال. أبو نعيم: رواه عبد اللَّه بن إدريس عن يزيد بنحوه.

وأما نفثه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فم غلام يأخذه الجنون كل يوم مرارا فذهب عنه
فخرج أبو نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد اللَّه بن نمير حدثنا عثمان بن حكيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن يعلي ابن مرة قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي، فقالت: يا رسول اللَّه، ابني هذا أصابه بلاء، وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم لا ندري كم من مرة. قال: ناولينيه، قال:
فرفعته إليه.
قال: فجعله بينه وبين وسط الرحل، ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثا، ثم قال:
بسم اللَّه، أنا عبد اللَّه، اخس عدو اللَّه، قال: ثم ناولها إياه. ثم قال: ألقينا به
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 464- 465، حديث رقم (393) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) :
7/ 523- 524، حديث رقم (26590) ، من حديث أبي سليمان بن عمر بن الأحوض- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وأخرجه الحافظ بن حجر في (الإصابة) : 4/ 652، في ترجمة على ابن الحكم السلمي، وقال: رواه البغوي، والطبراني، وابن السكن، وابن مندة، من طريق كثير بن معاوية بن الحكم السلمي، عن أبيه، وقال ابن مندة: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قال الحافظ ابن حجر: في الإسناد صفار بن حميد لا يعرف. وزاد الطبراني في روايته، فقال في ذلك معاوية بن الحكم من قصيدته:
فأنزاها عليّ فهو يهوى ... هويّ الدلو مشرعة بحبل
فعصّب رجله فسما عليها ... سموّ الصقر صادف يوم ظل
فقال محمد صلّى عليه ... مليك الناس قولا غير فعل
لعا لك فاستمر بها سويا ... وكانت بعد ذاك أصحّ رجل

(11/320)


في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل، قال: فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث، قال فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما فعل الخبيث؟
قالت: والّذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة، فاختر [ (1) ] هذه الغنم، قال: انزل فخذ منها شاة ورد البقية [ (2) ] .
وخرّجه من حديث علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد ابن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن يعلى بن مرة الثقفي قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كان بمكان كذا وكذا جاءته امرأة بابن لها، فذكرت أن به جنون، فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منخريه، فقال: اخرج أي عدو اللَّه أنا محمد رسول اللَّه، اخرج بسم اللَّه أنا محمد رسول اللَّه، ثم قال: اذهبي فتعاهدينا في مرجعنا فاعتدت له جرزا ولبنا وسمنا، فلما رجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أهدت إلينا الجزر واللبن والسمن، فرد عليها الجزر والسمن، وقال: اسق أصحابي اللبن، قالت: ما عرض لابني شيء بعدك. قلت: وقد تقدم هذا الحديث بطوله في سجود البعير من حديث جابر بن عبد اللَّه.
وخرّجه ومن حديث يعلي بن مرة، خرجه أبو نعيم من حديث أسامة بن زيد قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجته التي حجها فعارضته امرأة فذكر نحوه.
__________
[ (1) ] كذا في (دلائل أبي نعيم) ، وفي (ابن أبي شيبة) و (الأصل) : «فاختز» . وفي (مسند أحمد) : «فاجترر» .
[ (2) ] دلائل أبي نعيم: 465، حديث رقم (394) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 179180، حديث رقم (17097) ، من حديث يعلى مرة الثقفيّ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.

(11/321)


وأما برء غلام من الجنون بمسح الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وجهه ودعائه له
فخرج أبو نعيم من حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق قال: حدثتني أم أبان بنت الوازع عن ابنها، أن الوازع [ (1) ] انطلق إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بابن له مجنون، أو بابن أخت له مجنون، فمسح وجهه ودعا له، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يفضل عليه.

وأما خروج الشيطان وإزالة النسيان وذهاب الوسوسة في الصلاة عن عثمان بن أبي العاص بتفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فمه وضربه صدره
فخرج أبو نعيم من حديث عثمان بن عبد الوهاب حدثنا أبي عن يونس، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: شكيت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سوء حفظي القرآن، فقال: ذاك شيطان يقال له خنزب، أدن منى يا عثمان، ثم تفل في فمي، ووضع يده على صدري، فوجدت بردها بين كتفي، وقال: يا شيطان اخرج من صدر عثمان، قال: فما سمعت شيئا بعد ذلك إلا حفظته [ (2) ] . [قال أبو نعيم: رواه عنبسة بن أبي رائطة، عن الحسن بنحوه [ (3) ]] .
__________
[ (1) ] هو الوازع العبديّ، والد أم أبان، وقد ذكره في الصحابة: الإمام أحمد، وابن نافع، أبو بكر بن أبي علي، وآخرون (الإصابة) : 6/ 593، ترجمة رقم (9097) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 466، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم بطرد الشيطان من صدر عثمان بن أبي العاص، حديث رقم (396) . قال في (مجمع الزوائد) : أخرجه الطبراني، وفيه عثمان بن يسر، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.

(11/322)


وله من حديث عقبة بن مكرم، حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، حدثنا أبي عن عثمان بن أبي العاص [ (1) ] قال: لما بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف عرض لي شيء في صلاتي حتى كنت لا أدري ما أصلى، فلما رأيت ذلك أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فلم يرعه مني إلا وأنا أمشي إلى جنبه، فقال: ابن أبي العاص؟ قلت: نعم، قال: ما جاء بك؟، قلت: عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، فقال: ذاك الشيطان. ادن، فدنوت حتى جلست على صدور قدمي بين يديه.
__________
[ (1) ] هو عثمان بن أبي العاص بن بشر عبد دهمان- أو عبد بن دهمان بن عبد اللَّه بن همام الثقفيّ، أبو عبد اللَّه، نزيل البصرة. أسلم في وفد ثقيف، فاستعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الطائف، وأقره أبو بكر، ثم عمر، ثم استعمله عمر على عمان والبحرين سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها في خلافة معاوية قبل سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين. وكان هو الّذي منع ثقيفا، عن الردة، خطبهم فقال: كنتم آخر الناس إسلاما، فلا تكونوا أولهم ارتدادا.
وجاء، عنه أنه شهد آمنه لما ولدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهي قصة أخرجها البيهقي في (الدلائل) ، والطبراني من طريق محمد بن أبي سويد الثقفي، عنه قال: حدثتني أمى ... ، فعلى هذا يكون عاش نحوا من مائة وعشرين سنة. كذا في (الإصابة) ، وفي (سير الأعلام) : أن أمه هي التي شهدت ولادة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاللَّه أعلم أي ذلك كان.
روي عثمان، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحاديث في (صحيح مسلم) ، وفي (السنن) ، روى، عنه ابن أخيه يزيد بن الحكم بن أبي العاص، ومولاه أبو الحكم، وسعيد بن المسيب، وموسى بن طلحة، ونافع بن جبير بن مطعم، وأبو العلاء، ومطرف ابنا عبد اللَّه بن الشخير، وآخرون.
وعثمان بن أبي العاص، كان سبب إمساك ثقيف، عن الردة حين ارتدت العرب، لأنه قال لهم حين هموا بالردة: يا مشعر ثقيف، كنتم آخر الناس إسلاما، فلا تكونوا أول الناس ردة، وهو القائل: الناكح مغترس، فلينظر أين يضع غرسه، فإن عرق السوء لا بدّ أن ينزع ولو بعد حين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 2/ 374، ترجمة رقم (78) ، (الإستيعاب) :
3/ 1035- 1036، ترجمة رقم (1772) ، (تهذيب التهذيب) : 7/ 117- 118، ترجمة رقم (270) ، (المعارف) : 368، (طبقات خليفة) : 53، 182، (تاريخ خليفة) : 149، 152، (التاريخ الكبير) : 6/ 12، (شذرات الذهب) : 1/ 36.

(11/323)


فقال: افغر فاك، فضرب صدري بيده وتفل في فمي، وقال: اخرج عدو اللَّه، قال ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: الحق بعملك. قال عثمان: فلا أحسبه عرض لي بعد.
وله من حديث حجاج بن المنهال حدثنا حماد بن سلمة، عن شعيب الجريريّ، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عثمان بن أبي العاص، أنه شكا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الوسوسة في الصلاة، فقال: ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا وجد أحدكم منه شيئا، فليتفل عن يساره ثلاثا، وليتعوذ باللَّه منه.
قال أبو نعيم: رواه الثوري وعبد الواحد بن زيد ومروان بن معاوية وابن علية وسالم بن نوح، عن الجريريّ، عن أبي العلاء، عن عثمان فلم يذكر مطرفا.
قال كاتبه: وخرّج مسلم حديث الجريريّ هذا عن أبي العلاء، عن عثمان ابن أبي العاص قال: قلت: يا رسول اللَّه إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي [يلبسها عليّ] ، قال: فقال ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ باللَّه منه، واتفل عن يسارك ثلاثا، قال: ففعلت فأذهبه اللَّه عنى [ (1) ] .
وله من حديث محمد بن عمر الواقدي: حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يعلي بن كعب، عن عبد ربه بن الحكم، عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت أنسى القراءة، فقلت: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إني لأنسى القرآن، فضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 440، كتاب السلام، باب (25) التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، حديث رقم (2203) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه. وفي هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان، عند وسوسته مع التفل، عن اليسار ثلاثا، ومعنى يلبسها: أي يخلطها ويشككني فيها، وهو بفتح أوله وكسر ثالثه، ومعنى حال بيني وبينها: أي نكدني فيها، ومن، عنى لذتها، والفراغ للخشوع فيها. (شرح النووي) .

(11/324)


في صدري ثم قال: اخرج يا شيطان من صدر عثمان، فما نسيت شيئا حفظته [ (1) ] .
وله من حديث عبد الأعلى: حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد اللَّه بن الحكم، عن عثمان بن بشر، سمعت عثمان بن أبي العاص يقول: شكوت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نسيان القرآن، قال: فضرب صدري بيده، فقال: يا شيطان اخرج من صدر عثمان، قال عثمان: فما نسيت منه شيئا بعد أن أحببت أن أذكره [ (2) ] .

وأما ردّ اللَّه عز وجل بصر الأعمى عليه بتعليم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم له دعاء يدعو به
فخرج البيهقي [ (3) ] من حديث محمد بن يونس قال: حدثنا عثمان بن عمر قال: حدثنا شعبة عن أبي جعفر الخطميّ قال: سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ادع اللَّه لي أن
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 307- 308 باب تعليم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عثمان بن أبي العاصي الثقفي- رضي اللَّه تبارك وتعالى، عنه- ما كان سببا لشفائه ودعائه له حتى فارقه الشيطان وذهب، عنه النسيان.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 308، وفيه: «شيئا بعده أريد حفظه» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 166- 167، باب في تعليمه صلّى اللَّه عليه وسلّم الضرير ما كان فيه شفاؤه حين لم يصبر، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، ثم قال البيهقي: هذا لفظ حديث العباس، زاد محمد بن يونس في روايته: قال: فقام وقد أبصر. ورويناه في كتاب (الدعوات) بإسناد صحيح، عن روح ابن عبادة، عن شعبة، ففعل الرجل فبرأ. كذلك رواه حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطميّ وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب (119) ، حديث رقم (3578) من كتاب الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ، عن محمود بن غيلان.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 1/ 441، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب (198) ما جاء في صلاة الحاجة، حديث رقم (1385) .

(11/325)


يعافيني، قال: فإن شئت أخرت ذلك وهو خير لك، وإن شئت دعوت اللَّه، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلى ركعتين، ويدعو بهذا [الدعاء] : «اللَّهمّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فيقضيها لي، اللَّهمّ شفعه في، وشفعني في نفسي» ، فقام وقد أبصر.
قال البيهقي [ (1) ] : ورويناه في كتاب (الدعوات) بإسناد صحيح عن روح بن القاسم، عن شعبة قال: ففعل الرجل فبرأ. وكذلك رواه حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطميّ، وخرّجه أبو نعيم من طريق ابن وهب قال: حدثني شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطميّ، عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف أن أعمى أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه علمني دعاء أدعو به يرد اللَّه تعالى عليّ بصري، فقال: قل: «اللَّهمّ إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي، اللَّه شفعه في وشفعني في نفسي» ، فدعا بهذا الدعاء، فقام وقد أبصر.
قال أبو نعيم ورواه حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطميّ، عن عمارة ابن خزيمة، عن عثمان بن حنيف بنحوه.
وخرّجه البيهقي من حديث ابن شبيب بن سعيد الحبطيّ قال: حدثني أبي عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المدني وهو الخطميّ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجاءه رجل ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال: يا رسول اللَّه ليس لي قائد وقد شق على، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ائت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل «اللَّهمّ إني أسألك وأتوجه إليك نبيك محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري اللَّهمّ شفعه فيّ، وشفعني في نفسي» . قال
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 167.

(11/326)


عثمان: فو اللَّه ما تفرقنا، ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضرّ قط [ (1) ] .
وخرّج أيضا من حديث إسماعيل بن شبيب قال: حدثنا أبي عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في حاجة، وكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقى عثمان بن حنيف، فشكا إليه ذلك. فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: «اللَّهمّ إني أسالك وأتوجه إليك بنيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربى فتقضى حاجتي» واذكر حاجتك، ثم راح حتى أزمع، فانطلق الرجل، وصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فجاء البواب، فأخذ بيده، فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة [ (2) ] ، فقال: انظر ما كانت لك من حاجة، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقى عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك اللَّه خيرا، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلى حتى كلمته، فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته، ولكني
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجاءه ضرير، فشكى إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أو تصبر؟ فقال: يا رسول اللَّه ليس لي قائد، وقد شق عليّ.
فقال: ائت الميضأة فتوضأ، وصل ركعتين ثم قل: «اللَّهمّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري، اللَّهمّ شفعه في وشفعني في نفسي» . قال عثمان: فو اللَّه ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل الرجل كأن لم يكن به ضرر.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 167، باب ما جاء في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه حين لم يصبر وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] الطنفسة، بضم الفاء الأخيرة، عن كراع: النمرقة فوق الرحل، وجمعها طنافس، وقيل: هي البساط الّذي له حمل رقيق، ولها ذكر في الحديث [الّذي معنا] ، [وفي القرآن الكريم في قوله تعالى وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ [الغاشية: 15] .

(11/327)


قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب، عن سعيد، عن أبيه أيضا بطوله:
أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أنبأنا عبد اللَّه بن جعفر ابن درستويه، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، فذكره بطوله. وهذه زيادة ألحقتها به في شهر رمضان سن أربع وأربعين.
قال: ورواه أيضا هشام الدستوائي، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه، وهو عثمان بن حنيف [ (1) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.

(11/328)


وأما رد بصر من كانت عيناه مبيضتين لا يبصر بهما شيئا بنفث المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينيه
فخرج الحافظان أبو نعيم [ (1) ] والبيهقي [ (2) ] من حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن بشر حدثنا عبد العزيز بن عمر، قال: حدثني رجل من بني سلامان بن سعد، عن أمه أن خالها حبيب بن فويك [ (3) ] حدثها، أن أباه خرج به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا. فسأله ما أصابه، فقال: إني كنت أمرن جملا لي، فوضعت رجلي على بيض حية، فأصيب
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 466- 467، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم برد بصر أعمى، حديث رقم (397) ، أخرجه ابن أبي شيبة، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 173، باب ما جاء في نفثه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينين كانتا مبيضتين لا يبصر صاحبها بهما حتى أبصر.
[ (3) ] هو حبيب بن فويك، أو فديك، أو فريك، روت بنت أخيه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دعا له وهو أعمى مبيضة عيناه فأصبر، (الاستيعاب) : 1/ 322، ترجمة رقم (475) ، 3/ 1271، ترجمة رقم (2096) . قال الحافظ ابن حجر: ذكره البغوي وابن السكن وغيرهما، وروى ابن أبي شيبة وعتبة، من طريق عبد العزيز بن عمر، عن رجل من بني سلامان، عن أمه، أن خالها حبيب ابن فويك حدثها أن أباه خرج به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا، فسأله فقال: كنت أروض جملا لي فوقعت رجلي على بيض حية، فأصيب بصرى، فنفث في عينيه فأبصر، قال: فأنا رأيته يدخل الخيط في الإبرة. وإنه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان.
ذكره ابن أبي شيبة، عن محمد بن بشر العبديّ، عن عبد العزيز بن عمر، عن رجل عن سلامان ابن سعد، عن أمه أن خالها حبيب بن فويك حدثها أن أباه فويكا خرج إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر الحديث، ولا أعلم لحبيب غيره.
قال الحافظ ابن حجر: روى ابن منك من طريق عبد العزيز بن عمر أيضا، عن الحليسي السلاماني، عن أبيه، عن جده حبيب بن فويك بن عمرو، أنه عرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رقية من العين فأذن له فيها، فدعا له بالبركة. (الإصابة) : 2/ 23- 24، ترجمة رقم (1598) .

(11/329)


بصري، فنفث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينيه فأبصر، قال: فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وإنه لابن ثمانين، وإن عينيه لمبيضتان.

وأما رد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم عين قتادة [ (1) ] بعد ما سالت على خده فكان يقال له: ذو العين
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عمر بن قتادة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رمى يوم أحد عن قوسه حتى اندقت سيتها [ (3) ] ، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما.
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (4) ]- وقد ذكر يوم أحد-: وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته.
قال قتادة بن النعمان: فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: أي رسول اللَّه، إن تحتي امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني، وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني، فأخذها
__________
[ (1) ] هو قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر الأمير المجاهد. أبو عمر الأنصاري الظفري البدري، من نجباء الصحابة، وهو أخو أبي سعيد الخدريّ لأمه، وهو الّذي وقعت عينه على خده يوم أحد، فأتى بها إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فغمزها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده الشريفة، فردها، فكانت أصح عينيه.
له أحاديث، وكان على مقدمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لما سار إلى الشام، وكان من الرماة المعدودين. عاش خمسا وستين سنة، وتوفى في سنة ثلاث وعشرين بالمدينة، ونزل عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يومئذ في قبره، (تهذيب سير الأعلام) : 1/ 66- 67، ترجمة رقم (170) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 251- 253، باب ما ذكر في المغازي من وقوع عين قتادة بن النعمان على وجنته، ورد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عينه إلى مكانها وعودتها إلى حالها.
[ (3) ] سية القوسي: طرفها.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 242، غزوة أحد.

(11/330)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فردها فأبصرت وعادت كما كانت، ولم تضرب عليه ساعة من ليل ولا نهار، فكان يقول بعد أن أيس: هي أقوى عيني، وكانت أحسنهما.
وخرّج البيهقي من حديث إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي فروة [يحدث] ، عن عياض بن عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدريّ، عن قتادة بن النعمان وكان أخوه لأمه: أن عينه ذهبت يوم بدر فجاء بها إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فردها فاستقامت [ (1) ] .
وخرّج أبو نعيم من حديث يحيى اليماني حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن قتادة بن النعمان: أنه أصيبت عينه يوم أحد، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [فقال: لا] فدعا به فغمز عينه براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيبت.
وخرّج أيضا من حديث مالك بن أنس [ (2) ] ، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن عبيد، عن قتادة بن النعمان، أنه سقطت [ (3) ] عينه يوم أحد فوقعت على وجنته [ (4) ] ، فردها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده، فكانت أصح عينيه وأحدّهما [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 253، وأخرجه الدارقطنيّ في (السنن) ، و، عن البيهقي نقله ابن كثير في (البداية والنهاية) .
[ (2) ] سنده في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا أبو بكر بن خلاد قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن قتادة بن النعمان.
[ (3) ] في (الأصل) : «أصيبت» وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين في (الأصل) فقط.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 483- 484، باب ومن الأخبار في غزوة أحد من الدلائل، حديث رقم (416) ، وهذا الحديث مبثوث في كتب السيرة والمغازي في أحداث غزوة أحد، وغزوة بدر، واللَّه تعالى أعلم.
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 334، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب قتادة بن النعمان الظفري، وهو أخو أبي سعيد الخدريّ لأمه، قال: وشهد قتادة بن النعمان العقبة مع

(11/331)


ومن حديث عبد اللَّه بن الفضل بن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان بن زيد الأنصاري قال: حدثنا أبي الفضل عن أبيه عاصم، عن أبيه عمر، عن أبيه قتادة بن النعمان بن زيد قال: أهدى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قوس، فدفعها إليّ يوم أحد، فرميت بها بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى اندقت سيتها، ولم أزل في مقامي نصب وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتقى [ (1) ] السهام ووجهي [ (2) ] دونه، فكان آخرها سهم ندرت منه [ (3) ] حدقتي، فأخذت حدقتي بيدي فسعيت بها في كفى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حدقتي في كفي دمعت عيناه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ ق قتادة كما وقى وجه نبيك [ (4) ] ، فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرا [ (5) ] .
[وفي حديث منصور بن أحمد المعدل: فردها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده فكانت أصحّ عينيه وأحدهما] [ (6) ] .
__________
[ () ] السبعين من الأنصار، وكان الرماة المذكورين من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، شهد بدرا وأحدا ورميت عينه يوم أحد فسالت حدقته على وجنته، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه! إن، عندي امرأة أحبها، وإن هي رأت عيني خشيت أن تقذرها، فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده فاستوت، ورجعت، وكانت أقوى عينيه وأصحهما بعد أن كبر. وشهد أيضا الخندق والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت معه راية بنى ظفر في غزة الفتح. قال محمد بن عمر: أخبرنى محمد بن صالح بن هاني، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: مات قتادة بن النعمان سنة ثلاث وعشرين، وهو يومئذ ابن خمس وستين سنة، وصلّى عليه عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ونزل في قبره أخوه لأمه أبو سعيد الخدريّ، ومحمد بن مسلمة، والحارث بن خزمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم. [هذا الحديث حذفه الحافظ الذهبي من التلخيص]
[ (1) ] في (الأصل) : «ألقي» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في (الأصل) : «بوجهي» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] ندرت: سقطت.
[ (4) ] كذا في (الأصل) وفي (دلائل أبي نعيم) : «كما وقى نبيك عليه السلام بوجهه» .
[ (5) ] (المرجع السابق) حديث رقم (417) .
[ (6) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(11/332)


وخرّج من حديث مالك، عن محمد، عن عبد اللَّه بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناي يوم بدر فسقطتا على وجنتي فأتيت بهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعادهما مكانهما وبزق فيهما، فما عادتا تبرقان.
وخرّجه البيهقي [ (1) ] من حديث ابن أبي خيثمة، قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا ابن الغسيل، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان، عن جده قتادة: أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأراد القوم أن يقطعوها، فقال: أنأتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نستشيره في ذلك؟ فجئناه، فأخبرناه الخبر، فأدناه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منه، فرفع حدقته حتى وضعها موضعها، ثم غمزها براحته، وقال: اللَّهمّ اكسه جمالا، فمات وما يدري من لقيه أي عينيه أصيبت.
وخرّجه من حديث يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه قتادة بن النعمان:
أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: لا، فدعا به فغمز حدقته براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيبت [ (2) ] .
قال البيهقي [ (3) ] : وفي الروايتين جميعا، عن ابن الغسيل أن ذلك كان يوم بدر، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وقال أبو عمر بن عبد البر [ (4) ]- وقد ذكر قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر ابن سوداء بن كعب في كتاب (الصحابة) -: وأصيبت عينه يوم بدر، وقيل:
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 251- 252، باب ما ذكر في المغازي من وقوع عين قتادة بن النعمان على وجنتيه، وردّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عينه إلى مكانها، وعودتها إلى حالها.
[ (2) ] (المرجع السابق) 252.
[ (3) ] (المرجع السابق) 252.
[ (4) ] (الإستيعاب) : 3/ 1274- 1277، ترجمة رقم (2107) ، قال أبو عمر بعد ذلك: الأصح واللَّه تعالى أعلم، أن عين قتادة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أصيبت يوم أحد، روى

(11/333)


يوم الخندق، وقيل: يوم أحد، فسالت حدقته، فأرادوا قطعها، ثم أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرفع حدقته بيده حتى وضعها موضعها، ثم غمزها براحته، وقال: اللَّهمّ اكسه جمالا، فمات وإنها لأحسن عينيه وما مرضت بعد.
وقال عمر بن عبد العزيز- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: كنا نتحدث أنها تعلقت بعرق فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: اللَّهمّ اكسها جمالا،
قال عمر ابن عبد العزيز:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وقال عبد اللَّه بن محمد بن عمارة: إن قتادة بن النعمان رميت عينه يوم أحد، فسالت حدقته على وجهه، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه إن عندي
__________
[ () ] عبد اللَّه بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن جابر ابن عبد اللَّه، قال: أصيبت عين قتادة بن النعمان يوم أحد، وكان حديث عهد بعرس، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذها بيده فردّها، فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا.
وقال عمر بن عبد العزيز: كنا نتحدث أنها تعلقت بعرق فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال:
اللَّهمّ اكسها جمالا.
وذكر الأصمعي، عن أبي معشر المدني، قال: وفد أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بديوان أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز، رجل من ولد قتادة ابن النعمان، فلما قدم عليه قال له: ممن الرجل؟ فقال:
أنا ابن الّذي سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكف المصطفى أحسن الردّ
فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما ردّ
فقال عمر بن عبد العزيز- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا.

(11/334)


امرأة أحبها، وإن هي رأت عيني خشيت أن تقذرنى، فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده، فاستوت ورجعت وكانت أقوى عينيه وأصحهما [بعد أن كبر] [ (1) ] .
وخرّج أبو بكر بن الأنباري من حديث أبيه، حدثنا أحمد بن عبيد، عن الهيثم بن عدي، عن أبيه قال: أصيبت عين قتادة بن النعمان الظفري يوم أحد، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي في يده، فقال: ما هذا يا قتادة؟ قال: هذا ما ترى يا رسول اللَّه، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها ودعوت اللَّه لك، فلم تفقد فيها شيئا، فقال: يا رسول اللَّه، واللَّه إن الجنة لجزاء جزيل، وعطاء جليل، ولكني رجل مبتلى بحب النساء وأخاف أن يقلن: أعور، فلا يردننى، ولكن تردها لي، وتسأل اللَّه لي الجنة، فقال: أفعل يا قتادة، ثم أخذها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده، فأعادها إلى موضعها، فكانت أحسن عينيه إلى أن مات، ودعا اللَّه له بالجنة.
قال: فدخل ابنه على عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه، فقال له عمر: من أنت يا فتى؟ فقال:
أنا ابن الّذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأحسن حالها ... فيا حسن ما عين ويا طيب ما رد
فقال عمر: بمثل هذا فليتوسل إلينا المتوسلون ثم قال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(11/335)


وأما برء يد محمد بن حاطب [ (1) ] بنفث المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم عليها
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث أبي داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت محمد بن حاطب يقول: وقعت على يدي القدر، فاحترقت، فانطلقت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فجعل يتفل عليها ويقول: أذهب البأس رب الناس، فأحسبه قال: واشف أنت الشافي.
__________
[ (1) ] هو محمد بن حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، أبو القاسم القرشي الجمحيّ، وقيل: أبو إبراهيم، وقيل أبو وهب، أمه أم جميل، يقال: ولد بأرض الحبشة، وقيل ذلك على سبيل المجاز، لأنه ولد في السفينة قبل أن يصلوا إلى الحبشة. هاجر أبوه، ومات أبوه بها، فقدمت به أمه إلى المدينة مع أهل السفينتين، فروى عبد اللَّه بن الحارث ابن محمد بن حاطب، عن أبيه، عن جده قال: لما قدمنا أرض الحبشة خرجت بي أمي- يعنى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه! هذا ابن أخيك- وقد أصابه هذا الحرق من النار فادع اللَّه له ... الحديث.
ورواه أيضا عبد الرحمن بن عثمان بن محمد الحاطبي، عن أبيه، عن جده، أخرجه أحمد وابن أبي خيثمة والبغوي، وفيه أن أمه قالت: يا رسول اللَّه! هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمى بك. قالت: فمسح على رأسك، وتفل في فيك، ودعا لك بالبركة.
وأخرج ابن أبي خيثمة، عن محمد بن سلام الجمحيّ، قال: وحدثني بعض أصحابنا، قال: هو أول من سمى في الإسلام محمدا. ولد بأرض الحبشة، وأرضعته أسماء بنت عميس مع ابنها عبد اللَّه بن جعفر، وأرضعت أم محمد عبد اللَّه بن جعفر، فكانا يتواصلان على ذلك حتى ماتا. وقال ابن شاهين: سمعت البغوي يقول: هو أول من سمي في الإسلام محمدا، قال:
وكان يكنى أبا القاسم: وجزم ابن سعد بأن كنيته أبو إبراهيم. وقال الهيثم: مات في ولاية بشر على العراق، وقال غيره: سنة أربع وسبعين، وقيل: مات سنة ست وثمانين. (الإصابة) : 6/ 810، ترجمة رقم (7770) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 174، باب في نفثه صلّى اللَّه عليه وسلّم في يد محمد بن حاطب، وقد احترقت حتى برئت.

(11/336)


ومن طريق يعقوب بن سفيان الفسوي، قال: حدثنا محمد بن معاوية، حدثنا شريك، عن سماك، عن محمد بن حاطب، قال: أدنيت إلى قدر لنا، فوضعت يدي فيه فاحترقت، فذهبت بي أمي إلى البطحاء، فقالت: يا رسول اللَّه، إن ابني هذا احترقت يده، فجعل يتكلم الكلام ولا أدري ما هو، ولكنه ينفث، فسألت في إمارة عثمان، - رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقالوا:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أظنه قال: ما رويناه من حديث شعبة [ (1) ] .
ومن طريق جعفر بن عون قال: أخبرنا مسعر عن سماك، عن محمد بن حاطب قال: صنعت أمى مريقة [ (2) ] فأهراقت على يدي، فذهبت بي أمي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال كلاما لم أحفظه، وسألت عنه في إمارة عثمان ما قال؟ قالت:
قال: أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت.
وخرّج البيهقي وأبو نعيم، كلاهما من حديث سعيد بن سليمان قال: حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم، عن جده معمر بن حاطب، عن أمه أم جميل أم محمد بن حاطب، قالت: أقبلت بك من أرض الحبشة، حتى إذا كنت من المدينة بليلة أو ليلتين، طبخت لك طبيخا، ففني الحطب فرجعت [ (3) ] أطلب الحطب فتناولت القدر، فانكفأت على ذراعك القدر، فقدمت بك المدينة، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللَّه هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمى بك فمسح على رأسك ودعا لك بالبركة، ثم تفل في فيك، وجعل يتفل على يديك وهو يقول: أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما. قالت: فما قمت بك من عنده حتى برئت [ (4) ] يداك.
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وهو أجود للسياق، وفي (دلائل البيهقي) : «مريعة» .
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «فرحت» .
[ (4) ] في (الأصل) : «قويت» وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) ، و (دلائل أبي نعيم) ، والحديث أخرجه أيضا أبو نعيم في (الدلائل) : 467، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشفاء يد محمد بن حاطب، حديث رقم (398) ، وأخرجه البخاري في (التاريخ الكبير) : 1/ 11/ 17، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 70،

(11/337)


وقال أبو عمر بن عبد البر: محمد بن حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهيب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحيّ، ولد بأرض الحبشة، كانت أمه أم جميل، ويقال: جويرية بنت المجلل بن عبد اللَّه بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ القرشية العامرية، قد هاجرت إليها مع زوجها حاطب، فولدت له هناك محمدا والحارث ابنا حاطب، وكان محمد بن حاطب يكنى أبا القاسم، وقيل: أبا إبراهيم، توفي في خلافة عبد الملك بن مروان سنة أربع وسبعين بمكة، وقيل: بالكوفة وعداده في الكوفيين.
وقال مصعب: كان محمد بن حاطب في حين قدومه من أرض الحبشة وهو صبي، قد أصابته نار في إحدى يديه فأحرقته، فذهبت به أم جميل بنت المجلل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرقاه ونفث عليه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال:
أخبرني أبي عثمان، عن جده محمد بن حاطب، عن أمه أم جميل أم محمد بن حاطب قالت: خرجت بك من أرض الحبشة حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طبيخا، فخرجت أطلب الحطب، فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك، فقدمت المدينة وأتيت بك إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللَّه! هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمى باسمك، فمسح على رأسك ودعا بالبركة، ثم تفل في فيك وجعل يتفل على يديك ويقول: أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاءك، شفاء لا يغادر سقما. فما قمت بك من عنده حتى برئت يدك [ (1) ] .
قال كاتبه [ (2) ] : رواية البخاري هذه خارج (الصحيح) [ (3) ] .
__________
[ () ] كتاب معرفة الصحابة، ذكر فاطمة بنت المجلل القرشية أم جميل أم محمد بن حاطب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (6909) ، وقد سكت، عنه حافظ الذهبي في (التلخيص) .
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 1368- 1369، ترجمة محمد بن حاطب رقم (2324) .
[ (2) ] هو التقي المقريزي عليه رحمة اللَّه.
[ (3) ] رواها الإمام البخاري في (التاريخ الكبير) : 1/ 1/ 17.

(11/338)


وأما ذهاب السلعة [ (1) ] من كف شرحبيل [ (2) ] بنفث الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ووضع يده عليها
فخرج البيهقي [ (3) ] من طريق البخاري خارج (الصحيح) قال: قال لي على: حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا مخلد بن عقبة بن عبد الرحمن بن شرحبيل الجعفي، عن جده عبد الرحمن، عن أبيه قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبكفى سلعة، فقلت: يا رسول اللَّه! هذه السلعة آذتني، تحول بيني وبين قائم السيف أن أقبض عليه عنان الدابة، فقال: ادن مني، فدنوت منه، فقال: افتح كفك، ففتحتها، ثم قال: اقبضها فقبضتها، ثم قال: ادن منى، فدنوت منه، فقال: افتحها، ففتحتها، فنفث في كفى، ووضع كفه على السلعة، فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها عنها، وما أدرى أين أثرها.
__________
[ (1) ] السلعة: غدة تظهر بين الجلد واللحم إذا غمزت باليد تحركت.
[ (2) ] هو شراحيل أو شرحبيل الجعفي. ذكر علي بن المديني، عن يونس بن محمد، عن حماد بن زيد، عن مخلد بن عقبة بن عبد الرحمن بن شراحيل الجعفي، عن جده عبد الرحمن، عن أبيه شراحيل، قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وبيدي سلعة ... الحديث. (الاستيعاب) : 2/ 697، ترجمة شراحيل رقم (1162) ، ترجمة رقم (1170) ، وقال فيه: شرحبيل.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 176- 177، باب ما جاء في نفثه في كف شرحبيل الجعفي، ووضع كفه على السلعة التي كانت بكفه حتى ذهبت، ثم قال البيهقي: وقرأت في كتاب الواقدي، أن أبا سبرة قال: يا رسول اللَّه؟ إن لي بظهر كفى سلعة قد منعتني من خطام راحلتي، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقدح، فجعل يضرب به على السلعة ويمسحها فذهبت، فدعا له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولابنيه، أحدهما: سبرة، والآخر، عزيز، فسماه عبد الرحمن، وهو أبو خيثمة بن عبد الرحمن.
وقرأت في كتاب محمد بن سعيد، عن الحميدي، عن فرح بن سعيد الواقدي، عن عمه ثابت بن سعيد، عن أبيه، عن جده أبيض حمال، أنه كان بوجهه جدرة- يعنى القوباء- وقد التمعت وجهه، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح وجهه، فلم يمس ذلك اليوم ومنها أثر.

(11/339)


وقال ابن عبد البر: شرحبيل الجعفي وقال: بعضهم فيه شراحيل، حديثه في أعلام النبوة في قصة السلعة التي كانت به، شكاها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنفث فيها، ووضع يده عليها.

وأما برء خبيب [ (1) ] بتفل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على موضع مصابه
فروى يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن، قال: ضرب خبيب يعنى ابن على يوم بدر، فمال شقه، فتفل عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأمه ورده فانطبق، فلم ير لها أثر. وروى عنه ابنه عبد الرحمن.
__________
[ (1) ] هو خبيب، بالتصغير، ابن إساف بهمزة مكسورة، وقد تبدل تحتانية- يساف- بن، عنبة، بكسر المهملة وفتح النون، بعدها موحدة، ابن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن الأوس الأنصاري الأوسي. ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا. وقال الواقدي: كان تأخر إسلامه. إلى أن خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بدر، فلحقه في الطريق، فأسلم، وشهدها وما بعدها، ومات في خلافة عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-. وقال ابن إسحاق، عن مكحول، عن سعيد ابن المسيب، قال: بعث عمر بن الخطاب خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج على بعض العمل، وكان بدريا. وروى أحمد، والبخاري في (تاريخه) من طريق مسلم ابن سعيد، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال: إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، قال: فأسلمنا وشهدنا معه رواه أحمد بن منيع، فقال في روايته: عن خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب.
وقال ابن إسحاق: حدثني ابن عبد الرحمن قال: ضرب خبيب جدي يوم بدر، فمال سيفه، فتفل عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وردّه ولأمه. وذكر الواقدي أن الّذي ضربه هو أمية بن خلف، ويقال:
إنه هو الّذي قتل أمية. قال الحافظ: وفي حديثه المذكور، عند أحمد أنه قال: ضربني رجل من المشركين على عاتقي فقتلته، ثم تزوجت ابنته فكانت تقول لي: لاعدمت رجلا وشحك هذا الوشاح، فأقول: لاعدمت رجلا عجله إلى النار! (الإصابة) : 2/ 261- 262، ترجمة رقم (2221) .

(11/340)


وأما ذهاب السلعة من كف أبي سبرة بمسح الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال البيهقي [ (1) ] : وقرأت في كتاب الواقدي أن أبا سبرة قال: يا رسول اللَّه إن بظهر كفى سلعة قد منعتني من خطام راحلتي، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقدح، فجعل يضرب على السلعة ويمسحها، فذهبت، فدعا له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأبنيه:
أحدهما، سبرة، والآخر.. عزيز، فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد الرحمن، وهو أبو خيثمة [بن عبد الرحمن] [ (2) ] قال ابن عبد البر [ (3) ] : أبو سبرة الجعفي اسمه يزيد ابن مالك بن عبد اللَّه بن ذؤيب بن سلمة بن عمرو بن ذهل بن مروان بن جعفي، والد سبرة بن أبي سبرة، وعبد الرحمن بن أبي سبرة، له صحبة، وفد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه ابناه عزيز وسبرة، فسمى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عزيزا عبد الرحمن، روى، عنه ابناه في القراءة في الوتر وفي الأسماء حديثا مرفوعا، جد هو خيثمة بن عبد الرحمن [بن أبي سبرة] .
وقال ابن الكلبي: وولد سلمة بن عمرو يعني ابن ذهل بن مروان بن جعفي بن سعد العشيرة بن مالك، وهو مذحج بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الذؤيب، والمعترض منهم أبو سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد اللَّه بن ذؤيب بن سلمة، وفد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه ابناه سبرة عبد الرحمن، وكان في ألفين وخمسمائة من العطاء، وأقطعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وادى جعفي باليمين.
وكان اسم الوادي جردان، وكان الحجاج ولى عبد الرحمن بن أبي سبرة أصبهان وابنه خيثمة بن عبد الرحمن الفقيه، ومحمد بن عبد الرحمن كان من فرسان العرب وولى مسايح الري. انتهى [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 176.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] (الاستيعاب) : 4/ 1667، ترجمة رقم (2985) وما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (4) ] (جهرة أنساب العرب لابن حزم) : 409- 410.

(11/341)


وقال المعافي بن زكريا: حدثنا ابن دريد أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام، عن أبيه قال: حدثنا الوليد بن عبد اللَّه الجعفي عن أبيه، عن أشياخ قومه، قالوا: كانت عند أبي سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد اللَّه بن الذؤيب بن سلمة بن عمرو بن ذهل بن مروان بن جعفي امرأة منهم، فولدت له سبرة وعزيز، ثم ماتت فورثها ابناها إبلا، ثم تزوج أبو سبرة أخرى، فجفا ابنيه ونجاهما عنه، فكانا في إبلها التي ورثاها من أمها، فلما بلغهما مهاجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال سبرة لمولى لأمه، كان يرعى عليه: ابغني ناقة كنازا، يعني كثيرة اللحم مجتمعة الجسم ذات لبن، فأتاه بها فركبها، وهو يقول لأبيه:
ألا بلغا عني يزيد بن مالك ... أما بال الشيخ أن يتذكرا
رأيت أبانا صدّ عنا بوجهه ... وأمسك عنا ماله وتمرا
ثم توجه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأقبل أخوه عزيز، فقال للمولى: أين أخي؟ قال:
ندت ناقته، فذهب في طلبها، فنظر في الإبل فلم ير شيئا، فقال للمولى:
لتخبرني، فأخبره وأنشده البيتين فدعا بناقة فركبها وهو يقول:
ألا بلغا عني معاشر مذجح ... فهل لي من بعد ابن أمي معشرا؟
ولحق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم أقبل أبو سبرة، فقال للمولى: أين أخي؟ قال:
ندت ناقته، فذهب في طلبها، فنظر في الإبل فلم ير شيئا، فقال للمولى: أين ابناي؟ فأخبره خبرهما وأنشده شعريهما، فركبها وهو يقول:
وسبرة كان النفس لو أن حاجة ... ترد ولكن كتان أمرا تيسرا
وكان عزيز خلتي فرأيته ... تولى ولم يقبل عليّ وأدبرا
ثم لحق بهما، وخلف عند المولى غلاما له يقال له: شنقرا فمكث المولى أياما، ثم لحق بهم، وأنشأ يقول:
بدلت إيناسا حيالا وشنقرا ... بأهلي لا أرضى به أولئك
فأتى أبو سبرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه ابناه فأسلموا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لعزيز: ما اسمك؟ فقال عزيز، قال: لا عزيز إلا اللَّه، أنت عبد الرحمن [ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال الحافظ ابن حجر: عبد الرحمن بن أبي سبرة عداده في أهل الكوفة، وقال ابن حبان: يقال له صحبة، وقال:
وأخرج أحمد، وابن حبان في (صحيحه) من طريق أبي إسحاق، عن خثيمة

(11/342)


وقال أبو سبرة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني بظهر كفي سلعة قد منعتني من خطام راحلتي، فدعا صلّى اللَّه عليه وسلّم بقدح، فجعل يضرب به على السلعة، ويمسحها، فذهبت، ودعا له ولابنيه، وأقطعه جردان [ (1) ] واديا في بلاد قومه. قال ابن الكلبيّ: فلم يسمع بأهل بيت أجابوا إلى الإسلام طوعا مثل هؤلاء.
__________
[ () ] ابن عبد الرحمن، عن أبيه قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أبي وأنا غلام، فقال: ما اسم ابنك هذا؟
قال: اسمه عزيز، قال: لا تسمّ عزيزا، ولكن سمه عبد الرحمن، فإن أحب الأسماء إلى اللَّه تعالى، عبد اللَّه، وعبد الرحمن، والحارث، تابعه العلاء بن المسيب بن خيثمة، عن أبيه.
وأخرجه ابن مندة من طريق شعيب بن سليمان، عن عباد بن العوام، عن العلاء، أرسله إبراهيم بن زياد، وعن عباد، فقال بهذا السند، عن خيثمة: كان اسم أبي عزيزا، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنت عبد الرحمن. وكأن الصواب: كان اسم أخي.
وأخرجه ابن مندة من طريق حجاج بن أرطاة، عن عمر بن سعيد، عن سبرة بن أبي سبرة، قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعى ابني، فقال: ما اسم ولدك؟ قلت: فلان، وفلان، وعبد العزى، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: سمّه عبد الرحمن. (الإصابة) : 4/ 308، ترجمة رقم (5129) .
[ (1) ] جردان، بالدال المهملة وآخره نون: بلد قرب كابلستان، بين غزنة وكابل، به يصيف أهل ألبان (معجم البلدان) : 2/ 144، موضع رقم (3036) .

(11/343)


وأما ذهاب القوباء من وجه أبيض بن حمال [ (1) ] بمسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجهه
فخرّج محمد بن سعد، عن الواقدي عن الحميدي، عن فرح بن سعيد، عن عمه ثابت بن سعيد، عن أبيه، عن جده أبيض أنه كان بوجهه جدرة يعنى القوباء.
وقد التمعت وجهه، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح وجهه فلم يمس من ذلك اليوم، ومنها أثر هكذا رواه البيهقي [ (2) ] .

وأما برء جراحة خبيب بتفل المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها
فخرّج البيهقي من حديث خلاد الواسطي، قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا المستلم بن سعيد، حدثنا خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب، عن أبيه عن جده، قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنا ورجل من قومي في بعض مغازيه، فقلنا: إنا نشتهي معك مشهدا. قال: أسلمتم، قلنا: لا قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، فأسلمت وشهدت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فأصابني ضربة على عاتقي فخانتني، فتعلقت يديي فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتفل فيها وألزقها، فالتأمت، فبرأت، وقتلت الّذي ضربني، ثم تزوجت ابنة الّذي قتلته وكانت تقول:
عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح، فأقول: لا عدمت رجلا أعجل أباك إلى النار [ (3) ] .
__________
[ (1) ] لم أجد له ذكر فيما بين يدي من كتب التراجم.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 177.
[ (3) ] سبق تخريجه.

(11/344)


قال كاتبه [ (1) ] : وخبيب هذا بخاء معجمه مضمومة، وبعدها باء مفتوحة معجمة بواحدة، وقد اختلف في اسم أبيه [ (2) ] ، فقيل إساف بهمزة وقيل يساف بياء آخر الحروف ابن عنبة بكسر العين، وفتح النون والباء الموحدة ابن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أسلم بطريق بدر وما بعد، وتزوج حبيبة بنت خارجة بعد أبي بكر الصديق رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومات في خلافة عثمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو جد خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن يساف.
__________
[ (1) ] هو التقى المقريزي عليه رحمة اللَّه.
[ (2) ] سبق أن أشرنا إلى مصادر ترجمته.

(11/345)


وأما عدم شيب عمرو بن أخطب [ (1) ] بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يجمله اللَّه
فخرّج أبو نعيم من حديث حسين بن واقد ويحيى الحماني، قالا: حدثنا أبو نهيك الأزدي قال: حدثني عمرو بن أخطب، قال: استسقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتيته بجمجمة وفيها ماء وفيها شعرة، فرفعتها فناولته فنظر إليّ، فقال: اللَّهمّ جمله، قال: فرأيته وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء [ (2) ] .
وخرّجه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا حسين بن واقد مثله، وقال: هو ابن أربع وتسعين سنة.
وخرّجه البيهقي من طريق الإمام أحمد، قال: حدثنا حرمي بن عمارة، حدثنا عروة بن ثابت، حدثنا علباء بن أحمر، قال: حدثني أبو زيد الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لي: ادن مني، قال: فمسح بيده علي رأسي ولحيتي، ثم قال: اللَّهمّ جمله، وأدم جماله، قال: فبلغ بضعا ومائة سنة، وما في لحيته بياض إلا نبذ يسيرة، ولقد كان منبسط الوجه، ولم ينقبض وجهه حتى مات [ (3) ] .
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح موصول،
قد رواه أيضا الحسين بن واقد، قال:
__________
[ (1) ] هو عمرو بن أخطب بن رفاعة الأنصاري الخزرجي، أبو زيد، مشهور بكنيته، غزا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث عشرة مرة، ومسح رأسه،
وقال: اللَّهمّ جمله،
ونزل البصرة، وروى عنه ابنه بشير، وآخرون، وحديثه في (صحيح مسلم) ، و (السنن) ، وهو ممن جاوز المائة. ويقال: إنه من بني الحارث بن الخزرج، بلغ مائة سنة ونيفا وما في رأسه ولحيته إلا نبذ من شعر أبيض، هو عزرة بن ثابت، روى عنه أنس بن سيرين، وأبو الخليل، وعلباء بن أحمر وتميم بن حويص، وأبو نهيك، وسعيد بن قطن. (الإصابة) : 4/ 599) ، ترجمة رقم (5763) ، (الإستيعاب) :
3/ 1162، ترجمة رقم (1889) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 458، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمرو بن أخطب، حديث رقم (384) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 211، باب ما جاء في شأن أبي زيد، عمرو بن أخطب الأنصاري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ودعائه له، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.

(11/346)


حدثنا أبو نهيك [الأزدي] [ (1) ] عن عمرو بن أخطب، وهو أبو يزيد، قال: استسقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتيته بإناء فيه ماء وفيه شعرة، فرفعتها ثم ناولته، فقال: اللَّهمّ جمله، قال: فرأيته ابن ثلاث وتسعين، وما في رأسه، ولحيته شعرة بيضاء [ (2) ] .
قال ابن عبد البر: عمرو بن أخطب أبو زيد الأنصاري هو مشهور بكنيته، يقال إنه من بني الحارث بن الخزرج غزا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوات، ومسح على رأسه ودعا له بالجمال، فيقال إنه بلغ مائة سنة ونيفا ما في رأسه ولحيته إلا نبذ من شعر أبيض.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 212، ثم قال بعقبة: وهو فيما ذكره أبو عبد اللَّه الحافظ فيما أنبأنى به قال: أنبأنا أبو العباس: القاسم بن القاسم السياري، حدثنا محمد بن موسى الباشاني، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا الحسين بن واقد.

(11/347)


وأما أن عمرو بن الحمق [ (1) ] بلغ الثمانين ولم يبيض شعره بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم له
__________
[ (1) ] هو عمرو بن الحمق- بفتح أوله وكسر الميم بعدها قاف، ابن كاهل، ويقال: الكاهن بن حبيب ابن عمرو بن القين بن رزاح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو الخزاعي الكعبي. قال ابن السكن: له صحبة، وقال أبو عمر: هاجر بعد الحديبيّة، وقيل: بل أسلم بعد حجة الوداع.
والأول أصح. قال الحافظ ابن حجر: قد أخرج الطبراني من طريق صخر بن الحكم، عن عمه، عن عمرو بن الحمق قال: هاجرت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فبينا أنا عنده ... فذكر قصة على، وسنده ضعيف وقد وقع في (الكنى) للحاكم أبي أحمد في ترجمة أبي داود المازني، من طريق الأموي، عن ابن إسحاق، ما يقتضي أن عمرو بن الحمق شهد بدرا.
وجاء عن أبي إسحاق بن أبي فروة، أحد الضعفاء، قال: حدثنا يوسف بن سليمان عن جده معاوية، عن عمرو بن الحمق أنه سقى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبنا- فقال: اللَّهمّ أمتعه بشبابه. فمرت ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء، يعنى أنه استكمل الثمانين،
لا أنه عاش بعد ذلك ثمانين. قال أبو عمر:
سكن الشام، ثم كان يسكن الكوفة، ثم كان ممن قام على عثمان مع أهلها، وشهد مع علي حروبه، ثم قدم مصر.
فروى الطبراني وابن قانع من طريق عميرة بن عبد اللَّه المعافري، عن أبيه أنه سمع عمرو بن الحمق يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر الجند العربيّ، قال عمرو: فلذلك قدمت عليكم مصر.
وأخرج النسائي وابن ماجة، عن رواية رفاعة بن سواد عنه حديث: من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرا.
وروى عنه أيضا عبد اللَّه بن عامر المعافري، وجبير بن نفير الحضرميّ، وأبو منصور مولى الأنصار.
وذكر الطبري عن أبي مخنف أنه كان من أعوان حجر بن عدي، فلما قبض زياد على حجر بن عدي، وأرسله مع أصحابه إلى الشام هرب عمرو بن الحمق.
وذكر ابن حبان أنه توجه به إلى الموصل، فدخل غارا فنهشته حية فمات فأخذ عامل الموصل رأسه فأرسله إلى زياد، فبعث به إلى معاوية وذلك سنة خمسين. وقال خليفة: سنة إحدى وخمسين، وزاد أن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي قتل بالموصل، وبعث برأسه. وقيل:
بل عاش إلى أن قتل في وقعة الحرة سنة ثلاث وستين. قال ابن السكن: يقال إن معاوية

(11/348)


فخرج أبو نعيم من حديث عبد الأعلى بن مسهر، قال: حدثنا يحيى بن حمزة قال: حدثني إسحاق بن عبد اللَّه عن يوسف بن سليمان، عن جدته ميمونة ناثرة عن عمرو بن الحمق أنه سقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبنا، فقال: اللَّهمّ أمتعه بشبابه، فمرت عليه ثمانون سنة، لم ير له شعرة بيضاء.
وخرّجه ابن عساكر من طريق هشام بن عمار، قال: حدثنا يحيى بن حمزة الحضرميّ، حدثني إسحاق بن أبي فروة، حدثنا يوسف بن سليمان، عن جدته ميمونة، عن عمرو بن الحمق: أنه سقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبنا ... الحديث.

وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليهودي بالجمال فاسودت لحيته بعد بياضها
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث محمد بن إبراهيم بن عزرة بن ثابت عن أبيه، عن عزرة بن ثابت الأنصاري، عن ثمامة، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يهوديا أخذ من لحية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ جمله، فاسودت لحيته بعد ما كانت بيضاء [ (2) ] .
وخرّج من طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: حلب يهودي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ جمله، قال: فاسودّ شعره حتى صار أشد سوادا من كذا وكذا.
__________
[ () ] أرسل في طلبه، فلما أخذ فزع، فمات، فخشوا أن يتهموا، فقطعوا رأسه، وحملوه إليه، ثم ذكر بسند جيد إلى أبي إسحاق السبيعي، عن هنيدة الخزاعي، قال: أول رأس أهدي في الإسلام، رأس عمرو بن الحمق، بعث به زياد الى معاوية.
(الإصابة) : 4/ 632- 624، ترجمة رقم (5822) ، (الإستيعاب) : 3/ 1173- 1174، ترجمة رقم (1909) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 210، باب ما روى في شأن اليهودي الّذي أخذ من لحية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] قال البيهقي بعقبة: له شاهد بإسناد مرسل.

(11/349)


قال معمر وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش نحوا من تسعين سنة، فلم يشب [ (1) ] .
قال البيهقي: ورأيته في كتاب (المراسيل) لأبي داود مختصرا: إن يهوديا حلب للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: اللَّهمّ جمله، فاسود شعره [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .

(11/350)


وأما تمتع السائب بن يزيد [ (1) ] بحواسه وسواد شعره بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم له
فخرّج البخاري [ (2) ] من حديث إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا الفضل بن موسى عن الجعد بن عبد الرحمن، قال: رأيت السائب بن يزيد ابن أربع وتسعين جلدا معتدلا، فقال: قد علمت ما متعت سمعي وبصري إلا بدعاء
__________
[ (1) ] هو السائب بن يزيد بن سعيد بن يمامة أو ثمامة، ويقال عائد بن الأسود الكندي أو الأزدي، وقيل: هو كناني، ثم ليثى، وقيل: هذلي، يعرف بابن أخت النمر، والنمر خال أبيه يزيد، وهو النمر بن جبل، ووهم من قال إنه النمر بن قاسط، وقال الزهري: هو أزدى، حالف بني كنانة، له ولأبيه صحبة. روى البخاري من طريق محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد، قال: حج أبي مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا ابن ست سنين. ومن طريق الزهري عنه، قال: خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من تبوك. وفي الصحيحين أيضا من طريق محمد بن يوسف، عن السائب، أن خالته ذهبت به وهو وجع، فسمح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه، ودعا له وتوضأ وشرب من وضوئه، ونظر إلى خاتم النبوة. وأم السائب: أم العلاء بنت شريح الحضرمية، وكان العلاء بن الحضرميّ خاله. قال الزبيري: استعمله عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على سوق المدينة، وهو وسليمان بن أبي خيثمة، وعبد اللَّه بن عتبة بن مسعود. قال أبو نعيم:
مات سنة اثنتين وثمانين، وقيل: بعد التسعين وقيل: سنة إحدى، وقيل: سنة أربع، وقال ابن أبي دواد: هو آخر من مات بالمدينة من الصحابة ووهم يعقوب بن سفيان فذكره فيمن قتل يوم الحرة. له ترجمة في: (الاستيعاب) : 2/ 576- 577، ترجمة رقم (902) ، (الإصابة) :
3/ 26- 28، ترجمة رقم (3079) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 695، كتاب المناقب، باب (21) بدون ترجمة حديث رقم (3540) .
وأخرج في باب (22) خاتم النبوة، حديث رقم (3541) ، ولفظه: حدثنا محمد بن عبد اللَّه، حدثنا حاتم عن الجعد بن عبد الرحمن قال: سمعت السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول اللَّه، فقالت: يا رسول اللَّه- إن ابن أختي وقع فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه.

(11/351)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن خالتي ذهبت بي إليه، فقالت: يا رسول اللَّه، إن ابن أختي شاك، فادع اللَّه له، فدعا لي.
وخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث عكرمة بن عمارة، قال: حدثنا عطاء مولى السائب قال: كان رأس السائب أسود من هذا المكان ووصف بيده أنه كان أسود الهامة أي مقدم رأسه، وكان سائر مؤخرة لحيته وعارضاه أبيض.
فقال: يا مولاي ما رأيت أحدا أعجب شعرا منك، قال: وما تدري [يا بني] لم ذاك؟ إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مر بي وأنا مع الصبيان، فقال: من أنت؟
قلت: السائب بن يزيد أخو النمر، فمسح يده على رأسي، وقال: بارك اللَّه فيك، فهو لا يشيب أبدا.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 209، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم للسائب بن يزيد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وما ظهر فيه ببركة دعائه من الآثار، ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) ، وقال: أخرجه الطبراني في (الكبير) ، ورجال (الكبير) رجال الصحيح، غير عطاء مولى السائب، وهو ثقة.

(11/352)


وأما عدم شيب موضع يد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأس محمد بن أنس [ (1) ]
__________
[ (1) ] هو محمد بن أنس بن فضالة بن عبيد بن يزيد بن قيس بن ضبيعة بن الأصرم بن جحجبي بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي. ذكره في الصحابة، وقال: قال لي يحيى بن موسى، عن يعقوب بن محمد، أنبأنا إدريس بن محمد بن يونس بن محمد ابن أنس الظفري، حدثني جدي عن أبيه، قال: قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وأنا ابن أسبوعين، فأتى بي إليه، فمسح برأسي، وحج بى حجة الوداع، وأنا ابن عشر سنين، وقال: دعا لي بالبركة، وقال: سموه باسمي، ولا تكنوه بكنيتي. وقال يونس: ولقد عمّر أبى حتى شاب كل شيء فيه، ومات وما شاب موضع يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأسه. وكذا أخرجه مطين، عن أبي أمية الطرسوسي، وعن يعقوب بن محمد- هو الزهري به. واختصره ابن أبي حاتم، فقال: محمد ابن أنس بن فضالة، قال: السكن مطولا من وجه أخر، عن يعقوب بن محمد بهذا السند، لكن قال: محمد بن فضالة، فنسب محمد إلى جده. قال ابن شاهين: سمعت عبد اللَّه بن سليمان بن الأشعث يقول: محمد بن أنس بن فضالة، هو الّذي كان تصدق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بماله وابن مندة، من طريق سفيان بن حمزة، عن عمرو بن أبي فروة، عن مشيخة أهل بيته، قال: قتل أنس بن فضالة يوم أحد، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمحمد بن أنس بن فضالة فتصدق عليه بعتق لا يباع ولا يوهب.
قال ابن مندة: لا يروي إلا بهذا الإسناد محمد بن فضالة عن أبيه- وكان أبوه ممن صحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هو وجده: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاهم في بني ظفر. ووصله البغوي عن أبي كامل، وهو فضيل بن حسين، والصلت بن مسعود كلاهما عن فضيل بن سليمان بهذا، وزاد فجلس على صخرة ومعه ابن مسعود ومعاذ، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قارئا فقرأ، حتى إذا بلغ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً بكى بكر حتى اضطرب لحياه، وقال: رب على هؤلاء شهدت، فكيف بمن لم أره. وهكذا أخرجه ابن شاهين عن البغوي، وقال: قال البغوي: لا أعلم روى محمد بن فضالة غير هذا الحديث. وفرق البغوي وابن شاهين وابن قانع وغيرهم بين محمد بن أنس بن فضالة، وبين محمد بن فضالة، والراجح أنهما واحد: لكن قال ابن شاهين أنس ابن فضالة شهد فتح مكة والمشاهد بعدها. واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (الإصابة) : 6/ 4- 5، ترجمة رقم (7762) ، (الإستيعاب) : 3/ 365، ترجمة رقم (317) .

(11/353)


فخرّج البخاري في (التاريخ) [ (1) ] على ما أورده البيهقي [ (2) ] من حديث يحيي بن موسى، عن يعقوب بن محمد [بن إبراهيم الفارسيّ] قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد اللَّه الأصبهاني قال: [ (3) ] أنبأنا إدريس بن محمد بن يونس ابن محمد بن أنس بن فضالة الظفري قال: حدثني جدي يونس عن أبيه قال:
قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وأنا ابن أسبوعين، فأتى بي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح رأسي وحج بي حجة الوداع، وأنا ابن عشر سنين، ودعا لي بالبركة، وقال: سموه باسمي ولا تكنوه بكنيتي قال: قال يونس: فلقد عمر أبي حتى شاب كل شيء من أبي، وما شاب موضع يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأسه ولحيته.
__________
[ (1) ] (تاريخ البخاري) : 1/ 1/ 16.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 213- 214، باب ما جاء في مسحه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأس محمد بن أنس، وحنظلة وعينهما، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(11/354)


وأما تبين بركة يد حنظلة بن حذيم [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه بالبركة
فخرّج البيهقي من حديث أبي القاسم البغوي، قال: حدثنا هارون بن عبد اللَّه أبو موسى حدثنا محمد بن سهل بن مروان، حدثنا الذيال بن عسكر بن
__________
[ (1) ] هو حنظلة بن حذيم بن حنيفة التميمي، ويقال: الأسدي، أسد خزيمة، ويقال له: المالكي، ومالك بطن من بني أسد بن خزيمة. له ولأبيه ولجده صحبه، وقد قال فيه العقيلي في رواية حنظلة بن حنيفة بن حذيم فقلبه. وقد حكى البخاري ذلك عن بعض الرواة.
قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو سعيد مولى بنى هاشم، حديثا الذيال بن عبيد، سمعت جدي حنظلة بن حذيم، حدثني أبي أن جدي حنيفة قال لحذيم: اجمع لي بني، فأوصاهم، فقال: إنّ ليتيمي الّذي في حجري مائة من الإبل. فقال حذيم: يا أبت، إني سمعت بنيك يقولون: إنما نقر بهذا لتقر عين أبينا، فإذا مات رجعنا، فارتفعوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجاء حنيفة وحذيم ومن معهما ومعهم حنظلة وهو غلام وهو رديف أبيه حذيم- فقص حنيفة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قصته، قال: فغضب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فجثا على ركبتيه، وقال: لا، لا الصدقة خمس، وإلا فعشر، وإلا فعشرون، وإلا فثلاثون، فإن كثرت فأربعون. قال: فودعوه ومع اليتيم هراوة، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عظمت هذه هراوة يتيم. فقال حذيم: إن لي بنين ذوي لحي، وإن هذا أصغرهم- يعنى حنظلة- فادع اللَّه له، فمسح رأسه وقال: بارك اللَّه فيك. أو قال: بورك فيك. قال الذيال: فلقد رأيت حنظلة يؤتى بالإنسان الوارم وجهه، فيتفل على يديه ويقول: بسم اللَّه، ويضع يده على رأسه موضع كف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيمسحه، ثم يمسح موضع الورم، فيذهب الورم. ورواه الحسن بن سفيان في (مسندة) من وجه آخر عن الذيال، وزاد أن اسم اليتيم: ضريس بن قطيعة، وأنه كان شبيه المحتلم. ورواه الطبراني بطوله منقطعا، ورواه أبو يعلى من هذا الوجه، وليس بتمامه، وكذا رواه يعقوب بن سفيان والمنجنيقى في (مسندة) وغيرهم.
وأخرج له الحسن بن سفيان والباوردي وابن السكن من طريق مسلم بن قتيبة عن الذيال: سمعت جدي حنظلة سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يتم بعد احتلام، ولا تصلي جارية إذا هي إلا بخمار. (الإصابة) :
2/ 132- 134، ترجمة رقم (1857) ، (الاستيعاب) : 2/ 382، ترجمة رقم (550) .

(11/355)


حنظلة بن حذيم بن حنيفة قال: سمعت جدي حنظلة يحدث أبي وأعمامه أن حنيفة جمع بنيه.
فذكر الحديث في وصيته، وقدومه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه حذيم وحنظلة، وفي آخره قال: بأبي أنت وأمي، أنا رجل ذو بنين [ (1) ] هذا ابني حنظلة، فسمّت عليه [ (2) ] .
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا غلام وأخذ بيده، فمسح رأسه، وقال له: بورك فيك، أو قال: بارك اللَّه فيك، ورأيت حنظلة يوما بالشاة الوارم ضرعها والبعير والإنسان به الورم فيتفل في يده ويمسح بصلعته، ويقول: بسم اللَّه على أثر يد رسول اللَّه، فيمسحه فيذهب عنه [ (3) ] .
وخرّج من طريق البخاري في (التاريخ) [ (4) ] قال: حنطلة بن حذيم، قال يعقوب بن إسحاق حنظلة بن حنيفة بن حذيم، قال: قال حذيم: يا رسول اللَّه إني رجل ذو بنين، وهذا أصغر بني، فسمت عليه. قال: فقال: يا غلام فأخذ بيده ومسح برأسه، وقال: بارك اللَّه فيك أو بورك فيك، فرأيت حنظلة يؤتي بالإنسان الوارم، فيمسح بيده ويقول: بسم اللَّه فيذهب الورم.
وخرّجه الإمام أحمد [ (5) ] من حديث أبي سعيد مولى بني هاشم، حدثنا ذيال ابن عتيك فذكره بطوله إلى أن قال: فدنا أبي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إن لي بنين ذوي لحي، ودون ذلك وإن ذا أصغرهم فادع اللَّه له، فمسح رأسه، وقال:
بارك اللَّه فيك أو بورك فيك. قال ذيال: فلقد رأيت حنظلة يؤتي بالإنسان
__________
[ (1) ] في (الأصل) : ذو بنين، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] فادع له.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 213- 214، باب ما جاء في مسحه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأس محمد بن أنس، وحنظلة بن حنيفة التيمي، وعينيهما، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (4) ] (التاريخ الكبر) 2/ 1/ 37.
[ (5) ] (مسند أحمد) : 6/ 62، حديث رقم (20142) بقية حديث حنظلة بن حذيم- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو حديث طويل، اكتفى المقريزي- رحمه اللَّه تعالى- على ما يشهد به منه لأحاديث الباب.

(11/356)


الوارم وجهه أو بالبهيمة الوارمة الضرع، فيتفل على يده، ويقول: بسم اللَّه ويضع يده ويقول على موضع كف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيمسحه عليه، فيذهب الورم.
وقال أبو عمر بن عبد البر: حنظلة [ (1) ] بن حذيم بن حنيفة أبو عتيبة الحنفي من بني حنيفة، ويقال: حنظلة بن حنيفة بن حذيم التميمي السعدي.
هكذا قال العقيلي، وقال البخاري [ (2) ] : حنظلة بن حذيم، ولم ينسبه، قال: وقال يعقوب بن إسحاق: عن حنظلة بن حنيفة بن حذيم، قال: قال حذيم:
يا رسول اللَّه إن حنظلة أصغر بني ... الحديث، هكذا ذكره البخاري ولم يجوده.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 2/ 382، ترجمة رقم (550) .
[ (2) ] (التاريخ الكبير) : 2/ 1/ 73.

(11/357)


وأما سلامة موضع يد المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأس أبي سفيان مدلوك [ (1) ] فلم يشب دون سائر رأسه
فخرّج البخاري في (التاريخ) [ (2) ] على ما أورده البيهقي، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن مطر بن العلاء الفزاري، عن عمته وقطعة مولاة لهم قالتا:
سمعنا أبا سفيان واسمه مدلوك أنه ذهب إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلم، ودعا له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسح رأسه بيده، ودعا له بالبركة فكان مقدم رأس أبي سفيان أسود مما مسته يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وسائره أبيض.
__________
[ (1) ] هو مدلوك الفزاري، مولاهم، أبو سفيان، قال ابن أبي حاتم: له صحبة، وذكره محمد بن سعد فيمن نزل الشام من الصحابة، وذكره السبرديجى في (الأسماء المفردة من الصحابة) .
وأخرج البخاري في (التاريخ الكبير) ، وابن سعد، والبغوي، والطبراني، من طريق مطر ابن العلاء الفزاري، وحدثتني عمتي آمنه أو أمية بنت الشعثاء، وقطبة مولاة لنا، قالتا: سمعنا أبا سفيان، وزاد البغوي في روايته مدلوكا، يقول: ذهب بي مولاي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت، فدعا لي بالبركة، ومسح رأسي بيده، قالت: فكان مقدم رأس أبي سفيان أسود مما مسه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسائره أبيض! وأخرجه ابن مندة وأبو نعيم من وجه آخر عن مطر: فقال في السند: عن آمنة، بالنون، ولم يشك. وقال الحافظ ابن حجر في (الإصابة) في ترجمة ضمضم بن قتادة:
ومن طريق مطر بن العلاء عن عمته قطبة بنت هرم بن قطبة، أن مدلوكا حدثهم أن ضمضم ابن قتادة ولد له مولود أسود من امرأة من بني عجل، فأوجس لذلك، فشكا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: فيها الأحمر، والأسود وغير ذلك.
قال: فأنى ذلك؟ قال: عرق نزع، قال: وهذا عرق نزع ذلك. قال: فقدم عجائز من بنى عجل فأخبرن أنه كان للمرأة جدة سوداء. قال أبو موسى في (الذيل) : إسناده عجيب. قال الحافظ: أصل القصة في الصحيحين من حديث أبي هريرة من غير تسمية الرجل ولا الزيادة التي في آخره، واستدركه ابن فتحون أيضا من هذا الوجه. (الإصابة) : 3/ 493- 494، ترجمة رقم (4202) ، 6/ 62- 63، ترجمة رقم (8765) ، 7/ 181، ترجمة رقم (10024) ، (الاستيعاب) : 4/ 1680، ترجمة رقم (3007) .
[ (2) ] (التاريخ الكبير) : 4/ 2/ 55.

(11/358)


وخرّجه البيهقي [ (1) ] من طريق علي بن حجر قال: أخبرنا مطر بن العلاء الفزاري قال: حدثتني عمتي آمنة بنت أبي الشعثاء عن مدلوك أبي سفيان فذكره [ (2) ] ، وقال ابن عبد البر [ (3) ] : أبو سفيان مدلوك ذهب مع مولاه إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم معه، ومسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم برأسه ودعا له بالبركة، فكان مقدم رأسه ما مسّ منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أسود وسائره أبيض.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 215.
[ (2) ] ثم قال الحافظ البيهقي عقب ذلك: وأخبرناه أبو عبد اللَّه الحافظ قال: انبأنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، حدثنا الحسين بن محمد بن زياد القباني، قال: ذكر على بن حجر فيما كتب به إلينا، قال: أنبأنا فطر بن العلاء الفزاري، قال: حدثتني عمتي آمنة بنت أبي الشعثاء، عن مدلوك أبي سفيان.
[ (3) ] (الإستيعاب) : 4/ 1680، ترجمة رقم (3007) .

(11/359)


وأما سلامة عبد اللَّه بن عتبة [ (1) ] وذريته من الهرم بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم له بالبركة ولذريته رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث الفضل بن عون المسعودي أبي حمزة قال:
حدثتني أم عبد الرحمن بنت حمزة بن عبد اللَّه عن جدتها، وكانت أم ولد عبد اللَّه بن عتبة، قالت: قلت لسيدي عبد اللَّه بن عتبة: أيش تذكر عن [ (3) ] النبي
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود الهذلي، ابن أخي عبد اللَّه بن مسعود أبو عبد الرحمن، ويقال:
أبو عبيد اللَّه بالتصغير. كان صغيرا على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد حفظ عنه يسيرا، قال أبو عمر:
ذكره العقيلي في (الصحابة) ، وغلط، وإنما هو تابعي، قال الحافظ ابن حجر: المعروف أن أباه مات في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وذكر ابن البرقي فيمن أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يثبت عنه رواية، ولم يزد البخاري في ترجمته على قوله: سمع عمر. يروى عن حميد بن عبد الرحمن، وذكره ابن سعد فيمن ولد على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم روى بسند صحيح إلى الزهري، أن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- استعمله على السوق. قال الحافظ: ولهذا ذكرته في هذا القسم لأن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لا يستعمل صغيرا، لأنه مات بعده بثلاث عشرة سنة وتسعة أشهر، فأقل ما يكون عبد اللَّه أدرك من حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ست سنين، فكأن هذا عمدة العقيلي في ذكره في (الصحابة) ، وقد اتفقوا على ثقته. وروى عنه عمه، وعمر، وعمار، وغيرهم، وروى عنه ابناه: عبيد اللَّه وهو الفقيه المشهور، وعوف، والشعبي، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو إسحاق السبيعي، ومحمد بن سيرين وآخرون. وقال ابن سعد: كان رفيعا أي رفيع القدر، كثير الحديث والفتيا، فقيها. وقال ابن حبان في (الثقات) : كان يؤم الناس بالكوفة، ومات في ولاية بشر بن مروان على العراق سنة أربع وسبعين. وقيل: سنة ثلاث (الإصابة) :
4/ 166- 167، ترجمة رقم (4816) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 282، (الثقات) : 5/ 17.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 215.
[ (3) ] في (الأصل) : «من» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .

(11/360)


صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: أذكر أني غلام خماسي أو سداسي [ (1) ] أجلسني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجره، ودعا لي ولولدي بالبركة، قالت جدتي: فنحن نعرف ذلك أنا لا نهرم [ (2) ] .
قال كاتبه: [ (3) ] هو عبد اللَّه بن عتيبة بن مسعود ابن أخي عبد اللَّه بن مسعود.
قال ابن عبد البر [ (4) ] : ذكره العقيلي في الصحابة فغلط، وإنما هو تابعي من كبار التابعين بالكوفة، وهو والد عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة الفقيه المدني الشاعر شيخ ابن شهاب.
روي عنه ابنه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، وحميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن سيرين، وروي ابنه حمزة بن عبد اللَّه بن عتبة، قال: أذكر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضع يده علي رأسي.
قال: وذكره البخاري في التابعين، وإنما ذكره العقيلي في (الصحابة) لحديث حدثه به محمد بن إسماعيل الصايغ، عن سعيد بن منصور، عن خديج ابن معاوية أخي زهير بن معاوية عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود قال: بعثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلي النجاشي نحوا من ثمانين رجلا منهم ابن مسعود، وجعفر بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن أبي عرفطة، وأبو موسى الأشعري وعثمان بن مظعون، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. الحديث.
قال أبو عمر: لو صحّ هذا الحديث لثبتت هجرة عبد اللَّه بن عتبة إلى أرض الحبشة، ولكنه وهم وغلط، والصحيح فيه أن أبا إسحاق رواه عن عبد اللَّه ابن عتبة، عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلي أرض النجاشي، ونحن نحوا من ثمانين رجلا منهم: ابن مسعود وجعفر ... الحديث، ولعل الوهم أن يكون دخل على من قال ذلك، لما في الحديث، منهم: ابن مسعود، وليس
__________
[ (1) ] ابن خمس سنين أو ست سنين.
[ (2) ] من الهرم، وهو الكبر.
[ (3) ] هو التقى المقريزي رحمة اللَّه عليه.
[ (4) ] (الاستيعاب) : 3/ 945- 946، ترجمة رقم (1603) .

(11/361)


بمشكل عند أحد من أهل هذا الشأن أن عبد اللَّه بن عتبة ليس ممن أدرك زمن الهجرة إلي النجاشي. انتهى كلام ابن عبد البر.
وقد خرّج لعبد اللَّه بن عتبة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وعده المزني والذهبي في الصحابة، وقالا: رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو خماسي أو سداسي.

وأما سلامة عمرو بن ثعلبة [ (1) ] من الشيب بلمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجهه بيده المقدسة
فخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث أبي القاسم البغوي قال: حدثنا أحمد بن عباد الفرغاني، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا وهب بن عطاء بن يزيد الجهنيّ قال:
حدثني الوضاح بن سلمة الجهنيّ عن أبيه، عن عمرو بن ثعلبة الجهنيّ قال:
لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت ومسح على وجهي، فمات عمرو بن ثعلبة، وقد أتت عليه مائة سنة، وما شاب منه شعرة مستها يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وجهه ورأسه.
__________
[ (1) ] هو عمر بن ثعلبة الجهنيّ أو الخشنيّ، ثم الزهري، قال ابن السكن: له صحبة، وروى البغوي، وابن السكن، وابن مندة، من طريق الوضاح بن سلمة الجهنيّ، عن أبيه، عنه، قال: لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسيالة [مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة] ، فأسلمت فمسح على وجهي، فمات عمرو بن ثعلبة عن مائة سنة، وما شابت منه شعرة. وقال ابن مندة: لا يعرف إلا من هذا الوجه، قال الحافظ ابن حجر: وفي إسناده من لا يعرف. وقد خلطة ابن مندة بالذي قبله، فوهم. (الإصابة) : 4/ 610- 611، ترجمة رقم (5791) ، (الإستيعاب) : 3/ 168، ترجمة رقم (1901) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 215- 216، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.

(11/362)


واما أن موضع مس يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأس مالك بن عمير [ (1) ] ووجهه لم يشب
فقال البيهقي: روينا عن مالك بن عمير الشاعر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وضع يده على رأسه، ثم على وجهه، ثم على صدره، ثم على بطنه، ثم عمر مالك حتى شاب رأسه ولحيته، وما شاب موضع يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] . وقال أبو عمر بن عبد البر: مالك بن عمير السلمي، شهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الفتح وحنينا والطائف، وكان شاعرا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] هو مالك بن عمير السلمي الشاعر، ذكره البغوي وغيره في الصحابة،
وأخرج هو والحسن بن سفيان والطبراني من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن واصل بن يزيد بن واصل السلمي، ثم الناصري، حدثنا أبي وعمومتي عن جدي مالك بن عمير، قال: شهدت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الفتح وحنينا والطائف: فقلت: يا رسول اللَّه، إني امرؤ شاعر، فأفتنى في الشعر، فقال: لأن يمتلئ ما بين لبتك إلى عاتقك قيحا خير لك من أن يمتلئ شعرا! قلت: يا رسول اللَّه، فامسح عنى الخطيئة. قال: فمسح يده على رأسي، ثم أمرها على كبدي ثم على بطني، حتى إني لأحتشم من مبلغ يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فلقد كبر مالك حتى شاب رأسه. ولحيته، ثم لم يشب موضع يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأسه ولحيته. وفي رواية البغوي: فإن كان ولا بد منه فشبب بامرأتك، وامدح راحلتك. قال: فما قلت بعد ذلك شعرا. وأخرجه ابن مندة من هذا الوجه مختصرا.
وأخرج الطبراني في (الأوسط) ، من طريق سعيد بن عبيد القطان، عن واصل بن يزيد به، ولكن لم يقل: عن جدي، وإنما قال: عن مالك، وقال: لا يروى عن مالك إلا بهذا الإسناد.
تفرد به سعيد، كذا قال، ورواية يعقوب ترد عليه. وذكره المرزباني في (معجم الشعراء) وقال: له خبر مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكأنه أشار إلى هذا الحديث، قال: وهو القائل:
ومن يفتزع ما ليس من سوس نفسة ... فدعه ويغلبه على النفس خيمها
(الإصابة) : 5/ 740- 741، ترجمة رقم (7676) ، و (الاستيعاب) : 3/ 1356، ترجمة رقم (2287) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 216.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 3/ 1356، ترجمة رقم (2287) .

(11/363)


أما طيب رائحة عتبة بن فرقد [ (1) ] بمسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده على ظهره وبطنه
فقال البيهقي [ (2) ] : وروينا عن حصين بن عبد الرحمن عن أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد أن عتبة بن فرقد كان لا يزيد على أن يدهن رأسه ولحيته، وكان أطيبنا ريحا، فسألته فذكر عتبة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما شكا إليه، أخذ إزار عتبة فوضعه، على فرجه، ثم بسط يديه، ونفث فيها، ومسح إحداهما على ظهره، والأخرى على بطنه، قال: فهذه الريح من ذلك.
وقال ابن عبد البر [ (3) ] : عتبة بن فرقد السلمي أبو عبد اللَّه له صحبة ورواية، وكان أميرا لعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على فتوحات العراق.
__________
[ (1) ] هو عتبة بن فرقد بن يربوع بن حبيب بن مالك بن أسعد بن رفاعة السلمي أبو عبد اللَّه. وقال ابن سعد: يربوع هو فرقد. وروى أبو المعافي في (تاريخ الموصل) ، من طريق هشيم، عن حصين، أنه شهيد خيبر، وقسم له منها فكان يعطيه لبني أخواله عاما، ولبني أعمامه عاما، وقال: وكان حصين من أقربائه، وإن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولاه في الفتوح الموصل سنة ثمان عشرة مع عياض بن غنم. وروى شعبة عن حصين، عن امرأة عتبة بن فرقد وأن عتبة غزا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوتين. وروى الطبراني في (الصغير) ، و (الكبير) ، من طريق أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد، قال: أخذني الشري على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمرني فتجردت، فوضع يده على بطني وظهري، فعبق بى الطيب من يومئذ. وقالت أم عاصم: كنا عنده ثلاث أو أربع نسوة، فكنا نجتهد في الطيب، وما كان يمس الطيب. وإنه لأطيب منا.
وقال أبو عثمان النهدي: جاءنا كتاب عمر ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد. وأخرجاه ونزل عتبة بعد ذلك الكوفة ومات بها. (الإصابة) : 4/ 439- 440، ترجمة رقم (5416) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 26.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 216.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 3/ 1029، ترجمة رقم (1765) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.

(11/364)


قال: وينسبونه عتبة بن يربوع بن حبيب بن مالك وهو فرقد بن سعد رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم السلمي أمه آمنة بنت عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف.
ثم ذكر من حديث ابن وضاع قال: حدثنا محمد بن فروخ، حدثنا علي ابن عاصم حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال: حدثتني أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد، [قالت: كنا عند عتبة بن فرقد] ثلاث [نسوة] ما منا واحدة إلا وهي تجتهد في التطيب لتكون أطيب ريح من صاحبتها، وما يمسّ عتبة طيبا إلا أن يلتمس دهنا، وكان أطيب ريح منا، فقلت له في ذلك، فقال: أصابني الشري على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأقعدني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين يديه، وتجردت وألقيت ثيابي على عورتي، فنفث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في كفه ثم دلك بها ثم والأخرى، أمرهما على ظهري وبطني فعبق به ما ترون.
وروى عن شعبة عن حصين، عن امرأة عتبة بن فرقد أنه غزا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوتين.
وخرّج هذا الحديث أبو القاسم الطبراني من حديث آدم بن أبي إياس قال:
حدثنا شيبان وورقاء، عن حصين بن عبد الرحمن قال: حدثني أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد السلمي قالت: كنا عند عتبة أربع نسوة ما منا امرأة إلا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمس عتبة الطيب إلا أن يمس دهنا يمسح به لحيته، وهو أطيب ريحا منا.
وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنا لنجتهد في الطيب، ولأنت أطيب ريح منا. فمم ذلك؟ قال: أخذني الشري على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرد، فتجردت وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده، ثم مسح يده على ظهري وبطني، فعبق على هذا الطيب من يومئذ.

(11/365)


وأما وضاءة وجه قتادة بن ملحان [ (1) ] بمسح المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم له
فخرّج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يحدث عن أبي العلاء قال: كنت عند قتادة بن ملحان في مرضه الّذي مات فيه، فمر رجل في مؤخر الدار، فرأيته في وجه قتادة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسح وجهه، قال: كنت قل ما رأيته إلا رأيته كان على وجهه الدهان.
__________
[ (1) ] هو قتادة بن ملحان القيسي، قال البخاري وابن حبان: له صحبة، يعد في البصريين، روى همام عن أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان عن أبيه، وقال أبو الوليد: وهم فيه ابن سعد، فقال عبد الملك بن المنهال عن أبيه. قال الحافظ ابن حجر: ومتن الحديث في صوم أيام البيض أخرجه أبو دواد من طريق همام أيضا، والبغوي، وأخرج ابن شاهين من طريق سليمان، عن حيان بن عمرو، قال: مسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وجه قتادة بن ملحان، ثم كبر، فبلى منه كل شيء غير وجهه: قال فحضرته عند الوفاة، فمرت امرأة فرأيتها في وجهه كما أراها في المرآة روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، روى عنه ابنه عبد الملك، وأبو العلاء بن الشخير، ووقع في بعض الطرق: عبد الملك بن قدامة، بدل قتادة، وفي بعضها: ابن المنهال، والأول أصوب.
(الإصابة) : 5/ 416، ترجمة رقم (7079) ، و (الإستيعاب) : 3/ 1274، ترجمة رقم (2106) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 664، حديث رقم (19806) ، من حديث قتادة بن ملحان، 6/ 18، حديث رقم (20239) ، (20240) ، من حديث المهاجر بن قنفذ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 217، باب ما روى في شأن قتادة بن ملحان، وما ظهر على وجهه ببركة مسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إياه من النور، من حديث معتمر بن سليمان وعبد اللَّه بن أحمد حنبل.

(11/366)


وأما تمتع النابغة [ (1) ] بأسنانه وقد نيف على المائة عام بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم له بذلك
__________
[ (1) ] هو النابغة الجعديّ الشاعر المشهور المعمر، اختلف في اسمه، فقيل: هو قيس بن عبد اللَّه بن عبس بن ربيعة بن جعدة، وقيل بدل عدس: وحوح. وجعدة هو ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقيل: سمى النابغة عبد اللَّه، وقيل: حبان بن قيس بن عبد اللَّه بن قيس، وقيل بتقديم قيس على عبد اللَّه وبه جزم القحذمي، وأبو الفرج الأصبهاني، وبالأول جزم ابن الكلبي، وأبو حاتم السجستاني، وأبو عبيدة، ومحمد بن سلام الجمحيّ، وغيرهم، وحكاه البغوي عنه، وحكى أبو الفرج الأصبهاني أنه غلط، لأنه كان له أخ اسمه وحوح بن قيس قتل في الجاهلية، فرثاه النابغة. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون وحوح أخاه لأمه، وقد أخرج الحسن بن سفيان في مسندة عن أبى وهب الوليد بن عبد الملك، عن يعلى بن الأشدق: حدثني قيس بن عبد اللَّه بن عدس بن ربيعة، نابغة بنى جعدة، فذكر حديثا، قال أبو الفرج: أقام مدة لا يقول الشعر، ثم قاله، فقيل: نبغ، وقيل: كان يقول الشعر ثم تركه في الجاهلية ثم عاد إليه بعد أن أسلم فقيل: نبغ. وقال القحذمي: كان النابغة قديما شاعرا مغلقا طويل العمر في الجاهلية وفي الإسلام، قال: وكان أسنّ من النابغة الذبيانيّ، ومن شعره الدال على طول عمره:
ألا زعمت بنو أسد بأنى ... أبو ولد كبير السن فاني
فمن يك سائلا عنى فإنّي ... من الفتيان أيام الخنان
أتت مائة عام ولدت فيه ... وعشر بعد ذاك وحجتان
وقد أبقت صروف الدهر منى ... كما أبقت من السيف اليماني
وقال أبو حاتم السجستاني في كتاب (المعمرين) : عاش مائتي سنه، وهو القائل:
قال أمامة كم عمرت زمانة ... وذبحت من عتر على الأوثان
ولقد شهدت عكاظ قبل محلها ... فيها وشهدت يوم هجائن النعمان
والمنذر بن محرق في ملكه ... وشهدت يوم هجائن النعمان
وعمرت حتى جاء أحمد بالهدى ... وقوارع تتلى من القرآن
ولبست في الإسلام ثوبا واسعا ... من سيب لا حرم ولا منان
قال ابن عبد البر: استدلوا بهذا على أنه كان أسن من النابغة الذبيانيّ لأنه ذكر أنه شهد المنذرين بن محرق، والنابغة إنما أدرك النعمان بن المنذر، وتقدمت وفاة النابغة الذبيانيّ قبله

(11/367)


__________
[ () ] بمدة ولذلك كان يظن أن النابغة الذبيانيّ أكبر من الجعديّ. وذكر عمر بن شبة عن أشياخه أنه عمر مائة وثمانين سنة، وأنه أنشد عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
لبست أناسا فأفنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا
ثلاثة أهلين أفنيتهم ... وكان الإله هو المستآسا
فقال له عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: كم لبثت مع كل أهل؟ قال: ستين سنة، وقال ابن قتيبة: عمر بعد ذلك الى زمن ابن الزبير، ومات بأصبهان وله مائتان وعشرون سنة، وذكر المرزباني نحوه إلا قدر عمره، وزاد أنه كان من أصحاب على وله مع معاوية أخبار، وعن الأصمعي أنه عاش مائتين وثلاثين سنة. وروينا في كتاب الحاكم من طريق النضر بن شميل، أنه سئل عن أكبر شيخ لقيه المنتجع الأعرابي، قال: قلت له: من أكبر من لقيت؟
قال: النابغة الجعديّ، قال: قلت له: كم عشت في الجاهلية؟ قال: دارين. قال النضر:
يعني مائتي سنة، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان النابغة ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الخمر والسكر، وهجر الأزلام، واجتنب الأوثان، وذكر دين إبراهيم، وهو القائل القصيدة التي فيها:
الحمد للَّه لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
قال أبو عمر: في هذه القصيدة ضروب من التوحيد، والإقرار بالبعث، والجزاء، والجنة، والنار، على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل: إنها لأمية، لكن صحح حماد الراوية، ويونس بن حبيب، ومحمد بن سلام الجمحيّ، وعلى بن سليمان الأخفش للنابغة قرأت على عليّ بن محمد الدمشقيّ بالقاهرة، عن سليمان بن حمزة، أنبأنا أبو النصر الطوسي، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا دواد بن رشيد، حدثنا يعلي بن الأشدق، قال: سمعت النابغة الجعديّ يقول: أنشدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة. قال: أجل- إن شاء اللَّه تعالى، ثم قال:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

(11/368)


__________
[ () ] فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يفضض اللَّه فاك، مرتين، وهكذا أخرجه البزار، والحسن بن سفيان في (مسنديهما) ، وأبو نعيم في (تاريخ أصبهان) ، والشيرازي في (الألقاب) ، وكلهم من رواية يعلي بن الأشدق،
قال: وهو ساقط الحديث.
قال أبو نعيم: رواه عن يعلى جماعة، منهم هاشم بن القاسم الحراني، وأبو بكر الباهلي:
فقد وقعت لنا قصة في غريب الحديث للخطابي: وفي كتاب (العلم) للمرهبى، وغيرهما، ومن طريق مهاجر بن سليم، عن عبد اللَّه بن جراد: سمعت نابغة بنى جعدة يقول: أنشدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قولي:
علونا السماء مجدنا وجدودنا
البيت فغضب صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة، قال: أجل- إن شاء اللَّه- ثم قال: أنشدني من قولك. فأنشدته البيتين:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
فقال لي: أجدت، ولا يفضض اللَّه فاك، فرأيت أسنانه كالبرد المنهل، فما انقصمت له سنّ، ولا انفلت، ورويناه في (المؤتلف والمختلف) للدارقطنيّ، وفي (الصحابة) لابن السكن، وفي غيرهما من طريق الرحال بن المنذر: حدثني أبي عن أبيه كرز بن أسامة، وكانت له وفادة مع النابغة الجعديّ، فذكرها بنحوه،
ورويناها في (الأربعين البلدانية) للسلفي، من طريق أبي عمرو ابن العلاء، عن نصر بن عاصم الليثي، عن أبيه: سمعت النابغة يقول: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأنشدته قولي:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
فقال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- إن شاء اللَّه- فلما أنشدته:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... ولا خير في جهل إذا لم يكن له
فقال لي: صدقت، لا يفضض اللَّه فاك، فبقي عمره أحسن الناس ثغرا، كلما سقطت سن عادت أخرى، فكان معمرا، ورويناه في (مسند الحارث بن أبي أسامة) ، ومن طريق الحسن ابن عبيد اللَّه العنبري، قال: حدثني من سمع النابغة الجعديّ يقول: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأنشدته:

(11/369)


__________
[ () ]
وإنا لقوم ما نعود خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا ... من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا
وليس بمعروف لنا أن نردها ... صحاحا ولا مستنكرا أن تعقرا
ورويناها مسلسلة بالشعراء من رواية دعبل بن علي الشاعر، عن أبي نواس عن والبة بن الحباب، عن الفرزدق، عن الطرماح، عن النابغة، وهي في كتاب (الشعراء) لأبي زرعة الرازيّ المتأخر، وقد طولت ترجمته في كتاب (من جاوز المائة) مما دار بينه وبين من هاجاه من الماجريات كليلى الأخيلية صاحبة توبة، وأوس المزني، وغيرهما. وذكر أبو نعيم في (تاريخ أصبهان) ، انه قيس بن عبد اللَّه، وأنه مات بأصبهان، قال: وكان معاوية سيره إليها مع الحارث بن عبد اللَّه بن عبد عوف بن أصرم، وكان ولى أصبهان من قبل علي، ثم أسند من طريق الأصمعي، عن هانئ بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن صفوان، قال: عاش النابغة، مائة وعشرين سنة. قال ابن عبد البر: قصيدة النابغة مطولة نحو مائتي بيت، أولها:
خليلي غضاعة وتهجرا ... ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
يقول فيها:
أتيت رسول اللَّه إذا جاء بالهدى ... ويتلو كتابا كالمجرة نيرا
ومنها:
وجاهدت حتى ما أحس ومن معى ... سهيلا إذا ما لاح ثم تحورا
أقيم على التقوى وأرضى بفعلها ... وكنت من النار المخوفة أحذرا
ثم أورد أبو عمر بإسناده إلى أبي الفرج الرياشي منها أربعة وعشرين بيتا، وذكر عمر بن شبة عن مسلمة بن محارب، أن النابغة الجعديّ دخل على على فذكر قصة، وذكر أبو نعيم في (تاريخ أصبهان) : وأخرج ابن أبي خثيمة في تاريخه عن الزبير بن بكار، وحدثني أخي هارون ابن أبي بكر، عن يحيى بن أبي قتيلة، عن سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة، عن أبيه، عن عمه عبد اللَّه بن عروة قال: ألحت السنة على نابغة بني جعدة، فدخل علي ابن الزبير في المسجد الحرام، فأنشده:
حكيت لنا الصديق لما وليتنا ... وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في الحق فاستووا ... فعاد صباحا حالك الليل مظلم

(11/370)


فخرّج أبو نعيم [ (1) ] من حديث إسماعيل بن عبد اللَّه بن خالد الرقي قال:
حدثنا يعلى بن الأشهل قال: سمعت النابغة- نابغة بني جعدة- يقول: أنشدت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذا الشعر فأعجبه وهو:
بلغنا السماء مجدنا وثراءنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال لي: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: إلى الجنة، قال: - إن شاء اللَّه تعالى- فلما أنشدته:
__________
[ () ]
أتاك أبو ليل تجوب به الدجى ... دجى الليل جواب الفلاة عرمرم
لجبر منه جانبا دعدعت به ... صروف الليالي والزمان المصمم
فقال ابن الزبير: هون عليك يا أبا ليلى فإن الشعر أيسر وسائلك عندنا، لك في مال اللَّه حقان: لرؤيتك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده، فدخل به دار النعم، وأعطاه
فجعل النابغة يستعجل ويأكل الحب صرفا، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى لقد بلغ به الجهد
، فقال النابغة: أشهد لسمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما وليت فعدلت، واسترحمت فرحمت، وحدثت فصدقت، ووعدت خيرا فأنجزت، فأنا والنبيون فراط التابعين،
[يريد أنهم يتقدمون الأمم إلى الجنة، وهم على إثره متدافعين ومزدحمين] ، وقد وقع لنا عاليا جدا من حديث ابن الزبير موافقة: قرأت على فاطمة بنت محمد بن المنجي بدمشق، عن سليمان بن حمزة، أنبأنا محمود بن إبراهيم في كتابه، أنبأنا مسعود بن الحسن، أنبأنا أبو بكر السمسار، أنبأنا أبو إسحاق بن خرشة، أنبأنا ابو الحسن المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، به بتمامه، وأخرجه ابن جرير في (تاريخه) ، عن ابن أبي خثيمة، وأخرجه أبو الفرج الأصبهاني في (الأغاني) عن ابن جرير. وأخرجه ابن أبي عمر في (مسندة) ، عن هارون. وأخرجه ابن السكن، عن محمد بن إبراهيم الأنماطي، والطبراني في (الصغير) ، عن حسين بن الفهم، وأبو الفرج الأصبهاني، عن حرمي بن العلاء، ثلاثتهم عن الزبير، فوقع لنا بدلا عاليا.
وأخرج أبو نعيم عن الطبراني طرفا منه (الإصابة) : 6/ 391- 398، ترجمة رقم (8645) ، (الاستيعاب) : 4/ 1514- 1522، ترجمة رقم (2648) ، (الشعر والشعراء) : 177- 181، (المؤتلف والمختلف للدارقطنيّ) : 4/ 1957، 2168.
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 458- 459، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمرو بن أخطب والنابغة الجعديّ، حديث رقم (385) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.

(11/371)


ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أجدت لا يفضض اللَّه فاك، قال يعلي: فلقد رأيته وقد أتى عليه نيفا ومائة سنة وما ذهب له سن.
قال كاتبه: فذكر ابن عبد البر أنه اختلف في اسم النابغة هذا، فقيل قيس ابن عبد اللَّه، وقيل حبان بن قيس بن عبد اللَّه بن عمر بن عبس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقيل اسمه حبان بن قيس عبد اللَّه بن وحوح بن عبس بن ربيعة بن جعدة، وإنما قيل له النابغة لأنه قال الشعر، ثم تركه نحو ثلاثين سنة، ثم سعى فيه بعد فقال، فسمى النابغة. قال ابن قتيبة: عمره مائتين وعشرين سنة، وقيل: أقل من ذلك.
قال أبو عمر: وفد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مسلما وأنشده، فدعا له صلّى اللَّه عليه وسلّم
وذكر أبو عمر من حديث قاسم بن أصبغ قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا العباس ابن الفضل، حدثنا محمد بن عبد اللَّه التميمي، قال: حدثنا الحسن بن عبيد اللَّه، قال: حدثني من سمع النابغة الجعديّ يقول: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنشدته قولي:
وإنا لقوم ما تعود خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا ... من الطعن حتى يحسب الجون أشقرا
وليس بمعروف لنا أن نردها ... صحاحا ولا مستنكر أن تعقرا
بلغنا السماء مجدنا وثناءنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: فقلت: إلى الجنة، قال: نعم إن شاء اللَّه، فلما أنشدته:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يفضض اللَّه فاك، قال: وكان من أحسن الناس ثغرا، كان إذا سقطت له سن نبتت.

(11/372)


وفي رواية عبد اللَّه بن جراد لهذا الخبر قال: فنظرت إليه كأن فاه البرد المتهلل [ (1) ] يتلألأ، وما سقطت له سن ولا تقلقلت بقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: له أجدت، لا يفضض اللَّه فاك [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في بعض النسخ: المنهل.
[ (2) ] وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 232- 233، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم للنابغة الجعديّ، وإجابة اللَّه- تعالى- له فيما دعا له به.

(11/373)


وأما برء ساق سلمة بن الأكوع [ (1) ] بنفث الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها
فخرّج البيهقي [ (2) ] في (الدلائل) من حديث المكيّ بن أبي عبيدة قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم! ما هذه الضربة التي أصابتها
__________
[ (1) ] وهو سلمة بن الأكوع، هكذا يقول جماعة أهل الحديث، ينسبونه إلى جده وهو سلمة بن عمرو ابن الأكوع، والأكوع هو سنان بن عبد اللَّه بن قشير بن خزيمة بن مالك بن سلامان بن الأقصى الأسلمي. يكنى أبا مسلم، وقيل: يكنى أبا إياس. وقال بعضهم: يكنى أبا عامر، والأكثر: أبو إياس [بابنه إياس] ، كان ممن بايع تحت الشجرة، سكن بالربذة، وتوفى بالمدينة سنة أربع وسبعين، وهو ابن ثمانين سنة، وهو معدود في أهلها، وكان شجاعا، سخيا، فاضلا.
روى عنه جماعة من تابعي أهل المدينة. قال ابن إسحاق: وقد سمعت أن الّذي كلمة الذئب سلمة بن الأكوع، قال سلمة: رأيت الذئب قد أخذ ظبيا، فطلبته حتى نزعته منه، فقال: ويحك! ما لي ولك ولها؟ عمدت إلى رزق رزقنيه اللَّه، وليس من مالك تنتزعه مني؟ قال: قلت: أيا عباد اللَّه، إن هذا لعجب! ذئب يتكلم؟ فقال الذئب: أعجب من هذا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة اللَّه، وتأبون إلا عبادة الأوثان قال: فلحقت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت فاللَّه أعلم أي ذلك كان، ذكر ذلك ابن إسحاق بعد ذكر رافع بن عميرة الّذي كلمه الذئب، عمر سلمة بن الأكوع عمرا طويلا، روى عنه إياس بن سلمة، ويزيد بن أبي عبيد. وقال: يزيد بن أبي عبيد: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبيّة؟ قال:
على الموت، قال يزيد: وسمعت سلمة بن الأكوع يقول: غزوت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سبع غزوات، وخرجت فيما بعث من البعوث سبع غزوات، وقال عنه ابنه إياس: ما كذب أبي قط
وروى عن أبيه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: خير رجالنا سلمة ابن الأكوع،
وروى عبد اللَّه بن موسى عن موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة عن أبيه، قال: بينا نحن قائلون نادى مناد أيها الناس، فذلك قول اللَّه عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 18] . (الاستيعاب) 2/ 639- 460، ترجمة رقم (3391) .
(الإصابة) : 3/ 143، ترجمة رقم (3364) ، ترجمة رقم (3391) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 251، باب ما جاء في نفث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جرح سلمة بن الأكوع يوم خيبر وبرؤه من ذلك.

(11/374)


قال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر؟ فقال الناس: أصيب سلمة [ (1) ] ، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة [ (2) ] .

وأما برء قرحة في رجل بوضع المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم ريقه بإصبعه عليها
فخرّج البيهقي [ (3) ] من حديث ابن وهب قال: أخبرنا ابن لهيعة عن عمارة ابن غزية أن محمد بن إبراهيم التيمي حدثه، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال حدثه أن محمد بن إبراهيم حدثه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتي برجل برجله قرحة قد أعيت الأطباء فوضع إصبعه على ريقه، ثم رفع طرف الخنصر، فوضع إصبعه على التراب، ثم رفعها فوضعها على القرحة، ثم قال:
باسمك اللَّهمّ ريق بعضنا، بتربة أرضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا.
قال البيهقي: هذا الدعاء في حديث عائشة موصولا، قلت: أوردته في الطب.
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «فما اشتكيتها» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 603، كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر حديث رقم (4206) ، وفيه:
«أصابتها يوم خيبر» أي أصاب ركبته، يوم بالنصب على الظرفية، قوله: «فنفث فيه» أي في موضع الضربة، والنفث: فوق النفخ ودون التفل، وقد يكون بغير ريق بخلاف التفل وقد يكون بريق خفيف بخلاف النفخ، وأخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 219، كتاب الطب، باب (19) كيف الرقى؟ حديث رقم (3894) من حديث مكي بن إبراهيم أيضا.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 170، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم لصاحب القرحة حتى صح وبرئت القرحة.

(11/375)


وأما ظهور بركة تفله صلّى اللَّه عليه وسلّم في فم عبد اللَّه بن عامر [ (1) ]
فخرّج البيهقي من حديث عمر بن شبة قال: أخبرني أبو عبيدة النحويّ، أن عامر بن كريز أتي بابنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو ابن خمس سنين أو ست سنين، فتفل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في فيه، فجعل يزدرد ريق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويتملظ.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن ابنك هذا مسقي [ (2) ] علي وفي رواية: أرجو أن يكون مسقيا [ (3) ] .
قال: وكان يقال: لو أن عبد اللَّه قدح حجرا أمامه يعني يخرج من الحجر الماء من بركته [ (4) ] .
وقال ابن عبد البر: عبد اللَّه بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس ابن عبد مناف القرشي العبشمي: ولد على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتي به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو صغير، فقال: هذا شبيهنا، وجعل يتفل عليه، عوذة فجعل عبد اللَّه يتسوع ريق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه لمسقى، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء. وقيل: لما أتي بعبد اللَّه بن عامر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لبني عبد شمس هذا أشبه بنا منكم، ثم تفل في فيه فازدرده، فقال: أرجو أن يكون مسقيا [ (5) ] ،
فكان كما قال [النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] فإنه هو الّذي اتخذ النباج وأنبط عيونا
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي، ابن خال عثمان بن عفان. أم عثمان أروى بنت كريز، وأمها وأم عامر بن كريز البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب. وأم عامر بن ربيعة دجاجة بنت أسماء بن الصلت.
(الاستيعاب) : 2/ 931، ترجمة رقم (1587) .
[ (2) ] في (الأصل) : «يسقي» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 225، باب ما جاء في تغله صلّى اللَّه عليه وسلّم في فم عبد اللَّه بن عامر بن كريز، وما أصابه من بركته.
[ (5) ] زيادة للسياق من (الاستيعاب) ، ثم قال أبو عمر: وقد أتى عبد المطلب بن هاشم بأبيه عامر بن كريز وهو ابن ابنته أم حكيم البيضاء، فتأمله عبد المطلب، وقال: ما ولدنا ولدا أحرص منه وكانت أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم تحت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد

(11/376)


تعرف به، ثم اتخذ النهر الّذي عرف بنهر أم عبد اللَّه، وهي أمه دجاجة بنت أسماء بن الصلت السلمي، وقال: لو تركت لخرجت المرأة ترد كل يوم ماء حتى توافي مكة يعني البصرة.
__________
[ () ] شمس، فولدت له عامرا أبا عبد اللَّه بن عامر هذا، وقد روى عبد اللَّه بن عامر هذا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما أظنه سمع منه ولا حفظ عنه.
ذكر البغوي عن مصعب الزبيري، عن أبيه، عن مصعب بن ثابت، عن حنظلة بن قيس، عن عبد اللَّه بن الزبير وعبد اللَّه بن عامر بن كريز، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» رواه موسى بن هارون الحمال، عن مصعب، بإسناده.
قال الزبير وغيره: كان عبد اللَّه بن عامر سخيا، كريما، حليما، ميمون النقيبة، كثير المناقب، هو افتتح خراسان، وقتل كسرى في ولايته، وأحرم من نيسابور شكرا للَّه تعالى، وهو الّذي عمل السقايات بعرفة، وقال صالح بن الوجيه، وخليفة بن خياط: وفي سنة تسع وعشرين عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، وعثمان بن أبي العاص، عن فارس، وجمع ذلك كله لعبد اللَّه بن عامر بن كريز، وقال صالح: وهو ابن أربع وعشرين سنة: وقال أبو اليقظان: قدم ابن عامر البصرة واليا عليها، وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة، ولم يختلفوا أنه افتتح أطراف فارس كلها. وعامة خراسان، وأصبهان، وحلوان وكرمان، وهو الّذي شق نهر البصرة، ولم يزل واليا لعثمان على البصرة، إلى أن قتل عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكان ابن عمته، لأن أم عثمان أروى بنت كريز، ثم عقد له معاوية على البصرة ثم عزله عنها، وكان أحد الأجواد، أوصى إلى عبد اللَّه بن الزبير، ومات قبله بيسير، وقد رثاه كل من زياد، وزياد الأعجم بأبيات ذكرها ابن عبد البر في (الإستيعاب) : 3/ 931- 933، ترجمة رقم (1587) .

(11/377)


وأما قيام تفله صلّى اللَّه عليه وسلّم في أفواه الرضعاء [يوم عاشوراء] مقام الغذاء
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث عبيد اللَّه بن عمر القواريري، قال: حدثتنا عليه بنت الكميت العتكية عن أمها أميمة قالت: قلت لأمه اللَّه أسمعت أمك رزينة تذكر أنها سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يذكر صوم يوم عاشوراء؟ قالت: نعم يعظمه ويدعو برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة، فيتفل في أفواههم، ويقول للأمهات: لا ترضعوهن إلى الليل [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 226، باب ما جاء في تفلة في أفواه المرتضعين يوم عاشوراء فتكفوا به إلى الليل. وما بين الحاصرتين في عنوان الفصل زيادة للسياق منه.
[ (2) ] ثم قال البيهقي: وأخبرنا أبو الحسن، أنبأنا أحمد بن الحسن أنه علي بن المتوكل، حدثنا عبيد اللَّه بن عمر القواريري، فذكره بإسناد نحوه، إلا أنه لم يقل العتكية، وقال: حدثتني أمي أميمة، ولم يقل مولاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال الحافظ ابن حجر: رزينة مولاة صفية زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهي أيضا خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [حديثها عند البصريين في يوم عاشوراء]
أخرجه ابن أبى عاصم، وابن مندة من طريق، عن مسلم بن إبراهيم، عن عليلة مطولا: ولفظه: حدثتنا عليلة بنت الكميت صلّى اللَّه عليه وسلّم يقال لها: أمة اللَّه، وكانت أمها خادما لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قالت: نعم، حدثتني أمي رزينة أنها سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يذكر يوم عاشوراء ويعظمه] حتى إن كان ليدعو صبيانه وصبيان فاطمة المراضع في ذلك اليوم، فيتفل في أفواههم، ويقول لأمهاتم: لا ترضعوهم إلى الليل،
ورزينة: ضبطت بفتح أولها، وقيل فيها بتقديم الزاى على الراء:
وأخرج أبو يعلى [بسنده] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما تزوج صفية أمر ببرها خادما وهي رزينة (الإصابة) : 7/ 644- 645، ترجمة رقم (11170) .

(11/378)


وأما قيام ريقه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فم محمد بن ثابت [ (1) ] وتحنيكه بتمره مقام لبان أمه
فخرّج البيهقي من حديث زيد بن الحباب قال: حدثني أبو ثابت يزيد بن إسحاق بن إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري قال: حدثني إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس أن ثابت بن قيس فارق جميلة بنت عبد اللَّه ابن أبيّ، وهي حامل بمحمد، فلما ولدته حلفت أن لا تلبنه من لبنها، فدعا به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبزق في فيه وحنكه بتمر عجوة، وسماه محمدا، وقال: اختلف به [إليّ] [ (2) ] فإن اللَّه رازقه، فأتينه اليوم الأول، والثاني، والثالث، فإذا امرأة
__________
[ (1) ] هو محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي المدني، أمه جميلة بنت عبد اللَّه ابن أبي بن سلوك التي اختلعت من ثابت، وأتى به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما ولد فحنكه، وأورده في الصحابة على قاعدتهم فيمن له رؤية،
فأخرج البغوي، وابن أبي داود، وابن شاهين، من طريق زيد ابن الحباب: حدثنا أبو ثابت، من ولد ثابت بن قيس بن شماس عن إسماعيل بن محمد بن ثابت، عن أبيه، أن أباه ثابتا فارق جميلة بنت عبد اللَّه بن أبي وهي حامل بمحمد، فلما وضعته حلفت أن لا تلبنه بلبنها، فجاء به ثابت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبزق في فيه، وسماه محمدا وقال اذهب به، فإن اللَّه رازقه؟
قال: فتلقتني امرأة من العرب تسأل عن ثابت بن قيس، فقلت: أنا ثابت بن قيس، ما تريدين؟ قالت رأيت في ليلتي هذه أنى أرضع ابنا يقال له محمد، قال: فهذا ابني، فأخذته وإن ضرعها ليعصر من لبنها من ثديها، لفظ البغوي، وقال ابن مندة:
غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب، ولا يصح لمحمد بن ثابت صحبة، وأخرج الحديث البيهقي من وجه آخر، عن زيد بن الحباب، وسمى أبا ثابت زيد بن إسحاق بن إسماعيل ابن محمد بن ثابت، وقد سبق لمحمد ذكر في ترجمة أخيه عبد اللَّه بن ثابت، وروي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أبيه، وسالم مولى أبى حذيفة. وروى عنه ابناه: إسماعيل ويوسف، والزهري وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى، وقال: هو أخو عبد اللَّه بن حنظلة لأمه، وقتل يوم الحرة هو وأولاده: عبد اللَّه، وسليمان، ويحيى: وقال خليفة: قتل هو وأخواه: عبد اللَّه ويحى يوم الحرة، (الإصابة) : 6/ 246- 247، وترجمة رقم (8301) .
[ (2) ] في (الأصل) فقط.

(11/379)


من العرب تسأل عن ثابت بن قيس، فقلت لها: ما تريدين منه؟ أنا ثابت، قالت: رأيت في منامي هذه الليلة كأني أرضع ابنا له يقال له: محمد، فقال: أنا ثابت وهذا ابني محمد، قال: وإذا درعها ينعصر من لبنها [ (1) ] . وخرّجه الحاكم في مستدركه.

وأما ذهاب الصداع عن فراس بن عمرو [ (2) ] بأخذ المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بجلدة ما بين عينيه وما ظهر من أعلام النبوة في ذلك
فخرّج البيهقي [ (3) ] من حديث أبي أسامة الكلبي قال: حدثنا شريح بن مسلمة حدثنا أبو يحيى التيمي وإسماعيل بن إبراهيم قال: حدثني سيف بن وهب ابن أبي الطفيل أن رجلا من بني ليث يقال له: فراس بن عمرو أصابه صداع شديد، فذهب به أبواه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فشكا إليه الصراع الّذي به فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فراسا فأجلسه بين يديه، فأخذ بجلدة ما بين عينيه فجذبها حتى تنقضت،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 227، باب ما جاء في تحنيكة محمد بن ثابت بن قيس بن شماس وبزاقة في فيه، وما ظهر في ذلك ببركته من صلّى اللَّه عليه وسلّم الآثار.
[ (2) ] هو فراس بن عمرو الكناني ثم الليثي. وقال ابن حبان: له صحبة وقال غيره: له رؤية، ولأبيه صحبة، وروى الباوردي وابن مندة من طريق أبى يحيى التيمي- وهو إسماعيل بن يحيى أحد الكذابين قال: حدثني يوسف بن هارون، عن أبي الطفيل، أن رجلا من بني ليث يقال له: فراس بن عمرو، أصابه صداع شديد، فذهب به أبوه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فشكا إليه الصداع الّذي به، فدعا رسول اللَّه فراسا فأجلسه بين يديه، وأخذ جلدة ما بين عينيه فمدها، فنبتت في موضع أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جبين فراس شعرة، فذهب عنه الصداع، فلم يصدع، زاد الباوردي في روايته: قال أبو الطفيل: فأراد أن يخرج مع الخوارج يوم حروراء فأوثقه رباطا، فسقطت الشعرة التي بين عينيه، ففزع لذلك، وأحدث توبة قال أبو الطفيل: فلما تاب نبتت، قال: ورأيتها قد سقطت. ثم رأيتها بعد نبتت، ورواه محمد بن قدامة المروزي في كتاب (أخبار الخوارج) له، من هذا الطريق، (الإصابة) : 259- 260، ترجمة رقم (6972) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 230- 231، باب ما جاء في شأن من شكا إليه الصداع.

(11/380)


فنبتت في موضع أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جبينه شعرة فذهب عنه الصداع، فلم يصدع.
قال أبو الطفيل: فرأيتها كأنها شعره قنفذ، قال: فهم بالخروج على عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- مع أهل حروري قال: فأخذه أبوه فأوثقه وحبسه فسقطت تلك الشعرة، فما رآها [قد سقطت] [ (1) ] شق عليه ذلك، فقيل له:
هذا ما هممت به؟ [فأحدث] [ (2) ] توبة وتاب.
قال أبو الطفيل: فرأيتها قد سقطت ثم رأيتها بعد ما نبتت، قال البيهقي:
تفرد به أبو يحيى التيمي.
قال كاتبه: أبو يحيى هذا هو إسماعيل بن إبراهيم الأحول أبو يحيي التيمي الكوفي [ (3) ] يروي عن عطاء بن السائب وإبراهيم بن الفضل، والأعمش، وزيد بن أبي زياد.
ويروي عنه أبو كريب وأبو سعيد الأشج، وإبراهيم بن يوسف الكندي وجماعة.
قال البخاري: ضعفه لي ابن نمير جدا، وقال ابن معين: يروي عنه سجادة، وقال النسائي: ضعيف.
وقال ابن عدي: له أحاديث حسان، وليس فيما يرويه حديث منكر المتن ويكتب حديثه.
وقد خرّج الإمام أحمد هذا الحديث في (المسند) [ (4) ] من طريق حماد ابن سلمة، عن على بن زيد بن جدعان، عن أبي الطفيل، أن رجلا ولد له غلام
__________
[ (1) ] من (الأصل) فقط.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] ضعيف جدا يخطى كثيرا حتى خرج عن حد الاحتجاج به، ضعفه غير واحد، ترجمته في:
(الضعفاء الكبير) : 1/ 73، (المجروحين) : 1/ 122، (ميزان الاعتدال) : 1/ 213.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 6/ 637، حديث رقم (23293) من حديث أبى الطفيل عامر بن وائلة، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.

(11/381)


على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتي به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذ ببشرة وجهه [ (1) ] ودعا له بالبركة، [قال:] فنبتت شعره في جبهته كهيئة [ (2) ] الفرس، وشب الغلام، فلما كان زمن الخوارج أحبهم، فسقطت الشعرة من جبهته، فأخذه أبوه فقيده وحبسه مخافة أن يلحق بهم، قال: فدخلنا عليه فوعظناه، وقلنا له: فيما تقول؟ ألم تر أن [ (3) ] بركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد وقعت عن جبهتك [فما زلنا به حتى رجع عن رأيهم] ، فرجع [ (4) ] فرد اللَّه- عز وجل- عليه الشعرة بعد في جبهته وتاب.
وخرّجه البيهقي هكذا من حديث حماد [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «جبهته» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (2) ] في (الأصل) : «كذؤابة» ، وما أثبتناه من (المسند) .
[ (3) ] في (الأصل) : «إلي» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (4) ] من (الأصل) فقط.
[ (5) ] ثم قال بعقبه: وفيما أنبأنا أبو عبد الرحمن السلمي، انبأنا أبو عبد اللَّه العكبريّ، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا حماد ابن سلمة، حدثنا علي بن زيد، فذكره.

(11/382)


وأما ذهاب البرد عن حذيفة بن اليمان [ (1) ] بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم له بذلك
فخرّج مسلم من حديث جرير عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: كنا عند حذيفة، [بن اليمان] فقال رجل: لو أدركت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاتلت معه وأبليت [ (2) ] ، فقال له حذيفة: أنت تفعل ذلك؟ لقد رأينا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة [ (3) ] وقر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله اللَّه معي يوم القيامة؟ فسكتنا، فلم يجبه منا أحد، ثم قال:
ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله اللَّه معي يوم القيامة؟ فسكتنا، فلم يجبه منا أحد فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليّ [ (4) ] .
__________
[ (1) ] هو حذيفة بن اليمان، من نجباء أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو صاحب السر، واسم اليمان: حسل ويقال: حسيل- بن جابر العبسيّ اليماني، أبو عبد اللَّه، حليف الأنصار، ومن أعيان المهاجرين حدث عنه أبو وائل، وزر بن حبيش، وزيد بن وهب، وهمام بن الحارث، وخلق سواهم. له في الصحيحين اثنا عشر حديثا، وفي البخاري ثمانية، وفي مسلم سبعة عشر حديثا، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسر إلى حذيفة أسماء المنافقين، وضبط عنه الفتن الكائنة في الأمة، وقد ناشد عمر: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك. وحذيفة هو الّذي ندبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الأحزاب ليجس له خبر العدو، وعلى يده فتح الدينور عنوة، ومناقبه تطول- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، ولى حذيفة إمرة المدائن لعمر، فبقي عليها إلى بعد مقتل عثمان، وتوفى بعد عثمان بأربعين ليلة، (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 61، ترجمة رقم (181) - (الإصابة) : 2/ 44- 45، ترجمة رقم (1649) ، (الاستيعاب) : 1/ 334- 335، ترجمة رقم (492) .
[ (2) ] أبليت: من البلاء الحسن وهو المبالغة في النصرة.
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «في ليلة ذات ريح شديدة» .
[ (4) ] أي لا تحركهم عليك، فإنّهم إن أخذوك كان ضررا على لأنك رسولي وصاحبي.

(11/383)


فلما وثبت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى أتيته فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار [ (1) ] ، فوضعت سهما في كبد قوسي، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تذعرهم عليّ ولو رميته لأصبته، فأخبرته خبر القوم وفرغت قررت، فألبسني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فقال: قم أيا نومان [ (2) ] .
__________
[ (1) ] يصلى ظهره: يدفئه.
[ (2) ] النومان: كثير النوم، (دلائل البيهقي) : 3/ 449- 450، باب إرسال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حذيفة بن اليمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى عسكر المشركين، وما ظهر له في ذلك من آثار النبوة بوقوفة ليلتئذ على ما أرسل على المشركين من الريح والجنود، وتصديق اللَّه- سبحانه- قول نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما وعد حذيفة من حفظ اللَّه إياه عن الأسر والبرد، باختلاف يسير في اللفظ، وأخرجه الإمام مسلم (في صحيحه) ، كتاب الجهاد والسير، باب (36) غزوة الأحزاب، حديث رقم (1788) . قوله: «كنا عند حذيفة، فقال رجل: لو أدركت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة ما قال» : معناه أن حذيفة فهم منه أنه لو أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبالغ في نصرته، ولزاد على الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فأخبره. بخبره في ليلة الأحزاب، وقصد زجره عن ظنه أنه يفعل أكثر من فعل الصحابة. قوله: «وأخذتنا تاريخ شديدة وقر» ، هو بضم القاف، وهو البرد وقوله بعد هذا: «قررت» هو بضم القاف وكسر الراء، أي بردت،
قوله: «اذهب فأتني بخير القوم ولا تذعرهم علي»
هو بفتح التاء وبالذال المعجمة، معناه: لا تفزعهم على ولا تحركهم علي، وقيل: معناه لا تنفرهم، وهو قريب من المعنى الأول، والمراد: لا تحركهم عليك، فإنّهم إن أخذوك كان ذلك ضررا على لأنك رسولي وصاحبي قوله: «فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشى في حمام حتى أتيتهم» ، يعنى أنه لم يجد البرد الّذي يجد الناس، ولا من تلك الريح الشديدة ودعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم له، واستمر ذلك اللطف به ومعافاته من البرد حتى عاد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رجع ووصل عاد إليه البرد الّذي يجده الناس، وهذه من معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. ولفظة الحمام عربية، وهو مذكر مشتق من الحميم، وهو الماء الحار. قوله:
«فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره» ، هو بفتح الياء وإسكان الصاد، أي يدفئه، ويدنيه فيها، وهو الصلا، بفتح الصاد والقصر، والصلاء بكسرها والمد. وقوله: «كبد القوس» ، هو مقبضها،

(11/384)


وخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا يوسف ابن عبد اللَّه بن أبي المختار عن بلال العبسيّ، عن حذيفة بن اليمان: أن الناس تفرقوا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الأحزاب، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فأتاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا جاثم من البرد.
قال يا بن اليمان: قم فانطلق إلي عسكر الأحزاب، فانظر إلى حالهم، قلت: يا رسول اللَّه والّذي بعثك بالحق نبيا ما قمنا إليك إلا حياء منك من البرد.
قال: انطلق يا بن اليمان، فلا بأس عليك من حرّ ولا برد حتى ترجع إليّ، فانطلقت إلي عسكرهم، فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله وقد تفرق الأحزاب عنه، قال: حتى إذا جلست فيهم، قال: فحس أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم، قال: ليأخذ كل رجل منكم يبد جليسه، قال: فضربت بيدي على الّذي عن يميني، فأخذت بيده [ثم ضربت يدي على الّذي عن يساري فأخذت بيده] فكنت فيهم هنية ثم قمت فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو قائم يصلي، فأومأ بيده أن ادن، فدنوت ثم أومأ إليّ أيضا أن ادن، فدنوت حتى أسبل على من الثوب الّذي كان عليه وهو يصلي.
__________
[ () ] وكبد كل شيء وسطه. قوله: «فألبسنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من فضل عباءة كانت عليه يصلى فيها» ، العباءة بالمد والعباية بزيادة، لغتان، مشهورتان، معروفتان، وفي الحديث: جواز الصلاة في الصوف وهو جائز بإجماع من يعتد به، وسواء الصلاة عليه وفيه، ولا كراهية في ذلك. قال العبدري من أصحابنا: وقالت الشيعة: لا تجوز الصلاة على الصوف، ولا تجوز فيه. وقال مالك: يكره كراهة تنزيه. قوله: «فلم أزل نائما حتى أصبحت
قال: قم يا نومان،
هو بفتح النون وإسكان الواو، وهو كثير النوم، وأكثر ما يستعمل في النداء كما استعمله هنا. قوله:
«أصبحت» ، أي طلع الفجر وفي هذا الحديث أنه ينبغي للإمام وأمير الجيش بعث الجواسيس والطلائع لكشف خبر العدو، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (شرح النووي) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 450- 451، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 33، كتاب المغازي والسرايا، حديث رقم (4325) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.

(11/385)


فلما فرغ من صلاته قال ابن اليمان: اقعد [ما الخبر؟] ، قلت: يا رسول اللَّه، تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا في عصبة يوقد النار، قد صب اللَّه عليه من البرد مثل الّذي صب علينا ولكنا نرجو من اللَّه ما لا يرجو.
وله من طريق عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد أبي قدامة الحنفي، عن عبد العزيز بن أخي [ (1) ] حذيفة قال: ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال جلساؤه: أما واللَّه لو كنا شهدنا ذلك، لفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، أبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم علي ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحد منا إصبعه.
فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويقولون: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ [ (2) ] ، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له فيأذن لهم فيتسللون ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك إذ استقبلنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا رجلا حتى مر عليّ وما عليّ جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي.
قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي، فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، فقال: حذيفة؟ فتقاصرت بالأرض، فقلت: بلى يا رسول اللَّه، كراهية أن أقوم، قال: قم، فقمت فقال: إنه كائن في القوم خبر فأتيني [ (3) ] بخبر القوم، قال وأنا من أشد الناس فزعا، وأشدهم قرا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، قال:
فو اللَّه- ما خلق اللَّه فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج، وما أجد منه شيئا، فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدث [ (4) ] في القوم شيئا حتى تأتيني،
فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقوم بيده
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «أبي» وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] الأحزاب: 13.
[ (3) ] في (الأصل) : «فأت» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «لا تحدثن» .

(11/386)


علي النار، ويمسح خاصرته، ويقول: الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه، فذكرت قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تحدثن شيئا حتى تأتيني فأمسكت ورددت سهمي في كنانتي، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، فإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فو اللَّه- إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما انتصف بي الطريق أو غير ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن اللَّه كفاه القوم، فرجعت إلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو مشتمل شملة يصلي، فو اللَّه ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف [ (1) ] ، فأومأ إلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل عليّ شملته، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا حزبه أمر صلى.
فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يترحلون، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (2) ] .
وخرّج هذا الحديث أبو نعيم من طرق، والمعني واحد وإن تقاربت ألفاظه.
__________
[ (1) ] أقرقف: أرتعد من البرد.
[ (2) ] الأحزاب: 9، وتمامها: وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.

(11/387)


وأما استئذان الحمي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإرسالها إلي أهل قباء لتكون كفّارة لهم
فخرّج البيهقي [ (1) ] والإمام أحمد [ (2) ] من حديث يعلي بن عبيد، قال: حدثنا الأعمش عن جعفر [ (3) ] بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أم طارق مولاة سعد، قالت: جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلي سعد فاستأذن، فسكت سعد وأعاد فسكت سعد، فأرسلني سعد إليه أنه لم يمنعنا أن نأذن لك إلا أنا أردنا أن تزيدنا، قالت:
فسمعت صوتا على الباب يستأذن ولا أري شيئا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أنت؟
قالت: أنا أم ملدم [ (4) ] ، قال: لا مرحبا بك ولا أهلا، أتهدين إلي قباء؟ قالت: نعم، قال: فاذهبي إليهم.
ولهما من طريق يعلي قال: حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر ابن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: إن أهل قباء أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: إن الحمى قد اشتدت علينا فقال: إن شئتم أن ترفع عنكم رفعت، وإن شئتم كانت طهورا، قالوا: بل تكون لنا طهورا [ (5) ] .
ومن حديث يحيى بن المغيرة قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: أتت الحمى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاستأذنت عليه، فقال: من أنت؟
قالت: أم ملدم، قال أتريدين أهل قباء؟ قالت: نعم قال: فحموا ولقوا منها شدة فاشتكوا إليه فقالوا: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقينا من الحمى، قال: إن شئتم دعوت اللَّه فكشفها عنكم، وإن شئتم كانت لكم طهورا [قالوا: بل تكون لنا طهورا] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 158، باب ما جاء في استئذان الحمى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإرساله إياها إلى أهل قباء لتكون لهم كفارة، وظهور ما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 522- 523، حديث رقم (26586) ، من حديث أم طارق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها.
[ (3) ] في (الأصل) : «جبير» ، وما أثبتناه من (الدلائل) و (المسند) .
[ (4) ] اسم الحمى.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 158- 159.

(11/388)


ومن طريق الإمام أحمد قال: حدثني أبى [ (1) ] ، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان المدائني، حدثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان المهدي، عن سلمان الفارسيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: استأذنت الحمى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا الحمى أبرئ اللحم وأمصّ الدم، قال اذهبي إلي أهل قباء، فأتتهم وجوههم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد اصفرت وجوههم، فشكوا الحمى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ما شئتم إن شئتم دعوت اللَّه- عز وجل- فكشفها عنكم، وإن شئتم تركتموها، فأسقطت ذنوبكم، قالوا: بل ندعها يا رسول اللَّه [ (2) ] .
ومن حديث قرة بن حبيب الغنوي قال: حدثنا إياس بن أبي تميمة، عن عطاء بن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاءت الحمى إلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه ابعثني إلي أحب قومك، أو إلى أحب أصحابك إليك، شك قرة، فقال: اذهبي إلى الأنصار، قال: فذهبت فصبت عليهم فصرعتهم، فجاءوا إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه: قد أتت الحمى علينا فادع اللَّه لنا بالشفاء قال: فدعا لهم، فكشف عنهم، فاتبعته امرأة فقالت: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ادع اللَّه [لي] إني لمن الأنصار، وإن أبي لمن الأنصار فادع اللَّه لي كما دعوت لهم. فقال: أيما أحب إليك؟ أن أدعو لك فيكشف عنك أو تصبرين و [تجب] لك الجنة؟ قالت: لا- واللَّه- يا رسول اللَّه بل أصبر ثلاثا، ولا أجعل من اللَّه بجنته خطرا ابدا،
قال البيهقي: [واللَّه تعالى أعلم] [ (3) ] يحتمل أن يكون هذا في قوم آخرين من الأنصار.
وخرّجه البخاري في (الأدب المفرد) من حديث قرة به، ولفظه: عن أبي هريرة قال: جاءت الحمى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: ابعثني إلى آثر أهلك عندك، فبعثها إلى الأنصار فبقيت عليهم ستة أيام ولياليها فاشتد ذلك عليهم، فأتهم في ديارهم، فشكوا ذلك إليه، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يدخل دارا دارا، وبيتا بيتا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 159.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 159- 160.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 160، وما بين الحاصرتين تصويبات وزيادات للسياق منه.

(11/389)


يدعو لهم بالعافية، فلما رجع تبعته امرأة منهم، فقالت: والّذي بعثك بالحق إني لمن الأنصار وإن أبي لمن الأنصار فادع اللَّه لي كما دعوت للأنصار. قال: ما شئت! إن شئت دعوت اللَّه أن يعفو عنك، وإن شئت صبرت ولك الجنة.
قالت: بلي، أصبر ولا أجعل إلي الجنة خطرا [ (1) ] .
تم بحمد اللَّه تعالى الجزء الحادي عشر ويليه الجزء الثاني عشر وأوله: وأما ذهاب الحمى عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها بدعاء علّمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.

(11/390)