بهجة
المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل [الباب الثاني من القسم الاول في تاريخ
مولده الى نبوته]
(الباب الثاني) في تاريخ مولده الى نبوته صلى الله عليه وسلم وما جري في
تضاعيف ذلك من الحوادث وفي أكثره خلاف وتنازع وتقديم وتأخير وأصح ما قيل
انه صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل بعد هلاكهم بخمسين يوما وقيل بعده
بثلاثين يوما وقيل باربعين وكانت قصة الفيل في المحرم سنة اثنين وثمانين
وثمانمائة من عهد (تزيره) بالضم من أزاره (أم أيمن) اسمها بركة (مولاة
أبيه) أى عتيقته قال الشمني وأسلمت قديما وقيل انه عليه الصلاة والسلام حين
تزوج خديجة زوجها عبده الحبشى فولدت له أيمن بفتح الميم وكنيت به ثم بعد
النبوة تزوجها زيد بن حارثة فأولدها اسامة قال الواقدى كانت أم أيمن عسرة
اللسان فكانت اذا دخلت فسلمت قالت سلام لا عليكم فرخص لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم ان تقول سلام لا عليكم أو السلام لا عليكم انتهي وكانت
وفاتها بالمدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر أو ستة
أشهر قولان (فان قلت) فلم لم يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها مع نهيه
صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا الاسم (قلت) لان سبب النهى انما هو التطير
بمثل هذا الاسم بان يقال أثم بركة مثلا فيقال لا كما هو مصرح به في الحديث
وأم أيمن لما غلبت عليها كنيتها فلم تكن تنادى الا بها أى غالبا أمن
المحذور (فان قلت) أفلا غيره بغيره خوفا من التزكية كما غير اسم زوجته زينب
بنت جحش وجويرية بنت الحرث وكان اسم كل منهما أولا برة قلت لعدم ظهور
التزكية في اسم بركة لغلبته في اسماء الجواري (وروى ان آمنة آمنت بالنبي
صلى الله عليه وسلم بعد موتها) وكذا أبوه كما سيأتي وعد السيوطي ذلك من
خصائصه صلى الله عليه وسلم (وأورد المحب الطبرى) مرت ترجمته أوّل الكتاب
(حديثا مسندا الى عائشة) فقال أخبرنا بذلك الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن
عبد الله بن القير قراءة عليه بالمسجد الحرام وأنا أسمع سنة ست وثلاثين
وستمائة قال انا الشيخ الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر السلامي إجازة قال نا
أبو منصور محمد بن أحمد بن على بن عبد الرزاق الحافظ الزاهد قال أنبأنا
القاضى محمد بن عمر بن محمد الاخضر قال ثنا أبو عربة محمد بن يحيي الزهري
قال ثنا عبد الوهاب بن موسى الزهرى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن
عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم نزل
الحجون كئيبا حزينا فأقام به ما شاء الله عز وجل ثم رجع مسرورا قال سألت
ربي فأحيا لي أمي فامنت بي انتهي الحديث وهو يؤيد القول الثاني انها دفنت
بالحجون المار آنفا (الباب الثاني) (عام الفيل) اسم الفيل محمود وقصته
مشهورة في كتب التفسير (بعد هلاكهم) قيل وكان هلاكهم بوادي محسر (في
المحرم) من خصائص هذا الشهر اضافته الى الله عز وجل دون سائر الشهور
(1/38)
ذي القرنين في زمان ملك كسرى أنو شروان
ومات أنو شروان بعد مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثمان سنين واتفقوا
على أنه صلى الله عليه وآله وسلم ولد يوم الاثنين قال الاكثرون في شهر ربيع
الاول قيل لليلتين خلتامنه وقيل لثمان وقيل لعشر وقيل لثنتى عشرة وهو
أشهرها وقيل أوّل اثنين منه من غير تعيين وقيل ولد في رمضان لثنتى عشرة خلت
منه والله أعلم.
[مطلب حمل أمه به صلى الله عليه وسلم]
وحملت به أمه أيام التشريق وولد في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى ووضع
صلى الله عليه وآله وسلم مستقبل القبلة مع ان فيها ما يساويه في الفضل أو
يزيد عليه كرمضان. وقد سئل السيوطي عن سبب ذلك فأجاب في الديباج وذكر انه
سبق اليه بان هذا الاسم له اسلامي دون سائر الشهور فان اسماءها كلها على ما
كانت عليه في الجاهلية وكان اسم محرم في الجاهلية صفر الاول والذي بعده صفر
الثاني فلما جاء الاسلام سماه الله المحرم فأضيف الى الله بهذا الاعتبار
(ذي القرنين) اسمه مرزبان بن مرزبة اليونانى من ولد يونان بن يافث وقيل
الاسكندر بن فيلسوف واختلف في نبوته والاصح لا وسئل صلى الله عليه وسلم عنه
فقال لا أدري نبي هو أم لا أخرجه الحاكم في المستدرك وقيل في قوله تعالى
وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً أي علما يتبعه وفي قوله فَأَتْبَعَ
سَبَباً أي طريقا موصلة وقال ابن هشام السبب حبل من نور كان ملك يمشي به
بين يديه فيتبعه وروي عن أبي الطفيل عامر بن نائلة قال سأل عبد الله بن
الكوا على بن أبى طالب فقال أرأيت ذا القرنين أكان نبيا أم ملكا فقال
لانبيا كان ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا دعا قومه الى عبادة الله فضربوه
على قرن رأسه ضربتين وفيكم مثله يعنى نفسه انتهى وانما قال ذلك لأنه شج
شجتين في قرني رأسه احداهما من عمرو بن عبد ود والثانية من ابن ملجم وأما
ذو القرنين فسمى بذلك لانه لما أمر قومه بتقوى الله ضربوه على قرنه الايمن
فمات فبعثه الله ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الايسر فمات فأحياه
الله أو لأنه بلغ قرنى الشمس مشرقها ومغربها أو لأنه ملك الروم وفارس أو
لانه دخل النور والظلمة أو لانه رأى في المنام كأنه آخذ بقرني الشمس أو
لانه كان له ذؤابتان حسنتان أو لانه كان له قرنان تواريهما العمامة أقوال
(كسرى) بكسر الكاف وفتحها لقب لكل من ملك الفرس (أنو شروان) بهمزة مفتوحة
فنون مضمومة فواو ساكنة فمعجمة فراء ساكنة فواو فألف فنون وصحف من زعم انه
بالموحدة وانه كنيته واسم أبيه قباذ بالقاف المضمومة وتخفيف الموحدة آخره
معجمة وكان مدة ملكه سبعا وأربعين سنة وثمانية أشهر (في شهر ربيع الاول) هو
من باب اضافة الشيء الى نفسه كمسجد الجامع وجانب الغربي وحب الحصيد ونساء
المؤمنات وصلاة الوسطى وفيه للنحاة مذهبان كما سيأتي. وكان مولده صلى الله
عليه وسلم في نيسان من الشهور الرومية في منزلة الغفرة قيل وهو مولد
الانبياء (وحملت به أمه) في شهر رجب (أيام التشريق) ليس هذا بمشكل فانهم
كانوا ينسئون أشهر الحج فوافق تلك السنة حجهم شهر رجب وكانت مدة الحمل به
تسعة أشهر على الصحيح وقيل عشرة وقيل ثمانية وقيل سبعة وقيل ستة (وقيل ولد
في رمضان) هذا قول الزبير بن بكار وهو شاذ (ولد في شعب أبى طالب عند الجمرة
الوسطى) وموضع ولادته ثم مشهور واختلف هل كانت ولادته ليلا أو نهارا وجمع
بين القولين بأن ولادته كانت آخر الليل متصلة بأول النهار (مستقبل القبلة
الى آخره)
(1/39)
واضعا يديه على الارض رافعا رأسه الى
السماء مختونا مسرورا ليس عليه من أقذار الولادة شئ*
[مطلب فى الآيات التى ظهرت لمولده عليه الصلاة
والسلام]
روي عن الشفا أم عبد الرحمن بن عوف وهى التي تولت ولادته قالت لما سقط صلى
الله عليه وآله وسلم على يدى واستهل سمعت قائلا يقول رحمك الله واضاء لى ما
بين المشرق والمغرب حتى نظرت الى قصور الروم* ولميلاده صلى الله عليه وآله
وسلم خبت نار فارس وكان وقودها مستمرا من عهد عيسى عليه السلام واضطرب
ايوان كسرى فأسقط منه أربع عشرة شرافة وكان في ذلك اشارة الى عدد من ملك
منهم بعد ذلك الى أن نسخ ملكهم في خلافة عمر ابن الخطاب وغاضت بحيرة ساوة
وتنكست الاصنام في آفاق الارض وسقط عرش ابليس ورمي الشياطين بالشهب وروي
عنهم وعن كهنتهم في ذلك أنواع العجب*
[مطلب في مراضعه صلى الله عليه وسلم]
وفي السنة الاولى أخرجه أصحاب السير وغيرهم (مختونا) قال ابن عبد البر في
الاستيعاب روي من حديث عبد الله بن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا (مسرورا) يعني مقطوع السرة فأعجب
ذلك جده عند المطلب وقال ليكونن لابنى هذا شأن عظيم قال وليس إسناد العباس
هذا بالقائم وقيل ختن يوم شق قلبه الملائكة عند ظئره حليمة وقيل ختنه جده
يوم سابعه وصنع له مأدبة وسماه محمدا انتهى وفي مستدرك الحاكم ما لفظه وقد
تواترت الاخبار ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد مسرورا مختونا وتعقب
ذلك الذهبي فقال ما يعلم صحة ذلك فكيف يكون متواترا وقال ابن الجوزي عن كعب
الاحباران ثلاثة عشر من الانبياء ولدوا مختونين آدم وشيث ونوح وادريس وسام
ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن حبيب الهاشمي هم أربعة عشر آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط
وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان نبي أصحاب الرس
ومحمد صلى الله عليه وسلم (روي عن الشفا) بكسر المعجمة بعدها فاء فالف
مقصورة كذا قال الشمني وضبطه غيره بفتح المعجمة وتشديد الفاء وهي بنت عوف
بن عبد الحرث بن زهرة بن كلاب من المهاجرات الاول (وخبت نار فارس) فى بعض
النسخ خمدت وهو بفتح الميم أشهر من كسرها طفئت (وكان وقودها) بضم الواو
مصدر (من عهد عيسى) في الشفاء وغيره فكان لها ألف عام لم تخمد (وغاضت)
بالمعجمتين نقصت وقلت (بحيرة) تصغير بحرة وكان يعبدها من حولها وكانت أكثر
من فرسخ وقيل كانت ستة فراسخ بعراق العجم بين همذان وقم كانت تركب فيها
السفن ويسافر الى ما حولها من القرى والمدن فأصبحت ليلة مولده يابسة كان لم
يكن بها ماء ولا نداة واستمرت كذلك حتى بنيت موضعها مدينة (ساوة) وهى مدينة
مشهورة بين الرى وهمذان وأضيفت البحيرة اليها لبنائها مكانها وفي بعض نسخ
الشفا بحيرة طبرية وهو خلاف المعروف قال الشمني الا ان يريد المصنف عند
خروج يأجوج ومأجوج فانه ورد ان أوائلهم يشرب بحيرة طبرية ويجئ آخرهم فيقول
لقد كان بها ماء انتهي (عرش ابليس) أى سريره (ورمي الشياطين بالشهب) أى كثر
رميهم وكان قبل ذلك لا يرمي الا لحدوث أمر عظيم (وعن كهنتهم) جمع كاهن وهو
الذي يرى معرفة الشيء ويخبر به قبل وجوده قال عياض كانت الكهانة في العرب
ثلاثة اضرب
(1/40)
من ميلاده صلى الله عليه وسلم أرضعته ثويبة
مولاة أبى لهب وأرضعت معه عمه حمزة وأبا سلمة عبد الله بن عبد الاسد
المخزومي بلبن ابنها مسروح* وروي ان العباس رأى أخاه أبا لهب في المنام
بشرجال وقال يرفّه عني من العذاب في كل ليلة اثنين فسأله عن ذلك فقال لما
ولد محمد جاءتني ثويبة فبشرتني فأعتقتها وكان ذلك ليلة الاثنين وفي صحيح
البخارى اشارة الى ذلك والله أعلم* ثم احتملته حليمة بنت أبى ذؤيب عبد الله
بن الحارث من بني سعد ابن بكر بن هوازن ثم من بني قيس عيلان بن مضر وذلك
حين قدمت مكة مع نسوة من قومها يلتمسون الرضعاء لما يرجون من المعروف والبر
من أهليهم وكان أهل مكة يسترضعون أولادهم فيهم لفصاحتهم وليجمعوا للولد ما
بين صحة البادية وفصاحتها وآداب الحضارة وملاحتها أحدها يكون للانسان ولي
من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث
الله نبينا صلى الله عليه وسلم الثاني أن يخبره بما يطرأ ان يكون في اقطار
الارض وبما خفي عنه مما قرب أو بعد هذا ولا يبعد وجوده ولكنهم يصدقون
ويكذبون والنهى عن تصديقهم والسماع منهم عام الثالث المنجمون وهذا الضرب
يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس علما لكن الكذب فيه أغلب ومن هذا الفن
العرافة وصاحبها عراف وهو الذي يستدل على الامور باسباب ومقدمات يدعى
معرفتها بها وقد يعتضد بعض أهل الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب
معتادة وهذه الاضرب كلها تسمى كهانة وقد أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم
واتيانهم انتهى (ثويبة) بالمثلثة والتحتية والموحدة مصغر واختلف في اسلامها
وماتت عقب فتح خيبر ولم يذكران أمه أرضعته قبلها ثلاثة أيام (عمه حمزة) هو
أخو عبد الله من أبيه وأما أمه هو وصفية فهي خالة بنت وهب بن عبد مناف بن
وهب كما قاله النووي وغيره وقد روى ان حليمة أرضعته أيضا مع النبي صلى الله
عليه وسلم (وأبا سلمة) هو ابن له من أم سلمة رضى الله عنها كنيا به معا
(عبد الله بن عبد الاسد) بمهملة وقيل معجمة ضبطه كذلك القاضي زكريا في
حاشية البيضاوي والسيوطي أيضا والمهملة في آخره مشددة (المخزومي) نسبة الى
مخزوم بن يقظة بن مرة لأن جده أبا أبيه هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم
(ابنها مسروح) بمهملات وضبط بالجيم آخره أيضا ولا يعرف له اسلام (يرفه)
يخفف وزنا ومعنى (فاعتقها وكان ذلك ليلة الاثنين) أى فخفف عني بسبب عتقى
اياها قيل وهذا خاص به اكراما له صلى الله عليه وسلم كما خفف عن أبى طالب
بسببه وقيل لا مانع من تخفيف العذاب عن كل كافر عمل خيرا (حليمة بنت أبى
ذؤيب) بالهمز (عبد الله بن الحارث) بن سحنة بن جابر ابن رزام بن ناصر بن
بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بمعجمة فمهملة ففاء مفتوحات ابن
(قيس عيلان) بفتح المهملة (ابن مضر) أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم
(فائدة) جملة مرضعاته صلى الله عليه وسلم على ما قيل ثمان أمه وثويبة
وحليمة وخولة بنت المنذر ذكرها أبو الفتح اليعمرى عن ابن اسحاق وامرأة
سعدية غير حليمة ذكرها ابن القيم في الهدي وثلاث نسوة اسم كل واحدة منهن
عاتكة نقله السهيلي عن بعضهم في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم أنا ابن
العواتك من سليم وهو حديث خرجه
(1/41)
فقام صلى الله عليه وآله وسلم فيهم خمس
سنين وظهر لهم من يمنه وبركته أثناء إقامته بين أظهرهم أنواع من المعجزات
وخوارق العادات وروي عن حليمة في ذلك أخبار طويلة من در ثديها عليه بعد أن
كان عاطلا وسير أتانها بها وبه بعد ان كان ثافلا ودرور شارفهم وشياههم بعد
ان كان لا يروي عالّا ولا ناهلا وخصب مرعاهم بعد ان كان جدبا ماحلا وأحبته
حليمة ونيط حبه بلحمها ودمها وصارت أمه بعد ان كانت راغبة عنه في ابتداء
الحال حين ذكر لها يتمه* وفي انقضاء السنة الثانية فصلته حليمة وقد صار
غلاما جفرا وكان كبره في سنة ككبر غيره في سنتين ثم قدمت به على أمه مكة
وناشدتها أن ترجعه معها ففعلت*
[مطلب في شق الملكان صدره الشريف]
وفي الثالثة بعد مرجعه من مكة بأشهر وقيل في الرابعة أتاه الملكان فشقا
صدره سعيد بن منصور في سننه والطبرانى في الكبير عن شبابة بن عاصم قيل انه
صلى الله عليه وسلم مربهن وهو صغير فوضعت كل واحدة منهن ثديها في فيه فدر
عليه وذكر ابن عبد البر والهروى وغيرهما ان العواتك من سليم اللاتى انتسب
اليهن صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت هلال بن فالح بن ذكوان أم عبد مناف بن
قصي وعاتكة بنت مرة بن هلال المذكور وهي أم هاشم بن عبد مناف وعاتكة بنت
الاوقص بن مرة بن هلال المذكور وهي أم وهب أبى آمنة أم النبي صلى الله عليه
وسلم فالاولى عمة الوسطى والوسطى عمة الاخرى وبنو سليم تفخر بهذه الولادة
(من يمنه وبركته) هما مترادفان (اثناء) قال في القاموس اثناء الشيء ومثانيه
قواه وطاقاته واحدها ثني بالكسر ومثناة بالكسر والفتح (ثديها) أى الايمن
(عاطلا) بالمهملتين أى فارغا لا لبن فيه (سيرأتانها) هي الانثى من الحمير
(ثافلا) بمثلثة وفاء أي بطيء السير (شارفهم) بالمعجمة والراء والفاء هي
المسنة من النوق (وشياههم) جمع شاة (لا يروي) بضم أوله من أروي (عالا ولا
ناهلا) أي لا عللا وهو الشرب مرة بعد أخرى ولا نهلا وهو الشرب أوّل مرة
(وخصب مرعاهم) بكسر المعجمة وهو ضد الجدب (جدبا) بفتح الجيم وسكون المهملة
وكسرها (ماحلا) بالمهملة اسم فاعل من المحل وهو الجدب آيضا (ونيط) فعل ماض
مبني للمفعول بكسر أوله وسم كنظائره والسوط بفتح المهملة في أخرى هو الخلط
(يتمه) مقتضاه ان فاقد الاب يسمى يتيما وان كان الجد حيا أو الام وهو كذلك
خلافا للبغوي بالنسبة الى الجد (فائدة) فاقد الام من الآدميين يسمي منقطعا
ومن البهائم يسمى يتيما واليتيم من الطيور من فقد أباه وأمه (وفي انقضاء
السنة الثانية فصلته) فطمته وزنا ومعنى (جفرا) بفتح الجيم وسكون الفاء أي
قويا على الاكل وحده مستقلا بنفسه غير محتاج الى غيره (وناشدتها) فاعلتها
من النشيد بالنون والمعجمة والمهملة بوزن العظيم وهو رفع الصوت ثم استعمل
في السؤال مطلقا (وفي الثالثة أتاه الملكان) في صحيح مسلم ثلاثة نفر سمي
منهم في رواية ميمون بن سباه عن أنس عند الطبري جبريل وميكائيل والثالث
يحتمل انه اسرافيل (فشقا صدره) حديث شق صدره صلى الله عليه وسلم مروي
بالتواتر في الصحيحين وغيرهما وهو شق حقيقي لكن هل كان بآلة أم لا واذا كان
بآلة فما هي لم أقف في ذلك على شيء ويؤخذ من تعدد الروايات تعدد الشق مرات
أولها وهو يرضع عند حليمة وذلك مشهور وثانيها بغار حراء عند المبعث كما في
مسندي الطيالسي وابن أبي اسامة من حديث
(1/42)
واستخرجا منه علقة سوداء وقالا هذا حظ
الشيطان منك ثم ملآه حكمة وايمانا ثم لأماه ثم وضعا الخاتم بين كتفيه ولم
يكن الخاتم لنبي قبله* ففيه اشارة الى انه صلى الله عليه وآله وسلم خاتم
النبيين ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته عائشة ثالثها ليلة الاسراء
كما في صحيح مسلم رابعها عند تمام عشر سنين من مولده كما في الدلائل لابي
نعيم من حديث أبي هريرة وأخرجه عبد الله بن الامام أحمد في زوائد مسند أبيه
ولفظه قال أبو هريرة قلت يا رسول الله ما أوّل ما ابتدئت به من أمر النبوة
قال اني لفي صحراء واسعة أمشي وأنا ابن عشر حجج اذا أنا برجلين فوق رأسي
يقول أحدهما لصاحبه أهو هو قال نعم فأخذاني فأضجعاني لحلاوة القفا ثم شقا
بطني وكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب والآخر يغسل جوفي فقال أحدهما
لصاحبه افلق صدره فاذا صدري فيما أرى مفلوقا لا أجد له وجعا ثم قال اشقق
قلبه فشق قلبي فقال اخرج الغل والحسد منه فأخرج شبه العلقة فنبذه ثم قال
ادخل الرأفة والرحمة قلبه فأدخل شيئا كهيئة الفضة ثم أخرج ذرورا كان معه
فذر عليه ثم نقر إبهامى ثم قال اغد فرجعت بما لم أغد به من رحمتي للصغير
ورأفتى بالكبير (قلت) الحكمة في تكرير الشق أربعا ان الشق انما هو لاذهاب
حظ الشيطان منه وقد علم من صحيح الحديث جريانه من ابن آدم مجرى الدم والدم
يستمد من الطبائع الاربع فقطع في كل مرة من مرات الشق مدده من طبيعة ولم
يطلع على هذه من قال كالسهيلي في شق صدره ثلاثا مناسبة لمشروعية الطهارة في
شرعه ثلاثا واختلف فيه هل هو من الخصائص أولا والصحيح الاول كما سيأتي
قريبا (هذا حظ الشيطان منك) أي هذا الموضع الذي يوسوس فيه الشيطان من بني
آدم أخرجناه لينقطع طمعه فيك وسمي الشيطان شيطانا لبعده عن الخير وتماديه
في الشر من قولهم بئر شطون بوزن فعول اذا كانت بعيدة العمق (فملآه حكمة
وايمانا) وفي رواية مسلم وغيره جاءوا بطست من ذهب ممتليء حكمة وايمانا
فأفرغوهما في صدري ثم هل مثلا جسما كما يمثل الموت كبشا قال النووي انه
مجاز وكانه كان في الطست شيء يحصل به كمال الايمان والحكمة فسمي ايمانا
وحكمة لكونه سببا لهما (ثم لأماه) أي بعد ان غسلاه بماء زمزم فمن ثم فضل
سائر المياه ما عدا الماء النابع من أصابعه صلى الله عليه وسلم (ثم وضعا
الخاتم) فيه أربع لغات فتح الفوقية وكسرها وختيم وخيتام (بين كتفيه) أي تحت
طرف أسفل كتفه الايسر حيث يوسوس الشيطان من بني آدم وسيأتي بسط الكلام في
صفة الخاتم في محله ان شاء الله تعالى* ثم اعلم ان عياضا رحمه الله أخذ
بظاهر هذا الكلام وقال ان خاتم النبوة الذي بين كتفيه هو أثر شق الملكين
وجرى عليه المصنف فيما سيأتي وهو كما قال النووي ضعيف بل باطل لان شق
الملكين انما كان في صدره وبطنه ولأن مقتضاه ان الخاتم لم يكن معه قبل الشق
وهو مخالف لحديث حسن مروي عن عائشة رضي الله عنها دال على انه ولد به بين
كتفيه وكذلك كان يعرفه أهل الكتابين التوراة والانجيل حتى كانوا يرحلون
اليه ويطلبون الوقوف عليه ووصفه بذلك غير واحد من أحبار الشام واليمن كسيف
بن ذي يزن وقال بعضهم كان الخاتم في الموضعين الأوّل ما مر وهو الذي ولد به
والثاني ختم به جبريل ما حشا به صدره من الايمان والحكمة فهذا من جهة
الصدور ذلك من جهة الظهر وأخفى الذي من جهة الصدر لانه ختم به على أسرار
الحكمة والايمان وأظهر الذي من جهة الظهر لانه ختم به باب وسوسة الشيطان
وهو جمع حسن (ولم يكن الخاتم لنبي قبله) وقيل بل كان لهم ولكن كان من
الجانب الايمن (ثم قال أحدهما لصاحبه) أي قال جبريل لميكائيل (زنه بعشرة
الى آخره)
(1/43)
فوزنه ومازال يزنه بعشرة بعد عشرة حتى قال
والله لو وزنته بأمته لوزنها ثم قبلا رأسه وبين عينيه وقالوا يا حبيب الله
لم ترع انك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك قال صلى الله عليه وآله
وسلم فما هو الا أن وليا عني فكأنما أرى الأمر معاينة* وفي الخامسة أو في
مستهل السادسة ردته حليمة الى أمه والذي حملها على رده بعد ان كانت حريصة
على اقامته معها ما تخوفت عليه حين شق صدره وما حكي أيضا أن نفرا من نصارى
الحبشة رأوه معها فسألوها اياه ليذهبوا به معهم لما تعرفوا منه من العلامات
البينات. وفي السادسة خرجت به أمه الى أخواله بنى عدى بن النجار تزيره
إياهم واقاما فيهم شهرا قال صلى الله عليه وآله وسلم أحسنت العوم والسباحة
في بئر بني عدى بن النجار فكان يهود المدينة يختلفون اليه ويتعرفون منه
علامات النبوة ثم رجع الى مكة فتوفيت أمه بالابواء وتقدم قول ان أباه أيضا
مات بها.
[مطلب في الكلام على إحياء الله تعالى له أبويه
حتى آمنا به]
وورد حديث في إسناده مقال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل ربه أن
يحيى أبويه فأحياهما له وآمنا به والاحاديث الصحيحة مصرحة بنفي ذلك قيل
والجمع بينهما ان حديث الاحياء متأخر عن تلك الاحاديث ولله أن يتحف نبيه ما
شاء والله أعلم* وفي السابعة وقيل في الثامنة هذا على سبيل المجاز والمراد
زن قدره عند ربه وكرامته لديه بمقادير عشرة الى آخره أي قابل بين قدره وبين
اقدارهم (فوزنهم) أي فكان قدره عند ربه أرجح من اقدار جميع الامة بل جميع
الخلق وفي الخامسة (ان نفرا) بفتح الفاء والنفر عدة رجال من ثلاثة الى عشرة
قاله الجوهري سموا بذلك لانهم اذا حزبهم أمر اجتمعوا ثم نفروا الى عدوهم.
قال الواعي ولا تقول العرب عشرون نفرا ولا ثلاثون نفرا (لما) بكسر اللام
وتخفيف الميم (تعرفوا) بالفوقية فالمهملة المفتوحة فالراء المشددة والتعرف
المعرفة وفي السادسة (عدي) بالاهمال (النجار) سمي بذلك لانه اختتن بالقدوم
وفيه لانه ضرب وجه رجل بقدوم فنحره (العوم والسباحة) هما مترادفان وقد يؤخذ
منه ندب تعلم ذلك* ذكر ايمان أبوي النبي صلى الله عليه وسلم (وروي في حديث)
ذكره السهيلي في الروض الانف من حديث عائشة (وفي اسناده مقال) أي فيه
مجهولون قال السهيلي ولعل الحديث يصح ان شاء الله تعالى والله قادر على كل
شيء ولا تعجز رحمته عن شيء ونبيه صلى الله عليه وسلم أهل ان يخصه بما شاء
من فضله وكرامته ولكن الذي ثبت في الحديث الصحيح يعارضه انتهي* وقال الفخر
الرازي في التفسير ان آباء النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا كفارا لقوله
تعالى وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ولقوله لم أزل أنقل من أصلاب
الطاهرين الى أرحام الطاهرات ولقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
فوجب ان لا يكون أحد من آبائه مشركا نجسا لوصفه صلى الله عليه وسلم لهم
بالطهارة انتهى وعليه فالجواب عن حديث ان أبي وأباك في النار ان المراد أبو
طالب لان العرب تطلق على العم أبا مجازا وقال السخاوي وقول من قال ان آباء
النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا كفارا لعل المراد به الخصوص لا العموم
أي غالبهم فان آزر أبا ابراهيم من عموم آبائه صلى الله عليه وسلم وقد قال
تعالى وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ
(1/44)
قمصة سيف بن ذى يزن مع جده عبد المطلب حين
وفد عليه يهنئه بظفره بالحبشة وإخبار الكهان عنه وأمر الاستسقاء به صلى
الله عليه وآله وسلم.
[مطلب في وفاة جده عبد المطلب وخروجه مع عمه
أبى طالب]
ولشهرين وعشرة أيام في الثامنة توفي جده عبد المطلب قيل بعد وفات أمه آمنة
بسنتين وكفله عمه أبو طالب أحسن كفالة وتعرف من كفالته اليمن والبركة له
ولولده وأهل بيته ودافع عنه حين شنف القوم لعداوته بنفسه ولسانه وأهل بيته
ومن أطاعه من قومه وعرض نفسه للشر دونه كما قال في قصيدته المشهورة
حدبت بنفسى دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
وفي التاسعة أو الثانية أو الثالثة عشرة قيل لشهرين منها وعشرة أيام خرج
معه عمه أبو طالب الى الشام في تجارة وقيل كان معهم أبو بكر فلما بلغوا
بصرى رآه بحير الراهب وتعرف وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ انتهى وجوابه يؤخذ مما مر وروي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن سب بعض آبائه فانه كان مؤمنا
منهم مضر وكعب بن لؤي وعن ابن عباس ان خزيمة ومعدا وعدنان وادد ماتوا على
ملة ابراهيم وفي السابعة (قصة سيف) على لفظ السيف المعروف (ابن ذي يزن)
بتحتية فزاى مفتوحة فنون مصروف وممنوع وهو من ملوك حمير وقيل له ذو يزن
لانه حمى واديا اسمه يزن قاله في القاموس وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم
وأهدى له حلة قاله ابن مندة وأبو نعيم وابن عبد البر (يهنئه) بالهمز
(ولشهرين وعشرة أيام في الثامنة توفي جده) هذا قول الاكثرين وقيل سبعة وقيل
تسعة وقيل غير ذلك قالت أم أيمن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي
خلف سرير جده عبد المطلب ذكره السخاوي ودفن عبد المطلب بالحجون مقبرة باعلا
مكة وكان عمره نحو تسعين سنة وقيل مائة وعشرين وقيل غير ذلك وكان قد كف
بصره (وكفله عمه أبو طالب) قيل بوصية من جده وقيل بل اقترع هو والزبير عليه
فقرعه وقيل بل اختاره النبى صلى الله عليه وسلم وكان ألطف أعمامه به واسم
أبي طالب عبد مناف (حين شنف القوم) بمعجمة مفتوحة فنون مكسورة ففاء والشنف
البغض وفي التاسعة (فخرج مع عمه أبي طالب) أخرجه الترمذي من حديث أبي موسى
وأخرجه رزين من حديث علي (الى الشام) قال الشمني بهمزة ساكنة وقد يخفف بلاد
يذكر ويؤنث ويقال أيضا شام بفتح الاول والثاني على وزن فعال والمشهور ان
حده من العريش الى الفرات طولا وقيل الى بابلس ومن جبلي طوس نحو القبلة الى
نحو الروم وما سامت ذلك من البلاد (فائدة) قال ابن عساكر في تاريخه دخل
الشام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبو بكر) اسمه عبد
الله بن أبي قحافة عثمان رضي الله عنهما ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن
تيم بن مرة توفي رضي الله عنه يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الأخرى
سنة ثلاث عشرة وقيل عشية يوم الاثنين وقيل ليلة الثلاثاء وقيل عشية يوم
الثلاثاء وصلى عليه عمر بن الخطاب وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر
ليال وقيل سنتين وأربعة أشهر الا أربع ليال وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة
(بصري) بضم الموحدة مدينة بالشام قال النووي وغيره وهي مدينة حوران أي بفتح
المهملة والواو بينها وبين دمشق ثلاث مراحل (بحيرا) قال الشمني بفتح
الموحدة وكسر المهملة والقصر قال الذهبي رأى رسول الله صلى الله
(1/45)
منه صفات النبوة وتحققها وسأل أبا طالب عنه
فقال هو ابن أخي فناشده أن يرده الى مكة خوفا عليه من اليهود والنصارى فرجع
ورجع معه أبو بكر وزودهم بحيرا شيأ من الكعك والزبيب* ومما ذكر في هذه
السفرة أن نفرا من اليهود رأوه وعرفوا منه ما عرف بحيرا فارادوا به سوءا
فردهم بحيرا وذكرهم الله فرجعوا عن ذلك وفي جامع أبى عيسى الترمذي من رواية
أبي موسى الاشعرى ما معناه أن نفرا من الروم تسعة أقبلوا فسألهم بحيرا
فقالوا ان هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق الا بعث اليه مناناس
وانا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا قال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه أيقدر
أحد من الناس أن يرده قالوا لا قال فتابعوه وأقاموا معه كل ذلك وعين
الرعاية ترعاه وملائكة الرحمن تراعيه وتحفظه في صباحه ومساه من قدامه وخلفه
وشماله ويمناه. فسبحان من أتحفه بالخيرات والتحف وبوأه ذروة المعالى والشرف
وقطعه عن النظير فيما سلف وخلف*
[مطلب فى حضوره صلى الله عليه وسلم حرب الفجار
مع قريش وحلف الفضول]
وفي الرابعة عشرة في شوال منها كان حرب الفجار بين كنانة وقيس عيلان وكان
على قريش عبد الله بن جدعان وقيل حرب بن أمية وتطاول الحرب بينهم أياما
فكانت لقيس على كنانة وحضر صلى الله عليه وآله وسلم في أحد أيامهم فانقلبت
لقريش وكنانة على قيس عيلان وهوازن وسمي حرب الفجار لوقوعه في الشهر
الحرام. وبعد منصرفهم منه في ذي القعدة كان حلف الفضول وسببه أن رجلا من
زبيد من أهل اليمن باع سلعة من العاص بن وائل السهمي فمطله بالثمن فصعد أبا
قبيس وصاح وذكر ظلامته في عليه وسلم وآمن به وذكره ابن مندة وأبو نعيم في
الصحابة وقال السهيلي وقع في سيرة الزهري انه كان حبرا من يهود تيماء وفي
المسعودي انه كان من عبد القيس واسمه جرجيس (عن أبي موسى) اسمه عبد الله بن
قيس بن سليم الاشعري كان من فضلاء الصحابة أسلم وهاجر الى الحبشة ورجع حين
فتح خيبر ومات بالكوفة أو بمكة قولان سنة اثنين وأربعين أو ثلاث وأربعين أو
أربع وأربعين أو تسع وأربعين أو خمسين أو اثنين وخمسين أو ثلاث وخمسين
أقوال (فتابعوه) أي اتبعوه على رأيه (وبوأه) أى أنزله (ذروة) بكسر المعجمة
وضمها وذروة كل شيء أعلاه وفي الرابعة عشرة (حرب الفجار) بكسر الفاء وبجيم
مخففة وراء مصدر (لوقوعه في الشهر الحرام) أى في ذى القعدة (حلف الفضول)
الحلف بكسر المهملة المحالفة (والفضول) بضم الفاء والمعجمة سمي به لانه
حضره جماعة من جرهم كل منهم يسمى الفضل وسمت قريش الحلف به لما فيه من
الشرف والنصفة وقيل انما سمي بذلك لتحالفهم على رد الفضول الى أهلها وان لا
يعز ظالم (العاص بن وائل) بن هشام بن سعيد بالتصغير بن سهم بن عمرو بن هصيص
بالتصغير وبمهملتين ابن كعب بن لؤي (السهمي) والد عمرو بن العاص وهو باثبات
الياء وحذفها كنظائره من الاسم المنقوص (فصعد) بكسر العين (أبا قبيس) جبل
مشهور بمكة وهو أوّل جبل وضع على الارض كما أخرجه البيهقى من حديث ابن عباس
سمي برجل
(1/46)
شعر حكاه فحشدت قريش لذلك واجتمعوا في دار
الندوة واتفقوا أنهم يمنعون الظالم من الظلم واحتلفوا على ذلك في دار عبد
الله بن جدعان وكان أوّل من سعى في ذلك الزبير بن عبد المطلب* وفي السابعة
عشرة قتل هرمز أحد الملوك الاكاسرة
[مطلب في خروجه الى الشام بتجارة لخديجة وزواجه بها صلى الله عليه وسلم الى
الشام]
وفي الخامسة والعشرين خرج صلى الله عليه وآله وسلم مع ميسرة غلام خديجة في
تجارة لها قبل أن يتزوجها بشهرين وأربعة وعشرين يوما وفيها كان من أمر
نسطورا الراهب ما ذكره وقوله لميسرة ممن هذا الرجل فقال من قريش من أهل
الحرم فقال هذا نبى وهو آخر الانبياء وحكى ميسرة أنه كان اذا اشتد الحر
ظللته غمامة ولما رجعا باعت خديجة ما قدما به فاضعف ولما أضعف الربح أضعفت
له خديجة ما سمت له من الاجرة وكانت أربع بكرات* وروى الحاكم بسنده أن
خديجة أيضا استأجرته سفرتين الى جرش كل سفرة بقلوص ولما حكى ميسرة لخديجة
ما رأى من البراهين والكرامات وتعرف في صحبته من البركات مع حسن السمت
والهدي والدلّ خطبته الى نفسها وكانت رضي الله عنها من أفضل قريش حسبا
ونسبا ومالا وجمالا كل من قومها قد كان حريصا على ذلك منها لو كان يقدر
عليه فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكره لاعمامه فخرج
معه عمه حمزة وكلم أباها فقبل ثم حضر أبو طالب ورؤساء قريش وخطب أبو طالب
فقال الحمد لله من مذحج حداد كان أوّل من بنى فيه وكان قبل ذلك يسمى الامين
لان الحجر كان مستودعا فيه (فحشدت) بفاء فمهملة فمعجمة مكسورة فمهملة أي
اجتمعت (واحتلفوا) بالمهملة (ابن جدعان) بالجيم والمهملتين بوزن عثمان
(وكان أوّل) بالنصب خبر كان مقدم (الزبير) بالرفع اسمها مؤخر ويجوز العكس
وفي السابعة عشر (هرمز) بضم الهاء والميم بينهما راء ساكنة وآخره زاي وهو
الكبير من ملوك العجم ويقال له الهرمزان والهارموز قاله في القاموس وغيره
(الا كاسرة) جمع كسرى بكسر الكاف وفتحها وهو ملك الفرس ومعناه واسع الملك
وفي الخامسة والعشرين (ميسرة) بميم فتحتية فمهملة فراء فهاء على وزن حيدرة
لا يعرف له اسلام (خديجة) بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي (نسطورا)
بفتح النون وسكون المهملة فطاء مهملة مضمومة فواو ساكنة ثم راء مقصورة (انه
كان اذا اشتد الحر ظللته غمامة) أي باظلال ملكين كما في رواية في الشفا ان
خديجة ونساءها رأينه لما قدم وملكان يظلانه فذكرت ذلك لميسرة فأخبرها انه
رأى ذلك منذ خرج في سفره (أربع بكرات) جمع بكرة بفتح الموحدة وهي الفتية من
الابل (وروى الحاكم) هو محمد بن عبد الله بن البيع بفتح الموحدة وكسر
التحتية المشددة أبو عبد الله النيسابوري ولد بها في شهر ربيع الاول سنة
احدى وعشرين وثلاثمائة ومات بها في صفر سنة خمس وأربعمائة (جرش) بالجيم
والراء فالمعجمة بوزن عمر بلد باليمن (مع حسن السمت) بفتح المهملة (والهدى)
بفتح الهاء وسكون المهملة (والدال) بفتح المهملة وتشديد اللام كلها بمعنى
وهى السيرة والطريقة والمذهب وهيئة أهل الخير (حسبا) ذكر مفاخر الآباء
(1/47)
الذى جعلنا من ذرية ابراهيم وزرع اسمعيل
وضئضئ معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا
وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم ان ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا
يوزن به أحد الا رجح فان كان في المال قل فالمال ظل زائل وأمر حائل ومحمد
من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وقد بذل لها من الصداق ما
عاجله وآجله من مالى كذا وكذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل
وتزوجها صلى الله عليه وآله وسلم وله من العمر خمس وعشرون سنة وهى يومئذ
ابنة ثمان وعشرين سنة.
وروى انه أصدقها اثنتى عشرة أوقية من ذهب وقيل عشرين بكرة وبقيت عنده قبل
الوحي خمس عشرة سنة وبعده الى ما قبل الهجرة بثلاث سنين وماتت ولرسول الله
صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وكانت له
وزير صدق وهي أوّل من أسلم من النساء وأتاه جبريل فقال اقرئ خديجة من ربها
السلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم يا خديجة هذا جبريل يقرئك من ربك
السلام (ضئضيء) بمعجمتين أو مهملتين بينهما همزة ساكنة مهموز الآخر وهو
الاصل ومن أسمائه النجار بكسر النون وجيم مخففة آخره راء والرسخ باعجام
الخاء واهمال السين والسنخ بكسر المهملة وسكون النون ثم معجمة والعنصر
والعيص والارومة والجرثومة (حضنة بيته) جمع حاضن باهمال الحاء واعجام الضاد
وهو كل قائم بامر ومنه حضن الصغير (وسواس حرمه) جمع سائس وهو القائم بالامر
أيضا ومنه سياسة الدابة (فان كان في المال قل) بضم القاف وتشديد اللام قال
الجوهري القل والقلة مثل الذل والذلة وفي الحديث ألا وان كل كثر فهو الى قل
وكثر بضم الكاف أيضا (من الصداق) بفتح الصاد وكسرها وسمى صدقة بفتح الصاد
وضم الدال وقد يسكن الدال وقد يضمان يقال أصدقها وأمهرها ومهرها بمعنى واحد
وقيل الصداق ما استحق بالتسمية في العقد والمهر ما استحق بغير ذلك ومن
أسمائه العقر والعليقة والاجر والنحلة والحبا والطول وسمى صداقا لاشعاره
بصدق رغبة باذله في النكاح (نبأ) أي خبر (وخطب جليل) أى أمر عظيم (وتزوجها
صلى الله عليه وسلم) أي بتزويج ابنها قاله ابن اسحاق ونقل عن الزهري أو
عمها عمرو بن أسد قاله الواقدي وهو الصحيح أو أخيها عمرو بن خويلد وهو ضعيف
جدا (وروى أصدقها اثنتي عشرة أوقية من ذهب) زاد ابن الاثير وغيره ونشا بفتح
النون وتشديد المعجمة أى نصفا وجملة ذلك خمسمائة درهم اسلامية لان الاوقية
أربعون درهما (وماتت) أي في شهر رمضان ودفنت بالحجون (وزير صدق) الوزير
الموازر وهو المعاون (وأتاه جبريل) الى آخره أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث
أبي هريرة وأخرجه مسلم من حديث أبى أوفى وعائشة من غير ذكر السلام قال
النووي وهذا الحديث من مراسيل الصحابة وهو حجة عند الجماهير وخالف فيه
الاستاذ أبو اسحاق الاسفراييني لان أبا هريرة وعائشة وابن أبى أوفى لم
يدركوا أبا خديجة فهو محمول على انهم سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم
(يا خديجة هذا جبريل الى آخره)
(1/48)
فقالت الله هو السلام ومنه السلام وعلى
جبريل السلام وأمره أيضا أن يبشرها بيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب
وسيأتي فيها مزيد ذكر في الباب الخامس عند تراجم أزواج النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ان شاء الله تعالى* ولما بلغ صلى الله عليه وآله وسلم خمسا
وثلاثين سنة ظهرت وبهرت أمارات خبره ظهور نار القرى واشتهرت بركته وأمانته
في أم القرى. ففي هذه السنة ولدت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم
[مطلب في بناء قريش الكعبة ووضعه الحجر الاسود
بيده الشريفة مكانه من البيت]
وفيها بنت قريش الكعبة وتقسمتها أرباعا فلما انتهوا إلى موضع الحجر الاسود
تنازعوا أيهم يضعه في موضعه ثم اتفقوا أن يحكموا أوّل داخل عليهم من بني
هاشم من باب بنى شيبة فكان صلى الله عليه وآله وسلم أوّل من ظهر لابصارهم
فأخبروه فبسط صلى الله عليه وعلى آله وسلم رداءه ووضع الحجر فيه وأمر أربعة
من رؤسائهم أن يحملوه معا الى منتهى موضع الحجر ثم أخذه صلى الله عليه وآله
وسلم بيده الكريمة المباركة ووضعه في موضعه وفي الصحيح انهم كانوا يجعلون
أزرهم على عواتقهم لتقيهم الحجارة استدل به أبو بكر بن أبي داود على تفضيل
خديجة على عائشة لان عائشة سلم عليها جبريل من قبل نفسه ولم يبلغها السلام
من الله تعالى (فقالت الله هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام) من
زيادات الطبراني وقد يؤخذ منه ان الشخص اذا أرسل اليه السلام يبدأ في
الجواب بالمسلم ثم بالرسول وهو خلاف المعروف (ببيت) قال الخطابي وغيره
المراد به هنا القصر (من قصب) بفتح القاف والمهملة بعدها موحدة قال النووي
قد جاء في الحديث مفسرا ببيت من لؤلؤة مخبأة وفسروه بمجوفة انتهي (قلت) وفي
الطبراني من حديث فاطمة قالت قلت يا رسول الله اين أمي قال في بيت من قصب
قلت أمن هذا القصب قال لابل من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت
(لاصخب) بمهملة فمعجمة مفتوحتين وهو الصوت المختلط المرتفع ولغة ربيعة فيه
بالسين (نصب) هو المشقة والتعب. قال النووي ويقال فيه نصب بضم النون وسكون
المهملة كحزن وحزن والفتح أشهر وبه جاء القرآن أى في قوله تعالى ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وقد نصب بفتح النون وكسر
الصاد (عند تراجم) جمع ترجمة وأصلها التعبير عن لغة باخرى (ولما بلغ صلى
الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ظهرت وبهرت امارات خبره ظهور) منصوب على
المصدر (القرى) بكسر القاف الضيافة (ولدت فاطمة) انما ذكر ولادتها دون
اخواتها مع انهن أكبر منها كما سيأتي لفضلها عليهن بل على نساء العالمين
وسيأتي ان وفاتها بعد أبيها بستة أشهر فجملة عمرها ثمان وعشرون سنة وأشهر
(الكعبة) سميت بذلك لارتباعها وقيل لارتفاعها ومن أسمائها البيت الحرام
والمسجد الحرام والبنية والمذبحة (وتقسمتها ارباعا) فكان ما يلى الباب لبني
عبد مناف وبني زهرة وما بين ركن الحجر واليمانى لبني مخزوم وتيم وقبائل من
قريش وكان ظهرها لبنى سهم وجمح وكان سوى الحجر لبني عبد الدار وبني أسد
وبني كعب (ثم اتفقوا ان يحكموا أوّل داخل عليهم الى آخره) كان ذلك بمشورة
أبى أمية المخزومي وأبى حذيفة بن المغيرة قاله ابن الاثير وغيره (من باب
بني شيبة) هو المعروف الآن بباب السلام (وفي) الحديث (الصحيح)
(1/49)
ففعل صلى الله عليه وآله وسلم مثلهم فسقط
مغشيا عليه قال أهل السير والذى حمل قريشا على بنائها بعد أن هدمها السيل
وكانت رضا من حجارة فوق القامة مدة ما تأتي لها من الآلة وذلك أن قيصر بعث
الى النجاشى بمركب فيه ضروب من آلات البناء وأمره أن يبنى له كنيسة تعظمها
النصارى بالحبشة فانكسر المركب وألقاه البحر على ساحل جدة وايضا كان بمكة
صانع من القبط وأيضا كان في البئر التى في جوف الكعبة حية عظيمة تخرج كل
يوم اذا طلعت الشمس فتشرف على جدار الكعبة ولا يقرب الكعبة أحد من هيبتها
فلما تهيؤا للبناء طلع لها عقاب فاحتملها ومع ذلك قد تهيبوا وفرقوا من
هدمها وبدأ الوليد بن المغيرة فاخذ المعول وقال اللهم انا لا نريد الا
الخير ثم هدم من ناحية الركنين وتربصوا به تلك الليلة فلما لم يصبه شئ
تمادوا في الهدم حتي انتهوا الى حجارة خضر كالاسنمة آخذ بعضها ببعض أساس
ابراهيم فاراد أحدهم أن يفصل بين حجرين فانتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك
وجعلوه أساس بنائهم الا أنهم قد نقصوا من بنائها قدر ستة أذرع أو سبعة أذرع
لقصور نفقتهم وجعلوا لها بابا واحدا ورفعوه عن الارض ليدخلوا من شاؤا
ويمنعوا من شاؤا كما ثبت في صحيح البخاري فلما كان في خلافة ابن الزبير في
البخاري وغيره من حديث جابر وهو أيضا مرسل صحابي فكأنه سمعه من العباس فانه
معروف بروايته (ففعل صلى الله عليه وآله وسلم مثلهم) أي بامر عمه العباس
(فسقط) الى الارض (مغشيا عليه) حتى رد ازاره فقال له عمه مالك فقال انى
نهيت عن التعري زاد ابن اسحاق فما رؤي بعد ذلك عريانا (رضما) بالراء
والمعجمة أي مرضوما بعضها فوق بعض (قيصر) لقب لكل من ملك الروم (النجاشي)
بفتح النون وكسرها في آخره ياء تشدد وتخفف والتخفيف هو الصواب كما قاله
الطبرانى لقب لكل من ملك الحبشة (ضروب) أي أنواع (كنيسة) هى متعبد النصارى
والبيعة متعبد اليهود (كان بمكة صانع من القبط) اسمه أقوم بالقاف والواو
وكان مولى لبعض قريش وفي القاموس ان اسمه معروف بن مسكان فان صح حمل على ان
كلا منهما بنى فيها (تهيبوا وفرقوا) بمعنى أي خافوا (وبدأ) بالهمز ابتدأ
(الوليد بن المغيرة) ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أبو خالد بن الوليد
واخوته (المعول) بكسر الميم وسكون المهملة آلة معروفة (اساس ابراهيم) بالجر
بدل من حجارة خضر وبالرفع خبر مبتدإ محذوف (فانتفضت) بالفاء والضاد المعجمة
أي تحركت واضطربت (ابن الزبير) هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد
بن أسد بن عبد العزى بن قصي يكني أبا خبيب وأبا بكر وكان حصره بمكة أوّل
ليلة من ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وحج بالناس الحجاج ولم يطف بالبيت وبين
الصفا والمروة ونصب منجنيقا على جبل أبي قبيس فكان يرمي بالحجارة الى
المسجد ولم يزل يحاصره حتى خرج عبد الله على الناس وقاتلهم في المسجد وكان
لا يحمل على ناحية الا انهزم من فيها من جند الشام فأتاه حجر من ناحية
الصفا فوقع بين عينيه فنكس رأسه وهو يقول
(1/50)
وحصره الحصين بن نمير السكونى احترقت
الكعبة بحريق خيمة كانت في المسجد وأيضا كان يصيبها حجر المنجنيق. الذى كان
يرمى به الحصين وأصحابه ولما أدبر الحصين راجعا الى الشام وأصحابه لموت
خليفته يزيد بن معاوية هدمها ابن الزبير وبناها على اساس ابراهيم عليه
السلام على ما حدثته خالته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وجعل طولها في السماء ثمانية وعشرين ذراعا تقريبا على ما هي عليه اليوم
فلما ظفر الحجاج بابن الزبير تركها على
ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ثم اجتمعوا عليه فقتلوه وصلبوه رضى الله عنه وذلك في النصف من جمادي الآخرة
سنة ثلاث وسبعين ذكر ذلك ابن مندة وأبو نعيم وابن عبد البر (الحصين)
بمهملتين مصغر (ابن نمير) مصغر أيضا (السكوني) نسبة الى سكون بالمهملة
والنون بوزن صبور حى من العرب (المنجنيق) بفتح الميم والجيم وبكسر الميم
ذكرهما أبو عبيد القاسم ابن سلام في الغريب. وقال الجوهري المنجنيق الذى
يرمى به الحجارة معربة وأصلها بالفارسية من جى نيك أى ما أجودني وهي مؤنثة
(يزيد بن معاوية) بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف كان
من الولاة الجائرين وعليه وعلى أمثاله كعبيد الله بن زياد ومن ينزل منزلتهم
من احداث ملوك بني أمية حمل القرطبي وغيره قوله صلى الله عليه وسلم هلاك
أمتى على يدي أغيلمة من قريش أخرجه أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة فقد
صدر عنهم من قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل خيار المهاجرين
والانصار بالمدينة ومكة وغيرهما ما هو مشهور (على ما حدثته خالته عائشة) عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد
بشرك لهدمت الكعبة فالزقتها بالارض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا
ولزدت فيها ستة أذرع من الحجر وفي رواية خمسة أذرع فان قريشا اقتصرتها حين
بنت الكعبة أخرجه الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم في إحدى رواياته (وجعل
طولها في السماء ثمانية وعشرين ذراعا) وكان طولها قبل ذلك ثمانية عشر ذراعا
فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع كما في صحيح مسلم (الحجاج) بن
يوسف الثقفى كان من أفسق الفسقاء وأجرإ الجرآء على اراقة الدماء وقد أخبر
به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال ان في ثقيف كذابا ومبيرا
أخرجه مسلم والترمذي من حديث أسماء بنت أبي بكر وأخرجه الطبراني في الكبير
من حديث حذيفة والمبير بضم الميم وكسر الموحدة هو المهلك قال الترمذى في
السنن الكذاب المختار ابن أبي عبيد والمبير الحجاج بن يوسف ثم روي بسنده
الى هشام بن حسان قال احصوا من قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة وعشرين ألف قتيل
انتهى قال النووى اتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي
عبيد وكان شديد الكذب ومن أقبحه دعواه ان جبريل كان يأتيه انتهي. قال
الشمنى وكان المختار واليا على الكوفة وكان يلقب بكيسان واليه تنسب
الكيسانية وكان خارجيا ثم صار شيعيا وكان يدعو الى محمد بن الحنفية وكان
يتبرأ منه وكان أرسل ابن الاشتر بعسكر الى ابن زياد قاتل الحسين فقتله وقتل
كل من كان في قتل الحسين ممن قدر عليه ولما ولى مصعب بن الزبير على البصرة
من جهة عبد الله بن الزبير قاتل المختار بن أبي عبيد فقتله (فلما ظفر
الحجاج بابن الزبير) فقتله كتب الى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره
أن ابن الزبير قد وضع البناء على
(1/51)
ما هى عليه الا أنه أخرج منها ما أدخله ابن
الزبير من شاميها وسد الباب الغربي ورفع الشرقى عن الارض بمشاورة عبد الملك
بن مروان (فائدة) قال شيخ شيوخنا حافظ الحجاز وقاضيه تقى الدين الفاسي رحمه
الله في تاريخ مكة بنيت الكعبة المعظمة مرات وفي عدد بنائها خلاف ويتحصل من
مجموع ما قيل في ذلك انها بنيت عشر مرات بناها الملائكة وآدم وأولاده
وابراهيم عليهم السلام وبناها العمالقة وجرهم وقصى بن كلاب وقريش وعبد الله
بن الزبير والحجاج.
قال واطلاق العبارة بانه بني الكعبة تجوز لانه لم يبن الا بعضها والله
أعلم*
[مطلب في الكلام على أول من بني المسجد الحرام
والكلام على أول ما ظهر من لوائح نبوته صلى الله عليه وسلم]
وأما المسجد الحرام فاول من بناه عمر وآخر من عمه بالبناء والتحسين الوليد
بن عبد الملك وللملوك بعده زيادات تحسين والله أعلم. قال المؤلف وفيما بعد
هذه المدة لاحت لوائح النبوة واتسقت آياتها وانتشرت الاخبار عن الاحبار
والرهبان والكهان بحلول ميقاتها. من ذلك ما روى أن زيد بن عمرو بن نفيل أس
نظر اليه العدول من أهل مكة فكتب اليه عبد الملك انا لسنا من تلطيخ ابن
الزبير أى سبه وعيب فعله في شئ أما ما زاد في طوله فاقره وأما ما زاد فيه
من الحجر فرده الى بنائه وسد الباب الذي فتحه فنقضه وأعاده الى بنائه
(بمشاورة) أصلها من قولهم شرت العسل أى استخرجت ما فيه فكان الشخص يستخرج
ما عند صاحبه من الرأى (عبد الملك بن مروان) بن الحكم بن العاصي بن أمية بن
عبد شمس بايع الناس له بالشام لما مات معاوية بن يزيد بن معاوية ولم يعهد
الى أحد وبايع الضحاك بن قيس الفهري بالشام أيضا لعبد الله ابن الزبير
والتقيا فاقتتلا عند دمشق فقتل الضحاك واستقام الامر بالشام ومصر لعبد
الملك بن مروان (تقي الدين) بالفوقية (الفاسي) بالفاء والمهملة نسبة الى
فاس مدينة بالمغرب (بناها الملائكة) ذكره السيوطي في التوشيح بصيغة تمريض
(وآدم) خرجه عبد الرزاق عن عطاء (وأولاده) ولى ذلك منهم شيث كما روي عن وهب
بن منبه ثم رفع البيت زمان الطوفان على عهد نوح فكان الانبياء بعد ذلك
يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله لابراهيم أخرجه ابن أبي حاتم من
حديث ابن عمرو (وابراهيم) وبناه على أساس آدم وجعل طوله في السماء تسعة
أذرع بذراعهم ودوره في الارض ثلاثين ذراعا بذراعهم وأدخل الحجر في البيت
وكان زريبة لغنم اسماعيل ولم يجعل له سقفا وجعل له بابا وحفر له بئرا عند
بابه يلقى فيها ما يهدى للبيت (وبناها العمالقة) بالمهملة والقاف نسبوا الى
جدهم اسمه عمليق كقنديل أو عملاق كقرطاس وهو ابن لاوذ بن ارم ابن سام بن
نوح (وجرهم) بضم الجيم والهاء بينهما راء ساكنة هو ابن قحطان بن عابر بن
شالخ بن ارفخشذ ابن سام بن نوح* قال ابن اسحق كان جرهم وأخوه قيطورا أوّل
من تكلم بالعربية عند تبلبل الالسن وفيما بعد هذه المدة (واتسقت آياتها)
بالفوقية فالمهملة فالقاف أي انتظمت (زيد بن عمرو بن نفيل) بنون وفاء ابن
عبد العزي بن رياح بكسر الراء وبتحتية بن قرط بضم القاف وسكون الراء ثم
مهملة بن رزاح بفتح الراء وقيل بضمها وزاي ومهملة ابن عدي بن كعب بن لؤي
والد سعيد بن زيد وابن عم عمر بن الخطاب سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم
فقال يبعث أمة وحده يوم القيامة وكان لا يأكل مما ذبح على النصب ويقول إلهي
إله إبراهيم
(1/52)
وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد
الله بن جحش اجتمعوا وتلاوموا بينهم وضللوا قومهم في عبادتهم الاوثان
وتفرقوا في البلاد يطلبون الحنيفية فاما زيد فكان يوحد الله ويبكي ويقول
وعزتك لو أعلم الوجه الذى تعبد به لعبدتك به ثم يسجد على كفه فخرج على وجهه
الى الشام وسأل جماعة من الاحبار والرهبان فقال له أحدهم بأرض البلقاء قد
أطلك زمان نبى يخرج من بلادك التي خرجت منها يبعث بدين ابراهيم فرجع سريعا
حتى اذا كان ببلاد لخم عدوا عليه فقتلوه رحمه الله قال فيه النبي صلى الله
عليه وآله وسلم يبعث أمة وحده وترحم عليه وله أشعار كثيرة في التوحيد*
[من ذلك خبر زيد بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهما]
وأما ورقة بن نوفل فتنصر وقرأ الكتب ووجد صفة النبي صلى الله عليه وسلم
وقرب مبعثه فأقام بمكة ينتظر ذلك وكان يسأل خديجة رضى الله عنها ويخبرها
بما وجد من الصفات وتخبره بما رأت من الدلالات وكان يلقى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ويقبل وجهه ويقول أشهد انك لنبى هذه الأمة ثم أدرك أوّل
النبوة وقص عليه النبى صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى على ما سيأتى في أوّل
وديني دين ابراهيم واجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسفل بلدح قبل
الوحي وتوفي قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ورثاه ورقة بن نوفل وكان يقول يا
معشر قريش إياكم والزنا فانه يورث الفقر (وورقة بن نوفل) بن أسد بن عبد
العزي بن قصي ابن عم خديجة واسم أمه هند بنت أبي كثير بن عدي بن قصي ولا
عقب له (وعثمان بن الحويرث) تصغير حارث (وعبيد الله بن جحش) هو الذي تنصر
بالحبشة وكانت تحته أم حبيبة بنت أبي سفيان كما ذكره المصنف فيما بعد
(الاوثان) بمثلثة جمع وثن. قال الجوهري وهو الصنم واحد الاصنام ويقال انه
معرب شمن وهو الوثن وقال غيره الوثن الجثة من أجزاء الارض أو الخشب يعبد
وفي حديث عدي بن حاتم قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقى صليب من
ذهب فقال لي الق عنك هذا الوثن (الاحبار) جمع حبر بكسر المهملة وفتحها وهو
العالم قال في القاموس أو الصالح (والرهبان) جمع راهب وهو المتعبد في
الصوامع ونحوها المنقطع عن النساء (البلقاء) بالموحدة والقاف بينهما لام
ساكنة مع المد بلد بالشام قريبة من مؤتة (قد أطلك زمان نبى) بالطاء المهملة
قال في الديوان يقال أطل عليه اذا أشرف وبالمعجمة أيضا ومعناه اقبل ودنا
قدومه (ببلاد لخم) بفتح اللام وسكون المعجمة قبيلة معروفة تنسب الى لخم بن
عدي بن الحرث بن مرة بن أزد (وترحم عليه الى آخره) أخرجه الحاكم في
المستدرك من حديث عائشة ان النبى صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا ورقة
فانه كان له جنة أو جنتان ثم قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين قال ابن
الانصاري وفي كتاب الزبير بن بكار من حديث عبد الله بن معاذ الزهري عن عروة
قال سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل كما بلغنا فقال لقد
رأيته في المنام عليه ثياب بيض فقد أظن انه لو كان من أهل النار لم أر عليه
البياض وأخرجه الترمذي في كتاب
(1/53)
الباب الثالث ان شاء الله تعالى وتوفى عقيب
ذلك وترحم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال رأيت لورقة بن نوفل جنة
أو جنتين* ومن شعره حين كان يسأل خديجة ويستبطئ الامر
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما ما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظارى يا خديجا
ببطن المكتين على رجائى ... حديثك ان أرى منه خروجا
بما خبرتنا عن قول قس ... من الرهبان أكره ان يعوجا
بأن محمدا سيسود قوما ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية ان تموجا
الرؤيا من جامعه من حديث عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة
قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة وقالت له خديجة انه كان
صدقك ولكنه مات قبل ان تظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم رأيته في المنام
وعليه ثياب بيض ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك ثم قال حديث
غريب وعثمان بن عبد الرحمن ليس عند أهل الحديث بالقوي وقال السهيلي في
اسناده ضعف لانه يدور على عثمان هذا لكن يقويه قوله عليه السلام رأيت القس
يعني ورقة وعليه ثياب حرير لانه أوّل من آمن بي وصدقني ذكره ابن اسحق عن
أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل وقال المرزباني كان ورقة من علماء قريش وشعرائهم
وكان يدعى القس وقال النبي صلى الله عليه وسلم رأيته وعليه حلة خضراء يرفل
في الجنة انتهى وسيأتي مزيد كلام فيه فيما بعد ان شاء الله تعالى* شعر ورقة
(لججت) بكسر الجيم الاولى وسكون الثانية على الافصح كنظائره واللجاج بفتح
اللام التمادى في الشيء والاصرار عليه ومنه نذرا للجاج (لجوجا) بفتح اللام
فعولا بمعنى فاعل (لهم) أكثرهم لا يفرق بينه وبين الحزن وفرق بعضهم بينهما
فقال الحزن يكون على أمر قد وقع والهم على أمر لم يقع بعد وهم ورقة ان
تأتيه منيته قبل ادراك منيته من هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
باتباعه ونصرته (بعث) أثار (النشيجا) بألف الاطلاق وهو بنون مفتوحة فمعجمة
وجيم بوزن العظيم مصدر نشج ينشج بكسر الشين في الماضى وفتحها في المستقبل
والنشيج ما يعرض في حلق الباكى من الغصة وقيل صوت مع ترجيع كترديد الصبي
بكاءه في صدره (يا خديجا) بألف الاطلاق ترخيم خديجة (ببطن المكتين) تثنية
مكة قيل أرادها والطائف وقيل أرادها وحدها وثناها اما تعظيما لها أولان لها
بطاحا وظواهر أو لان عادة العرب تثنية الواحد وجمعه في الشعر (قس) بضم
القاف وتشديد المهملة هو رئيس النصارى في العلم كالقسيس ومصدره قسوسة
والقسيسة وجمعه قسوس وقسيسون وقساوسة قاله في القاموس (حجيجا) أي محاججا
(البرية) بالهمز وتركه الخليقة (ان تموجا) أي تضطرب في دينها وتختلط كما
(1/54)
فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه
فلوجا
فياليتى اذا ما كان ذا كم ... شهدت وكنت أولهم ولوجا
ولوجا بالذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجى بالذى كرهوا جميعا ... الى ذي العرش ان سفلوا عروجا
وهل أمر السفاهة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا
فان يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا
وان أهلك فكل فتى سيلقى ... من الاقدار متلفة خروجا
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر وحسنت منزلته عنده وتنصر* وأما عبيد
الله بن جحش فأدرك الاسلام وأسلم وهاجر مع مهاجرة الحبشة وارتد عن الاسلام
ومات بها نصرانيا*
[ومن ذلك خبر سلمان الفارسي رضى الله عنه]
ومن ذلك ما ذكر في قصة سلمان الفارسى وتنقله من الاحبار واحدا بعد واحد حتى
دله آخرهم على مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما قدم المدينة تعرف
صفات النبوة يتموج البحر (خسارا) مصدر وضع موضع الاسم أي خاسرا ويجوز أن
يكون على بابه والفعل مضمر تقديره فيخسر خسارا (فلوجا) بضم الفاء مصدر يأتى
فيه ما مر في الخسار والفلوج الفوز والظفر (فياليتي) أي فياليتنى حذفت نون
الوقابة لضرورة الشعر (اذا ما كان) أي وقع (ذاكم) يعني خروجه صلى الله عليه
وسلم (ولوجا) مصدر ولج يلج (عجيجا) مصدر عج يعج والعجيج رفع الصوت (أرجى
بالذي كرهوا جميعا الى آخر البيت) أي رجائى الى الله عز وجل (ذى العرش ان
سفلوا) في العروج أى ان يكونوا كل ما حاولوا رفعة وضعهم الله بسبب كراهتهم
للنبي صلى الله عليه وسلم ودينه* وسفل مثلث الفاء والضم أشهر (السفاهة)
مصدر سفه يسفه سفها وسفاهة والسفه هنا ضعف العقل ورقة الحلم وهو الحامل على
الكفر (غير كفر) بالنبى صلى الله عليه وسلم الذى اختار عبادة الله عز وجل
على عبادة غيره وهو معنى قوله (بمن يختار) أى يصطفي لعبادته (من سمك) أى
رفع (البروجا) بألف الاطلاق وهي الاثنى عشر المشهورة الحمل والثور والجوزاء
والسرطان والاسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت
(ضجيحا) مصدر ضج والضجيج رفع الصوت من أمر مفزع (وان أهلك) أى أمت (متلفة)
يجوز فيه ضم الميم مع كسر اللام أى ميتة متلفة وفتحهما أى محل تلف (خروجا)
بفتح المعجمة أى عظيمة من قولهم ناقة خروج اذا عظم سنامها* ذكر اسلام سلمان
الفارسي قال ابن عبد البر أصله من جبا قرية من قرى أصبهان وقيل من رامهرمز
وكان أبوه دهقانها وسيدها وسادن نارها (وتنقله) بالجر (من الاحبار واحدا
بعد واحد) قال ابن اسحق وغيره ما معناه مر سلمان على النصارى المجاورين
للفرس وهم في الكنائس فاعجبه دينهم فلزمهم فقيده أبوه على ذلك وطلب منه
خدمة بيت النار ففك القيد وخرج الى الشام فسأل عن عالم النصارى فدل عليه
فخدمه واطلع منه على خيانة في دينه فاخبر النصارى بذلك فرجموه وأقاموا
مكانه رجلا صالحا فصحبه سلمان حتى قارب
(1/55)
على ما ثبت عنده من الوصف وأسلم*
[ومن ذلك ابن الهيبان من يهود الشام]
ومن ذلك حديث ابن الهيبان من يهود الشام حين قدم المدينة متوكفا لمخرجه
فلما حضره الموت وعلم انه ميت قبله عهد الى ابنى سعية وأسد بن عبيد اخوة
بني قريظة بذلك فكان سبب اسلامهم وفلاحهم*
[مطلب في تحنثه صلى الله عليه وسلم بغار حراء
وما قيل في عصمته وما كان يراه من أمارت النبوة]
وفي سنة ثمان وثلاثين كان صلى الله عليه وآله وسلم يرى الضوء والنور ويسمع
صوت النداء ولا يرى أحدا وحبب اليه الخلاء الموت فسأله ان يوصيه فذكر له
رجلا صالحا بالموصل فلما مات الاول أتى هذا وصحبه فلما حضرته الوفاة قال له
اوصني فذكر له رجلا بعمورية فصحبه فلما أشرف على الوفاة سأله الوصية فقال
لا أجد اليوم على مثل ما كنا عليه أحدا ولكن قد أطل زمان نبي يبعث بدين
ابراهيم مهاجره بارض ذات نخل له آيات وعلامات لا تخفى بين كتفيه خاتم
النبوة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فلما مات مر به ركب من العراق من كلب
فصحبهم فباعوه بوادي القرى من يهودي ثم اشتراه يهودي آخر من بني قريظة وقدم
به الى المدينة فأقام بها الى ان قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم
بعد ان رأى الصفات التي وصفت له وكان من خيار الصحابة وسمي سلمان الخير قال
فيه النبي صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت أخرجه الطبراني والحاكم
من حديث عمرو بن عوف. وفي آخر سلمان سابق فارس أخرجه ابن سعد عن الحسن
مرسلا توفي سنة خمس وثلاثين في آخر خلافة عثمان أو سنة ست وثلاثين وقيل
توفى في خلافة عمر عاش مائتين وخمسين سنة وقيل ثلاثمائة وخمسين* قال ابن
الاثير صح انه أدرك وصى عيسى وقرأ الكتابين وكان له ثلاث بنات بنت باصبهان
وابنتان بمصر. وذكر البغوي ان سلمان لما حضره الموت بكى وقال ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم عهد الينا عهدا فتركنا عهده ان تكون بلغة أحدنا كزاد
الراكب فلما مات نظر فيما ترك فاذا نحو من ثلاثين درهما (ابن الهيبان) بفتح
الهاء وكسر التحتية المشددة وقد تخفف فموحدة وقد تبدل فاء (متوكفا) أي
متلقيا (ابني سعية) بسكون الموحدة وفتح النون تثنية ابن وسعية بمهملتين
الاولى مفتوحة والثانية ساكنة بعدها تحتية وهما تغلب بن سعية وأسد بن سعية.
قال ابن اسحاق وهم من طهدل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك وهم
بني عم بنى قريظة أسلموا في الليلة التى نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم (تنبيه) قد يشكل سعية هذا بزيد بن سعنة بالنون ولزيد بن
سعنة هذا قصة مع النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها عياض في الشفا وذلك انه
جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا عليه فجبذ ثوبه عن منكبه
وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له ثم قال انكم يا بني عبد المطلب مطل فانتهره عمر
رضي الله عنه وشدد له في القول والنبي صلى الله عليه وسلم يتبسم فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو كنا الى غير هذا منك أحوج يا عمر تأمرني
بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضى ثم قال لقد بقى من أجله ثلاث وأمر عمر ان
يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعا لما روعه فكان سبب اسلامه وذلك انه كان يقول
ما بقي من علامات النبوة شيء الا وقد عرفتها في محمد صلى الله عليه وسلم
الا اثنتين لم أخبرهما يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه الا حلما
فاختبره بهذا فوجده كما وصف. قال النووي في التهذيب شهد اسيد مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة وتوفى في
(1/56)
فكان يخلو بغار حراء قيل كانت عبادته فيه
الفكر وقيل الذكر وهو الصحيح واختلفوا بأى الشرائع كان يدين تلك الايام
فقيل بشريعة نوح وقيل ابراهيم وهو الظاهر وقيل موسى عليهم السلام وقيل غير
ملتزم شريعة أحد وهو المختار لظاهر قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
الْإِيمانُ) ولخلوه من دلائل العقل والنقل والاجماع كما أفهمه كلام الامام
النووى رحمه الله تعالى واتفقوا انه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعبد صنما
ولم يقارف شيئا من قاذورات الجاهلية وكذلك الانبياء عليهم السلام جملة
معصومون من الكفر والكبائر قبل النبوة وبعدها من الصغائر أيضا عند
المحققين. ومما هداه الله اليه فطرة وبديهة من مناهج الهدى قبل النبوة وقبل
سماع الصوت والنداء ما روى في صحيح الاخبار ان قريشا خالفت الناس في موقف
عرفات وكانوا يقفون بالمشعر الحرام ويقولون نحن أهل الحرم وقطانه لا نخرج
منه وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخالفهم ويقف مع الناس بعرفات على
مناسك ابراهيم وكانت الاحجار تسلم عليه قبل النبوة وتناديه بالرسالة كما في
صحيح الاخبار انى لاعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل ان أبعث اني لا عرفه
الآن غزوة تبوك مقبلا الى المدينة* وفي سنة ثمان وثلاثين (قيل كانت عبادته)
بالفتح خبر كان والفكر اسمها ويجوز عكسه (الفكر) نقله الحافظ ابن حجر عن
بعض المشايخ من غير تسمية (وقيل الذكر) وهذا هو الصحيح عند الجمهور وقيل
اطعام من يرد عليه من المشركين كما في رواية عتبة بن عمير عند ابن اسحاق
(فقيل بشريعة نوح) أي لكونه أوّل أولى العزم (وقيل ابراهيم) يؤيده ما في
سيرة ابن هشام فيتحنف بالفاء بدل يتحنث أى يتبع الحنيفية وهي دين ابراهيم
(ولم يقارف شيئا) هو بمعنى يقترف والاقتراف الاكتساب ويأتي في الخير والشر
قال تعالى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ولمن أراد الزنا ونحوه مما يكون فيه
المعصية من اثنين كانت المفاعلة على بابها (ومن الصغائر أيضا عند المحققين)
من الاصوليين وغيرهم فاعتقاد ذلك واجب* وعن قصة آدم وداود واخوة يوسف أى
على القول بنبوتهم أجوبة ذكرها عياض في الشفا ومعصومون أيضا من المكروه كما
جزم به غير واحد الا لمعنى كتبيين الجواز لندرة وقوعه من الاتقياء فكيف من
الانبياء (فطرة) هي الخلقة (وبديهة) بالموحدة والمهملة بوزن عظيمة أي قبل
التعلم والوحي قال صاحب القاموس البديهة أوّل كل شئ وما يفجأ منه وبادهه به
مبادهة وبداها فاجاه به ولك البديهة أي لك أن تبدأ (من مناهج) جمع منهج
ومنهاج وهو الطريق الواضح (اني لأعرف حجرا الى آخره) أخرجه أحمد ومسلم
والترمذي من حديث جابر بن سمرة قال النووى ففيه معجزة له وفيه اثبات
التمييز في بعض الجمادات وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة وَإِنَّ مِنْها
لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقوله تعالى وان من شىء الا يُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وفي هذه الآية خلاف مشهور والصحيح انه يسبح حقيقة
ويجعل الله فيه تمييزا يحس به كما ذكرنا ومنه الحجر الذي فر بثوب موسى
(1/57)
وقبل ان يشافهه جبريل بالرسالة بستة أشهر
كان وحيه مناما فكان لا يرى رؤيا الاجاءت مثل فلق الصبح وعلى ذلك حمل بعض
المحدثين قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين
جزءا من النبوة وذلك باعتبار سني الوحي وهي ثلاث وعشرون سنة والله أعلم ومن
غرائب ما ذكر شيخ شيوخنا القاضى مجد الدين الشيرازي رحمه الله وعثرت على
صحته انه صلى الله عليه وآله وسلم لما بلغ تسع سنين امر الله اسرافيل عليه
السلام ان يقوم بملازمته فكان قريبا منه دائما فلما أن أتم احدى عشرة سنة
أمر جبريل عليه السلام بملازمته فلازمه تسعا وعشرين سنة بطريق المقاربة
والملازمة لكن لم يظهر له قال وفي بعض الروايات الصحيحة ظهر له في ملازمته
مرارا وكلمه بكلمة أو كلمتين وقبل نزول الوحي بخمس عشرة سنة كان يسمع صوتا
احيانا ولا يرى شخصا وسبع سنين كان يري نورا وكان به مسرورا فسبحان من حفظه
وكلام الذراع المسمومة ومشى إحدي الشجرتين الى الاخري حين دعاهما النبى صلى
الله عليه وسلم وأشباه ذلك انتهى وسيأتي في ذلك مزيد كلام في المعجزات
واختلفوا في الحجر الذي كان يسلم عليه فقيل انه الحجر الاسود قال السهيلى
روي في بعض المسندات وقال الطبري في غاية الاحكام (قلت) الظاهر انه غيره
فان شأن الحجر عظيم ولو كان أياه لذكره ولما نكره واليوم بمكة حجر عند
ابنية يعرف بدكان أبي بكر أخبرنا شيخنا أبو الربيع سليمان بن خليل ان أكابر
أشياخ مكة أخبروه أنه الحجر الذي كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم
انتهي (قلت) والجمع بينهما ان كلا كان يسلم عليه ممكن ومنع الطبرى كونه
الحجر الاسود لما ذكره ممنوع اذ التنكير لا يدل على ذلك لغة ولا عرفا (وقبل
أن يشافهه) أي يكلمه بدون واسطة كأن كل منهما ينظر الى شفة صاحبه (بستة
أشهر) نقل المازري عن بعضهم عدم ثبوت هذا الامد أي في الاحاديث الصحيحة
(وعلى ذلك حمل بعض المحدثين) كما نقله احمد بن محمد بن ابراهيم الخطابى
(قوله) بالنصب مفعول حمل (رؤيا) المؤمن الى آخره أخرجه احمد والشيخان من
حديث أنس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وأخرجه أبو داود والنسائى من حديث
عبادة فقط وابن ماجه من حديث أبى هريرة فقط (من ستة وأربعين) طريق معرفة
ذلك أن تبسط ثلاثة وعشرين سنة وهي مدة سنى الوحى أنصافا لان ستة أشهر نصف
سنة في مخرج النصف وهو اثنان يبلغ ستة وأربعين. والمختار كما قال السيوطي
في الديباج ان هذا من الاحاديث المتشابهة التي نؤمن بها ونكل معناها المراد
الى قائله صلى الله عليه وسلم ولا نخوض في تعيين هذا الجزء من هذا العدد
ولا في حكمته لا سيما وقد اختلفت الروايات في كمية العدد ففي رواية من ستة
وأربعين وفي أخري من خمسة وأربعين وفي أخري من أربعة وأربعين وفي أخري من
تسعة وأربعين وفي أخرى من أربعين وفي أخري من ستة وعشرين وفي أخري من خمسين
وفي أخرى من سبعين فالله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك (مجد
الدين) هو محمد ابن يعقوب مصنف القاموس (الشيرازي) نسبة الى شيراز بكسر
المعجمة وسكون التحتية بعدها راء فالف فزاي بلد بفارس بناها شيراز بن
طهمورث فسميت به
(1/58)
ورعاه بحسن رعايته وتولاه بحسن ولايته اللهم صلي عليه وعلى آله أفضل الصلاة
والتسليم وأتحفنا بقربه في جنات النعيم آمين |