بهجة
المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل الجزء الثاني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[تتمة القسم الأول في تلخيص سيرته]
[تتمة الباب الرابع في هجرته صلى الله عليه
وسلم وما بعدها إلى وفاته]
[فصل في السرايا والبعوث التي جهل زمنها وكان
ذلك قبل الفتح]
(فصل) اذكر فيه شيأ من السرايا والبعوث مما جهل موضعه من الزمان وعلم بأدنى
قرينة وقوعه قبل الفتح حرصا على تمام الفائدة ولئلا يشذ شىء منها من كتابنا
والله ولى التوفيق* من ذلك ما روينا فى صحيح البخاري عن أبى هريرة قال بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال
له ثمامة بن اثال فربطوه بسارية من سوارى المسجد فخرج اليه النبى صلى الله
عليه وسلم فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي خير (فصل) اذكر فيه شيأ من
السرايا والبعوث (لئلايشذ) بالمعجمتين يخرج (في صحيح البخاري) وصحيح مسلم
وسنن أبي داود (خيلا) أي فرسانا (ثمامة) بضم المثلثة (بن أثال) بضم الهمزة
وبعدها مثلثة خفيفة وهو مصروف (من سواري المسجد) فيه جواز ربط الاسير وحبسه
وجواز ادخال الكافر المسجد وقال عمر ابن عبد العزيز وقتادة ومالك لا يجوز
لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ ونحن نقول ان ذلك خاص بالمسجد الحرام (ما عندك ياثمامة) في
الحديث انه كرر ذلك ثلاث مرات ففيه تأليف القلوب وملاطفة من يرجي اسلامه من
الاشراف الذين يتبعهم على الاسلام خلق كثيرون قاله النووي
(2/2)
يا محمد ان تقتل تقتل ذا دم وان تنعم تنعم
على شاكر وان كنت تريد المال فسل منه ما شئت فتركه حتى كان الغد ثم قال ما
عندك يا ثمامة فقال عندى ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى اذا
كان بعد الغد فقال له ما عندك يا ثمامة قال عندي ما قلت لك قال اطلقوا
ثمامة فانطلق الى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد ان لا
إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله والله يا محمد ما كان على وجه الارض
وجه أبغض الىّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه اليّ والله ما كان دين
أبغض الىّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين الىّ والله ما كان من بلد ابغض
الىّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد اليّ وان خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة
فماذا ترى فبشره النبى صلى الله عليه وآله وسلم وأمره ان يعتمر فلما قدم
مكة قال له قائل صبوت قال بلى ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم
ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتي يأذن فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكان ثمامة هذا من رؤساء (ان تقتل) وفي رواية لمسلم ان تقتلنى
(تقتل ذادم) بالمهملة وتخفيف الميم قيل معناه صاحب دم خطير لدمه وقع يستشفى
قاتله بقتله ويدرك ثاره أي لكونه رئيسا فاضلا وقيل معناه من عليه دم هو
مطلوب به ومستحق عليه فلا عتب عليك في قتله قال عياض ورواه بعضهم فى سنن
أبى داود وغيره ذاذم بالمعجمة وتشديد الميم وهي رواية الكشميهنى في البخاري
أي ذاذمام وحرمة في قومه ومن اذا عقد ذمة وفي بها قال وهذه الرواية ضعيفة
لانها نقلت المعنى فان من له حرمة لا يستوجب القتل انتهى وقال النووي يمكن
تصحيحها ويحمل على معنى التفسير الاول أى تقتل رجلا جليلا يحتفل به قاتله
لفضله بخلاف ما اذا قتل ضعيفا مهينا فانه لا فضيلة في قتله ولا يدرك به
قاتله ثاره (اطلقوا ثمامة) وكان ذلك بعد ان قال أكلة من جزور أحب الى من دم
ثمامة ذكره السهيلي وفيه جواز المن على الاسير وهو ما ذهب اليه جمهور
العلماء (فانطلق الى نخل) بالمعجمة ولابي الوقت فى صحيح البخاري بالجيم
والنجل الماء القليل النابع (فاغتسل) فيه غسل الكافر اذا أسلم وهو واجب ان
كان قد أجنب في الشرك وان اغتسل فيه لعدم صحة نيته وقال بعض أصحابنا يكفيه
الغسل حال الشرك وقال بعضهم وبعض المالكية لا غسل واجب على الكافر وان كان
قد أجنب بل يسقط كالذنوب وخص هذا بالوضوء فانه يجب اجماعا وان لم يكن أجنب
حال الشرك فالغسل مستحب وينوي به الغسل للاسلام قال أحمد واخرون بوجوبه
ويحل الغسل بعد الاسلام وأما قوله فى قصة ثمامة (ثم دخل المسجد فقال الي
آخره) أى المقتضي ان الغسل تقدم الاسلام فأجابوا عنه بانه أسلم قبل الغسل
ثم ذهب فاغتسل ثم جاء فأعلنه (فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال
النووي أي بما حصل له من الخير العظيم بالاسلام وان الاسلام يهدم ما كان
قبله (ثم أمره) أمر استحباب (أن يعتمر) أى ليراغم أهل مكة ويغيظهم بذلك
(قال له قائل صبوت) هي لغة فصيحة في صبأت وفي هذا وما بعده القرينة التي
أشار اليها المصنف الدالة على ان مكة يومئذ لم تفتح والا لما قال له القائل
(2/3)
بنى حنيفة. وروى انه لما جاؤا به أسيرا قال
لهم النبي صلى الله عليه وسلم أتدرون من أسرتم هذا تمامة بن اثال احسنوا
إساره وهو أول من دخل مكة ملبيا بالتوحيد وفي ذلك يقول شاعر بني حنيفة
مفتخرا
ومنا الذي لبي بمكة معلنا ... برغم أبي سفيان في الاشهر الحرم
ولما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وارتد بنو حنيفة قام فيهم مقاما حميدا
وأطاعه منهم ثلاثة آلاف فانحاز بهم الى المسلمين. وذكر بعضهم ان أمير هذه
السرية التي اسرت ثمامة العباس بن عبد المطلب رضى الله وذكر ابن اسحق أيضا
ان ثمامة هذا هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن يأكل في معا
واحد والكافر في سبعة أمعاء ولا يستقيم شىء من ذلك والله أعلم. ومن ذلك
سرية غالب بن عبد الله الليثي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش صبوت
ولا قال ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة (بنى حنيفة) قال في
التوشيح قبيلة كبيرة تنزل اليمامة (قام فيهم مقاما حميدا) قال السهيلي وذلك
انه قام فيهم خطيبا وقال يا بنى حنيفة أين عزبت قلوبكم بسم الله الرحمن
الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد
العقاب أين هذا من يا ضفدع نقى كم تنقين لا الشراب تكدرين ولا الماء تمنعين
مما كان يهذي به مسيلمة (فأطاعه منهم ثلاثة آلاف فانحاز بهم الى المسلمين)
ففت ذلك في أعضاد بنى حنيفة (وروي) في كتب السير (اتدرون من أسرتم) استفهام
تعظيم له (احسنوا اساره) بكسر الهمزة أي أسره (برغم أبى سفيان) بفتح الراء
وضمها أصله الصاق الانف بالرغام بفتح الراء وهو التراب (في الاشهر الحرام)
بالوقف (وذكر ابن اسحق ان ثمامة هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم
الى آخره) وذلك بعد ان أضافه فشرب حلاب سبع شياه ثم أسلم من الغد فشرب حلاب
شاة ولم يتم حلاب ثانية وقيل ان ذلك جهجاه الغفاري وقيل نضرة بن أبي نضرة
الغفارى وفي الدلائل للبيهقى ان اسمه نضلة (المؤمن يأكل في معا واحد الى
آخره) رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن ابن عمرو ورواه أحمد ومسلم
عن جابر ورواه أحمد والشيخان وابن ماجه عن أبي هريرة ورواه مسلم وابن ماجه
عن أبي موسى ولاحمد ومسلم والترمذي في رواية المؤمن يشرب بدل يأكل والمعا
بكسر الميم مقصور بوزن الرضى وهذا مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا فليس
المراد حقيقة المعا ولا خصوص الاكل وقيل لانه يأكل الحلال وهو أقل من
الحرام وقيل حض المؤمن على قلة الاكل اذ علم ان كثرته صفة الكافر فان نفس
المؤمن تنفر من الانصاف بصفة الكافر وقيل خرج مخرج الغالب وقيل المراد
بالمؤمن تام الايمان لكثرة فكره وشدة خوفه فيمنعانه من استيفاء شهوته كحديث
من كثر فكره قل طعمه ومن قل فكره كثر طعمه وقيل لان المؤمن لا يشركه
الشيطان لانه يسمى فيكفيه القليل (والكافر يأكل فى سبعة امعاء) مثل لحرص
الكافر وشدة رغبته في الدنيا وقيل لان الكافر يأكل الحرام
(2/4)
وامره ان يشن الغارة على بنى الملوح وهم
بالكديد فبيتوهم ليلا وقتلوا من قتلوا واستاقوا نعمهم فلما أصبحوا اغاروا
خلفهم فلما أدركوهم جاء وادي قديد بسيل عظيم فحال بينهم وبينهم فانطلقوا
على مهلهم حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم* ومن ذلك غزوة عبد الله
بن رواحة لقتل اليسير بن رزام وكان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى
الله عليه وسلم فبعث اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة
في نفر من أصحابه منهم عبد الله ابن أنيس فلما قدموا عليه قربوا له القول
ووعدوه ان يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معهم فلما كانوا
بالقرقرة ندم ففطن له عبد الله بن انيس وهو يريد السيف فاقتحم به وكان
رديفه ثم ضربه بالسيف فقطع رجليه وضربه اليسير في رأسه فأمه ثم مالوا على
أصحابه من اليهود فقتلوهم الا رجلا فر على رجليه فلما قدموا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم تفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تقح* ومن ذلك غزوة
عبد الله بن أنيس لقتل خالد بن سفيان وهو أكثر من الحلال وقيل ان كثرة
الاكل من صفات الكافر يدل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وقيل المراد شخص
بعينه كما مر فاللام عهدية وقيل خرج مخرج الغالب وحقيقة السبعة غير مرادة
وقيل ان الشيطان يشركه لعدم تسميته قال النووي المختار ان المرادان بعض
المؤمنين يأكلون في معا واحد وان أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء ولا
يلزم ان يكون كل من السبعة مثل معا المؤمن ويدل على تفاوت الامعاء ما ذكره
عياض عن أهل الطب ان أمعاء الانسان سبعة المعدة ثم ثلثة أمعاء متصلة بها
الثواب ثم القائم ثم الرقيق والثلثة دقاق ثم اعورو القولون والمستقيم وكلها
غلاظ فيكون المعنى ان الكافر لا يشبعه الاملء تلك الامعاء السبعة والمؤمن
يشبعه ملء واحد قال النووي وقيل المراد بالسبعة سبع صفات الحرص والشره وطول
الامل والطمع والحسد وسوء الطبع والسمن وبالواحد من المؤمن سدخلته* سرية
عبد الله بن غالب الليثي (ان يشن) بالمعجمة يفرق (بني الملوح) بضم الميم
وفتح اللام وفتح الواو المشددة ثم مهملة (وهم بالكديد) بفتح الكاف ومهملتين
الاولى منهما مكسورة بينهما تحتية ساكنة ماء بينه وبين مكة اثنان وأربعون
ميلا (وادي قديد) بالتصغير مر ذكره (على مهلهم) بفتح الميم والهاء والمهلة
الهينة والسكون ويقال فيه مهلة بالهاء والفوقية والقرينة الدالة على كون
هذه السرية قبل الفتح انها كانت بين مكة والمدينة ولم يبق بينهما بعد الفتح
مشرك* غزوة عبد الله بن رواحة (اليسير) بالتحتية والمهملة مصغر (ابن رزام)
بتقديم الراء على الزاي المخففة (ابن أنيس) بالنون والمهملة مصغر
(بالقرقرة) بتكرير القاف والراء وهي قرقرة الكدر كما مر (ففطن) بكسر الطاء
اشهر من فتحها (فاقتحم) بالقاف والفوقية وثب بسرعة (وكان) اسمها مستتر فيها
أى اليسير (رديفه) خبرها (فأمه) بفتح الهمزة وتشديد الميم أي أصاب ام دماغه
(وتفل) بالفوقية والفاء (فلم تقح) بفتح الفوقية وكسر القاف من اقاح الجرح
صار فيه قيح ولعياض في
(2/5)
الهذلى وكان بنخلة يجمع الناس لغزو رسول
الله صلى الله عليه وسلم وكان عبد الله بن أنيس لا يعرفه فسأل النبي صلى
الله عليه وسلم تعريفه فقال انك اذا رأيته اذكرك الشيطان وآية ما بينك
وبينه انك اذا رأيته وجدت له قشعريرة فلما انتهى اليه وجد العلامة التي قال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له جئتك حين سمعت بجمعك لهذا الرجل
قال أجل انا في ذلك قال عبد الله فمشيت معه ساعة حتى اذا أمكنني حملت عليه
بالسيف فقتلته فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني قال أفلح
الوجه ثم أدخلني بيته فأعطانى عصا فخرج بها عبد الله ثم رجع فقال يا رسول
الله لم أعطيتني هذه العصا قال آية ما بيني وبينك يوم القيامة فصحبها عبد
الله حتى مات وأمر بها أن تدفن معه وفى ذلك يقول عبد الله بن أنيس رضى الله
عنه
تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفري كل جيب مقدد
وقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبي محمد
وكنت اذا هم النبى بكافر ... سبقت اليه باللسان وباليد
ومن ذلك غزوة عيينة بن حصن بني العنبر من تميم فأصاب منهم ناسا وسبي منهم
سبيا ثم قدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعد ذلك رجالهم
يطلبون مفاداتهم وجعلوا الشفا فلم يمد بوزنه ومعناه والقرينة الدالة على
كون هذه الغزوة قبل الفتح ان فتح مكة انما كان بعد خيبر وهذه قبل فتح خيبر.
غزوة عبد الله بن أنيس (الشيطان) بالنصب مفعول (وآية ما بينك وبينه) أي
علامة (قشعريرة) بتثليث القاف والفتح والضم أشهر وسكون المعجمة وفتح
المهملة وكسر الراء الاولى وفتح الثانية بينهما تحتية ساكنة وهى تحرك الجلد
وانقباضه من الفزع ونحوه (وأمر بها ان تدفن معه) فيه التبرك بآثار الصالحين
(ابن ثور) بالمثلثة (كالحوار) بضم المهملة وتخفيف الواو ولد الناقة ما دام
يرضع مشتق من الحور وهو الرجوع سمى بذلك لرجوعه الى أمه ونردده اليها
(نولئح) جمع نائحة (تفرى) تقطع (ماجد) كريم (حنيف) مائل الى دين الاسلام
والقرينة الدالة على ان هذه الغزوة قبل الفتح انه كان بنخلة ولم يبق بنخلة
بعد الفتح مشرك (بنى العنبر) قبيلة (من تميم) على لفظ العنبر الذي فى البحر
(وسبي منهم سبيا) وذلك لانهم هربوا وتركوا عيالهم لما علموا انه توجه اليهم
كما في تفسير البغوي (فجاء بعد ذلك رجالهم) قال البغوي كان قدومهم المدينة
وقت الظهيرة فوافقوا النبي صلى الله عليه وسلم قائلا في أهله فلما رأتهم
الذراري اجهشوا الى آبائهم أي تهيؤا للبكاء وكان لكل امرأة من نساء رسول
الله صلى الله عليه وسلم حجرة فعجلوا قبل ان يخرج اليهم
(2/6)
ينادون رسول الله صلى الله عليه وسلم من
خلف الحجاب يا محمد أخرج الينا وهم الذين نزل فيهم قول الله تعالى «إِنَّ
الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ» ثم خرج اليهم النبي صلى الله عليه وسلم ففادى نصفهم وأعتق
نصفهم وقال مقاتل في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي كنت أعتقت جميعهم وذكر ابن اسحق فيمن
قدم بسبب السبايا القعقاع بن معبد وقيس بن عاصم والاقرع بن حابس وفي ذلك
قال الفرزدق
وعند رسول الله قام ابن حابس ... بخطة سوّار الى المجد حازم
له أطلق الاسرى التي فى حباله ... مغللة أعناقها في الشكائم
وروى البخارى في سياق هذه الغزاة عن عبد الله بن الزبير انه لما قدم ركب من
بنى تميم فقال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد بن زرارة وقال عمر بل أمر
الاقرع بن حابس قال ابو بكر ما اردت الاخلافي قال عمر ما اردت خلافك
فتماريا حتى ارتفعت اصولتهما فنزل في ذلك قوله تعالى «يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»
الآية والتى بعدها* ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون من خلف
الحجر يا محمد اخرج الينا حتي ايقظوه من نومه فخرج اليهم فقالوا يا محمد
فادنا عيالنا فنزل جبريل فقال ان الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم
رجلا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أترضون أن يكون بينى وبينكم
سبرة بن عمرو وهو على دينكم قالوا نعم قال سبرة لا أحكم بينهم الا وعمي
شاهد وهو الاعور بن بشامة فرضوا به فقال الاعور أري ان تفادي نصفهم وتعتق
نصفهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضيت ففادي نصفهم واعتق نصفهم
(فانزل فيهم قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ
الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وصفهم بالجهل وقلة العقل وقال
قتادة نزلت في أناس من اعراب بني تميم جاؤا الى النبى صلى الله عليه وسلم
فنادوا على الباب (القعقاع) بفتح القافين وبتكرير المهملة الاولى ساكنة
(ابن معبد) بالمهملتين والموحدة بوزن احمد وهو ابن زرارة (قال الفرزدق)
بفتح الفاء والراء والمهملة وسكون الزاي آخره قاف الشاعر المشهور واسمه
همام بن غالب بن صعصعة (بخطة) بضم المعجمة وتشديد المهملة أي خصلة (سوار)
بالمهملة وثاب وزنا ومعنى (حازم) بالمهملة والزاي (الاسرى) بفتح الهمزة
وسكون السين جمع أسير لغة في الاسارى قرئ بها في القرآن (في حباله)
بالمهملة والموحدة (مغللة أعناقها) أى جعل في أعناقها الغل بضم المعجمة (في
الشكائم) وهى الحبال التي ربط بعضها ببعض (وروى) البخاري والترمذي والنسائى
(أمر القعقاع) أمر من الامارة (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا) قرئ من
التقديم وهو لازم بمعني التقدم وقرأ يعقوب لا تقدموا أي لا تتقدموا من
التقدم قال ابو عبيد تقول العرب لا تقدم بين يدى الامام أي لا تعجل بالامر
والنهى دونه* سرية زيد بن حارثة الى مدين وهي بفتح الميم والتحتية
(2/7)
ذلك سرية زيد بن حارثة الى مدين وما رواه
عبد الله بن الحسن المثني عن أمه فاطمة بنت الحسين رضى الله عنهم قالت ان
رسول الله صلي الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة نحو مدين فأصاب سبيا من أهل
مينا وهي السواحل وفيها جماع من الناس فبيعوا ففرق بينهم فخرج النبي صلى
الله عليه وسلم وهم يبكون فقال ما لهم فقيل يا رسول الله فرق بينهم فقال
صلى الله عليه وسلم لا تبيعوهم الا جميعا يعني الاولاد والامهات قال ابو
عبد الله البخاري
[باب بعث النبي صلى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد إلى الحرقات السنة
التاسعة من الهجرة وتسمى سنة الوفود]
(باب) بعث النبى صلى الله عليه وسلم اسامة بن زيد الى الحرقات من جهينة ثم
روى بسنده عن اسامة قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الحرقة
فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الانصار رجلا منهم فلما غشيناه
قال لا إله إلا الله فكف الانصارى عنه وطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا
بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي يا أسامة اقتلته بعد ما قال لا
إله إلا الله فقلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت انى لم أكن أسلمت
قبل ذلك اليوم وذكر بعده غزوة الفتح ورواه مسلم أيضا وزاد قال قلت يا رسول
الله انما قالها خوفا من السلاح فقال أفلا شققت وسكون المهملة بلدة على
ثمانية أيام من مصر سميت باسم مدين ابراهيم (عبد الله بن الحسن المثني) بن
الحسن بن علي بن أبي طالب (أمه فاطمة بنت الحسين) بن علي ومن ثم كان يسمي
المحض أى الخالص (مينا) بكسر الميم وسكون التحتية ثم نون مقصور (جماع) بكسر
الجيم أي جمع كبير (لا تبيعوهم الا جميعا) فيه حرمة التفريق بين الولد الذى
لم يميز وبين أمه بنحو البيع ونقل ابن المنذر وغيره الاجماع على بطلان
العقد لامتناع التسليم شرعا ففى مسند أحمد وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم عن
أبي أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين والدة وولدها
فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة حسنه الترمذي وصححه الحاكم وللطبرانى
في الكبير عن معقل بن يسار من فرق فليس منا (الحرقات) بضم المهملة والراء
بعدها قاف نسبة الى حرقة واسمه خميس بن عامر بن ثعلبة بن مودعة بن جهينة
(الى الحرقة) بضم الحاء والراء أيضا (فصبحنا) القوم بتشديد الموحدة جئناهم
وقت الصباح (أنا ورجل من الانصار) قال ابن حجر قيل هو أبو الدرداء (رجلا
منهم) قال البغوي وابن بشكوال وغيرهما هو مرداس بن مهيك رجل من بنى مرة بن
عوف قال البغوى وكان من أهل فدك وكان مسلما لم يسلم من قومه غيره (فلما
غشيناه) بكسر الشين أي قربنا منه قربا كليا (قال لا إله الا الله) زاد
البغوي محمد رسول الله السلام عليكم (حتى قتلته) زاد البغوي وأستقت غنمه
(بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم) زاد البغوى فوجد وجدا شديدا (فقلت كان
متعوذا) بكسر الواو معتصما (حتى تمنيت اني لم اكن اسلمت قبل ذلك اليوم)
ولمسلم اني أسلمت يومئذ أي ابتدأت الاسلام الآن وانه لم يكن تقدم اسلامي
ليمحو عنى ما تقدم قال ذلك من عظم ما وقع فيه زاد البغوي ثم ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث وقال اعتق رقبة (ورواه مسلم أيضا)
في كتاب الايمان (أفلا شققت
(2/8)
عن قلبه حتى تعلم اقالها خوفا أم لا وفيها
قال سعد بن أبى وقاص والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة
ومعنى ذلك ما رواه ابن اسحق عن أسامة قال قلت انظرنى يا رسول الله انى
أعاهد الله ان لا أقتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا قال تقول بعدى يا
أسامة قال قلت بعدك ولهذا اعتزل أسامة رضى الله تعالى عنه الحروب التي جرت
بين الصحابة رضى الله عنهم فلم يخالط شيئا منها وذكر ابن اسحق ان أمير هذه
السرية غالب بن عبد الله الكلبى والله أعلم وهذا الحديث وما سبق قبله من
قصة خالد مع بني جذيمة من أعظم الزواجر على الاجتراء على اراقة الدماء مع
قوله تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ
خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ
عَذاباً عَظِيماً وقال صلي الله عليه وسلم لا يزال المرء عن قلبه) استفهام
توبيخ وتقريع (حتى تعلم أقالها) أي القلب (ذو البطين) تصغير بطن لان أسامة
كان له بطن (انظرني) بقطع الهمزة مع كسر المعجمة وبوصل الهمزة مع ضمها أى
أمهملنى (قال تقول بعدى) اشارة منه صلى الله عليه وسلم الى الهنات التى
وقعت بعده (ولهذا اعتزل اسامة الحروب) وممن اعتزلها من الصحابة محمد بن
مسلمة وأبو بكرة وعبد الله بن عمر وأبو ذر وحذيفة وعمران بن الحصين وأبو
موسى وأهبان بن صيفى وسعد ابن ابى وقاص وغيرهم ومن التابعين شريح والنخعي
وغيرهما (غالب بن عبد الله الكلبي) وفي تفسير البغوي انه غالب بن فضالة
الليثي (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) وهو أن يقصد الفعل والانسان بما يقتل غالبا
ولم يكن ممن رفع عنه القلم ذلك اكبر الكبائر بعد الكفر كما نص عليه الشافعي
(فجزاؤه جهنم) ان أراد أن يجازيه ولكنه ان شاء عذبه بذنبه وان شاء غفر له
بكرمه فانه وعدانه يغفر لمن يشاء وليس اخلاف الوعيد خلفا وذما عند العرب بل
اخلاف الوعد وأنشدوا عليه
واني ان أوعدته أو وعدته ... لمخلف ايعادي ومنجز موعدي
فليس في الآية دليل على عدم قبول توبة القاتل وما رواه الطبراني في الكبير
والضيا في المختارة عن أنس ابي الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة وما رواه
أبو داود عن أبي الدرداء وأحمد والنسائي والحاكم عن معاوية ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال كل ذنب عسى الله ان يغفره إلا من مات مشركا أو قتل
مؤمنا متعمدا وما رواه الشيخان عن ابن عباس من عدم قبول توبته فتشديد
ومبالغة في الزجر فقد روى البيهقى في سننه عنه انه ان لم يقبل يقال لا توبة
لك وان قتل ثم جاء يقال لك توبة وروى ذلك عن سفيان بن عيينة أيضا (خالدا
فيها) نزلت في مقيس بن صبابة حيث قتل وارتد كما مر وبتقدير عمومها محمولة
على من قتل مستحلا أو المراد بالخلود فيها المكث الطويل أو خرج مخرج الزجر
البليغ فبطل استدلال المعتزلة ونحوهم بالآية على عدم قبول توبة القاتل
وتخليد أهل الكبائر فى النار (لا يزال المرء الى آخره) أخرجه
(2/9)
في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما وانظر
كيف لم يعذر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هؤلاء وقد كان فعلهم فى
نصر دين الاسلام وقبل تقرر الاحكام وتأولوا انما قيلت في هذه الحال خوفا من
القتل وهو الذي يقرب الى الافهام فلم يعذرهم بشىء من ذلك صلي الله عليه
وسلم بل قال لاسامة أفلا شققت عن قلبه ومعناه لو فعلت لم يفد ذلك ولم يكن
ذلك سبيلا الى معرفة ما هناك فلم يبق الا ان يبين عنه لسانه ففي هذا ان
الاحكام الشرعية تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر والله
سبحانه أعلم*
[ذكر وفد بنى تميم وبني حنيفة وأهل نجران]
السنة التاسعة وسميت سنة الوفود لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح
مكة أيقنت العرب بظهوره فبعثت كل قبيلة جماعة من رؤسائهم باسلامهم وأصح
أحاديث الوفود حديث وفد عبد القيس ووفد بنى تميم ووفد بني حنيفة وأهل
نجران: اما حديث عبد القيس فسبق في قصته وحديث بني تميم أيضا مر قريبا فى
ذكر سرية عيينة بن حصن وذكر البخاري في ترجمة وفد بنى تميم حديثا واحدا وهو
ما روي عن عمران بن الحصين قال أتى نفر من بنى تميم النبى صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم فقال اقبلوا البشرى يا بنى تميم فقالوا يا رسول الله قد
بشرتنا فاعطنا فرئ ذلك فى وجهه فجاء نفر من اليمن فقال اقبلوا البشرى اذ لم
يقبلها بنو تميم فقالوا قد قبلنا يا رسول الله: وذكر أهل السير لوفد بني
تميم جملة من الاخبار منها أنه لما قام خطيبهم وشاعرهم البخاري من حديث ابن
عمر وأخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي الدرداء (في فسحة) بتثليث أوله
والضم أشهر ثم مهملتين الاولى ساكنة أي سعة (من دينه) بالمهملة فالتحتية
فالنون أي لا يزال دينه واسعا لا يضيق عليه وقال ابن العربي الفسحة في
الدين سعة الاعمال الصالحة حتي اذا جاء القتل ارتفع القبول وللكشميهنى في
البخاري بالمعجمة فالنون والموحدة أي لا يزال المؤمن في استراحة من ذنبه
وفى رواية لابي داود لا يزال عفيفا صالحا (ما لم يصب دما حراما) زاد أبو
داود فاذا أصاب دما حراما بلح بالموحدة والمهملة وتشديد اللام أي اعيا
وانقطع قاله الهروي (تناط) بالنون والمهملة مبني للمفعول أي تعلق والنوط
التعليق (بالمظان) بفتح الميم وتخفيف المعجمة وتشديد النون جمع مظنة بفتح
الميم وكسر المعجمة وتشديد النون وهي المحل الذي يظن حصول الشيء فيه. السنة
التاسعة (وتسمى) هذه (سنة) بالنصب (وأهل نجران) بفتح النون وسكون الجيم ثم
راء ثم ألف ثم نون جبال من جبال اليمن على سبع مراحل من مكة سمى بنجران بن
دبران بن سبا (قد بشرتنا فاعطنا) قائل ذلك الاقرع بن حابس (فريء في وجهه)
بكسر الراء والمدلغة في رؤى (فقالوا قد قبلنا يا رسول الله) هذا من جملة
فضائل أهل اليمن (وذكر) المفسرون (وأهل السير) كابن اسحق وابن سيد الناس
ومغلطاي وغيرهم (جملة من الاخبار منها) انهم لما جاؤا رسول الله صلى الله
عليه وسلم نادوا على الباب اخرج الينا يا محمد فان مدحنازين
(2/10)
قام ثابت بن قيس بن شماس وحسان بن ثابت
فأجاباهم فقال الاقرع بن حابس ان محمدا لمؤتى له خطب خطيبنا فكان خطيبهم
أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أحسن من شاعرنا ثم أسلم فقال له رسول
الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما يضرك ما كان قبل هذا* وذكر فى وفدهم
عطارد بن حاجب وهو صاحب الحلة التى جرى ذكرها في الصحيح وكان أبوه حاجب بن
زرارة وفد على كسرى فكساه إياها وظهر من متفقات الاحاديث ان مجييء بني تميم
مرات والله اعلم وذمناشين فخرج النبى صلى الله عليه وسلم اليهم وهو يقول
انما ذلكم الله الذى مدحه زين وذمه شين فقالوا نحن ناس من بني تميم جئنا
بشاعرنا وخطيبنا ليشاعرك ويفاخرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
بالشعر بعثت ولا بالفخر أمرت ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه
ثم (قام ثابت بن قيس) فاجاب خطيبهم (وحسان بن ثابت) فأجاب شاعرهم فقال
الاقرع بن حابس (ان محمدا لمؤتي له) بضم الميم وفتح الهمزة وتشديد الفوقية
وتأتى له الامر اى تهيأ (ثم أسلم) فقال أشهد أن لا إله الا الله وانك رسول
الله (ما يضرك ما كان قبل هذا اليوم) من المعاصي والذنوب لانهدامه بالاسلام
زاد البغوى بعد هذا ثم أعطاهم أموالهم ونساءهم وكان قد تخلف في ركابهم عمرو
بن الاهتم بالفوقية لحداثة سنة فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما
أعطاهم (وذكر في وفدهم) بالبناء للمفعول (عطارد) بضم العين وكسر الراء مهمل
مصروف (زرارة) بضم الزاي (صاحب الحلة) بضم الحاء المهملة وتشديد اللام قال
أهل اللغة الحلة ثوبان غير لفيفين سميا بذلك لان كل واحد يحل محل الآخر قال
الخليل ولا يقال حلة لثوب واحد (التى جرى ذكرها في) الحديث (الصحيح) فى
الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي عن ابن عمر رضى الله عنهما قال رأى عمر
حلة من استبرق وفي رواية حلة سيراء تباع وفي رواية رأي عمر عطارد التميمى
يقيم بالسوق حلة أى يعرضها للبيع فأتي النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا
رسول ابتع هذه فتجمل بها للعيد وللوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
انما هذه لباس من لا خلاق له أو قال انما يلبس هذه من لا خلاق له ثم لبث
عمر ما شاء الله ان يلبث فارسل اليه بحلة ديباج فاتي عمر رضى الله عنه فقال
يا رسول الله قلت انما هذه لباس من لا خلاق له ثم أرسلت الىّ بهذه فقال صلى
الله عليه وسلم اني لم أرسلها اليك لتلبسها ولكن لتبيعها وتصيب بها حاجتك
(وفد على كسري) صاحب العراق ملك الفرس قاله عياض وسبب وفادته ان أباه حاجبا
أتي كسرّي في جدب أصابهم يستأذنه لقومه أن يصيروا في ناحية من بلاده حتى
يحيوا فقال انكم معاشر العرب ان أذنت لكم أفسدتم البلاد وأغرتم على العباد
قال حاجب اني ضامن للملك أن لا يفعلوا قال فمن لى بان تفي قال أرهنك قوسي
فضحك من حولهما فقال كسري ما كان ليسلمها أبدا فقبلها منه واذن لهم ثم مات
حاجب ووفد عطارد ابنه علي كسرى فطلب قوس ابيه فردها عليه وكساه الحلة
المذكورة ذكر ذلك المجد الشيرازي وغيره فمن ثم جاء في الصحيح حلة كسر وانية
بكسر الكاف وفتحها* وفد بني حنيفة قال السهيلى واسم أبي حنيفة اياد بن
(2/11)
وأما وفد بني حنيفة ففى صحيح البخارى عن
ابن عباس قال قدم مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فجعل يقول ان جعل لى محمد الامر بعده تبعته وقدمها فى بشر كثير من قومه
فاقبل اليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس
وفي يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة
في أصحابه فقال لو تسألنى هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك
ولئن أدبرت ليعقرنك الله وانى لاراك الذى أريت فيه ما أريت وهذا ثابت يجيبك
عنى ثم انصرف عنه قال ابن عباس فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
انى لأراك الذى أريت فيه ما أريت فأخبرنى أبو هريرة ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال بينا أنا نائم رأيت في يدى سوارين من ذهب فأهمني شأنهما
فأوحى الى الله في المنام ان انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذا بين نجيم
بن صعب بن على بن بكر بن وائل (ففى صحيح البخاري) وصحيح مسلم وغيرهما
(مسيلمة) بالتصغير وهو ابن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث
بن هنان بن ذهل بن دول بن خليفة (وقدمها) أى المدينة (فأقبل اليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم) قال العلماء انما أقبل اليه تألفا له ولقومه من رجاء
إسلامهم ولتبليغ ما أنزل الله اليه ويحتمل كما قاله عياض انه فعله صلى الله
عليه وسلم مكافأة له اذ قصده من بلده وكان إذ ذاك يظهر الاسلام وانما أظهر
الكفر بعد ذلك قال عياض وقد جاء في حديث آخر انه هو أتي النبي صلى الله
عليه وسلم فيحتمل انهما مرتين (ولن تعدو أمر الله فيك) روى بالنون وهو معنى
رواية مسلم ولن أتعد أمر الله فيك وبالفوقية أيضا قال عياض وهما صحيحان
فمعني الاول لن أعدو أنا أمر الله فيك من اني لا أحبيبك الى ما طلبته مما
لا ينبغي لك من الاستخلاف أو المشاركة ومن اني أبلغك ما أنزل الى وادفع
أمرك بالتي هي أحسن ومعنى الثاني ولن تعدو أنت أمر الله في خيبتك مما أملت
من النبوة وهلاكك دون ذلك أو فيما سبق من قضاء الله تعالي وقدره من شقاوتك
(ولئن أدبرت) عن طاعة الله ورسوله (ليعقرنك) بكسر القاف ليقتلنك (الله)
تعالى وقتله الله يوم اليمامة كما سيأتي قال النووي وهذا من معجزات النبوة
(وهذا ثابت يجيبك عنى) أى لان وظيفته اجابة الوفود عن خطبهم وسرفهم كما مر
(واني لاراك) بالضم أي أظنك (الذى أريت) بضم الهمزة مبني للمفعول (رأيت في
يدي) بالتشديد تثنية يد (سوارين) تثنية سوار بكسر السين وضمها وفي رواية
اسوارين تثنية أسوار بضم الهمزة وكسرها وهو لغة في السوار (فاهمني) أي
أتعبني (شأنهما) أمرهما وفي رواية فى الصحيح ففظعتهما بفاء ومعجمة مكسورة
من الامر الفظيع أى الشديد (فاوحي إليّ في المنام) فيه دليل على ان رؤيا
الانبياء وحي (ان انفخهما) بضم الفاء وسكون المعجمة (فنفختهما فطارا) فيه
كما قال النووي دليل لاعجافهما واضمحلال أمرهما وذهاب أثرهما وكان كذلك وهو
من المعجزات (فاولهما كذابين) ووجه مناسبة الذهب للكذاب انه يغر بصورته
الحسنة أكثر الناس ويعمى بصائرهم عن التفكر فى
(2/12)
يخرجان بعدى احدهما العنسى والآخر مسيلمة
فاما مسيلمة فعظم أمره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكان داعية أهل
الردة فندب أبو بكر لقتاله خالد بن الوليد فقتله وافنى قومه قتلا وسبيا
وقتل وهو ابن مائة وخمسين سنة وكان مولده قبل عبد الله والد النبي صلى الله
عليه وسلم وسمي رحمن اليمامة فكان ذلك من أعظم أسباب فتنته وكان صاحب
تبرجات وتمويهات واختلاق وتزوج بسجاح فاختلط الكذابان واسلمت سجاح في خلافة
عمر واما العنسي واسمه الاسود ولقبه عبهلة فاتبعه قبائل من مذحج واليمن
وغلب العواقب لما يبدو لهم من الزينة فيه وكان باطنه وهو كونه صار عاليا
خلاف ظاهره فمن هنا ناسب الكذاب الذى يغر ظاهرا بكذبه ويعمي البصائر عن
التفكر في شأنه بما يبدي لهم من زخرف القول (يخرجان بعدى) قال العلماء
المراد بقوله بعدى ظهور شوكتهما ومحاربتهما ودعواهما النبوة والا فقد كانا
في زمنه صلى الله عليه وسلم (أحدهما العنسي) بفتح العين وكسر السين
المهملتين بينهما نون ساكنة لقب زيد بن مالك بن أدد (فندب أبو بكر) أى أمر
خالد (بن الوليد) زاد البغوى في جيش كثير (فقتله) خالد بن الوليد ظاهره انه
تولى قتله وهو مخالف لما في تفسير البغوى وغيره ان قتله كان على يد وحشي بن
حرب وكان يقول قتلت بهذه الحربة خير الناس في الكفر يريد حمزة وشر الناس في
الاسلام يريد مسيلمة وشاركهما أيضا خداش بن بشير بن الاصم ذكره ابن الاثير
وغيره (صاحب تبرجات) بفتح الفوقية وسكون الموحدة وضم الراء وبالجيم
والفوقية ويقال تبريجات بالتحتية بدل الواو ونيرنجات بكسر النون وسكون
الياء وفتح الراء وسكون النون ونيرنجيات بفتح النون ثم سكون النون وكسر
الجيم وتشديد التحتية وكلها بمعني الكذب والتمويه (وتمويهات) وهي اظهار شيء
وابطان خلافه ما خوذ من تمويه الاناء وهو ان يطلى ظاهره (واختلاق) بالقاف
أى كذب (وتزوج) أيضا (بسجاح) بفتح المهملة وتخفيف الجيم آخرها مهملة قال
الحريري مبنية على الكسر مثل حذام وقطام لانه معدول واشتقاقه من السجاحة
وهى السهولة ومنه ملكت فاسجح وسجاح هذه هى بنت المنذر امرأة من بنى تميم من
بني يربوع بن حنظلة كانت كاهنة ثم ادعت النبوة (فاختلط الكذابان) قال صاحب
شمس العلوم سألت سجاح مسيلمة عما أوحي اليه فقال ألم تر الى ربك كيف خلق
الخلق أخرج منها نسمة تسعي بين صفاق وحشا قالت ثم ماذا قال أوحي ان الله
خلق النساء أفواجا وخلق الرجال لهن أزواجا فيولجون فيهن ايلاجا ثم يخرجون
اذا شاؤا اخراجا قالت أشهد انك نبي فقال لها هل لك ان أتزوجك قالت نعم
فتزوجها لعنه الله ولعن من أوحي اليه (وأسلمت سجاح في خلافة عمر) بعد أن
أقرت بالكذب والضلال (وأما العنسي) بفتح المهملة وسكون النون منسوب الى عنس
وهو يزيد بن مذحج بن ادد (واسمه الاسود) بن كعب وكان يقال له ذو الحمار
بالمهملة وانما قيل له ذو الحمار لانه كان له حمار يقول له قف فيقف وسر
فيسير قاله التفتازانى قال وكان نساء أصحابه يتعطرن بروث حماره وقيل كن
يعقدن روثه بخمرهن فسمي ذو الخمار بالمعجمة (عبهلة) بفتح المهملة وسكون
الموحدة وفتح الهاء واللام والجمع عباهلة قال في الصحاح عباهلة اليمن
ملوكهم الذين أقروا على ملكهم لا يزولون عنه (من مذحج) بفتح الميم وسكون
المعجمة وكسر المهملة ثم جيم بوزن مسجد وهو أبو قبيلة من اليمن وهو مذحج
(2/13)
على صنعاء فقتله فيروز الديلمى غيلة
بمواطأة من زوجته وكانت مسلمة وكانت تحدث انه لا يغتسل من جنابته وبشر
النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بقتله في مرض موته ومسيلمة والعنسى وابن
صياد أول الدجاجلة الذين أشار اليهم صلى الله عليه وسلم بقوله لا تقوم
الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله*
وأما أهل نجران فانما جاؤا للمحاجة في نبوة عيسي ابن بحاير بن مالك بن زيد
بن كهلان بن سبأ قال سيبويه الميم فيه من نفس الكلمة وفي القاموس كمجلس
اكمة ولدت مالكا وطيئا أمهما عندها فسموا مذحجا (على صنعاء) بالمدوهي قصبة
اليمن ويقال انها أول بلد بنيت بعد طوفان نوح (فقتله فيروز) بفتح الفاء وضم
الراء آخره زاى (الديلمي) بفتح المهملة واللام وسكون التحتية بينهما زاد
البغوى عن ابن عمر فاتي الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة
التى قتل فيها فقال صلى الله عليه وسلم قتل الاسود البارحة قتله رجل مبارك
قيل ومن هو قال فيروز فاز فيروز وذكر الدولابي ان قيس بن مسوج ودادونه رجل
من الابناء شاركا في قتله (غيلة) بكسر المعجمة وسكون التحتية أي خفية وكان
ذلك انهم دخلوا عليه سربا صنعته لهم امرأته فوجدوه سكران فضربوه باسيافهم
ذكره الدولابى أيضا وذكر ابن اسحاق ان امرأته سقته البنج تلك الليلة
واحتفرت السرب (بمواطأة من زوجته) اسمها كما ذكره السهيلى المرزبانة وكانت
من أجمل النساء فمن ثم اغتصبها (وكانت تحدث) بحذف الاستقبال وفتح الحاء مع
الدال أى تتحدث وبضمها مع كسر الدال «فائدة» كان قتل فيروز له عقب ان وقعت
له مع أبي مسلم عبد الله بن ثوب بضم المثلثة وفتح الواو ثم موحدة الخولاني
قصة القاه الاسود العنسي بسببها في النار فلم يحترق فتركه فجاء مهاجرا الى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالطريق
(وبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بقتله في مرض موته) وللبغوي انه
بشرهم بقتله ثم مات من الغد وأتي مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع
الاول بعد مخرج اسامة فكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضى الله عنه (ابن
صياد) اسمه صاف وقصته مشهورة في الصحيحين وغيرهما (لا تقوم الساعة حتى يبعث
دجالون كذابون) رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة ودجالون جمع دجال ويطلق
على كل كذاب وقيل الدجال المموه (قريبا) من ثلثين ولابي نعيم في الحلية عن
حذيفة سبعة وعشرون منهم أربع نسوة وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا ينافي
هذا الحديث ما رواه الطبرانى عن ابن عمرو لا تقوم الساعة حتى يخرج سبعون
كذابا لان الدجال أخص من الكذاب فلعل الاول من عظمت فتنته كمسيلمة قال عياض
لوعد من تنبأ من زمن النبي صلى الله عليه وسلم الى الآن ممن اشهر بذلك وعرف
واتبعه جماعة على ضلالته لوجد هذا العدد فيهم ومن طالع كتب الاخبار
والتواريخ عرف صحة هذا* وفد نجران: قال الكلبي والربيع بن أنس كانوا سبعين
راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم من أشرافهم أربعة عشر
رجلا دخلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر عليهم ثياب الحبرات
فحانت صلاتهم فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المشرق
ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم الى الاسلام فقال السيد والعاقب قد أسلمنا
مثلك فقال كذبتما (وانما جاؤا للمحاجة في نبوة عيسي) فأنكروا كونه
(2/14)
ونزل بسببهم قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ الآية ونزل فيهم أيضا
آية المباهلة وهي قوله فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا
وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ولما جاء النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعلىّ خلفهما وهو يقول لهم ان أنا
دعوت فامنّوا وهو معنى قوله تعالى ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ
اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ أي نتضرع في الدعاء والبهل اللعن أيضا فلما فعل
ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تلاوموا بينهم وقالوا ان فعلتم
اضطرم عليكم الوادي نارا ثم قالوا له أما تعرض علينا سوى هذا فقال الاسلام
أو الجزية أو الحرب نبيا وزعموا انه ابن الله فحجهم النبي صلى الله عليه
وسلم بان عيسى ياتى عليه الفناء ويطعم ويشرب ويحدث كغيره من المخلوقين
والله عز وجل منزه عن ذلك وحجتهم انما هي كونه لا أب له (ونزل بسببهم) صدر
سورة آل عمران الي قوله (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ) في كونه خلق
من غيراب (كَمَثَلِ آدَمَ) في كونه خلق من غيراب ولا أم (خَلَقَهُ) الله
(مِنْ تُرابٍ) وأنتم موافقون في ان آدم ليس ابنا لله مع عدم الاب والام معا
فكيف لا توافقون على ان عيسى ليس كذلك وهو انما فقد الاب فقط وقال العلماء
قسم الله الآدميين أربعة أقسام آدم خلقه من غير ذكر ولا انثى وحواء من ذكر
بغير أنثي وبنو آدم من ذكر وأنثى وعيسي من أنثي بغير ذكر اظهارا للقدرة
العالية (فَمَنْ حَاجَّكَ) جادلك وماراك (فِيهِ) أي في عيسى أو في الحق
(مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بكون عيسى عبد الله ورسوله (فَقُلْ
تَعالَوْا) وأصله تعاليوا بتحتية بعد اللام المفتوحة فاستثقلت الضمة على
الياء فخذفت قال الفراء معني تعالى ارتفع أى لانه مشتق من العلو (نَدْعُ)
مجزوم بالجزاء وعلامته سقوط الواو (أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا
وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) قيل أراد بابنائنا الحسن
والحسين ونسائنا فاطمة وأنفسنا يعني نفسه وعليا وقيل هو على العموم لجماعة
أهل الدين (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نتضرع قاله ابن عباس أو تجتهد ونبالغ في
الدعاء قاله الكلبي أو نلتعن قاله الكسائى وأبو عبيدة (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ
اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) منا ومنكم في أمر عيسى (جاء النبى صلى الله
عليه وسلم بالحسن) آخذا بيده (والحسين) محتضنا له (وفاطمة تمشى خلفه وعلى
خلفهما) وانما أخر عليا عنها ليسترها من ورائها (والبهل اللعن أيضا) يقال
عليه بهلة الله أي لعنته (فلما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تلاوموا
بينهم) أى لام بعضهم بعضا وقال لهم العاقب لقد عرفتم يا معشر النصاري ان
محمدا نبى مرسل والله ما لاعن قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن
فعلتم ذلك لتهلكن فان أبيتم الا الاقامة على ما أنتم عليه من القول في
صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا الي منازلكم وقال أسقفهم يا معشر النصاري
اني لاري وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من مكانه لازاله فلا تبتهلوا
فتهلكوا ولا يبقى على وجه الارض نصراني الي يوم القيامة أخرجه أبو نعيم في
الدلائل من طريق محمد بن مروان السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
قال القاضى في حاشية البيضاوي وابن مروان متروك متهم بالكذب ثم روي أبو
نعيم وغيره نحوه مرسلا (الاسلام أو الجزية أو الحرب)
(2/15)
فصالحوه على الجزية في كل عام الف حلة في
صفر والف حلة في رجب وروينا في صحيح البخاري عن حذيفه رضي الله عنه قال جاء
السيد والعاقب صاحبا نجران الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريدان
أن يلاعناه فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل فو الله لئن كان نبيا لا نفلح نحن
ولا عقبنا من بعدنا قالا انا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا امينا ولا
تبعث معنا الا امينا فقال لا بعثن معكم رجلا أمينا حق أمين حق أمين فاستشرف
لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح
فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا أمين هذه الامة*
[من الوفود وفد طىء ورئيسهم زيد الخيل]
ومن الوفود وفد طىء ورئيسهم زيد الخيل
وسمي بذلك لخمسة افراس كانت له مشهورة وسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
زيد الخير وقال ما ذكر لى رجل ثم جاءنى الا رأيته دون ما يقال فابوا
الاسلام وقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على ان لا تغزونا ولا
يجينونا ولا تردنا عن ديننا على ان نؤدي اليك في كل عام ألفي حلة (ألف حلة
في) شهر (صفر وألف حلة في) شهر (رجب) رواه أبو داود عن ابن عباس وعارية
ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح
يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم على ان لا يهدم لهم بيعة
ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا
قال البغوي فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال والذي نفسي بيده ان
العذاب قد تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم
عليهم الوادي نارا ولاشتعل نجران وأهله حتى الطير على الشجر ولا حال الحول
على النصاري حتى يهلكوا باجمعهم (جاء السيد) قال البغوي وهو ثمالهم وصاحب
رحلهم واسمه الايهم وقيل شرحبيل (والعاقب) بالمهملة والقاف وكان أمير القوم
وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون الاعن رأيه واسمه عبد المسيح قال ابن سعد
واسلما بعد ذلك (ولا تبعث معنا الا أمينا) قال النووي وهو الثقة المرضى (حق
أمين الى آخره) صفة مبالغة لقوة أمانته (فاستشرف لها) أى تطلع ورغب في
البعث حرصا على ان يكون هو الامين الموعود به في الحديث (أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم) ولمسلم فاستشرف لها الناس (هذا أمين هذه الامة)
وللبخارى من حديث أنس ان لكل أمة أمينا وان أمين هذه الامة أبو عبيدة بن
الجراح قال النووى قال العلماء الامانة مشتركة بينه وبين غيره من الصحابة
لكن النبي صلى الله عليه وسلم خص بعضهم بصفات غلبت عليهم وكانوا بها أخص*
وفد طيء بالهمز بوزن مسجد كما مر (وزيد الخيل) باضافة زيد وكانت هذه
الاضافة جاهلية (سمى بذلك لخمسة أفراس كانت له) وفي القاموس انه سمى بذلك
لشجاعته وقيل سمى بذلك لان كعب بن زهير اتهمه بأخذ فرس له (وسماه النبى صلى
الله عليه وسلم زيد الخير) لانه بمعناه ولما علم ما فيه من الخير ففيه
تغيير الاسم الذي ليس بقبيح باحسن منه ما لم يخف على صاحبه مفسدة العجب (ما
ذكر لي رجل الى آخره) رواه ابن سعد في الطبقات
(2/16)
فيه الازيد الخيل فانه لم يبلغ كل ما فيه
وكتب له باقطاع أرضين ولما انصرف راجعا قال النبي صلى الله عليه وسلم أى
رجل ان لم تدكه ام كلبة فمات منها بالطريق.
[خبر عدى بن حاتم الطائى]
واما عدى بن حاتم الطائى فانه لما سمع بخيل رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وطئت أطراف بلادهم ارتحل بنيه فلحق بأهل دينه من النصارى وترك أخته في
الحي فجاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصبحتهم فاحتملوا ابنة حاتم
وجعلوها في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس فيها فمر بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامتن على
من الله عليك قال ومن وافدك قالت عدي بن حاتم قال الفار من الله ورسوله فمن
عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساها واعطاها نفقة فلما قدمت على
أخيها طفقت تصخب عليه وتلومه أن تركها خلفه وتلومه أيضا على تخلفه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فأكرمه وذهب به الى بيته وأخبره بأشياء فيما يستقبل من الزمان ولم يرو
البخارى في ترجمة وفد طىء غير حديث واحد وهو ماورى بسنده عن عدي بن حاتم
قال أتينا عمر في وفد فجعل يدعونا رجلا رجلا يسميهم فقلت اما تعرفني يا
أمير المؤمنين قال بلى أسلمت اذ كفروا واقبلت اذ أدبروا ووفيت اذغدروا
وعرفت اذ نكروا فقال عدى لا أبالي اذا وفي رواية مسلم ان أول صدقة بيضت وجه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيء حيث جيء بها الى
رسول الله صلى الله عن أبي عمر الطائي (الازيد الخيل) ولفظ ابن سعد الا ما
كان من زيد (فانه لم يبلغ) بضم أوله وفتح ثالثه مبني للمفعول (كل) بالرفع
(ما) أى الذى فيه من الفضائل الدينية والدنيوية وذلك لكثرتها فيه وعدم
احاطة علم الناس بها وفيه منقبة عظيمة له رضى الله عنه (باقطاع أرضين) فيه
جواز ذلك للامام وفيه تفصيل مستوفي في كتب الفقه (أي رجل) وصف له بقوة
الشجاعة ونصر الاسلام (ان لم تدركه أم كلبه) بفتح الكاف وسكون اللام ثم
موحدة قال في القاموس هى الحمى (فمات منها بالطريق) هو من جملة معجزاته صلى
الله عليه وسلم في الاخبار بالغيب (عدي) بفتح العين وكسر الدال المهملتين
وتشديد التحتية (حاتم) بالمهملة والفوقية قال الشمني هلك على نصرانيته وهو
الذي تضرب به الامثال في الجود وسيأتي له مزيد ذكر فيما بعد (وترك أخته)
قال السهيلي أحسب اسمها سفانة بفتح المهملة وتشديد الفاء والنون وهى الدرة
قال الدولابي وجدت في خبر عن أمراة حاتم تذكر فيه من سخائه قالت فاخذ حاتم
عديا يعلله من الجوع وأخذت أنا سفانة (في حظيرة) بفتح المهملة وكسر المعجمة
(تصخب) تصيح (ان تركها) بفتح الهمزة (فقدم عدي) قال الشمني في شهر شعبان
(غير حديث) بالنصب (بيضت) بالضاد المعجمة وهو كناية عن شدة الرضا
(2/17)
عليه وآله وسلم*
[ومن شر الوفود وفادة عامر بن الطفيل وأربد بن قيس]
ومن شر الوفود وفادة عامر بن الطفيل وأربد بن
قيس وكانا تمالآ على الفتك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما
منعهما الله من ذلك ولم يجبهما النبى صلى الله عليه وآله وسلم الى ما سألا
قال عامر لاملانها عليك خيلا ورجلا ولاربطن بكل نخلة فرسا فجعل أسيد بن
حضير يضرب في رؤسهما ويقول أخرجا ايها الهجرسان فقال عامر ومن أنت قال أسيد
بن حضير قال أحضير بن سماك قال نعم قال أبوك كان خيرا منك فقال بل أنا خير
منك ومن أبى يعنى بالاسلام وقد سبق شيء من ذلك وخير ميتتهما في ذكر بئر
معونة والله أعلم. ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفود
اليمن ارسالا وفيهم. قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أتاكم أهل
اليمن هم ألين قلوبا وأرق أفئدة* وفادة عامر بن الطفيل (وأربد) بالموحدة
والمهملة بوزن أحمد بن قيس وللبغوى ابن ربيعة وربيعة زوج أمه نسب اليه قال
الشمني وهو أخو لبيد بن ربيعة لامه (تمالآ) تواصيا وزنا ومعنى (على الفتك
به) أى قتله على غرة كما مر قال البغوي قال عامر يا محمد مالى ان اسلمت قال
لك ما للمسلمين قال تجعل لى الامر بعدك قال ليس ذلك الى انما ذاك الى الله
يجعله حيث يشاء قال فتجعلنى على الوبر وأنت على المبدر قال لا قال فماذا
تجعل لى قال أعنة الخيل تغزو عليها قال أو ليس ذلك الى اليوم قم معي أكلمك
فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أومأ الى اربد بن ربيعة اذا
رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف فجعل عامر يخاصم رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويراجعه فدار اربد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه
فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على سله وجعل عامر يوميء
اليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى اربد وما صنع بسيفه فقال
اللهم اكفنيهما بما شئت انتهى ولابن اسحق قال اربد لعامر لما كلمه في ذلك
والله ما هممت ان أضربه الا وجدتك بينى وبينه أفاضربك وفي رواية غيره الا
رأيت بيني وبينه سورا من حديد (ولا ربطن بكل نخلة فرسا) زاد البغوى قال
النبي صلى الله عليه وسلم يمنعك الله من ذلك وابنا قيلة يريد الاوس والخزرج
وقيلة بفتح القاف وسكون التحتية جدة الانصار (أيها الهجرسان) تثنية هجرس
بكسر الهاء والراء وسكون الجيم بينها وآخره سين مهملة هو ولد الثعلب ويسمى
الثعل ايضا قال ابن الاثير ويقال انه القرد قال في القاموس والقرد والثعلب
أو ولده واللئيم والدب أو كل ما يعسعس بالليل مما كان دون الثعلب وفوق
اليربوع (ميتتهما) بكسر الميم* وفود اليمن (اتاكم أهل اليمن الى آخره) رواه
الشيخان والترمذي عن أبى هريرة (هم الين قلوبا وأرق أفئدة) قال ابن الصلاح
المشهور ان الفؤاد هو القلب فكرره بلفظين ووصفه بوصفين الرقة والضعف
والمعني انها ذات خشية واستكانة سريعة الاجابة والتأثر بقوارع التذكير
سالمة من الشدة والقسوة والغلظ الذي وصف به قلوب غيرهم وقيل الفؤاد غير
القلب فقيل عينه وقيل باطنه وقيل غشاوة زاد ابن شاهين من حديث فروة
(2/18)
الايمان يمان والحكمة يمانية فمنهم فروة بن
مسيك المرادى اليمنى ولما قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال
له هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم وهو يوم كان لهمدان علي مراد قال يا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم
الردم لا يسوؤه ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما ان ذلك لم
يزد قومك في الاسلام الاخيرا واستعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على مراد وزبيد ومذحج كلها وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة
فأقام عنده حتى توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن قول فروة بن مسيك
في يوم الردم
فان نغلب فغلابون قدما ... وان نغلب فغير مغلبينا
وما ان طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
كذاك الدهر دولته محال ... تكر صروفه حينا فحينا
ابن خراش الازدى وهم انصار دين الله وهم الذين يحبهم الله ويحبونه (الايمان
يمان) فيه نوع من انواع البديع وهو على ظاهره والمراد به اليمن وأهله حقيقة
وصفوا بذلك لان من اتصف بشيء وقوى قيامه به نسب ذلك الشيء اليه استعارة
لتميزه به وكان حالة فيه من غير نفي عن غيرهم زاد مسلم والفقه يمان
(والحكمة يمانية) بتخفيف الياء التحتية والحكمة ما تكمل به النفوس من
المعارف والاحكام وهي السنة أو القرآن أو فهمه أو الفقه في الدين أو العلم
أو العمل به أو كل صواب من القول أو وضع الاشياء مواضعها أقوال قال النووي
وقد صفى لنا من هذه الاقوال انها عبارة عن العلم المتصف بالاحكام المشتمل
على المعرفة بالله تعالى المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق
والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل والحكيم من له ذلك وقال ابن دريد
كل كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك الى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهى حكمة ومن
الحديث أن من الشعر حكمة وفي ذلك منقبة لاهل اليمن والمراد الموجودون في
زمنه صلى الله عليه وسلم من أهل اليمن لا كل أهل اليمن في كل زمان قال
النووي والسيوطي وغيرهم (فمنهم فروة) على لفظ الفروة الكساء المعروف (ابن
مسيك) بالتصغير (المرادي) بضم الميم وبالراء نسبة الى مراد (يوم الردم)
بفتح الراء وسكون المهملة قرية بالبحرين (مثل ما) بالرفع (وزبيد) بالتصغير
بطن من مذحج (فان نغلب) مبنى للفاعل (فغلابون) جمع غلاب وهو من يغلب كثيرا
(وان نغلب) مبني للمفعول (فغير مغلبينا) بالف الاطلاق فيه وفي البيت الذى
بعده (فما) نافية (ان) زائدة (طبنا) بالمهملة فالموحدة فالنون مفتوحات أي
أمرضنا وصيرنا مجبنين كالرجل المطبوب أي المسحور قال ابن الانباري الطب من
الاضداد يقال لعلاج الداء طب ويقال للداء طب وبكسر الطاء وفتحها مع ضم
الموحدة أي عادتنا (جبن) خور وضعف بنا أي لم يكن سبب قتلنا ذا الجبن (ولكن)
تلك (منايانا) حان أجلها (ودولة) بضم الدال وفتحها قوم (آخرينا) علينا بعد
ان كانت الدولة لنا عليهم (محال) بكسر الميم قوية وفي بعض النسخ سجال وهي
أنسب بالكلام وان كانت الاولى صحيحة
(2/19)
ومنهم عمرو بن معدى كرب الزبيدي قدم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايع ثم ارتد زمن الردة وأسلم بعد ذلك وكان
له المقامات المشهورة في وقت عمر بن الخطاب وهلك بأرض فارس بعد ان عمر
كثيرا ومنهم صرد بن عبد الله الازدى قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فاسلم ثم سار على أهل جرش فحاصرهم قريبا من شهر ثم انصرف عنهم راجعا
فتبعوه فكرّ عليهم فقتلهم قتلا شديدا وكان رجلان منهم بالمدينة فنعى اليهم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قومهما في ذلك الحين فسألاه أن يدعو الله
لهم فقال اللهم ارفع عنهم ثم قدم وفد جرش بعد ذلك فاسلموا وحمى لهم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم حمى حول قريتهم والله أعلم*
[خبر وفد كندة وعليهم الأشعث بن قيس]
ومنهم وفد كندة وهم ثمانون أو ستون راكبا عليهم الاشعث بن قيس فدخلوا على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسجده وقد رجلوا جممهم وتكحلوا ولبسوا
جياد الحبرات مكففة بالحرير فقال لهم ألم تسلموا قالوا بلى قال فما بال هذا
الحرير فنزعوه ثم قال الاشعث يا رسول الله نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل
المرار فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال ناسبوا بهذا النسب
ربيعة بن الحرث والعباس بن عبد المطلب وكانا تاجرين فكانا اذا سارا في أرض
العرب فسئلا ممن أنتما قالا بنو آكل المرار ليتعززا بذلك في العرب لان بنى
آكل المرار من كندة كانوا ملوكا ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا منا ولا ننتفي من أبينا المعنى
(ابن معدي كرب) بفتح الميم وسكون العين وكسر الدال المهملة وسكون التحتية
وفتح الكاف وكسر الراء ثم موحدة لا ينصرف لانهما اسمان مركبان (الزبيدي)
بالتصغير وكتب عمر بن الخطاب الى سعد بن أبي وقاص وهو على الصائفة ان استعن
في حربك عمرو بن معدي كرب وطليحة الاسدى ولاتولهما من الامر شيئا فان كل
صانع أعلم بصنعته وكان عمرو من فرسان العرب وشجعلنهم وفصحائهم (جرش) بضم
الجيم وفتح الراء ثم معجمة قرية من قري اليمر (وفد كندة) بكسر الكاف وسكون
النون ثم مهملة قال في القاموس لقب ثور بن عفير أبى حي من اليمن لانه كند
أباه النعمة ولحق باخواله والكند القطع انتهى (الاشعث) بالمعجمة والمثلثة
بينهما عين (ولبسوا) بكسر الباء (جياد الحبرات) أى فاخرها والحبرات جمع
حبرة بكسر المهملة وفتح الموحدة نوع من برود اليمن (نحن بنو آكل المرار)
بمد همزة آكل والمرار بضم الميم وتخفيف الراء شجر قال في القاموس من أفضل
العشب واضخمه اذا أكلته الابل قلصت مشافرها فبدت أسنانها وانما قيل له آكل
المرار لكشر كان به انتهي (ربيعة بن الحرث) بن عبد المطلب (لانقفوا منا) أي
لا نتبع (ولا ننتفي من أبينا) كما كان يقوله العباس وربيعة وذلك لحرمة
الانتساب الى غير الاب لان العباس وربيعة بن الحارث كانا يقولان نحن بنو
آكل المرار
(2/20)
[وفود همدان
وفيهم مالك بن نمط ذو المشعار]
ومنهم همدان فيهم مالك بن نمط ذو المشعار واوفوا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم مرجعه من تبوك عليهم الحبرات والعمائم العدنية على المهرية
والارحبية وهم يرتجزون
همدان خير سوقة وأقيال ... ليس لها في العالمين أمثال
محلها الهضب وفيها الابطال ... لها اطابات بهاوأ كال
اليك جاوزن سواد الريف* في هبوات الصيف والخريف* مخطمات بالحبال الليف ثم
قال مالك بن نمط يا رسول الله نضية من همدان من كل حاضر وباد اتوك على قلاص
نواج متصلة بحبال الاسلام لا تأخذهم في الله لومة لائم من مخلاف خارف ويام
لان ام عبد المطلب من الانصار وهم كندة من أولاد سبأ فاخبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ان الانتساب انما يكون الي الأب لا إلى الام أو لان دعدا
بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث الكندي المذكور كانت أم كلاب بن مرة قاله
السهيلى (وفد همدان) بسكون الميم واهمال الدال كما مر (ابن نمط) بفتح النون
فالميم فالمهملة (ذو المشعار) بكسر الميم وسكون المعجمة ثم مهملة وقيل
معجمة بعدها ألف ثم راء (علي المهرية) بفتح الميم وسكون الهاء نوع من الابل
ينسب الى مهرة قبيلة من قضاعة (والارحبية) بفتح الهمزة والمهملة وسكون
الراء بينهما وكسر الموحدة وتشديد التحتية ابل كريمة منسوبة الي بني أرحب
من همدان (وهم يرتجزون) والرجز نوع من الشعر سمي بذلك لتقارب أجزائه وقلة
حروفه وزعم الخليل انه ليس بشعر وانما هو انصاف أبيات وأثلاث والارجوزة
كالقصيدة منه وجمعها أراجيز قاله في القاموس (سوق) بضم المهملة وسكون الواو
ثم قاف الرعاع ومن دون أشراف الناس (واقبال) جمع قيل بفتح القاف وسكون
التحتية وهو دون الملك الاعظم (ليس لها في العالمين أمثال) أي في النجدة
والشجاعة وشدة البأس وانما قالوا ذلك لغلبة أحوال الجاهلية من التفاخر
عليهم وعدم معرفة أحكام الاسلام (الهضب) بفتح الهاء وسكون المعجمة الجبال
المستطيلة على الارض والواحدة هضبة (الابطال) جمع جمع بطل وهو الشجاع (لها
اطابات) بكسر الهمزة وتخفيف الطاء ثم الفين بينهما موحدة خفيفة آخره فوقية
جمع اطاب والاطاب جمع أطبة بفتح الهمزة وقد تبدل واوا وأصلها الحيس يجمع
التمر البرني والاقط المدقوق والسمن وهو هنا استعارة وأراد أن لهم مآكل
حسنة رائقة لينة (وأكال) بفتح الهمزة وضمها فعلي الاول هو صفة مبالغة لمن
كثر أكله وعلى الثانى جمع أكل والمراد ان لهم رعاة يأكلون الرباع وغيره مما
يأكله الولاة من الرعية (الريف) بكسر الراء وسكون التحتية ثم فاء الارض
المخصبة (هبوات) جمع هبوة بتثليث الهاء وسكون الموحدة والهبوة الغبرة يقال
يوم هبوة ويوم راح وريح اذا كان ذا ريح (مخطمات) يعني الابل التى جاؤا
راكبين عليها وهي المرادة بقوله جاوزن (الليف) المراد به ليف النخل (نضية)
بفتح النون وكسر المعجمة وتشديد التحتية وهى الخيار من القوم وجمعها أنضاء
واناض قاله في القاموس أو هو الهزيل (قلاص) جمع قلوص وهي الناقة الفتية
الشابة ويقال في جمعها قلائص وقلص (نواج) جمع ناجية بالنون والجيم والتحتية
وهى السريعة في السير (مخلاف) بكسر الميم وسكون المعجمة آخره فاء وهو
الاقليم بلغة اليمن (خارف) بالمعجمة والراء المكسورة والفاء مصروف بطن من
همدان ينسب الى خارف بن الحارث (ويام) بالتحتية مصروف أيضا بطن آخر أيضا
(2/21)
وشاكر اهل السود والقود أجابوا دعوة الرسول
عهدهم لا ينقض ما أقامت لغلع وما جرى اليعفور بصلع وكتب لهم رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم كتابا فيه هذا كتاب من رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم لمخلاف خارف ويام اهل جناب الهضب وحقاف الرمل ان لهم فراعها
ووهاطها يأكلون علافها ويرعون عفاءها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم
بذلك عهد الله وشاهدهم المهاجرون والانصار ومن قول مالك بن نمط رضي الله
عنه
حلفت برب الراقصات الى مني ... صوادر بالركبان من أرض قردد
ينسب الى يام بن أصنى (وشاكر) بالمعجمة مصروف (أهل السود) بفتح المهملة
(والقود) بفتح القاف أي انهم سادة قادة (لعلع) جبل من جبال المدينة غربي
سلع الى جانبه مسجد القبلتين (اليعفور) بفتح التحتية وسكون المهملة ثم فاء
ثم واو ثم راء وهو ولد الظبية ويسمى الشادن والغزال والطلاء والخشف (بصلع)
بضم المهملة وتشديد اللام ثم مهملة الفضاء الواسع الاملس ويسمى السملق
والسنى (بسم الله الرحمن الرحيم) فيه طلب استفتاح الكتب بها كما مر (جناب
الهضب) بفتح الجيم وتخفيف النون أي جانبه (وحقاف الرمل) جمع حقف بكسر
المهملة وسكون القاف وهو ما استطال من الرمل ويقال في جمعه احقاف أيضا
(فراعها) بكسر الفاء وتخفيف الراء واهمال العين هو العالي من الارض وفي
الحديث كانت سودة تفرع النساء طولا أي تعلوهن (ووهاطها) بالطاء المهملة
بوزن فراعها جمع وهط بفتح الواو وسكون الهاء وهو المطمئن من الارض ويسمى
الخبث والغائط والقاع (علافها) بكسر المهملة وتخفيف اللام والفاء هو جمع
علف بفتح اللام يقال علف وعلاف كحمل وحمال قاله الهرويّ (عفاءها) بفتح
المهملة وتخفيف الفاء والمدهوما لا ملك فيه قاله الهروي وزاد عياض في
الشفاء بعد هذا لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والامانة ولهم من
الصدقة الثلث والناب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري وعليهم فيها
الصالغ والقارع انتهي والدفء بكسر المهملة وسكون الفاء ثم همزة والصرام
بكسر المهملة وتخفيف الراء معناه من ابلهم وغنمهم قيل وسماها دفئا لانها
يتخذ من أصوافها وأوبارها ما يدفؤن به قاله الهروى والناب بالنون والموحدة
آخره هي الناقة الهرمة التي طال بابها وذلك من علامة الهرم والفارض بالفاء
والراء والمعجمة المسن من الابل والداجن الدابة التي تألف البيوت كما مر
والحورى بفتح المهملة والواو وكسر الراء وتشديد التحتية منسوب الى الحور
وهو جلود تتخذ من جلود الضان قاله ابن الاثير في النهاية وقيل المدبوغ من
الجلود بغير قرظ وهو أحد ما جاء على أصله ولم يعل وقال الكاشغرى الحورى
المكوى منسوب الى الكية الحوراء وهي كية مدورة يقال حوره اذا كواه هذه
الكية والصالغ باهمال الصاد واعجام العين وكسر اللام وهو من البقر والغنم
الذى كمل السنة الخامسة ودخل في السنة السادسة ويقال بالسين بدل الصاد قاله
ابن الاثير في النهاية والفارح بالقاف والراء والمهملة هو الفرس القارح
قاله ابن الاثير وهو من الحافر بمنزلة البازل من الابل قاله في القاموس
(الراقصات) بالقاف والمهملة المتحركات في السير بسرعة كالراقص وهو الزافر
(صوادر) جمع صادرة وهي ضد الواردة وهو منصوب على الحال (قردد) بفتح القاف
(2/22)
بأن رسول الله فينا مصدق ... رسول أتى من
عند ذي العرش مهتدى
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمد
وأعطى اذا ما طالب العرف جاءه ... وامضى بحد المشرفي المهند
[خبر موافاته صلى الله عليه وسلّم، مقدمه من تبوك، كتاب ملوك حمير
بإسلامهم]
ووافاه أيضا مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير باسلامهم فكتب اليهم رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الى
الحرث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذى رعين ومعافر وهمدان
أما بعد ذلك فاني أحمد الله اليكم الذى لا إله الا هو قد وقع بنا رسولكم
منقلبنا من ارض الروم وأنبأنا باسلامكم وقتلكم المشركين ثم كتب لهم نصب
الزكاة والفريضة التي افترضها الله تعالى عليهم فيها فقال فمن زاد فهو خير
له وكتب الى زرعة بن ذي يزن أن اذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا معاذ بن
جبل وعبد الله بن زيد ومالك ابن عبدة وعقبة بن نمير ومالك بن مرارة
واصحابهم وان اجمعوا ما عندكم من الجزية من مخالفيكم وأبلغوها رسلي وان
أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبن الا راضيا* روينا في صحيح البخارى عن ابن
عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن
جبل وسكون الراء وتكرير المهملة وهو المكان الصلب وقيل المرتفع (العرف) بضم
المهملة وسكون الراء أى المعروف (المشرفي) من أسماء السيف كما تقدم ضبطه
(المهند) من أسمائه كما مر أيضا (فائدة) روى أبو داود عن عامر بن شهر قال
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لي همدان هل انت آت هذا الرجل
ومرتاد لنا فان رضيت لنا شيأ رضيناه وان كرهت شيئا كرهناه قلت نعم فجئت حتى
قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضيت أمره وأسلم قومي وكتب لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الى عمير ذى مران قال وبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم مالك بن مرارة الرهاوي الى اليمن جميعا قال فاسلم عك ذو
خيوان قال فقيل لعك انطلق الي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذ منه الامان
على بلدك ومالك فقدم فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن
الرحيم لعك ذي خيوان ان كان صادقا في أرضه وماله ورفيقه فله الامان وذمة
الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب خالد بن سعيد ابن
العاص* كتابه صلى الله عليه وسلم لملوك (حمير) بكسر المهملة وسكون الميم
وفتح التحتية غير مصروف قبيلة من اليمن (بن عبد كلال) بضم الكاف وتخفيف
اللام (والنعمان) بضم النون (قيل) بفتح القاف وسكون التحتية كما مر (ذي
رعين) بالراء والمهملة والنون مصغر (معافر) بفتح الميم وتخفيف المهملة وكسر
الفاء ثم راء (وقع بنا) أى وافقنا (منقلبنا) مرجعنا نصب (الزكاة) جمع نصاب
(والفريضة) بالنصب عطفا على نصب (زرعة) بضم الزاي وسكون الراء وفتح المهملة
(ابن ذى يزن) بفتح التحتية والزاي فنون غير مصروف (معاذ بن جبل) بالرفع بدل
من رسل (ابن نمر) بفتح النون وكسر الميم ثم راء (ابن مرارة) بضم الميم
وتكرير الراء (روينا في صحيح البخارى)
(2/23)
حين بعثه الى اليمن انك ستأتى قوما اهل
كتاب فاذا جئتهم فادعهم الى ان يشهدوا ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول
الله فان هم اطاعوا لك بذلك فأخبرهم ان الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم
وليلة فان هم أطاعوا لك فأخبرهم ان الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من
أغنيائهم فترد في فقرائهم فان أطاعوا لك بذلك فاياك وكرائم أموالهم واتق
دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب وروينا فيه أيضا عن أبى بردة
عن أبى موسى قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا موسى ومعاذ بن
جبل الى اليمن وبعث كل واحد منهم على مخلاف قال واليمن مخلافان ثم قال يسرا
ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا فانطلق كل واحد منهما الى عمله قال وكان كل واحد
منهما اذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا فسلم عليه فسار
معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبى موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى اليه
واذا هو جالس وقد اجتمع اليه الناس فاذا رجل عنده قد جمعت يداه الى عنقه
فقال له معاذ يا عبد الله وصحيح مسلم وغيرهما (حين بعثه الي اليمن) قال في
التوشيح اختلف هل بعثه واليا أو قاضيا فجزم الغساني بالاول وابن عبد البر
بالثاني وكان بعثه سنة عشر في ربيع الآخر وقيل سنة تسع بعد تبوك وقيل سنة
ثمان ولم يزل بها الي ان قدم في عهد أبي بكر (ان يشهدوا أن لا إله الا الله
الى آخره) فيه تقديم الاهم فالاهم من العبادات اذ الشهادتان أهم من الصلاة
والصلاة أهم من الزكاة ولم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم والحج مع كونهما قد
فرضا يومئذ تقصيرا من بعض الرواة قاله ابن الصلاح (أطاعوا لك) قال في
التوشيح عدي باللام لتضمنه معني انقادوا (تؤخذ من أغنيائهم فترد على
فقرائهم) استشهد به أكثر أصحابنا علي حرمة نقل الزكاة وهو عند غيرهم محمول
علي فقراء المسلمين (اياك) بمعني احذر (وكرائم أموالهم) بالنصب فيه دليل
علي عدم جواز أخذ الكريمة من النعم وعدم وجوب اخراجها (واتق دعوة المظلوم)
أى تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم (ليس بينها وبين الله حجاب) أى ليس
لها صارف يصرفها ولا مانع يمنعها ولأحمد من حديث أبى هريرة دعوة المظلوم
مستجابة وان كان فاجرا ففجوره على نفسه وللخطيب بسند ضعيف عن على اتق دعوة
المظلوم فانما سأل الله تعالي حقه وان الله لم يمنع لذى حق حقه وللطبراني
في الكبير والضيا بسند صحيح عن خزيمة بن ثابت اتقوا دعوة المظلوم فانها
تحمل على الغمام يقول الله عز وجل وعزتي وجلالى لانصرنك ولو بعد حين
وللحاكم بسند صحيح عن ابن عمر اتقوا دعوة المظلوم فانها تصعد الى السماء
كانها شرارة ولاحمد وأبي يعلي والضيا بسند صحيح عن انس اتقوا دعوة المظلوم
وان كان كافرا فليس دونه حجاب (وروينا فيه أيضا) وفي صحيح مسلم وسنن أبي
داود والنسائى (عن أبي بردة) اسمه عامر على صحيح (يسرا ولا تعسرا) هذا من
بديع كلامه صلى الله عليه وسلم وشدة فصاحته وبلاغته وفيه ندب التبشير
والتحذير من التنفير (وبشرا) أمر من
(2/24)
ابن قيس ايما هذا قال هذا رجل كفر بعد
اسلامه قال لا انزل حتى يقتل فأمر به فقتل ثم نزل فقال يا عبد الله كيف
تقرأ القرآن قال اتفوقه تفوقا قال فكيف تقرا انت يا معاذ قال انام اول
الليل فأقوم وقد قضيت من النوم حزبى فأقرأ ما كتب الله لى فاحتسب نومتي كما
احتسب قومتي وروينا فيه ايضا عن عمرو بن ميمون ان معاذ بن جبل لما قدم
اليمن صلى بهم الصبح فقرأ واتخذ الله ابراهيم خليلا فقال رجل من القوم لقد
قرت عين ام ابراهيم
[وفود بني نهد من غور تهامة]
ومنهم بنو نهد قالوا يا رسول الله جئناك من غورى تهامة بأكوار الميس ترتمى
بنا العيس وشكوا له جدب بلادهم فقال اللهم بارك لبنى نهد في محضها ومخضها
ومذقها وابعث راعيها في الدثر وافجر لهم الثمد وبارك لهم في المال والولد
من اقام الصلاة كان مسلما ومن آتى الزكاة التبشير زاد في رواية وتطاوعا ولا
تختلفا (ايما هذا) بفتح الهمزة وتشديد التحتية للاصلى ولابي ذر بسكونها
وتخفيف الميم كلمة استفهام قال الحربي هي اي وما صلة قال تعالى أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ وقال تعالى أَيًّا ما تَدْعُوا (اتفوقه) تفوقا
بالفاء قبل القاف أي ألازم قراءته ليلا ونهارا شيأ بعد شيء وحينا بعد حين
مأخوذ من فواق الناقة وهو ان تحلب ثم تترك ساعة حتى تدر ثم تحلب (حزبي)
بكسر المهملة وسكون الزاي ثم موحدة أي حظي الذي كتب لي من النوم (عمرو بن
ميمون) معدود من المخضرمين بالمعجمة وفتح الراء مشتق من الخضرمة وهى القطع
(الاودي) بفتح الهمزة وسكون الواو ثم مهملة ثم ياء النسبة الى أود بن مصعب
من سعد العشيرة من مذحج (خليلا) قال عياض قيل الخليل المنقطع الى الله الذي
ليس في انقطاعه اليه ومحبته اياه اختلال وقيل الخليل المختص وقال بعضهم أصل
الخلة الاستصفاء وسمى ابراهيم خليل الله لموالاته فيه ومعاداته فيه وخلة
الله نصره وجعله اماما لمن بعده وقيل الخليل أصله الفقير المحتاج المنقطع
مأخوذ من الخلة وهى الحاجة فسمى بها ابراهيم لانه قصر حاجته على ربه وانقطع
اليه بهمة ولم يجعله قبل غيره اذ جاءه جبريل وهو في المنجنيق ليرمي به في
النار فقال ألك حاجة فقال اما اليك فلا وقال أبو بكر بن فورك الخلة صفاء
المودة التى توجب الاختصاص بتحمل الاسرار وقال بعضهم أصل المحبة الخلة
ومعناها الاسعاف والالطاف والترفيع والتشفيع (وفد بنى نهد) بفتح النون
وسكون الهاء ثم مهملة (من غوري تهامة) بفتح المعجمة وسكون الواو وفتح الراء
بوزن سكرى وهو كل ما انحدر مغربا من تهامة قاله في القاموس (الاكوار) جمع
كور وهو مقدم الرحل (الميس) بكسر الميم جمع مائسة أي متحركة من سرعة السير
(ترتمي) تسير بنا سيرا عنيفا (العيس) بكسر المهملة وسكون التحتية ثم مهملة
وهي من الابل التي يخالط بياضها شيء من شقرة يقال جمل أعيس وناقة عيساء (في
محضها) باهمال الحاء واعجام الضاد أي اللبن الخالص (ومخضها) بالمعجمتين ما
مخض من اللبن وأخذ زبده (ومذقها) بفتح الميم فمهملة ساكنة فقاف أى لبنها
المخلوط بالماء (في الدثر) بفتح الدال المهملة وسكون المثلثة ثم راء المال
الكثير قال ابن الاثير ويقع على الواحد والاثنين والجماعة (وافجر لهم
الثمد) بفتح المثلثة والميم واهمال الدال الماء القليل (كان مسلما) لان
(2/25)
كان محسنا ومن شهد ان لا إله إلا الله كان
مخلصا لكم يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع الملك لا تلطط في الزكاة ولا تلحد
في الحياة ولا تتثاقل عن الصلاة ولاهل اليمن مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم اخبار طويلة فيما قالوا وقيل لهم. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب
كل وفد بلغتهم ويجاوبهم على مقتضى فصاحتهم
[وفد ثقيف وما كان من حديثهم]
وممن وافاه مقدمه من تبوك وفد ثقيف وكان من حديثهم ان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لما انصرف عنهم تبعه عروة بن مسعود فأدركه قبل ان يصل الى
المدينة فأسلم واخذ راجعا الى قومه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم الصلاة لا يقيمها الا المسلمون (كان محسنا) أي الاحسان الذي هو العطاء
وليس المراد الذي هو بمعنى المراقبة (كان مخلصا) أى لان من شهد بالوحدانية
لله فقد أخلص (ودائع الشرك) قال السمني أى عهوده ومواثيقه يقال أعطيته
وديعا أي عهدا وقيل ما كانوا استودعوه من أموال الكفار الذين لم يدخلوا في
الاسلام أراد انها حلال لهم لانها مال كافر قدر عليه من غير عهد ولا شرط
(ووضائع) بواو ومعجمة مفتوحتين فتحتية فمهملة قال الشمني جمع وضيعة وهي
الوضيعة على الملك وما يلزم الناس في أموالهم من الصدقة والزكاة يعنى ان لا
نجاوزها معكم ولا نزيد فيها وقيل معناه لا نأخذ منكم ما كان يأخذه ملوككم
عليكم بل هو لكم والاول يناسبه (الملك) بكسر الميم والثاني بضمها (لا تلطط)
بضم الفوقية وسكون اللام وكسر المهملة تعقبها أخرى واللط والالطاط المنع
يقال لط الغريم والطه أي منعه والضمير في قوله لا تلطط للقبيلة (ولا تلحد)
بضم الفوقية وسكون اللام وكسر الحاء وبالدال المهملتين أي لا يحصل منكم ميل
عن الحق ما دمتم أحياء قاله ابن الاثير (ولاهل اليمن مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم أخبار طويلة) منها انه كتب لكم في الوظيفة العريضة ولكم الفارض
والفريش وذو العنان الركوب والفلو الضبيس لا يمنع سرحكم ولا يعضد طلحكم ولا
يحبس دركم ما لم تضمروا الرماق وتأكلوا الرباق من أقر فله الوفاء بالعهد
والذمة ومن أبى فعليه الربوة ذكر ذلك عياض في الشفاء والعريضة من الابل
المسنة الهرمة قاله ابن الاثير وكذا الفارض وفي بعض نسخ الشفاء العارض
بالمهملة قال الشمنى وهي الناقة يصيبها كبر أو مرض فتنحر والفريش بالفاء
والمعجمة مكبر هي التي وضعت حديثا كالنفساء من النساء قاله الهروى أو التي
حمل عليها الفحل بعد النتاج بسبع قاله الاصمعي والعنان بكسر المهملة سير
اللجام والركوب بفتح الراء الفرس الذلول قاله ابن الاثير والفلو بفتح الفاء
وضم اللام وتشديد الواو المهر ويقال له فلو بكسر أوله وسكون ثانيه وتخفيف
ثالثه والضبيس بالمعجمة فالموحدة فالتحتية فللهملة مكبر وهو العسر الصعب
قاله الهروى والسرح بفتح المهملة وسكون الراء الماشية والعضد القطع والطلح
شجر عظام من شجر العضاه والرماق بكسر الراء وتخفيف الميم آخره قاف هو
النفاق والرباق كالاول الا انه بالموحدة بدل الميم جمع ربق بكسر الراء
الحبل فيه عري شبه ما يلزم الاعناق من العهد بالرق واسعار الاكل لنقض العبد
فان البهيمة اذا أكلت الربق خلصت من الشدة قاله ابن الاثير والربوة بفتح
الراء وفتحها أى الزيادة في الفريضة الواجبة عقوبة عليه (وفد ثقيف) بالصرف
وهو أبو قبيلة
(2/26)
انهم قاتلوك فقال يا رسول الله انا أحب
اليهم من أبصارهم وكان محببا اليهم مطاعا فيهم فلما جاءهم دعاهم الى الله
تعالى فرموه بالنبل من كل ناحية فأصابه سهم فقتله فقال لهم ادفنونى مع
الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم
فلما بلغ النبى صلى الله عليه وسلم خبره قال ان مثله في قومه كمثل صاحب يس
ثم أقامت ثقيف بعد قتله اشهرا وسقط في أيديهم ورأوا ان لا طاقة لهم بحرب من
حولهم من العرب فأوفدوا جماعة منهم باسلامهم ولما نزلوا قناة الفوا بها
المغيرة بن شعبة يرعي الابل وكان يوم نوبته فلما رآهم ترك الركاب وانصرف
مسرعا مبشرا فلقيه أبو بكر رضى الله عنه فأخبره فقال له أبو بكر أقسمت عليك
بالله لا تسبقني بخبرهم ففعل فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخبره بقدومهم ثم خرج المغيرة فتلقاهم وعلمهم التحية فلم يفعلوا الا
بتحية الجاهلية ثم ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبة في المسجد
فكان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات ثلاث سنين
فأبى عليهم ثم سألوه شهرا فأبى عليهم ثم سألوه أن يعفيهم من الصلاة وان لا
يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال لهم اما كسر الاوثان فسنعفيكم واما الصلاة فلا
خير في دين لا صلاة فيه وثقيف لقب له واسمه قيس بن منبه بن بكر بن هوازن
(انهم قاتلوك) هذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم (فلما بلغ النبي)
بالنصب (خبره) بالرفع (كمثل صاحب يس) اسمه حبيب بن مرى النجار قال السهيلى
ويحتمل انه أراد اليسع صاحب الياس فان الياس يقال في اسمه يس أيضا قال
الطبرى هو الياس بن يس (وسقط في أيديهم) أي ندموا قال البغوي تقول العرب
لكل نادم على أمر سقط في يده (قناة) بالقاف والنون الوادى المشهور بالمدينة
(وكان يوم) بالنصب واسم كان مستتر فيها (وعلمهم التحية) يعنى السلام (بتحية
الجاهلية) وهى الانحناء (ثم ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبة في
المسجد) كما رواه الى آخره أبو داود عن عثمان بن أبى العاص قال وانما
أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم ففيه جواز ادخال الكفار المسجد كما سبق
(ان يعفيهم) بضم أوله وسكون المهملة وكسر الفاء أى يتركهم منها وفي سنن أبى
داود فاشترطوا ان لا يعشروا ولا يحشروا (لا خير في دين لا صلاة فيه) في أبي
داود ولا ركوع فيه وهو من باب التعبير بالبعض عن الكل والمراد بالحشر جمعهم
للجهاد والنفر اليه والعشر أخذ العشور وحاصله انهم سألوه صلى الله عليه
وسلم الاعفاء من الزكاة والجهاد والصلاة فاعفاهم مما عدا الصلاة قال
الخطابي وانما أعفاهم من الجهاد والزكاة لعدم وجوبهما بعد في العاجل لان
الصدقة لا تجب الا بانقضاء الحول والجهاد لا يجب الا اذا حضر العدو قال
وأما الصلاة فهى راتبة فلم يجز شرط تركها انتهي وروى أبو داود أيضا عن وهب
قال سألت جابرا عن شأن ثقيف اذ بايعت قال اشترطت ان لا صدقة عليها ولا جهاد
وانه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيتصدقون ويجاهدون اذا أسلموا
(2/27)
فقالوا فسنؤتيكها وان كانت دناءة ثم أسلموا
وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابهم وأمر عليهم عثمان بن أبي
العاص وكان من احدثهم سنا وانما أمره عليهم لانه رآه أكثرهم سؤالا عن معالم
الدين وبعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمان اللات وكان
قدومهم على النبى صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان مرجعه من تبوك روى عن
بعض وفدهم قال كان بلال يأتينا بعد ان اسلمنا بسحورنا وانا لنقول ان الفجر
قد طلع فيقول قد تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسحر ويأتينا بفطورنا
وانا لنقول ما نرى الشمس ذهبت كلها بعد فيقول ما جئتكم حتى أكل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم يضع يده في الجفنة فيلقمهم منها وكان كتاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم لهم (بسم الله الرحمن الرحيم) من محمد النبي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الى المؤمنين ان عضاه وج وصيده لا تعضد من وجد
يفعل من ذلك شيئا فانه يجلد وتنزع ثيابه (فسنؤتيكها) فسنعطيكها وزنا ومعنى
(وان كانت دناءة) وضعة أى لما فيها من وضع الجباه التى هى أشرف الاعضاء
بالارض وانما قالوا ذلك لغلبة الجهل وبقاء آثار الكفر عليهم وعدم الفهم لها
واعتيادهم ما فيها من الخيرات والفتوح الربانية (من أحدثهم سنا) أى أصغرهم
(أكثرهم) بالنصب (معالم الدين) جمع معلم وهو في الاصل الجبل الذى يهتدى به
في القفار ويسمى علما أيضا (أبا سفيان) بن حرب (بسحورنا) بفتح السين اسم
لما يتسحر به (وانا لنقول ان الفجر قد طلع) أي من شدة تاخير السحور كما هو
السنة (بفطورنا) بالفتح أيضا اسم لما يفطر به (ما نري الشمس) بالضم أي ما
نظنها (غربت) أي من شدة تعجيل الفطر كما هو السنة (الجفنة) بضم الجيم وسكون
الفاء ثم نون وهي اسم لاعظم القصاع ثم تليها القصعة وهي تشبع العشرة ثم
الصحفة تشبع نحو الخمسة ثم المئكلة بكسر الميم ثم همزة ثم فتح الكاف تشبع
الرجلين والثلاثة (ان عضاه وج وصيده الي آخره) رواه بمعناه أحمد وأبو داود
والترمذي وحسنه عن الزبير رضى الله عنه وذكر الذهبي ان الشافعي صححه
والعضاه بمهملة مكسورة وضاد معجمة كل شجر له شوك كالطلح والعوسج ووج واد
بين الطائف ومكة سمي بوج بن عبد الحى من العمالقة ويقال فيه واج (لا يعضد)
لفظ أبي داود حرم محرم لله تعالى قال الخطابى ولا أعلم لتحريمه معني الا أن
يكون على سبيل الحما لنوع من منافع المسلمين أو انه حرم وقتا مخصوصا ثم أحل
يدل عليه قول صاحب جامع الاصول قبل نزوله الطائف لحصار ثقيف ثم عاد الامر
فيه الى الاباحة انتهى وذهب الشافعي رحمه الله الى تحريمه لكن هل يجب عليه
جزاء قولان القديم نعم لقوله في الحديث (ومن وجد يفعل من ذلك شيئا فانه
يجلد وتنزع ثيابه) فالجلد تعزير على الفعل أو الجزاء في مقابلة ما أتلف
وعليه فالضمان بالسلب كما في الحديث وقيل كحرم مكة وعلى الاول يسلب كسلب
الكفارة وقيل يترك له ساتر العورة وضححه في المجموع وصوبه في زوائد الروضة
والجديد عدم الضمان لعدم كونه محلا للنسك فاشبه
(2/28)
وكتب خالد بن سعيد بأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم وشهد على ذلك علي وابناه الحسن والحسين وذكر ان المغيرة لما أراد
هدم اللات قام أهل بيته دونه خشية أن يصيبه ما أصاب عروة ولما شرع في الهدم
صاح وخر مغشيا عليه مستهزأ بهم فارتجت المدينة فرحا فقام المغيرة يضحك منهم
ويقول ياخبثاء ما قصدت الا الهزء بكم ثم أقبل على هدمها حتى أستأصلها وأخذ
مالها وحليها وفرغ من أمرها*
[مطلب في غزوة تبوك وهي المسمّاة بساعة العسرة]
وممن ذكر في وفود هذه السنة وفد فزارة بضعة عشر رجلا ووفد تجيب ثلاثة عشر
رجلا ووفد بني أسد قيل وفيهم نزل قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ
أَسْلَمُوا ووفد كلاب ووفد الداريين من لخم وهم عشرة ووفد سعد هذيم.
غزوة تبوك وهي الفردة لانها لم يكن في عامها غيرها ولم يغز صلى الله عليه
وسلم بعدها حتى توفي وسماها الله تعالى ساعة العسرة لوقوعها في شدة الجدب
والحر الحما والكلام في حرم المدينة كهو في وج الطائف (وابناه الحسن
والحسين) يستدل به على جواز تحمل الشهادة مع كون الشاهد ليس أهلا لها عند
التحمل لانهما كانا صبيين (وذكروا ان المغيرة الي آخره) وذكره ابن اسحاق
وغيره (يا خبثاء) بضم المعجمة وفتح الموحدة ثم ثلاثية مع المد جمع خبيث
كغرباء وغريب وبفتح المعجمة وسكون الموحدة كغرقي (الا الهزء) بضم الهاء
والزاي ثم همزة تبدل واوا وهو الاشهر (فزارة) بفتح الفاء ثم زاي ثم الف ثم
راء ثم هاء (تجيب) بضم الفوقية وكسر الجيم وسكون التحتية بعدها موحدة كذا
يقوله المحدثون وكثير من الادباء وقيل ان أوله بالفتح والباء عند هؤلاء
أصلية وهم قبيلة من كندة (بنى أسد) بن خزيمة (قيل وفيهم نزل قوله تعالى
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) قال البغوي وذلك انهم قدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة فاظهروا الاسلام ولم يكونوا مؤمنين في
السر فافسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون وبروحون
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون أتتك العرب بانفسها على ظهور
رواحلها وجئناك بالاثقال والذراري والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان
وبنو فلان يمنون على النبي صلى الله عليه وسلم ويريدون الصدقة ويقولون
اعطنا فانزل الله هذه الآية وقال السدي نزلت في اعراب جهينة ومزينة وأسلم
وأشجع وغفار لما تخلفوا عن الحديبية بعد ان استنفروا لها قلت وقول السدي
غير مرضي (ووفد كلاب) على لفظ جمع الكلب مع الصرف (الداربين) ينسبون الى
جدلهم اسمه الدار هديم فغلبه عليه (غزوة تبوك) بفتح الفوقية والموحدة مكان
من المدينة على أربعة عشر مرحلة جاءها النبى صلى الله عليه وسلم وهم ينزفون
ماءها بقدح فقال ما زلتم تبوكونها فسميت حينئذ تبوك ذكره القتيبي وغيره
(ساعة) بالنصب (العسرة) أي الشدة قال البغوي وكان جيشها يسمى جيش العسرة
(لوقوعها في شدة الجدب) وهو نقيض الخصب (والحر) الشديد روى الحاكم في
المستدرك بسند صحيح علي شرط الشيخين عن ابن عباس أنه قال لعمر بن الخطاب
حدثنا
(2/29)
وقلة الزاد والظهر وكان من خبرها ان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لما فرغ من جهاد العرب أمر الناس بالتهيئ لغزو
الروم وحث المياسير على اعانة المعاسير فأنفق عثمان بن عفان رضى الله عنه
فيها ألف دينار وحمل على تسعمائة وخمسين بعيرا وخمسين فرسا لذلك قيل له
مجهز جيش العسرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم ارض عن عثمان فانى
عنه راض وقال ماضر عثمان ما فعل بعد اليوم ثم ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم جدّبه الجد فضرب معسكره على ثنية الوداع وأوعب معه المسلمون فكان
عددهم سبعين ألفا وقيل ثلاثين ألفا وتخلف عبد الله بن ابيّ ومن معه جبنا
ونفاقا ودخلا وفيهم نزلت عن شأن ساعة العسرة فقال عمر خرجنا الى تبوك في
قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا ان رقابنا ستنقطع حتى ان
الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقى على كبده فقال أبو بكر
الصديق يا رسول الله ان الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله قال أنحب
ذلك قال نعم فرفع يده فلم يرجعهما حتى خالت السماء فأظلت ثم سكبت فملؤا ما
معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر انتهى وهذا من جملة معجزاته صلى
الله عليه وسلم في استجابة الدعاء وفيه منقبة ظاهرة لسيدنا أبي بكر رضى
الله عنه حيث أشار على النبى صلى الله عليه وسلم بذلك واستشاره صلى الله
عليه وسلم (وقلة الزاد) قال البغوي كان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير
وكان النفر منهم يخرجون ما معهم الا التمرات بينهم فاذا بلغ الجوع من أحدهم
أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها فيشرب عليها جرعة
من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم فلا يبقي من التمرة الا النواة (و) قلة
(الظهر) أي الحمولات قال البغوي قال الحسن كان العشرة منهم يخرجون على بعير
واحد يعتقبونه يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك (المياسير على
المعاسير) جمع موسر ومعسر على غير قياس (فانفق عثمان رضي الله عنه) كما
رواه الترمذى عن عبد الرحمن ابن سمرة (الف دينار) نثرها في حجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم (وحمل على تسعمائة بعير وخمسين فرسا) هذا خلاف ما في
سنن الترمذى انه قال يا رسول الله علىّ مائة بعير باحلاسها وأقتابها في
سبيل الله ثم قال علي ثلثمائة بعير باحلاسها وأقتابها في سبيل الله (مجهز)
بالضم (فقال النبى صلى الله عليه وسلم) وهو بارك على المنبر (ماضر عثمان)
بالنصب (ما عمل) أي الذي عمله من الذنوب قبل أن يتصدق بما تصدق به فانه
(بعد اليوم) مكفر عنه بصدقته (الجد) بالكسر الجهد والمبالغة في الامر
(معسكره) بضم الميم موضع اجتماع العسكر (على ثنية الوداع) وهي شامي المدينة
عن يسار مسجد الراية سميت بذلك لان الخارج من المدينة الى الشام يمشي معه
المودعون اليها (وأوعب) أى جمع (وكان عددهم سبعين الفا) قاله أبو زرعة
الرازى (وقيل ثلاثين الفا) قاله ابن اسحاق. قال النووى وهذا أشهر قال وجمع
بينهما بعض الائمة بان أبا زرعة عد التابع والمتبوع وابن اسحاق عد المتبوع
فقط وفي صحيح مسلم يزيدون على عشرة آلاف مع عدم تبيين قدر (وتخلف عبد الله
بن أبي ومن معه) قال البغوى «1» ولم يقل ناقل العسكرين (ودخلا بالمهملة
والمعجمة)
__________
(1) في ابن هشام وضرب عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره اسفل منه نحو ذباب
وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين اهـ
(2/30)
سورة براءة وسماها ابن عباس الفاضحة قال ما
زالت تنزل فيهم ومنهم حتى ظنوا انه لم يبق أحد منهم الا ذكر فيها وتخلف
آخرون لا عن نفاق وريبة إخلادا الى الظل وكسلا وهم الذين تاب الله عليهم
وتخلف آخرون ممن عذر الله تعالى في قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ
وَلا عَلَى الْمَرْضى الآية وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك
ان بالمدينة أقواما ما قطعنا واديا ولا شعبا الا وهم معنا فيه حبسهم العذر
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الخميس وكان يحب ان يخرج فيه
وذلك لخمس خلون من رجب واستخلف على خاصته ومن ترك علي بن ابي طالب فعيره
المنافقون بالتخلف فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وقال مفتوحتين
وهى الخيانة والخديعة واظهار الوفاء وابطان النقض (سورة براءة) وهي مدنية
وخصت من بين السور بعدم كتب بسم الله الرحمن الرحيم أولها لان البسملة أمان
وهي نزلت لرفع الامن بالكف وقد سأل ابن عباس عثمان عن ذلك فقال لما كانت
قصتها شبيهة بقصة الانفال قرنت بينهما ولم أكتب بسم الله الرحمن الرحيم كما
رواه أبو داود والترمذى وهذا يدل على ان ذلك كان باجتهاد من عثمان لا
بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم لكن أخرج الحاكم حديثا يؤخذ منه ان ذلك
بتوقيف (وسماها ابن عباس الفاضحة كما رواه الشيخان) عن سعيد بن جبير ومن
أسمائها انها سورة التوبة وسورة البحوث بفتح الموحدة وضم المهملة آخره
مثلثة والمسرة والمتغيرة والمقرة وسورة العذاب (اخلادا) مصدر أخلد بمعنى
سكن وقال ويقال خلد أيضا قاله الزجاج قال واصله من الخلود وهو الدوام
والمقام ويقال اخلد فلان بالمكان اذا أقام به (ليس على الضعفاء) يعني
الزمنى والمشايخ والعجزة قاله ابن عباس وقيل هم الصبيان وقيل النساء (ولا
على المرضى) كعابد بن عمرو وأصحابه كان بهم مرض يومئذ وكابن أم مكتوم كان
أعمى (ولا على) الفقراء (الذين لا يجدون ما ينفقون) في الغزو ليس عليهم
(حرج) اثم ولا ضيق في القعود عن الغزو لكن (اذا نصحوا لله ورسوله) في
مغيبهم وأخلصوا الايمان والعمل لله وبايعوا الرسول (ما على المحسنين من
سبيل) أي طريق للعقوبة (والله غفور) كثير المغفرة (رحيم) بالمؤمنين (ان
بالمدينة أقواما الى آخره) رواه البخارى وأبو داود عن أنس ورواه مسلم عن
جابر (الا وهم معنا) أى مشاركوننا في الثواب كما في رواية لمسلم الا شركوكم
في الاجر انهم انما (حبسهم العذر) عن النفر معنا ولو لاه لنفروا ففيه ان
الطاعات من جهاد وغيره يكتب ثوابها لتاركها بعذر وقد روى أحمد والبخاري عن
أبي موسى اذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الاجر ما كان يعمل صحيحا
مقيما وروى ابن عساكر عن مكحول مرسلا اذا مرض العبد يقال لصاحب الشمال ارفع
عنه القلم ويقال لصاحب اليمين اكتب له أحسن ما كان يعمل فاني أعلم به وأنا
قيدته (واستخلف على خاصته ومن ترك علي ابن أبي طالب) رواه الشيخان والترمذى
وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص زاد الحكم في الاكليل فقال يا علي اخلفني في
أهلى فاضرب وخذ واعط ثم دعا نساءه فقال اسمعن لعلي واطعن (وكان يحب أن يخرج
يوم الخميس) روى أبو داود عن كعب بن مالك قال ما كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يخرج الى سفر الا يوم الخميس
(2/31)
اتخلفني في النساء والصبيان قال الا ترضى
ان تكون منى بمنزلة هرون من موسى الا انه لا نبى بعدى ومضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم لوجهه فلما مر بالحجر ديار ثمود قال لا تدخلوا مساكن الذين
ظلموا انفسهم ان يصيبكم ما أصابهم الا ان تكونوا باكين ثم قنع رأسه واسرع
السير حتى اجاز الوادى فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك
وهي ادنى بلاد الروم اتاه يحنة بن روبه واهل جربا واذرح فصالحهم على الجزية
[كتابه صلى الله عليه وسلّم ليحنة بن روبة في صلحه وذمته]
وكتب ليحنة بسم الله الرحمن الرحيم هذا امنة من الله ومحمد النبي رسول الله
ليحنة بن روبه واهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد
النبي ومن كان معهم من اهل الشام واليمن واهل البحر (أتخلفني في الصبيان
والنساء) استفهام استعظام (الا ترضي) وفي رواية في الصحيح اما ترضى (أن
تكون نازلا منى بمنزلة) الباء زائدة ولمسلم انت منى بمنزلة (هرون) بن عمران
بن نظهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم (من) أخيه لابيه
وأمه (موسي) هذا الحديث من أقوى شبه الروافض والامامية وسائر فرق الشيعة
القائلين بان الخلافة كانت حقا لعلي وانه أوصى له بها قال عياض وهذا الحديث
لا حجة فيه لهم لانه صلى الله عليه وسلم انما شبهه بهرون في انه صلى الله
عليه وسلم استخلفه في هذه الغزاة كما استخلف موسى هرون حين ذهب لميقات ربه
فهو تشبيه خاص قال ويؤيد هذا ان هرون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى بل
توفي في حياة موسى بنحو أربعين سنة على ما هو مشهور عند أهل الاخبار والقصص
(الا انه لا نبي بعدي) بعثة منشأة بشريعة مستقلة قال العلماء ففيه دليل على
ان ابن مريم اذا نزل ينزل حكما من حكام هذه الامة يحكم بشريعة نبينا صلى
الله عليه وسلم (فلما مر بالحجر ديار ثمود الى آخره) رواه الشيخان وغيرهما
عن ابن عمر وديار بدل من حجر وهى أرض ثمود بين المدينة والشام (لا تدخلوا
مساكن الذين ظلموا أنفسهم) فيه ندب البعد عن أماكن الكفار وأهل المعاصي
وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من شدة الخوف على أمته وقوله (أن
تصيبكم) منصوب باضمار خشية (الا أن تكونوا باكين) ففيه ان البكاء من خشية
الله وعذابه ربما كان سببا للامان (ثم قنع رأسه) أرخي الثوب عليه (وأسرع
السير) فيه ندب ذلك في كل محل غضب على أهله ومنه وادى محسر كما مر (حتى
أجاز الوادي) أى قطعه وخرج منه وهو رباعي وثلاثي وفي الصحيحين انه نهاهم عن
استعمال مياهها وان يستقوا من بئر الناقة والنهى عنه للتنزيه (يحنة) بضم
التحتية وفتح المهملة وتشديد النون ثم هاء تنقلب في الدرج فوقية (ابن روبه)
بضم الراء وسكون الواو ثم موحدة ثم هاء كذلك (جربا) بجيم مفتوحة فراء ساكنة
فموحدة فالف مقصورة على الصواب المشهور (واذرح) بهمزة ثم معجمة ساكنة فراء
مضمومة فمهملة على الصواب المشهور وقيل بالجيم بدلها وهو تصحيف قال النووى
هي مدينة في طرف الشام في قبلة السويك بينها وبينه نحو نصف يوم وهى في طرف
السراة بفتح المعجمة في طرفها الشمالى وتبوك في قبلة أذرح (ايلة) بهمزة
مفتوحة فتحتية ساكنة فلام مفتوحة مدينة في طرف الشام على ساحل البحر متوسطة
بين المدينة الشريفة ودمشق. قال الحازمي قيل هي آخر الحجاز وأول الشام
(ومحمد)
(2/32)
فمن احدث منهم حدثا فانه لا يحول ماله دون
نفسه فانه طيب لمن اخذه من الناس وانه لا يحل ان يمنعوا ماء يردونه ولا
طريقا يريدونه من بر أو بحر
[خبر إرساله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد
إلى أكيدر صاحب دومة الجندل]
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك خالد بن الوليد الى اكيدر
بن عبد الملك الكندى صاحب دومة الجندل وقال انك تجده يصيد البقر فمضى خالد
حتى اذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة أقام وجاءت بقر الوحش حتى
حكت قرونها بباب القصر فخرج اليهم اكيدر في جماعة من خاصته فلقيتهم خيل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذوا اكيدر وقتلوا اخاه حسان فحقن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه وصالحه على الجزية وكان نصرانيا واقام
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزهم ثم اخذ
راجعا الى بالكسر عطف على ذمة الله (لا يحول ماله دون نفسه) أي لا يؤخذ من
ماله فداء عن نفسه بل قتله حلال لمن أراده لانتقاض ذمته بالاحداث (ان
يمنعوا) بالبناء للمفعول (اكيدر) بهمزة مضمومة وكاف مفتوحة فتحتية ساكنة
فمهملة مكسورة فراء لم يسلم بلا خلاف عند أهل السير قال ابن الاثير ومن قال
انه أسلم أى كالخطيب البغدادى وابن منده وأبي نعيم فقد أخطأ خطأ فاحشا
انتهي وأكيدر هذا هو الذى أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب حرير
فاعطاه عليا فقال شققه خمرا بين الفواطم (دومة الجندل) بضم المهملة وفتحها
كما مر عرفت بدومة ابن اسماعيل فيما ذكر (انك تجده يصيد البقر) هذا من
أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم والمراد به بقر الوحش (بمنظر) بفتح المعجمة
ومنظر (العين) موضع ادراك نظرها (وصالحه على الجزية وكان نصرانيا) قال ابن
الاثير فلما صالحه النبي صلى الله عليه وسلم عاد الى حصنه وبقى فيه ثم
حاصره خالد بن الوليد في زمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقتله مشركا
نصرانيا يعنى لنقضه العهد وذكر البلاذري انه قدم على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأسلم وعاد الى دومة فلما توفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ارتد فلما سار خالد من العراق الى الشام قتله انتهى وفي سيرة ابن اسحق
انه صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا فيه عهد وأمان وكانت صورته على ما
حكاه البيهقي عن أبي عبيد بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لا
كيدر حين أجاب الى الاسلام وخلع الانداد والاصنام مع خالد بن الوليد سيف
الله في دومة الجندل واكنافها ان لنا الضاحية أى أطراف الارض والبور
والمعافي أى المجهول من الارض واغفال الارض أي مالا أثر فيه من عمارة
والحلقة والسلاح والحافر والحصن ولكم الضامية من النخل أي الداخلة في بلدكم
والمعين من المعمور لا تعدل سارحتكم أي لا تحشر الى المصدق ولا تعد فاردتكم
ولا يحظر عليكم النبات أي لا تمنعون من الرعي حيث شئتم تقيمون الصلاة
لوقتها وتؤدون الزكاة بحقها عليكم بذلك عهد الله والميثاق ولكم بذلك الصدق
والوفاء شهد الله ومن حضر من المسلمين قال أبو عبيد انا قرأته أتاني به شيخ
هناك في قضم بالقاف والمعجمة أى صحيفة وهذا يؤيد ما ذكره البلاذرى من
اسلامه
(2/33)
[خبر موت ذي
البجادين المزني]
المدينة ولما كان ببعض الطريق مات ذو البجادين المزنى ليلا قال ابن مسعود
فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في حفرته وهو يقول لابي بكر وعمر ادليا الى
اخاكما فدلياه اليه فلما هيأه لشقه قال اللهم قد امسيت راضيا عنه فارض عنه
قال ابن مسعود حينئذ ياليتني كنت صاحب الحفرة وعن أبي امامة الباهلى رضي
الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل وهو بتبوك فقال يا
محمد اشهد جنازة معاوية بن معاوية المزنى فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم ونزل جبريل عليه السلام في سبعين ألفا من الملائكة فوضع جناحه الايمن
على الجبال فتواضعت ووضع جناحه الايسر على الارض فتواضعت حتى نظر الى مكة
والمدينة فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل والملائكة عليهم
السلام فلما فرغ قال يا جبريل بم بلغ معاوية هذه المنزلة قال بقراءته قل هو
الله أحد قائما وراكبا وماشيا رواه ابن السني والبيهقي ولما نزل (ذو
البجادين) بموحدة مكسورة فجيم خفيفة فدال مهملة تثنية بجاد وهو كساء من
أكسية الاعراب مخطط قال ابن عبد البر اسمه عبد الله بن عبد وقيل ابن سهم عم
عبد الله بن مغفل قال وسمى ذا البجادين لانه حين أراد المسير الى رسول الله
صلى الله عليه وسلم قطعت أمه بجادها وهو كساء شقته باثنتين فاتزر بواحد
وارتدي بالآخر وقد روى حديث ابن اسحق وغيره عن عبد الله بن مسعود (يا ليتني
صاحب هذه الحفرة) . أي ليصيبني بركة دعوته صلى الله عليه وسلم (وعن أبى
امامة) اسمه صدي ابن عجلان (معاوية بن معاوية) اختلفت الآثار في اسم والده
معاوية هذا قاله ابن عبد البر وله في رواية معاوية بن مقرن (المزني) ويقال
الليثى قاله ابن عبد البر (فصلي عليه) زاد ابن عبد البر وخلفه صفان من
الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك وله في أخري ستون ألف ملك (قائما وراكبا
وماشيا) لابن عبد البر في رواية عنه قل هو الله أحد وقراءته لها ذاهبا
وجائيا وقائما وقاعدا وعلى كل حال (رواه ابن السني والبيهقي) وابن عبد البر
في الاستيعاب بروايات بعضها عن أنس وبعضها عن أبى امامة واسم ابن السنى
أحمد بن محمد بن اسحق (تنبيه) قد يوهم كلام المصنف ان معاوية المذكور هو ذو
البجادين وليس كذلك فذو البجادين مات بطريق تبوك ودخل النبي صلى الله عليه
وسلم حفرته كما مر واما معاوية ابن معاوية المزني فانما مات بالمدينة كما
صرحت به رواية ابن عبد البر عن أنس قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بتبوك فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم أرها طلعت بها فيما مضي
فاتاه جبريل فقال له يا جبريل مالي أرى الشمس طلعت بضياء ونور وشعاع لم
أرها طلعت بها فيما مضى قال ذلك ان معاوية الليثي مات اليوم في المدينة
فبعث الله اليه سبعين ألف ملك وذكر تمام الحديث قال وأسانيد هذه الاحاديث
ليست بالقوية ولوانها في الاحكام لم يكن في شيء منها حجة ومعاوية بن معاوية
لا أعرفه بغير ما ذكرت
(2/34)
[خبر مسجد
الضرار وهدمه وإحراقه]
النبى صلى الله عليه وسلم بذي اوان قريبا من المدينة اتاه جبريل بخبر اهل
مسجد الضرار وكانوا اثنى عشر رجلا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك
بن الدخشم ومعن بن عدي وأخاه عويمرا وعامر بن السكن ووحشى بن حرب قاتل حمزة
وقال لهم انطلقوا الى هذا المسجد الظالم اهله فاهدموه وحرقوه فخرجوا سراعا
حتى أتوه وفيه اهله فحرقوه وهدموه وتفرق عنه اهله واتخذ موضعه كناسة تلقى
فيها الجيف وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر رمضان ولما قدمها بدأ
بالمسجد فصلى فيه ركعتين وكانت تلك عادته ثم جلس للناس
[حديث الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك وتوبتهم]
وجاءه المخلفون يعتذرون اليه بالباطل ويحلفون له فقبل منهم ووكل سرائرهم
الى خالقهم وفيهم نزل قوله تعالى يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ
إِلَيْهِمْ الآية وما بعدها حديث الثلاثة الذين خلفوا وهم كعب بن مالك
وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع قال بعض الشارحين اول أسمائهم مكة وآخر
أسماء آبائهم عكة روينا في الصحيحين واللفظ للبخاري عن كعب بن مالك في هذا
الكتاب وفضل قل هو الله أحد لا ينكر وبالله التوفيق (بذى أوان) بهمزة
مفتوحة فواو خفيفة فالف فنون واد بينه وبين المدينة ثلاثة فراسخ من جهة
الشام (أتاه جبريل) بعد ان جاء الذين بنوه فسألوه ان يأتي مسجدهم فدعا
بقميص ليلبسه ويأتيهم فنزل القرآن (بخبر أهل مسجد الضرار) الذين بنوه
ليضاروا به مسجد قبا (وكانوا) أى الذين بنوه (اثني عشر رجلا) وهم كما قال
البغوي وديعة بن ثابت وخذام بن خالد قال البغوي ومن داره أخرج هذا المسجد
وثعلبة بن حاطب وجارية بن عامر وابناه مجمع وزيد ومعتب ابن قشير وعباد بن
حنيف أخو سهل وأبو حبيبة بن الازعر ونبتل بن الحارث وبجاد بن عثمان ورجل
يقال له بحزج (بن الدخشم) تقدم ذكره (ومعن) بفتح الميم وسكون المهملة ثم
نون (وأخاه) لم يذكره البغوي (السكن) بفتح المهملة والكاف آخره نون
(الظالم) بالكسر بدل من هذا (فحرقوه) وكان الذي جاءهم بالنار مالك بن
الدخشم (كناسة) قمامة وزنا ومعنى (تلقى فيها الجيف) جمع جيفة وذلك بامره
صلى الله عليه وسلم (عادته) بالنصب خبر كانت (المخلفون) أي الذين خلفهم
الله تعالى عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم* حديث الثلاثة الذين
خلفوا (كعب بن مالك) بن أبي كعب واسم أبي كعب عمرو بن القين ابن كعب بن
سواد بن عمرو بن كعب بن سلمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم
ابن الخزرج (وهلال بن أمية) ابن عامر بن قيس بن عبد الاعلم بن عامر بن كعب
بن واقف واسم واقف مالك بن امرئ القيس بن مالك بن أوس (ومرارة) بضم الميم
وتخفيف الراء المكررة (ابن الربيع) كما في صحيح البخاري أو ابن ربيعة كما
في صحيح مسلم قال ابن عبد البر يقال بالوجهين (أول أسمائهم مكة) لان الميم
أول اسم مرارة والكاف أول اسم كعب والهاء أول اسم هلال (وآخر أسماء آبائهم
عكة) فالعين آخر اسم الربيع والكاف آخر اسم مالك والهاء آخر اسم أمية
(وروينا في الحصيحين) وسنن أبى داود والترمذي والنسائي (عن) ابن شهاب قال
أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن (كعب بن مالك) ان عبد الله
(2/35)
رضى الله عنه قال لم اتخلف عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها الا غزوة تبوك غير اني كنت تخلفت في غزوة
بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها انما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد
عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام وما احب ان
لي بها مشهد بدر وان كانت بدر اذكر في الناس منها كان من خبرى اني لم اكن
قط اقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما اجتمعت عندي قبله
راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يريد غزوة الاورّى بغيرها حتى كان تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى
الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز وعدوا كثير فجلا
للمسلمين امرهم ليتأهبوا اهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذى يريد والمسلمون مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان قال
كعب فما رجل يريد ان يتغيب الا ظن انه سيخفي له ذلك ما لم ينزل فيه وحي
الله وغزا رسول الله صلى الله ابن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين
عمي زاد مسلم وأهل السنن وكان أعلم قومه وأوعاهم لاحاديث أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم (ليلة العقبة) التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم
الانصار فيها على الاسلام وان يقوّوه وينصروه قال النووي وهي العقبة التى
في طرف منى التي يضاف اليها جمرة العقبة وكانت بيعتها مرتين في سنتين كانوا
في الاولى اثنى عشر وفي الثانية سبعين كما مر (حين تواثقنا على الاسلام) أي
تبايعنا عليه وتعاهدنا وأخذ بعضنا على بعض الميثاق (وما أحب ان لى بها)
الضمير لليلة العقبة (مشهد بدر) بالنصب اسم ان أي ما أحب اني شهدت بدرا ولم
أشهدها قال ذلك لما ظهر له بحسب نظره ان ليلة العقبة كانت أفضل لانها وقعت
قبل الهجرة والمسلمون قليل والاسلام ضعيف (وان كانت بدر أذكر) بالنصب أشهر
عند (الناس) بالفضيلة (الاورى بغيرها) أي أوهم غيرها زاد أبو داود وكان
يقول الحرب خدعة (في حر شديد) يخاف من الهلاك (ومفاوز) جمع مفازة بفتح
الميم. قال النووي قيل انه من قولهم فوز الرجل اذا هلك وقيل هو على سبيل
التفاؤل بفوزه ونجاته منها كما يقال للديغ سليم (وعدوا) في بعض نسخ الصحيح
وعددا بتكرير الدال (فجلا) بتشديد اللام وتخفيفها أي أوضح وبين وعرفهم ذلك
على وجهه بلا تورية (أهبة) بهمزة مضمومة فهاء ساكنة كل ما يحتاج اليه في
السفر والحرب (غزوهم) بالمعجمتين وللكشميهني في صحيح البخاري عدوهم
بالمهملتين وتشديد الواو (بوجهه) ولمسلم وغيره بوجههم أي مقصدهم (كتاب
حافظ) روي في صحيح البخاري بتنوينهما وفي مسلم بالاضافة قال ابن شهاب
(يريد) كعب بالكتاب الحافظ (الديوان) وهو بكسر المهملة على المشهور وحكى
فتحها فارسي معرب وقيل عربي كما مر أول الكتاب (فما رجل) لمسلم فقل رجل (ان
يتغيب) أي يغيب (الا ظن انه سيخفي) ووقع في مسلم حذف الا والصواب
(2/36)
عليه وسلم تلك الغزة حين طابت الثمار
والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت اغدو لكي
اتجهز معهم فأرجع ولم اقض شيأ فأقول في نفسى انا قادر عليه فلم يزل يتمادى
بى حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيأ فقلت أتجهز بعده بيوم او يومين ثم
ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لا تجهز فرجعت ولم أقض شيأ فلم يزل بى حتى
أسرعوا وتفارط الغزو وهمت ان ارتحل فأدركهم وليتنى فعلت فلم يقدر لي ذلك
فكنت اذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم
أحزننى أني لا أرى الا رجلا مغموصا عليه النفاق أو رجلا ممن عذر الله من
الضعفاء ولم يذكرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو
جالس في القوم بتبوك ما فعل كعب فقال رجل من بني سليم يا رسول الله حبسه
برداه والنظر في عطفيه فقال معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما
علمنا عليه الا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب بن مالك
فلما بلغني انه توجه قافلا حضرنى همى وجعلت أتذكر الكذب وأقول اخرج به من
سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل ان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد أظل قادما راح عنى الباطل وعرفت انى لم أخرج منه أبدا
بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله اثباتها (حين طابت الثمار) أينعت
ونضجت وآن وقت أكلها (و) طابت (الظلال) زاد مسلم فأنا اليها أصعر بالاهمال
أي أميل والصعر الميل (من جهازي) بفتح الجيم وكسرها أي أهبة سفري (حتى
أسرعوا) باهمال السين وصحف الكشميهني في صحيح البخاري فرواها بالاعجام مع
حذف الالف (وتفارط) بفاء وراء وطاء مهملة فات وسبق الغزو (مغموصا) باعجام
الغين واهمال الصاد أي مطعونا عليه في دينه ومتهما بالنفاق (تبوك) بالصرف
في أكثر الروايات. قال النووي وكانه صرفها لارادة الموضع دون البقعة (فقال
رجل من بني سلمة) قال الواقدى في المغازى اسمه عبد الله بن أنيس (حبسه
برداه والنظر في عطفيه) أى جانبيه اشارة الى اعجابه بنفسه ولباسه (فسكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم) فبينما هو على ذلك رأي رجلا مبيضا يزول به
السراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة فاذا هو أبو خيمثة
الانصارى وهو الذى تصدق بصاع التمر حين أمره المنافقون انتهت الزيادة
والمبيض لابس الابيض واسم أبي خيثمة هذا عبد الله بن خيثمة وقيل مالك بن
قيس ولهم أبو خيثمة صحابى آخر اسمه عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي واللمز
العيب (حضرني همي) ولمسلم بثي بالموحدة فالمثلثة المشددة والبث أشد الحزن
(قد أظل) بالمعجمة أى أقبل ودنا كانه ألقى على ظله (زاح عني الباطل) أى ذهب
ويقال انزاح أيضا والمصدر زيوحا قاله الاصمعي وزيحانا قاله الكسائي (فأجمعت
صدقه) أى عزمت عليه وجزمت
(2/37)
صلى الله عليه وسلم قادما وكان اذا قدم من
سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون
فطفقوا يعتذرون اليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم الى الله تعالى
فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال تعال فجئت أمشى حتى جلست بين
يديه فقال لي ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك فقلت بلى والله يا رسول الله
لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت ان سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت
جدلا ولكنى والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني ليوشكن الله
ان يسخطك على ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه انى لارجو فيه عفو الله لا
والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط اقوى ولا ايسر مني حين تخلفت عنك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما هذا فقد صدق فقم حتى يقضى الله فيك
فقمت وثار رجال من بنى سلمة فاتبعونى فقالوا لي والله ما علمنا عليك كنت
أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت ان لا تكون اعتذرت الى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بما اعتذر اليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله
صلى الله عليه وسلم لك فو الله ما زالوا يؤنبوننى حتى اردت أن ارجع فأكذب
نفسى ثم قلت لهم هل بقى معى أحد قالوا رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل
ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العمرى وهلال بن أمية الواقفي
فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لى ونهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا ايها الثلاثة من بين من تخلف عنه
فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسى الارض فما هى (لقد أعطيت
جدلا) أى فصاحة وقوة كلام وبراعة بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب الي اذا أردت
(المغضب) بفتح المعجمة أى الغضبان (قد ابتعت) أى اشتريت (ظهرك) أى حمولتك
(ليوشكن) بكسر المعجمة أى ليسر عن (تجد علي) بكسر الجيم أى تغضب (كافيك
ذنبك) بالنصب والفاعل استغفار (يؤنبونني) بالهمزة فالنون فالموحدة أي
يلوموننى أشد اللوم (العمرى) بفتح المهملة واسكان الميم نسبة الى بني عمرو
ابن عوف هذا هو الصواب ووقع في مسلم العامري وهو غلط (الواقفي) بقاف ثم فاء
نسبة الى واقف بن امريء القيس الذى مر ذكره في نسب هلال (فيهما) لي (أسوة)
اقتداء (أيها الثلاثة) قال عياض بالرفع موضعه نصب على الاختصاص (تنكرت في
نفسي الارض) أى تغير على كل شيء حتى الارض فانها توحشت
(2/38)
التي اعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما
صاحباى فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان واما انا فكنت اشب القوم وأجلدهم
وكنت اخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين واطوف في الاسواق ولا يكلمني احد وآتى
رسول الله وأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة واقول في نفسى هل حرك شفتيه
برد السلام ام لا ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فاذا اقبلت الى صلاتى
اقبل الى واذا التفت نحوه اعرض عنى حتى اذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت
حتى تسورت جدار حائط ابي قتادة وهو ابن عمى وأحب الناس الى فسلمت عليه فو
الله مارد على السلام فقلت يا أبا قتادة انشدك الله هل تعلمنى احب الله
ورسوله فسكت فعدت له فنشدته فقال الله ورسوله اعلم ففاضت عيناى وتوليت حتى
تسورت الجدار قال فبينا انا أمشى بسوق المدينة اذا نبطى من انباط اهل الشام
ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس
يشيرون له حتى اذا جاءنى دفع الى كتابا من ملك غسان فاذا فيه أما بعد فانه
قد بلغني ان صاحبك جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنانواسك
فقلت لما قرأتها وهذا ايضا من البلاء فتيممت به التنور فسجرته بها حتى اذا
مضت اربعون ليلة من الخمسين اذا برسول لرسول الله صلى الله عليه وسلم
يأتيني ويقول ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك ان تعتزل امرأتك فقلت
اطلقها أم ماذا افعل فقال لابل اعتزلها ولا تقربنها علي وصارت كاني لا
أعرفها قبل ذلك (فاستكانا) أي خضعا (أشب القوم) أي أصغرهم سنا (وأجلدهم) أي
أقواهم (فأسارقه) بالفاء والمهملة أي انظر اليه نظرا خفيا (جفوة الناس)
بفتح الجيم وضمها وسكون الفاء أي اعراضهم (أنشدك) بالهمزة وضم المعجمة أي
أسألك كما مر (نبطى) بفتح النون والموحدة وهو بالمعجمة الفلاح (ملك غسان)
باعجام العين واهمال السين وتشديدها قيل انه جبلة بن الايهم وجزم به
السيوطي وقال ابن حجر هو الحرث بن أبي شمر (ولا مضيعة) بكسر المعجمة مع
سكون التحتية بوزن قرينة وبسكون المعجمة مع فتح التحتية بوزن علقمة لغتان
أى في موضع وحال يضاع فيه حقك (نواسك) مجزوم بجواب الامر وفي بعض نسخ مسلم
نواسيك بلا جزم. قال النووى وهو صحيح أى ونحن نواسيك وقطعه عن جواب الامر
والمواساة بالمهملة المشاركة أى الحق بنا حتى تشاركنا فيما عندنا فنكون فيه
سواء (فتيممت) أي قصدت ولمسلم فتياممت وهي لغة (فسجرته) بالمهملة فالجيم أي
أوقدته (بها) أنث الكتاب على معنى الصحيفة ولمسلم فسجرتها أى أحرقتها
(أربعون من الخمسين) زاد مسلم واستلبث الوحي (اذا رسول) بالتنوين (لرسول
الله) باللام وفي رواية رسول بالاضافة وهذا الرسول خزيمة بن ثابت بينه
(2/39)
وارسل الى صاحبى مثل ذلك فقلت لامرأتى
الحقى بأهلك فتكونى عندهم حتى يقضي الله في هذا الامر قال كعب فجاءت امرأة
هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لرسول الله ان هلال بن
أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن اخدمه قال لا ولكن لا يقربنك قالت
انه والله ما به حركة الى شيء والله ما زال يبكى مذ كان من أمره ما كان الى
يومه هذا فقال لى بعض أهلى لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في
امرأتك كما اذن لامرأة هلال ابن أمية ان تخدمه فقلت والله لا استأذنت فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم اذا استأذنته فيها وانا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليالى حتى كملت لنا
خمسون ليلة وانا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر
الله قد ضاقت على نفسى وضاقت على الارض بما رحبت سمعت صارخا أو في على جبل
سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك ابشر قال فخررت ساجدا لله وعرفت ان قد جاء
الفرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتوبة الله علينا حين صلى
صلاة الصبح فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل الى فرسا
وسعي ساع من أسلم فأوفي على الجبل وكان الصوت اسرع من الفرس فلما جاءني
الذى سمعت صوته يبشرنى نزعت له ثوبي فكسوته اياهما ببشراه والله ما أملك
غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت الى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فتلقانى الناس فوجا فوجا يهنؤنني بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك
قال كعب حتى دخلت المسجد فاذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله
الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنأنى والله ما قام الي
رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة الواقدى في روايته (الى صاحبي)
بالتثنية (فقلت لامرأتي) قال ابن حجر اسمها خيرة (امرأة هلال) اسمها خولة
بنت عاصم قاله ابن حجر وقيل اسمها عمرة بنت عمرو بن صخر الانصارية ذكرها
ابن عبد البر وغيره (وأنا رجل شاب) أى أقدر على خدمة نفسي وأخاف عليها من
حدة الشباب ان أقع على امرأتي فأقع في محذور آخر (فكملت) مثلت الميم (بما
رحبت) أى ضاقت علي الارض مع انها رحبة أى واسعة ومن ضاقت عليه الارض ماذا
يسعه (سمعت صارخا) قال في التوشيح هو أبو بكر الصديق (أوفي) صعد وارتفع (يا
كعب بن مالك) بنصب ابن وفي كعب الضم والنصب كما مر له نظائر (فخررت) بكسر
الراء أى وقعت من أعلى لاسفل (وآذن) بالمد والقصر أى أعلم (وركض رجل) قال
في التوشيح هو الزبير بن العوام وقال ابن حجر يحتمل أن يكون أبا قتادة لانه
كان فارس النبي صلى الله عليه وسلم (وسعي ساع) قال ابن حجر هو حمزة بن عمرو
الاسلمي (واستعرت ثوبين) قال الواقدى من أبي قتادة (فوجا) جماعة (ليهنك)
بكسر النون وأوله تحتية أو فوقية مفتوحة (يهرول) يسعى بين المشي والعدو
(وهنأني) قال ابن النحوي بالهمز (ولا أنساها لطلحة)
(2/40)
قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور
أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قال أمن عندك يا رسول الله أم من عند
الله قال لا بل من عند الله وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذا سر
استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت
يا رسول الله ان من توبتى أن انخلع من مالى صدقة الى الله والى رسوله قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فاني
أمسك سهمى الذى بخيبر فقلت يا رسول الله ان الله إنما نجاني بالصدق وان من
توبتى ألا أحدث الا صدقا ما بقيت فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه
الله في صدق الحديث احسن مما أبلانى وما تعمدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى
الله عليه وسلم الى يومي هذا كذبا واني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت
وأنزل الله على رسوله لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ
ولمسلم وكان كعب لا ينساها لطلحة (أبشر بخير يوم) أراد بخير ساعة فعبر
باليوم لانه محل البشارة (أمن عندك يا رسول الله) أي بغير وحي بل بدلائل
عرفت بها (ذلك منه) للكشميهني فيه أى في وجهه (انخلع) باعجام الخاء واهمال
العين أي أخرج منه وأتصدق به (من مالي) أراد من الارض والعقار فلا ينافي
قوله فيما مر والله ما أملك غيرهما يومئذ لانه أراد من الثياب ونحوها مما
يخلع ويليق بالتبشير (صدقة) حال أو مصدر أو مفعول على تضمين انخلع معني
اتصدق (أبلاه الله) أي أنعم عليه والبلاء الا بلاء يطلق على الشر ولا يقال
في الخير الا مقيدا فمن ثم قال أحسن مما أبلاني (كذبا) ولمسلم كذبة بسكون
المعجمة وكسرها (وأنزل الله على رسوله) وهو في بيت أم سلمة حين بقي الثلث
الاخير من الليل كما نقله البغوي عن اسحاق ابن راشد عن الزهري (لَقَدْ تابَ
اللَّهُ) أي تجاوز وصفح (عَلَى النَّبِيِّ) انما افتتح الكلام به لانه كان
سبب توبتهم (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) الضمير
لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فِي ساعَةِ) أي وقت (الْعُسْرَةِ) أي الشدة
(مِنْ بَعْدِ) متعلق باتبعوه (ما كادَ) أى قرب (يَزِيغُ) بالتحتية لحمزة
وحفص وبالفوقية لغيرهم أي يميل الى التخلف والانصراف (قُلُوبُ فَرِيقٍ)
جماعة (مِنْهُمْ) هموا بالتخلف ثم نفروا (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) قبل
توبتهم ومن قبل توبته لم يعذبه أبدا قاله ابن عباس (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ
رَحِيمٌ وَ) تاب أيضا (عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أرجيء أمرهم
عن توبة أبي لبابة وأصحابه (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما
رَحُبَتْ) أى برحبها (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) هما وغما
(وَظَنُّوا) أي أيقنوا (أَنْ لا مَلْجَأَ) أي لا مفزع (مِنَ اللَّهِ إِلَّا
إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) ليستقيموا على التوبة ويدوموا
عليها (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ) القابل توبة عباده (الرَّحِيمُ)
بهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) في اتيان أوامره
واجتناب نواهيه
(2/41)
[فصل في ذكر الفوائد التي تضمنت حديث كعب
أحد الثلاثة الذين تخلّفوا عن تبوك]
الى قوله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فو الله ما أنعم الله علىّ من نعمة
قط بعد إذ هداني للاسلام أعظم في نفسى من صدقي رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن لا اكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فان الله قال للذين كذبوا
حين انزل الوحى شر ما قال لأحد فقال الله عز وجل سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ
لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ الى قوله فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى
عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
(فصل) واعلم ان في حديث كعب هذا فوائد منها استحباب ردغيبة المسلم كما فعل
معاذ رضى الله عنه ومنها ملازمة الصدق وان شق فان عاقبته الى خير ومنها
استحباب ركعتين في المسجد عند القدوم من السفر قبل كل شيء ومنها انه يستحب
للقادم من سفر اذا كان مقصودا ان يجلس لمن يقصده في موضع بارز كالمسجد
ونحوه ومنها جريان أحكام الناس على الظاهر والله يتولى السرائر ومنها هجران
اهل البدع والمعاصى الظاهرة وترك السلام عليهم تحقيرا لهم وزجرا ومنها
استحباب بكائه على نفسه اذا بدرت منه بادرة معصية وحق له ان يبكي ومنها
جواز احراق ورقة فيها ذكر الله تعالى لمصلحة كما فعل عثمان رضى الله عنه
ومنها ان كنايات الطلاق كقوله الحقى بأهلك لا يقع الا بالنية (وَكُونُوا
مَعَ) محمد وأصحابه (الصَّادِقِينَ) في ايمانهم الباذلين أنفسهم وأموالهم
في نصر دين الاسلام (أن لا أكون كذبته) هكذا هو في جميع نسخ مسلم وأكثر
روايات البخاري ولا زائدة على حد ما منعك الا تسجد (فاهلك) بكسر اللام على
الفصيح المشهور (سيحلفون بالله لكم) لانهم لا يعظمونه لنفاقهم (اذا
انقلبتم) أى رجعتم (اليهم) من غزوتكم (لتعرضوا) لتصفحوا (عنهم) فلا
تلومونهم (فاعرضوا عنهم) أى فدعوهم ونفاقهم (انهم رجس) نجس أى عملهم قبيح
(ومأواهم) في الآخرة (جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) من المعاصي والنفاق
(يحلفون لكم لترضوا عنهم فان ترضوا عنهم فان الله لا يرضي عن القوم
الفاسقين) الخارجين عن أمر الله بالنفاق والآيتان نزلتا في الجد بن قيس
ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين قاله ابن عباس أو
في عبد الله بن أبىّ قاله مقاتل.
(فصل) عقده المصنف لد فوائد من حديث كعب (منها استحباب رد غيبة المسلم) بل
وجوبها بالقول ما لم يخف منه فتنة والا وجب مفارقة ذلك المجلس (ان يجلس لمن
يقصده) كما فعل صلى الله عليه وسلم (ومنها استحباب ركعتين) وكونهما (في
المسجد عند القدوم) من السفر ويحصلان بما تحصل به التحية (ومنها هجران أهل
البدع الى آخره) ولا تتقيد بثلاثة أيام (ومنها جواز احراق ورقة) ونحوها
(فيها ذكر الله) صيانة لها لا اهانة ومحل الاخذ (كما فعل عثمان) حيث احرق
المصاحف بعد ان استنسخ منها نسخا وجهها الى الآفاق خوفا من التباس القرآن
والاختلاف فيه (لا يقع الابالنية) أى نية الطلاق مقارنة لاول اللفظ وان
عزبت قبل آخره كما هو نص المختصر ورجحه كثيرون ولا يكفي اقترانها بآخر
اللفظ دون أوله خلافا لما في أصل الروضة ولا يشترط مفارنتها لجميع اللفظ
خلافا للمنهاج كالمحرر
(2/42)
ومنها جواز خدمة المرأة زوجها من غير الزام
ووجوب ومنها استحباب سجود الشكر عند حصول نعمة أو اندفاع نقمة ظاهرتين
والتصدق عند ذلك ومنها استحباب التبشير والتهنئة واكرام المبشرين بكسوة
ونحوها ومنها استحباب القيام للوارد اكراما له اذا كان من أهل الفضل بأى
نوع كان وجواز سرور المقوم له بذلك كما سر كعب بقيام طلحة رضى الله عنهما
وليس بمعارض بحديث من سره ان يتمثل له الرجال قياما فليتبوء مقعده من النار
لأن هذا الوعيد للمتكبرين ومن يغضب ان لم يقم له وقد كان صلى الله عليه
وسلم يقوم لفاطمة سرورا بها وتقوم هي له كرامة وكذلك كل قيام أثمر الحب في
الله تعالى والسرور لأخيه بنعمة الله والبر بمن يتوجه بره والأعمال بالنيات
والله سبحانه وتعالى أعلم*
[خبر نزول آية الحجاب]
وفي هذا العام وقيل فيما قبل ثم على المعتمد المراد أول لفظة الكناية كما
صرح به الماوردي والروياني والبندنيجي خلافا لما صرح به الرافعى تبعا لابن
الصباغ وصاحب البيان من ان المراد الهمزة من أنت مثلا (و) منها (جواز خدمة
المرأة زوجها) كما فعلت امرأة هلال (ومنها استحباب سجود الشكر) لله تعالى
(عند حصول نعمة) دينية نعمة كعب وصاحبيه أو دنيوية كحدوث ولد أو جاه أو مال
أو قدوم غائب أو نصر على عدو (أو اندفاع نقمة) كذلك وكنجاة من نحو غرق وبرء
من مرض ولا يسن سجود الشكر لاستمرارها لتأديته الي استغراق العمر في السجود
وقيد النووي في المجموع نقلا عن الاصحاب النعمة والنقمة بكونهما ظاهرتين
ليخرج الباطنتين كالمعرفة وستر العورات وقيدهما في الروضة والمحرر بقوله
مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أى يدري ونقل ذلك في المهمات واطلاق الاصحاب
يقتضى عدم الفرق بين أن يتسبب فيه أم لا ومن ثم لم يذكره في المجموع (و)
منها (التصدق عند ذلك) مع سجود الشكر (والتهنئة) بالهمز وتركه (من سره ان
يتمثل له الرجال الى آخره) رواه أحمد والترمذى عن معاوية (ان لم يقم له)
مبني للمفعول (أثمر) أى ولد (والاعمال) كلها (بالنيات) قال صلى الله عليه
وسلم انما الاعمال بالنيات وانما لكل امريء ما نوي فمن كانت هجرته الي الله
ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة
ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائى
وابن ماجه عن عمر بن الخطاب ورواه أبو نعيم في الحلية والدار قطنى في غرائب
مالك عن أبي سعيد ورواه ابن عساكر في اماليه عن أنس ورواه العطار في جزء من
تخريجه عن أبي هريرة قال العلماء وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الاسلام
وعليه تدور أكثر الاحكام وأفاد بقوله وانما لكل امريء ما نوي اشتراط تعيين
العمل بالنية قاله الخطابى وقوله أو امرأة ينكحها قيل انه ورد على سبب وهو
ان رجلا هاجر من مكة الى المدينة لا يريد بذلك فضل الهجرة بل ليتزوج امرأة
اسمها أم قيس فمن ثم خص ذكر المرأة في الحديث ذكر ذلك ابن دقيق العيد
وغيره. قال في التوشيح وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد بن منصور في سننه بسند
على شرط
(2/43)
الحجاب اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
نساءه فكان من خبر ذلك ما رويناه في الصحيحين واللفظ للبخاري عن ابن عباس
رضى الله عنهما قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من
أزواج النبى صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى فيهما إِنْ تَتُوبا
إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما حتى حج وحججت معه وعدل وعدلت معه
باداوة فتبرز ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ فقلت يا امير المؤمنين من
المرأتان من ازواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى فيهما
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما فقال وا عجبا لك
يابن عباس هما عائشة وحفصة ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال كنت انا وجار لي
من الأنصار الشيخين عن ابن مسعود قال من هاجر يبتغي شيئا فانما له ذلك هاجر
رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس وجاء في الشق
الاول بذكر الله وبرسوله ظاهرين لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم
شأنهما وجاء في الشق الثاني بالضمير اشعارا بالحث عن الاعراض عن ذكر المرأة
والدنيا (تنبيه) بقى من فوائد هذا الحديث اباحة الغنيمة لقوله يريدون عير
قريش وفضيلة أهل بدر والعقبة وجواز الحلف من غير استحلاف في غير الدعوى عند
القاضى وندب التورية في الغزو والتأسف على الفائت من الخير لقول كعب
فياليتنى فعلت وعدم بطلان الصلاة بمسارقة النظر والالتفات فيها وان السلام
يسمى كلاما حتى يحنث به من حلف لا يكلم شخصا فسلم عليه ابتداء وجوابا ووجوب
إيثار طاعة الله ورسوله على مودة الصديق والقريب وغيرهما كما فعل أبو قتادة
وان الكلام عند شخص حلف لا يكلمه لا يكون تكليما ان قصد غيره واخفاء ما
يخاف من اظهاره مفسدة واتلافه لتحريق كعب الكتاب الذى جاءه واستحباب
الكناية في ألفاظ الاستمتاع بالنساء بقوله يأمرك ان تعتزل امرأتك ومجانبة
ما يخاف منه الوقوع في منهى عنه وجواز تخصيص اليمين بالنية وجواز العادية
واستعارة الثياب واستحباب اجتماع الناس عند الامام والكثير في الامور
المهمة واستحباب المصافحة عند التلاقي واستحباب سرور الامام وكبير القوم
بما يسر أصحابه وترك التصدق بجميع المال لمن لا يصبر على الاضافة واستحباب
نهى من أراد فعل ذلك والاشارة عليه ببعضه والمحافظة على ما كان سببا للتوبة
من الخير كما لازم كعب الصدق ذكر معنى ذلك النووي* اعتزال رسول الله صلى
الله عليه وسلم نساءه (في الصحيحين) وغيرهما (ان تتوبا الى الله) من
التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم (فقد صغت) زاغت ومالت (قلوبكما) فيه
جمع الاثنين (فسكبت على يديه) قال النووي فيه جواز الاستعانة في الوضوء
لكنها لغير عذر خلاف الاولى (واعجبا لك يا ابن عباس) تعجب منه كيف خفي عليه
هذا مع شهرته بعلم التفسير وحرصه عليه ومداخلته كبار الصحابة وأمهات
المؤمنين قال ابن حجر ويجوز في عجبا التنوين وتركه بالمنون اسم فعل بمعني
اعجب وغيره مصدر أضيف الى الياء ثم قلبت ألفا قاله في التوشيح (وجار لى) هو
أوس بن خولى أو عتبان بن مالك قولان أرجحهما الاول فقد
(2/44)
في بني امية بن زيد وهم من عوالي المدينة
وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وانزل يوما
فاذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره فاذا نزل فعل
مثل ذلك وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار اذا قوم تغلبهم
نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذن من آداب نساء الأنصار فصخبت على امرأتي فراجعتنى
فانكرت ان تراجعني فقالت ولم تنكر ان اراجعك فو الله ان ازواج النبي صلى
الله عليه وسلم ليراجعنه وان احداهن لتهجره اليوم حتى الليل فافزعني ذلك
وقلت قد خاب من فعل ذلك منهن ثم جمعت علىّ ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت
لها أي حفصة اتغاضب احداكن النبي صلى الله عليه وسلم حتى الليل قالت نعم
قلت قد خبت وخسرت افتأمنين ان يغضب الله تعالى لغضب رسوله صلى الله عليه
وسلم فتهلكي لا ابا لك لا تستكثري النبى صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في
شيء ولا تهجريه وسلينى ما بدا لك ولا يغرنك ان كانت جارتك أوضأ واحب الى
النبي صلى الله عليه وسلم يريد عائشة وكنا نتحدث ان غسان تنعل الخيل لغزونا
فنزل صاحبى يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابى اخرج ابن سعد في طبقات النساء من
حديث عائشة كان عمر مؤاخيا لاوس بن خولى لا يسمع شيأ الاحدثه ولا يسمع عمر
شيأ الاحدثه فلقيه عمر يوما فقال هل كان من خبر فقال أوس نعم عظيم قال عمر
لعل الحارث ابن أبي شمر سار الينا قال أوس أعظم من ذلك فذكر الحديث (في بني
امية بن زيد) قبيلة من الانصار (وكنا نتناوب) فيه ما كانوا عليه من حرصهم
على طلب العلم وتناوبهم (واذا نزل فعل مثل ذلك) فيه قبول خبر الواحد وفيه
أخذ العلم من المفضول (من أدب) بالدال المهملة أي من سيرة (نساء الانصار)
وطريقتهن في البخارى في المظالم ارب أى من عقلهن (فصخبت) بالصاد للكشميهني
وبالسين لغيره والصخب والسخب الزجر من الغضب (على امرأتي) اسمها زينب بنت
مظعون أم حفصة وعبد الله (لتهجره اليوم) بالنصب (حتى الليل) به وبالجر
(فافزعنى ذلك) بفتح الكاف (من فعل ذلك) بكسرها لانه يخاطب امرأته (لا
تستكثري) أي تطلبي الكثير (ان) بفتح الهمزة (كانت جارتك) فيه الخطاب
بالالفاظ الجميلة قال النووي والعرب تستعمل هذا لما في لفظ الضرة من
الكراهة (أوضأ) بالهمز من الوضاءة وهي الحسن ولمسلم أوسم والوسامة الجمال
(ان غسان) الاشهر ترك صرفه والمراد ملكهم وهو جبلة بن الايهم كما أخرجه
الطبراني من حديث ابن عباس ولا ينافيه ما مر من حديث عائشة انه الحارث بن
أبى شمر لانه كان الملك الاعظم وجهز جبلة اليهم (تنعل) بفتح أوله من نعل
وبضمه من انعل واقتصر النووى على الثاني (الخيل) اسم جمع لا واحد له من
لفظه وللبخاري في المظالم ينعل النعال قال في التوشيح أى يستعملها ويحتمل
كونه
(2/45)
ضربا شديدا وقال أنائم هو ففزعت فخرجت اليه
وقال حدث أمر عظيم قلت ما هو أجاءت غسان قال لا بل أعظم منه وأطول طلق رسول
الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك
أن يكون فجمعت علىّ ثيابى فصليت صلاة الفجر مع النبى صلى الله عليه وسلم
فدخل مشربة له فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فاذا هي تبكى قلت ما يبكيك أو لم
أكن حذرتك أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لا أدرى هو ذا في
المشربة فخرجت فجئت المنبر فاذا حوله رهط يبكى بعضهم فجلست معهم قليلا ثم
غلبنى ما أجد فجئت المشربة التى هو فيها فقلت لغلام له أسود استأذن لى فدخل
فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج فقال ذكرتك له فصمت فانصرفت حتى جلست
مع الرهط الذين عند المنبر ثم غلبني ما أجد فجئت فذكر مثله فجلست مع الرهط
الذين عند المنبر ثم غلبنى ما أجد فجئت الغلام فقلت استأذن لعمر فذكر مثله
فلما وليت منصرفا فاذا الغلام يدعونى قال أذن لك رسول الله صلى الله عليه
وسلم فدخلت عليه فاذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر
الرمال بجنبه متكئ على وسادة من أدم حشوها ليف فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم
طلقت نساءك فرفع بصره الى فقال لا فقلت الله أكبر ثم قلت وأنا قائم أستانس
يا رسول الله لو رأيتنى وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمن على قوم
تغلبهم نساؤهم فذكره فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قلت لو رأيتنى
ودخلت على بموحدة ومعجمة بقرينة ذكر الخيل هنا (نائم) أي هنا (هو) يريد عمر
(أجاءت غسان) ولمسلم أخا الغساني (بل أعظم) ولمسلم أشد (من ذلك) قال النووى
فيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من الاهتمام باحوال رسول الله صلى
الله عليه وسلم والقلق التام بقلقه أو بغضبه (خابت حفصة وخسرت) ولمسلم رغم
أنف حفصة (فجمعت علىّ ثيابي) فيه استحباب التجمل للقاء الكبار قاله النووي
(مشربة) بفتح الميم وسكون المعجمة وضم الراء وفتحها والجمع مشارب ومشربات
فيه انه لا بأس باتخاذها ولا ينافي التقلل من الدنيا والزهد فيها (فقلت
لغلام اسود) اسمه وباح بفتح الراء وتخفيف الموحدة كما صرحت به رواية في
مسلم (استأذن لى الى آخره) فيه استحباب الاستئذان وتكريره ثلاثا (ومال
حصير) بكسر الراء وقد تضم نسج الحصير وضلوعه المتداخلة بمنزلة الخبوط في
الثوب (قد أثر الرمال بجنبه) فيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهد
في الدنيا والتقلل منها وعدم الميل الى فاخر الملبوسات والمفروشات (وسادة)
مخدة (من أدم) جلد (ليف) من النخل (الله أكبر) فيه التكبير عند السرور
(استأنس) جملة خبرية حالية وحوز القرطبى ان تكون استفهامية استئذانا لباقى
الحديث والانبساط
(2/46)
[فصل في ذكر
الفوائد التي تضمنت خبر الحجاب]
حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هى أوضأ منك وأحب الى النبي صلى الله
عليه وسلم يريد عائشة فتبسم أخرى فجلست حين رأيته تبسم ثم رفعت بصرى في
بيته فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة فقلت أدع الله
فليوسع على أمتك فان فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون
الله وكان متكئا فقال أو في هذا أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلوا طيباتهم
في الحياة الدنيا فقلت يا رسول الله استغفر لى فاعتزل النبي صلى الله عليه
وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة الى عائشة وكان قد قال ما أنا بداخل
عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله فلما مضت تسع وعشرون دخل
على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة انك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وانا
أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم الشهر
تسع وعشرون وكان ذلك الشهر تسع وعشرون قالت عائشة فانزلت آية التخيير فبدأ
بى أول امرأة فقال انى ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلى حتى تستأمرى
أبويك قالت قد أعلم أن أبوى لم يكونا يأمراني بفراقك ثم قال ان الله قال يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الى قوله عَظِيماً قلت افي هذا
استأمر ابوىّ فاني اريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم خير نساءه فقلن مثل
ما قالت عائشة (فصل) في هذا الحديث من الفوائد بيان الآية التى عاتبه بها
ربه (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تتغى مرضاة أزواجك والله غفور
رحيم) فقد اختلف العلماء في الذى حرمه على نفسه وعوتب على (فتبسم أخرى)
بتشديد السين المهملة وللكشميهني في البخاري تبسمة (غير أهبة ثلاثة)
وللكشميهني ثلاثة أهب وهي بفتحتين وضمتين جمع اهاب على غير قياس وهو الجلد
قبل الدبغ قاله الا كثرون وقيل الجلد مطلقا (فان فارس والروم) ولمسلم فان
كسرى وقيصر (أو في هذا أنت يا ابن الخطاب) استفهام انكار (أولئك قوم عجلوا
طيباتهم) ولمسلم في رواية عجلت لهم طيباتهم وله في أخرى أما ترضى ان يكون
لهما وفي بعض النسخ لهم الدنيا ولك الآخرة وفي رواية ولنا وكله صحيح قال
عياض هذا مما يحتج به من تفضيل الفقر على الغنى لما في مفهومه ان بمقدار ما
يتعجل من طيبات الدنيا يفوته في الآخرة ما كان مدخرا له لو لم يستعمله قال
وقد تأوله الآخرون بان المراد ان حظ الكفار هو ما نالوه من نعيم الدنيا
ولاحظ لهم في الآخرة والله أعلم (استغفر لى) أي من مقالتى هذه وفيه طلب
الاستغفار من أهل الفضل والصلاح (من أجل ذلك الحديث) وهو تحريم مارية أو
العسل (موجدته) أي غضبه (فبدأبها) فيه فضيلة لعائشة رضى الله عنها (الشهر)
أى هذا الشهر (تسع وعشرون) وللنسائى عن أبي هريرة الشهر يكون تسعا وعشرين
ويكون ثلاثين (آية التخيير يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) الآية وسيأتي ان وجوب
التخيير من خصائصه
(2/47)
تحريمه كما اختلف في سبب حلفه وكلّ ذكر ما
عنده من الرواية وأصحها ما ثبت في الصحيحين من تظاهر عائشة وحفصة غيرة
منهما عليه صلى الله عليه وسلم أن شرب عند زينب ابنة جحش عسلا ومكث عندها
فتواطأت عائشة وحفصة على أن أيتهما دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير انى أجد
منك ريح مغافير وهو شيء تشبه رائحته رائحة الخمر فدخل على حفصة فقالت له
ذلك فقال صلى الله عليه وسلم لا ولكنى كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ولن
أعود له وقد حلفت لا تخبرى بذلك أحدا وفي غير الصحيحين انه صلى الله عليه
وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت حفصة بذلك فقال لها النبى صلى الله
عليه وسلم اكتمى علىّ وقد حرمت مارية على نفسى فافشت حفصة الى عائشة فغضبت
عائشة حتى حلف النبى صلى الله عليه وسلم انه لا يقربها شهرا وقيل سبب يمينه
بحكمهن وأصحها الأول ثم الثانى وعليه أكثر المفسرين لكنه لم يخرج في الصحيح
وسنده مرسل واختلفوا أيضا في الحديث الذى أسره اليها فقيل ما ذكر وقيل
اخبارها بأن أباها وأبا بكر يليان الأمر من بعده صلى الله عليه وسلم
[فصل في ذكر الأحكام التي تترتب على يمين اعتزال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم نساءه]
(فصل) في الأحكام التى تترتب على هذه اليمين اذا حرم الانسان على نفسه
طعاما أو ما هو من صلى الله عليه وسلم وكان سبب التخيير سؤالهن له النفقة
كما في صحيح مسلم وغيره (وأصحها ما ثبت في الصحيحين) وسنن أبي داود
والنسائي عن عائشة (تظاهر عائشة وحفصة) كما في رواية أو عائشة وسودة كما في
أخرى (غيرة) بفتح المعجمة (ان) بفتح الهمزة (شرب عند زينب) كما في رواية أو
عند حفصة كما في أخرى (أكلت مغافير) بفتح الميم وبمعجمة وفاء بعد الفاء
تحتية على الصواب وقد تحذف في بعض النسخ وهي جمع مغفور وهو حلو كربه
الرائحة لكراهة ريح شجرته وهى العرفط بضم المهملة والفاء وهو عند أهل اللغة
كل شجر له شوك (وهو شيء تشبه رائحته رائحة الخمر) أو رائحة النبيذ وكان صلى
الله عليه وسلم يكره ان يوجد منه رائحة كريهة (تحكمهن) أي تغليظهن (وأصحها
الاول) وهو تحريمه للعسل لثبوته في الصحيحين وغيرهما (ثم الثانى) وهو
تحريمه مارية (وعليه أكثر المفسرين) كما نقله البغوي وغيره (لكنه لم يخرج
في الصحيح) كذا قاله عياض وردوه بان النسائي والحاكم روياه من طريق صحيحة
(وسنده مرسل) عند أبي داود وقد وصله الحاكم والنسائي عن أنس قال كان لرسول
الله صلى الله عليه وسلم أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها على
نفسه فنزل لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الآية (واختلفوا أيضا في
الحديث الذى أسره) بحسب اختلاف الروايات (واخبارها بان أباها وأبا بكر
يليان الامر بعده) قال الكلبى وميمون بن مهران ونقله سعيد بن جبير عن ابن
عباس* ذكر ما يترتب على هذه الجملة من الاحكام (اذا حرم الانسان على نفسه
طعاما) أو ثوبا أو دخول مكان أو كلام شخص وسائر ما يحرمه
(2/48)
نوعه لم يحرم بذلك شيء ولا شيء عليه وان
حرم أمته ان نوى عتقها عتقت وان نوى تحريم ذاتها أو جملتها واطلق فعليه
كفارة يمين بنفس اللفظ هذا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى وحكى القاضي عياض
في تحريم الزوجة اربعة عشر مذهبا اما التخيير فان مذهب الجمهور ان من خير
زوجته أو ازواجه فاختارته لا يكون ذلك شيأ ولو اختارت نفسها وقعت طلقة وحكي
عن بعضهم انه يقع به طلقة بائنة وان اختارته ولا حجة لهم واما الايلاء
المذكور في هذا الحديث فليس بالايلاء المذكور في القرآن وليس له ماله من
الأحكام غير الحليلة (لم يحرم بذلك شيء) لاصل الحل خلافا لابي حنيفة (ولا
شيء عليه) عندنا وعند أبي حنيفة تجب الكفارة كالحليلة (وان حرم أمته)
فمذهبنا انه (ان نوي عتقها عتقت) عملا بنيته (وان نوي تحريم ذاتها أو
جملتها) لزمه كفارة يمين ولا يكون يمينا (وان أطلق) فلم يقصد شيئا فعليه
كفارة يمين على الصحيح في المذهب وقال مالك هذا في الامة لغو ولا يترتب
عليه شيء نقله عياض وان حرم زوجته فان نوى به الطلاق أو الظهار وقع ما نواه
عملا بنيته (وان نوي تحريم ذاتها الي آخره) قياسا على الامة بجامع ان كلا
منهما تحريم فرج حلال بما لم يحرم به (بنفس اللفظ) من غير توقف على الاصابة
لان الله فرض الكفارة من غير شرط الاصابة (أربعة عشر مذهبا) أحدها المشهور
من مذهب مالك وقوع ثلاث مطلقا الا اذا نوى دونها فيقبل في غير المدخول بها
وبهذا قال على وزيد والحكم والحسن الثاني كالاول ولا يقبل منه ادعاء نية
أقل مطلقا وبه قال ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون المالكي الثالث يقع
على المدخول بها ثلاثا وعلى سواها واحدة قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الملك
المالكيان الرابع يقع به طلقة واحدة بائنة مطلقا وهى رواية عن مالك الخامس
انها رجعية قاله عبد العزيز بن أبي سلمة المالكي السادس يقع ما نوي ولا
يكون أقل من طلقة قاله الزهري السابع ما نوى والا فلغو قاله سفيان الثوري
الثامن كذلك الا انه اذا لم ينو شيئا لزمه كفارة يمين قاله الاوزاعى وأبو
ثور التاسع مذهبنا وقد مر العاشر ان نوى الطلاق فطلقة وكذا ان نوي ثنتين
وان نوي ثلاثا فثلاث وان لم ينو شيئا فيمين وان نوى الكذب فلغو قاله أبو
حنيفة وأصحابه الحادي عشر كذلك الا انه ان نوي ثنتين وقعتا قاله زفر الثانى
عشر يجب به كفارة ظهار قاله اسحق بن ابراهيم بن راهويه الثالث عشر يمين تجب
به كفارة يمين قاله ابن عباس وبعض التابعين الرابع عشر كتحريم نحو الطعام
فيلغو قاله مسروق والشعبى وأبو سلمة وأصبغ المالكيان (فاختارته) بان قالت
اخترتك أو اخترت زوجي أو الزوج أو النكاح (لا يكون ذلك شيأ) بدليل تخييره
صلى الله عليه وسلم نساءه (ولو اختارت نفسها) أو زيدا مثلا (وقعت طلقة) ان
قصد بقوله اختاري تفويض الطلاق اليها والا فلغو (وحكى عن بعضهم) كعلى وزيد
بن ثابت والحسن والليث بن سعد (انه يقع) بنفس التخيير (طلقة ثانية) مطلقا
(ولا حجة لهم) بل ذلك مذهب ضعيف مردود بالاحاديث الصحيحة قال عياض ولعل
القائلين به لم تبلغهم هذه الاحاديث (وأما الايلاء المذكور في هذا الحديث
فليس بالايلاء) الشرعى (المذكور في القرآن) في قوله تعالى لِلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ الآية (وليس له ما له من الاحكام) من ضرب المدة
(2/49)
وانما المعنى هنا اليمين فقط والله أعلم*
[خبر الملاعنة التي كانت بين أخوي بني العجلان
وأحكام الملاعنة]
وفي هذه السنة لا عن النبي صلى الله عليه وسلم بين أخوى بنى العجلان ثم نقل
القاضى عياض عن ابن جرير الطبري ان قصة اللعان في شعبان منها ولا وجه له
فقد ذكر أهل السير انه صلى الله عليه وسلم خرج لغزوة تبوك في رجب ولم يرجع
الا في رمضان وكان من حديث العجلانيين ما رويناه في صحيح مسلم عن ابن شهاب
الزهري ان سهل بن سعد الساعدي أخبره ان عويمر العجلاني جاء الى عاصم بن عدي
الأنصاري فقال له أرأيت يا عاصم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله
فيقتلونه أم كيف يفعل سل لى عن ذلك يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما رجع عاصم الى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول وهي
أربعة أشهر والتخيير بعدها بين الفيئة والطلاق (وانما المعني) بكسر النون
وتشديد التحتيه (هنا) الايلاء اللغوي وهو (اليمين فقط) فانها تسمي في اللغة
ايلاء والية والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر قصة اللعان ولفظه مشتق من اللعن وهو الابعاد من الخير وهو شرعا كلمات
معلومة جعلت حجة للمضطر الى قذف من لطخ فراشه وألحق به العار سمى لعانا
لقول الرجل لعنة الله عليه ان كان من الكاذبين واعتبر لفظ اللعنة دون لفظ
الغضب ولفظ الشهادة لتقدمه في الآية ولقوة جانب الرجل لتقدمه ولانه قد ينفك
لعانه عن لعانها ولا عكس (عن ابن جرير الطبرى) هو الحافظ محمد بن جرير أحد
العلماء الاعلام توفي سنة عشر وثلاثمائة (ان قصة اللعان) وقعت (في شعبان
منها) أي من السنة التاسعة ولفظ النووي في شرح مسلم قالوا وكانت قصة اللعان
في شعبان سنة تسع من الهجرة وممن نقله القاضي عن ابن جرير انتهى وهو يفهم
ان غير ابن جرير قاله أيضا (خرج في رجب ولم يرجع الا في رمضان) فكيف تقع
الملاعنة في شعبان بالمدينة وهو لم يكن يومئذ بها فتعين كونها في شعبان من
سنة غير التاسعة أو في التاسعة في شهر غير شعبان قبل خروجه صلى الله عليه
وسلم الى تبوك أو بعد مجيئه منها (ما رويناه في) صحيح البخارى و (صحيح
مسلم) وسنن أبى داود والترمذي (ان عويمرا) بالتصغير وهو ابن أبيض بن محصن
(أيقتله) بغير أن يقيم بينة (فتقتلونه) قودا (أم كيف يفعل) فانه اذا صبر
صبر على أمر عظيم فكيف طريقه وجمهور العلماء على ان من قتل رجلا زعم انه
وجده يزنى بامرأته لا يصدق بل يلزمه القصاص ما لم يثبت حصانته وزناه هذا في
الظاهر وأما فيما بينه وبين الله تعالى فان كان صادقا فلا شيء عليه وعن بعض
السلف انه يصدق ان ادعا انه زنا بامرأته وقتله لذلك وهو قول متروك (فكره
رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها) انما كرهها لعدم الاحتياج
اليها ظاهرا سيما وفيها هتك ستر مسلم واشاعة فاحشة وشفاعة على مسلم ولم
يعلم صلى الله عليه وسلم حينئذ بوقوع القصة على ان البغوى روى عن ابن عباس
ومقاتل ان عاصما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوع القصة في
(2/50)
الله صلى الله عليه وسلم قال عاصم لعويمر
لم تأتني بخير قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته
عنها قال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأله عنها فأقبل عويمر حتى أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع
امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال صلى الله عليه وسلم قد نزل
فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله ان
أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن
شهاب فكانت سنة المتلاعنين وخرج البخاري بمعناه وزاد ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنظروا فان جاءت به أسحم ادعج العينين عظيم الاليتين خدلج
الساقين فلا أحسب عويمرا الا قد صدق عليها وان جاءت به احيمر كأنه وحرة فلا
أحسب عويمرا الا قد كذب عليها فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم من تصديق عويمر الجمعة الاولى وقد قرأ النبي صلى الله عليه
وسلم وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية (وسط الناس) بسكون السين
(فيك وفي صاحبتك) أى زوجك وكانت بنت عمه واسمها خولة بنت قيس بن محصن
(فتلاعنا وأنا مع الناس) فيه ان اللعان يكون بحضرة الامام والقاضي ومجمع من
الناس وهو أحد تغليظ اللعان (فطلقها ثلاثا قبل ان يأمره رسول الله صلى الله
عليه وسلم) في رواية لمسلم انه لاعن ثم لاعنت ثم فرق بينهما وفي رواية قال
لا سبيل لك عليها وفي رواية (قال ابن شهاب فكانت تلك سنة) بالفتح
(المتلاعنين) بالتثنية أي طريقتهم المفروضة وفي رواية قال النبي صلى الله
عليه وسلم ذاكم التفريق بين كل متلاعنين ففي مجموع ذلك ثبوت الفرقة باللعان
وسيأتي الكلام عليها وأخذ أصحابنا من قوله فطلقها ثلاثا عدم حرمة جمع
الطلقات الثلاث بلفظ واحد وموضع الدليل عدم انكاره صلى الله عليه وسلم
اطلاق لفظ الثلاث عليه قال النووى وقد يعترض على هذا بانه انما لم ينكر
عليه لانه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له قال ويجاب بانه لو كان الثلاث
محرما لانكر عليه ارسال لفظ الثلاث مع حرمته (اسحم) بمهملتين أي اسود
(ادعج) بمهملتين وجيم أى شديد سواد العين ولمسلم قضيء (العينين) بالقاف
والمعجمة والهمز والمد بوزن سبيل أى فاسدهما بكثرة دمع أو حمرة (خدلج
الساقين) بمعجمة فمهملة فلام مشددة مفتوحات فجيم أي عظيمهما ولمسلم خدلا
بفتح المعجمة وسكون المهملة وهو الممتلئ الساق وفي أخري له خمش الساقين
بفتح المهملة وسكون الميم واعجام الشين أى دقيقهما (فلا أحسب) أي أظن
(احيمر) تصغير احمر (كانه وحرة) بالاهمال بوزن سحرة دويبة حمراء كالعظاة
شبه به في الحمرة (من تصديق عويمر) وتكذيب امرأته وذلك من اعلام البنوة
وفيه ان الامور الشرعية مبنية على الظاهر وان الكشف مثلا لا يبطلها اذ حكم
صلى الله عليه وسلم بما حكم ظاهرا
(2/51)
وكان بعد ذلك ينسب الى أمه هذه احدي
الروايات في الصحيحين وهي أتمها وثم زيادات فيهما حذفتها اختصارا*
[فصل في ذكر اختلاف العلماء في سبب نزول آية
الملاعنة]
فصل واختلف العلماء في نزول آية اللعان هل هي بسبب عويمر العجلاني أم بسبب
هلال بن أمية الواقفي مع اتفاقهم انه لم يلاعن في حضرة النبي صلى الله عليه
وسلم غيرهما وفي متن الحديثين دلالة على الأمرين والأكثرون على انها نزلت
بسبب هلال بن أمية والداعي الى اللعان أن يقذف الرجل زوجته بالزناء ويعجز
عن اقامة البينة فيجب عليه حد القذف ثمانون جلدة فيلاعن لدفعه فيقول عند
الحاكم في ملأ من الناس أربع مرات ويتحرى لهما شرف الزمان والمكان أشهد
بالله اني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا ويقول في
الخامسة وعلىّ لعنة الله ان كنت من الكاذبين ويتعلق بلعانه خمسة من غير
التفات لما علمه بعلم الباطن ومن ثم قال لولا ما مضي من كتاب الله لكان لى
ولها شأن (فكان بعد) بالضم (ينسب الى أمه) وللبغوى وكان بعد أميرا بمصر لا
يدرى من أبوه.
(فصل) عقده لبيان حكم اللعان (هل هي بسبب عويمر) لقوله صلى الله عليه وسلم
قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك (أم بسبب هلال بن أمية) كان في حديثه وكان أول
رجل لاعن في الاسلام وحديثه مروي في صحيح البخاري وسنن أبى داود والترمذى
عن أنس وابن عباس واسم امرأته خولة بنت عاصم واسم المرمي به شريك بن سحماء
ووهم من زعم انه المرمى في حديث عويمر (والا كثرون على انها نزلت بسبب
هلال) وممن ذكره من أصحابنا الماوردى في الحاوي وابن الصباغ في الشامل قال
النووى ويحتمل انها نزلت في شأنهما جميعا فلعلهما سألا في وقتين متقاربين
فنزلت الآية فيهما فسبق هلال باللعان فيصدق انها نزلت في ذا وذاك وان هلالا
أول من لاعن (ان يقذف الرجل زوجته) صريحا أو كناية مع النية (ويعجز عن
اقامة البينة) ليس العجز عن اقامتها شرطا لجواز اللعان بل له اللعان مع
القدرة عليها (فتلا عن لدفعه) أي لدفع حد القذف وهذا أحد أسباب اللعان
ومثله تعزير اللعان بان قذفها وهى غير محصنة فعليه التعزير فتلاعن لدفعه
بشرط ان يقع قذفها وهى زوجه ولو في عدة رجعة والا فلا لعان لانها أجنبية
بخلاف اللعان لنفي النسب فانه جائز ولو من غير الزوجة كالموطوءة بشبهة
(فيقول عند الحاكم) بعد ان يلقنه كلمات اللعان وجوبا (ويتحري) أى يقصد
(لهما) ندبا (أشرف الزمان) كبعد عصر الجمعة أو عصر غيره (و) أشرف (المكان)
كعند منبر الجامع وعليه بالمدينة الشريفة وعند بابه لحائض فان كان بمكة
فبالحطيم وهو ما بين الركن والمقام وان كانا ببيت المقدس فعند الصخرة فان
كانا غير المسلمين ففي الاماكن التى يعظمونها كالكنيسة والبيعة لليهود
والنصاري وبيت النار للمجوس (اشهد) هي بمعني احلف فمن ثم انكسر ما أتى
بعدها والفاظ اللعان عندنا ايمان مؤكدة بالشهادة وعند أبي حنيفة بالعكس
(تالله اني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتى فلانة) أو هذه ان كانت حاضرة
(من الزنا) واذا أثبتت عليه بالقذف قال فيما أثبتت على من رمي اياها بالزنا
(والخامسة ان لعنة الله عليه) الى آخره ويشترط الاتيان بياء المتكلم
(2/52)
أحكام سقوط حد القذف عنه ووجوب حد الزنا
عليها وزوال الفراش ونفي الولد إن كان والتحريم المؤبد ويسقط الحد عنها بأن
تلاعن فتقول أشهد بالله ان فلانا هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا
أربع مرات وتقول في الخامسة وعلىّ غضب الله ان كان من الصادقين ويسن ان
يعظهما الحاكم ويبالغ عند الخامسة ويعرفهما انها الموجبة قال العلماء وجوّز
اللعان لحفظ الانساب ودفع المعرة عن الأزواج قالوا وليس شيء تتعدد فيه
اليمين ويكون في جانب المدعي الا اللعان والقسامة والله أعلم*
[فصل ومن حوادث هذه السنة قصة الغامدية]
ومن حوادث هذه السنة قصة الغامدية وقد رواها مسلم متصلة بقصة ماعز بن مالك
فروى بسنده عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ان ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله في على وتائه في ان كنت
والموالاة بين كلماته فان طال فصل بطل ما مضى (سقوط حد القذف عنه) لها ولمن
رماها به واحدا كان أو جمعا ان ذكره في لعانه والافله ان يعيد اللعان
وتذكره ليسقط حقه (ووجوب حد الزنا عليها) لقوله تعالى وَيَدْرَؤُا عَنْهَا
الْعَذابَ الآية (ونفي الولد ان كان) ونفاه في لعانه والافله اعادة اللعان
لنفيه (والتحريم المؤبد) ظاهرا وباطنا صادقا كان الزوج أو كاذبا لحديث
المتلاعنان لا يجتمعان أبدا رواه الدارقطني والبيهقى من حديث ابن عمر ومن
حديث سهل بن سعد بلفظ ففرق بينهما وقال لا يجتمعان أبدا ولابى داود بلفظ
مضت السنة بعد في المتلاعنين ان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان والفرقة هذه
فرقة فسخ لاطلاق (بان تلاعن) بعد لعان الزوج لانه لا سقاط حد الزنا عنها
وهو لا يجب الا بلعانه (ويسن ان يعظمها الحاكم) فيقول عذاب الدنيا أهون من
عذاب الآخرة قاله صلى الله عليه وسلم لكل من هلال بن أمية وامرأته كما في
الصحيحين وغيرهما (ويعرفهما انها الموجبة) توجب اللعنة ان كان كاذبا والغضب
لها ان كانت كاذبة لانه صلى الله عليه وسلم قالها عند الخامسة كما رواه أبو
داود ويندب أيضا ان يأمر رجلا يضع يده على فم الرجل عند الخامسة وامرأة تضع
يدها على فم المرأة عندها فقد أمر صلى الله عليه وسلم بذلك كما رواه أبو
داود والنسائي وبقى لذلك سماة مستوفاة في كتب الفقه (قال العلماء) كما نقله
عنهم النووي في شرح مسلم (ودفع المعرة) أى النقص وهي بفتح الميم واهمال
العين وتشديد الراء* قصة الغامدية باعجام الغين واهمال الدال منسوبة الى
غامد أبى قبيلة واسمه عمر بن عبد الله ولقب غامدا لاصلاحه أمرا كان في قومه
(وقد رواها مسلم) عن أبي سعيد وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة
وابن عباس ورواها أيضا هو وأبو داود عن بريدة وعن عمران بن الحصين ورواها
عن عمران أيضا الترمذي والنسائي (بقصة ماعز) وقد روي البخارى قصة ماعز فقط
(بريدة) بالموحدة مصغر بن الحصيب بالمهملتين وآخره موحدة مصغر أيضا ابن
الحارث الاسلمي أسلم قبل بدر ولم يشهدها وقيل أسلم بعدها وشهد خيبر وتوفي
بمرو سنة اثنين أو ثلاث وستين (ماعز) بكسر المهملة بعدها زاى (أتي رسول
الله صلى الله عليه وسلم) هكذا في أكثر الروايات وفي رواية في صحيح مسلم ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لماعز أحق ما بلغنى عنك قال
(2/53)
اني قد ظلمت نفسي وزنيت وانى أريد ان
تطهرني فرده فلما كان من الغدأتى فقال يا رسول الله اني قد زينت فرده
الثانية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى قومه فقال هل تعلمون بعقله
بأسا تنكرون منه شيئا فقالوا ما نعلمه الا وفيّ العقل من صالحينا فيما نرى
فأتاه الثالثة فأرسل اليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله
فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم وما بلغك عني قال بلغني انك
وقعت بجارية آل فلان قال نعم والجمع بينهما انه جاء الى النبي صلى الله
عليه وسلم لنفر عنده فلما جاء قال له أحق ما بلغني عنك فقال نعم (اني قد
ظلمت نفسى وزنيت الي آخره) انما لم يقنع ماعز والغامدية بالتوبة مع تحصيلها
الغرض من سقوط الاثم بل اختارا الحد لان التوبة ربما لم تكن نصوحا أو يختل
بعض شروطها فارادا حصول البراءة بطريق متيقن وهي الحد (فرده) مع تكرير الرد
ثلاثا لعله يرجع عن الاقرار ولقنه ذلك فقال لعلك قبلت أو غمزت ففيه جواز
التعريض للمقر بعقوبة لله تعالى بالانكار وقبول رجوعه عنه وبناء عقوبة الله
على المساهلة والدرء بخلاف ما لآدمي فلا يجوز التعريض له بانكاره (تعلمون)
استفهام حذفت أداته (ان بعقله بأسا) قال ذلك مبالغة في تحقيق حاله وصيانة
لدم المسلم قال النووى وفيه اشارة الى ان اقرار المجنون باطل وفي رواية انه
صلى الله عليه وسلم سأله فقال ابك جنون فقال لا فقال هل احصنت قال نعم ففيه
المبالغة في تحقيق شروط الرجم من احصان وغيره وفيه المؤاخذة بالاقرار وجاء
في رواية في صحيح مسلم فقال أشرب خمرا فقام رجل فاستنهكه فلم يجد منه ريح
خمر وظاهر ذلك عدم صحة اقرار السكران وهو خلاف الصحيح في مذهبنا قال النووي
السؤال عن شربه محمول عندنا على انه لو كان سكرانا لم يقم عليه حال سكره
انتهي قلت أو محمول على السكر بلا تعد فانه حينئذ أعماله لا تصح معه اقرار
ولا غيره وليس في قوله اشرب خمرا ما يقتضى شربها تعديا (وفي العقل) أى
كاملة (فيما ترى) بالفتح والضم (فلما كانت الرابعة) احتج به أبو حنيفة
وأحمد وغيرهما علي ان الاقرار بالزنا لا يثبت حتى يقر أربع مرات زاد ابن
أبي ليلى وغيره في أربعة مجالس وقال الشافعي ومالك وغيرهما يثبت بمرة بدليل
واغد يا أنيس علي امرأة هذا فان اعترفت فارجمها وبحديث الغامدية اذ ليس فيه
اقرارها أربع مرات (حفر له حفرة) استدل به القائلون بالحفر للزانى سواء كان
ذكرا أو انثى ثبت زناه ببينة أو باقراره وهي رواية عن أبى حنيفة وقال بها
قتادة وأبو يوسف وأبو ثور وفي رواية عن أبى حنيفة لا يحفر لواحد منهما وهو
قول مالك وأحمد وقال بعض أصحاب مالك يحفر لمن يرجم بالبينة فقط وقال
أصحابنا لا يحفر للرجل مطلقا وأجابوا عن هذا الحديث بانه معارض بحديث أبى
سعيد في مسلم فما أوثقناه ولا حفرنا له ويؤيد عدم الحفر له هربه حين اذلقته
الحجارة فرواية بريدة محمولة على الحفر اللغوي وهو الايقاع في عظيمة قاله
النووى قلت أو لعلهم حفروا له ليرجموه في الحفرة ظنا منهم ندبها له ثم لم
يرجم فيها اما لنهي عن ذلك أو لعدم اتفاق دخوله الحفرة فروي بريدة الحفر
لانه كان نسيبه وأبو سعيد عدمه لانه كان حالة الرجم حاضرا سيما وقد قال في
رواية بريدة (ثم أمر به فرجم) ولم يقل فيها وأما المرأة فحاصل الاصح في
مذهبنا انه يحفر لها ان ثبت زناها
(2/54)
قال فجأت الغامدية فقالت يا رسول الله اني
قد زنيت فطهرني وانه ردها فلما كان الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك
أن تردني كما رددت ماعزا فو الله انى لحبلى قال إما لا فاذهبي حتى تلدي
فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت هذا قد ولدته قال اذهبي فأرضعيه حتى
تفطميه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت هذا يا نبي الله قد
فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبى الى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها
الى صدرها وأمر الناس برجمها بالبينة لا ان ثبت بالاقرار وسيأتي ما فيه
وكان رجم ماعز بمصلي الجنائز بالبقيع ففيه دليل على ان المصلى اذا لم يوقف
مسجدا لا يثبت له حكم المسجد والا يجتنب الرجم فيه وتلطيخه بالدماء والميتة
كما نقله النووي عن البخارى وغيره من العلماء ونفي للحديث بتمامه منها انه
لما اذ لقته الحجارة بالمعجمة والقاف أي اصابته بحدها هرب حتى انتهى الى
عرض الحرة فانتصب لهم فرموه بجلاميدها حتى سكت زاد أبو داود والنسائى
فاخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهربه فقال هلا تركتموه ففيه ندب ترك
المقر اذا هرب لعله يرجع والا فلا ضمان لعدم ايجابه عليهم ومنها ان الناس
كانوا فيه فرقتين قائل يقول لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته وقائل يقول ما
توبة أفضل من توبة ما عز جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في
يده ثم قال اقتلني بالحجارة قال فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال استغفروا الله لما عز
بن مالك فقالوا غفر الله لما عز بن مالك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم (فائدة) كان من جملة الراجمين لماعز
أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال ابن سعد وكان رأس الذى رجموه وعمر حكاه
الحاكم عن ابن جريج وعبد الله بن أنيس ذكره ابن حجر قال وهو الذي أدرك
ماعزا فقتله حين هرب (فجاءت الغامدية) نسبة الي غامد بطن من جهينة وتقدم
ضبطه قريبا (فلما كان الغد) بالنصب والضم (إمّالا) بكسر الهمزة وتشديد
الميم وبالامالة أى اذا ثبت أن تستري على نفسك وتتوبي وترجعى عن قولك
(فاذهبي حتى تلدى) ففيه تحريم رجم الحامل سواء كان من زنا أو غيره وكذا
جلدها وذلك مجمع عليه (اذهبى فارضعيه حتى تفطميه الي آخره) فيه ان حدود
الله تعالى لا يجوز استبقاؤها من المرأة الا بعد ما ذكر من الفطام لبنيانها
على المساهلة بخلاف حد الآدمي لا ينتظر به الا الوضع فقط هذا مذهبنا ومذهب
أحمد واسحاق ومشهور مذهب مالك وفي رواية عنه يرجم اذا وضعت من غير انتظار
حصول مرضعة وكافل وهو مذهب أبي حنيفة (فلما فطمته) أي قطعته من الرضاع
لاستغنائه عنه (كسرة خبز) بكسر الكاف (فدفع) رسول الله صلى الله عليه وسلم
(الصبي الى رجل من المسلمين) كان قد طلبه فقال الىّ رضاعه يا رسول الله
وكان ذلك الرجل أيضا زنا كما في صحيح مسلم وفي رواية انه قيل له قد وضعت
الغامدية فقال اذا لا يرجمها ويدع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه فلما قال
الانصاري اليّ رضاعه رجمها وظاهر هذه انه رجمها عقب ولادتها ويجب كما قال
النووي تأويلها على وفق الاولى لانها قصة واحدة والروايتان صحيحتان فيؤول
قول الانصاري الى رضاعه على انه قاله بعد الفطام واراد بالرضاع الكفالة
والتربية فاطلق عليه الرضاع مجازا (فخفروا لها الى صدرها) ففيه ندب الحفر
للمرأة وان ثبت زناها بالاقرار وهو ما صححه البلقينى لصحة الحديث به وقال
لا يحل أن يثبت في مذهب الشافعى ما يخالف السنة (وأمر الناس برجمها) أى
لانها كانت محصنة وان لم يصرح بذلك في الحديث
(2/55)
فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمي رأسها
فتنضح الدم على وجه خالد فسبها فسمع نبى الله صلى الله عليه وسلم بسبه
إياها فقال مهلا يا خالد فو الذي نفسى بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب
مكس لغفر له ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت وفي رواية فقال له عمر تصلي عليها
يا رسول الله وقد زنت فقال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة
لوسعتهم وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله.
[فصل في تقبيح الزنا وأحكام الزانيين]
(فصل) واعلم أن الزنا فاحشة من أقبح الذنوب الداعية الى سخط علام الغيوب
قال تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) وقال تعالى
(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) وعن عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن
تجعل لله ندا وقد خلقك قلت ثم أي قال ان تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك قلت
ثم أي قال ان تزنى بحليلة جارك وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول
الله صلى لان الحديث الصحيح والاجماع متطابقين على عدم رجم غير المحصن وفي
هذا الحديث ونحوه دلالة على انه لا يجب الحضور على الامام وقت الرجم نعم
بسن له ذلك خروجا من خلاف أبى حنيفة وأحمد (فيقبل) فعل مستقبل حكاية للحال
(فانتضح الدم) بالمهملة كما قاله الا كثرون وبالمعجمة أي ترشش وانصب
(فسبها) فقال يا زانية (فقال مهلا) أى امهل مهلا (لقد تابت توبة) عظيمة لا
يحل ان تسب بالزنا بعدها (لو تابها صاحب مكس) بفتح الميم وسكون الكاف ثم
مهملة وهو جابي الاموال وأخذها بغير حقها (لغفر له) مع ان المكس من أقبح
المعاصي والذنوب الموبقات موجب لكثرة مطالبات الناس له بظلاماتهم المتكررة
عنده وفي الحديث عدم سقوط حد الزنا لتوبة كغيره من حدود الله تعالى الا قطع
الطريق (فصلى عليها) بالبناء للفاعل عند جماهير الرواة وعند الطبرى في صحيح
مسلم بالبناء للمفعول قال عياض وكذا في رواية ابن أبي شيبة وأبي داود قال
وفي رواية لابي داود فامرهم ان يصلوا عليها (وفي رواية) صريحة في مسلم انه
صلى الله عليه وسلم صلى عليها (فقال له عمر) استكثارا (يصلى عليها) استفهام
حذفت أداته ففيه وفي حديث صلاته على ماعز عند البخارى دليل على ان نحو
الامام يصلي على نحو المرجوم كما ذهب اليه الشافعي وما أول به أصحاب مالك
من انه أمر بالصلاة ودعى اليها فتسمى صلاة على مقتضاها في اللغة ومن ان
رواية صلاته صلى الله عليه وسلم ضعيفة لانها لم يذكرها أكثر الرواة
فتأويلان مردودان كما قاله النووي بان التأويل انما يصار اليه عند اضطراب
الادلة الشرعية الى ارتكابه ولم يوجد ذلك هنا فوجب حمل الحديث على ظاهره
وبان رواية انه صلى عليه ثابتة في الصحيح وزيادة الثقة مقبولة (لوسعتهم)
بكسر السين (ان) بفتح الهمزة
(فصل) عقده للتحذير من الزنا قال العلماء وتحريمه باتفاق الملل (ندا) بكسر
النون وتشديد المهملة أى ميلا (ثم أي) بالوقف بلا تنوين (يطعم) بفتح الياء
أى يأكل (ان تزني) ولمسلم تزانى (بحليلة جارك)
(2/56)
الله عليه وسلم لا يزني العبد حين يزني وهو
مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن قال عكرمة قلت
لابن عباس كيف ينزع الايمان منه قال هكذا وشبك بين أصابعه ثم أخرجها فان
تاب عاد اليه هكذا وشبك بين أصابعه رواهما البخاري والآيات والأحاديث في
هذا الباب كثيرة معلومة ثم انه ثبت في الكتاب والسنة ان التوبة الصادقة
والحد يكفرانه وحد المحصن الرجم حتى يموت وغير المحصن حده جلد مائة وتغريب
عام وشرائط الاحصان اربعة البلوغ والعقل والحرية ووجود الوطء في نكاح صحيح
وهي بالمهملة زوجته سميت بذلك لكونها تحل له أو لكونها تحل معه وخصها لان
الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه وقد امر الشارع باكرام الجار فاذا
قابل ذلك بالزنا بامرأته كان في غابة القبح مع تضمنه أيضا زيادة على الزنا
هى افساد المرأة على زوجها واستمالة قلبها الى الزاني (لا يزني العبد حين
يزنى الى آخره) محمول على نفي كمال الايمان الباعث على كمال المراقبة
المانعة على تعاطى ما ذكر كذا تأوله الجمهور وامتنع سفيان من تأويل مثل هذا
بل يطلق كما أطلقه الشارع لقصد الزجر والتنفير قال في الديباج وعليه السادة
الصوفية نفع الله بهم وكذا قال الزهرى هذا الحديث وما أشبهه نؤمن بها
ونمرها كما جاءت ولا نخوض في معناه فانا لا نعلمه (ولا يقتل وهو مؤمن) ولا
يشرب الخمر وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة بضم النون ما ينتهب ذات شرف بالمعجمة
والفاء أي ذات قدر عظيم وقيل ذات استشراف يستشرف الناس لها ناظرين اليها
يرفع الناس اليه فيها أبصارهم وهو مؤمن قال عياض نبه بهذا الحديث على جميع
أنواع المعاصى فبالزنا على جميع الشهوات وبالسرقة على الرغبة في الدنيا
والحرص على الحرام وبالخمر على جميع ما يصد عن الله ويوجب الغفلة عن حقوقه
وبالقتل والنهبة على الاستخفاف بعباد الله وترك توقيرهم والحياء منهم وجمع
الدنيا من غير وجهها (رواهما البخارى) ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم (وحد
المحصن) بفتح الصاد المهملة وكسرها والاحصان لغة المنع وقد ورد في كتاب
الله تعالى لمعان منها الاسلام والعقل والبلوغ وفسر بكل منها قوله تعالى
فَإِذا أُحْصِنَّ ومنها الحرية وهي المراد بقوله تعالي فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ومنها التزويج وهى المراد
بقوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ومنها العفة عن الزنا وهي
المراد بقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ومنها الاصابة في
النكاح الصحيح وهي المراد بقوله تعالى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وهذا
هو المراد هنا (جلد مائة) لقوله تعالى فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
مِائَةَ جَلْدَةٍ (وتغريب عام) لقوله صلى الله عليه وسلم خذوا عنى خذوا عني
قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد
مائة والرحم رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه عن
عبادة بن الصامت وانما ترك الجمع بين الجلد والرجم لفعل النبي صلى الله
عليه وسلم في ماعز والغامدية واليهوديين فدل على نسخ الجلد الواقع في حديث
عبادة وقوله في الحديث البكر بالبكر ليس على سبيل الاشتراط لان البكر يجلد
ويغرب وان زنا بثيب والثيب يرجم وان زنا ببكر فهو شبيه بالتقييد الخارج على
الغالب (البلوغ وما بعده) خرج به الصبي والمجنون ومن
(2/57)
وحد المملوك نصف حد الحر ودل مجموع الكتاب
والسنة على ان حده الجلد في الحالين ولا يثبت الحد الا باقرار الزانى أو
البينة وبينته أربعة ذكور عدول يشهدون برؤية الفرج في الفرج كالميل في
المكحلة وهذا الحكم ثابت في التوراة والانجيل والفرقان فجعل الله سبحانه
وتعالى شهادة الزنا أربعة خاصة له تغليظا على مدعيه وزجرا له على تعاطيه
رحمة للعباد والستر عليهم ولو لم يكمل نصاب الشهادة حد الشهود وبرئ المقذوف
وقد كان في صدر الاسلام عقوبة الزنا الامساك في البيوت وهو الحبس حتى
يتوفاهن الموت ثم نسخ بالأذى وهو التوبيخ والتعيير ثم نسخ بالجلد والرجم
وتقرر الحكم وصار اجماعا. أما الجلد فصريح في آية النور
[مطلب في أن الرجم ممّا نسخ لفظه من القرآن وبقي حكمه وفيه خطبة عمر بن
الخطاب في حديث السقيفة]
وأما الرجم فانه مما نسخ لفظه من القرآن وبقى حكمه وبينته السنة. روينا في
صحيح البخارى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال كنت اقريء رجالا من المهاجرين
منهم عبد الله بن عوف فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في
آخر حجة حجها اذ رجع الى عبد الرحمن فقال لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين
اليوم فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو فيه رق ومن لم يطأ في
نكاح صحيح وكذا لو وطيء فيه وهو غير كامل لرق أوصبا ولا يشترط للاحصان
الاسلام فقد رجم صلى الله عليه وسلم اليهوديين كما رواه الشيخان وأبو داود
وابن حبان وغيرهم (وحد المملوك) أى من فيه رق وان قل (نصف حد الحر) وهو
خمسون ونصف تغريبه وهو نصف عام قال تعالى في الاماء (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) وقيس بهن العبيد (ودل مجموع الكتاب
والسنة على ان حد الجلد في الحالين) وذلك لعدم تصور تنصيف الرجم (أربعة
ذكور عدول) متصفين بالحرية والعقل والبلوغ والبصر والنطق وعدم الفسق
واختلال المرؤة والعداوة بينهم وبين المشهود عليه قال تعالى
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وقال تعالى لَوْلا جاؤُ
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ (برؤية الفرج في الفرج) ولا يشترط في
الشهادة التصريح بالرؤية بل يكفي الشهادة بالادخال نعم لا يجوز اسنادها الا
الى رؤية حقيقة (كالميل) التى يكحل به العين (في المكحلة) بضم الميم
والمهملة لانهم قد يظنون نحو المفاخذة زنا ولا بد من ذكر المزني بها في
الشهادة إذ قد يظنون وطيء الشبهة بوطيء امة الابن والمشتركة زنا (شهادة
الزنا أربعة) ومثله اللواط واثنان البهيمة والاستمناء (ولو لم يكمل نصاب
الشهادة حد الشهود) لان سيدنا عمر رضي الله عنه حد أبا بكرة ونافعا وسئل
ابن معبد حين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا كما رواه الحاكم في
المستدرك والبيهقى وأبو نعيم في المعرفة بخلاف ما لو تم النصاب ثم ردوا لا
لرق وكفر فانه يسقط عنهم حد القذف (التوبيخ والتعيير) مترادفان (روينا في
صحيح البخارى) وبعض الحديث في صحيح مسلم وسنن أبى داود والترمذي وابن ماجه
(هل لك في فلان) هو الزبير بن العوام أخرجه البلاذرى في الانساب باسناد قوي
من رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري لقد (بايعت فلانا) هو طلحة بن
عبيد الله كما في مسند البزار والجعديات باسناد
(2/58)
قد مات عمر لبايعت فلانا فو الله ما كان
بيعة أبي بكر الا فلتة فتمت فغضب عمر ثم قال اني انشاء الله لقائم العشية
في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم قال عبد الرحمن فقلت
يا أمير المؤمنين لا تفعل فان الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاهم وانهم هم
الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس واني أخشى ان تقوم فتقول مقالة
يطير بها عنك كل مطير وان لا يعوها وان لا يضعوها على مواضعها فامهل حتى
تقدم المدينة فانها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وباشراف الناس
فتقول ما قلت متمكنا فيعى أهل العلم والفقه مقالتك ويضعونها على مواضعها
فقال أما والله ان شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن
عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين
زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا الى ركن المنبر
فجلست حوله تمسّ ركبتى ركبته فلم أنشب أي البث ان خرج عمر بن الخطاب فلما
رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ليقولن العشية مقالة لم
يقلها منذ استخلف فانكر علىّ فقال ما عسيت ان تقول ما لم تقل قبله فجلس عمر
على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فاثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما
بعد فاني قائل لكم مقالة قد قررت لي ان أقولها لا أدرى لعلها بين يدي أجلى
فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ضعيف أو علىّ كما في
الانساب للبلاذرى بالاسناد المار آنفا (فلتة) بفتح الفاء وسكون اللام ثم
فوقية أى فجأة قال في التوشيح وأصلها الليلة التى هي من المحرم أو صفر أو
هل هي من رجب أو شعبان وكانوا لا يشهرون السلاح في شهر حرام فكان من له ثأر
يتربص فاذا جاء تلك الليلة أشهر الفرصة من قبل أن يتحقق انسلاخ الشهر
فيتمكن ممن يريد ايقاع الشربه وهو آمن فيترتب على ذلك الشر الكثير وقد أطلق
هنا على الفرصة التى وقا الله شرها (ان يغصبوهم) باعجام الغين واهمال الصاد
أي يأخذوا عليهم قهرا (رعاع الناس) بفتح الراء وتكرير المهملة أي جهلتهم
ورذالهم (وغوغاهم) بفتح المعجمتين بينهما واو ساكنة مع المد وهو سفلتهم
المسرعون الى الشر وأصل الغوغاء صغار الجراد حين يبدأ في الطيران فاسفر هنا
لمن ذكر ففيه صيانة الكلام الذى يخاف من ظاهره عن أراذل الناس وغير
المنتفعين به واظهاره لغيرهم (على قربك) بقاف مضمومة وموحدة وخطاؤا
الكشميهنى حيث ضبطها بكسر القاف والنون (يطرها) بضم أوله أي يشيعها ويظهرها
وللسرخسي يطير بها بفتح أوله يحملونها على غير وجهها (كل مطير) بفتح
التحتية صفة مبالغة (عقب ذى الحجة) بفتح المهملة وكسر القاف وبضم المهملة
وسكون القاف فالثاني يقال لما بعد التكملة والاول لما قرب منها (فلما كان
يوم الجمعة) بالنصب والرفع (زاغت) أي مالت (ما عسيت) بفتح السين وكسرها
(لعلها بين يدي أجلى) هذا من جملة كرامات عمر رضي الله عنه فان الأمر وقع
كما قال فطعن
(2/59)
ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد ان يكذب
علىّ ان الله بعث محمدا بالحق وانزل عليه الكتاب وكان فيما انزل الله عليه
آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورجمنا بعده فاخشى ان طال بالناس زمان يقول قائل والله ما أجد آية الرجم في
كتاب الله فيصلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من
زنا اذا أحصن من الرجال والنساء اذا قامت البينة او كان الحبل أو الاعتراف
ثم كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله ان لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم
أن ترغبوا عن ابائكم وان كفرا بكم ان ترغبوا عن آبائكم ثم ان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال لا تطرونى كما أطرى عيسى ابن مريم وقولوا عبد الله
ورسوله ثم انه بلغنى ان قائلا منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلانا
فلا يغترن امرأ ان يقول انما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وانها قد
كانت كذلك ولكن الله وقاشرها وليس فيكم من يقطع الاعناق اليه مثل ابى بكر
من بايع رجلا من عقب ذلك قبل مجيء الجمعة الاخرى (آية الرجم) بالرفع
(ووعيناها) زاد أبو داود وابن ماجه وهي الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما
البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم وقد فسر الشيخ والشيخة والمحصن
والمحصنة (اذا احصن) بفتح الهمزة والصاد وبضمها وكسر الصاد (اذا قامت
البينة) وهي أربعة كما مر (أو كان) بأمة (الحبل) تبع سيدنا عمر رضي الله
عنه على مذهبه هذا مالك رحمه الله فاوجب الحد على من حبلت اذا لم يعلم لها
حليل ولا اكراه ما لم تدع انه من زوج أو سيد وكانت غريبة طارئة قال ولا
يقبل منها دعوى الاكراه الا ادا اشيعت في ذلك قبل ظهور الحمل وخالف مالك في
ذلك جماهير العلماء (لا ترغبوا) في الانتساب (عن آبائكم) فتستوجبوا اللعنه
في قوله صلى الله عليه وسلم من ادعى الى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه
لعنة الله المتتابعة الى يوم القيامة رواه أبو داود عن أنس ولاحمد والشيخين
وأبي داود أيضا وابن ماجه عن سعد وأبي بكرة من ادعي الي غير أبيه وهو يعلم
فالجنة عليه حرام (فانه كفر) للنعمة قائم (بكم) أي مصاحب لكم (لا تطروني)
بالطاء المهملة رباعي والاطراء المبالغة في الوصف (كما اطرى) مبني للمفعول
(عيسى بن مريم) فقالت النصاري هو ابن الله (قد كانت كذلك) فيما ظهر لكم ولم
يرد انها كذلك حقيقة (وفي شرها) أي وقاهم ما في العجلة غالبا من الشر لان
من المعتاد ان عدم الاطلاع على الحكم في شيء باعث على عدم الرضاء بفعله
بغتة (وليس فيكم) من سبق في الفضل وبلغ غايته بحيث (تقطع الاعناق اليه) هذا
مثل يقال للفرس الجواد تقطعت أعناق الخيل دون لحاقه وقيل ان الناظر الى
السابق يمد عنقه لينظر حتى يغيب السابق عن النظر فعبر عن امتناع نظره
بانقطاع عنقه أي فلا يطمع طامع ان يقع له (مثل) ما وقع (لابى بكر) من
المتابعة له أولا في ملأ يسير ثم اجتمع عليه الناس بعد ولم يختلفوا (من
بايع) بالموحدة والتحتية (من غير
(2/60)
غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا
الذي بايعه تغرة ان يقتلا وانه قد كان من خيرنا حين توفي الله نبيه صلى
الله عليه وسلم. ان الانصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة
وخالف عنا على والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون الى ابى بكر فقلت لابي
بكر يا أبا بكر انطلق بنا الى اخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم
فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم
فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد اخواننا هؤلاء من الأنصار
فقالا لا عليكم ان تقربوهم اقضوا امركم فقلت والله لنأتيهم فانطلقنا حتى
أتيناهم في سقيفة بنى ساعدة فاذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا قال
هذا سعد بن عبادة فقلت ماله قال يوعك فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى
على الله تعالى بما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الاسلام
وأنتم معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة من قومكم فاذا هم يريدون أن
يختزلونا من أصلنا وان يحضنونا من الأمر فلما سكت أردت ان اتكلم وكنت قد
زورت مقالة أعجبتنى أريد ان أقدمها بين يدى أبى بكر وكنت أدرى منه بعض الحد
فلما أردت ان اتكلم قال لى أبو بكر على رسلك فكرهت ان أغضبه فتكلم أبو بكر
فكان هو أعلم منى وأوقر والله ما ترك من مشورة) بضم المعجمة وسكون الواو
وسكونها وفتح الواو كما سبق مرارا (تغرة) بفوقية مفتوحة فمعجمة مكسورة فراء
مشددة وهاء تأنيث مصدر غرر به أى حذرا (ان يقتلا) ومعناه ان من فعل ذلك فقد
غرر بنفسه وبصاحبه وعرضها للقتل (من خبرنا) بفتح الموحدة وللمستملي في صحيح
البخاري بتحتية ساكنة أى وقد كان أبو بكر من خيرنا فعلي هذا (ان الانصار)
بكسر الهمزة وعلى الاول بفتحها (لقينا) بفتح التحتية (رجلان صالحان) وهما
معن بن عدى وعويمر بن ساعدة سماهما البخارى في غزوة بدر وكذا أخرجه البزار
في مسند عمر قال ابن حجر وفيه رد على من زعم ان عويمر بن ساعدة مات في حياة
النبي صلى الله عليه وسلم (قال عليا لقوم) أي اتفقوا (مزمل) بالزاى أي مدثر
ملفف (يوعك) أى ينزل به المعد وهى الحمي وقيل تفثها (شهد خطيبهم) قال ابن
حجر قيل هو ثابت بن قيس بن شماس (رهط) أي قليل (دفت) بمهملة وفاء مشددة
ففوقية جاءت (ذاته) أي عدد قليل (أي يختزلونا) بخاء معجمة وزاي أي يقتطعونا
من الامر ويستبدونه دوننا (وان يحضنونا) باهمال الحاء واعجام الضاد أي
يخرجونا والحضن الاخراج وللكشميهنى في صحيح البخارى يحصونا بضم الحاء
وتشديد الصاد المهملتين ولابن السكن تحصونا بفتح الفوقية وتشديد الصاد
المهملة أي يستأصلونا وللدار قطنى يحفظونا بالامر دوننا (قد زورت) بتقديم
الزاى على الراء أي هيأت وحسنت (بعض الحد) بفتح المهملة أى الحدة (ان
اغضبه) بمعجمتين من الغضب
(2/61)
كلمة اعجبتنى في تزويرى الا قال في بديهة
مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن
نعرف هذا الأمر الا لهذا الحى من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت
لكم أحد هذين الرجلين فتبايعوا أيهما شئتم فاخذ بيدى وبيد ابى عبيدة بن
الجراح وهو جالس بيننا فلم اكره مما قال غيرها كان والله ان أقدم فيضرب
عنقى لا يقربنى ذلك من اثم احب الى من أن اتأمر على قوم فيهم أبو بكر الا
ان تسول لى نفسى عند الموت شيئا لا أجده الآن فقال قائل الأنصار أنا جذيلها
المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش وكثر اللغط
وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده
فبايعته وبايعته المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال
قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة وللكشميهنى في
صحيح البخاري بمهملتين من المعصية (في بديهة) أى على الفوردون فكر ولا روية
(ما ذكرتم فيكم من خير فانتم له أهل) فيه الاعتراف بالفضل لاهله وذلك من
شيم أهل الفضل فقد قال صلى الله عليه وسلم انما يعرف أهل الفضل لاهل الفضل
أخرجه أحمد في المناقب بسند صحيح والخطيب عن أنس وأخرجه ابن عساكر عن عائشة
(هم) أي قريش (أوسط العرب) أي أفضلهم نسبا (ودارا) المراد بها مكة (وقد
رضيت لكم أحد هذين الرجلين) قال العلماء انما قال ذلك مع علمه انه أحق
بالخلافة فرارا من ان يزكي نفسه (ان اقدم) بفتح الهمزة (أحب الى) بالفتح
على انه خبر كان والاسم في ان اقدم وعكسه (اللهم الا ان تسول لى نفسى عند
الموت الى آخره) معني ذلك انه حلف على ما في نفسه الآن انه يختار الموت على
ان يتأمر على قوم فيهم أبو بكر ثم استثنى ما عسي أن يقع في النفس عند الموت
من اختيار الحياة ولو مع التأمر المذكور علي عادتها في الفرار من الموت
وعدم الرضى به (فقال قائل من الانصار) هو الحباب بن المنذر أخرجه مالك
وغيره (انا جذيلها) بجيم ومعجمة مصغر جذل بكسر الجيم وسكون المعجمة وهو
العود (المحكك) بفتح الكاف المشددة أي المنصوب للابل الجرباء تحتك به
(وعذيقها) باهمال العين واعجام الذال مصغر عذق بالفتح وهو النخلة (المرجب)
بفتح الجيم المشددة آخره موحدة هو الذي جعل له رجبة بضم الراء وسكون الجيم
وهي بناء تحاط به النخلة خوفا من سقوطها من الرياح ولا يفعل ذلك الا
بالنخلة الكريمة الطويلة والتصغير يراد به هنا الكثير قاله الميدانى
والمعنى انه رجل يستشفي برأيه وعقله زاد ابن اسحاق وغيره بعد هذا لنعيدنها
جذعة (منا أمير ومنكم أمير) زاد أهل السير فان عمل المهاجري في الانصاري
شيأ رد عليه الانصاري وان عمل الانصارى في المهاجرى شيأ رده المهاجري
(فرقت) بكسر الراء خفت (ونزونا) بنون وزاي مفتوحة أي رأينا (فقال قائل)
ولابن اسحق وغيره فقالت الانصار (قتلتم سعد بن عبادة) أي عملتم عملا
أغضبتموه غضبا له وقع ويعبر بالقتل عن ذلك
(2/62)
[مطلب ثم كانت بيعة عليّ لأبي بكر بعد موت
فاطمة رضي الله عنها]
قال عمر وانا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة ابي بكر
خشينا ان فارقنا القوم ولم تكن بيعة ان يبايعوا رجلا منهم فاما بايعناهم
على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد فمن بايع رجلا على غير مشورة من
المسلمين فلا يبايع هو لا والذى بايعه تغره أن يقتلا وروينا فيه أيضا عن
الزهرى قال أخبرنا أنس بن مالك انه سمع خطبة عمر الاخيرة حين جلس على
المنبر ذلك الغد حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وابو بكر جالس
صامت لا يتكلم قال كنت أرجو ان يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
يدبرنا يريد بذلك ان يكون آخرهم فان يكن محمدا قد مات فان الله عز وجل قد
جعل بين اظهركم نورا تهتدون به هدى الله محمدا صلى الله عليه وسلم وان أبا
بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين وانه أولى المسلمين
بأموركم فقوموا فبايعوه وكان طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني
ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر قال أنس بن مالك سمعت عمر يقول لأبى
بكر يومئذ اصعد المنبر فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة قال
القاسم بن محمد فما كان من خطبتهما من خطبة الا نفع الله بها لقد خوف عمر
الناس وان فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى
وعرفهم الحق الذى عليهم وخرجوا به يتلون وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الى الشَّاكِرِينَ* ثم كانت بيعة علي
بن أبي طالب رضى الله عنه ومن معه بعد موت فاطمة وعاشت فاطمة بعد موت أبيها
ستة أشهر ولما ماتت أرسل علي الى أبى بكر أن ائتنا فأتاهم فتشهد عليّ بن
أبى طالب ثم قال انا قد (وذلك الغد) بالنصب (حتى يدبرنا) باهمال الدال وضم
الموحدة (صاحب) بالنصب والرفع (ثانى اثنين) بسكون التحتية علامة للرفع
(وكانت بيعة العامة على المنبر) في المسجد زاد أهل السير فسمع على والعباس
التكبير ولم يفرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال العباس هذا
ما كنت قلت لك يا على (قال القاسم بن محمد) ابن أبي بكر الصديق (من
خطبتهما) أي أبي بكر وعمر ومن تبعيضية أو بيانية (من خطبة) من زائدة (لقد
بصر) بالموحدة وتشديد المهملة (قد خلت) مضت كلمة تامة (بيعة على) بالرفع
(عاشت فاطمة بعد أبيها) صلى الله عليه وسلم (ستة أشهر) على الصحيح المشهور
وقيل ثلاثة أشهر وقيل ثمانية وقيل شهرين وقيل سبعين يوما وكانت وفاتها رضى
الله عنها لثلاث مضين من شهر رمضان سنة احدى عشرة (أن اثنتا) زاد مسلم في
رواية ولا يأتينا معك أحد كراهية يحضر عمر فقال عمر لابي بكر والله لا تدخل
عليهم وحدك وانما كرهوا محضر عمر كما قال النووي لعلمهم شدته وصدعه بما
يظهر له فخافوا ان ينتصر لابي بكر فيتكلم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر
وكانت قلوبهم قد طابت عليه وانشرحت له فخافوا أن يكون حضور عمر
(2/63)
عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله
ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله اليك ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نحن
نري لنا حقا لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا
بكر حتى فاضت عينا أبا بكر فلما سكت تكلم أبو بكر قال والذي نفسي بيده
لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الي أن أصل من قرابتي وأما الذي
شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فانى لم آل فيها على الحق ولم أترك أمرا
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها الا صنعته فقال علي لأبى بكر
موعدك العشية فلما صلى ابو بكر صلاة الظهر رقى ابو بكر على المنبر فتشهدو
ذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر اليه ثم استغفر وتشهد علي
بن أبى طالب كرم الله وجهه فعظم حق ابى بكر وانه لم يحمله على الذي صنع
نفاسة على أبى بكر ولا إنكار الذي فضله الله به ولكنا كنا نرى أن لنا في
هذا الأمر نصيبا فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون
وقالوا أصبت وكان المسلمون الى على قريبا حتى راجع الأمر المعروف رواه
مسلم* وانما ذكرت الحديث الأول متمما بيان حكم الرجم وكانت الدلالة على ذلك
تتم دون تمامه لما فيه وفي الحديثين بعده من الدلالة على أصل بيعة ابى بكر
وانها كانت اجماعا من الصحابة الذين تقررت عصمتهم من الاجتماع على الضلال
والخطأ والتمالئ عليهما وانه قد كان من على رضي الله عنه بعض تردد سببا
لتغييرها وعمر انما قال لا تدخل عليهم وحدك خوفا عليه من اغلاظهم عليه في
المعاتبة وعدم جواب أبى بكر والانتصار لنفسه لقوة لينه وصبره وخاف تغير قلب
أبي بكر فيترتب على ذلك مفسدة خاصة أو عامة وبحضور عمر يمتنعون من ذلك هذا
معنى ما ذكره النووي قال وفي دخول أبي بكر وحده مع حلف عمر انه لا يدخل
كذلك دليل علي ان ابرار القسم المأمور به في الاحاديث الصحيحة محله اذا
أمكن احتماله بلا مشقة ولم يكن فيه مفسدة وهذا ظاهر (ولم ننفس عليك) بفتح
الفاء أي لم نحسدك يقال نفس بكسر الفاء في الماضى تنفس بفتحها في المضارع
(ولكنا كنا نري) بضم النون وفتحها (لنا في هذا الامر نصيبا) وذكر جماعة من
أهل السير ان أبا بكر قال يا علي أكرهت امارتي قال لا لكن ابيت ان لا اخرج
بعد موته صلى الله عليه وسلم حتى احفظ القرآن فعليه حبست نفسى (شجر بينى
وبينكم) أى اختلفنا فيه وتنازعنا (لم آل) بمد الهمزة أى لم اقصر (موعدك
العشية) بالنصب والضم قال أهل اللغة العشية والعشى من زوال الشمس الى
الغروب (رقى) بكسر القاف في الماضي وفتحها في المستقبل كعلم يعلم (وعذره)
بفتح العين والذال فعل ماض وبضمها وسكون الذال أي وذكر عذره (نفاسة) بفتح
النون أى حسدا (من الدلالة علي أصل بيعة الصديق) لمبايعة من تيسر حضوره
يومئذ من اهل الحل والعقد له (قد كان من علي رضى الله عنه بعض تردد) غير
قادح في صحة البيعة اذ لا يجب على كل أحد اتيان الامام ووضع يده في يده
ومبايعته بل يلزمه
(2/64)
أول الأمر ثم شرح الله صدره فاعتذر في
تخلفه تلك الايام وبايع وتابع فادّ الطاعة لأبى بكر والخلفاء بعده الى ان
انتهت النوبة اليه وتعين القيام عليه فقام بها على أحسن الوجوه واكملها
وأعدلها وقاتل من غلا في محبته كما قاتل من خرج عن طاعته ولم يعنف من تخلف
عن نصرته وختم الله له بالسعادة والشهادة هذا وقد تعصب قوم له وادعوا له
الخلافة ابتداء وان النبي أوصى اليه وتعاموا عن دلائل كثيرة صحيحة صريحة أو
كالصريحة على خلافة أبى بكر اقواها بعد الاجماع إنابته اياما في الصلاة
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمحضر من على رضى الله عنه وكانت
الصلاة اعظم شعار في الاسلام واول امرأ حوج الى النيابة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد قال علي رضي الله عنه رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لديننا واعظم ما وقع فيه هؤلاء من الأخطار تفسيقهم
للصحابة ونسبتهم الى الخطأ ولزم من ذلك دخول علي معهم حيث القى بيديه ودخل
في بيعة لا يعتقد صحتها وألزم نفسه طاعة الانقياد له وعدم اظهار خلاف ولا
شق عصا وكان ذلك شأن علي في مدة تخلفه ولم يظهر على أبي بكر خلافا ولا شق
العصا بل كان لعذر ولم يكن انعقاد البيعة متوقفا على حضوره فلم يجب عليه
الحضور لذلك ولا لغيره ولم ينقل عنه قدح في بيعة أبى بكر رضي الله عنه ولا
مخالفة نعم بقي في نفسه عتب مما لا يعصم منه البشر فتأخر الى ان زال وكان
عتبه انه رأى أن لا يبرم أمرا الا بمشورته وحضوره ولكن كان أبو بكر وعمر
وسائر الصحابة معذورين في الاستبداد علي علىّ لانهم رأوا المبادرة بالبيعة
من أعظم المصالح وخافوا من تأخرها خلافا يترتب عليه مفاسد عظيمة ومن ثم
أخروا دفن النبى صلى الله عليه وسلم حتى عقدت البيعة كيلا يقع نزاع في موضع
دفنه أو في غسله أو الصلاة عليه أو غير ذلك وليس لهم حاكم يفصل أمرهم فيها
وان تقديم البيعة أهم الاشياء هذا معني ما ذكره النووى (بايع) بالموحدة
والتحتية (وتابع) بالفوقية والموحدة (وختم الله له بالسعادة والشهادة)
فقتله عبد الرحمن بن ملجم الحميرى ثم المرادى قاتله الله وذلك يوم الجمعة
السابع عشر من شهر رمضان سنة ست وأربعين علي الصحيح عن ثلاث وستين سنة على
أسد الاقوال ودفن في قصر الامارة بالكوفة ليلا وغيب قبره وقيل في رحبة
بالكوفة وقيل بنجف الحرة وغسله ابناه الحسن والحسين وصلى عليه الحسن وكبر
أربع تكبيرات على الصحيح (وقد تعصب قوم له) كالروافض والامامية وسائر فرق
الشيعة (وبمحضر) بفتح الضاد (تفسيقهم للصحابة ونسبتهم الى الخطأ) وهذا قول
الامامية وبعض المعتزلة وأما الروافض كلاب النار فانهم يكفرون سائر الصحابة
في تقديمهم غير على وكفر بعضهم أيضا عليا لانه لم يقم في طلب حقه بزعمهم.
قال القاضى وهؤلاء أسخف مذهبا وأفسد عقلا من ان يرد قولهم ويناظروا قال ولا
شك في كفرهم لان من كفر الامة كلها والصدر الاول فقد أبطل نقل الشريعة وهدم
(2/65)
من لا يستحقها وقد كان له من قوة الجنان
واشتداد الاركان ما لو اجتمعت الأمة بأسرها في جانب باطل لم يتابعهم وقد
جهل قدره من ظن به ذلك ومن عظيم خطائهم اعتقادهم ان النبي صلى الله عليه
وسلم أوصى الى علىّ بالخلافة فخالفوه وجرى الأمر على خلاف ما أخبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم وحاشا فلم يوجد في جميع ما أخبر عنه من المغيبات
خلف ولا تغيير وما ينطق عن الهوى ان هو الاوحى يوحى وبالجملة فهذا أمر قد
انطوى بساطه وفرغ منه على ما انطوى عليه وما أسعد من أحب عليا لما مهد الله
له من الفضائل وعرف لبقية الصحابة حقهم وأنزلهم منازلهم وأخسر من لا يصفوا
له حبه الا بالتناول من غيره وعلى كل تقدير فالواقع على جانب من الخسر
والوبال والساكت يسالم على كل حال وطريقة السلامة واضحة لمن ارتادها
والعوائد السنية لازمة لمن اعتادها والله ولى التوفيق*
[مطلب ومن حوادث هذه السنة موت أم كلثوم ابنته
صلى الله عليه وسلم]
ومن الحوادث في هذه السنة موت أم كلثوم ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وهي
الثانية من زوجتي عثمان بن عفان روينا في صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال
شهدنا موت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم
جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان فقال هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة
فقال أبو طلحة أنا قال فانزل في قبرها فنزل في قبرها صحح ابن عبد البر انها
أم كلثوم ولا يصح قول من زعم انها رقية لأن رقية ماتت والنبي صلى الله عليه
وسلم غائب ببدر والله أعلم* ومعنى لم يقارف أي لم يكسب ذنبا وقيل لم يجامع
وأنكره الطحاوي الاسلام (الجنان) بفتح الجيم وتخفيف النون القلب (الا
بالتناول) أي السب وهو بتقديم الفوقية على النون (أرتادها) أي طلبها
(والعوائد) جمع عائدة وهى ما يعود علي الشخص نفعه (السنية) بفتح المهملة
وكسر النون وتشديد التحتية السامية* (موت أم كلثوم) رضى الله عنها وهي بضم
الكاف والمثلثة وسكون اللام (وهى الثانية من زوجتى عثمان) قيل ولا نعلم
رجلا تزوج ابنتى نبى سواه ومن ثم قيل له ذو النورين (فائدة) حضر غسلها من
النساء أم عطية كما في سنن الترمذي قال ابن حجر وأسماء بنت عميس وصفية بنت
عبد المطلب وليلي بنت قانف (لم يقارف) بقاف وفاء (فقال أبو طلحة) اسمه زيد
بن سهل كما مر (فانزل في قبرها فنزل) فيه جواز ادخال الاجنبى المرأة القبر
ولو مع حضور زوجها وأبيها مثلا (من زعم) أى قال (ومعنى لم يقارف) قيل (لم
يكسب ذنبا وقيل لم يجامع) وهذا هو الصحيح (و) ان (أنكره الطحاوي) باهمال
الطاء والحاء واسمه أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة وهو منسوب الي طحا قرية
من قرى الصعيد وكان امام الحنفية وحافظ مذهبهم قال في التوشيح وذكر في حكمه
انه حينئذ يأمن من ان يذكره الشيطان بما كان منه تلك الليلة وفي المستدرك
ان عثمان تنحا قال ابن حبيب لانه جامع بعض جواريه لتلك الليلة
(2/66)
وقال معناه لم يقاول الليلة لأنهم كانوا
يكرهون الحديث بعد العشاء*
[مطلب في خبر وفاة النجاشي بالحبشة والصلاة
عليه]
وفي رجب منها توفي النجاشي واسمه أصخمة ومعناه بالعربية عطية. روينا في
صحيح البخاري عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فضلوا عليه قال
فصففنا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن صفوف قال جابر كنت في الصف
الثاني وفي رواية في الصحيحين انه كبر عليه أربع تكبيرات. قال القاضى عياض
اختلفت الآثار في ذلك فجاء من رواية ابن أبي خيثمة ان النبي صلى الله عليه
وسلم كان يكبر أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشى وكبر عليه
أربعا وثبت على ذلك حتى توفي صلى الله عليه وسلم قال أصحابنا فان خمس لم
تبطل في الاصح واتخذ (لم يقال) بالقاف يفاعل من القول فائدة روي الحاكم في
المستدرك عن أبي امامة رضى الله عنه قال لما وضعت أم كلثوم في القبر قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة
أخري بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله فلما بنى عليها لحدها طفق
يطرح اليهم الجبوب ويقول سدوا خلال اللبن ثم قال اما ان هذا ليس شيء ولكن
يطيب نفس الحي انتهى والجبوب بضم الجيم والموحدة القطعة من الطين* موت
النجاشي وقد مر ضبطه وضبط أصخمة (روينا في صحيح البخارى) وصحيح مسلم وسنن
أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه (قد توفي اليوم) فيه المعجزة الظاهرة
له صلى الله عليه وسلم واستحباب الاعلام بالميت لا على صورة نعى الجاهلية
بل مجرد اعلام للصلاة عليه وتشيعه وانما المنهى عنه النعي المشتمل على ذكر
المفاخرة وغيره من شعار الجاهلية (رجل صالح) هو القائم بحقوق الله وحقوق
العباد وفيه منقبة عظيمة للنجاشي (من الحبش) بضم المهملة وسكون الموحدة
وبفتحهما (فهلم فصلوا) قال النووي فيه وجوب الصلاة على الميت وهى فرض كفاية
بالاجماع (كنت في الصف الثاني) في رواية في الصف الثالث وفيه ندب جعل
المصلين على الميت ثلاثة صفوف قال الاصحاب وكلهم في الفضل سواء (كبر عليه
أربع تكبيرات) فيه ان تكبيرات الجنازة أربع وهو مذهبنا ومذهب الجمهور (قال
القاضى) عياض كما نقله عنه النووى في شرح مسلم (وثبت على ذلك) أى على
الاربع (حتى توفي) قال عياض واختلف الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات الى سبع
وروي عن علىّ انه كان يكبر على أهل بدر ستا وعلى سائر الصحابة خمسا وعلى
غيرهم أربعا قال يوسف بن عبد البر ثم انعقد الاجماع بعد على أربع وأجمع
الفقهاء وأهل الفتوى بالامصار على ذلك للاحاديث الصحيحة وما سوى ذلك عندهم
شاذ لا التفات اليه قال ولا يعلم أحد من فقهاء الامصار كان يخمس الا ابن
أبى ليلى (قال أصحابنا) في كتبهم الفقهية (فان خمس) أو زاد على الخمس كما
قاله الحيلى فان كان ناسيا (لم تبطل) صلاته قطعا أو عامدا فكذا (في الاصح)
لانها زيادة ذكر وقد أخرج مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال
(2/67)
العلماء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على
النجاشى أصلا في الصلاة على الغائب وقال الخطابي من أصحابنا لا يصلي عليه
الا اذا كان في موضع لا يصلي عليه كما وقع للنجاشى واستحسنه الرويانى في
البحر والكلام في الغائب عن البلد أما الحاضر فلا يصلي عليه صلاة غائب سواء
كبرت البلد أو صغرت والله اعلم.
[مطلب في موت عبد الله بن أبيّ بن سلول واستغفار النبي صلى الله عليه وسلّم
له ونهي ربّه عن ذلك]
وفيها مات عبد الله بن ابي بن سلول وذلك بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم
من تبوك. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وهو مريض فقال أهلك حب
يهود ولما مات أتاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أدخل فأمر به فاخرج
فوضعه على ركبته ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه رواه البخاري عن جابر وروي
أيضا عن عمر قال لما مات عبد الله بن أبي دعى له رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت اليه فقلت له
يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا اعدد عليه قوله
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخرعنى يا عمر فلما أكثرت عليه
قال اني خيرت فاخترت كان زيد بن أرقم يكبر على الجنائز أربعا وانه كبر على
جنازة خمسا فسألته قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرها ومقابل
الاصح تبطل بالزيادة كزيادة ركعة خامسة ولا يتابع المأموم الامام فيها بل
يسلم أو ينتظره ليسلم معه في الاصح ومقابلة تتابعه لتأكيد المتابعة فان
قلنا الزيادة مبطلة فارقه جزما (وقال الخطابي) اسمه حمد بفتح المهملة وسكون
الميم بن محمد بن ابراهيم بن خطاب قال الشمني هو الامام الحافظ السبتي قال
والخطابي نسبة الى جده ويقال انه من نسل زيد بن الخطاب (الروياني) بضم
الراء وسكون الهمزة اسمه عبد الواحد بن اسماعيل منسوب الى رويان بلد
بطبرستان (والكلام في الغائب عن البلد) سواء كان في جهة القبلة أو في غيرها
(اما الحاضر فلا يجوز) ان (يصلى عليه صلاة غائب) اذ لم يرد ذلك والحضور
عنده سهل* موت عبد الله بن أبي (روى ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه
وهو مريض) نقل ذلك البغوى عن أهل التفسير وقال ما معناه سبب ذلك انه بعث
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءه (قال أهلكك حب يهود) لا ينصرف
زاد البغوى فقال يا رسول الله انى لم أبعث اليك لتؤنبني ولكن بعثت اليك
لتستغفر لى وسأله ان يكفنه في قميصه ويصلى عليه (ولما مات) وكانت وفاته في
ذى القعدة (وروي) البخارى (أيضا) وكذا مسلم والترمذي والنسائى (دعى له رسول
الله صلى الله عليه وسلم) وكان الداعي ابنه عبد الله بن عبد الله وهو الذي
سأل من النبي صلى الله عليه وسلم ان يلبس أباه قميصه الذي يلي جلده كما
نقله البغوي وغيره عن يزيد بن هارون (وثبت اليه) أي قمت بسرعة (وقد قال يوم
كذا كذا وكذا) لاصحاب السنن وقد نهاك ربك ان تصلى عليه (اني خيرت فاخترت)
فان قيل كيف فهم
(2/68)
لو أعلم اني ان زدت على السبعين يغفر له
لزدت عليها قال وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم انصرف فلم يمكث
الايسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم
على قبره انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون قال فعجبت بعد من
جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم.
قيل فعل به النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل اكراما لولده حيث سأله ذلك وما
سئل شيئا قط فقال لا وأما القميص فألبسه اياه مكافأة له لأنه ألبس العباس
يوم بدر قميصا* خاتمتها صلى الله عليه وسلم من الآية التخيير والمفهوم من
الآية انما هو التسمية بين الاستغفار وتركه كما فهمه عمر واقتضاه سياق
القصة أجيب بأن قوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا الى آخره تأخر نزوله عن
أول الآية ففهم صلى الله عليه وسلم من ذلك القدر النازل ما هو الظاهر حينئذ
من ان أو للتخيير وان عدد السبعين له مفهوم فاندفع الاستشكال الحامل لجماعة
من الأكابر على الطعن في هذا الحديث منهم أبو بكر الباقلاني وامام الحرمين
والغزالى والحديث لا مطعن فيه فقد اتفق الشيخان وسائر الذين خرجوا الصحيح
على تصحيحه (لو أعلم انى ان زدت على السبعين الى آخره) لاصحاب السنن وسأزيد
على السبعين (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) ظاهر الحديث تأخر نزول
هذه الآية عن القصة وما في تفسير البغوي مما يقتضي نزولها في حياة عبد الله
بن أبي مردود بما في الصحيح وفي الآية تحريم الصلاة على الكافر والدعاء له
بالمغفرة والقيام على قبره (الى قوله وَهُمْ فاسِقُونَ) زاد الترمذى فترك
الصلاة عليهم (من جرأتي) أى اقدامي (اكراما لولده) قيل واظهارا لحلمه عن من
يؤذيه أو لرحمته إياه عند جريان القضاء عليه (ما سئل شيئا قط فقال لا) كما
رواه الحاكم عن أنس كان لا يسأل شيئا الا أعطاه أو سكت (ان) بفتح الهمزة
(ألبس العباس يوم بدر قميصا) ولم يكن للعباس يومئذ ثوب فوجدوا قميص عبد
الله تقدر عليه فكساه إياه كما رواه البغوى عن جابر بصيغة وروى قال وقال
ابن عيينة كانت له عند رسول الله يد فأحب ان يكافئه قال وروي ان النبى صلى
الله عليه وسلم كافأ فيما فعل بعبد الله بن أبى فقال النبى صلى الله عليه
وسلم ما يغنى عنه قميصي وصلاتى من الله والله ان كنت أرجو ان يسلم به ألف
من قومه وروى انه أسلم بعد موته ألف من قومه لما رأوه تبرك بقميص النبي صلى
الله عليه وسلم انتهي وفي هذا الحديث كما قال النووي بيان عظيم مكارم اخلاق
النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم ما كان من هذا المنافق من الايذاء وقابله
بالحسنى فألبسه قميصه كفنا وصلى عليه واستغفر له قال تعالى وَإِنَّكَ
لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ انتهى وفي هذا الحديث منقبة جليلة لعمر رضي الله عنه
حيث وافق ربه (فائدة) قال ابن العربي وافق عمر ربه تلاوة ومعنى في احد عشر
موضعا منها هذه القصة وفي قوله عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ وفي قوله
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وفي الحجاب وفي اساري بدر
وكل هذه في الصحيح وفي آية المؤمنين كما رواه أبو داود الطيالسى من حديث
على بن زيد وافقت ربى لما نزلت ثم أنشأناه خلقا آخر فقلت انا تبارك الله
أحسن الخالقين فنزلت وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أنس وفي
(2/69)
[مطلب في حج
أبي بكر تلك السنة وإردافه بعلي يؤذن ببراءة في الحج]
حج ابو بكر الصديق وكان من خبر ذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من
تبوك في رمضان أقام بالمدينة الى ذي القعدة وأراد الحج فذكر مخالطة
المشركين وما اعتادوه من الجهالات في حجهم وان الأشهر الحرم والعهود التي
لهم تمنع من منعهم فساءه ذلك وأمر أبا بكر على الحجاج وبعث معه بسورة براءة
حاصلها التبرأ من عهود المشركين والتأجيل لهم أربعة أشهر ذهابا في الأرض
اينما شاؤا ومن كان له عهد الى مدة ولم ينقص المسلمين شيئا ولم يظاهروا
عليهم أحدا كبعض بني بكر فهو الى مدته فيما تضمنته أربعون آية من صدر سورة
براءة ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعده على بن ابي طالب على ناقته
العضباء تحريم الخمر كما روي أصحاب السنن والحاكم ان عمر قال اللهم بين لنا
في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تحريمها وفي قوله تعالى مَنْ كانَ
عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ الآية ذكره البغوى وابن جرير وابن أبي
حاتم من حديث عبد الرحمن بن أبى ليلى قلت ومنها قصة الاستغفار للمنافقين
كما روي الطبرانى من حديث ابن عباس قال لما أكثر رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الاستغفار لقوم من المنافقين قال عمر سواء عليهم استغفرت لهم أم لم
تستغفر لهم ومنها آية لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في
الخروج الى بدر أشار عمر بالخروج فنزل كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الآية
ذكره أهل السير ومنها انه لما استشاره صلى الله عليه وسلم في فراق عائشة
يوم الافك قال عمر من زوجكها يا رسول الله قال الله قال أفتظن ان ربك دلس
عليك فيها سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت كذلك ومنها ما أخرجه أحمد وغيره انه
لما جامع امرأته في رمضان ليلا بعد الانتباه وكان ذلك محرما أول الاسلام
فنزل أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ الآية
ومنها ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي الاسود قال اختصم
رجلان الى النبى صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما فقال الذى قضي عليه ردنا
الى عمر فقال أكذلك قال نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج اليكما فخرج اليهما
مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا الى عمر فقتله وأدبر الآخر فقال يا
رسول الله قتل عمر والله صاحبي فقال ما كنت أظن ان يجترئ عمر على قتله مؤمن
فأنزل الله عز وجل فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية فاهدر دم الرجل وبرأ عمر من قتله وله شاهد
موصول وفي تفسير البغوي ان المقتول كان منافقا وخصمه يهوديا ومنها
الاستئذان في الدخول وذلك انه دخل عليه غلامه وكان نائما فقال اللهم حرم
الدخول فنزلت آية الاستئذان ذكره بعض المفسرين ومنها موافقته لقوله تعالى
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ الاية أخرجه ابن عساكر في التاريخ عن جابر* حج
أبي بكر الصديق (وما أعتادوه من الجهالات ك) كطوافهم بالبيت عراة (فثناه
ذلك) أي رجعه (أمر) بالتشديد (على الحجاج) بضم الحاء (بسورة براءة) أى
باربعين آية من صدرها ليقرأها على أهل الموسم كما سيذكره المصنف (ولم ينقص
المسلمين) بالمهملة (من صدر سورة براءة) الى قوله وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ كما في رواية ابن جرير (العضباء) باهمال العين واعجام الضاد
(2/70)
وأمره ان يتولى نبذ العهود ويقرأ على الناس
صدر سورة براءة فلما أدرك علي عليه السلام أبا بكر قال ابو بكر امير أم
مأمور فقال بل مأمور ثم مضيا ويقال ان ابا بكر لما لحقه علي رجع فقال يا
رسول الله بأبى أنت وأمي أنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا ينبغي لأحد أن
يبلغ هذا الارجل من اهلي اما ترضى يا ابا بكر انك كنت معي في الغار وانك
صاحبي على الحق ايضا قال بلى فكان ابو بكر أمير الناس وعلي يؤذن ببراءة
ويؤذن المؤذنون بها عن امره روينا في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال بعثني
ابو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد
العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وروي عنه انه قال امرني علي بن ابي طالب
ان اطوف في المنازل من منى ببراءة وكنت اصيح حتى صحل حلقى فقيل له بم كنت
تنادي قال بأربع أن لا يدخل الجنة الا مؤمن وان لا يحج بعد العام مشرك وان
لا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد فله اجل أربعة أشهر ثم لا عهد له قال
العلماء وكان السبب في بعث علي عليه السلام بعد أبي بكر انه كان في عرف
العرب ان لا يتولى عقد العقود ونقضها الا سيدهم أو رجل من رهطه فبعث عليا
ازاحة للعلة لئلا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه واراد النبي صلى الله عليه وسلم
بذلك أن يأتى حجه من قابل على امر قد تقرر وتمهد فنسخ الله سبحانه وتعالى
بابتداء سورة التوبة عهد كل ذي عهد بالشرط السابق ومن لم يكن له عهد فاحله
انسلاخ شهر الله المحرم وذلك قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ
ثم موحدة مع المد (نبذ العهود) من طرحها وابطالها (ويقال ان أبا بكر) ذكر
ذلك البغوي بصيغة جزم (بابى أنت وأمي) افديك (أنزل في شأنى شيء) قال ذلك من
شدة خوفه لله عز وجل وخشية أن يكون ليس أهلا للتأمير (وانك صاحبي) بفتح
الهمزة (روينا في صحيح البخارى) وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي (بعثني
أبو بكر في الحجة) قال الطحاوى كيف بعث أبو بكر أبا هريرة والمأمور
بالتأذين علىّ وأجيب بان أبا بكر كان هو الامير وكان لعلى التأذين فقط ولم
يطقه وحده فاحتاج الي من يعينه على ذلك فارسل معه أبو بكر رضى الله عنه أبا
هريرة وغيره ليساعدوه (في مؤذنين) قال في التوشيح سمى منهم سعد ابن أبى
وقاص وجابر (ولا يطوف) بالنصب (وروي عنه قال أمرني على) رواه النسائي
بمعناه (إزاحة) بكسر الهمزة وبالزاى والمهملة والتنوين أي اماطة وتنحية
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أى انفضت ومضت قيل هي الاشهر
الاربعة رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقيل هى شهور العهد سميت حرما
لأن الله
(2/71)
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ وهذه الآية من اعاجيب القرآن لأنها نسخت من القرآن مائة واربعا
وعشرين آية ثم نسخت بقوله تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ*
[السنة العاشرة وفيها كان إسلام أبي عبد الله
جرير البجلي سيد بجيلة]
السنة العاشرة في رمضان منها تعالي حرم فيها على المؤمنين دماء أهل الشرك
والتعرض لهم (فاقتلوا المشركين) أي الكفار (حيث وجدتموهم) أي ولو في الحرم
(وخذوهم واحصروهم) أى احبسوهم وقال ابن عباس يريد ان تحصنوا فاحصروهم أى
امنعوهم الخروج وقيل امنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الاسلام (واقعدوا
لهم كل مرصد) أي على كل طريق (وان أحد من المشركين) الذين أمرت بقتلهم
(استجارك) أي استأمنك بعد انسلاخ الاشهر الحرم (فاجره) فاعذه وأمنه (حتى
يسمع كلام الله) فيما له وعليه من الثواب والعقاب (ثم ابلغه مأمنه) أى
المحل الذى يأمن فيه وهو دار قومه ثم ان قاتلك بعد وقدرت عليه فاقتله*
السنة العاشرة (ذكر اسلام جرير) بن عبد الله (في رمضان منها) كما جزم به
ابن حبان والبغوي وأكثر الحفاظ المتأخرين وغلط الطحاوى ابن عبد البر وغيره
ممن قال ان اسلامه قبل موت النبى صلى الله عليه وسلم باربعين يوما لما في
الصحيحين وغيرهما عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع استنصت لى الناس نعم يؤيد ما قاله ابن عبد البر ما روي عن جرير قال
ما كان اسلامي الا بعد نزول المائدة وقد علم ان قوله تعالى الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ انما نزلت بعرفات في حجة الوداع وهى من جملة
آياتها والجواب عنه انه أراد بعد نزول معظمها وكان قبل حجة الوداع ومن ذلك
آية الوضوء منها وهي نزلت قبل غزوة تبوك بزمن طويل فان قيل قد روي الطبرانى
في الاوسط والكبير بسند صحيح غريب عن جرير رضى الله عنه قال لما بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم أتيته فقال لى يا جرير لاى شيء جئتنا قلت لاسلم
على يديك يا رسول الله فالقي لى كساه ثم أقبل على أصحابه فقال اذا أتاكم
كريم قوم فاكرموه وهذا يدل على ان مجيء جرير كان في أول البعثة فالجواب ان
جريرا لم يرد بقوله لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أتيته انه أتي بعد
البعثة فورا والا للزم من ذلك انه أسلم بمكة ولا قائل به ومما يقوى هذا ما
في تتمة الحديث في المعجم الكبير فدعانى الى شهادة أن لا اله الا الله وانى
رسول الله وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتؤمن بالقدر خيره
وشره وذلك لان الصلاة المكتوبة انما فرضت ليلة الاسراء وهو بعد البعثة بمدة
كما مر والزكاة انما فرضت بالمدينة بلا توقف فحينئذ هذا اللفظ متروك الظاهر
فلا يستدل به علي قدم اسلام جرير فان قيل ففي معجم ابن نافع من حديث شريك
عن أبي اسحق عن الشعبي عن جرير قال لمانعى النجاشى قال النبي صلي الله عليه
وسلم ان أخاكم النجاشى هلك فاستغفروا له فهذا يدل على تقدم اسلام جرير عن
رمضان لان وفاة النجاشى كانت في رجب سنة تسع كما مر فالجواب انه ليس في
حديث جرير انه كان مسلما يومئذ لجواز أن يكون حديثه من مراسيل الصحابة وأما
ما رواه الطبري عن جرير قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في أثر
العرنيين الدال لتقدم اسلام جرير لان قصة العرنيين كانت سنة ست أو تسع
فجوابه ان سند هذا
(2/72)
اسلم سيد بجيلة ابو عبد الله جرير بن عبد
الله البجلي الأحمسي رضي الله عنه. روينا في الصحيحين عنه قال بايعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم على اقام الصلاة وايتاء الزكاة والنصح لكل مسلم
وفيهما ايضا عنه قال ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اسلمت ولا
رآنى الاضحك وكان عمر يسميه يوسف هذه الامة لفرط جماله وكان طوالا يقتحم في
ذروة البعير وكان نعله ذراعا ومع تأخر اسلامه فقد اخذ في نصر الاسلام بحظ
وافر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزيه مرة ويبعثه اخرى. روينا في
الصحيحين واللفظ لمسلم الحديث ضعيف فيه موسي بن عبيدة اليزيدي كذا أجاب
الحفاظ قلت وبتقدير صحته فلا دلالة فيه اذ لم يصرح بانه كان مسلما يومئذ
فلعله صلى الله عليه وسلم استعان به يومئذ وهو علي كفره (فائدة) حديث اذا
أتاكم كريم قوم فأكرموه رواه ابن ماجه بسند صحيح عن ابن عمر ورواه البزار
وابن خزيمة وابن أبى عدي والبيهقى في الشعب عن جرير أيضا ورواه البزار أيضا
عن أبى هريرة ورواه ابن أبى عدى عن معاذ وأبي قتادة ورواه الحاكم عن جرير
ورواه الطبراني في الكبير أيضا عن ابن عباس وعبد الله بن حمزة ورواه ابن
عساكر عن أنس وعدى بن حاتم ورواه الدولابي في الكنى وابن عساكر عن أبي راشد
عبد الرحمن بن عبد الله بلفظ شريف قوم (بجيلة) بفتح الموحدة وكسر الجيم حي
من اليمن من معد وهو أخو خعثم وهما من قحطان أو من ربيعة بن نزار قولان
(جرير) بفتح الجيم وكسر الراء الاولى (ابن عبد الله) بن جابر (الاحمسي)
نسبة الى أحمس بهمزة مفتوحة فمهملة ساكنة فميم مفتوحة فسين مهملة بظن من
بجيلة (وروينا في الصحيحين) وسنن ابن حبان ومعجم الطبراني (علي اقام الصلاة
وايتاء الزكاة) زاد البخاري في البيوع وعلى السمع والطاعة (والنصح لكل
مسلم) زاد ابن حبان فكان جرير اذا اشترى شيأ أو باع يقول لصاحبه اعلم ان ما
أخذنا منك أحب الينا مما أعطيناكه وللطبراني حتى انه أمر مولاه أن يشتري له
فرسا بثلاثمائة درهم وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن فقال جرير لصاحب الفرس
فرسك خير من ثلاثمائة ثم اشتراه بثمانمائة درهم فقيل له في ذلك فقال انى
بايعت النبى صلى الله عليه وسلم علي النصح لكل مسلم وانما بايع جريرا على
ما ذكر لانه صلى الله عليه وسلم كان يبايع أصحابه بحسب ما يحتاج المبايع
اليه من تجديد عهد أو توكيد امر فمن ثم اختلفت ألفاظهم في مبايعتهم قاله
القرطبي (وفيهما أيضا) وفي سنن الترمذى (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه
وسلم) أى ما منعني الدخول عليه في وقت من الاوقات ولم يرد انه كان يدخل على
أزواجه (ولا رآني الاضحك) أي تبسم كما في رواية أخرى في صحيح مسلم وغيره
وفي الحديث استحباب البشاشة واللطف والاكرام للوارد وفيه فضيلة جرير (يوسف)
بالفتح (لفرط جماله) ورد في حديث ضعيف انه صلى الله عليه وسلم قال كان على
وجه جرير مسحة ملك (طوالا) بضم الطاء المهملة وتخفيف الواو صفة مبالغة
للطويل (ذروة) بكسر المعجمة وفتحها أعلا سنام (البعير) زاد في الرياض
المستطابة الظهر أي طويل الظهر (روينا في الصحيحين)
(2/73)
قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا جرير الا تريحنى من ذي الخلصة بيت لخثعم كان يدعى كعبة اليمانية قال
فتقرب اليه في خمسين ومائة فارس وكنت لا أثبت على الخيل فذكرت ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فضرب بيده في صدري وقال اللهم ثبته واجعله هاديا
مهديا قال فانطلق فحرقها بالنار ثم بعث جرير الى رسول الله صلى الله عليه
وسلم رجلا يبشره يكنى ابا أرطاة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له
يا رسول الله ما جئك حتى تركتها كأنها جمل اجرب فبرّك رسول الله صلى الله
عليه وسلم على خيل احمس ورجالها خمس مرات ثم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم
الى اليمن قبل موته فلقى بها ذا كلاع وذا عمر وقال جرير فجعلت أحدثهم عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى ذو عمرو لئن كان الذي تذكره من أمر
صاحبك لقد مر على أجله منذ ثلاث قال وأقبلا معي حتى اذا كنا في بعض الطريق
رفع لنا ركب من قبل المدينة فسئلناهم فقالوا قبض رسول الله صلى الله عليه
وسلم واستخلف أبو بكر والناس صالحون فقالا اخبر صاحبك انا قد جئنا ولعلنا
سنعود انشاء الله ورجعت الى اليمن فاخبرت أبا بكر بحديثهم قال أفلا جئت بهم
قال فلما كان بعد قال لي ذو عمر ويا جرير وسنن أبي داود والنسائى (من ذي
الخلصة) اختلف هل كان هذا الاسم للبيت أو الصنم وقد مر ضبطها (بيت) بالجر
بدل من ذى (لحثعم) من بلاد دوس كانوا يحجون اليه ويطوفون به ويبخرون عنده
يشبهون به الكعبة المكرمة قال السهيلي وفي موضعها مسجد جامع بموضع يسمى
الغيلان (تدعى كعبة) بالنصب (اليمانية) بالتخفيف وباضافة كعبة الى اليمانية
من باب اضافة الموصوف الى صفته وفي رواية لمسلم كان يقال له الكعبة
اليمانية والكعبة الشامية وفي بعض النسخ الكعبة الشامية بلا واو قال النووي
وفي هذا اللفظ المام والمرادان ذا الخلصة كانوا يسمونه الكعبة اليمانية
وكانت الكعبة الكريمة تسمى الكعبة الشامية فرقوا بينهما للتمييز هذا هو
المراد فتأول اللفظ عليه وتقديره يقال له الكعبة اليمانية ويقال للتى بمكة
الشامية ومن رواه الكعبة اليمانية الكعبة شامية بحذف الواو فمعناه كل يقال
هذان اللفظان أحدهما لموضع والآخر لآخر (فنفرت) أي خرجت للقتال (فضرب بيده
في صدرى) زاد النسائي وغيره حتى رأيت أثر يده في صدري (هاديا) أى دالا على
طريق الهدى (مهديا) مدلولا عليها وموفقاها زاد في رواية فما وقعت عن فرس
بعد (رجلا يبشره) فيه كما قال النووي استحباب ارسال البشير بالفتوح ونحوها
(أبا أرطاة) بفتح الهمزة وسكون الراء ثم مهملة واسمه حصين كما في نسخ صحيح
مسلم وهو الموجود في نسخة ابن هامان وحسين كما في أكثرها وذكر عياض الوجهين
والصواب الصاد (جمل اجرب) أي اسود كالمطلى بالقطران لجربه قال النووى فيه
النكاية بآثار الباطل والمبالغة في ازالته (فبرك) يتشديد الراء (على خيل
احمس ورجالها) أي قال بارك الله فيهم (خمس مرات) هذا أصل في تكرير الدعاء
خمس مرات (ذا كلاع) تقدم ضبطه وذكر اسمه
(2/74)
ان لك علىّ كرامة واني مخبرك خبرا انكم يا
معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم اذا ما هلك أمير تأمرتم في آخر فاذا
كانت بالسيف كانوا ملوكا يغضبون غضب الملوك ويرضون برضا الملوك رواه
البخاري وذكر ان ذا الكلاع لما أتاه جرير أسلم وأعتق ثمانية عشر ألف عبد
وقيل اثنى عشر الف بنت والله أعلم*
[وفد بني الحارث بن كعب وفيهم قيس بن الحصين ذي
الغصة]
وفي شوال منها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني الحارث بن كعب
بأهل نجران وفيهم قيس بن الحصين ذي الغصة سمى بذلك لغصة كانت في حلقه وفيه
قال عمر بن الخطاب يوما وقد خطب الناس لا تزاد امرأة في صداقها على كذا
وكذا ولو كانت بنت ذي الغصة فيهم يزيد بن عبد المدان وآخرون وكان سبب
وفادتهم ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث اليهم خالد بن الوليد وأمره أن
يدعوهم ثلاثة أيام ثم يقاتلهم بعدها فلما قدم عليهم خالد أسلموا فكتب الى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك فكتب اليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يقدم بهم معه فقدم بهم خالد فلما رآهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند فلما وقفوا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم قالوا نشهد انك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وان
لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أشهد أن لا إله
إلا الله واني رسول الله ثم قال رسول (كرامة) بالنصب (تأمرتم في آخر) بمد
الهمزة وقصرها أى تشاورتم (فاذا كانت) أي امارة (بالسيف) أى بالقهر والغلبة
كانوا أي المراد* تتمة من فضائل جرير ما روي الطبرانى في الكبير وابن أبي
عدي عن على كرم الله وجهه ورضي عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
جرير منا أهل البيت ظهرا لبطن اما تاريخ وفاته فقد قال ابن عبد البر وغيره
نزل جرير رضي الله عنه الكوفة واعتزل حروب الصحابة ثم تحول الي الجزيرة
ونواحيها ومات بقرقيسيا بكسر القافين والسين المهملة وسكون الراء وتخفيف
التحتية يقصر ويمد سنة احدى وخمسين وقيل بعدها انتهى* ذكر وفد بنى الحارث
بن كعب (ابن الحصين) بالمهملتين والتصغير (ذي الغصة) بضم المعجمة وتشديد
المهملة (علي كذا وكذا) أي على خمسمائة درهم (يزيد) بالتحتية والزاى (بن
عبد المدان) بفتح الميم وتخفيف الدال واسم عبد المدان عمرو بن الرباب بن
قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة الحارثي وكان من أشراف اليمن تضرب
به الامثال في الشرف والمدان في الاصل الصنم من دان بمعنى أطاع (ان يقدم)
بفتح الهمزة (كأنهم رجال الهند) أى في الطول والجمال وكثرة الشعر (نشهد أنك
لرسول الله وان لا اله الا الله) قد يستدل به على عدم وجوب الترتيب بين
كلمتى الشهادة لصحة الاسلام وهو خلاف ما نقله أصحابنا عن القاضي أبي الطيب
وقرروه من اشتراط الترتيب وعليه فالجواب عن ذلك أنهم كانوا قد أسلموا
ببلادهم
(2/75)
الله صلى الله عليه وسلم أنتم الذين اذا
زجروا استقدموا كررها عليهم ثلاثا كل ذلك لا يجيبونه فقال له يزيد بن عبد
المدان في الرابعة أن نعم يا رسول الله نحن الذين اذا زجروا استقدموا قالها
ثلاث مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن خالدا لم يكتب انكم
أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رؤوسكم تحت أقدامكم فقال يزيد بن عبد المدان أما
والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا قال فمن حمدتم قالوا حمدنا الله الذي
هدانا بك قال صدقتم ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كنتم
تغلبون من قاتلكم في الجاهلية قالوا نغلب من قاتلنا يا رسول الله انا كنا
نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحدا بظلم قال صدقتم وأمر عليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم ابن ذي الغصة ولم يمكثوا بعد ان رجعوا الى قومهم الا أربعة
اشهر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد ان انصرفوا من عنده بعث اليهم عمرو بن حزم وكتب له كتابا فيه جمل
من الأحكام*
[مطلب في قصة تميم بن أوس الداري ونزول قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآية) .]
وفي هذه السنة نزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ
بَيْنِكُمْ الآية الى الْفاسِقِينَ وما بعدها في قصة مشهورة وهو انه خرج
تميم بن أوس الداري وعدي بن بداء النصرانيان في تجارة لهما الى الشام وخرج
معهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فمرض بديل فأوصى اليهما وكتب
جميع ما معه في رقعة وجعلها في جوالقه ولم يخبرهما بذلك فمات فلما مات أخذا
من متاعه اناء من فضة منقوشا بالذهب ثم قدما حتى جاءهم خالد كما هو مصرح به
في كتب السير (أنتم الذى اذا زجروا) أي سيقوا يقال زجرت البعير اذا أستقته
(استقدموا) أي كفاهم الزجر من غير احتياج الى ضرب وغيره وهذا مثل ضرب رسول
الله صلى الله عليه وسلم لهم حيث آمنوا بمجرد ان جاء اليهم خالد من غير
احتياج الى قتال (ابن حزم) بفتح الحاء المهملة وسكون الزاى* سبب نزول قوله
تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآية (في قصة
مشهورة) رواها البخاري وأبو داود مختصرة والترمذي مطولة عن ابن عباس وقال
ليس اسنادهما بصحيح (تميم ابن أوس) بن خارجة (الداري) نسبة الى دار بن
هانيء بن حبيب بن انمار بن لخم بن عدي بن كهلان بن سبأ ويقال في نسبة
الديري منسوب الى دير كان يتعبد فيه توفي ببيت المقدس سنة أربعين ولم يعقب
سوى ابنته رقية التى يكني بها (ابن بداء) بفتح الموحدة وتشديد المهملة
والمد مصروف (بديل) بالموحدة والمهملة مصغر وهو رجل من بنى سهم كما في
البخاري وسنن أبي داود والترمذى والمراد مولاهم لانه (مولي عمرو بن العاص)
كما في تفسير البغوى وغيره (في جوالقه) بالجيم المضمومة والقاف اما من جلود
أو ثياب أو غيرهما فارسى معرب (اناء من فضة) للبخارى وأبي داود والترمذى
جاما بالجيم وتخفيف الميم وأصله الصورة من العاج ثم استعير لغيره (منقوشا
بالذهب) ولهم مخوصا باعجام الخاء واهمال الصاد أي جعل عليه صفائح من
(2/76)
ببقية المتاع على اهله ففتشوه فوجدوا
الكتاب ففقدوا مما ذكر فيه الاناء الذي اخذه الوصيان فسئلوهما عنه فجحداه
فاختصموا الى النبي صلى الله عليه وسلم فأصرا على الانكار وحلفا فأنزل الله
تعالى هذه الآية واختلف المفسرون في حكمها فقال جماعة منهم كانت شهادة اهل
الذمة مقبولة فنسخت وناسخها قوله تعالى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ وذهب قوم الى انها ثابتة وانه اذا لم يجد مسلمين فيشهد كافرين
ولما نزلت الآية دعا النبي صلى الله عليه وسلم تميما وعديا واستحلفهما بعد
صلاة العصر عند المنبر فحلفا وخلا سبيلهما ثم ظهر الاناء بعد ذلك بمكة
فرفعوهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في ذلك قوله تعالى فَإِنْ
عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً اي اثما بخيانتهما وأيمانهما
الكاذبة فآخران من أولياء الميت يقومان مقامهما يعنى مقام الوصيين من الذين
استحق عليهم أي فيهم ولأجلهم الاثم وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم
الاثم وعلى بمعنى في والأوليان هما هنا نعت لقوله فَآخَرانِ ففيه جواز نعت
المعرفة للنكرة وهما تثنية الأولى والأولى هو الأقرب ولما نزلت الآية
بانتقال اليمين الى أولياء الميت قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة
السهيمان فخلفا ودفع الاناء اليهما وكان تميم الداري بعد ما أسلم يقول صدق
الله ورسوله أنا أخذت الاناء فأنا أتوب الى الله وأستغفره وانما انتقلت
اليمين الى الأولياء لأن الوصيين حين وجدا الاناء ادعيا انهما ابتاعاه منه
وهذا الحكم مستمر والله أعلم.
[مطلب خبر إسلام فروة بن عمرو الخزامي]
وفيها بعث فروة بن عمرو الخزامى الى رسول الله صلى الله عليه ذهب كخوص
النخل زاد البغوى فيه ثلاثمائة مثقال فضة (فقال جماعة) منهم النخعى (وذهب
قوم الى أنها ثابتة) اذا فقد مسلمين وكان مسافرا في الوصية فقط وبهذا قال
شريح القاضي (ثم ظهر الاناء بعد ذلك بمكة) مع اناس ادعوا انهم اشتروه من
تميم وعدى كما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وقال آخرون بل لما طالت المدة
أظهره تميم وعدى مدعيين انهما اشترياه من بديل (فان عثر) أي اطلع (على
أنهما) أي الوصيان (استحقا اثما) أى استوجباه (من الذين استحق) قراءة
العامة بالبناء للمفعول وقرأ حصين بالبناء للفاعل أي حق ووجب عليهم الاثم
يقال حق واستحق بمعنى (عليهم الاوليان) ولحمزة وأبي بكر عن عاصم الاولين
بالجمع بدل من الذين (ابن أبي وداعة) بفتح الواو والمهملتين (فخلفا) زاد
البغوى بعد العصر (ودفع الاناء اليهما) زاد البغوي والى أولياء الميت (لان
الوصيين حين وجدا الاناء ادعيا انهما ابتاعاه منه) فكانت البينة في جهتهما
واليمين في جهة الورثة لانهما يدعيان البيع والورثة ينكرونه (وهذا الحكم
مستمر) ان البينة على المدعي واليمين على من أنكر كما رواه الترمذى
والبيهقى في السنن وابن عساكر عن ابن عمر وروى أحمد والشيخان وابن ماجه
الشق الاخير عن ابن عباس* اسلام فروة بن عمرو الخزامي ويقال
(2/77)
وسلم رسولا باسلامه وأهدى له فرسا وبغلة
وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب وكان منزله معان ولما بلغ
الروم خبر اسلامه أخذوه فحبسوه حينا ثم ضربوا عنقه ولما قدموه للقتل أنشد.
أبلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمى ومقامي
[إرسال علي بن أبي طالب خلف خالد بن الوليد إلى
نجران وقصة الجارية التي وقعت لعلي في الخمس]
وفيها بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبى طالب الى نجران خلف خالد
بن الوليد روينا في صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال بعثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد الى اليمن قال ثم بعث عليا بعد ذلك
مكانه فقال مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب ومن شاء فليقبل
فكنت فيمن عقب معه قال فغنمت أواقا ذوات عدد. وروينا فيه أيضا عن بريدة بن
الحصين الأسلمي قال بعث النبى صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام الى
خالد ليقبض منه الخمس وكنت أبغض عليا وقد اغتسل فقلت لخالد ألا ترى الى هذا
فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك فقال يا بريدة أتبغض
عليا فقلت نعم فقال لا تبغضه فان له في الخمس أكثر من ذلك ومعنى ذلك انه
رآه أخذ جارية من المغنم واغتسل منها فظن انه غلّ فلما أعلمه النبي صلى
الله عليه وسلم انه أخذ أقل من حقه أحبه وكان بريدة بعدها ممن يحب عليا
ويتولاه. وروي خارج الصحيحين ان الجارية وقعت في الخمس ثم خمس فصارت في سهم
ذوي القربى ثم صارت في سهم علىّ وبهذا يزول الاشكال ابن عامر وابن بغائة
وأنس بنائه واسم بقاء ابن نعامة ومر ذكر الخلاف في اسلامه وكان اهداؤه
البغلة قبل حنين كما سبق (وكان عاملا للروم الى آخره) ذكر ذلك ابن مندة
وأبو نعيم وابن عبد البر (ثم ضربوا عنقه) بماء لهم يقال له عقرى بفلسطين
وقال في ذلك:
الاهل أتي سلمي بان خليلها ... على ماء عقرى فوق احدي الرواحل
على ناقة لم يضرب الفحل أمها ... مسندة أطرافها بالمناخل
(سراة) جمع سرى وهو السيد كما مر (سلم) بكسر السين وسكون اللام وبفتحهما*
ذكر بعث على بن أبي طالب الى نجران (ان يعقب) بفتح العين وتشديد القاف أي
يرجع الى اليمن اذ التعقيب ان يعود بعض العسكر بعد الرجوع عسي يصيبون من
العدو غرة وقيل التعقيب ان يرجع في غزاة من كان في غزاة أخرى قبلها
(فليقبل) بضم التحتية وكسر الباء (اتبغض عليا) فيه معجزة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم حيث اطلع على ما في نفس بريدة (أكثر) بالنصب اسم ان (اخذ
جارية) كما في رواية الاسماعيلي في صحيح البخارى فاصطفي على منها سبية أى
أمة مسبية (وبهذا يرول الاشكال) الحاصل في استبداد على بها لكن مع زيادة
انه صلى الله عليه وسلم قد فوض
(2/78)
فعليّ كرم الله وجهه في الجنة أتقى وأزهد
وأورع من أن تستفزه غلبة الشهوة على ارتكاب محارم الله وقد اجتمع فيه من
الدين المتين والورع الحاجز والزهادة في الدنيا وجماع الفضائل ما لم يجتمع
لأحد سواه وقد أبغضته فرقة تسمى الناصبة ففرطوا في دينهم وشقوا بسببه وأحبه
آخرون فأفرطوا حتى أبغضوا بسببه كثيرا من الصحابة وقد تقدم اليه النبي صلى
الله عليه وسلم في ذلك فقال يا علىّ ان فيك مثلا من عيسى ابن مريم أبغضته
اليهود حتى بهتوا أمه وأحبه النصارى حتى انزلوه المنزلة التي ليس بها ونكب
اهل السنة والجماعة عن الطرفين فاحبوا وتولوا جميعهم ونشروا محاسنهم وجنبوا
معايبهم وكذبوا نقلتها واعتذروا على ما صح منها فالمؤمن يتحرى المعاذير
والمنافق يتتبع العورات ومن سلم سلم ومن اطلق لسانه بالثلب ندم ومن حسن
اسلام المرء تركه ما لا يعنيه والله ولى التوفيق.
[خبر الذهيبة التي قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين أربعة نفر]
روينا في صحيح البخاري عن ابى سعيد الخدري رضي الله عنه قال بعث على الى
رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من
ترابها قال فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر والأقرع بن حابس وزيد
الخيل والرابع اما علقمة أو عامر بن الطفيل اليه أمر القسمة ثم يبقى
الاشكال الحاصل في عدم استبرائها وجوابه ان سيدنا على كرم الله وجهه ورضي
عنه لم يطأها بل استمتع بها بمادون الوطئ ولابدع ان يغتسل من ذلك لامكان
انه أنزل به والاستمتاع بالمسبية بما دون الوطء جائز ولو صرحت رواية بانه
وطئها فجوابه انه لعلها كانت بكرا وكان يري عدم وجوب استبراء البكر
(يستفزه) يستخفه ويحمله (الحاجز) بالزاى المانع (وجماع الفضائل) بكسر الجيم
(تسمى الناصبة) بالنون والمهملة والموحدة (ففرطوا) قصروا (وشقوا) بضم القاف
(فافرطوا) غلوا وجاوزوا الحد (حتى بهتوا) بالموحدة والفوقية كما مر أى
رموها بالزنا (فانزلوه المنزلة التي ليس بها) هو قولهم عيسى ابن الله
(المعاذير) باهمال العين واعجام الذال جمع معذرة (ومن حسن اسلام المرء تركه
ما لا يعنيه) هو حديث حسن رواه الترمذي وابن ماجه عن أبى هريرة ورواه أحمد
والطبراني في الكبير عن الحسين بن على ورواه الحاكم في الكنى عن أبي بكر
ورواه الشيرازى عن أبي ذر ورواه الحاكم في تاريخه عن على ورواه الطبراني في
الاوسط عن زيد بن ثابت ورواه ابن عساكر عن الحارث بن هشام (روينا في صحيح
البخاري) وصحيح مسلم وغيرهما (بذهيبة) تصغير ذهبة وهي تأنيث الذهب وكانه
ذهب به الى معني القطعة وفي رواية لمسلم بذهبة مكبر (في أديم) أى جلد
(مقروظ) أي مدبوغ بالقاف والظاء شجر يدبغ به (لم تحصل) مبني للمفعول (من
ترابها) أى لم يميز من تراب المعدن (اما) بكسر الهمزة (علقمة) هو ابن علاثة
بضم المهملة وبمثلثة كما في رواية (واما عامر بن الطفيل) قال العلماء ذكر
عامر هنا وهم ظاهر لانه توفي قبل ذلك بسنين كما مر ذكر وفاته والصواب
(2/79)
فقال رجل من أصحابه كنا نحن أحق بهذا من
هؤلاء قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ألا تأمنوننى وأنا أمين
من في السماء يأتينى خبر السماء صباحا ومساء قال فقام رجل غائر العينين
مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الازار فقال يا رسول
الله اتق الله قال ويلك أو لست أحق اهل الأرض ان يتقى الله قال ثم ولى
الرجل قال خالد بن الوليد يا رسول الله الا أضرب عنقه قال لا لعله ان يكون
يصلي فقال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس بقلبه قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم اني لم أومر ان انقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم قال ثم
نظر اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقف فقال انه يخرج من ضئضيء هذا
قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من انه علقمة بن علاثة
كما هو مجزوم به في كثير من روايات مسلم (وأنا أمين من في السماء) قال في
الديباج يحتمل ان يريد به الله تعالى على حد قوله أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّماءِ أو الملائكة لانه أمين عندهم معروف بالامانة انتهى قلت يؤيد
الاول قوله (يأتيني خبر السماء) أي ان ربي استأمنني على خبر السماء وعلى
الوحى الذي يوحيه الي فكيف لا تأمنوني أنتم على قسمة عرض من اعراض الدنيا
ليس لي فيه غرض (فقام رجل) هو ذو الخويصرة اليمنى كما مر (غائر) بالمعجمة
والتحتية منخفض (مشرف الوجنتين) أي مرتفعهما تثنية وجنة مثلثة الواو وهي
لحم الخد (ناشز الجبهة) بالمعجمة والزاي أي مرتفعها من النشز وهو المكان
المرتفع ولمسلم ناتيء الجبين وهو جانب الجبهة وللانسان جنبان يكتنفان
الجبهة (كث) بفتح الكاف وتشديد المثلثة أى كثير (اللحية) بكسر اللام أشهر
من فتحها (أحق) بالنصب (قال خالد بن الوليد) وفي أخرى لمسلم فقال عمر ابن
الخطاب دعني يا رسول الله اقتل هذا المنافق قال النووي ليس فيهما تعارض بل
كل واحد منهما استأذن فيه انتهى (قلت) هما قصتان فلعل عمر استأذن في قصه
وخالد في الاخري (انقب) بضم الهمزة وفتح النون وكسر القاف المشددة وروي
بفتح الهمزة وسكون النون وضم القاف أي أشق واكشف (عن قلوب الناس) أي بل
امرت ان احكم بما ظهر لى من الاحوال وأكل علم الباطن الى الكبير المتعال
كما قال فاذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله وقال
هلا شققت عن قلبه (وهو مقف) بضم الميم وفتح القاف وتشديد الفاء أي مول قد
أعطانا قفاه ضئضئى بكسر المعجمتين وسكون الهمزة الاولى وللكشميهني في صحيح
البخارى بمهملتين فمعناه النسل والعقب وهو من أسماء الاصل كما مر (يتلون
كتاب الله رطبا) فيه أقوال نقلها القرطبي أحدهما انه الحذق بالتلاوة
والمعني انهم يأتون به على أحسن أحواله والثاني أنهم يواظبون على تلاوته
فلا تزال ألسنتهم رطبة به والثالث ان يكون من حسن الصوت بالقراءة وفي رواية
لمسلم يتلون كتاب الله لينا بالنون في بعض النسخ أى سهلا أو بحذف النون في
كثير منها قال عياض ومعناه سهلا لكثرة حفظهم وقيل لما يلون ألسنتهم به
يحرفون معانيه وتأويله قال ابن قتيبة وقد يكون من اللي في الشهادة وهو
الميل (لا يجاوز حناجرهم) كناية عن عدم قبوله والانتفاع به (يمرقون) بالراء
المضمومة والقاف أي
(2/80)
كما يمرق السهم من الرمية واظنه قال لئن
ادركتهم لاقتلنهم قتل ثمود ووافي علىّ مقدمه من اليمن النبي صلى الله عليه
وسلم بمكة في حجة الوداع فقال له النبى صلى الله عليه وسلم بم أهللت فان
معناه أهلل قال أهللت بما أهلّ به النبي صلى الله عليه وسلم قال أمسك فان
معناه هديا رواه البخاري.
[خبر قدوم رسولي مسيلمة بكتابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم]
وفي آخر هذه السنة قدم رسولا مسيلمة بكتابه وفيه من مسيلمة رسول الله الى
محمد رسول الله السلام عليك أما بعد فانى اشتركت في الأمر معك ولنا نصف
الارض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يعتدون فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لرسوليه فما تقولان أنتما قالا نقول كما قال فقال أما والله لولا أن
الرسل لا تقتل لضربت اعناقكما ثم كتب اليه من محمد رسول الله صلى الله عليه
وسلم الى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى أما بعد فان الأرض لله
يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وممن ذكر في هذه السنة من الوفود
وفد الرهاويين ووفد عبس ووفد خولان وهم عشرة*
[مطلب في ذكر حجّة الوداع]
خاتمتها حجة الوداع وسميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس
فيها وقال خذوا عني مناسككم فانى لا ادري لعلي لا أحج بعد عامي هذا قال ابن
عمر وكنا نتحدث بحجة الوداع يخرجون (كما يمرق السهم) النافذ (من الرمية)
بفتح الراء وكسر الميم وتشديد التحتية وهى الصيد المرمي فعيلة بمعني مفعولة
(لاقتلنهم قتل ثمود) أى قتلا عاما مستأصلا وفي رواية في صحيح مسلم قتل اد
والجمع بينهما كما قاله القرطبي انه صلى الله عليه وسلم قال كليهما فذكر
أحد الرواة أحدهما وذكر الآخر الاخري وفي الحديث معجزة له صلى الله عليه
وسلم فقد وقع الامر كما أخبر فخرجوا زمن علىّ وقاتلهم وأبو سعيد الخدرى
راوى هذا الحديث معه كما رواه مسلم وغيره وقد يستدل بهذا الحديث من يكفر
الخوارج وخلاف أهل الاصول في ذلك منتشر والله أعلم (فان معناه أهلل) بالنصب
(رواه البخاري) ومسلم وأبو داود والترمذي عن جابر ورواه أبو داود والترمذي
عن البراء* ذكر قدوم رسولا مسيلمة لعنه الله (لولا ان الرسل لا تقتل لضربت
أعناقكما) رواه البخاري وصحح اسناده ففيه تحريم قتل رسول الكفار الى
المسلمين وكذا استرقاقه سواء كان في الرسالة مصلحة لنا أو لا كوعيد وتهديد
خلافا لما قاله الماوردي وحكاه الشيخان أوائل الجزية عن الروياني من انه ان
كان فيه وعيد أو تهديد فلا أمان له حتى استرقاقه قال النووى في الروضة ما
قاله غير مقبول بل هو آمن مطلقا (وفد الرهاويين) بضم الراء وتخفيف الهاء
وكسر الواو وتشديد التحتية الاولى (ووفد عبس) بالموحدة والمهملة (ووفد
خولان) بفتح المعجمة وسكون الواو* حجة الوداع (خذوا عنى مناسككم الي آخره)
رواه مسلم عن جابر (لعلى لا أحج بعد عامي هذا) هذا
(2/81)
والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ما
ندري ما حجة الوداع رواه البخاري وكان جملة من حضرها من الصحابة أربعين
ألفا وقد اختلفت روايات الصحابة في صفة حجته صلى الله عليه وسلم هل كان
قارنا أو مفردا أو متمتعا وبحسب ذلك اختلاف من بعدهم قال الامام محيى الدين
النووى رحمه الله تعالى وطريق الجمع بين الروايات انه صلى الله عليه وسلم
كان أولا مفردا ثم صار قارنا فمن روى الافراد فهو الأصل ومن روى القران
اعتمد آخر الأمر ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والارتفاق
وقد ارتفق بالقران كارتفاق المتمتع وزيادة وهو الاقتصار على فعل واحد قال
وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها قال القاضي عياض رحمه الله قد أكثر الناس
الكلام على هذه الأحاديث فمن مجيد منصف ومن مقصر متكلف ومن مطيل مكثر ومن
مقصر مختصر قال وأوسعهم في ذلك نفسا ابو جعفر الطحاوي الحنفي فانه تكلم في
ذلك في زيادة على الف ورقة. قال القاضى عياض وأولى ما يقال في هذا على ما
فحصناه من كلامهم واخترنا من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق
الأحاديث أن النبى صلى الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة
ليدل على جواز جميعها إذ لو أمر بواحد منها لكان غيره يظن انه لا يجزيء
فأضيف الجميع اليه وأخبر كل واحد بما أمر به وأباحه له ونسبه الى النبي صلى
الله عليه وسلم إما لأمر به وإما لتأويل من اعلام نبوته صلى الله عليه وسلم
اذ وقع الامر كما أخبر (ما ندرى ما حجة الوداع) أي حتى توفي صلى الله عليه
وسلم عقبها فعلمنا المراد حينئذ (وكان جملة من حضرها من الصحابة أربعين
ألفا) كما نقله الحفاظ عن أبي زرعة الرازي (وبحسب ذلك اختلف من بعدهم) فقال
الشافعي ومالك وكثيرون أفضلها الافراد ثم التمتع ثم القران لما في الصحيحين
عن جابر وعائشة انه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج ورواه مسلم عن ابن عباس
أيضا وقال أحمد وآخرون أفضلها التمتع لما في الصحيحين عن ابن عمر انه صلى
الله عليه وسلم أحرم متمتعا وقال أبو حنيفة أفضلها القران لما في الصحيحين
عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا وهذان المذهبان
قولان آخران للشافعى وحكي الاخير عن المزنى وأبى اسحق المروزي (قال الامام
النووى) في شرح مسلم (اللغوي) بضم اللام (وقال القاضى عياض) كما نقله
النووى عنه ثم (في زيادة على الف ورقة) زاد النووي عنه وتكلم معه في ذلك
أيضا أبو جعفر الطبري ثم أبو عبد الله ابن أبي صفرة ثم الملهب والقاضى أبو
عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن القصار البغدادى والحافظ أبو عمر بن
عبد البر وغيرهم (فحصناه) بالفاء والمهملتين والفحص المبالغة في البحث
(2/82)
عليه وأجمع الأحاديث في سياق حجة الوداع
حديث جابر وهو من ما انفرد به مسلم باخراجه فقال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة
واسحق بن ابراهيم جميعا عن حاتم قال أبو بكر حدثنا حاتم ابن اسماعيل
المدينى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن
القوم حتى انتهى الىّ فقلت أنا محمد بن علي بن الحسين فاهوى بيده الى رأسى
فنزع ذرى الأعلى ثم نزع ذرى الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وانا يومئذ غلام
شاب فقال مرحبا بك يا ابن أخى سل عن ما شئت فسألته وهو أعمى وحضر وقت
الصلاة فقام في نساجة ملتحفا بها كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها اليه من
صغرها ورداءه الى جنبه على المشجب فصلى بنا فقلت أخبرنى عن حجة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال بيده فعقد (واجمع الاحاديث) أي أكثرها جمعا لفوائد
الحديث (حديث جابر) قال النووي هو حديث عظيم مشتمل على جمع من الفوائد
ونفائس من مهمات القواعد (وهو مما انفرد مسلم) عن البخاري (باخراجه) في
الصحيحة وقد رواه أبو داود أيضا كرواية مسلم (أبو بكر بن أبي شيبة) اسمه
عبد الله بن محمد بن ابراهيم (اسحق بن ابرهيم) هو بن راهوية هي أمه
وابراهيم أبوه (حاتم) بالمهملة والفوقية (المديني) بفتح الميم وكسر المهملة
وسكون التحتية ثم نون ثم ياء النسبة (عن جعفر) الصادق (بن محمد) الباقر بن
على بن زين العابدين بن الحسين ابن على بن أبي طالب (فسأل عن القوم) فيه
ندب السؤال عن الواردين من الزوار والضيفان ونحوهم لينزلهم منازلهم كما جاء
في حديث عائشة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم
(فاهوي بيده الى رأسى الى آخره) فيه اكرام أهل بيت النبي صلى الله عليه
وسلم وملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه (وأنا يومئذ شاب) نبه بذلك على ان
سبب فعل جابر ذلك التأنيس لكونه صغيرا (مرحبا بك) فيه استحباب الترحيب
بالزائر والضيف ونحوهما (فصلى بنا) فيه جواز امامته للبصر وذلك اتفاق وانما
الخلاف في الافضل وفيه ثلاثة مذاهب وثالثها وهو أيهما سوى التعادل فضيلتهما
هو الاصح عند الاصحاب وهو نص الشافعى وفيه ان صاحب البيت أحق من غيره لانه
امهم يومئذ (في نساجة) بفتح النون وتخفيف المهملة وجيم وتنوين قال النووي
كذا في نسخ بلادنا قيل ومعناه ثوب ملفق وقال عياض هى رواية الفارسي وهو خطأ
وتصحيف ورواية الجمهور ساجة بحذف النون وهو الطيلسان وقيل الاخضر خاصة وقال
الازهري هو طيلسان مقور انتهى قال النووي قلت ليست الاولى تصحيفا بل كلاهما
صحيح ويكون ثوبا ملفقا على هيئة الطيلسان وفي الحديث جواز الصلاة في ثوب
واحد مع امكان الزيادة عليه (على المشجب) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح
الجيم ثم موحدة اسم لاعواد يوضع عليها الثياب ومتاع البيت (عن حجة رسول
الله صلى الله عليه وسلم) بكسر الحاء وفتحها والمراد حجة الوداع (فقال
بيده) هو
(2/83)
تسعا فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكث تسع سنين لم يحج ثم آذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حاج فقدم المدينة كثير كلهم يلتمس ان يأتم برسول الله صلى الله
عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى اذا أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء
بنت عميس محمد بن أبى بكر فارسلت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف
أصنع قال اغتسلى واستثفرى بثوب واحرمي فصلى ركعتين يعنى رسول الله صلى الله
عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى اذا استوت به ناقته على البيداء
نظرت الى مد بصرى بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل
ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل
القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فاهلّ بالتوحيد لبيك
اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة من باب اطلاق القول الفعل
(مكث تسع سنين لم يحج) يريد بعد الهجرة (آذن) بالمد والقصر اعلم فيه انه
يستحب للامام ايذان الناس بالامور المهمة ليتأهبوا لها (أن يأتم) أي يقتدي
(برسول الله صلى الله عليه وسلم) قال عياض هذا يدل على أنهم كلهم أحرموا
بالحج لانه صلى الله عليه وسلم احرم بالحج وهم لا يخالفونه ومن ثم قال جابر
ما عمل من عمل عملناه ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة حتى اغصبوه واعتذر
اليهم ومثله تعليق على وأبي موسى احرامهما على احرامه (اغتسلى) فيه ندب
الغسل للاحرام للنفساء (واستثفري بثوب) بمثلثة قبل الفاء وهو أن تشد في
وسطها شيئا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على موضع الدم وتشد أطرافها من قدامها
ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها وهي شبيهة بثفر الدابة (واحرمي) فيه
صحة احرام النفساء وهو اجماع (فصلى ركعتين) فيه استحباب ركعتى الاحرام (في
المسجد) فيه ندب صلاتهما فيه ان كان بالميقات مسجد (القصواء) بفتح القاف
وسكون المهملة والمد اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم قال عياض ووقع في
رواية العذري القصوى بضم القاف والقصر وهو خطأ ثم قال جماعة وهى الجدعاء
والعضباء اسم لناقة واحدة وقال ابن قتيبة هن ثلاث نوق له صلى الله عليه
وسلم قال ابن الاعرابي والاصمعي القصوى هي التي قطع طرف أذنها والجدع أكبر
منه فان جاوز الربع فهو عضبا وقال أبو عبيدة القصوى المقطوعة الاذن عرضا
والعضباء المقطوعة النصف فما فوقه وقال الخليل العضباء المشقوقة الاذن
(البيداء) هى المفازة (نظرت مد بصرى) أي منتهاه (قال النووى) وأنكر بعض أهل
اللغة مد بصري وقال الصواب مدى بصري وليس هو بمنكر بل هما لغتان المد أشهر
(من راكب وماش) فيه جواز الحج راكبا وماشيا وهو اجماع وفي الافضل منهما
خلاف للعلماء وجمهورهم على تفضيل الركوب للاتباع ولانه أعون له على وظائف
النسك (وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله) ومعناه الحث على التمسك بما
أخبركم عن فعله في حجته تلك (فاهل بالتوحيد) أى لبيك لا شريك لك مخالفة لما
كانت الجاهلية يقولونه من تلبيتها من الشرك
(2/84)
لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي
يهلون به اليوم فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه ولازم
رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته قال جابر لسناننوى إلا الحج لسنا نعرف
العمرة حتى اذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم تقدم
الى مقام ابراهيم فقرأ واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين
البيت فكان أبى يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع الى الركن
فاستلمه ثم خرج من الباب الى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ إن الصفا والمروة
من شعائر الله أبد أبما بدأ الله به فبدأ بالصفي فرقى عليه (وأهل الناس
بهذا الذى يهلون اليوم) أي كقول ابن عمر لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك
مرهوبا منك مرعوبا اليك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء اليك والعمل
(ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته) قال عياض قال أكثر العلماء
المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم (لسنا نعرف
العمرة) فيه دليل لمن قال يترجح الافراد (حتى اذا أتينا البيت) فيه ندب
دخول مكة قبل الوقوف للحاج (استلم الركن الى آخره) فيه ندب طواف القدوم لمن
دخل مكة قبل الوقوف وفيه ان الطواف سبع وفيه ندب الرمل في الثلاث الاول من
طواف يعقبه سعي ومشي الاربع الاخيرة ويندب فيه الاضطباع لصحة الحديث به في
سنن أبي داود والترمذي وغيرهما (ثم تقدم الى مقام ابراهيم) فيه ندب ركعتين
للطواف وكونهما خلف المقام ثم في الحجر ثم في المسجد ثم في مكة ثم في الحرم
ثم حيث شاء متي شاء (كان ابى يقول) قائل ذلك جعفر بن محمد (ولا اعلمه)
الضمير لابيه (ذكره) أي ذكر قرأ السورتين (الا عن النبي صلى الله عليه
وسلم) أى ان جابرا رواه من فعله صلى الله عليه وسلم لا من فعل نفسه وقوله
لا اعلمه الى آخره ليس هو شكا في ذلك اذ لفظه العلم تباين الشك بل جزم
برفعه الى النبى صلى الله عليه وسلم وقد روى البيهقى بسند صحيح على شرط
مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه صلى
ركعتين وقرأ فيهما قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أى في الثانية (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) أى في الاولى وفيه استحباب قراءة هاتين السورتين فيهما (ثم
رجع الى الركن) أي الذى فيه الحجر الاسود (فاستلمه) أي الحجر ففيه استحباب
استلامه لمن طاف طواف القدوم بعد فراغه منه ومن صلاته خلف المقام (إِنَّ
الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أي من اعلام دينه (ابدأ بما
بدأ الله به) في كتابه الكريم وهذا أصل عظيم في البداءة بما بدأ الله به في
القرآن لفظا ما لم تبين السنة ان الترتيب غير مراد أو ينعقد الاجماع على
ذلك فخرج قوله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ وقوله
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الآية (فرقى) بكسر القاف
كما مر (عليه الى آخره) فيه ندب الرقى على الصفا وكذا على المروة حتى يري
البيت ان أمكنه وذلك خاص بالذكر وان يقف على الصفا مستقبل القبلة ذاكر الله
تعالى بهذا الدعاء المأثور ويدعو ويكرر الذكر والدعاء ثلاثا على المشهور
عند الاصحاب وقيل
(2/85)
حتي اذا رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد
الله وكبره وقال لا إله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو
على كل شيء قدير لا إله الا الله وحده انجز وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب
وحده ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل الى المروة حتى أنصبت
قدماه في بطن الوادى حتى اذا صعدنا مشى حتى اذا أتى المروة وفعل كما فعل
على الصفا حتي اذا كان آخر طوافه على المروة قال لوانى استقبلت من أمرى ما
استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل
وليجعلها عمرة فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله العامنا هذا
أم للأبد فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الاخرى وقال
دخلت العمرة في الحج مرتين ألا بل لأبد الأبد وقدم يكرر الذكر ثلاثا
والدعاء مرتين (حتى اذا انصبت) بهمز وصل وسكون النون وتشديد الموحدة
والانصاب النزول من الصب وهو الموضع المرتفع (في بطن الوادى) قال عياض كذا
الرواية في صحيح مسلم وفيه اسقاط لفظة لا بد منها وهي حتى اذا انصبت قدماه
رمل في بطن الوادي فسقطت لفظة رمل ولا بد منها وقد ثبتت هذه اللفظة في غير
رواية مسلم وكذا ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين وفي الموطأ حتى اذا
انصبت قدماه في بطن الوادي سعي حتى خرج منه وهو بمعنى رمل انتهى* قال
النووي وقد وقع في بعض نسخ صحيح مسلم حتى اذا انصبت قدماه في بطن الوادي
سعى كما وقع في الموطأ وغيره وفي الحديث ندب السعى الشديد في الموضع الذي
سعى فيه صلى الله عليه وسلم والمشي بتؤدة في الموضع الذي مشى فيه في كل مرة
من المرات السبع لكن يختص السعى بالذكر (آخر طوافه على المروة) فيه دليل
على ان الذهاب من الصفا الى المروة مرة والرجوع من المروة الى الصفا ثانية
وهكذا فيكون ابتداء السعي من الصفا وآخرها من المروة وهذا اجماع الا ما حكي
عن ابن بنت الشافعي وأبي بكر الصيرفي ان الذهاب الى المروة والرجوع الى
الصفا مرة واحدة فيكون آخر السبع على الصفا وذلك مردود بهذا الحديث الصحيح
والاجماع العملي (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت الى آخره) انما قال ذلك
تطييبا لقلوب من لم يسق الهدي من أصحابه فامرهم بفسخ الحج الى العمرة
واتمام عملها ثم الاحرام بالحج يوم التروية عند التوجه لعرفة فاخبرهم صلى
الله عليه وسلم انه لو لم يسق الهدي لفعل كما أمرهم (فائدة) روى الحارث بن
بلال عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت فسخ الحج الى العمرة لنا خاصة أم
للناس عامة فقال بل لكم خاصة أخرجه أبو داود (العامنا هذا) فقط فيحتاج الى
عمرة أخري غير هذه التى فسخنا الحج اليها (أم) هي (للابد) فلا يحتاج الى
غيرها (دخلت العمرة في الحج) أي صار حكمها حكمه فكما انه لا يجب في العمر
الامرة كذلك هى (فائدة) أخرج الطبراني بسند حسن من حديث ابن عباس انه صلى
الله عليه وسلم قال أتانى جبريل في ثلاث بقين من ذي القعدة فقال دخلت
العمرة في الحج الي يوم القيامة وهذا أصل في التاريخ كما قاله السيوطي (بل
لأبد الابد) فيه دليل على ان العمرة لا تجب في العمر الامرة
(2/86)
علىّ من اليمن ببدن رسول الله صلى الله
عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فانكر ذلك عليها
فقالت أبى أمرنى بهذا قال فكان على يقول بالعراق فذهبت الى رسول الله صلى
الله عليه وسلم محرشا على فاطمة الذى صنعت مستفتيا لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فيما ذكرت عنه وأخبرته أنى أنكرت ذلك عليها فقال صدقت صدقت ماذا
قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم انى أهل بما أهل به رسولك قال فان معي
الهدى فلا تحل وكان جماعة الهدى الذى قدم به علىّ من اليمن والذى أتى به
النبي صلى الله عليه وسلم مائة قال فحل الناس كلهم فحلقوا وقصروا الا النبي
صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى فلما كان يوم التروية توجهوا الى منى
فاهلوا بالحج فركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب
والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر كالحج
(ولبست) بكسر الباء (صبيغا) أي مصبوغا فعيل بمعني مفعول (فانكر عليها) قال
النووي فيه انكار الرجل على زوجته ما رآه منها من نقص في دينها لانه ظن ان
ذلك لا يجوز فانكره (فقالت أبى) بفتح الهمزة ثم موحدة مكسورة ثم تحتية
ساكنة يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم (محرشا) باهمال الحاء واعجام
الشين وكسر الراء المشددة أى مغريا (صدقت صدقت) هكذا هو مكرر للتأكيد وهو
بفتح القاف والياء ضمير لفاطمة (فرضت الحج) أي أوجبته على نفسك بالاحرام
(اللهم اني أهل بما أهل به رسولك الى آخره) فيه جواز تعليق الاحرام وانه
يكون محرما بما أحرم به ذاك (الهدي) بالنصب اسم ان وهو بسكون المهملة
وتخفيف الياء وبكسر المهملة وتشديد الياء (مائة) ثلاثة وستون جاء بها النبي
صلى الله عليه وسلم وسبعة وثلاثون جاء بها على رضي الله عنه (فحل الناس
كلهم) أى معظمهم أو عائشة لم تحل ولم تهد (وقصروا) ولم يحلقوا مع كونه أفضل
لانهم أرادوا ابقاء الشعر ليحلقونه في الحج وحينئذ التقصير أفضل ليحصل في
النسكين ازالة شعر (الا النبي صلى الله عليه وسلم) بالنصب لانه مستثنى من
موجب (كان يوم) بالرفع والنصب (التروية) هو ثامن ذي الحجة سمى بذلك لان
الناس يتروون فيه الماء أى يستقون أو لأن ابراهيم تروى ذلك اليوم أي فكر في
رؤياه التي رآها هل هي من الله أم من الشيطان خلاف (واهلوا بالحج) فيه ان
الافضل ان كان بمكة وأراد الاحرام بالحج ان يؤخره الى يوم التروية وهذا
مذهبنا وفيه خلاف للعلماء (فركب النبي صلى الله عليه وسلم) فيه ان الركوب
في تلك الاماكن أفضل من المشي كما في جملة الطريق وقال بعض أصحابنا الافضل
في جملة الحج الركوب الا في مواطن المناسك وهي مكة ومنى ومزدلفة وعرفات
والتردد فيها (فصلى بها الظهر الى آخره) فيه ندب المبيت بمنى ليلة التاسع
وفعل الصلوات الخمس بها وأن لا يخرج منها حتى تطلع الشمس (وأمر بقبة من
شعر) فيه جواز اتخاذ القباب وكونها من
(2/87)
ضربت له بنمرة فسار رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولا تشك قريش الا انه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع
في الجاهلية فاجاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتي عرفة فوجد القبة
قد ضربت بنمرة فنزل بها حتى اذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت فاتي بطن
الوادى
[خطبة في حجة الوداع]
فخطب الناس وقال ان دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم
هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء
الجاهلية موضوعة وان أول دم أصنع من دمائنا دم الحارث بن عبد المطلب كان
مسترضعا في بنى سعد فقتله هذيل وربا الجاهلية موضوع كله وأول ربا أضعه من
ربانا ربا العباس بن عبد شعر (ضربت له بنمرة) فيه جواز الاستظلال للمحرم
وهو للنازل بالاجماع وكرهه مالك وأحمد للراكب وفيه استحباب النزول بنمرة
وأن لا يدخلوا عرفات الا بعد الزوال وصلاة الظهر والعصر جمعا بشرطه ويندب
أيضا الغسل بها للوقوف قبل الزوال فقد جاء في غير هذا الحديث (ونمرة) بفتح
النون وكسر الميم وبسكون الميم مع فتح النون وكسرها موضع الى جانب عرفات
وليس منها (واما المشعر الحرام) فجبل بالمزدلفة يقال له قزح بقاف مضمومة
فزاى مفتوحة فمهملة كانت قريش تقف عليه في الجاهلية فظنوا انه صلى الله
عليه وسلم سيقف به يومئذ فلم يفعل الا كما أمره الله في قوله ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي سائر العرب غير قريش (حتى أتي
عرفة) أى قريبا منها (فرحلت) بتخفيف الحاء أى جعل عليها الرحل (ثم أتى بطن
الوادي) أي وادى عرنة بضم المهملة وفتح الراء ثم نون وليست عرنة من أرض
عرفات خلافا لمالك (فخطب الناس) فيه استحباب الخطبة يومئذ وذلك بالاتفاق
خلافا له (كحرمة يومكم الى آخره) معناه متأكدة التحريم شديدته قال النووى
وفيه دليل لضرب الامثال والحاق النظير بالنظير قياسا انتهي وقال بعضهم
المشبه به هنا اخفض رتبة من المشبه وذلك خلاف القاعدة وجوابه ان تحريم
اليوم والشهر والبلد لما كان ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم بخلاف الانفس
والاموال والاعراض فكانوا يستبيحونها في الجاهلية ورد التشبيه بالمقرر
عندهم اذ مناطه ظهوره لنبأ السامع (تحت قدمى) اشارة الى ابطاله (ودماء
الجاهلية موضوعة) أى باطلة (دم ابن ربيعة) بن الحارث بن عبد المطلب واسم
هذا الابن اياس أو حارثة أو ثمام أو آدم أقوال لكن قال الدارقطني في الاخير
هو تصحيف من دم قال عياض ورواه بعض رواة مسلم دم ربيعة بن الحارث قال وكذا
رواة أبو داود قيل وهذا وهم لان ربيعة عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم
الى زمن عمر وتأوله أبو عبيد بانه انما قال دم ربيعة لانه ولى الدم فنسبه
اليه قال الزبير بن بكار وكان هذا الابن المقتول طفلا صغيرا يحبو بين
البيوت فاصابه حجر في حرب كانت بين بنى سعد وبنى ليث (وربا الجاهلية) أي
الزائد عن رأس المال كما قال تعالى وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ (موضوع) باطل
(2/88)
المطلب فانه موضوع كله واتقوا الله في
النساء فانكم أخذتموهن بامانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن
أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن
عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده ان اعتصمتم
به كتاب الله وأنتم تسئلون عنى فما أنتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت
وأديت ونصحت فقال باصبعه السبابة يرفعها الى السماء وينكتها الى الناس
اللهم أشهد اللهم أشهد ثلاث مرات ثم أذّن ثم أقام الصلاة وصلى الظهر ثم
أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى أتي الموقف فجعل بطن ناقته القصوى الى الصخرات مردود لصاحبه (واتقوا
الله في) أمر (النساء) راعوا حقوقهن وعاشروهن بالمعروف (بامانة الله) في
أكثر أصول مسلم بامان الله أى ان الله ائتمنكم عليهن فيجب حفظ الامانة
وصيانتها بمراعاة حقوقها (بكلمة الله) وهي قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أو المراد كلمة التوحيد اذ لا تحل مسلمة لغير
مسلم أو المراد اباحة الله والكلمة قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أو المراد بالكلمة الايجاب والقبول
أقوال قال بالاول الخطابى والهروى وغيرهما وصحح النووى الثالث (ولكم) واجب
(عليهن ان لا يوطئن فرشكم) أي لا يأذن في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم
(أحدا) سواء كان رجلا أجنبيا أو امرأة أو أحد محارم الزوجة ان كنتم
(تكرهونه) أى تكرهون دخوله فخرج من علمت الزوجة رضى الزوج بدخوله فلها أن
تأذن له هذا معني ما ذكره النووى وقال المازري قيل المراد بذلك أن لا
يستخلين بالرجال ولم يرد زنا لان ذلك يوجب حدها ولانه حرام وان لم يكرهه
الزوج قال عياض كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء ولم يكن ذلك عيبا
ولا ريبة عندهم فلما نزلت آية الحجاب نهوا عن ذلك (غير مبرح) بالموحدة
فالمهملة أى غير شديد شاق والبرح المشقة وفي الحديث جواز ضرب الرجل امرأته
تأديبا فان ضربها الضرب المأذون فيه فماتت منه وجبت ديتها على عاقلة الضارب
ووجبت الكفارة في ماله (كتاب الله) بالنصب والرفع (وينكتها الى الناس) بضم
الكاف بعدها فوقية هكذا الرواية قال عياض وهو بعيد المعني وصوابه ينكبها
بالموحدة ومعناه يردها ويقلبها الي الناس مشيرا اليهم انتهى وقال القرطبى
روايتى وتقييدي على ما اعتمده من الائمة بضم التحتية وفتح النون وكسر الكاف
مشددة وضم الموحدة أى يعدلها الي الناس قال وروينا مكتها بالفوقية وهي
أبعدها (فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر) فيه مشروعية الجمع بين الظهر
والعصر ثم يومئذ وهو اجماع وسببه الشك عند أبى حنيفة وبعض أصحابنا والصحيح
عندنا ان سببه السفر فنحو المكي لا يجمع يومئذ كما انه لا يقصر وفيه ان
الجامع يصلى الاولى أولا ويؤذن لها ويقيم لكل واحدة منهما ويوالى بينهما
وكل ذلك متفق عليه عندنا (ثم ركب) قال النووى فيه تعجيل الذهاب الي الموقف
بعد الصلاة وان الوقوف راكبا أفضل كما هو أحد أقوال ثلاثة (الى الصخرات)
جمع صخرة وهي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي يوسط جبل
عرفات وفي
(2/89)
وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة
فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف
اسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصوى الزمام حتى
ان رأسها ليصيب مورك رجله ويقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة
كلما أتي جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتي المزدلفة فصلى
بها المغرب والعشاء باذان واحد واقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع
الحديث ندب الوقوف بذلك المحل فان عجز ففيما قرب منه (جبل المشاة) روى
بالمهملة وسكون الموحدة أى صفهم ومجتمعهم من جبل الرمل وهو ما طال منه وضخم
وروي بالجيم وفتح الموحدة أي طريقهم وحيث مسلك الرجالة قال غياض والاول
أشبه بالحديث (واستقبل القبلة) فيه استحباب استقبالها في الوقوف (حتى غربت
الشمس) فيه انه ينبغي أن لا يخرج من أرض عرفات حتى يتحقق غروب الشمس فلو
أفاض قبل الغروب اراق دما وجوبا أو استحبابا قولان للشافعي أظهرهما الثانى
(حتى غاب القرص) قال عياض لعل صوابه حين غاب القرص قال النووي يوؤل بانه
بيان لقوله غربت الشمس فان هذه قد يطلق مجازا على مغيب معظم القرص فازال
ذلك الاحتمال به (واردف اسامة) فيه جواز الارداف اذا كانت الدابة مطيقة وقد
تظاهرت به الاحاديث قاله النووي (وقد شنق) بفتح المعجمة والنون الخفيفة ثم
قاف أى ضم وضيق (مورك رجله) بفتح الميم وكسر الراء هو الموضع الذي يعطف
الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل اذامل الركوب وضبطه عياض بفتح الراء قال
وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب يجعل في مقدم الرحل تشبه المخدة الصغيرة
(السكينة السكينة) مكرر منصوب أي الزموا السكينة وهى الرفق والطمأنينة ففيه
استحباب السكينة في الدفع من عرفات فاذا وجد فرجة أسرع (جبلا من الجبال)
بالمهملة وسكون الموحدة لا غير والجبل التل اللطيف من الرمل الضخم (حتى
تصعد) بفتح أوله مع فتح العين وضمه مع كسرها من صعد وأصعد (المزدلفة) سميت
بذلك من التزلف والازدلاف وهو التقرب لازدلاف الحجاج اليها اذا أفاضوا من
عرفة أو لمجىء الناس اليها في زلف أي ساعات من الليل قولان ويسمى جمعا بفتح
الجيم وسكون الميم لاجتماع الناس (فصلى بها المغرب والعشاء) فيه ندب تأخير
المغرب له ليلئذ بنية الجمع ليصليها مع العشاء بمزدلفة والخلاف في سببه كما
سبق (باذان واقامتين) هذا دليل الصحيح في مذهبنا وهو مذهب أحمد وأبي ثور
وقال به عبد الملك بن الماجشون المالكي والطحاوى الحنفي وحكي عن عمرو بن
مسعود انه يصليهما باذانين واقامتين وبه قال مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف
باذان واقامة واحدة ولنا كاحمد قول انه يصلى كل واحدة باقامة بغير اذان
وحكى عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وحكي أيضا عن ابن عمر انه
يصليهما باقامة واحدة وهو مذهب الثوري (ولم يسبح) أي لم يصل ففيه استحباب
الموالاة في جمع التأخير (ثم اضطجع
(2/90)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع
الفجر فصلي الفجر حين تبين له الصبح باذان واقامة ثم ركب القصوى حتى أتى
المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى
أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس خلفه وكان رجلا حسن
الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين
فطفق الفضل ينظر اليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الكريمة على
وجه الفضل فحول الفضل وجهه الى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله
عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر
حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة
الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم الى آخره) قال النووي فيه ان المبيت بمزدلفة
نسك وللعلماء خلاف فيه والصحيح عندنا انه واجب يجبر تركه بدم والثاني انه
سنة والثالث انه ركن (حتى طلع الفجر) فيه انه يستحب أن يبقي بها حتى يصلى
بها الصبح الا للضعفة فالسنة لهم الدفع قبل الفجر وأقل ما يجزي في هذا
المبيت ساعة بعد نصف الليل على الصحيح عندنا (فصلى الفجر حين تبين له
الصبح) فيه استحباب التبكير بها في هذا الموضع متأكدا أكثر من تأكده في
غيره لكثرة وظائف هذا اليوم فيتسع الوقت لها (باذان واقامة) فيه استحبابهما
في السفر كالحضر وقد تظاهرت به الاحاديث الصحيحة (حتى أتى المشعر الحرام)
فيه استحباب الوقوف به وفيه حجة للفقهاء على انه قزح وقال المحدثون
والمفسرون وأهل السير انه جميع مزدلفة (حتى اسفر) الضمير الى الفجر المذكور
أولا (جدا) بكسر الجيم أي اسفارا بليغا (وسيما) أى حسنا جميلا (ظعن) بضم
الظاء والمهملة ويجوز اسكان العين جمع ظعينة وأصلها البعير الذى يكون عليه
امرأة ثم سميت به مجازا لملابسها له كالراوية (يجرين) بفتح أوله من جري قال
القرطبي ويضمه من أجري فالاول لازم والثاني متعد (فوضع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يده على وجه الفضل) فيه الحث على غض البصر عن الاجنبيات وغضهن عن
الرجال الاجانب وللترمذى وغيره فلوى عنق الفضل فقال له العباس لويت عنق ابن
عمك فقال رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما (بطن محسر) بضم الميم
وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين سمى بذلك لان الفيل الذى جاء به
ابرهة ليهدم البيت حسر فيه أي أعيا وكل (فحرك قليلا) فيه استحباب الاسراع
من هذا الوادي فيحرك الراكب دابته ويسرع الماشى قدر رمية حجر (ثم سلك
الطريق الوسطي) فيه استحباب سلوكها في الرجوع من عرفات وهي غير الطريق الذي
ذهب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا سنة في كل عبادة كما مر
(فرماها) فيه استحباب البداءة برمى الجمرة ويكون ذلك قبل نزوله (بسبع
حصيات) فيه تعيين الحجر للرمى كما هو مذهب الجمهور وجوزه أبو حنيفة بكل ما
كان من آجر الارض (يكبر) فيه ندب التكبير (مع كل حصاة) أى رمية وفيه وجوب
التفريق بين الحصيات حتى لورمى باكثر من
(2/91)
مثل حصى الخذف يرمي بطن الوادى ثم انصرف
الى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه
ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فاكلا من لحمها وشربا من مرقها
ثم ركب صلى الله عليه وسلم فافاض الى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد
المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بنى عبد المطلب فلولا ان يغلبكم النأس
على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه انتهى حديث جابر وهو عظيم
الفوائد وقد اشتمل على جمل من مهمات القواعد قال القاضى عياض وقد تكلم
الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزأ كبيرا
وخرج فيه من الفقه مائة ونيفا حصاة دفعة بحسب الازمنة (مثل حصى الخذف)
بالمعجمتين فيه استحباب كون حصى الرمي كذلك وهي قدر حبة الباقلاء وان أجزأ
(من بطن الوادى) فيه استحباب الرمي منه بحيث يكون منى وعرفة والمزدلفة عن
يمينه ومكة عن يساره هذا في رمي يوم النحر وأما غيره فيندب استقبال القبلة
فيه (ثلاثا وستين بيده) الكريمة ولابن ماهان بدله بدنة وكلاهما صواب والاول
أصوب قاله عياض وفيه استحباب الاستكثار من الهدي وان ينحر أو يذبح بنفسه
(ثم أعطى عليا فنحر ما غبر) بالمعجمة أي ما بقى وهو سبع وثلاثون ففيه جواز
الاستنابة في ذبح الهدى وهو اجماع اذا كان النائب مسلما فان كان كافرا تحل
ذبيحته فكذلك عندنا لكن النية على صاحب الهدي لعدم تأهل النائب لها قال
النووي وفيه استحباب تعجيل ذبح الهدايا وان كانت كبيرة في يوم النحر ولا
يؤخر بعضها الي أيام التشريق (واشركه في هديه) ظاهره انه كان شريكا في نفس
الهدى قاله عياض وعندى انه لم يكن شريكا حقيقة بل أعطاه قدرا ينحره قال
والظاهر انه صلى الله عليه وسلم نحر البدن التى جاءت معه من المدينة وكانت
ثلاثا وستين كما جاء في رواية الترمذى وأعطا عليا البدن التي جاءت معه من
اليمن وهي سبعة وثلاثون (ثم أمر من كل بدنة الى آخره) قال العلماء لما كان
الاكل من كل بدنة سنة وفي الاكل من لحم كل واحدة بانفرادها كلفة جعلت في
قدر ليكون قد أكل من مرق الجميع الذي فيه جزء من كل واحدة ويأكل من اللحم
المجتمع في المرق ما تيسر والاكل من هدية التطوع وأضحيته سنة ليس بواجب
اجماعا (بضعة) بفتح الموحدة لا غير القطعة من اللحم (فافاض الى البيت) أي
طاف به طواف الافاضة وهو ركن من أركان الحج اجماعا (فصلي بمكة الظهر) لا
ينافي هذا ما في صحيح مسلم عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم أفاض
يوم النحر وصلى الظهر بمني اذقد جمع بينهما بانه لما عاد الى منى أعاد صلاة
الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك (فاتي بنى عبد المطلب) أي بعد فراغه
من طواف الافاضة (وهم يسقون على زمزم) يغرفون في الدلاء ويصبونه في الحياض
ونحوها لشرب الناس (انزعوا) بكسر الزاى أى اسقوا بالدلاء وانزعوها بالرشا
(فلولا ان يغلبكم الناس) أى فلولا اني أخاف ان يعتقد الناس ذلك من مناسك
الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم
(2/92)
وخمسين نوعا قال ولو تقصى لزيد على هذا
العدد قريب منه والله أعلم.
[فصل ومن الواردات في حجّة الوداع نزول قوله تعالى اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ]
«فصل» ومن الواردات في حجة الوداع نزول قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً وكان نزولها بعد العصر يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه
وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فحين نزولها كاد عضد الناقة أن يندق من
شدة ثقلها فبركت روينا في صحيح البخارى عن طارق بن شهاب قال قالت اليهود
لعمر إنكم تقرؤن آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا فقال عمرانى لأعلم حيث
أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت أنزلت يوم
الجمعة وانّا والله بعرفة قال ابن عباس كان ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة
وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم
قبله ولا بعده وروى هرون بن عنترة عن أبيه قال لما نزلت هذه الآية بكى عمر
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا عمر قال بكائى انا كنا في
زيادة من ديننا فاما اذا كمل فانه لم يكمل شيء الا نقص قال صدقت فلم ينزل
بعدها حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض والأحكام وعاش بعدها النبى صلى
الله عليه وسلم بعد نزولها أحد وثمانون يوما عن الاستقاء فتزول الخصوصية به
الثابتة لكم لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء (ولو تقصي) بضم الفوقية
والقاف وتشديد المهملة المكسورة مبني للمفعول أي قصواه أى غايته «فصل» في
الواردات في حجة الوداع (اليوم أكملت لكم دينكم) أي الفرائض والسنن والحدود
والاحكام والحلال والحرام قاله ابن عباس ويروى عنه انه الذى نزلت بعدها
وقال سعيد بن جبير وقتادة أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك وقيل أظهرت
دينكم وأمنتكم من العدو (واتممت عليكم نعمتي) أى وأنجزت وعدى في قولى ولأتم
نعمتي عليكم فكان من تمام نعمته ان دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين وحجوا
مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين (ورضيت لكم الاسلام دينا) لا أرتضى لكم
غيره فلا تستبدلوا به وأكرموه بالسخاء وحسن الخلق (وكان نزولها بعد العصر
الي آخره) ذكره البغوى في التفسير (عضد الناقة) من المرفق الى رأس الكتف
(ان يندق) أى ينحطم وينفت (فبركت) بالموحدة (روينا في صحيح البخاري) وصحيح
مسلم وسنن الترمذى والنسائي (طارق) بالمهملة والراء والقاف (قالت اليهود
لعمر) قال ابن حجر وغيره كان القائل منهم ذلك كعب الاحبار (أنزلت يوم عرفة)
أشار عمر الى ان ذلك اليوم كان عيدا لنا لان العيد لغة السرور العائد فكل
يوم شرع تعظيمه يسمى عيدا وللترمذي نزلت يوم عيدين لانه وافق يوم الجمعة
وهو عيد المسلمين (قال ابن عباس كان ذلك اليوم خمسة أعياد) كما نقله عن
البغوي (بن عنترة) بالمهملة فالنون فالفوقية بوزن حيدرة واسمه هرون قال
الذهبي وغيره ثقة وأبو عنترة الشيبانى عده ابن شاهين في الصحابة (احدى
وثمانين يوما) كما في تفسير البغوى وذلك مبنى على ان وفاته كانت في ربيع
(2/93)
فكأنها كانت في معنى النعي له صلى الله
عليه وسلم ومن ذلك ما روينا في الصحيحين واللفظ للبخارى عن سعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه قال عادنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في وجع
أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول الله بلغ بى من الوجع ما ترى وأنا ذو مال
ولا يرثنى الا بنت لى واحدة أفأتصدق بثلثي مالى قال لا قلت فاتصدق بنصف
مالى قال لا قلت والثلث قال والثلث كثير وانك ان تذر ورثتك أغنياء خير من
ان تذرهم الاول وسيأتى الخلاف فيه (النعي) الاعلام بالموت وهو بفتح النون
وسكون العين وتخفيف الياء وبضم النون وكسر العين وتشديد الياء (ومن ذلك ما
رويناه في) الموطأ ومسند أحمد و (الصحيحين) وسنن أبي داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه عادني (النبي صلى الله عليه وسلم) فيه استحباب العيادة
للامام كغيره (أشفيت منه) بفتح الهمزة وسكون المعجمة وفتح الفاء ثم تحيته
ساكنة أشرفت (من الوجع) قال ابراهيم الحربي الوجع اسم لكل مرض وفيه جواز
ذكر المريض ما يجده لغرض صحيح وانما المكروه ما كان على سبيل التسخط وهو
الذي يقدح في أجر المريض (وأنا ذو مال) قال الووي فيه اباحة جمع المال لان
هذه الصفة لا تستعمل في العرف الا للمال الكثير (ولا يرثنى الا ابنة لى)
أراد من الولد وخواص الورثة والا فقد كان له عصبة وقيل أراد من أهل الفروض
وهذه الابنة هي أم الحكم الكبري ولم يكن له سواها يومئذ وأمها بنت شهاب بن
عبد الله بن الحارث بن زهرة وهي شقيقة اسحق الاكبر الذى كان يكنى به سعد بن
أبي وقاص قال ابن حجر وهم من قال هي عائشة لانها لا صحبة لها وليست لسعد
ابنة أخري اسمها عائشة (أفأتصدق بثلثى مالى) قال النووي يحتمل انه أراد
بالصدقة الوصية ويحتمل أنه أراد بالصدقة المنجزة وهما عندنا وعند العلماء
كافة سواء الا ما زاد على الثلث لا ينفذ الا برضاء الوارث وخالف أهل الظاهر
فقالوا للمريض مرض الموت ان يتصدق بكل ماله ويتبرع به كالصحيح ودليل
الجمهور قوله (الثلث والثلث كثير) مع حديث الذى أعتق ستة أعبد في مرضه
فاعتق النبى صلى الله عليه وسلم اثنين وأرق أربعة انتهي قال عياض يجوز نصب
الثلث الاول على الاعزي «1» وعلى تقدير افعل واعط ورفعه على تقدير يكفيك
فهو فاعل أو على انه مبتدأ حذف خبره أو خبر حذف مبتداؤه وضبط كثير بالمثلثة
وبالموحدة وكلاهما صحيح قال النووي وفي الحديث مراعاة العدل بين الورثة
والوصية وقال العلماء ان كانت الورثة أغنياء استحب استغراق الثلث بالوصية
والا استحب ان ينقص وأما الزيادة عليه فمحرمة اركان يقصد حرمان الوارث والا
فلا يحرم ولا ينفذ الا باجازته سواء كان له وارث خاص أم لا وروى عن على
وابن مسعود جوازه فيمن لا وارث له وذهب اليه أبو حنيفة واسحاق وكذا أحمد في
احدي الروايتين عنه (أن) بفتح الهمزة (تذر) منصوب بان وروي أيضا بكسر
الهمزة وجزم تذر
__________
(1) كذا في الأصل.
(2/94)
عالة يتكففون الناس ولست تنفق نفقة تبتغى
بها وجه الله الا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك قلت يا رسول
الله اخلف بعد أصحابي قال انك لن تخلف فتعمل عملا تبتغى به وجه الله الا
ازددت به درجة ورفعة ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضربك آخرون اللهم امض
لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة بالشرط قال
النووى وكلاهما صحيح (عالة) أي فقراء (يتكففون الناس) أي يسألونهم باكفهم
وفي الحديث الحث على صلة الرحم والاحسان الى القريب والشفقة على الوارث وان
صلة القريب الاقرب أفضل من الابعد قال النووي واستدل به بعضهم على ترجيح
الغني على الفقير انتهي وفي الاستدلال به نظر (ولست تنفق نفقة) فيه الحث
على الانفاق في وجوه الخير (تبتغي بها وجه الله) أي لا رياء فيها ولا سمعة
ولا تريد عليها جزاء دنيويا (حتى اللقمة) بالنصب والضم (في في امرأتك) فيه
ان المباح يصير طاعة بالنية وذلك لان زوج الانسان من أخص حظوظه الدنيوية
وملاذه المباحة ووضع اللقمة في فيها انما يكون عادة عند المداعبة ونحوها
وهذه الحالة أبعد الاشياء من الطاعة وأمور الآخرة فغير هذه الحالة أولى
بحصول الاجر مع النية كذا قاله النووى (اخلف) استفهام حذفت ادانه (بعد
أصحابي) أي بعد خروجهم الى المدينة اخلف عنهم بمكة وانما قال ذلك خوفا من
موته بمكة لكونه هاجر منها وتركها لله كما صرحت به رواية في مسلم أو خوفا
من بقائه بمكة بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الى المدينة بسبب
المرض وكانوا يكرهوا الرجوع فيما تركوه لله تعالى لا كمن جاء في رواية أخرى
اخلف عن هجرتى قال عياض قيل كان حكم الهجرة باقيا بعد الفتح لهذا الحديث
وقيل انما ذلك لمن هاجر قبل فاما من هاجر يعده فلا (انك لن تخلف) أراد
بالتخلف هنا طول العمر والبقاء في الدنيا بعد جماعات من أصحابه (الا أزددت
به درجة الى آخره) فيه فضيلة طول العمر للازدياد من الطاعات وفيه الحث على
ارادة وجه الله تعالى بها (ولعلك تخلف) حرف ترج وهو هنا واجب (حتى ينتفع)
في بعض نسخ مسلم حتى ينفع مبني للمفعول كقوله (ويضربك آخرون) وفي الحديث
معجزة له صلى الله عليه وسلم فان سعدا عاش حتى فتح العراق وغيره وانتفع به
قوم في دينهم ودنياهم وتضرر به الكفار كذلك وتوفي رضي الله عنه في قصره
بالعقيق وحمل الى المدينة وعليها يومئذ مروان بن الحكم قيل وكان آخر
المهاجرين موتا بالمدينة سنة ثمان أو خمس وخمسين وعن بعض بضع وستين سنة
(اللهم امض لاصحابى هجرتهم) أي أتمها لهم ولا تبطلها (ولا تردهم على
أعقابهم) أي بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالتهم المرضية واستدل به من
قال ان بقاء المهاجرين بمكة كيف كان قادح في هجرته قال عياض ولا دليل فيه
عندى لاحتمال انه دعا لهم دعاء عاما (لكن البائس) أى الفقير الذى عليه أثر
البؤس أي الفقر (سعد بن خولة) هو زوج سبيعة الا سليمة وخولة بفتح المعجمة
وسكون الواو وفي صحيح البخاري في الوصايا يرحم الله ابن عفراء قال ابن حجر
يحتمل أن يكون خولة اسم أبيه وعفراء أمه وهو من بنى عامر بن لؤي واختلف في
قصته فقيل لم يهاجر من مكة حتى مات بها وذكر البخاري انه هاجر وشهد بدرا ثم
انصرف الى مكة ومات بها وقال ابن هشام هاجر الى الحبشة الهجرة الثانية وشهد
(2/95)
رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
توفي بمكة ومنها ما رويناه في صحيح البخارى ان النبى صلى الله عليه وسلم
قال لجرير استنصت الناس فقال لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض
وقال أيضا الا ان الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض
السنة اثنى عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة
والمحرم ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان بدرا وغيرها وتوفي بمكة في حجة
الوداع سنة عشر وقيل سنة سبع في الهدنة خرج مختارا من المدينة الى مكة فعلى
هذا وعلى الاول سبب بؤسه موته بمكة على أى حال كان لفوت الثواب الكامل
بالموت في دار هجرته قال عياض وقد روي في هذا الحديث انه صلى الله عليه
وسلم خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلا وقال إن مات بمكة فلا تدفنه بها (يرني)
بالمثلثة أي يتوجع (له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان) بفتح الهمزة (مات
بمكة) هذا كله من كلام الراوى وانتهى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
عند قوله لكن البائس سعد بن خولة والتفسير من كلام سعد بن أبي وقاص أو من
كلام الزهري قولان قلت ينبغى للقاريء ان يفصل بين الحديث والتفسير بقال وقد
ثبت لفظه قال في نسخة من نسخ صحيح مسلم بخط الحافظ الصريفيني كما نقله
السيوطى في الديباج (ما رويناه في) مسند أحمد (وصحيح البخارى) وصحيح مسلم
وسنن النسائي وابن ماجه قال (لجرير) ورواه أحمد والبخاري وأبو داود
والنسائي وابن ماجه عن عمرو رواه البخارى والنسائي عن أبي بكر ورواه
البخاري والترمذي عن ابن عباس (لا ترجعوا بعدى) أى بعد وفاتي (كفارا) أى
تتشبهوا بهم في قتل بعضكم بعضا (يضرب) بالرفع فقط ومن جزم احال المعني قاله
عياض (وقال أيضا) فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي بكرة (ان الزمان) يعني
السنة (قد استدار كهيئته) أى عاد مثل حالته وكان ذلك تاسع ذى الحجة في
الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوى الليل والنهار وكانت العرب
يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا (منها) أى من السنة (أربعة حرم) سميت بذلك
لحرمتها حتى ان الجهاد كان محرما فيها أول الاسلام ثم نسخ بفعله صلى الله
عليه وسلم يوم حنين اذ دخل عليه شهر ذي القعدة وهو في جهاد ثم وقال عطاء
وآخرون ان ذلك غير منسوخ ونقل عنه ابن جريج انه كان يحلف ما يحل للناس ان
يقروا في الحرم ولا في الاشهر الحرم ولا ان يقاتلوا فيها وما يستحب (ذو
القعدة الي آخره) فيه دليل لمن يقول ان الادب المستحب في غير هذه الاشهر ان
يبدأ بذي القعدة ويختم برجب وهو الصحيح وقيل يبدأ بالمحرم ويختم بذي الحجة
ليكون الاربعة من سنة واحدة (فالمحرم) هذا الاسم له اسلامي كما مر وكانوا
في الجاهلية يسمونه صفر الاول وهو أفضل الاشهر الحرم وثلاثة رجب ثم ذو
الحجة ثم ذو القعدة (ورجب مضر) انما أضافه اليهم ليمكنهم في تعظيمه أكثر من
غيرهم أو لانهم كان بينهم وبين ربيعة اختلاف فيه فكانت مضر تجعله هذا
المعروف وربيعة تجعله رمضان قولان (الذي بين جمادي وشعبان) قال النووي انما
قيده هذا التقييد مبالغة في ايضاحه وازالة اللبس عنه وذلك لان العرب كانت
(2/96)
أيّ شهر هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت
حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذا الحجة قلنا بلى يا رسول الله
قال وأي بلد هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه
قال أليس هذه البلدة مكة قلنا بلى قال فأى يوم هذا قلنا الله ورسوله أعلم
فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه قال أليس هذا يوم النحر قلنا بلى قال
فان دماؤكم وأموالكم قال محمد وأحسبه قال واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم
هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا
ترجعوا بعدى ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ولعل
بعض من لم يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ألا هل بلغت ألا هل بلغت
ألا هل بلغت- ومعنى استدارة الزمان أنهم كانوا في الجاهلية ينسئون الشهر
الحرام أى يؤخرونه اذا احتاجوا الى القتال فيه فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا
آخركما يجعلون المحرم صفر فاذا احتاجوا الى تأخير تحريم صفر أخروه الى ربيع
هكذا شهرا بعد شهر حتى استدار التحريم الى السنة تسمى رجب وشعبان الرجبين
وسمى شعبان بذلك نتشعب العرب فيه للحرب أي تفرقهم وخروجهم في كل وجه (أى
شهر هذا الى آخره) قال النووي هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التقدير
والتفخيم والتنبيه على عظم مزية هذا الشهر والبلد واليوم وقول الصحابة
(الله ورسوله أعلم) من حسن أدبهم فانهم عرفوا انه صلى الله عليه وسلم لا
يخفي عليه ما يعرفونه من الجواب فعلموا انه ليس المراد مطلق الاخبار بما
يعرفون (أليس ذا الحجة) بالنصب خبر ليس واسمها مستتر فيها وكذا ما بعده
(قال محمد) هو ابن سيرين (وليبلغ الشاهد) أي الحاضر (الغائب) فيه وجوب
تبليغ العلم بحيث يتيسر وذلك فرض كفاية (فلعل بعض) النصب اسم لعل (من
تبلغه) بفتح أوله وسكون ثانيه وضم ثالثه (أوعى له من بعض) ولمسلم ممن
(سمعه) قال النووى احتج العلماء لجواز رواية الفضلاء وغيرهم عن الشيوخ
الذين لا علم عندهم ولا فقه اذا ضبط ما يحدث به (الاهل بلغت) ففي كلامه صلى
الله عليه وسلم وما قبله اعتراض (ومعني استدارة الزمان) كما قاله أبو عبيد
(انهم كانوا ينسئون أى يؤخرون) وقيل هو من النسيان الواقع على المنسي وهو
المتروك (الشهر الحرام) اسم جنس والمراد الاشهر الحرم والعرب كانت تعظمها
كلها وذلك من جملة ما تمسكت به من دين ابراهيم (تنبيه) اختلف المفسرون في
أول من نسأ فقيل بنو مالك من كنانة فقام الاسلام والذى نسؤا أبو ثمامة
جنادة بن عوف بن أمية الكناني وقيل أول من فعله نعيم بن ثعلبة رجل من كنانة
وقيل أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له القلمس بفتح القاف واللام والميم
المشددة ثم مهملة وفيه يقول شاعرهم* ومنا ناسيء الشهر القلمس* وقيل أول من
فعله عمرو بن طي (اذا احتاجوا الى القتال فيه)
(2/97)
كلها وتحولت الشهور عن اماكنها فوافق حجة
الوداع شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم ان
أشهر الحج قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الامر الى ما وضع الله عليه حساب
الاشهر يوم خلق السموات والأرض وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل في مستأنف
الزمان*
[السنة المخترمة بوفاته صلى الله عليه وسلّم]
ومن ذلك ما روى ابن اسحق وغيره ومعناه في الصحيحين عن عمرو ابن خارجة قال
بعثني عتاب بن أسيد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ورسول الله
صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة فبلغته ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وان لعابها ليقع على رأسى فسمعته وهو يقول أيها الناس ان الله قد
أدى إلى كل ذى حق حقه وانه لا يجوز وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر
ومن ادعى الى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وصدر النبي صلى الله عليه
وسلم من حجته وقد أدى الناس مناسكهم وعلمهم معالم دينهم وحذر وأنذر فكانت
حجة البلاغ وحجة الوداع والله أعلم.
السنة المخترمة بوفات النفس الزكية المكرمة وهى سنة احدى عشرة من الهجرة
وثلاث وعشرين من النبوة وثلاث وستين من المولد وكأنها آخر الدنيا قال ابن
اسحق ثم قفل أو الى الصيد (حجة الوداع) بالنصب (شهر الحج) بالرفع ويجوز
عكسه (ما روى ابن اسحاق) وكذا البيهقي قال الذهبي بسند صالح (فان لعابها
يقع على رأسى) يستدل به على طهارة نحو لعاب الحيوان الطاهر (لا يجوز وصية
لوارث) زاد الدارقطني والبيهقى عن ابن عباس الا ان يسأل الورثة وللبيهقي من
طريق عمرو بن خارجة الا ان يجيزها الورثة ففيه ان الوصية للوارث باى سبب
كان لا تصح حتى يجيزها باقى الورثة أي مطلق التصرف منهم اما نحو السفيه فلا
يجوز الاجازة منه ولا من وليه ولا من الحاكم كما صرح به الماوردي قال
أصحابنا ويكفي من الورثة لفظ الاجازة لانها تنفيذ لا ابتداء عطية (من ادعي)
بهمز وصل والبناء للفاعل (فعليه لعنة الله) أى عذابه الذى يستحقه على ذلك
الذنب والطرد عن الجنة أول الأمر وليست كلعنة الكفار الذين يبعدون عن رحمة
الله ابعادا كليا (لا يقبل الله منه صرفا) بفتح المهملة وسكون الراء أي
فريضة (ولا عدلا) أي نافلة وقيل عكسه وقيل الصرف التوبة والعدل القربة قال
عياض قيل معناه لا يقبل ذلك منه قبول رضي وان قبل قبولا آخر قال وقد يكون
القبول هنا بمعني تكفير الذنب بهما قال وقد يكون معنى القربة هنا انه لا
يجد في القيامة أحدا يفدي به بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله
عليهم بان يفديهم من النار باليهود والنصاري كما ثبت في الحديث الصحيح
(وصدر) أي رجع (فكانت) مبينة (حجة) بالنصب خبرها* ذكر وفاته صلى الله عليه
وسلم (المخترمة) بالمعجمة (وثلاث وستين من المولد) كما رواه مسلم من رواية
أنس وعائشة وابن عباس ومعاوية وهى أصح وأشهر ولمسلم رواية انه توفي
(2/98)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى من حجة
الوداع وأقام بالمدينة بقية ذى الحجة والمحرم وصفر وضرب على الناس بعثا الى
الشام وأمّر عليهم اسامة بن زيد بن حارثة مولاه وأمره النبى صلى الله عليه
وسلم ان يوطئ الخيل تخوم البلقاء والدروم من أرض فلسطين وروى كثيرون ان
النبي صلى الله عليه وسلم أمره ان يغير على ابنى صباحا وان يحرق وابنى هي
القرية التى عند مؤتة حيث قتل أبوه زيد وانما أمره ليدرك ثأره وطعن ناس في
أمارته لكونه مولى ولحداثة سنه وكان اذ ذاك ابن ثمانى عشرة سنة فقام رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال ان تطعنوا في أمارته فقد كنتم قبل تطعنون في
أمارة أبيه من قبل وأيم الله ان كان لخليقا للامارة وان كان لمن أحب الناس
اليّ وان هذا لمن أحب الناس الىّ بعده
[ذكر تجهيز جيش أسامة بن زيد إلى الشام]
رواه البخارى وروى ابن اسحق عن رجاله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على
المنبر وقد كان وهو ابن ستين سنة وأخرى وهو ابن خمس وستين وهما متواليان
فرواية الستين اقتصر فيها على العقود وترك الكسر ورواية الخمس والستين حصل
فيها اشتباه وقد أنكر فيها عروة على ابن عباس ونسبه الى الغلط وانه لم يدرك
أول النبوة ولا كثرت صحبته بخلاف الباقين واتفقوا على ان اقامته بالمدينة
كانت عشر سنين وبمكة قبل النبوة أربعين سنة الا ما حكي عياض عن ابن عباس
وسعيد بن المسيب انها كانت ثلاثا وأربعين وهى رواية شاذة وانما اختلفوا في
قدر اقامته بمكة بعد النبوة وقبل الهجرة والصحيح انه ثلاث عشرة سنة كما مر
عند ذكر قصيدة أبي قيس بن الاسلت صرمة بن أبي أنس (بعث بعثا الى الشام) أى
لقتال الروم وكان أمير الروم يومئذ شرحبيل بن عمرو الغساني ذكره البلاذري
(تخوم) بضم الفوقية والمعجمة أي جوانب (البلقاء) بالمد (والدروم) بضم
المهملة والراء (فلسطين) بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين وكسر الطاء
المهملتين ثم تحتية ساكنة ثم نون وهى بلاد بيت المقدس وما حولها (يغير) بضم
أوله رباعي (أبنى) بهمزة مضمومة فموحدة ساكنة فنون مفتوحة مع القصر قال ابن
الاثير اسم موضع من فلسطين بين عسفان والرملة ويقال انها يبنى بالتحتية بدل
الهمزة (ثأره) بالمثلثة والهمزة وقد يسهل (فطعن) بفتح العين في الماضي
والمستقبل معا ان أريد الطعن المجازى فان أريد الحقيقى ضم العين في
المستقبل على المشهور (ناس) وللبخاري بعض الناس والطاعن هذا هو عباس بن أبي
ربيعة المخزومى أفاده البلاذرى (ابن ثماني عشرة سنة) وقيل ابن عشرين
(لخليقا) بالمعجمة والقاف أى حقيقا و (وللامارة) ولمسلم بلا مرة بكسر
الهمزة وسكون الميم وهما لغتان وفي الحديث جواز امارة العتيق وتقديمه على
الغير وتولية الصغير وتولية المفضول على الفاضل للمصلحة وفضيلة ظاهرة
لاسامة وأبيه زيد (رواه البخاري) ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عمر (عن
رجاله)
(2/99)
الناس قالوا أمر غلاما على جلة المهاجرين
والانصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أيها الناس انفذوا بعث
أسامة فلعمرى لئن قلتم في أمارته لقد قلتم في أمارة أبيه من قبله وانه
لخليق للامارة وان كان أبوه لخليقا لها ثم نزل رسول الله صلى الله عليه
وسلم وانكمش الناس أي أسرعوا في جهازهم واستعر برسول الله صلى الله عليه
وسلم وجعه فخرج أسامة بجيشه حتى نزل الجرف من المدينة على فرسخ فضرب به
عسكره وتتامّ اليه الناس وأقاموا ينتظرون ما الله قاض في رسوله قال أسامة
لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معى الى المدينة
فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصمت فلا يتكلم فجعل يرفع يديه
الى السماء ثم يضعها علىّ أعرف انه يدعو لى ولما توفي رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يشتغل أبو بكر بعد انتظام أمر الخلافة الا بتجهيز جيش أسامة
وكلم في استبقاء الجيش حتى ينتسق أمر الناس أو ان يولي عليهم غير أسامة
فقال والله لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة ما رددت جيشا أنفذه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا عزلت واليا ولاه.
[فصل في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم]
(فصل) في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته وما ورد في ذلك من
الروايات مما أكثره في الصحاح قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً الآية وقال أى رجال سنده (على جلة) بكسر الجيم
وتشديد اللام أي معظم (انفذوا) بهمزة قطع وكسر الفاء أى لا تؤخروه (فلعمرى)
انما اقسم به اقتداء بربه جل وعلا اذ أقسم به فقال لعمرك انهم لفي سكرتهم
يعمهون (وانكمش الناس) بهمز وصل وسكون النون وفتح الكاف والميم والمعجمة أى
اسرعوا والانكماش في المشي الاسراع فيه (واستعر) بالعين المهلة وتخفيف
الراء أي هاج (الجرف) بضم الجيم والراء (وتتام) بفتح الفوقية المكررة والمد
وتشديد الميم (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الى آخره) رواه
الترمذى عن اسامة وحسنه (أصمت) بضم الهمزة وكسر الميم (استبقاء) بالموحدة
والقاف (ينتسق) أي ينتظم (لو لعبت الكلاب الى آخره) أي لو سلط على أهل
المدينة من يدخلها ويفعل فيها ما ذكره من انتهاك الحرمة ولم يمكن دفع ذلك
الا باستبقاء جيش اسامة وترك تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
فعلت ذلك وفيه فضيلة ظاهرة لسيدنا أبى بكر رضى الله عنه (والخلاخيل) جمع
خلخال وهو السوار الذى تجعله المرأة في رجلها.
(فصل) عقده لبيان صفة مرضه صلى الله عليه وسلم ووفاته (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) وسيمضى هو
بعدهم أيضا أفتظنون دوام حياته (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ)
رجعتم (عَلى أَعْقابِكُمْ) أي الى دينكم الاول نزلت هذه الآية فيمن قال يوم
أحد إذ أشيع قتله صلى الله عليه وسلم من
(2/100)
تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ
وقال تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وقال تعالى وَلا تَدْعُ
مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وخرج الدارمي في
مسنده ان العباس رضى الله عنه قال لأعلمن ما بقاء النبي صلى الله عليه وسلم
فينا فقال يا رسول الله انى أراهم قد آذوك وآذاك غبارهم فلو اتخذت عريشا
تكلمهم منه فقال لا أزال بين أظهرهم يطؤن عقبي وينازعونى ردائى حتى يكون
الله هو الذي يخرجنى منهم قال فعلمت ان بقاؤه فينا قليل قال أهل التواريخ
ابتدأ بالنبى صلى الله عليه وسلم مرضه في أول شهر ربيع الأول وأول ذلك انه
خرج من جوف الليل الى البقيع فدعا لهم واستغفر وتضرع كالمودع للأموات وأصبح
مريضا من يومه قالت عائشة لما رجع من البقيع وجدني وأنا أقول وارأساه فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك فقلت
واثكلتاه والله اني لأظنك تحب موتى ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا بعض
أزواجك فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أنا وارأساه لقد هممت أو أردت أن
أرسل الى أبي بكر وابنه فاعهد ان يقول القائل أو يتمنى المتمنون ثم قلت
يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون رواه البخاري وروي
مسلم أيضا عن عائشة قالت قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ادعى
لى أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فاني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول
قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون الا أبا بكر وهذان الحديثان أهل النفاق
ان محمدا قد قتل فالحقوا بدينكم الاول (وَلا تَدْعُ) أي لا تعبد (مَعَ
اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب معه صلى الله عليه وسلم والمراد غيره (لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) فان (إِلَّا وَجْهَهُ) أي الا هو
والوجه صلة (لَهُ الْحُكْمُ) الفعل والقضاء حيث قضى هلاك كل من سواه
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم ان خيرا فخير
وان شرا فشر (فقال يا رسول الله انهم قد آذوك الى آخره) كان ذلك يوم قسم
غنائم حنين وأوطاس (ذاك) بگسر الكاف (في أول شهر ربيع الاول) يوم الاثنين
أو يوم السبت أو يوم الاربعاء أقوال (وا ثكلتاه) بضم المثلثة وسكون الكاف
وفتح اللام (اني لاظنك تحب موتي) كانها فهمت من قوله تمنى الموت لها
(لظللت) بكسر اللام الاولى (معرسا) بسكون العين (بل انا وارأساه) فيه انه
لا بأس بقول ذلك ونحوه مما ليس هو على وجه التضجر كما مر قال بعضهم وفيه
اشارة الى بقاء عائشة بعده (لقد هممت أو أردت) شك من الراوي (روى) البخاري
(ومسلم) أيضا (وأخاك) انما طلب أخاها ليكتب الكتاب ووقع في رواية البخارى
لقد هممت ان أوجه الي أبي بكر وابنه ولبعض رواة البخارى فاتيه من الاتيان
وصوب هذا بعضهم قال عياض وليس كما صوب بل الصواب ابنه وهو أخو عائشة
المذكور في رواية مسلم (فاني أخاف ان يتمنى متمن) فيه اشارة الى انه سيقع
نزاع وكان كذلك (أنا أولى)
(2/101)
من أدل الدلائل على خلافة أبى بكر وقد ثبت
أصلهما من الصحيحين كما ترى
[مطلب وكان وجعه صلى الله عليه وسلّم عرق في الكلية]
وكان وجعه صلى الله عليه وسلم وهو عرق في الكلية اذا تحرك أوجع صاحبه وقيل
الصداع وروي البخارى عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في
مرضه الذى مات فيه يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر فهذا
أو ان وجدت انقطاع ابهرى من ذلك السم وغير مدافع انه قد كان مع ذلك حمى
فيحتمل ان يكون مع وجودها تداعت أسباب هذه الاوجاع كلها وكان وجعه صلى الله
عليه وسلم شديدا روينا في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال دخلت على
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته فقلت انك لتوعك وعكا شديدا قال
أجل كما يوعك رجلان منكم قلت ذلك بأن لك أجرين قال أجل ذلك كذلك ما من مسلم
يصيبه اذى شوكة فما فوقها الا كفر الله بها سيآته كما تحط الشجرة ورقها وفي
معناه قوله صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الانبياء ثم الامثل فالامثل
وكان صلى الله عليه وسلم في مرضه يدور على أزواجه وهن يومئذ تسع حتى اشتد
به المرض في يوم ميمونة أى أحق بالخلافة ورواه بعضهم في مسلم انا بالتخفيف
أولا بفتح الهمزة والواو المشددة أى الاحق أولا وبعضهم انا بالتخفيف ولى
بكسر اللام أى الخلافة وبعضهم انا بالتخفيف ولاه أي انا الذي ولاه النبي
صلى الله عليه وسلم وبعضهم انا بتشديد النون ولاه أي كيف ولاه قال عياض
أجود هذه الروايات الاولى (من أدل الدلائل على خلافة أبي بكر) وثبوتها
باجماع الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه وليس فيه نص صريح على خلافته
والا لما وقعت منازعة من الانصار وغيرهم ولذكر حافظ النص ما معه ولرجعوا
اليه (الخاصرة) باعجام الخاء واهمال الصاد (الكلية) بضم الكاف وسكون اللام
(الصداع) وجع الرأس (وروى البخارى الى آخره) تقدم الكلام عليه في غزوة خيبر
(كلها) بالرفع والنصب (فمسسته) بكسر السين (وعكا) بفتح الواو وسكون العين
وقد يفتح والوعك الحمي وقيل معلها (أجل) بتخفيف اللام أي نعم (ما من مسلم
يصيبه أذى الى آخره) فيه تكفير الخطايا بالبلايا كما ذهب اليه أهل السنة
(سيآته) بكسر التاء علامة للفتح (كما تحط) تلقى وتسقط (أشد الناس بلاء
الانبياء ثم الامثل فالامثل) رواه أحمد والبخاري والترمذى وابن ماجه عن سعد
رضي الله عنه وتتمته يبتلى الرجل على حسب دينه فان كان في دينه صلبا اشتد
بلاؤه وان كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى
يتركه يمشي على الارض وما عليه خطيئة انتهي والامثل الافضل وانما شدد
البلاء على من ذكر لانهم لقوة دينهم لا يخاف منهم الجزع والتسخط بالقضاء
الماحق لاجر البلاء فابتلوا بما تزداد به درجاتهم ولا تنقص به حسناتهم
بخلاف غيرهم اذ يخاف عليه غلبة الجزع ونحوه فيبطل ثوابه ولا ينتفع بالبلاء
فكان بلاء كل على قدر دينه رجمة من الله عز وجل بعباده ونظرا لهم بالاصلح
الانفع فله الحمد والثناء على ما تفضل به وأسدى (في يوم ميمونة) وكان
ابتداء مرضه ببيتها
(2/102)
فدعاهن فاستأذنهن ان يمرض في بيت عائشة
فأذنّ له فخرج صلى الله عليه وسلم ويده على عليّ عليه السلام والاخرى على
الفضل بن عباس.
[مطلب في حديث السبع قرب لم تحل أوكيتهن وخروجه صلى الله عليه وسلّم إلى
الناس]
وروينا في الصحيحين عن عائشة ان النبى صلى الله عليه وسلم قال بعد ما دخل
بيتها واشتد وجعه أهريقوا علىّ من سبع قرب لم تحل أوكيتهن لعلي أعهد الى
الناس فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبى صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا نصب
عليه من تلك القرب حتى طفق يشير الينا بيده ان قد فعلتن قالت ثم خرج الى
الناس فصلي بهم وخطبهم وروى أهل السير ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم
الخميس وقد شد رأسه بعصابة دسماء فرقي المنبر فجلس عليه مصفر الوجه وأمر
بلالا فنادى في الناس أن اجتمعوا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاجتمعوا كبيرهم وصغيرهم وتركوا أبواب بيوتهم مفتحة وغص المسجد بمن فيه ثم
قام فخطبهم خطبة بليغة فكان أول ما تكلم به صلى على قتلى أحد واستغفر لهم
روينا في صحيح البخارى عن عقبة بن عامر قال صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للاحياء والأموات ثم طلع المنبر
فقال انى بين أيديكم فرط وأنا شهيد عليكم وان موعدكم الحوض وانى لأنظر اليه
من مقامي هذا وانى لست اخشى عليكم ان تشركوا ولكنى أخشى عليكم الدنيا ان
تنافسوا فيها قال فكانت آخر نظرة نظرتها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم قال أيضا ما رويناه في صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدرى ان رسول الله صلى
الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال ان عبدا خيره الله بين ان يؤتيه زهرة
الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وبكى فقال أو ببيت زينب
أو ريحانة أقوال (فأذن له) بتشديد النون (أهريقوا) بفتح الهمزة مع فتح
الهاء وسكونها (من سبع قرب) قيل الحكمة في هذا العدد ان فيها سرا وخاصية في
دفع السم والسحر (مخضب) بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الضاد المعجمتين ثم
موحدة اناء نحو المركن يغتسل فيه (وروي أهل السير) عن أنس (دسماء) بفتح
الدال وسكون السين المهملتين مع المد والدسمة لون بين الغبرة والسواد (مصفر
الوجه) بالنصب على الحال (وغص) بالمعجمة ثم المهملة أي ضاق كما يضيق حلق
الغاص باللقمة (صلى على قتلى أحد) أي دعا لهم (فرط) أى سابق اتقدمكم الى
الآخرة (تنافسوا فيها) بحرف الاستقبال أي يتحاسدوا عليها (آخر نظرة) بالنصب
خبر كانت واسمها مستتر (ما رويناه في صحيح البخاري) وصحيح مسلم وسنن
الترمذي (ان عبدا خيره الله) قال النووي انما ابهم ليظهر فهم أهل المعرفة
ونباهة أصحاب الحذق (من زهرة الدنيا) أى نعيمها وأعراضها وحظوظها (فبكي أبو
بكر وبكى) كلاهما بتخفيف الكاف أي كرر البكاء لانه علم المخير صلى الله
عليه
(2/103)
فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ان أمنّ الناس علىّ بماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذا
خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الاسلام لا يبقين في المسجد خوخة
الاخوخة أبى بكر وأوصى يومئذ بانفاذ جيش أسامة وأوصى بالانصار فقال يا معشر
المهاجرين استوصوا بالانصار خيرا فان الناس يزيدون وان الانصار على هيئتها
لا تزيد وانهم كانوا عيبتي وسلم فبكا حزنا على فراقه وانقطاع الوحي وغير
ذلك من الخيرات (فديناك بآبائنا) فيه دليل لجواز التفدية وقد قاله صلى الله
عليه وسلم (هو المخير) بالنصب خبر كان وهو عماد وصلة (أعلمنا به) بالنصب
خبر كان (ان أمن الناس على في ماله وصحبته أبو بكر) قال العلماء معني
أكثرهم جودا وسماحة لنا بنفسه وماله وليس هو من المن الذي هو الاعتداد
بالصنيعة لانه أذى مبطل للثواب ولان المنة لله تعالي ولرسوله صلى الله عليه
وسلم في قبول ذلك وغيره (لو كنت متخذا خليلا) غير ربى (لا اتخذت أبا بكر
خليلا) ولكن محبة ربي استولت على جميع قلبي فلم يبق فيه وسع لغيره لان معني
الخليل أن لا يتسع قلبه لغير خليله وللعلماء خلاف في معنى الخلة كما سبق
قال ابن فورك الخلة صفاء المودة بتخلل الاسرار وقيل أصلها المحبة وللعلماء
خلاف هل المحبة أرفع أم الخلة أم هما سواء فقالت طائفة لا يكون الحبيب الا
خليلا وعكسه وقيل المحبة أرفع اذهي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم كما جاء
في حديث حسن الا وأنا حبيب الله وهو أفضل من الخليل وقيل الخلة أرفع فقد
ثبتت لنبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وقد نفا ان يكون له خليل سوى
الله مع اثبات محبته لخديجة وعائشة وأبيها وأسامة وأبيه وفاطمة وابنيها قال
النووي وغيره ولا ينافي هذا الحديث قول أبي هريرة وغيره من الصحابة سمعت
خليلى صلى الله عليه وسلم اذ تحسن لغيره صلى الله عليه وسلم الانقطاع اليه
ولا عكس (ولا يبقين) بنون التأكيد الثقلية (خوخة) بفتح المعجمة المكررة
وسكون الواو وهي الباب الصغير بين البيتين والدارين ونحوه وفيه ان المساجد
تصان عن تطرق الناس اليها الا من أبوابها الا لحاجة مهمة قاله النووي (الا
خوخة أبي بكر) أي فلا تسدوها وكان سبب ذلك انه رأى عليها نورا كما رواه
الطبراني وذلك اشارة الى خلافته ولاحمد والنسائي وغيرهما باسانيد حسنة انه
أمر بسد الابواب الا باب علىّ والجمع بينهما كما قاله الطحاوي والكلاباذي
والحافظ ابن حجر وغيرهما ان الامر بسد الابواب وقع مرتين ففي الاولى استثنى
عليا حيث قال لا يحل لاحد ان يستطرق هذا المسجد غيرى وغيرك وذلك قبل مرضه
بمدة وفي الثانية استثنى أبا بكر وذلك في مرض موته وكانت الثانية في الخوخ
والاولى في الابواب فكانهم لما أمروا بسد الابواب سدوها وأحدثوا خوخا واخطأ
ابن الجوزي حيث زعم ان حديث على موضوع وضعته الرافضة ليقابلوا به حديث أبي
بكر (استوصوا بالإنصار خيرا) فيه رمز الى ان الخلافة لا تكون فيهم والا
لاوصاهم ولم يوص بهم (ان الانصار على هيئتها لا تزيد) فيه معجزة له صلى
الله عليه وسلم فانهم صاروا من أقل الناس كما قال في رواية انهم يقلون حتى
يكونوا كالملح في الطعام (عيبتي) أي خاصتى الذين أثق بهم واعتمد عليهم في
(2/104)
التي أويت اليها فاحسنوا الى محسنهم
وتجاوزوا عن مسيئهم ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتامّ به وجعه
ولم يخطب خطبة بعدها.
[فصل في أمره صلى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يصلي بالناس]
(فصل) وأول عجزه عن الخروج الى الصلاة اجتمع الناس في المسجد وآذنوه بها
فهم بالخروج فعجز فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت له عائشة ان أبا
بكر اذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس فقال
مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة لحفصة قولى له ان أبا بكر اذا قام
في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس ففعلت حفصة فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم انكن لانتن كصواحبات يوسف مروا أبا بكر فليصل
بالناس فقالت حفصة لعائشة ما كنت لا صيب منك خيرا رواه الشيخان وفي رواية
فيهما ان عائشة قالت لقد راجعت رسول الله في ذلك وما حملني على كثرة
مراجعته الا انه لم يقع في قلبى ان يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا
وانى كنت أرى انه لن يقوم مقامه أحد الا تشاءم الناس به فأردت ان يعدل ذلك
رسول الله صلى أمورى والعيبة بفتح المهملة وبالموحدة وعاء معروف أكبر من
المخلاة يحفظ الانسان فيها متاعه فضربها لهم مثلا لانهم محل سره وخفي
أحواله (فأحسنوا الى محسنهم) أى واجهوه باللطف والبر (وتجاوزوا) اعفوا (عن
مسيئهم) في بعض أصول مسلم سيئهم وذلك في غير حدود الله تعالي قاله النووي*
فصل في أول عجزه عن الخروج (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فيه ان الامام اذا
عرض له عذر عن حصول الجماعة استخلف من يصلي بهم ولا يستخلف الا أفضلهم وفيه
فضيلة أبي بكر رضى الله عنه على جميع الصحابة وتنبيه على انه أحق بخلافة
رسول الله صلى الله عليه وسلم (فقالت له عائشة الى آخره) فيه جواز مراجعة
أولي الأمر على سبيل العرض والمشاورة والاشارة بما يظهر انه مصلحة وتكون
تلك المراجعة بعبارة لطيفة (فمر عمر) يؤخذ منه أفضلية عمر على غيره بعد أبي
بكر فمن ثم اشارتا به ويؤخذ ذلك أيضا من قول أبى بكر يا عمر صل بالناس ولم
يقل لاحد سواه (انكن لانتن كصواحبات يوسف) أي في التظاهر على ما ترون
والالحاح في طلبه وقيل في اظهاركن خلاف ما أبطنتن ووجه التشبيه ان عائشة
أظهرت انها إنما تريد صلاة عمر لان أبا بكر رجل رقيق اذا قام مقام رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع الناس من البكاء وأبطنت ما أخبرت به بعد
انها خافت التشاؤم بمن يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما حفصة
فلانها أظهرت ما أظهرته عائشة وأبطنت محبة تقديم أبيها على غيره فاشبهن
صواحب يوسف حيث أظهرن أنهن قعدن ليأكلن وهن انما يردن النظر الى يوسف (رواه
الشيخان والترمذي وابن ماجه) عن عائشة ورواه الشيخان أيضا عن أبي موسي
ورواه البخاري فقط عن ابن عمر ورواه ابن ماجه عن ابن عباس وعن سالم بن عبيد
(كنت أري) بضم الهمزة أي أظن
(2/105)
الله عليه وسلم عن أبي بكر ورياوه أيضا
باسناد واحد عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود قال دخلت على عائشة فقلت
لها ألا تحدثينى عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت بلى ثقل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال أصلي الناس قلنا لا هم ينتظرونك يا رسول الله
قال ضعوا لى ما في المخضب قال ففعلنا فاغتسل به ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم
أفاق فقال أصلى الناس قلنا لا هم ينتظرونك يا رسول الله قالت والناس عكوف
في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الأخيرة قالت
فأرسل رسول الله عليه وآله وسلم الى أبى بكر أن يصلى بالناس فأتاه الرسول
فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك ان تصلى بالناس فقال أبو بكر
وكان رقيقا يا عمر صل بالناس فقال عمر أنت أحق بذلك قال فصلى بهم أبو بكر
تلك الأيام ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين
رجلين أحدهما العباس والثانى علىّ لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي (عن عبيد الله
بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود (ذهب لينوء) بفتح التحتية وضم النون ثم همزة
ممدودة أي ليقوم وينهض (فاغمى عليه) فيه جواز الاغماء على الانبياء قال
النووى ولا شك في جوازه فانه مرض والمرض يجوز عليهم بخلاف الجنون فانه لا
يجوز عليهم لانه نقص (فاغتسل) أى توضأ من الاغماء لانه ناقض كذا حمله عياض
على الوضوء لكن الصواب كما قال النووي ان المراد غسل جميع البدن اذ هو ظاهر
اللفظ ولا مانع يمنع منه لان الغسل من الاغماء مستحب بل في وجه شاذ لبعض
أصحابنا انه واجب وفي تكرير النبي صلى الله عليه وسلم الاغتسال دليل على
استحباب تكرير الغسل اذا تكرر الاغماء لكن لو اغتسل مرة بعد تكرر الاغماء
كفت (وهم ينتظرونك يا رسول الله) فيه ندب انتظار الامام اذا تأخر عن أول
الوقت ورجى مجيئه عن قرب (والناس عكوف) بضم العين والكاف أي مجتمعون
منتظرون خروجه صلى الله عليه وسلم (العشاء الآخرة) في صحة قول الشخص العشاء
الآخرة وهو الصواب فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال ذلك وكذا عائشة
وأنس والبراء وجماعة وان أنكره الاصمعى (أنت أحق بذلك) فيه الاعتراف بالفضل
لاهله وان المفضول لا يقبل رتبة عرضها عليه الفاضل بل تدعى له وفيه جواز
الثناء في الوجه لمن آمن عليه نحو العجب قال النووى وأما قول أبي بكر لعمر
صل بالناس فقالوا للعذر المذكور قال وقد تأوله بعضهم على انه قاله تواضعا
والمختار ما ذكرناه (بين رجلين أحدهما العباس) والآخر اما على بن أبى طالب
كما قاله ابن عباس أو الفضل ابن العباس كما في طريق آخر في مسلم أو اسامة
بن زيد كما في رواية أخرى في غير صحيح مسلم والجمع بين هذه الروايات كما
قاله النووي وغيره انهم كانوا بتناوبون الاخذ بيده الكريمة وهؤلاء خواص أهل
بيته الرجال الكبار وكان العباس أكثرهم ملازمة وادام الاخذ بيده وتناوب
الباقون في اليد الاخرى وأكرموا العباس باختصاصه بيد لماله من السن
والعمومة فمن ثم ذكرته عائشة مسمى وأبهمت الآخر اذ لم يكن أخذ الثلاثة
الباقين ملازما في كل الطريق
(2/106)
بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب يستأخر فأومئ
اليه النبى صلى الله عليه وسلم ان لا يتأخر وقال لهما اجلسانى الى جنبه
فأجلسناه الى جنب أبى بكر فكان أبو بكر يصلى وهو قائم بصلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبى بكر والنبى صلى الله عليه وسلم قاعد
وقالت أم الفضل بنت الحارث سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في
المغرب بالمرسلات عرفا ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله تعالى رواه
البخارى.
[فصل في آخر ما أوصى به صلى الله عليه وسلّم]
وآخر أحواله في الصلاة ما رويناه في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك
ان أبا بكر كان يصلى بهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي
فيه حتى اذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله
عليه وسلم سترة الحجرة فنظر الينا وهو قائم كان وجهه ورقة مصحف ثم تبسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا قال فبهتنا ونحن في الصلاة من الفرح
بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة فأشار اليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بيده ان أتموا صلاتكم قال ثم دخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأرخى الستر قال فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك وفي
رواية قال أنس فكانت آخر نظرة نظرتها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
روى خارج الصحيحين ان آخر ما أوصى به صلى الله عليه وسلم بأن قال الصلاة
وما ملكت أيمانكم حرك بها لسانه وما يكاد يبين قال أراد بما (اجلسانى الى
جنبه) فيه جواز وقوف مأموم واحد بجنب الامام لحاجة أو مصلحة (وقالت أم
الفضل) سمها لبابة بنت الحارث زوج العباس رضي الله عنهما (بالمرسلات عرفا)
أى بسورة المرسلات وهي الرياح أو الملائكة قولان والعرف المتتابع أو الكثير
قولان (رواه) مالك و (البخاري) ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائى وابن
ماجه (سترة الحجرة) بكسر السين (كان وجهه ورقة مصحف) بتثليث الميم وهذا
عبارة عن الجمال البارع وحسن السيرة وصفاء الوجه واستنارته (ثم تبسم رسول
الله صلى الله عليه وسلم) أى فرحا بما رأى من اجتماعهم على الصلاة واتباعهم
لامامهم واقامتهم شريعته واتفاق كلمتهم واجتماع قلوبهم وهذا هو السبب في
استنارة وجهه قال النووي وفيه معنى آخر وهو تأنيسهم واعلامهم بحاله في مرض
وقيل يحتمل انه صلى الله عليه وسلم خرج ليصلى بهم فرأي من نفسه ضعفا فرجع
انتهى (قلت) أو لعله أراد توديعهم وان يملاؤا نظرهم منه صلى الله عليه وسلم
وكان ذلك بعد ان علم انه سيموت في ذلك اليوم وكان ذلك سبب تبسمه واستنارة
وجهه فرحا بلقاء ربه (فبهتنا) مبنى للمفعول أي غشينا بهتة أي حيرة من سورة
الفرح (ونكص) أى رجع (على عقبيه) أي الي ورائه قهقرا (وكانت) اسمها مستتر
(آخر) خبرها (ثم روي خارج الصحيحين) في سنن أبي داود وابن ماجه عن على
(الصلاة) بالنصب على الاغراء أى الزموا
(2/107)
ملكت أيمانكم الرفق بالمملوك وقيل أراد
الزكاة.
* [فصل في ذكر أمور عرضت في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم]
(فصل) * في ذكر أمور عرضت في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما
رواه الشيخان عن عروة عن عائشة قالت دعى النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في
شكواه التى قبض فيها فسارّها بشيء فبكت ثم دعاها فسارها فضحكت فسألتها عن
ذلك فقالت سارنى أبى صلى الله عليه وسلم انه يقبض في مرضه الذى وفي فيه
فبكيت ثم سارنى فأخبرنى انى أول أهله يتبعه فضحكت وروينا أيضا من حديث
مسروق بن الاجدع عن عائشة قالت كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم
تغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة رضى الله عنها تمشى ما تخطئ مشيتها عن مشية
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلما رآها رحب بها وقالت مرحبا بابنتي
ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها فبكت بكاء شديدا فلما رأى جزعها
سارها الثانية فضحكت فقلت لها خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيننا
بالسر ثم انت تبكين فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها ما قالت
لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله
عليه وسلم سره قالت فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل) في ذكر
أمور عرضت في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم (في شكواه التى قبض فيها)
لا ينافيه ما في سنن الترمذي عن أم سلمة ان ذلك وقع عام الفتح فلعله قال
لها ذلك يومئذ وأم سلمة حاضرة وقال لها ذلك في مرضه في بيت عائشة وهي حاضرة
فاخبرت كل واحد منهما عما حضرته (فسارها شيء) ليس في هذا الحديث انه استأذن
عائشة في المسارة فلعل غيرها كان حاضرا اما يريده غيرها أو استأذنها فلم
يذكر الاستئذان لان وجوبه معلوم من غير هذا الحديث أو يكون ذلك من خصائصه
صلى الله عليه وسلم لانه معصوم من المحذور في المسارة (انه يقبض في وجعه)
في هذا وفي قولها (فاخبرني انى أول أهله يتبعه) معجزتان له صلى الله عليه
وسلم وقولها (فضحكت) أي سرورا بسرعة اللحاق به ففي ذلك ما كانوا عليه من
إيثار الآخرة والسرور بالانتقال اليها والخلوص من دار النكد (لم تغادر) أي
لم تترك (منهم واحدة) كن كلهن مجتمعين عنده يومئذ (مشيتها) بكسر الميم
(مرحبا بابنتي) فيه ندب الترحيب سيما بالبنت ونحوها ممن يستهجن ذلك بالنسبة
اليها لما فيه «1» من ضرر النفس سباط الاتباع (عن يمينه أو عن شماله) شك من
الراوي (سألتها ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم) انما سألتها لما
رأته من العجب في سرعة الضحك عقب البكاء (ما كنت لا فشي) بضم الهمزة أى
أظهر (على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره) فيه ندب كتمان السر وهو من
الخصال المحمودة والشيم المرضية وربما كان الكتم واجبا ككتم سر
__________
(1) . كذا بالاصل الى آخر العبارة
(2/108)
قلت عزمت عليك بمالى عليك من الحق لما
حدثتيني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أما الآن فنعم أما
حين سارني في المرة الأولى فأخبرني ان جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن
في كل سنة مرة وانه عارضه الآن مرتين وانى لا أرى الأجل الا قد اقترب فأتقي
الله واصبرى فانه نعم السلف أنا لك قالت فبكيت بكائى الذي رأيت فلما رأى
جزعي سارنى الثانية فقال يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين
أو سيدة نساء هذه الأمة قالت فضحكت ضحكي الذي رأيت هذا لفظ مسلم وليس
لفاطمة في الصححين غير هذا الحديث وهو داخل في مسند عائشة والله أعلم* ومنه
ما روياه واللفظ لمسلم عن سعيد بن جبير قال قال ابن عباس يوم الخميس وما
يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى قلت يا أبا عباس وما يوم الخميس قال
اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال إئتونى اكتب لكم كتابا لا
تضلوا بعدي فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع وقالوا ما شأنه أهجر استفهموه
الزوجة المتعلق بالجماع وما خاف من اشاعته مفسدة (لما حدثتينى) بفتح اللام
(اما الآن فنعم) فيه ان افشاء السر بعد موت صاحبه لا بأس به اذا كان فيه
مصلحة وكانت المصلحة في هذا بيان المعجزة وبيان فضيلتها على نساء العالمين
(لا أري) بضم الهمزة أى لا اظن (السلف) هو المتقدم أى انا قدامك فتردين على
(اما ترضين) هذا هو المشهور في اللغة وجاءت به أكثر الروايات وفي رواية
لمسلم ترضى بحذف النون قال النووى وهو لغة (سيدة نساء العالمين) وللترمذى
من طريق أم سلمة أخبرني اني سيدة نساء أهل الجنة الا مريم بنت عمران أى
فانها سيدتهم مثلك وان كنت أفضل (وما يوم الخميس) معناه تفخيم أمر يوم
الخميس وتعظيمه في الشدة والمكروه فيما يعتقده ابن عباس وهو امتناع الكتاب
كذا قال النووي قلت أو عظم لاشتداء وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه
(ائتوني) بهمز وصل (اكتب) بالجزم جواب الامر (لكم كتابا لا تضلوا بعدي) قيل
أراد ان ينص على خلافة أبي بكر كيلا يقع نزاع وفتن ثم ترك ذلك اعتمادا على
علمه من تقدير الله تعالى ذلك كماهم بالكتاب في أول مرضه حين قال وارأساه
ثم ترك الكتاب فقال يأبي الله والمؤمنون الا أبا بكر ثم نبه أمته على
استخلاف أبي بكر بتقديمه اياه في الصلاة حكي ذلك القول عن سفيان ابن عيينة
عن أهل العلم قبله وقيل أراد أن يكتب كتابا فيه مهمات الاحكام ملخصة ليحصل
الاتفاق على المنصوص عليه وكان ذلك بوحى أو باجتهاد ثم تركه بوحي أو
باجتهاد ونسخ الأمر الاول (اهجر) بهمزة استفهام للجميع رواه البخارى قال
النووي وهو استفهام انكار على من قال لا تكتبوا أى أهذا انه منزه عن ذلك
وهذه أحسن من رواية هجر ويهجر في مسلم قال وان صحت تلك فلعلها صدرت بغير
تحقيق من قائلها وخطأ منه لما أصابه من الحيرة والدهشة لعظيم ما شاهده من
هذه الحالة الدالة على وفاته صلى الله عليه وسلم وعظيم المصاب به وخوف
الفتن المقبلة بعده وأجرى الهجر مجري شدة الوجع
(2/109)
قال فدعونى فالذي أنا فيه خير أوصيكم بثلاث
اخرجوا المشركين من جزيرة العرب وجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم قال وسكت
عن الثالثة أو قال فنسيتها انا وفي رواية أخرى عن عبيد الله بن عبد الله
قال فكان ابن عباس يقول ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله
عليه وسلم وبين ان يكتب لهم الكتاب من اختلافهم ولغطهم* ومنه ما رواه
البخاري (دعوني) أي اتركوني من النزاع واللغط الذى شرعتم فيه (فالذي أنا
فيه) أى من طلب الكتابة (خير) من عدمها كذا قال في التوشيح وأحسن منه ما
قاله النووى أي الذي أنا فيه من مراقبة الله والتأهب للقائه والفكر في ذلك
ونحوه خير مما أنتم فيه (اخرجوا المشركين من جزيرة العرب) الصحيح انها مكة
والمدينة واليمامة واليمن وقال الاصمعي هي ما بين أقصى عدن الى ريف العراق
طولا ومن جدة وما والاها الى أطراف الشام عرضا وقال أبو عبيد هي ما بين حفر
أبى موسي الي أقصى اليمن طولا وما بين رمل يبرين الى منقطع السماوة عرضا
وفي الحديث وجوب اخراج الكفار من هذه الجزيرة مطلقا عند مالك وخص الشافعي
ذلك بالحجاز وهى مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها وأعمالها دون اليمن وغيره
بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه ولا يمنع الكافر من التردد في الحجاز
لنحو تجارة بشرط أن يخرج لدون أربعة أيام صحاح نعم يمنع عندنا في الحرم
المكي ويجب اخراجه منه فان مات ودفن به بشرط ما لم يتغير وجوز أبو حنيفة
دخولهم الحرم أيضا (وأجيزوا) أى اعطوا الجائزة (الوفد) الذي يفدون اليكم
ضيافة واكراما وتطييبا لقلوبهم وترغيبا للمؤلفة ونحوهم واعانة على سفرهم
ونقل عياض عن العلماء عدم الفرق بين أن يكون مسلما أو لا لان الكافر انما
يفد غالبا لما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم (قال) سعيد بن جبير (وسكت) ابن عباس
(عن الثالثة أو قالها) ابن عباس (فنسيتها انا) شك سعيد بن جبير في ذلك كذا
قال النووي وقال ابن حجر القائل ابن عيينة والساكت شيخه سليمان الاحول
والثالثة الوصية بالقرآن قاله الداوودي وابن التين أو تنفيذ جيش أسامة قاله
المهلب وابن بطال أو النهى عن اتخاذ قبره وثنا يعبد أو الصلاة وما ملكت
أيمانكم قالهما عياض قال وقد ذكر مالك في الموطأ معناه مع اجلاء اليهود من
حديث عمر (فكان ابن عباس يقول ان الرزية) أي النقص (كل الرزية) تأكيد
لعظمها (ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ان يكتب لهم) ذلك
(الكتاب) قال ذلك بحسب اجتهاده رضي الله عنه ان الكتب كان أصوب من الترك
وخالف اجتهاد عمر ذلك حيث قال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه
الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله قال البيهقى كان عمر قد علم ان بيان
أحكام الدين ورفع الخلاف فيها حاصل بقوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ فاستدل بذلك على انه لا يقع واقعة الا وفي كتاب الله أو
سنة رسوله بيانها نصا أو دلالة فآثر عمر بسبب ذلك التخفيف على رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجع ولئلا ينسد باب الاجتهاد على أهل العلم
والاستنباط فتفوت فضيلة الاجتهاد وعدم انكاره صلى الله عليه وسلم على عمر
دليل استصواب رأيه قال الخطابى ما معناه خاف عمر أن يكون ذلك القول مما
يقوله المريض مما لا عزيمة فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلا الى الكلام في
الدين قال ولا يجوز ان يحمل قول عمر على انه توهم الغلط على رسول الله صلى
الله عليه وسلم أو ظن به غير ذلك مما لا يجوز عليه (ما رواه البخاري) ومسلم
مسندا فقول
(2/110)
تعليقا عن عائشة قالت لددناه في مرضه تعني
النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يشير الينا ان لا تلدونى فقلنا كراهية
المريض للدواء فقال لا يبقين أحد في البيت الالد وأنا أنظر إلا العباس فانه
لم يشهدكم وانما لدوه لأنهم ظنوا به ذات الجنب فلدوه بالقسط لقوله صلى الله
عليه وسلم فيه سبعة أشفية يلد به من ذات الجنب ويستعط به من العذرة واللدود
جعل الدواء في جانب الفم ويحركه بالأصبع قليلا* ومنه ما رواه الشيخان عن
عائشة وابن عباس قال لما نزلت برسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق يطرح
خميصة له على وجهه فاذا اعتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على
اليهود والنصارى المصنف (تعليقا) بحسب ما فهمه من سياق كلام البخارى حيث
قال حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا يحيي بن سعيدنا سفيان حدثني ابن أبي
عائشة عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس وعائشة ان أبا بكر قبل النبي
صلى الله عليه وسلم وهو ميت قال وقالت عائشة لددناه الى آخره وانما قال
وقالت عائشة لينبه على انفرادها بذكر اللدود عن ابن عباس بعد أن شاركها في
أول الحديث فكأنه قال انتهي حديث ابن عباس الي قوله وهو ميت وزادت عليه
عائشة ما ذكر (تعنى) بالفوقية ضمير عائشة (كراهية) بالرفع خبر مبتدا محذوف
(لا يبقى أحد في البيت الالد) أى تعزيرا لهم حيث خالفوا أمره قال بعضهم فيه
ان التعزير يجوز أن يكون من جنس نسبته (الا العباس فانه لم يشهدكم) هذا يرد
ما في سيرة ابن اسحاق أن العباس كان فيمن ذكره وقيل أن أسماء بنت عميس هى
التي لدته (بالقسط) بضم القاف وسكون السين ثم طاء مهملتين وهو العود الهندى
وتسمى كستا بالفوقية بدل الطاء (لقوله صلى الله عليه وسلم فيه سبعة أشفية)
رواه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه عن أم قيس ثلاث محضن أخت عكاشة
واسمها آمنة (يلد به من ذات الجنب ويستعط به من العذرة) بضم العين المهملة
وسكون الذال المعجمة وهو وجع يعرض في الحلق من كثرة الدم قال الزهري بين
لنا اثنتين ولم يبين لنا خمسا قال النووي اطنبوا الاطباء في كتبهم على أنه
يدر الطمث والبول وينفع من السموم ويحرك شهوة الجماع ويقتل الدود التي في
الامعاء اذا شرب بعسل ويذهب الكلف اذا طلى به عليه وينفع من ضعف المعدة
والكبد وبردهما ومن حمي الورد والدمع وغير ذلك قال وهو صنفان بحرى وهندى
والبحرى هو القسط الابيض وقيل هو أكثر من صنفين ونص بعضهم أن البحري أفضل
من الهندي وهو أقل حرارة منه قال وانما عددنا منافع القسط من كتب الاطباء
لانه صلى الله عليه وسلم ذكر منها عددا مجملا (اللدود) بضم اللام ومهملتين
ان أريد الفعل وان أريد الدواء فبالفتح (لما نزل) مبني للمفعول أى نزل به
ملك الموت وروي في صحيح مسلم نزلت بفتحتان وبالتأنيث الساكنة أي حضرت
المنية والوفاة (خميصة) هى كساء وأعلام (لعنة الله على اليهود والنصاري)
ولمسلم قاتل الله يهود وهو بمعني لعنهم وقيل قتلهم وأهلكهم وفي الحديث جواز
لعن الكفار اجمالا وكذا يجوز
(2/111)
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا*
ومنه ما روياه أيضا عن عائشة ان النبى صلى الله عليه وسلم كان ينفث على
نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وامسح
بيده نفسه لبركتها* ومنه ما رواه البخاري عن عبد الله بن كعب بن مالك ان
ابن عباس أخبره ان علىّ بن أبى طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس يا أبا حسن كيف اصبح رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال اصبح بحمد الله بارئا فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب
فقال له انت والله بعد ثلاث عبد العصا وانى والله لأرى رسول الله صلى الله
عليه وسلم سوف يتوفي من وجعه هذا انى لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت
اذهب بنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر ان كان
فينا علمنا ذلك وان كان في غيرنا علمناه فأوصي بنا فقال علىّ إنا والله لأن
سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعنا لا يعطيناها الناس بعده وانى
والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل وكان العباس قبل ذلك
بيسير رأي ان القمر رفع من الأرض الى السماء فقصها على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال له هو ابن اخيك* ومنه ما روياه واللفظ للبخاري ان عائشة
كانت تقول ان من نعم الله علىّ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في
بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وان الله جمع بين ريقى وريقه عند موته دخل
علىّ عبد الرحمن وبيده سواك وانا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن
من مات منهم بخلاف الحي فانه قد يسلم (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) أي
يصلون اليها ففيه تحريم الصلاة الى قبور الانبياء كما قاله أصحابنا (يحذر
ما صنعوا) من كلام عائشة وابن عباس (ينفث) بضم الفاء وكسرها والنفث النفخ
اللطيف (بالمعوذات) بكسر الواو والمراد الاخلاص والمعوذتان (ثقل) بالمثلثة
والقاف أى اشتد وجعه (بارئا) اسم فاعل من برأ أي خلص من المرض (عبد العصا)
أي ستصير تابعا لغيرك ليس لك من الامر شيء (لارى) بالفتح والضم (هذا الامر)
يعني الخلافة (هو ابن أخيك) يعنى نفسه (ومنه ما روياه) أي الشيخان ورواه
الترمذي والنسائي وابن ماجه أيضا (بين سحرى) بفتح السين وسكون الحاء
المهملتين والسحر الرئة وما يعلوبها وأرادت به الصدر قال السهيلى وروي أيضا
بين شجرى بالمعجمة فالجيم قال وسئل عمارة بن عقيل عن معناه فشبك بين أصابعه
وضمها الى نحره (ونحرى) بوزن الاول موضع النحر وللبخارى في رواية مات بين
حلقنتي وذاقنتي والحاقنة بالمهملة والقاف والنون الوهدة بين الترقوتين من
الحلق والذاقنة الذقن وقيل طرف الحلقوم وقيل ما تناله الذقن من الصدر قاله
ابن الاثير (عبد الرحمن) بن أبى بكر (وبيده سواك) جاء في رواية صحيحة انه
كان من جريد النخل وفي أخري كذلك انه كان أراكا وجمع بينهما انه
(2/112)
فرأيته ينظر اليه وعرفت انه يحب السواك
فقلت آخذه لك فأشار برأسه ان نعم فتناولته فاشتد عليه وقلت ألينه لك فأشار
برأسه ان نعم فلينته فأمرّه وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل
يديه الماء فيمسح بهما وجهه يقول لا إله إلا الله ان للموت سكرات ثم نصب
يديه فجعل يقول في الرفيق الاعلى حتى قبض ومالت يده وفي رواية عنها قالت
فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وروى البخاري
عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح انه لم يقبض
نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير بين الدنيا والآخرة فلما نزل به ورأسه
على فخذي غشى عليه ثم أفاق فأشخص بصره الى سقف البيت ثم قال اللهم الرفيق
الأعلى فقلت اذا لا يختارنا وعرفت انه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح
قالت فكانت آخر كلمة تكلم بها اللهم الرفيق الأعلى دخل مرتين كان السواك في
مرة أراكا وفي أخرى نخلا ولم يطلع راوى الاراك بالقضية الاخري ولا عكسه
فقال كل راو بحسب علمه (آخذه لك) استفهام حذفت اداته وكذا ما بعده (فامره)
بتشديد الراء أي اداره في فمه وللقابسي في صحيح البخاري بامره قال ابن حجر
والاول أوجه وفيه كما قال السهيلي التنظف والتطهر للموت ومن ثم يستحب نحو
الاستحداد ولان الميت قادم على الله عز وجل فشرع له كما شرع التنظف للمصلي
لاجل مناجاة ربه (ركوة) بفتح الراء وضمها وكسرها إناء يصنع من الجلود
(العلبة) بضم المهملة وسكون اللام ثم موحدة هى الغمر والقدح الضخم يتخذ من
جلود الابل يحلب فيه أواناء أسفله جلد وأعلاه خشب مدور كاطار الغربال وهو
الدائرة أواناء كله من خشب أو حقبة يحلب فيها أقوال (ان للموت لسكرات)
وللترمذي الهم أعنى على غمرات الموت وسكرات الموت (نصب يده) أقامها مستترا
بها (في الرفيق الاعلي) ولمسلم اللهم اغفر لي وارحمني والحقني بالرفيق
الاعلى وهم الملائكة أو المذكورون في قوله تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الآية أو المكان الذى يحصل
فيه مرافقتهم وهي الجنة أو السماء أو المراد به الله جل جلاله لانه من
أسمائه أقوال يؤيد الثاني منها ما جاء في الحديث الصحيح فجعل يقول مع الذين
أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وانما اختار هذه
الكلمة ليضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره ان لا
يشترط منه الذكر باللسان قاله السهيلى قال وقد وجدت في بعض كتب الواقدي أن
أول كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله
أكبر وآخر كلمة تكلم بها في الرفيق الاعلى وروى الحاكم من حديث أنس كان آخر
ما تكلم به «1» حلال دين الرفيع فقد بلغت ثم قضى (فاشخص بصره) رفعه الى
السماء (اللهم الرفيق الاعلي) بالنصب باضمار اختار (لا يختارنا) بالنصب
__________
(1) هكذا بالاصل
(2/113)
وروي البخاري أيضا عن أنس بن مالك قال لما
ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة وا كرباه فقال
لها ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت يا أبتاه اجاب ربا دعاه يا
أبتاه من جنة الفردوس مأواه يا أبتاه أتى جبريل ينعاه فلما دفن قالت فاطمة
رضى الله عنها يا أنس أطابت انفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم التراب
[فصل في دهش الصحابة عند قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم]
(فصل) ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفعت الرنة عليه دهش
اصحابه دهشة عظيمة وركت عقولهم وطاشت احلامهم وافحموا واختلطوا وصاروا فرقا
وكان ممن اختلط عمر فجعل يصيح ويحلف ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتهدد من قاله وكأنه لم يتقرر قبل عنده موته واقعد علي فلم يستطع حراكا
واخرس عثمان فكان يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاما واضنى عبد الله بن أنيس
حتى مات كمدا واضطرب الأمر وجل الخطب وفدحهم هول مصيبته وحق لهم ولم يكن
فيهم اثبت من العباس وأبو بكر روينا في صحيح البخاري عن عائشة قالت مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بالسنح فقام عمر يقول والله ما مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وقال عمر ما كان يقع في نفسي الا ذاك
وليبعثه الله فليقطعن أيدي الرجال وأرجلهم فجاء أبو بكر وكشف عن رسول الله
صلى الله جواب اذا (وروي البخاري أيضا) والنسائي (أنى جبريل) وقال في
التوشيح قال سبط ابن الجوزي الصواب نعاه (فصل) في ذكر ما بعد وفاته (الرنة)
بفتح الرا والنون المشددة الصيحة (دهش) بكسر الهاء (وركت) بالراء وتشديد
الكاف أي ضعفت والتركيك التضعيف (فطاشت) باهمال الطاء واعجام الشين أي خفت
(أحلامهم) عقولهم (وافحموا) بالفاء والمهملة مبنى للمفعول أى غلبهم الجزع
والمفحم المغلوب والباكي الى ان ينقطع نفسه (وتهدد) توعد وزنا ومعني (قبل)
بالضم (موته) بالرفع فاعل يتقرر (وأضنى) أصابه الضنا وهو المرض المتولد من
وجع القلب (ابن أنيس) بالنون والتحتية والمهملة مصغر وهو الجهني الانصاري
حلفا (حتى مات) سنة أربع وخمسين من الهجرة (كمدا) والكمد داء يتولد في
القلب من شدة الحزن (وجل) عظيم (الخطب) أي الشأن والامر (وفدحهم) بالفاء
والمهملتين أى أثقلهم وفوادح الدهر خطوبه افدح الأمر واستفدحه وجده فادحا
أى مثقلا صعبا (اثبت) بالرفع (بالسنح) بضم المهملة وسكون النون آخره مهملة
هي منازل بنى الحارث بن الخزرج (طبت حيا وميتا) زاد السهيلى في شرح السيرة
وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الانبياء من النبوة فعظمت عن الصفة
وجللت عن البكاء وخصصت حتى صرت مسلاة وعممت حتى صرنا فيك سواء ولو أن موتك
كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس ولولا انك نهيت عن البكاء لانفدنا عليك
ماء الشؤون فاما ما لا نستطيع نفيه فكمد وادناف يتحالفان لا يبرحان اللهم
فابلغه عنا اذكرنا يا محمد عند
(2/114)
عليه وسلم وقبّله وقال بأبى أنت وأمي طبت
حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين ابدا ثم خرج فقال ايها
الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه
وقال ألا من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله
حى لا يموت وقال انك ميت وانهم ميتون وقال وما محمد الا رسول قد خلت من
قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن
يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين قال فنشج الناس يبكون وروينا فيه من
رواية عائشة وابن عباس وعمر ان أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى
نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حبرة فكشف عن وجهه فأكب عليه فقبله وبكى ثم
قال بأبي وأمي انت والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت
عليك فقدمتها ثم خرج وعمر يكلم الناس قال اجلس يا عمر فأبي عمر أن يجلس
فأقبل الناس اليه وتركوا عمر فقال ابو بكر اما بعد من كان منكم يعبد محمدا
فان محمدا قد مات ومن كان منكم يعبد الله فان الله حي لا يموت قال الله
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية
الى الشَّاكِرِينَ قال ابن عباس والله لكأن الناس لم يعلموا ان الله أنزل
هذه الآية حتى تلاها ابو بكر فتلقاها الناس منه كلهم فما سمع بشرا من الناس
إلا يتلوها قال عمر والله ما هو الا ان سمعت ابا بكر تلاها فعقرت حتى ما
تقلني رجلاي وحتى اهويت الى الارض حين سمعته تلاها علمت ان النبي صلى الله
عليه وسلم قد مات كل هذا من ابي بكر وعيناه تهملان ربك وليكن ممالك فلولا
ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه
فينا (لا يذيقك الله الموتتين أبدا) أي أنت أكرم على الله من أن يذيقك موتة
أخرى كما أذاق الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وكما أذاق الذي مر
على قرية وأشار بهذا الى الرد على عمر وغيره ممن زعم انه يتخير وليقطعن
أيدى رجال وأرجلهم اذ لو صح ذلك للزم منه أن يموت موتة أخرى (على رسلك)
بفتح الرا وكسرها أي آمهل (فنشج الناس) بفتح الشين المعجمة وبالجيم يقال شج
الباكي أى غص بالبكاء في حلقه (فتيمم) أى قصد (بثوب حبرة) باضافة ثوب الى
حبرة وهى بكسر المهملة وفتح الموحدة نوع من برود اليمن (فأبى عمر أن يجلس)
أي لما غلبه من الجزع (فعقرت) بفتح العين أي سقط الى الارض من قامته وحكاه
يعقوب عفر بالفاء كانه من العفر وهو التراب وصوب ابن كيسان الروايتين انتهى
(ما تقلني) بضم الفوقية وكسر القاف أي ما تحملني (حتى أهويت) وللكشميهنى
هويت بلا ألف (وعيناه تهملان) بضم الميم تسيلان
(2/115)
وزفراته تتردد في صدره وغصصه تتصاعد* وروي
ان ابا بكر لما فرغ يومئذ من خطبته التفت الى عمر وقال له اما علمت ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال يوم كذا كذا وكذا فقال عمر أشهد ان الكتاب كما
نزل وان الحديث كما حدث وان الله تبارك وتعالى حي لا يموت إنا لله وانا
اليه راجعون وقال فيما كان منه:
لعمري لقد أيقنت أنك ميت ... ولكن ما ابدى الذي قلته الجزع
وقلت يغيب الوحي عنا لفقده ... كما غاب موسى ثم ترجع كما رجع
وكان هواي ان تطول حياته ... وليس لحي في بقا ميّت طمع
[فصل في تغير الحال بعد موته صلى الله عليه وسلّم]
(فصل) في تغير الحال بعد موته صلى الله عليه وسلم قال انس لما كان اليوم
الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اضاء منها كل شيء فلما
كان اليوم الذي مات فيه اظلم منها كل شيء وما نفضنا ايدينا عن التراب وانا
لفي دفنه حتى انكرنا قلوبنا رواه الترمذي في الشمائل وابن ماجه في السنن
وروي ابن ماجه ايضا عن عمر قال كنا نتقي الكلام والانبساط الى نسائنا على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن ينزل فينا القرآن فلما مات رسول
الله صلى الله عليه وسلم تكلمنا وأسند أيضا عن أم سلمة ما معناه قالت كان
الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا قام المصلون لم يعد بصر
أحدهم موضع قدميه فلما كان أبو بكر لم يعد بصر أحدهم موضع جبهته فلما كان
عمر لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة فلما كان عثمان أو كانت الفتنة التفت
الناس شمالا ويمينا* وروينا في صحيح مسلم عن أنس قال قال أبو بكر بعد وفات
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر انطلق بنا الى أم أيمن نزورها كما
(وزفراته) جمع زفرة وهى ما يسمع من جوف الباكى من الازيز (وغصصه) جمع غصة
وهى ما يعرض للباكى من حلقه من الشجا (يتصاعد) يتعالى ويرتفع (وروي) في كتب
السير (قال يوم كذا كذا وكذا) أي كل ما يدل على موته صلى الله عليه وسلم
فكيف تحلف انه ما مات (أشهد أن الكتاب) يعنى القرآن (كما نزل) أراد قوله
أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ وقوله إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
(كما حدث) مبني للفاعل يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجزع) بالوقف
وكذا ما بعده (كما غاب موسى) يوم خر صعقا (ثم ترجع) بسكون العين لضرورة
الشعر (هواى) أى مقصودي (في بقا) بالقصر لضرورة الشعر «فصل» في تغير الحال
بعد موته صلى الله عليه وسلم (وما نفضنا) بالفاء والمعجمة (انكرنا قلوبنا)
أي لم نرلنا قلوبا لما غشينا من الهم (أن ينزل) مبني للفاعل والمفعول (لم
يعد) بفتح أوله وسكون ثانيه أي لم يتعد ولم يتجاوز (موضع) بكسر الضاد (فلما
كان) تامة وكذا كان عمر وكان عثمان وكانت الفتنة (انطلق بنا الى أم أيمن
نزورها كما
(2/116)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها
فلما انتهينا اليها بكت فقالا لها ما يبكيك ما عند الله خير لرسوله قالت ما
أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله ولكنى أبكي ان الوحي قد انقطع
من السماء فهيجتنا على البكاء فجعلا يبكيان معها وروي عنه صلى الله عليه
وسلم من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فانها من أعظم المصائب ولما ذكر صلى
الله عليه وسلم البشارة لمن تقدم بين يديه فرطا من الأولاد فقالت له عائشة
ومن لم يكن له فرط قال أنا فرطه يا موفقة قال السهيلي وكان موته صلى الله
عليه وسلم خطبا كالحاورزءا لاهل الاسلام فادحا كاد تهدله الجبال وترجف منه
الارض ويكسف النيران لانقطاع خبر السماء وفقد مالا عوض منه مع ما آذن به
موته من اقبال الفتن السحم والحوادث الدهم والكرب المدلهمة والهزاهز
المعضلة فلولا ما انزل الله تعالى من السكينة على المؤمنين واسرج في قلوبهم
نور اليقين وشرح صدورهم في فهم كتابه المبين لا نقصفت الظهور وضاقت عن
الكرب الصدور ولعاقهم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها) فيه كما
قال النووى فضيلة زيارة الصالحين وزيارة الفاضل المفضول والتأسي برسول الله
صلى الله عليه وسلم وزيارة الرجل للمرأة الصالحة وسماع كلامها واستصحاب نحو
العالم صاحبا له في الزيارة والعبادة ونحوهما والبكاء حزنا عند فراق
الصالحين والاصحاب وان كانوا قد انتقلوا الى أفضل مما كانوا عليه (من أصيب
بمصيبة الي آخره) رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب عن ابن عباس ورواه
الطبراني في الكبير عن سابط الجمحى قال أصحابنا يجب على من مات له ميت ولدا
كان أو والدا أو غيرهما ان يكون حزنه على فراق رسول الله صلى الله عليه
وسلم أكثر منه وذلك لان الحزن فرع المحبة ومحبته صلى الله عليه وسلم بهذه
المثابة فرض لقوله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس
أجمعين رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أنس (بي) بالموحدة وتخفيف
التحتية (ولما ذكر) بالبناء للفاعل أي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث
قال من كان له فرطان من أمتي دخل الجنة بهما قالت عائشة ومن كان له فرط قال
ومن كان له فرط قالت فمن لم يكن له فرط من أمتك قال أنا فرط أمتي لن يصابوا
بمثلى أخرجه الترمذي عن أنس وعباس (تقدم) بفتح القاف وتشديد الدال المكسورة
(انا فرطه يا موفقة) هو على العموم فانه فرط كل أمته كما في هذا الحديث
(كالحا) بالمهملة أى شديدا (ورزءا) بضم الراء وسكون الزاى ثم همزة أى نقصا
(فادحا) بالفاء والمهملتين أى ثقيلا كما مر (النيران) يعني الشمس والقمر
(آذن) بمد الهمزة أي أعلم (السحم) بضم السين وسكون الحاء المهملتين (الدهم)
بضم المهملة بوزن الاول وكل من السحم والدهم لون يضرب الى السواد يوصف بهما
كل أمر عظيم (المدلهمة) بضم الميم وسكون المهملة وفتح اللام وكسر الهاء
وتشديد الميم المظلمة يقال أدلهم الليل اذا اشتد ظلامه (والهزاهز) بتكرير
الزاي (المعضلة) باهمال العين واعجام الضاد أي الضيقة الشديدة يقال اعضلت
المرأة اذا نشب ولدها في بطنها فضاق عليه الخروج (وأسرج) بالمهملة والجيم
أى أشاع (لا نقصفت) بالقاف والمهملة والفاء أى انكسرت (ولعاقهم) بالمهملة
والقاف أي شغلهم
(2/117)
للجزع عن تدبير الأمور فقد كان الشيطان
أطلع اليهم رأسه ومد الى إغوائهم مطامعه فأوقد نار الشنآن ونصب راية الخلاف
فأبى الله الا أن يتم نوره ويعلي كلمته وينجز موعده حيث قال هو الذى أرسل
رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فأطفأ نار
الردة وحتم مادة الخلاف والفتنة على يد أبي بكر ولذلك قالت عائشة توفي رسول
الله ونزل بأبى ما لو نزل بالجبال لها ضها ارتدت العرب واشرأب النفاق وقال
أبو هريرة لولا أبو بكر لهلكت أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد نبيها ولقد
كان من قدم المدينة عقيب موت النبى صلى الله عليه وسلم سمع لأهلها ضجيجا
وللبكاء في جميع أرجائها عجيجا حتى صحلت الحلوق ونزفت الدموع وحق لهم ذلك
ولمن يأتي بعدهم الى يوم الدين كما روي عن أبى ذؤيب الهذلي قال بلغنا ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل فاستشعرت حزنا وبت بأطول ليلة لا ينجاب
ديجورها فظلت أقاسى حزنا طولها حتى اذا كان قرب السحر أغفيت فهتف بى هاتف
وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالاسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تذرى الدموع عليه بالتسجام
وذكر خبرا طويلا قال فيه وقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج اذا
(اطلع الهم رأسه) أشرف برأسه الهم كناية عن شدة طمعه في إغوائهم (الا أن
يتم نوره) أي يظهر دينه (ويعلى كلمته) أى قول لا إله الا الله (هو الذي
أرسل رسوله) محمدا صلى الله عليه وسلم (بالهدي) أى بالهداية من الضلالة
وعبادة من سوى الله (ودين الحق) أى دين الاسلام (وحسم) بالمهملتين قطع
(مادة) بالمد وتشديد الدال محل الامداد والاعانة على الخلاف (ونزل بأبي)
تريد أبا بكر (لها ضها) بالمعجمة كسرها وفتتها (اشرأب) بهمزة وصل وسكون
المعجمة وفتح الراء والهمزة وتشديد الموحدة أي أشرف متطلعا (ضجيجا)
بالمعجمة وتكرير الجيم أى صوتا عاليا (عجيجا) بالمهملة وتكرير الجيم هو
الصوت العالى أيضا (صحلت) بفتح الصاد وكسر الحاء المهملتين ابتحت (ونزفت)
بفتح النون وكسر الزاى ثم فاء أي فرغت (أبى ذؤيب) بضم المعجمة وفتح الهمزة
اسمه خويلد بن خالد (فاستشعرت) أي أضمرت (لا ينجاب) بالجيم أي لا يذهب
(ديجورها) شدة ظلامها (أقاسى) أي أعاني (كان قرب) بالفتح والضم (أغفيت)
بالمعجمة والفاء أي نمت نوما خفيفا (أناخ) بالنون والمعجمة أى وقع (ومعقد)
بفتح القاف كسرها (تذرى) بالمعجمة ثلاثي ورباعى ويقال تذروا بالواو أي تسيل
(بالتسجام) بفتح الفوقية مصدر
(2/118)
أهلوا بالاحرام فقلت لهم مه فقالوا قبض
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت المسجد فوجدته خاليا فأتيت باب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فوجدته خاليا ووجدت بابه مرتجا وقيل هو مسجى قد
خلا به أهله فقلت أين الناس فقيل في سقيفة بني ساعدة فجئتهم فتكلمت الأنصار
فاطالوا الخطاب وأكثروا الصواب فتكلم أبو بكر فلله دره لم يطل الكلام ويعلم
مواقع فصل الخطاب والله لقد تكلم بكلام لا يسمعه سامع الا انقاد له ومال
اليه ثم تكلم عمر دون كلامه فمد يده فبايعه وبايعوه ورجع أبو بكر ورجعت معه
[مطلب في ذكر بعض المراثي التي قيلت فيه صلى الله عليه وسلّم]
قال أبو ذؤيب فشهدت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت دفنه ثم
أنشد ابو ذؤيب يبكى النبى صلى الله عليه وسلم:
ولما رأيت الناس في علاتهم ... ما بين ملحود له ومضرح
متبادرين فشرجع باكفهم ... نض الرقاب لفقد أبيض أروح
فهناك صرت الى الهموم ومن يبت ... جار الهموم يبيت غير مروح
كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الابطح
وتزعزعت آطام يثرب كلها ... ونخيلها لحلول خطب مفدح
ولقد زجرت الطير قبل وفاته ... بمصابه وزجرت سعد الاذبح
وبكسرها اسم (مه) هي هنا بمعنى الاستفهام (مرتجا) بالفوقية والجيم أى مغلقا
(مسجي) أي مدثر (فلله دره) كلمة تستعمل للمدح وقد تقدم الكلام فيها في قصة
هرقل (مواقع فصل الخطاب) أي مواضع وقوعه (يبكي) يرثى وزنا ومعني (علات)
بمهملتين جمع علة وهي اختلاف الناس بعضهم الى بعض وترددهم قاله في القاموس
(ملحود له) أى محفور له في جانب القبر (ومضرح) باعجام الضاد واهمال الحاء
وفتح الراء أي محفور له في وسط القبر (فشرجع) بمعجمة فراء فجيم فمهملة بوزن
جعفر من أسماء النعش والجنازة (نض الرقاب) بضم النون وتشديد المعجمة أي
منضوضون والرقاب صلة والمنضوض من دهمه أمر مكروه (أروح) بالراء والمهملة أى
واسع الخلق (جار الهموم) أي ملازما لها كملازمة الجار لجاره (مروح) بفتح
الراء والواو المشددة (كسفت) أي تغيرت (وتزعزعت) بتكرير الزاي المهملة أي
تحركت واضطربت (بطن الابطح) يعني مكة فمن ثم ذكر يثرب بعدها (كلها) تأكيد
لآطام أو ليثرب فعلى الاول يكون مرفوعا وعلى الثاني مجرورا (ونخيلها)
بالرفع معطوف على آطام (مفدح) بالفاء والمهملتين المقطع وزنا ومعنى (ولقد
زجرت الطير) أي نهيتها عن النعيق حين سمعت منها ما تشاءمت به وعرفت به موته
صلى الله عليه وسلم (وزجرت سعد الاذبح) أي سعد الذابح وهو أحد المنازل
المشهورة وسمى الذابح لكوكب
(2/119)
وقالت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم تبكى أباها وقد اجتمع اليها النساء بعد دفنه:
أغبّر آفاق السماء وكورت ... شمس النهار وأظلم العصران
والارض من بعد النبي كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرجفان
فلتبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكل يمانى
وليبكه الطود المعظم جوه ... والبيت ذو الاستار والاركان
يا خاتم الرسل المبارك وصفه ... صلى عليك منزل الفرقان
وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة النبى صلى الله عليه وسلم ترثيه رضى الله
عنها:
ألا يا رسول الله كنت رجاؤنا ... وكنت بنابرا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكى النبي لفقده ... ولكن لما أخشى من الهرج آتيا
أفاطم صلى الله رب محمد ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا
بين يديه يقال هي شاته التي يذبحها وتشاءم به لما في اسمه من الذبح كأنه
لما علم بمرضه صلى الله عليه وسلم وأراد المسير من محله الى المدينة نظر
فاذا الطالع النجم المذكور فتشاءم به وعرف بذلك موته صلى الله عليه وسلم
(اغبر) أى اسود (آفاق) جمع أفق وهي الناحية (وكورت) أظلمت وذهب ضوءها (شمس
النهار) اضافتها اليه لانها لا ترى الا فيه (واظلم العصران) تثنية عصر وهو
ما بين وقت الظهر الى غروب الشمس وانما ثنته لضرورة الشعر أو لان العرب
تثنى الواحد في الشعر كقولهم خليلى وما أشبهه (كئيبة) بالهمز والموحدة
حزينة وزنا ومعنى (أسفا) أي حزنا (الرجفان) بفتح الراء والجيم مصدر رجف
يرجف أى كثيرة الزلزلة والحركة (مضر) بالصرف لضرورة الشعر لانها أرادت مضر
المعروف (الطود) بفتح المهملة وسكون الواو وهو الجبل (المعظم) أى العظيم
وأرادت به والله أعلم أبا قبيس أو حراء أو ثورا (جوه) أي ارتفاعه في الجو
وهو اسم لما بين السماء والارض (المبارك) بالرفع (منزل الفرقان) أي القرآن
الفارق بين الحلال والحرام وهذا من جملة أسماء القرآن المذكور فيه وجملتها
ثلاثة وسبعون اسما كذا قاله بعض القراء منها الكتاب والفرقان والوحي
والقرآن والتنزيل والروح والذكر والشفاء والهدى والموعظة والرحمة والبيان
والتبيان والمهيمن والمبارك والحبل والعهد والصراط المستقيم والقيم والحكم
والمبين والبشري والبصائر والبرهان والمصدق والعروة الوثقى (ليبك) بلام
الأمر (من الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء آخره جيم أى من الفتن والاختلاط
(افاطم) بالترخيم والميم مفتوح على أصله ويجوز ضمه كنظائره (جدث) بالجيم
والمهملة والمثلثة أي قبر والاجداث القبور (ثاويا) بالمثلثة وألف الاطلاق
أي ماكثا
(2/120)
فدى لرسول الله أمي وخالتي ... وعمى وآباي
ونفسي وماليا
صدقت وبلغت الرسالة صادقا ... ومت صليب العود أبلج صافيا
فلو أن رب الناس أبقا نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية ... وادخلت جنات من الله راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكي ويدعو جده اليوم نائيا
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم
يبكيه:
أرقت فبات ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها ... يكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدوا جبرئيل
وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كربت تسيل
نبى كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى اليه وما يقول
ويهدينا فما يخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل
(وماليا) فيه التفات الي الخطاب (صليب العود) أى منبض الجسم كالسيف الصلت
أى المصلت من غمده والعود بضم العين يكنى به عن الجسم (أبلج) بفتح الهمزة
واللام وسكون الموحدة آخره جيم أي مشرق (صافيا) أى لا يكدره سواد (السلام
تحية) يجوز كسر ميم السلام فتكون صفة لله وتحية بالرفع ورفعه وتحية بالنصب
على الحال ويجوز رفعهما أيضا على انها بدل من السلام (راضيا) نصب على الحال
(يبكى) أى من رآه بكى (نائيا) أي بعيدا وهو نصب على الحال أيضا (ابن عم)
بالرفع بدل من أبي سفيان ويكتب بالالف (أرقت) بالراء والقاف سهدت وزنا (أخى
المصيبة) باضافة أخى الى المصيبة أى صاحب المصيبة (فيه طول) أي فيما يظهر
للمصاب والا فهو علي هيئته لا تغيير لكن أوقات الشدائد تستطال لان الشخص
يتمنى زوالها وكل ما تمني زواله ظهر طوله (وأسعدني البكاء) أي وافقنى ويقال
فيه ساعدنى أيضا (عشية) منصوب على الظرف (قيل) مبنى للمفعول (عراها)
بالمهملة وتخفيف الراء أى دهمها وغشيها ويقال اعتري أيضا (سالت) بالمهملة
أي خرجت (أو كربت) بفتح الكاف وكسر الراء أى قربت ويقال كرب اذا قرب قربا
بالغا ومنه سمى الكروبيون بتخفيف الراء سادات الملائكة لانهم مقربون (بما
يوحى اليه وما يقول) أى الكتاب
(2/121)
أفاطم ان جزعت فذاك عذر ... وان لم تجزعي
ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول
وقال بعضهم الجزع عند المصاب مذموم وتركه أحمد إلا على احمد صلى الله عليه
وسلم وأنشد في هذا المعنى:
فالصبر يحمد في المصائب كلها ... الا عليه فانه مذموم
وقد كان يدعى لا بس الصبر حازما ... فاصبح يدعى حازما حين يجزع
وقال حسان بن ثابت شاعر النبى صلى الله عليه وسلم يرثيه:
ما بال عينك لا تنام كأنها ... كحلت أماقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهدي أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
وجهي يقيك الترب لهفي ليتنى ... غيبت قبلك في بقيع الغرقد
بأبى وأمي من شهدت وفاته ... في يوم الاثنين النبي المهتدي
فظللت بعد وفاته متبلدا ... متلددا يا ليتنى لم أولدى
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ... يا ليتنى صبحت سم الاسود
اوحل امر الله فينا عاجلا ... في روحه من يومنا او في غد
والسنة (فذاك) بكسر الكاف (ذاك السبيل) أي الطريق المرضية (لابس الصبر) أى
متخذه سجية لازمه كملازمة لابس الثوب له (حازما) بالمهملة والزاي أى محتاطا
لنفسه (حين يجزع) أي عليه صلى الله عليه وسلم (ما بال عينك) أي ما شأنها
(أماقيها) بمد الهمزة وكسر القاف وسكون التحتية أي جفونها (بكحل الارمد) أى
فاصابها الرمد بطريق العدوى (المهدي) بفتح الميم وكسر الدال وتشديد التحتية
أى الموفق (ثاويا) بالفوقية أي هالكا وبالمثلثة أى مستقرا لا يبرح لموته
(لا تبعد) بفتح الفوقية وضم العين (لهفي) أي يا لهفي قال في القاموس كلمة
يتحسر بها على فائت ويقال يا لهفي عليك ويا لهف ويا لهفا أرضي وسمائي عليك
ويا لهفاه ويا لهفياه (غيبت) بالمعجمة مبنى للمفعول (وبقيع) بالموحدة وهو
مقبرة المدينة (الغرقد) بالمعجمة والقاف وهو ما عظم من العوسج كما مر اضيف
اليه البقيع لانه كان كثيرا (بابي وأمى) أى أفدى (النبي) منصوب بأفدى
المقدرة (فظللت) بكسر اللام (متبلدا) بالفوقية فالموحدة آخره مهملة والتبلد
التحير والتلهف قاله في القاموس (متلددا) أي الوى لديدى عنقى وهما صفحتاه
على هيئة الفاقد لالفه (صبحت) أى أتيت صباحا (سم الاسود) نوع من الحيات فيه
سواد وهو أخبثها
(2/122)
فتقوم ساعتنا فنلقى طيبا ... محضا ضرائبة
كريم المحتد
يابكر آمنة المبارك بكرها ... ولدته محصنة بسعد الاسعد
لو يعلموا ان الوصى من بعده ... أوصى ونطفته قسيمة احمد
نورا تتنقل من خلاصة هاشم ... إذا بايعوه هدوا لدين محمد
نورا أضاء على المدينة كلها ... من يهد للنور المبارك يهتدي
يا رب فاجمعنا معا ونبينا ... في جنة تثنى عيون الحسد
في جنة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلى والسوددي
يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيّب في سواء الملحد
ضاقت بالانصار البلاد فأصبحت ... سودا وجوههم كلون الإثمد
والله أسمع ما حييت بهالك ... الا بكيت على النبي محمد
ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم تجحد
والله أكرمنا به وهدى به ... أنصاره في كل ساعة مشهد
صلى الاله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
(فتقوم ساعتنا) يعنى القيامة (فنلقي طيبا) يعنى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعني ذلك لعلمه أنه لا سبيل الى لقائه الا يوم القيامة (محضا) باهمال
الحاء واعجام الضاد أي خالصا (ضرائبة) جمع ضريبة قال في القاموس هي الطبيعة
(كريم المحتد) أي الاصل كما مر (يابكر آمنة) بكسر الباء أي أول ولدها وكان
هو الاول والآخر صلى الله عليه وسلم (المبارك بكرها) برفعهما (محصنة) أى
عفيفة (نورا) منصوب على الحال (من يهد) بضم أوله مبني للمفعول أي من يرشد
ويوفق (يهتدى) يسلك طريق الهدى (ونبينا) بالنصب (تثني عيون الحسد) أى
يرجعها لعدم استطاعة النظر اليها لما يترتب عليه من الحزن كما هو شأن
الحسود يحزنه سرور المحسود (ما حييت) أي عشت (في سواء) بفتح المهملة والمد
(الملحد) بضم الميم وفتح الحاء أى في اللحد المستوى بالتراب (ضاقت
بالانصار) بحذف الهمزة لضرورة الشعر (سودا) بضم السين وبالتنوين جمع اسود
(كلون الاثمد) بكسر الهمزة والميم وسكون المثلثة وهو الكحل المعروف (ولقد
ولدناه) أى لان أم جده عبد المطلب منا فافتخر بذلك فناهيك بهما فخرا
(وفضول) بضم الفاء والمعجمة أي زوائدا (بنا) أي فينا (مشهد) محضر وزنا
ومعنى (ومن يحف بعرشه) من ملائكته المقربين (والطيبون) يعني المؤمنين
(أحمد) بالكسر لضرورة الشعر
(2/123)
[فصل في ذكر اليوم الذي توفّي فيه صلى الله
عليه وسلمّ]
(فصل) اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين في ربيع الأول
قيل لليلتين خلت منه ورجحه كثيرون وقيل لثنتى عشر ورجحه الاكثرون وذلك حين
اشتد الضحى قيل في الساعة التي دخل فيها المدينة وقال ابن عباس رضي الله
عنهما ولد نبيكم يوم الاثنين وخرج من مكة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين
ودخل المدينة يوم الاثنين وكانت مدة مرضه اثنى عشر يوما وتوفي صلى الله
عليه وسلم وقد بلغ من السن ثلاثا وستين سنة وقيل خمسا وستين وقيل ستين
والأول أصح قيل ومن عجائب الاتفاقات في التاريخ انه صلى الله عليه وسلم عاش
ثلاثا وستين سنة وأبو بكر وعمر وعلي مثله ونحر صلى الله عليه وسلم بيده في
حجة الوداع ثلاثا وستين بدنة وأعتق في عمره ثلاثا وستين رقبة وحين أرادوا
غسله سمعوا قائلا يقول غسلوه في ثيابه فغسلوه في قميصه وكانوا يرون القائل
لهم الخضر وعزاهم (فصل) في ذكر وقت وفاته (اتفقوا) يعنى الحفاظ أى أجمعوا
(ورجحه كثيرون) منهم ابن الكلبي وأبو مخنف حكاه عنهما الطبري وقيل لثنتى
عشرة (ورجحه الاكثرون) مع عدم امكانه للاجماع على أن تاسع عرفة تلك السنة
كان الجمعة فآخره الجمعة أن ثم والا فالخميس وأول المجرم اما الجمعة واما
السبت وأول صفر اما السبت واما الاحد واما الاثنيين وأول ربيع الاول اما
الاحد واما الاثنين واما الثلاثاء واما الاربعاء وايما كان فلا يكون ثانى
عشره الاثنين ثم رأيت السهيلي ذكر نحو ذلك ونقل عن الخوارزمي أنه توفي أول
يوم منه قال وهو أقرب في القياس مما ذكره الطبرى عن ابن الكلبي وأبي مخنف
(وكانت مدة مرضه) ثلاثة عشر يوما كما قاله الاكثرون وقيل أربعة عشر وقيل
(اثني عشر) وقيل عشرة أيام (وقد بلغ من السن ثلاثا وستين سنة) تقدم الكلام
عليه في أول الوفاة (مثله) برفع اللام ونصبها (وحين أرادوا غسله) قالوا
والله ما ندري أيجرد من الثياب كما نجرد موتانا أو نغسله وعليه ثيابه فلما
اختلفوا ألقي الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل الا وذقنه في صدره فكلمهم
مكلم من ناحية البيت الذى هو فيه اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعليه ثيابه (فغسلوه في قميصه) يصبون الماء فوق القميص ويد لكونه بالقميص
دون أيديهم أخرجه أبو داود عن عائشة (الخضر) بفتح الخاء وكسر الضاد
المعجمتين اسمه بليا بن ملكان على الصحيح كما سبق (وعراهم حينئذ) كما روى
الحاكم في المستدرك عن أنس قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
أحدقوا به أصحابه فبكوا حوله واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فخطى
رقابهم فبكي ثم التفت الى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فقال ان في الله
عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فالى الله فانيبوا
والى الله فارغبوا ونظره اليكم في البلاء فانظروا فانما المصاب من لم يجز
فانصرف فقال بعضهم لبعض تعرفون الرجل قال أبو بكر وعلى نعم هذا أخو رسول
الله صلى الله عليه وسلم الخضر وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طرق
(2/124)
حينئذ فقال السلام عليكم يا أهل البيت ان
في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا
وإياه فأرجوا فان المصاب من حرم الثواب*
[مطلب في ذكر من تولى غسله ودفنه وما كفن فيه]
وكان الذي تولى غسله صلى الله عليه وسلم علي رضي الله عنه والعباس والفضل
وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران مولياه وحضرهم أوس بن خولي الأنصاري
ونفضه علىّ حين الغسل فلم يخرج منه شيء ولا تغيرت له رائحة على طول المكث
وكان غسله من بئر لسعد بن خيثمة يقال لها بئر الغرس كلها صحاح (عزاء)
بالنصب اسم ان والعزاء لغة الصبر (وخلفا) بالمعجمة والفاء أي عوضا (ودركا)
أى ثوابا مدروكا (فثقوا) أمر من الوثوق (فان المصاب) حقيقة (من حرم الثواب)
الموعود على المصائب بترك الصبر الجميل واتباع دواعي الجزع بترك الانقياد
والاستسلام لأمر الله (فائدة) روى الحاكم في المستدرك أيضا باسناد صحيح عن
جابر بن عبد الله قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عزتهم
الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص فقالت السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته ان في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل فائت فبالله ثقوا واياه
فارجوا فانما المحروم من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وفي
الحديث الاول فضيلة لابي بكر وعلى رضى الله عنهما حيث عرفا الخضر دون
غيرهما وفيه وفي الحديث الثاني ندب التعزية وذلك مجمع عليه فقد عزي النبي
صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل بابن له توفي كما رواه الحاكم في المستدرك
بسند حسن غريب وأبو بكر بن مردويه عن معاذ وروي الترمذي عن أبى بردة من عزي
ثكلى كسي بردا في الجنة وروي أيضا وابن ماجه عن ابن مسعود من عزى مصابا فله
مثل أجره وصفة التعزية ومن ينبغي تعزيته وما يحصل به مستوفاة في كتب الفقه
(وكان الذي تولي غسله على) كان غاسلا حقيقة وكذا الفضل بن عباس (و) أما
(العباس) وكان واقفا ثم كما أخرجه ابن ماجه وغيره (وقثم) بضم القاف وفتح
المثلثة كان ربما ناب عن الفضل (واسامة بن زيد) كان يناول الماء كما أخرجه
أبو داود وابن ماجه (وشقران) بالمعجمة والقاف بوزن عثمان كان ربما ناب عن
اسامة في المناولة (أوس) بفتح الهمزة وسكون الواو ثم مهملة (ابن خولى) بفتح
المعجمة وسكون الواو وكسر اللام وتشديد التحتية (ونفضه على) كما رواه ابن
اسحاق وغيره والنفض بالفاء والمعجمة وهو اخراج ما في البطن قال المطرزي
ويكنى به عن الاستنجاء (من بئر لسعد بن خيثمة) كما رواه أحمد عن على قال
قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا على اذا أنامت فاغسلني من بئر غرس
بسبع قرب لم تحلل أو كيتهن (يقال لها بئر الغرس) بفتح المعجمة وسكون الراء
آخره مهملة هذا هو الصواب ويقال بضم العين أيضا وهي بئر بقباء شامي مسجد
الفضيح الذي يقال له اليوم مسجد الشمس ينزل الى مائها بدر حنين شامي وغربي
وعندها دكة يغسل أهل المدينة موتاهم عليها تأسيا به صلى الله عليه وسلم
وكان صلى الله عليه وسلم يأتيها ويشرب منها ويتوضأ وقد صب ماء وضوئه فيها
وبصق فيها أيضا كما رواه أحمد وغيره وأخرج ابن سعد عن عمران بن
(2/125)
وثبت في الصحيح أنه كفن صلى الله عليه وسلم
في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة وكان في حنوطه المسك
وخبأ منه علي شيء لنفسه وخرج ابن ماجه باسناد جيد عن ابن عباس انهم لما
فرغوا من جهاز النبي صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع على سرير في بيته
ثم دخل الناس ارسالا يصلون عليه حتى اذا فرغوا أدخلوا النساء حتى اذا فرغوا
أدخلوا الصبيان ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد وفي
سبب ذلك أقوال لا تحقيق فيها الا ان مثل هذا لا يكون الا عن توفيق والله
أعلم* واختلف أصحابه في قبره فقال قوم يدفنه في البقيع الحكم مرسلا نعم
البئر بئر غرس هي من عيون الجنة وماؤها أطيب المياه (وثبت في) الحديث
(الصحيح) في البخاري ومسلم وسنن أبي داود وغيرهما (في ثلاثة أثواب) زاد أبو
داود بحراسة الحلة ثوبان وقميصه الذي مات فيه ولابن سعد في الطبقات عن
الشعبي ازار ورداء ولفافة (بيض) زاد البيهقي جدد (سحولية) بمهملتين أولاهما
مضمومة وقيل مفتوحة كما هو الاشهر نسبة الى سحول بفتح السين وحكي ابن
الاثير الضم أيضا قرية باليمن أو جمع سحل وهو الثوب الابيض النقى فيكون
بالضم لا غير زاد في رواية في الصحيح من كرسف وهو بضم الكاف والمهملة
بينهما راء ساكنة وهو القطن (ليس فيها) أي الثلاثة (قميص) ان قلت قد مر أن
أبا داود قال وقميصه الذي مات فيه فالجواب انه حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج
به لابن يزيد ابن أبى زياد أحد رواته مجمع على ضعفه سيما وقد خالف بروايته
الثقاة قاله النووى رحمه الله وفي الحديث وجوب التكفين وهو اجماع وفيه ندب
كون الكفن أبيض ففي الحديث الصحيح البسوا الثياب البيض فانها أظهر وأطيب
وكفنوا فيها موتاكم رواه أحمد والترمذي والنسائى وابن ماجه والحاكم عن سمرة
ومن القطن ويجوز غيره لكن في الحرير كما قال ابن المنذر وغيره يحرم للذكر
كما قاله أصحابنا وفيه استحباب كون الاكفان ثلاثة للذكر وأن لا يزاد عليها
كما قاله أصحابنا لظاهر قوله ليس فيها قميص ولا عمامة وتأول مالك وأبو
حنفية الحديث على ان معناه ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة وانما هما
زائدان عليها ولا يخفي ضعف هذا التأويل سيما ولم يثبت انه صلى الله عليه
وسلم كفن في قميص ولا عمامة الا ما مضي من رواية أبى داود بما فيها (في
حنوطه) بفتح المهملة وضم النون واهمال الطاء طيب مجموع قال الازهري يستعمل
على الكافور والصندل الاحمر وذريرة القصب (المسك) بالضم اسم كان (وخبأ منه)
بالمعجمة والموحدة والهمز أي سرا وانما فعل على ذلك تبركا (وخرج ابن ماجه)
ومالك بلاغا (ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد) كما
رواه البيهقي وغيره (وفي سبب ذلك أقوال) قال الشافعى لعظم تنافسهم في ان لا
يتولى الامامة عليه أحد في الصلاة وقال غيره لعدم تعين امام يؤم القوم فلو
تقدم واحد في الصلاة لصار مقدما في كل شيء وتعين للخلافة وقيل لعدم اتساع
المكان للجماعة (قلت) أو لانه صلى الله عليه وسلم حي فجعلوا ذلك فرقا بين
الصلاة على الحي والصلاة على الميت (عن توقيف) بتقديم القاف على الفاء أى
بامر من الشارع صلى الله عليه وسلم بذلك ووصيته به وقد أخرج الوصية بذلك
البزار من طريق قرة بن مسعود
(2/126)
وقال آخرون في المسجد وقال قوم يحبس حتى
يحمل الى أبيه ابراهيم فقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ما دفن نبي الا حيث يموت أخرجه ابن ماجه ومالك في الموطأ وغيرهما
واختلفوا هل يلحد له أم لا وكان بالمدينة حافران أحدهما يلحد وهو أبو طلحة
والآخر لا يلحد وهو أبو عبيدة فأرسلوا اليهما وقالوا اللهم اختر لنبيك
واتفقوا على ان من جاء منهما أولا عمل عمله فجاء أبو طلحة ثم روي عنه صلى
الله عليه وسلم قال اللحد لنا والشق لغيرنا فحفر له صلى الله عليه وسلم حول
فراشه في بيت منزل عائشة ودخل قبره علي والعباس وابناه الفضل وقثم وشقران
قيل وأدخلوا معه عبد الرحمن بن عوف وقيل ان أوس ابن خولي الانصاري ناشد
عليا بالله كما ناشده عند الغسل فادخله معهم وفرش شقران في القبر الكريم
قطيفة قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها فدفنها معه وقال والله
لا يلبسها أحد بعدك وكان المغيرة بن شعبة يزعم انه أحدث الناس عهدا برسول
الله صلى الله وأخرجه الطبري أيضا (في المسجد) أي عند المنبر كما في رواية
مالك (ما دفن نبى الا حيث يموت) فمن ثم دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها
لانه مات فيها فائدة أخرج ابن سعد والبيهقى في الدلائل عن عائشة قالت رأيت
في حجرتى ثلاثة أقمار فاتيت أبا بكر فقال ما أولها قلت أولها ولدا من رسول
الله صلى الله عليه وسلم فسكت أبو بكر حتى قبض رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال خير أقمارك ذهب به ثم كان أبو بكر وعمر دفنا جميعا في بيتها
(اللحد لنا والشق لغيرنا) رواه أبو داود والترمذى والنسائي وابن ماجه بسند
ضعيف عن ابن عباس ورواه أحمد عن جرير وزاد من أهل الكتاب ففي الحديث تفضيل
اللحد على الشق بشرطه وهو كون الارض صلبة واللحد بفتح اللام وضمها ان يحفر
حائط القبر من أسفل مائلا عن استوائه قدر ما يوضع فيه الميت في جهة القبلة
والشق بفتح الشين ان يحفر في وسط القبر كالنهر ويبني حافتاه بنحو لبن ويوضع
الميت بينهما ويسقف عليه بنحو اللبن (ودخل قبره على والعباس وابناه الفضل
وقثم وشقران) كما رواه ابن حبان وصححه أو على والفضل (وعبد الرحمن بن عوف
واسامة) ونزل معهم خامس كما رواه أبو داود أو على والعباس واسامة كما في
رواية للبيهقي أو على والفضل (وقثم) بن عباس (وشقران) مولى رسول الله صلى
الله عليه وسلم ونزل معهم خامس كما في أخرى للبيهقى أيضا (وقيل ان أوس بن
خولي الانصاري ناشد عليا بالله كما ناشده حين الغسل فادخله معهم) ولعله
الرجل المبهم في الروايتين (وفرش شقران في القبر) الكريم (قطيفة) حمراء كما
أخرجه الترمذى والنسائي عن ابن عباس إلا ذكران الذى فرش شقران فرواه
الترمذي عن محمد بن على بن الحسين ومع ذلك فقد قال أصحابنا يكره ان يوضع
تحت الميت نحو فراش وأجابوا عن هذا الحديث بان فعل شقران لم يكن بعلم
الصحابة ولا برضاهم هذا وقد قال ابن عبد البر ان القطيفة أخرجت
(2/127)
عليه وسلم وذلك انه أسقط خاتما من يده في
القبر فنزل يلتمسه وأنكر علي رضي الله عنه ذلك وقال أحدث الناس عهدا به قثم
بن العباس وأطبق عليه صلى الله عليه وسلم تسع لبنات ودفن صلى الله عليه
وسلم يوم الثلاثاء وقيل ليلة الأربعاء وذلك في شهر إيلول روي ابن اسحاق
وغيره مسندا عن عائشة قالت ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
سمعنا صوت المساحي من آخر الليل فقيل لم أخر دفنه صلى الله عليه وسلم وقد
كان ينهى عن ذلك قيل لعدم اتفاقهم على موته فقد قال فريق منهم انما أخذه ما
كان يأخذه حال الوحي وسيفيق وقيل لاختلافهم في موضع قبره كما سبق وقيل
لانهم اشتغلوا بما وقع بين المهاجرين والانصار من الخلاف وخشوا تفاقم الأمر
فنظروا فيها حتى اتسق الأمر وانتظم الشمل واستقرت الخلافة في نصابها فبايع
أبا بكر بعضهم ثم بايعوه من الغد على ملأ منهم ورضاء وكشف الله الكربة
وطفئت نار الخلاف وهذا ما استحضرته من الاخبار المتلقية بالقبول في الابانة
عن موت الرسول صلى الله عليه وسلم ومعظمها من الصحاح وقد لفق بعض جهلة
القصاص في ذلك أخبارا ركيكة قدر كراسة وجاء فيها بما يعلم ببديهة العقل
وضعه والله أعلم.
[فصل عن الدارمي في خبر الملائكة الذين حفوا بقبره صلى الله عليه وسلّم]
(فصل) خرج الدارمي أن كعبا دخل على عائشة فذكروا رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال كعب ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى
يحفوا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم يضربون باجنحتهم ويصلون عليه حتى اذا
أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك حتى اذا انشقت الارض خرج في سبعين
الفا من الملائكة يزفونه قبل اهالة التراب ولو سلم انها لم تخرج فهذا خاص
به صلى الله عليه وسلم كما نقله الدار قطنى عن وكيع (اسقط) بفتح الهمزة
والقاف (وأطبق عليه صلى الله عليه وسلم بتسع لبنات) كما نقله ابن عبد البر
وغيره (ودفن يوم الثلاثاء) كما رواه مالك بلاغا (ايلول) بفتح الهمزة وسكون
التحتية وضم اللام من أشهر الروم (المساحي) بفتح الميم جمع مسحاة بكسرها
سميت بذلك لانها يمسح بها الارض قال الجوهرى ولا يكون الا من حديد أي فهي
أخص من المجرفة لانها ربما كانت من غيره (تفاقم الأمر) بتقديم الفاء على
القاف أي اشتداده وامتداده في الشر وعدم جريانه على الاستوى (اتسق الامر)
أى اجتمع (الشمل) بفتح المعجمة ما يجتمع من الانسان ويتفرق (نصابها) أي
محلها اللائق بها (عن ملأ) أي جماعة (الابانة) مصدرا بان يبين وهي نقيض
الاخفاء (لفق) أي جمع شيئا الى شيء (القصاص) جمع قاص بالمد وتشديد المهملة
المخبر بالقصص
(فصل) (خرج الدارمي) اسمه عبد الله بن عبد الرحمن منسوب الى دارم جد قبيلة
قال المجد ذكره في باب ما أكرم الله به نبيه بعد موته عن نيشة بن وهب
(يحفوا) أى يحدقوا ويحيطوا
(2/128)
وفيه ايضا ان اهل المدينة قحطوا قحطا شديدا
فشكوا الى عائشة فقالت انظروا قبر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاجعلوا منه كوى الى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ففعلوا
فمطروا مطرا شديدا حتى نبت العشب واسمنت الابل حتى تفتقت من الشحم فسمى عام
الفتق.
[فصل في ميراثه صلى الله عليه وسلّم وأمواله]
(فصل) في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امواله من ثلاثة اوجه
الصفي والهدية تهدي اليه في غير غزو وخمس خيبر وما افاء الله عليه بالمدينة
وفدك روينا في صحيح البخاري عن عمرو بن الحارث ختن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا
ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا الا بغلته البيضاء وسلاحه وارضا جعلها صدقة
ونحوه في صحيح مسلم عن عائشة قالت ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم
دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء وفي المتفق عليه عنها ان
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
أردن أن يبعثن عثمان الى أبي بكر في ميراثهن فقالت عائشة أليس قد قال النبي
صلى الله عليه وسلم لا نورث (قحطوا) بضم القاف وفتحها كما مر في الاستسقاء
(كوي) بضم الكاف وتخفيف الواو مع القصر والتنوين جمع كوة (العشب) بضم
المهملة وسكون المعجمة الرطب من الكلأ (تفتقت) أي تكسرت عكنها بعضها على
بعض من السمن.
(فصل) في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصفي) بفتح المهملة وكسر
الفاء وتشديد التحتية اسم لمكان يصطفيه أي يختاره صلى الله عليه وسلم من
الغنيمة قبل القسمة فعيل بمعنى المفعول (والهدية تهدى اليه في غير غزو)
منها حوائط سبعة في بنى النضير أوصى له بها مخيريق اليهودي عند اسلامه
ومنها ما أعطاه الانصار من أرضهم وهو ما لا يبلغه الماء (وخمس خيبر) وكذا
ما افتتح منها عنوة (وما أفاء الله على رسوله بالمدينة) كارض بني النضير
حين أجلاهم (و) كذلك نصف أرض (فدك) التي صالح أهلها عليها بعد فتح الجهة
وكذا ثلث وادي القرى أخذها صلحا وكذا الوطيح والسلالم من حصون خيبر (وروينا
في صحيح البخارى) وسنن النسائى (ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أى صهره
وهو أخو ميمونة رضى الله عنها لم يخرج البخارى له سوى هذا الحديث قال ابن
عبد البر وكانت وفاته بعد الخمسين قال الشمنى له ولابيه صحبة (ولا أمة) أخذ
منه العلماء أخذ عتق المستولدة بموت المستولد وفي الحديث ما كان عليه صلى
الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا والتقلل منها واجتبائه الفقر (ونحوه في
صحيح مسلم) وسنن أبى داود والنسائى (وفي المتفق عليه عنها) كما أخرجه مالك
والشيخان وأبو داود والنسائي (لا نورث) بالنون يعنى نفسه
(2/129)
ما خلفناه صدقة وروينا في كتاب الشمائل
لأبي عيسي الترمذي وغيره عن أبي هريرة قال جاءت فاطمة الى أبي بكر فقالت من
يرثك فقال أهلي وولدي فقالت مالى لا أرث أبى فقال أبو بكر سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول لا نورث ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعوله وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه وروينا في صحيح
البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقسم ورثتي
دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة وروينا فيه أيضا عن
عائشة قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو
كبد الاشطر شعير في رف لى فأكلت منه حتى طال علىّ فكلته ففنى وروينا في
الصحيحين عن عائشة قالت كانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله
صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة وسائر الانبياء بدليل
رواية النسائي انا معاشر الانبياء لا نورث (ما تركنا) موصول وصلته مبتدأ أى
الذي نتركه بعد موتنا فهو (صدقة) بالرفع خبر ما تركنا وصحفه بعض الشيعة
ويؤخذ من قوله صدقة زوال الملك عنه وهو المشهور من وجهين حكاهما الامام
وصوب في الروضة الجزم به وقيل ان ما تركه باق على ملكه لان الانبياء احياء
وصححه الامام* فائدة الحكمة في ان الانبياء لا يورثون انهم خزان الله
والخازن لا يملك الا قوتا وغيرهم مرتزقون فمن اعطي رزقا ملكه فاذا مات
الخازن لم ترثه ورثته واذا مات المرتزق ورثوه لان المرتزق أعطى ليتصرف تصرف
المالك لمنافع نفسه والخازن أعطى ليصرفه في نوائب الخلق فاذا مات لم تخلفه
ورثته لعدم قيامهم مقامه الا أن يكون الذي خلفه نبي فهو أمين الله بعده
ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم انما أنا خازن والله يعطي قاله الحكيم
الترمذي ونقل النووي عن العلماء ان الحكمة في ذلك انه لا يؤمن أن يكون في
الورثة من يتمنى موته فيهلك ولئلا يظن بهم الرغبة في الدنيا لوراثهم فيهلك
الظان وينفر الناس عنهم (وروينا في صحيح البخاري) وصحيح مسلم وغيرهما (لا
تقسم ورثتى) هذا خبر لا نهى ففيه معجزة له صلى الله عليه وسلم (ما تركت بعد
نفقة نسائى) قال الخطابى كان سفيان بن عيينة يقول أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم في معنى المعتدات لانهن لا يجوز لهن النكاح أبدا فجرت عليهن
النفقة وتركت حجرهن لهن وذلك أيضا لعظم حقهن في بيت المال لفضلهن وقدم
هجرتهن وكونهن أمهات المؤمنين (ومؤنة عاملي) المراد به القائم على هذه
الصدقات والناظر فيها وقيل المراد كل عامل للمسلمين من خليفة وغيره لانه
عامل النبي صلى الله عليه وسلم والنائب عنه في أمته (وروينا في صحيح
البخارى) وصحيح مسلم وغيرهما (شطر شعير) قال الترمذي الاشى من شعير وقيل هو
نصف مكوك وقيل نصف وسق وقيل شطر وشطير كنصف ونصيف (في رف) بفتح الراء
وتشديد الفاء وهو شبه الطاق قاله في الصحاح (فكلته ففني) أى فرغ والحكمة في
ذلك ستر السر النبوي وعدم بقاء معجزة محسوسة بعده صلى الله عليه وسلم سوى
القرآن (وروينا في الصحيحين عن عائشة) ورواه عنها أيضا أبو داود والنسائي
(كانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها) وذلك لان الحديث لم
(2/130)
فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال لست تاركا
شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به الاعملت به انى أخشى ان
تركت شيئا من أمره ان أزيغ فأما صدقته فدفعها عمر الى علىّ والعباس وأما
خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا
لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما الى من ولىّ الأمر قال فهما على ذلك الى
اليوم* وروينا فيهما أيضا من رواية مالك بن أوس بن الحدثان ان عليا والعباس
استأذنا على عمر وعنده عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن
أبى وقاص فقال العباس يا أمير المؤمنين اقضي بينى وبين هذا وهما يختصمان
فيما أفاء الله على رسوله من مال بني النضير فقال الرهط عثمان وأصحابه يا
عمر اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال عمر تئدكم أنشدكم الله الذي باذنه
تقوم السماء والأرض هل تعلمون ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث
ما تركناه صدقة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قال الرهط قد قال
ذلك قال يبلغها أو بلغها وتأولته كما نقله عياض عن بعضهم قال وفي ذلك تركت
فاطمة منازعة أبى بكر بعد احتجاجه بالحديث عليها التسليم للاجماع على
القضية وانها لما بلغها الحديث وتبين لها التأويل تركت رأيها ثم لم يكن
منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب وجاء في تتمة الحديث ان فاطمة هجرت أبا بكر
فلم تكلمه حتى توفيت قال النووي المراد أنها لم تكلمه في هذا الامر أى لم
تطلب منه حاجة ولا اضطرت الى لقائه فتكلمه ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم
تسلم عليه ولا كلمته (ان أزيغ) أى أميل عن الحق (قال فهما على ذلك الى
اليوم) هذا من كلام الزهرى (ابن الحدثان) بفتح المهملتين (اقض بيني وبين
هذا) زاد مسلم الكاذب ومعناه الكاذب ان لم ينصف قاله جماعة وقال المازري
هذا اللفظ الذى وقع لا يليق ظاهره بالعباس وحاشي لعلي أن يكون فيه بعض هذه
الاوصاف ولسنا نقطع بالعصمة الا للنبى صلى الله عليه وسلم أى لجميع
الانبياء اسكنا مأمورون بحسن الظن بالصحابة ونفي كل رذيلة عنهم قال وقد حمل
هذا بعض الناس على ان أزال هذا اللفظ من نسخته تورعا ولعله حمل الوهم على
رواته قال واذا كان لا بد من أتيانه فاجود ما حمل عليه انه صدر من العباس
على وجه الادلال على ابن أخيه لانه بمنزلة أبيه (تئدكم) بفتح التاء الفوقية
وكسر التحتية المهموزة وفتح الدال من التؤدة وهي الرفق وللاصيلي في صحيح
البخاري بكسر أوله وضم الدال اسم فعل كرويد أي على رسلكم ولمسلم إتئدا بكسر
الهمزة والتحتية وفتح الفوقية أى أصبر أو امهل (هل يعلمون أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال الى آخره) هذا تقرير من عمر عليهما انهما يعلمان ذلك
كغيرهما من الحاضرين وأن ذلك حديث مشهور سمعه منه صلى الله عليه وسلم
كثيرون من الصحابة وانما سألا ذلك ومع علمهما بالحديث لما سيأتي انهما انما
طلبا القيام عليه لا الارث الذي منعه الشارع صلى الله عليه وسلم
(2/131)
عمر فانى أحدثكم عن هذا الأمر ان الله خص
رسوله من هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ثم قرأ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْهُمْ الى قوله قَدِيرٌ فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم والله ما اختارها دونكم ولا استأثرها عليكم قد أعطاكموها وبثها
فيكم حتى بقى منها هذا المال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على
أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقى فيجعله مجعل مال الله فعمل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حياته أنشدكم الله هل تعلمون ذلك قالوا
نعم ثم قال لعلي والعباس أنشدكما الله هل تعلمان ذلك قال عمر ثم توفي الله
نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر أنا ولى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والله
يعلم انه فيها لصادق بار راشد تابع للحق ثم توفي ابو بكر فكنت انا ولى ابو
بكر فقبضتها سنتين من امارتى أعمل فيها بما عمل رسول الله وبما عمل فيها
ابو بكر والله يعلم اني لصادق بارّ راشد تابع للحق ثم جئتمانى تكلمانى
وكلمتكما واحدة وامركما واحد جئتني يا عباس تسئلنى نصيبك من ابن أخيك
وجاءنى هذا يعنى عليا يريد نصيب امرأته من أبيها فقلت لكما ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال معاشر الأنبياء لا نورث ما خلفناه صدقة فلما بدالى
ان أدفعه اليكما قلت ان شئتما دفعتها اليكما ان عليكما عهد الله وميثاقه
لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل فيها ابو
بكر وبما عملت فيها منذ وليتها فقلتما ادفعها (والله ما أختارها) بمهملة
وزاي وللكشميهنى في صحيح البخارى بمعجمة وراء (وبثها) بالموحدة فالمثلثة أى
نشرها ثم قرأ (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ الآية) قال عياض في معنى
ذلك احتمالان أحدهما تحليل الغنيمة له ولامته الثاني تخصيصه بالفيء كله أو
بعضه حسب اختلاف العلماء قال وهذا الثاني أظهر لاستشهاد عمر عليه بالآية
(فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم) أى خاصة له (ينفق على
أهله نفقة سنتهم) أي يعدل لهم نفقتها ثم نفقته قبل انقضاء السنة في وجوه
الخير ولا يتم السنة فمن ثم توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في شعير
استدانه لاهله قال البغوي وفيه جواز ادخار قوت سنة وجواز الادخار للعيال
وان هذا لا يقدح في التوكل (مجعل مال الله) ولمسلم في الكراع والسلاح عدة
في سبيل الله والكراع بضم الكاف الخيل (فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى
الله عليه وسلم) زاد مسلم فرأيتماه كاذبا غادرا خائنا وكذلك في عمر
فرأيتماني كاذبا غادرا خائنا قال المازري المراد أنكما تعتقدان ان الواجب
أن يفعل في هذه القصة خلاف ما فعلته أنا وأبو بكر فنحن على مقتضى رأيكما لو
أتينا ما أتينا ونحن معتقدان ما تعتقدانه لكنا بهذه الاوصاف أو نكون معناه
ان الامام انما يخالف اذا كان على هذه الاوصاف ومتهم في قضاياه فكأن
مخالفتكما لنا تشعر من رأها أنكما تعتقدان ذلك فينا (بدالي) بغير همز أى
ظهر (عهد الله وميثاقه) بفتحهما (وليتهما) بفتح الواو وتخفيف
(2/132)
الينا فبذلك دفعتها اليكما فأنشدكم بالله
هل دفعتها اليهما بذلك فقال الرهط نعم ثم أقبل على علي والعباس فقال
أنشدكما بالله هل دفعتها اليكما بذلك قالا نعم قال افتلتمسان مني قضاء غير
ذلك فو الله الذي باذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك فان
عجزتما عنها فادفعاها الى فانى أكفيكماها هذا لفظ البخاري فيها* فائدة قال
ابو داود ما معناه انما سئل العباس وعلي من عمر ان يصيره بينهما نصفان
وينفرد كل بنصيبه لأنهما جهلا الحكم فكره عمر أن يجري عليهما اسم القسم
فيتوهم الملك قال الخطابى وما أحسن ما قاله ابو داود في هذا وما تأوله وقد
زاد البرقانى من طريق معمر قال فغلب علي عليها فكانت بيده ثم بيد ابنه
الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم الحسن بن الحسين ثم زيد بن الحسن قال
معمر ثم بيد عبد الله بن الحسن ثم وليها بنو العباس والله أعلم.
[فصل في رؤية النبي صلى الله عليه وسلّم في النوم]
(فصل) في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في النوم روينا في صحيح البخاري
ومسلم عن أبى هريرة قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول من رآنى في
المنام فسيرانى في اليقظة اللام (وينفرد كل بنصيبه) يتفقان بها على حسب ما
ينفعهما به الامام (لا أنهما جهلا الحكم) وهو كونه صلى الله عليه وسلم لا
يورث (فكره عمر أن يجرى عليها اسم القسم فيتوهم الملك) أرى مع تطاول الزمان
وأنهما ورثاه وقسمه الميراث بين البنت والعم نصفان فيلتبس ذلك ويظن أنه ملك
بالارث قال أبو داود ولما صارت الخلافة لعلي لم يغيرها عن كونها صدقة وبنحو
هذا احتج السفاح فانه لما خطب أول خطبة قام بها قام اليه رجل معلق في عنقه
المصحف فقال أنا شدك الله ألا ما حكمت بيني وبين خصمي بهذا المصحف فقال من
هو خصمك فقال أبو بكر في منعه فدك قال أظلمك قال نعم قال فمن بعده قال عمر
قال أظلمك قال نعم وقال في عثمان كذلك قال فعلي ظلمك فسكت الرجل فاغلظ له
السفاح (البرقاني) بضم الموحدة وسكون الراء ثم قاف (ثم على بن الحسين) زين
العابدين (ثم الحسن) المثني (بن الحسن) بن على (ثم زيد بن الحسن) المثني
(ثم بيد عبد الله بن الحسن) المثنى
(فصل) في رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم (روينا في صحيح
البخاري ومسلم) وسنن أبى داود (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة) بفتح
القاف قيل والمراد بهذا الحديث أهل عصره والمعنى من رآه في النوم ولم يكن
هاجر يوفق للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة عيانا وقيل معناه انه يرى
تصديق تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها وقيل معناه سيراني في الدار الآخرة أى
رؤية خاصة من القرب منه وحصول شفاعته وبحق ذلك مما يمتاز به عن رؤية جميع
أمته له يومئذ ذكر هذه الاقوال النووي قال في الديباج وحمله ابن أبي جمرة
وطائفة على انه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه وأن ذلك كرامة من كرامات
الاولياء ونقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم
مناما ثم رأوه بعد ذلك يقظة وسألوه عن أشياء كانو منها متخوفين فأرشدهم الى
طريق تفريجها قال والحديث عام في أهل التوفيق وأما
(2/133)
أو كأنما رآنى في اليقظة لا يتمثل الشيطان
بي وفي صحيح البخاري عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من رآنى في
المنام فقد رآني فان الشيطان لا يتمثل بى ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين
جزءا من النبوة وفيه أيضا عن ابى سعيد الخدرى انه سمع النبي صلى الله عليه
وسلم يقول من رآنى فقد رأى الحق فان الشيطان لا يتكونني وروينا في صحيح
غيرهم فعلى الاحتمال فان خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الاملاء والاغواء
كما تقع للصديق بطريق الكرامة والاكرام وانما تحصل التفرقة بينهما بالاتباع
انتهي واستشكل الحافظ ابن حجر ما قاله ابن أبي جمرة بانه يلزم من ذلك كون
هؤلاء صحابة وتبقى الصحابة الى يوم القيامة وان جمعا ممن رآه في المنام لم
يروه في اليقظة وخبره لا يتخلف انتهى وأجيب عن الاول بمنع الملازمة اذ شرط
الصحبة رؤيته صلى الله عليه وسلم وهو في عالم الدنيا لا في عالم البرزخ وعن
الثانى بان الظاهر ان من لم يبلغ درجة الكرامة ومات من المؤمنين تحصل له
رؤيته قرب موته عند طلوع روحه فلا يتخلف الحديث وقد وقع ذلك لجماعة قال في
الديباج أما أصل رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة فقد نص على امكانها
ووقوعها جماعة من الائمة منهم حجة الاسلام الغزالي والقاضى أبو بكر بن
العربى والشيخ عز الدين بن عبد السلام وابن أبي جمرة وابن الحاج واليافعي
في آخرين (أو كانما رآني في اليقظة) أى للعلة الذى ذكرها وهو أن الشيطان لا
يتمثل أى لا يتشبه به والمعني أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حق قطعا ثم قال
عياض ان هذا خاص برؤياه في صورته التى كان عليها والا كانت رؤيا تأويل لا
رؤيا حقيقة وضعفه النووي وقال بل الصحيح انه يراه حقيقة سواء كان على صفته
المعروفة أو غيرها كما ذكره المازري انتهي وأيده الحافظ ابن حجر بما أخرجه
ابن أبى عاصم بسند ضعيف عن أبي هريرة مرفوعا من رآنى في المنام فقد رآني
فانى في كل صورة قلت فلعله يحال ما رأي فيه صلى الله عليه وسلم من خلاف
صفته على ضبط النائم وعدم تكيفه كما ذكروه فيما لو رآه يأمر عن منهي أو
ينهى عن مأمور في شريعته وربما كانت رؤياه له بحسب ثباته في دينه فمن كان
ذادين كامل واتباع وافر رآه في صورته المعروفة بعين القلب السالمة من عوارض
الغشاء ونحوه والا كانت رؤيته له بحسب ضعف نظره (فائدة) قال عياض اتفق
العلماء على جواز رؤية الله تعالى مناما وصحتها وان رآه على صفة لا تليق
بجلاله من صفات الاجسام لان ذلك المريء غير ذات الله تعالى اذ لا يجوز عليه
التجسيم ولا اختلاف الاحوال وقال ابن الباقلاني رؤية الله تعالى في المنام
خواطر في القلوب وهي دلالات للرائى على أمور مما كان أو يكون كسائر
المرئيات (ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة) سبق الكلام عليه
في بدأ الوحي (وفيه أيضا) أي في صحيح البخارى (عن أبي سعيد) وفي رواية له
أخري عن أبي قتادة وقد رواه عن أبي قتادة أيضا أحمد والترمذى (فان الشيطان
لا يتكونني) لا يكون على هيئتي وشكلى قال النووي قال بعض العلماء خص الله
سبحانه النبى صلى الله عليه وسلم بان رؤيا الناس إياه صحيحة وكلها صدق ومنع
الشيطان ان يتصور في خلقه لئلا يتدرع بالكذب على لسانه في النوم كما خرق
الله تعالى العادة للانبياء بالمعجزة دليلا على صحة حالهم وكما استحال تصور
الشيطان في صورته في اليقظة اذ لو وقع لاشتبه الحق بالباطل ولم يوثق
(2/134)
مسلم عن جابر ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال من رآنى في المنام فقد رآنى فانه لا ينبغى للشيطان ان يتمثل في
صورتى وقال اذا حلم أحدكم فلا يخبر أحدا بتلعب الشيطان به في المنام قال
ابن الباقلانى معنى هذه الاحاديث ان رؤياه صلى الله عليه وسلم صحيحة ليست
باضغاث بما جاء من جهة النبوة مخافة من هذا التصور فحماها الله من الشيطان
ونزغه ووسوسته والقائه وكيده على الانبياء وكذا حمى رؤياهم أنفسهم ورؤيا
غير النبي للشيء عن تمثل الشيطان بذلك لتصح رؤياه في الوجهين ويكون طريقا
الى علم صحيح لا ريب فيه (وقال اذا حلم أحدكم الى آخره) رواه مسلم وابن
ماجه عن جابر وحلم بفتح المهملة واللام والميم أي رأي رؤيا مكروهة (فلا
يخبر أحدا بتلعب الشيطان به في المنام) في رواية أخرى للشيخين وأبى داود
والترمذي عن أبي قتادة الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فاذا رأي
أحدكم شيأ يكرهه فلينفث حين يستيقظ عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شرها
زاد في رواية وليصل ركعتين فانها لا تضره ولمسلم عن أبي قتادة أيضا الرؤيا
الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان فمن رأي رؤيا فكره منها شيأ
فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم فانها لا تضره ولا يحدث
بها أحدا فان رأي حسنة فليسر ولا يحدث بها الا من يحب ففي مجموع هذه
الاحاديث سنن ينبغي أن يعمل بها كلها فاذا رأي ما يكره نفث عن يساره ثلاثا
قائلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرها وليتحول الى جنبه الآخر وليصل
ركعتين قال النووي فان اقتصر على بعضها أجزاه في دفع ضررها باذن الله كما
صرحت به الاحاديث الصحيحة ولا يحدث بها أحدا لانه ربما عبرها عبرا مكروها
على ظاهر صورتها وكان ذلك محتملا فوقعت كذلك بتقدير الله تعالى وأما قوله
في الرؤيا الحسنة ولا يخبر بها الا من يحب فسببه كما قال النووى وغيره انه
اذا أخبر بها من لا يحب قد يحمله البغض والحسد على عبرها بمكروه فقد يقع
كذلك والا فيحصل له النكد والحزن من سوء عبرها (فائدة) قال الامام المازري
مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا ان الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات
كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم
ولا يقظة فاذا خلق هذه الاعتقادات فكانه جعلها علما على أمور اخر فحققها في
ثاني الحال لو كان قد خلقها فاذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر
فاكثر ما فيه انه اعتقد أمرا على خلاف ما هو فيه فيكون ذلك الاعتقاد علما
على غيره كما خلق الله تعالى الغيم علما علي المطر والجميع خلق الله تعالي
ولكن خلق الرؤيا التى جعلها علما علي غير ما يسر بغير حضرة الشيطان وما هو
علم على ما تضر بحضرته فنسبت الى الشيطان مجازا لحضوره عندها وان كان لا
فعل له حقيقة انتهي قال النووى وقال غير المازري أضاف الرؤيا المختارة الى
الله تشريفا بخلاف المكروهة وان كانتا جميعا من خلق الله تعالي وتدبيره
وارادته ولا فعل للشيطان فيها انتهى وروى الطبراني في الكبير والضياء عن
عبادة بن الصامت مرفوعا رؤيا المؤمن كلام يكلم به العبد ربه في المنام
ورواه في نوادر الاصول عن عبادة أيضا لكن بسند ضعيف (قال ابن الباقلانى)
كما نقله عنه النووى في شرح
(2/135)
أحلام ولا من تشبهات الشيطان وقيل المراد
ان من رآه فقد ادركه حقيقة فلا مانع يمنع من ذلك والعقل لا يحيله فيضطر الى
صرفه عن ظاهره قالوا وقد نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلاف صفته
أو في مكانين معا وذلك غلط في صفاته وتخيل لها على خلاف ما هي عليه فتكون
ذاته صلى الله عليه وسلم مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية فالادراك لا يشترط
فيه تحديق الأبصار ولا قرب المسافة ولا كون المرئي مدفونا في الأرض ولا
ظاهرا عليها وانما يشترط كونه موجودا ولا يقيم دليل على فناء جسمه صلى الله
عليه وسلم بل جاء في الأحاديث الصحيحة ما يقتضي بقاءه مع جميع الأنبياء
وورد أيضا أنهم يصلون في قبورهم وتجري لهم أعمال البر كحياتهم وزاد أيضا أن
سعيد بن المسيب في أيام الحرة حين هجر المسجد النبوي كان لا يعرف وقت
الصلاة الا بهمهمة كان يسمعها من داخل الحجرة المقدسة ولا يبعد أن يكون ذلك
خاصا لهم ولمن شاء الله من خواص عباده والله أعلم* قال العلماء ولو رأى صلى
الله عليه وسلم يأمر أو ينهى بخلاف ما تقرر في شرعه ورواه عنه الاثبات
الثقات يقظة لم يعمل به وليس ذلك لشك في الرؤيا وانما هو لانحطاط درجة
النائم عن حالة الضبط والتيقظ المشترط في رواية الحديث والله أعلم
مسلم (ولا من تشبيهات الشيطان) لقوله فقد رأي الحق أى الرؤية الحقيقية قال
وان كان قد يراه الرائى بخلاف صفته المعروفة كما يراه أبيض اللحية وقد يراه
الشخصان في زمن واحد أحدهما في المشرق والآخر في المغرب ويراه كل واحد
منهما في مكانه (وقيل المراد من رآه الى آخره) نقل ذلك الماذرى عن جماعة
(والعقل لا يحيله) أي لا يجعله مستحيلا لا يتصور (فيضطر) بالنصب جواب النفي
(تحديق الابصار) أي النظر بالحدقتين (بل جاء في الاحاديث الصحيحة ما يقتضي
بقاء من جميع الانبياء) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان
والحاكم عن أوس بن أوس ولفظهم ان من أفضل أيامكم يوم الجمعة فاكثروا علي من
الصلاة فان صلاتكم معروضة على قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يقولون
بليت قال ان الله حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء (وورد انهم يصلون
في قبورهم) رواه أبو يعلى عن أنس (وورد أيضا ان سعيد بن المسيب في أيام
الحرة الى آخره) ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (بهمهمة) أى صوت (ان يكون
ذلك خاصا لهم) مستثني من عموم حديث اذا مات العبد انقطع عمله (ولمن شاء
الله من خواص عباده) كرامة لهم فقد حكى ان بعض أهل الكشف اطلع على الشيخ
الولى الكبير محمد بن أبي بكر الحكمي أحد العشرة المشار اليهم في رؤيا
الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي وهو يصلى في
(2/136)
|