تاريخ
الخميس في أحوال أنفس النفيس (الطليعة الثالثة فى
ولادة عبد الله ونذر عبد المطلب ذبحه
وعرضه عليه وتزوّج آمنة) * وقصة الخثعمية ووقائع مدّة الحمل من وفاة عبد
الله وقصة أصحاب الفيل) *
*
(ذكر ولادة عبد الله)
قال أصحاب السير والتواريخ كانت ولادة عبد الله بن عبد المطلب لا ربع
وعشرين سنة مضت من ملك كسرى أنو شروان وكان يوم ولد عبد الله علم بمولده
جميع أحبار الشام وذلك انه كانت عندهم جبة صوف بيضاء وكانت الجبة مغموسة فى
دم يحيى بن زكريا وكانوا قد وجدوا فى كتبهم اذا رأيتم الجبة البيضاء والدم
يقطر منها فاعلموا أن أبا محمد المصطفى قد ولد تلك الليلة وقدموا بأجمعهم
الى الحرم وأرادوا أن يغتالوا بعبد الله فصرف الله شرّهم عنه ورجعوا الى
بلادهم ولم يكن يقدم عليهم أحد من الحرم الا سألوه عن عبد الله فيقولون
تركنا نورا يتلألأ فى قريش فتقول الاحبار ليس ذلك النور لعبد الله انما ذلك
النور لمحمد عليه السلام قال فخرج عبد الله أجمل قريش فشغفت به كل نساء
قريش وكدن أن تذهل عقولهنّ فلقى عبد الله فى زمنه من النساء ما لقى يوسف فى
زمنه من امرأة العزيز وكان عبد الله يخبر أباه بما يرى من العجائب يقول يا
أبت انى اذا خرجت الى بطحاء مكة وصرت على جبل ثبير خرج من ظهرى نوران أخذ
أحدهما شرق الارض والآخر غربها ثم ان ذينك النورين يستديران حتى يصيرا
كالسحابة ثم تنفرج لهما السماء فيدخلان فيها ثم يخرجان ثم يرجعان الىّ فى
لمحة واحدة وانى لاجلس فى الموضع فأسمع فيه من تحتى سلام عليك أيها
المستودع ظهره نور محمد صلّى الله عليه وسلم وانى لاجلس فى الموضع اليابس
أو تحت الشجرة اليابسة فتخضرّ وتلقى علىّ أغصانها فاذا قمت وتركتها عادت
الى ما كانت فقال له عبد المطلب ابشريا بنى فانى أرجو أن يخرج الله من ظهرك
المستودع المكرم فانا قد وعدنا ذلك وانى رأيت قبلك رؤيا كلها تدل على انه
يخرج من ظهرك أكرم العالمين وكان عبد الله أبو النبىّ كلما أصبح وذهب ليدخل
على صنمهم الاكبر وهو اللات والعزى صاح كما تصيح الهرّة ونطق وهو يقول ما
لنا ولك أيها المستودع ظهره نور محمد الذى يكون هلاكنا وهلاك أصنام الدنيا
على يديه*
(ذكر نذر عبد المطلب ذبح عبد الله وعرضه عليه)
* قال ابن اسحاق وكان عبد المطلب نذر حين لقى من قريش ما لقى عند حفر زمزم
لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرنّ أحدهم لله عند الكعبة
كما مرّ فلماتوا فى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم* وفى الحدائق روى
قبيصة عن ذؤيب عن ابن عباس قال لما رأى عبد المطلب قلة أعوانه فى حفر زمزم
نذر لئن أكمل الله له عشرة ذكور ليذبحنّ أحدهم فلما تكاملوا عشرة جمعهم ثم
أخبرهم بنذره ودعاهم الى الوفاء بذلك فأطاعوه وقالوا كيف نصنع قال ليأخذ كل
واحد منكم قدحا وليكتب فيه اسمه ثم ليأتنى به ففعلوا ثم أتوه فدخل بهم على
هبل فى جوف الكعبة وكان هبل على البئر التى يجمع فيها ما يهدى الى الكعبة
كما مرّ وقال لقيم الصنم وفى الحدائق قال للسادن اضرب بقداح هؤلاء فلما أخذ
ليضرب قام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله ويقول اللهمّ انى نذرت لك نحر
أحدهم وانى أقرع بينهم فأصب بذلك من شئت ثم ضرب السادن القداح فخرج القدح
على عبد الله وأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة ثم أقبل به الى اساف ونائلة
فقامت اليه قريش من أنديتها وقالوا ما تريد أن تصنع قال أذبحه قالوا لا
ندعك أن تذبحه حتى تعذر فيه الى ربك ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل بأتى
بابنه فيذبحه ويكون سنة وقالوا له انطلق الى
(1/182)
فلانة الكاهنة بالحجاز ذكر الحافظ عبد
الغنى أن اسمها قطبة وذكر ابن اسحاق ان اسمها سجاح فقالوا لعلها أن تأمرك
بأمر فيه فرج لك فانطلقوا حتى أتوها بخيبر فقص عليها عبد المطلب القصة
فقالت لهم كم الدية فيكم قالوا عشرة من الابل قالت فارجعوا الى بلادكم ثم
قربوا صاحبكم وقرّبوا عشرة من الابل ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح فان
خرجت على صاحبكم فزيدوا فى الابل ثم اضربوا أيضا وهكذا حتى يرضى ربكم فاذا
خرجت على الابل فانحروها فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم فرجع القوم الى مكة
فقرّبوا عبد الله وعشرة من الابل فخرجت على عبد الله فزادوا عشرة فخرجت على
عبد الله فلم يزالوا يزيدون عشرا عشرا الى أن جعلوها مائة فخرجت على الابل
فقالوا قد رضى ربكم فقال عبد المطلب لا والله حتى أضرب عليها وعليه ثلاث
مرات ففعل فخرجت على الابل ففداه بمائة من الابل ولذلك صارت الدية مائة من
الابل* وفى سيرة مغلطاى أوّل من سنّ الدية عبد المطلب وقيل القلمس وقيل أبو
سيارة انتهى فنحرت ثم تركت لا يصدّ عنها انسان ولا طائر ولا سبع ثم انصرف
عبد المطلب بابنه ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ابن الذبيحين
كما ذكره الزمخشرى فى الكشاف وعند الحاكم فى المستدرك قال أعرابى يا رسول
الله عد علىّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين فتبسم رسول الله صلّى
الله عليه وسلم ولم ينكر عليه والمراد بالذبيحين عبد الله واسماعيل اذ عرضا
على الذبح* وذهب بعض العلماء الى أن الذبيح اسحاق فان صح هذا فالعرب تجعل
العمّ أبا كذا فى المواهب اللدنية* وقد استشكل بعض الناس ان عبد المطلب نذر
نحر أحد بنيه اذا بلغوا عشرا وقد كان تزوّج هالة أمّ ابنه حمزة بعد وفائه
بنذره فحمزة والعباس انما ولدا بعد الوفاء بنذره وانما كان أولاده عشرة*
قال السهيلى ولا اشكال فى هذا فان جماعة من العلماء قالوا كان أعمام النبىّ
صلّى الله عليه وسلم اثنى عشر فان صح هذا فلا اشكال فى الخبر وان صح قول من
قال كانوا عشرة لا يزيدون فالولد يقع على البنين وبينهم حقيقة لا مجازا
وكان عبد المطلب قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين وفى بنذره
ويقع أيضا فى بعض السير أن عبد الله أصغر بنى أبيه عبد المطلب كذا قاله ابن
اسحاق وهو غير معروف ولعل الرواية أصغر بنى أمه والا فحمزة كان أصغر من عبد
الله والعباس أصغر من حمزة كذا فى سيرة مغلطاى* وروى عن العباس أنه قال
أذكر مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها
فجىء به حتى نظرت اليه وجعل النسوة يقلن لى قبل أخاك فقبلته فكيف يصح أن
يكون عبد الله هو الاصغر ولكن رواه البكائى ولروايته وجه وهو أن يكون أصغر
ولد أبيه حين أراد نحره ثم ولد له بعد ذلك حمزة والعباس انتهى وهذا أيضا
على تقدير أن يكون أولاد عبد المطلب اثنى عشر*
(ذكر تزوّج عبد الله آمنة)
* روى أنه خرج عبد الله يوما الى قنصه وقد قدم عليه تسعون رجلا من أحبار
يهود الشام معهم السيوف المسمومة يريدون أن يغتالوه ويقتلوه وكان وهب بن
عبد مناف أبو آمنة صاحب قنص أيضا* قال فلما نظرت الى الاحبار قد أحدقوا
بعبد الله وعبد الله يومئذ وحده تقدّمت اليه لاعينه عليهم فنظرت الى رجال
لا يشهون رجال الدنيا على خيل شهب قد حملوا على الاحبار حتى هزموهم عن عبد
الله فلما رآى ذلك وهب بن عبد مناف من عبد الله رغب فيه وقال لن يستقيم لا
بنتى آمنة زوج غير هذا وقد كان خطبها اشراف قريش وكانت آمنة تأبى ذلك وتقول
يا أبت لم يأن لى التزويج فرجع وهب الى أهله فأخبرها بما كان من عبد الله
وقال انه أجمل قريش واوسطهم نسبا وانى لا أحب لا بنتى آمنة زوجا غيره
فانطلقى اليه فأعرضى ابنتى عليه لعله يتزوّجها قال فانطلقت أمّ آمنة حتى
دخلت على عبد المطلب فعرضت عليه ابنتها فقال عبد المطلب لم يعرض علىّ امرأة
تستقيم لابنى غيرها فتزوّجها عبد الله فليلة بنى عبد الله بها لم تبق امرأة
فى قريش الا مرضت قال عبد الله بن عباس عن أبيه عباس ان ليلة بنى عبد الله
بآمنة أحصينا مائتى امرأة من بنى مخزوم
(1/183)
وعبد شمس وعبد مناف متن وخرجن من الدنيا
ولم يتزوّجن أسفا على ما فاتهنّ من عبد الله وكان عبد الله يوم تزوّجها ابن
ثلاثين سنة وقيل ابن خمس وعشرين سنة وقيل سبع عشرة ولم يذكر القول الاخير
فى الصفوة وذخائر العقبى* قال أبو عمرو وخرج أبوه عبد المطلب الى وهب بن
عبد مناف فزوّجه آمنة ابنة وهب وقيل كانت آمنة فى حجر عمها وهيب بن مناف
فأتاه عبد المطلب فخطب اليه ابنته هالة بنت وهيب لنفسه وخطب آمنة بنت وهب
لابنه عبد الله فتزوّجاهما فى مجلس واحد فولدت آمنة لعبد الله رسول الله
صلّى الله عليه وسلم وولدت هالة لعبد المطلب حمزة وصفية ولم يكن لآمنة أخ
ولا اخت فلذلك لم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خال ولا خالة وانما
بنو زهرة يقولون نحن اخواله لان أمّه آمنة منهم ولم يكن لعبد الله ولا
لآمنة ولد غيره صلّى الله عليه وسلم فلذلك لم يكن له أخ ولا اخت لكن كان له
ذلك من الرضاعة وسيأتى ذكرهم كذا فى ذخائر العقبى فأعطى الله آمنة من
الجمال والكمال ما كانت تدعى به حكيمة قومها فبقيت مع عبد الله مدّة سنين
لا يؤذن لنور رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج من عبد الله الى آمنة
وقد طالت الفترة وانقطع أخبار السماء واندرس ذكر النبوّة فلا أمير ينتجب
ولا رسول يصطفى برسالات ربه والارض مشوبة بالاصنام وقد نبذ الناس الطاعة
واقتدوا بالظلم والجهالة منهمكين فى عبادة الاوثان*
(ذكر قصة الخثعمية الكاهنة)
* فى الصفوة جرت لعبد الله قصة الخثعمية قبل حمل آمنة برسول الله صلّى الله
عليه وسلم عن ابى الفياض الخثعمى قال مرّ عبد الله بن عبد المطلب بامرأة من
خثعم يقال لها فاطمة بنت مرّة وكانت من أجمل النساء واشبهها وأعفها وكانت
قد قرأت الكتب فرأت نور النبوّة فى وجه عبد الله فقالت يا فتى من أنت
فأخبرها فقالت هل لك ان تقع علىّ وأعطيك مائة من الابل فنظر اليها وقال
أما الحرام فالممات دونه ... والحلّ لا حلّ فأستبينه
فكيف بالامر الذى تنوينه ... يحمى الكريم عرضه ودينه
ثم مضى الى امرأته آمنة فكان معها ثم ذكر الخثعمية وجمالها وما عرضت عليه
فأقبل اليها فلم ير منها من الاقبال عليه آخرا كما رأى منها أوّلا فقال هل
لك فيما قلت قالت* قد كان ذلك مرّة فاليوم لا* فذهبت مثلا قالت أى شىء صنعت
بعدى قال وقعت على زوجتى آمنة بنت وهب قالت انى والله لست بصاحبة ريبة
ولكنى رأيت نور النبوّة فى وجهك فأردت أن يكون ذلك فىّ وأبى الله الا أن
يجعله حيث جعله* وفى سيرة مغلطاى تعرّضت لعبد الله امرأة من بنى أسد اسمها
رقيقة ويقال قتيلة بنت نوفل تكنى أمّ قتال ويقال اسمها فاطمة بنت مرّة
ويقال ليلى العدوية ويقال امرأة من تبالة ويقال من خثعم ويقال كانت يهودية
قال أبو أحمد الحاكم كان سنّ عبد الله اذ ذاك ثلاثين سنة وفى المواهب
اللدنية وعند أبى نعيم والخرائطى وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس لما
خرج عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوّجه مرّ به على كاهنة من تبالة متهوّدة
قد قرأت الكتب يقال لها فاطمة بنت مرّة الخثعمية الى آخر ما ذكر* عن أبى
يزيد المدينى أن عبد الله لما مرّ بالخثعمية قالت له هل لك فىّ قال نعم حتى
أرمى الجمرة فانطلق فرمى الجمرة ثم أتى امرأته آمنة ثم ذكر الخثعمية فأتاها
فقالت هل أتيت امرأة بعدى قال نعم آمنة قالت فلا حاجة لى فيك انك مررت وبين
عينيك نور ساطع الى السماء فلما وقعت عليها ذهب فأخبرها أنها قد حملت بخير
أهل الارض* وفى المواهب اللدنية أيضا ولما انصرف عبد الله مع أبيه من نحر
الابل حين وفى بنذره مرّ على المرأة من بنى اسد بن عبد العزى وبنى عبد
الكعبة واسمها قتيلة بضم القاف وفتح المثناة الفوقية ويقال رقيقة بنت نوفل
أخت ورقة بن نوفل فقالت له حين نظرت الى وجهه وكان أحسن رجل فى قريش لك مثل
الابل التى
(1/184)
نحرت عنك وقع علىّ الآن لما رأت فى وجهه من
نور النبوّة ورجت أن تحمل بهذا النبىّ الكريم صلّى الله عليه وسلم فقال لها
أنا مع أبى ولا أستطيع خلافه ولا فراقه وقيل أجابها بقوله* أما الحرام
فالممات دونه* والحلّ لا حلّ فاستبينه* فكيف بالامر الذى تبغينه* يحمى
الكريم عرضه ودينه* كما مرّ*
(ذكر حمل آمنة برسول الله صلّى الله عليه وسلم)
* فلما كانت الليلة التى أذن الله عز وجل للنور المحمدى أن يخرج من عبد
الله الى آمنة اهتزت الملائكة فرحا وذلك ليلة الجمعة فى شعب أبى طالب عند
الجمرة الوسطى كذا فى المنتقى* وفى سيرة اليعمرى حملت به آمنة فى أيام
التشريق عند الجمرة الوسطى انتهى وفى المواهب اللدنية زعموا أنه وقع عليها
يوم الاثنين أيام منى فى شعب أبى طالب عند الجمرة الوسطى قال أبو أحمد
الحاكم كان سنه اذ ذاك ثلاثين سنة وكذا فى سيرة مغلطاى فحملت برسول الله
صلّى الله عليه وسلم وأمر الله خازن الجنة أن يفتح أبواب الجنان تعظيما
لنور محمد صلّى الله عليه وسلم وهبط جبريل بلوائه الاخضر ونصبه على ظهر
الكعبة* وفى المواهب اللدنية ولما حملت آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم
ظهر لحمله عجائب ووجد لايجاده غرائب فذكروا أنه لما استقرّت نطفته الزكية
ودرّته المحمدية فى صدفة آمنة القرشية نودى فى الملكوت ومعالم الجبروت أن
عطروا جوامع القدس الاسنى وبخروا جهات الشرف الاعلى وافرشوا سجادات
العبادات فى صفف الصفاء لصوفية الملائكة المقرّبين أهل الصدق والوفاء فقد
انتقل النور المكنون الى بطن آمنة ذات العقل الباهر والفخر المصون قد خصها
الله تعالى القريب المجيب بهذا الصدر المصطفى الحبيب لانها أفضل قومها حسبا
وأنجب وأزكاهم أصلا وفرعا وأطيب* وقال سهل بن عبد الله التسترى فيما رواه
الخطيب البغدادى الحافظ لما أراد الله خلق محمد صلّى الله عليه وسلم فى بطن
أمه آمنة ليلة رجب وكانت ليلة جمعة أمر الله تعالى تلك الليلة خازن الجنان
أن يفتح الفردوس ونادى مناد فى السموات والارض ألا انّ النور المخزون الذى
يكون منه النبىّ الهادى فى هذه الليلة يستقرّ فى بطن أمّه الذى فيه يتمّ
خلقه ويخرج الى الناس بشيرا ونذيرا* وفى رواية كعب الاحبار أنه نودى تلك
الليلة فى السماء وصفاحها والارض وبقاعها أن النور المكنون الذى منه رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يستقرّ الليلة فى بطن أمه فيا طوبى لها ثم يا
طوبى لها قوله طوبى الطيب والحسنى والخير والخيرة قاله فى القاموس* وقال
غيره فرح وقرّة عين* وقال الضحاك عطية* وقال عكرمة نعم وفى الحديث طوبى
لاهل الشام فان الملائكة باسطة أجنحتها عليها فالمراد بها هنا فعلى من
الطيب وغيره مما ذكرنا لا الجنة ولا الشجرة ويحتمل أن يفسر بالجنة* فأصبحت
يومئذ أصنام الدنيا منكوسة وكانت قريش فى جدب شديد وضيق عظيم فاخضرّت الارض
وحملت الاشجار وأتاهم الرفد من كل جانب فسميت تلك السنة التى حمل فيها
برسول الله صلّى الله عليه وسلم سنة الفتح والابتهاج وكان قد أذن الله تلك
السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة لمحمد صلّى الله عليه وسلم وأصبح
عرش ابليس لعنه الله منكوسا والملك على رأسه يغطسه فى مضيق البحار أربعين
صباحا فانقلب أسود محترقا* وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس قال كان من دلالات
حمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان كل دابة فى قريش نطقت تلك الليلة
باذن الله عز اسمه وقالت حمل بمحمد* وفى رواية برسول الله صلّى الله عليه
وسلم ورب الكعبة وهو أمان الارض وسراجها* وفى المواهب اللدنية وهو أمان
الدنيا وسراج أهلها ولم تبق كاهنة فى قريش ولا فى قبيلة من قبائل العرب الا
علمت بحمله ولم يبق سرير لملك من ملوك الارض الا أصبح منكوسا ومرّت وحوش
المشرق الى وحوش المغرب بالبشارات وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضا وله فى
كل شهر من شهور حمله نداء فى الارض ونداء فى السماء أن ابشروا فقد آن أن
(1/185)
يظهر أبو القاسم صلّى الله عليه وسلم
ميمونا مباركا انتهى كلام المواهب اللدنية وكلت ألسنة الملوك حتى لم يقدروا
فى ذلك اليوم على التكلم* وفى الصفوة روى عن يزيد بن عبد الله بن وهب بن
زمعة عن عمته قالت كنا نسمع أن آمنة لما حملت برسول الله صلّى الله عليه
وسلم كانت تقول ما شعرت أنى حملت ولا وجدت له ثقلا ولا وحما كما تحد النساء
الا انى أنكرت رفع حيضتى وأتانى آت وأنا بين النوم واليقظة أو قالت بين
النائمة واليقظانة فقال هل شعرت بأنك حملت فكأنى أقول ما أدرى قال انك حملت
بسيد هذه الامة ونبيها كذا ذكر ابن اسحاق فى كتاب المغازى* وفى رواية بسيد
الانام قالت وذلك يوم الاثنين فكان ذلك مما يقن أو حقق عندى الحمل تم
أمهلنى حتى اذا دنا وقت ولادتى أتانى ذلك الآتى فقال قولى أعيذه بالصمد
الواحد من شرّ كل حاسد وفى المواهب اللدنية بغير لفظ الصمد ثم سميه محمدا
قالت فكنت أقول ذلك فذكرت ذلك لنسائى فقلن لى تعلقى حديدا فى عضديك وفى
عنقك قالت ففعلت فلم ينزل علىّ أياما فأجده قد قطع فكنت لا أتعلقه وعن أبى
جعفر محمد بن علىّ قال أمرت آمنة وهى حامل برسول الله صلّى الله عليه وسلم
أن تسميه أحمد* وفى رواية عن ابن اسحاق سميه محمدا وعلقى عليه هذه التميمة
قالت فانتبهت وعند رأسى صحيفة من ذهب مكتوب فيها هذه النسخة
أعيذه بالواحد من شرّ كل حاسد وكل خلق رائد من قائم وقاعد عن السبيل حائد
على الفساد جاهد من نافث أو عاقد وكل خلق مارد يأخذ بالمراصد فى طرق
الموارد
قال الحافظ عبد الرحيم العراقى هكذا ذكر هذه الابيات بعض أهل السير وجعلها
من حديث ابن عباس ولا أصل لها كذا فى المواهب اللدنية وفى رواية أبى نعيم
من حديث ابن عباس قال كانت آمنة تحدّث وتقول أتانى آت حين مرّ من حملى ستة
أشهر فى المنام وقال لى يا آمنة انك حملت بخير العالمين فاذا ولدتيه فسميه
محمدا واكتمى شأنك فاذا وقع على الارض فقولى أعيذه بالواحد من شرّ كل حاسد
فى كل برّ غامد وكل عبد رائد حتى أراه قد أتى المشاهد وان آية ذلك أن يخرج
معه نور يتلألأ يملأ قصور بصرى من أرض الشام فاذا وقع فسميه محمدا وان اسمه
فى التوراة والانجيل أحمد يحمده أهل السماء وأهل الارض واسمه فى القرآن
محمد فسميه بذلك* وفى مورد اللطافة وسيرة مغلطاى ولما شاع قبل ولادته أن
نبيا اسمه محمد هذا ابان ظهوره سمى جماعة زها خمسة عشر أبناءهم محمدا رجاء
أن يكون هو منهم محمد بن سفيان بن مجاشع ومحمد بن احيحة بن الجلاح ومحمد بن
حمران ومحمد بن مسلمة الانصارى وفيه نظر ومحمد بن براء البكرى ومحمد بن
خزاعى السلمى ومحمد بن عدى ابن ربيعة بن سعد المنقرى ومحمد بن عثمان بن
ربيعة السعدى وأظنهما واحدا ومحمد الاسدى ومحمد الفقيمى ومحمد بن عتوارة
الليثى ومحمد بن حرمان العمرى ومحمد بن خولى الهمدانى ومحمد بن يزيد بن
ربيعة ومحمد بن أسامة بن مالك فقالت أمه والله لقد رأيت فى النوم وهو فى
بطنى أنه خرج منى نور أضاءت منه قصور الشام وقالت لقد علقت فما وجدت له
مشقة حتى وضعته وفى المواهب اللدنية واختلف فى مدّة الحمل به فقيل تسعة
أشهر وقيل عشرة وقيل ثمانية وقيل سبعة وقيل ستة* ومن وقائع مدّة حمله وفاة
عبد الله أبى النبىّ صلّى الله عليه وسلم* وفى اسد الغابة لابن الاثير توفى
أبوه عبد الله وأمه حامل به وفى المواهب اللدنية ولما تم لها من حملها
شهران وقيل قبل ولادته بشهرين كذا فى سيرة مغلطاى توفى عبد الله وقيل توفى
وهو فى المهد قاله الدولابى وعن أبى خيثمة وهو ابن شهرين وقيل وهو ابن سبعة
أشهر وقيل وهو ابن ثمانية وعشرين شهرا وكذا فى سيرة اليعمرى والراجح
المشهور هو الاوّل انتهى ويؤيد كونه فى المهد الرجز المنقول عن عبد المطلب
حين توفى قال لابى طالب
أوصيك يا عبد مناف بعدى ... بموتم وهو ضجيع المهد
(1/186)
وذكر أهل السيران آمنة بنت وهب لم تحمل
حملا ولا ولدت ولدا غيره وكذا أبوه عبد الله لم يبلغنا انه ولد له ولد غيره
صلّى الله عليه وسلم وفى الصفوة قال محمد بن كعب خرج عبد الله بن عبد
المطلب الى الشام فى تجارة مع جماعة من قريش فلما رجعوا مرّوا بالمدينة
وعبد الله كان مريضا فتخلف بالمدينة عند أخواله بنى عدى بن النجار فأقام
عندهم مريضا شهرا ومضى أصحابه وقدموا مكة فأخبروا عبد المطلب فبعث اليه
ولده الحارث أو الزبير على قول ابن الاثير فوجده قد توفى ودفن فى دار
النابغة وهو رجل من بنى عدى* وفى المواهب اللدنية دفن بالابواء فرجع الحارث
الى مكة فأخبر أباه فوجد عليه وجدا شديدا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم
يومئذ حمل وقيل بعثه عبد المطلب الى يثرب يمتار له تمرا منها فتوفى بها
ولعبد الله يوم توفى خمس وعشرون سنة وقيل غير ذلك وقالت آمنة زوجته ترثيه
عفا جانب البطحاء من آل هاشم ... وجاور لحدا خارجا فى الغماغم
دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت فى الناس مثل ابن هاشم
عشية راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه فى التزاحم
فان يك غالته المنايا وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم
ولما توفى عبد الله قالت الملائكة الهنا وسيدنا بقى نبيك يتيما فقال الله
أناله حافظ ونصير* وفى بعض الكتب لما مات أبوه وصف فى السماء باليتيم وأعلى
اليتم ما توفى الوالد والولد فى بطن الامّ فقالت الملائكة الهنا وسيدنا صار
نبيك بلا أب فبقى من غير حافظ ومرب قال الله تعالى أنا وليه وحافظه وحاميه
وربه وعونه ورازقه وكافيه فصلوا عليه وتبركوا باسمه وسيجىء وفاة أمّه فى
الباب الاوّل من الركن الاوّل وترك عبد الله جارية يقال لها أم أيمن بركة
الحبشية بنت ثعلب بن حصين بن مالك غلبت عليها كنيتها وكنيت باسم ابنها أيمن
الحبشى ماتت فى خلافة عثمان وخمسة أجمال وقطيع غنم فورث ذلك النبىّ صلّى
الله عليه وسلم وكانت أمّ أيمن تحضنه* ومن حوادث مدّة حمله قصة أصحاب الفيل
من بركة الحمل به وقرب أوان وضعه أهلك الله أصحاب الفيل وجعل كيدهم فى
تضليل فيها دلالة ظاهرة على قدرة الله تعالى وعزة نبيه وشرف رسوله صلّى
الله عليه وسلم فانها من الارهاصات اذروى أنها وقعت فى السنة التى ولد فيها
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسبحان من خصه بأعظم الفضائل وميزه عن خلقه
بأكرم الخصائل وشرّفه ورفع قدره وكرمه وشرح صدره وجعل كل حال من أحواله آية
باهرة وكل طور من أطواره معجزة ظاهرة صلوات الله تعالى وسلامه عليه وزاده
فضلا وكرما وشرفا لديه* قال الامام فخر الدين الرازى مذهبنا أنه يجوز تقديم
المعجزات على زمان البعثة تأسيسا وارهاصا ولذلك كانت الغمامة تظله عليه
السلام يعنى قبل البعثة وخالفه السيد الشريف تبعا لغيره فاشترط فى المعجزة
أن لا تتقدّم على الدعوى بل تكون مقارنة لها فما وقع من الخوارق قبل دعوى
الرسالة فانها ليست بمعجزات انما هى كرامات ظهورها على الاولياء جائز
والانبياء قبل نبوّتهم لا يقصرون عن درجة الاولياء فيجوز ظهورها عليهم أيضا
وحينئذ تسمى ارهاصا أى تأسيسا للنبوّة صرّح به العلامة السيد الجرجانى فى
شرح المواقف وغيره وهو مذهب جمهور أئمة الاصول وغيرهم (فان قلت) الحجاج خرب
الكعبة ولم يحدث شىء مثل ما حدث لا برهة من البلاء (الجواب) أن ذلك وقع
ارهاصا لامر نبينا صلّى الله عليه وسلم والارهاص انما يحتاج اليه قبل قدومه
عليه السلام فلما ظهر وتأكدت نبوّته بالدلائل القطعية لا حاجة الى شىء من
ذلك والله أعلم كذا فى المواهب اللدنية روى انه لما كان المحرّم سنة ثلاث
وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذى القرنين وكان قد مضى من ملك كسرى أنوشروان
اثنتان وأربعون سنة وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم حملا فى بطن أمه حضر
ابرهة
(1/187)
ابن الصباح الاشرم يريد هدم الكعبة*
قصة أصحاب الفيل
وقصته أنه لما غلب على اليمن وملكها من قبل أصحمة النجاشى رأى الناس
يتجهزون أيام الموسم للحج فسأل أين تذهب الناس قالوا يحجون بيت الله بمكة
قال ومم هو قيل من الحجارة قال والمسيح لأبنين لكم خيرا منه فبنى لهم كنيسة
بصنعاء اليمن وسماها القليس عملها بالرخام الابيض والاحمر والاسود والاصفر
وحلاها بالذهب والفضة وأنواع الجواهر* وفى حياة الحيوان سميت بقليس لارتفاع
بنائها وكلفهم فيها أنواع السخر ونقل اليها الرخام المجزع والحجارة
المنقوشة بالذهب والفضة من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام وكان من
موضع هذه الكنيسة على فراسخ ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة ومنابر من
العاج وغيره انتهى فلما أراد أن يصرف اليها الحاج كتب الى النجاشى انى بنيت
كنيسة باسم الملك لم يكن مثلها قبلها واريد أن أصرف اليها حج العرب وأمنع
الناس من الذهاب الى مكة* ولما اشتهر هذا الخبر بين العرب خرج رجل من كنانة
متعصبا ففعد فيها فأغضبه ذلك وهو قول ابن عباس وقيل أججت رفقة من العرب
نارا وكان فى عمارة القليس خشب مموّه فحملتها الريح اليها فأحرقتها فحلف
ليهد منّ الكعبة وهو قول مقاتل وسيجىء وقيل كان نفيل الخثعمى يتعرّض لها
بالمكروه فأمهل حتى كان ليلة من الليالى ولم ير أحدا يتحرّك فجاء بعذرة
فلطخ بها قبلتها وجمع جيفا فألقاها فيها فأخبر أبرهة بذلك فغضب غضبا شديدا
وقال انما فعلت هذه العرب تعصبا لبيتهم لا نقضنه حجرا حجرا وكتب الى
النجاشى يخبره بذلك وسأله أن يبعث اليه بفيله محمود وكان فيلا أبيض عظيما
قويا لم ير فى الارض مثله فلما قدم الفيل الى أبرهة خرج بالجيش العظيم ومعه
اثنا عشر فيلا غيره وقيل عشرة وقيل ثمانية وقيل كانوا ألف فيل وقيل كان
وحده* وفى تفسير النهر لابى حيان أصحاب الفيل أبرهة بن الصباح الحبشى ومن
كان معه من جنوده والظاهر أنه فيل واحد وكان العسكر ستين ألفا لم يرجع أحد
منهم الا أميرهم فى شرذمة قليلة فلما أخبروا بما رأوا هلكوا* وفى سيرة ابن
هشام فسمعت العرب بخروج أبرهة لتخريب البيت فأعظموه وفظعوا به ورأوا جهاده
حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام وكان يخرج اليه
كل من كان له قوّة واستطاعة فى الحرب فخرج اليه رجل كان من أشراف اليمن
وملوكهم يقال له ذو نفر فى قومه ومن أجابه من سائر العرب ثم عرض له فقاتله
فهزم ذو نفر وأصحابه وأخذ ذو نفر وأتى به أسيرا فأراد قتله ثم تركه وحبسه
عنده فى وثاق وكان ابرهة رجلا حليما ثم مضى ابرهة فى وجهه حتى اذا كان بأرض
خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمى فى قبيلتى خثعم شهران وناهش ومن تبعه من
قبائل العرب فقاتله فهزمه ابرهة وأخذ نفيل أسيرا فلما همّ بقتله قال له
نفيل أيها الملك لا تقتلنى فانى دليلك بأرض العرب فخلى سبيله وخرج به معه
يدله حتى اذا مرّ بالطائف خرج اليه مسعود بن معتب بن مالك الثقفى فى رجال
من ثقيف فقال له أيها الملك انما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا
خلاف وليس بيتنا هذا البيت الذى تريد يعنون اللات انما تريد البيت الذى
بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم واللات بيت لهم بالطائف كانوا
يعظمونه نحو تعظيم الكعبة فبعثوا معه أبارغال يدله على الطريق الى مكة فخرج
ابرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس بفتح الميم الثانية وتشديدها وقيل
بكسرها قيل هو على ثلثى فراسخ من مكة بطريق الطائف فمات هناك أبو رغال فدفن
فيه فرجمت العرب قبره فهو القبر الذى يرحمه الناس بالمغمس الى اليوم ودفن
معه غصنان من ذهب وذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّ بالقبر فى
غزوة الطائف فأمر باستخراج الغصنين منه فاستخرجا وسيجىء فى غزوة الطائف*
وروى أبو علىّ بن السكن فى سننه الصحاح أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان
اذا كان بمكة وأراد أن يقضى حاجة الانسان خرج
(1/188)
الى المغمس فلما نزل ابرهة المغمس بعث رجلا
من الحبشة يقال له الاسود بن مقصود على خيل له وأمره بالغارة على الناس
فمضى حتى انتهى الى مكة فساق اليه أموال أهل تهامة وغيرهم فأصاب فيها مائتى
بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها وفى المواهب اللدنية
فاستاق ابل قريش وغنمها وكان لعبد المطلب فيها اربعمائة ناقة فركب عبد
المطلب فى قريش حتى طلع جبل ثبير فاستدارت دائرة غرّة رسول الله صلّى الله
عليه وسلم على جبينه كالهلال واشتدّ شعاعها على البيت الحرام مثل السراج
فلما نظر عبد المطلب الى ذلك قال يا معشر قريش ارجعوا فقد كفيتم هذا الامر
فو الله ما استدار هذا النور منى الا أن يكون الظفر لنا فرجعوا متفرّقين
وهمّ أهل الحرم بقتاله ثم عرفوا ان لا طاقة لهم به فتركوه* وفى سيرة ابن
هشام قال ابن اسحاق فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم لقتاله ثم
عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك وبعث ابرهة حناطة الحميرى الى مكة
وقال له سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ثم قل له ان الملك يقول انى لم آت
لحربكم انما جئت لهدم هذا البيت فان لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لى
بدمائكم فان هو لم يرد حربى فأتنى به فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش
وشريفها فقيل له عبد المطلب بن هاشم فجاءه فقال له ما أمر به ابرهة فقال له
عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة فقال له حناطة فانطلق
اليه فانه أمرنى أن آتيه بك* وفى المواهب اللدنية روى أن رسول ابرهة لما
دخل الى مكة ونظر الى وجه عبد المطلب خضع وتلجلج لسانه وخرّ مغشيا عليه
فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه فلما أفاق خرّ ساجدا لعبد المطلب وقال
أشهد انك سيد قريش* قال ابن اسحاق ثم انطلق مع حناطة عبد المطلب ومعه بعض
بنيه فكلم أنيس سائس الفيل ابرهة فقال أيها الملك هذا سيد قريش ببابك
يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة وهو يطعم الناس فى السهل والوحوش والطيور فى
رؤس الجبال قال فأذن له ابرهة وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم
فلما رآه ابرهة عظم فى عينه فأجله وأكرمه عن أن يجلس تحته وكره أن تراه
الحبشة يجلسه معه على سريرة لمكه فنزل ابرهة عن سريره وجلس على بساطه
وأجلسه معه الى جنبه ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك فقال له ذلك الترجمان
فقال حاجتى أن يردّ علىّ الملك مائتى بعير لى أصابها فلما قال له ذلك قال
ابرهة لترجمانه قل له كنت أعجبتنى حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتنى
أتكلمنى فى مائتى بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت
لهدمه لا تكلمنى فيه قال عبد المطلب أنا رب الابل وان للبيت ربا سيمنعه قال
ما كان ليمتنع منى قال أنت وذاك وكان فيما يزعم بعض أهل العلم قد ذهب مع
عبد المطلب الى ابرهة حين بعث اليه حناطة يعمر بن تبالة بن عدى بن الديل بن
بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد بنى بكر وخويلد بن واثلة الهذلى
وهو يومئذ سيد هذيل فعرضوا على ابرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا
يهدم البيت فأبى عليهم فالله أعلم أكان ذلك أم لا* وفى المواهب اللدنية روى
أنه لما حضر عبد المطلب عند أبرهة أمر سائس فيله الابيض العظيم الذى كان لا
يسجد للملك ابرهة كما تسجد سائر الفيلة أن يحضره بين يديه فلما نظر الفيل
الى وجه عبد المطلب برك كما يبرك البعير وخرّ ساجدا وأنطق الله الفيل فقال
السلام على النور الذى فى ظهرك يا عبد المطلب فى ظاهر قوله فاستدارت غرة
نور رسول الله صلّى الله عليه وسلم على جبين عبد المطلب كالهلال الى آخره
وقوله أنطق الله الفيل فقال السلام على النور الذى فى ظهرك يا عبد المطلب
نظر لان عبد الله حينئذ كان موجودا فيكون النور منتقلا اليه وفى سيرة ابن
هشام عن ابن اسحاق فردّ أبرهة على عبد المطلب الابل التى أصاب له فلما
انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب الى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من
مكة والتحرّز فى شعف
(1/189)
الجبال والشعاب تخوّفا عليهم من معرة الجيش
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله
ويستنصرونه على ابرهة وجنده فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة الباب
لا همّ ان العبد يمنع رحله فامنع حلالك* لا يغلبنّ صليبهم* ومحالهم عدوا
محالك
قال ابن هشام هذا ما صح لى منها وزاد غيره
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك* جروا جموع بلادهم* والفيل كى يسبوا
عيالك عمدوا حماك بكيدهم* جهلا وما رقبوا جلالك* ان كنت تاركهم وكعبتنا
فأمر ما بدالك
غيره
يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا
ان عدوّ البيت من عاداكا ... فامنعهم أن يخربوا قراكا
العرب تحذف الالف واللام من اللهم وتكتفى بما بقى والحلال متاع البيت وأراد
به سكان الحرم والمحال الكيد والقوّة كذا فى حياة الحيوان* روى أنه لما
التفت عبد المطلب وهو يدعو فاذا هو بطير من نحو اليمن فقال والله انها لطير
غريبة ما هى بنجدية ولا تهامية* قال ابن اسحاق ثم أرسل حلقة باب الكعبة
وانطلق هو ومن معه من قريش الى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة
فاعل بمكة اذا دخلها فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبى جيشه
وكان اسم الفيل محمودا وأبرهة مجمع لهدم الكعبة ثم الانصراف الى اليمن فلما
وجهوا الفيل الى مكة أقبل نفيل بن حبيب قال السهيلى نفيل بن عبد الله بن
جزء بن عامر بن مالك حتى قام الى جنب الفيل ثم أخذ باذنه فقال له ابرك
محمودا وارجع راشدا من حيث جئت فانك فى بلد الله الحرام ثم أرسل اذنه فبرك
الفيل وخرج نفيل ابن حبيب يشتدّ حتى أصعد فى الجبل وضربوا الفيل ليقوم فأبى
فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى فأدخلوا محاجن لهم فى مراقه فنزغوه بها
ليقوم فأبى فوجهوه راجعا الى اليمن فقام يهرول ووجهوه الى الشام ففعل مثل
ذلك ووجهوه الى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه الى مكة فبرك قال أمية ابن
الصلت
ان آيات ربنا بينات ... ما يمارى بهنّ الا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظلّ يحبو كأنه معقور
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف قاله ابن اسحاق وقال ابن
عباس كانت لهم خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب وقال عكرمة كانت لهم
رؤس كرؤس السباع واختلفوا فى ألوانها على ثلاثة أقوال أحدها انها كانت خضرا
قاله عكرمة وسعيد بن جبير والثانى سودا قاله عبيد بن عمير والثالث بيضا
قاله قتادة كذا فى زاد المسير فى علم التفسير لابن الجوزى مع كل طائر منها
ثلاثة أحجار تحملها حجر فى منقاره وحجران فى رجليه أمثال الحمص والعدس وفى
أنوار التنزيل وغيره أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة* عن ابن عباس أنه رأى
منها عند أم هانى نحو قفيز مخططة كالجزع الظفارى فرمتهم بها وكان الحجر يقع
على رأس الرجل فيخرج من دبره وان كان راكبا يخرج من أسفل مركبه فيهلكان
جميعا فلا يصيب منهم أحدا الا هلك وعلى كل حجر اسم من يقع عليه وليس كلهم
أصيب وخرجوا هاربين يتبدرون الطريق الذى منه جاؤا ويسألون نفيل بن حبيب
ليدلهم على الطريق الى اليمن فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته
أين المفرّ والاله الطالب ... والاشرم المغلوب ليس الغالب
قوله ليس الغالب من غير رواية ابن اسحاق قال ابن اسحاق وقال نفيل أيضا
(1/190)
ألا حييت عنا ياردينا ... نعمناكم مع
الاصباح عينا
أتانا قابس منكم عشاء ... فلم يقدر لقابسكم لدينا
ردينة لو رأيت ولا تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا
اذ العذرتنى وحمدت أمرى ... ولم تأس على ما فات بينا
حمدت الله اذ أبصرت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل ... كأنّ علىّ للحبشان دينا
فخرجوا بكل طريق يتساقطون ويهلكون على كل منهل وفى تفسير زاد المسير لابن
الجوزى ثم ان عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر الى القوم فرجع
يركض ويقول هلك القوم وخرج عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم انتهى وأصيب
ابرهة فى جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة كلما سقطت منه أنملة
اتبعتها منه مدّة تمت قيحا ودما* وفى المواهب اللدنية وأصيب أبرهة فى جسده
بداء فتساقط أنامله أنملة أنملة وسال منه الصديد والقيح والدم وفى الكشاف
ودوى أبرهة أى مرض فتساقطت أنامله وآرابه غضوا عضوا حتى قدموا به صنعا وهو
مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون وفى زاد المسير
انصدع صدره قطعتين عن قلبه فهلك وعن عكرمة ما أصابته جدرية وهو أوّل جدرىّ
ظهر قال ابن اسحاق وحدّثنى يعقوب بن عتبة انه حدث ان أوّل ما رؤيت الحصبة
والجدرى بأرض العرب ذلك العام وانه أوّل ما رؤى بها مرائر الشجر الحرمل
والحنظل والعشر ذلك العام وفى الكشاف والمدارك وانفلت وزيره أبو يكسوم وفى
سيرة ابن هشام كان أبرهة يكنى أبا يكسوم قاله ابن اسحاق وفى تفسير أبى
الليث السمرقندى كنية أبرهة أبو يكسوم واسم الفيل محمود وكنيته أبو العباس
وفى زاد المسير أبو يكسوم من كبراء أصحاب النجاشى قاله مقاتل وقيل كان
أبرهة صاحب جيشه وقيل وزيره فسار أبو يكسوم وطائر يحلق فوق رأسه وهو لا
يشعر به حتى بلغ النجاشى فأخبره بما أصابهم فلما أتمّ كلامه رماه الطائر
فوقع عليه الحجر فخرّ ميتا فأرى النجاشى كيف كان هلاك أصحابه وفى معالم
التنزيل وزعم مقاتل بن سليمان ان السبب الذى جرّ أصحاب الفيل ان فتية من
قريش خرجوا تجارا الى أرض النجاشى فدنوا من ساحل البحر وثمة بيعة للنصارى
تسميها قريش الهيكل فنزلوا فأججوا نارا فاشتووا فلما ارتحلوا تركوا النار
كما هى فى يوم عاصف فهاجت الريح فاضطرم الهيكل نارا فانطلق الصريخ الى
النجاشى فأسف غضبا للبيعة فبعث أبرهة لهدم الكعبة وقال فيه انه كان بمكة
يومئذ أبو مسعود الثقفى وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة وكان
رجلا نبيها نبيلا تستقيم الامور برأيه وكان خليلا لعبد المطلب فقال له عبد
المطلب ماذا عندك هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك فقال أبو مسعود لعبد
المطلب اعمد الى مائة من الابل فاجعلها لله فقلدها نعلا ثم ابثثها فى الحرم
لعل بعض هذه السودان يعقر منها فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم ففعل ذلك عبد
المطلب فعمد القوم الى تلك الابل فحملوا عليها وعقروا بعضها وجعل عبد
المطلب يدعو فقال أبو مسعود ان لهذا البيت ربا يمنعه فقد نزل تبع ملك اليمن
صحن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام فلما
رأى تبع ذلك كساه القباطى البيض وعظمه ونحر له جزورا فانظر نحو البحر فنظر
عبد المطلب فقال أرى طيرا بيضا نشأت من شاطئ البحر فقال ارمقها ببصرك أين
قرارها قال أراها تدارأت على رؤسنا قال هل تعرفها قال والله ما أعرفها وما
هى بنجدية ولا تهامية ولا عربية ولا شامية قال ما قدّها قال أشباه اليعاسيب
فى سناقيرها حصى كأنها حصى الخذف قد أقبلت كالليل يكسع بعضها بعضا أمام كل
رفقة طير يقودها أحمر المنقار
(1/191)
أسود الرأس طويل العنق فجاءت حتى اذا حاذت
معسكر القوم ركدت فوق رؤسهم فلما توافت الرجال كلها أهالت الطير ما فى
مناقيرها على من تحتها مكتوب فى كل حجر اسم صاحبه ثم انها انصاغت راجعة من
حيث جاءت فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل فمشيا ربوة فلم يؤنسا أحدا ثم
دنوا ربوة فلم يسمعا حسا فقال بات القوم سامدين فأصبحوا نياما فلما دنوا من
عسكر القوم فاذاهم خامدون فكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع
فى دماغه ويخرق الفيل والداية ويغيب الحجر فى الارض من شدّة وقعه فعمد عبد
المطلب فأخذ فأسا من فوسهم فحفر حتى أعمق فى الارض فملأه من الذهب الاحمر
والجواهر وحفر لصاحبه فلأه ثم قال لابى مسعود هات فاختران شئت حفرتى وان
شئت حفرتك وان شئت فهما لك معا* فقال أبو مسعود اخترلى على نفسك فقال عبد
المطلب انى لم أك اجعل أجود المتاع الا فى حفرتى فهو لك وجلس كل واحد منهما
على حفرته ونادى عبد المطلب فى الناس فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا
به ذرعا وساد عبد المطلب بذلك قريشا وأعطته المقادة فلم يزل عبد المطلب
وأبو مسعود فى أهليهما فى غنى من ذلك المال ودفع الله عن كعبته* واختلفوا
فى تاريخ عام الفيل فقال مقاتل كان قبل مولد النبىّ صلّى الله عليه وسلم
بأربعين سنة* وقال الكلبى بثلاث وعشرين سنة والاكثرون على انه كان فى العام
الذى ولد فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى كلام معالم التنزيل* وفى
الكشاف ان أهل مكة احتووا على أموالهم والى هذه القصة أشار النبىّ صلّى
الله عليه وسلم بقوله ان الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين
قيل كان أبرهة هذا جدّ النجاشى الذى كان فى زمن النبىّ صلّى الله عليه وسلم
وكان مولد النبىّ صلّى الله عليه وسلم بعد هلاك أصحاب الفيل بخمسين يوما
وقيل غير ذلك كما سيجىء فى تاريخ ولادته فى الركن الاوّل* وعن عائشة رضى
الله عنها قالت رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان* روى
أنه أرسل الله سيلا فذهب بهم الى البحر فلما هلك أبرهة ومزق الحبشة كل ممزق
أقفر ما حول هذه الكنيسة وكثرت السباع حولها والحيات فلا يستطيع أحد أن
يأخذ منها شيئا الى زمان أبى العباس السفاح فذكروا له أمرها فبعث اليها أبا
العباس بن الربيع عامله على اليمن ومعه أهل الحزم والجلادة فخربها وحصلوا
منها مالا كثيرا ثم بعد ذلك عفار سمها وانقطع خبرها كذا فى حياة الحيوان*
مسير سيف بن ذى يزن الى قيصر وكسرى
وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق فلما هلك أبرهة ملك الحبشة بعده ابنه
يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى فلما هلك يكسوم بن أبرهة ملك اليمن فى الحبشة
أخوه مسروق بن أبرهة فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذى يزن
الحميرى وكان يكنى بأبى مرّة حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكى اليه ما هم
فيه وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو ويبعث اليهم من شاء من الروم فيكون له
ملك اليمن فلم يشكه فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على
الحيرة وما يليها من أرض العراق فشكى اليه أمر الحبشة فبعثه النعمان مع
وفده الى كسرى فدخل عليه ثم قال أيها الملك غلبنا على بلادنا الاغربة قال
كسرى أى الاغربة الحبشة أم السند قال بل الحبشة فجئتك لتنصرنى ويكون ملك
بلادى لك* قال كسرى بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن لا ورط جيشا من فارس
بأرض العرب لا حاجة لى بذلك ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف وكساه كسوة حسنة*
فلما قبض ذلك سيف خرج فجعل ينثر ذلك الورق للناس فبلغ ذلك الملك فقال ان
لهذا لشأنا ثم بعث اليه فقال له عمدت الى حباء الملك تنثره للناس فقال وما
أصنع بهذا ما جبال أرضى التى جئت منها الا ذهبا وفضة يرغبه فيها فجمع كسرى
مرازبته فقال ماذا ترون فى أمر هذا الرجل فقال قائل أيها الملك ان فى سجونك
رجالا قد حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فان يهلكوا كان ذلك الذى أردت
بهم وان يظفروا كان ملكا ازددته فبعث معه كسرى من كان فى سجونه وكانوا
ثمانمائة رجل واستعمل
(1/192)
عليهم وهرز وكان ذا سنّ فيهم وأفضلهم حسبا
وبيتا فخرج فى ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصل الى ساحل عدن ست سفائن* فجمع
سيف الى وهرزمن استطاع من قومه وقال له رجلى مع رجلك حتى نموت جميعا أو
نظفر جميعا قال وهرز أنصفت وخرج اليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع اليه
جنده فأرسل اليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم فقتل ابن وهرز فزاده
ذلك حنقا عليهم فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز أرونى ملكهم فقالوا
له أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء قال
نعم قالوا ذاك ملكهم قال اتركوه فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا تحوّل
على الفرس قال اتركوه فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا على البغلة قال
وهرز بنت الحمارة ذلّ وذلّ ملكه انى سأرميه فان رأيتم أصحابه لم يتحرّكوا
فاثبتوا حتى أوذنكم فانى قد أخطأت الرجل وان رأيتم القوم قد استداروا ولا
ثوابه فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم ثم وتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا
يوترها غيره من شدّتها فأمر بحاجبيه فعصبا له ثم رماه فصك الياقوتة التى
بين عينيه فتغلغلت النشابة فى رأسه حتى خرجت من قفاه ونكس عن دابته
واستدارت الحبشة ولاثت به وحملت عليهم الفرس وانهزموا فقتلوا وهربوا فى كل
وجه وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى اذا أتى بابها فوجده قصير الا تدخله الراية
مستقيمة قال لا تدخل رايتى منكسة أبدا اهدموا الباب فهدم ثم دخلها ناصبا
رايته* قال ابن اسحاق فأقام وهرز والفرس باليمن فمن بقية ذلك الجيش من
الفرس الابناء الذين باليمن اليوم قال ابن هشام طاوس اليمانى من هؤلاء
الابناء*
سبب تملك الحبشة اليمن
قال ابن اسحاق وكان ملك الحبشة باليمن بين أن دخلها أرباط الى أن قتلت
الفرس مسروق بن أبرهة وأخرجت الحبشة اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك أربعة
أرباط ثم أبرهة ثم يكسوم بن ابرهة ثم مسروق بن أبرهة* قال ابن هشام ثم مات
وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ثم مات المرزبان فأمر كسرى
ابنه التينجان بن المرزبان على اليمن ثم مات التينجان فأمر كسرى ابن
التينجان على اليمن ثم عزله وأمّر باذان فلم يزل عليها حتى بعث النبىّ صلّى
الله عليه وسلم وسيجىء اسلام باذان فى الموطن الثالث* فى سيرة ابن هشام ذكر
ابن اسحاق كيفية تملك أرباط اليمن أوّلا وسبب ملك الحبشة بها فقال روى أن
أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الاوثان وكان فى قرية من قراها قريبة من
نجران ونجران القرية العظمى التى اليها جماع تلك البلاد ساحر يعلم غلمان
أهل نجران السحر فلما نزلها قيميون ولم يسموه لى باسمه الذى سماه به وهب بن
منبه قالوا رجل نزلها ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التى بها
الساحر فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم الى ذلك الساحر يعلمهم السحر فبعث
اليه التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران فكان اذ امر بصاحب
الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته فجعل يجلس اليه ويسمع منه حتى أسلم
فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن شرائع الاسلام حتى اذا فقه فيه جعل يسأله عن
الاسم الاعظم وكان يعلمه فكتمه اياه وقال له يا ابن أخى انك ان تحمله أخش
ضعفك عنه والتامر أبو عبد الله لا يظنّ الا أن ابنه يختلف الى الساحر كما
يختلف الغلمان فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضنّ به عنه وتخوّف ضعفه فيه
عمد الى قداح فجمعها ثم لم يبق لله اسما يعلمه الا كتبه فى قدح لكل اسم قدح
حتى اذا أحصاها أوقد لها نارا ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا حنى اذا مرّ
بالاسم الاعظم قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضرّه النار شيئا
فأخذه ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الاعظم الذى كتمه قال وما
هو قال هو كذا وكذا قال وكيف علمته فأخبره بما صنع فقال أى ابن أخى قد
أصبته فأمسك على نفسك ما أظنّ أن تفعل فجعل عبد الله بن التامر اذا دخل
نجران لم يلق أحدا به ضرّ الا قال له يا عبد الله أتوحد الله وتدخل معى فى
دينى وأدعو الله فيعافيك مما
(1/193)
أنت فيه من البلاء فيقول نعم فيوحد الله
ويسلم ويدعو له فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد به ضرّ الا أتاه فاتبعه على
أمره فدعا له فعوفى فرفع شأنه الى ملك نجران فدعاه وقال أفسدت علىّ أهل
قريتى وخالفت دينى ودين آبائى لا مثلنّ بك قال لا تقدر على ذلك قال فجعل
يرسل به الى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع الى الارض ليس به بأس وجعل
يبعث به الى مياه نجران بحور لا يقع فيها شئ الا هلك فيلقى فيها فيخرج ليس
به بأس فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر انك والله لا تقدر على قتلى
حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به فانك ان فعلت ذلك سلطت علىّ فتقتلنى قال
فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن التامر ثم ضربه بعصى فى يده
فشجه شجة غير كبيرة فقتله وهلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران على دين عبد
الله بن التامر وكان على ما جاء به عيسى من الانجيل وحكمه ثم أصابهم ما
أصاب أهل دينهم من الاحداث فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران* قال ابن
اسحاق فهذا حديث محمد بن كعب القرظى وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر
والله أعلم*
نادرة
قال ابن اسحاق حدّثنى عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث
أن رجلا من أهل نجران فى زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خراب نجران لبعض
حاجته فوجدوا عبد الله بن التامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة فى
رأسه ممسكا عليها بيده فاذا أخرت يده عنها تشعبت دما واذا أرسلت يده ردّها
عليها فأمسك دمها فى يده خاتم مكتوب فيه ربى الله فكتب الى عمر بن الخطاب
يخبره بأمره فكتب اليهم عمر أن أقرّوه على حاله وردّوا عليه الدفن الذى كان
عليه ففعلوا* وفى أنوار التنزيل روى أن ملكا كان له ساحر فلما كبر ضم اليه
غلاما ليعلمه السحر وكان فى طريق الغلام راهب فسمع منه ومال قلبه اليه فرأى
فى طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجرا وقال اللهم ان كان الراهب
أحب اليك من الساحر فاقتلها فقتلها وكان الغلام بعد ذلك يبرئ الاكمه
والابرص ويشفى من الادواء وعمى جليس للملك فأبرأه فسأله الملك عمن أبرأه
فقال ربى فغضب وعذبه فدلّ على الغلام فعذبه فدلّ على الراهب فلم يرجع
الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار فأتى بالغلام فأرسل الى جبل ليطرح من ذروته
فدعا فرجف بالقوم فهلكوا ونجا وأجلسه فى سفينة ليغرق وعبارة المدارك فذهبوا
به الى قرقور فلججوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت السفينة بمن معه فغرقوا فنجا
فقال للملك لست بقاتلى حتى تجمع الناس فى صعيد واحد وتصلبنى على جذع وتاخذ
سهما من كنانتى وتقول بسم الله رب الغلام ثم ترمينى به فرماه فوقع فى صدغه
فوضع يده عليه فمات فقال الناس آمنا برب الغلام فقيل للملك نزل بك ما كنت
تحذر فأمر بأخاديد أوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم عن دينه طرحه فيها
حتى جاءت امرأة معها صبى فتقاعست فقال الصبى يا أماه اصبرى فانك على الحق
فألقى الصبى وأمه فيها* وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق لما تنصر أهل
نجران سار اليهم ذو نواس اليهودى فدعاهم الى اليهودية وخيرهم بين ذلك
والقتل فاختاروا القتل فخدّ لهم الاخدود وحرّقهم بالنار وقتل بالسيف ومثل
بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ففى ذى نواس وجنده ذلك أنزل الله قتل
أصحاب الاخدود الى آخر الآية* قال ابن هشام الاخدود الحفر المستطيل فى
الارض كالخندق والجدول ونحوه وجمعه أخاديد* قال ابن اسحاق وأفلت منهم رجل
من سبأ يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له فسلك الرمل فأعجزهم فمضى على وجهه
ذلك حتى أتى قيصر صاحب الروم فاستنصره على ذى نواس وجنوده وأخبره بما بلغ
منهم فقال له بعدت بلادك منا ولكنى أكتب لك الى ملك الحبشة فانه على هذا
الدين وهو أقرب الى بلادك فكتب اليه يأمره بنصره والطلب بثاره فقدم دوس على
النجاشى بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة وأمّر عليهم رجلا منهم
يقال له ارياط ومعه فى جنده أبرهة الاشرم فركب ارياط البحر حتى نزل بساحل
(1/194)
اليمن ومعه دوس وسار اليه ذو نواس فى حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن فلما
التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه
فى البحر ثم ضربه فدخل به فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به الى غمره فأدخله
فيه فكان آخر العهد به ودخل ارياط اليمن فلكها* قال ابن اسحاق فأقام ارياط
باليمن ستين فى سلطانه ذلك ثم نازعه فى أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشى حتى
تفرّقت الحبشة عليهما فانحاز الى كل واحد منهما طائفة منهم ثم سار أحدهما
الى الآخر فلما تقارب الناس أرسل أبرهة الى ارياط انك لا تصنع أن تلقى
الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا بعد شئ فابرز الىّ وأبرز اليك فأينا
أصاب صاحبه انصرف اليه جنده فأرسل اليه ارياط أنصفت فخرج اليه أبرهة وكان
رجلا لحيما قصيرا وكان ذادين فى النصرانية وخرج اليه ارياط وكان رجلا جميلا
طويلا وفى يده حربة له وخلف أبرهة غلام له يقال له عتودة ويروى بعضهم عيودة
بالياء يمنع ظهره فرفع ارياط الحربة فضرب بها أبرهة يريد بها نافوخه فوقعت
الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وانفه وعينه وشفته فبذلك سمى أبرهة
الاشرم وحمل عتودة على ارياط من خلف أبرهة فقتله وانصرف جند ارياط الى
أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن وودى أبرهة ارياط فلما بلغ ذلك النجاشى
غضب غضبا شديدا وقال عدا على أميرى فقتله من غير أمرى ثم حلف لا يدع أبرهة
حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن ثم
بعث به الى النجاشى ثم كتب اليه أيها الملك انما كان ارياط عبدك وأنا عبدك
اختلفنا فى أمرك وكل طاعته لك الا أنى كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها
وأسوس منه وقد حلقت رأسى كله حين بلغنى قسم الملك وبعثت اليه بجراب من تراب
أرضى ليضعه تحت قدميه فتبرّ قسمه فىّ فلما انتهى ذلك الى النجاشى رضى عنه
وكتب اليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمرى وأقام أبرهة باليمن* وفى
تفسير أبى الليث السمرقندى فقال أبرهة لعتودة حين قتل ارياط يا عتودة احكم
يعنى احكم علىّ بما شئت قال عتودة حكمى أن لا يدخل عروس من بيت أهل اليمن
على زوجها حتى أصيبها قبله قال ذلك لك فقام أبرهة باليمن وغلامه عتودة يصنع
باليمن ما كان أعطاه من حكمه حينا ثم عدا عليه رجل من حمير أو من خثعم
فقتله فلما بلغ أبرهة قتله وكان رجلا حليما ورعا فى دينه من النصرانية فقال
قد آن لكم يا أهل اليمن أن يكون منكم رجل حازم يأنف مما يأنف منه الرجال
انى والله لو علمت حين حكمته أنه يسأل الذى سأل ما حكمته وأيم الله لا يؤخذ
منكم فيه عقل ولا قود ثم بنى القليس بصنعاء كما ذكرنا والله أعلم |