تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس

(ذكر معجزاته صلّى الله عليه وسلم المذكورة فى هذا الباب مجموعة)
* منها القرآن وهو أعظمها وأدومها وشق الصدر واخباره عن بيت المقدس وانشقاق القمر وسيجىء فى السنة التاسعة من المبعث وان الملأ من قريش تعاقدوا على قتله فخرج عليهم فحفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم فى صدورهم فأقبل حتى قام على رؤسهم فقبض قبضة من تراب وقال شاهت الوجوه وحصبهم فما أصاب رجلا منهم شىء من تلك الحصباء الا قتل يوم بدر ورمى يوم حنين بقبضة من تراب فى وجوه القوم فهزمهم الله تعالى ونسج العنكبوت على الغار وما كان من أمر سراقة بن مالك اذ تبعه فى الهجرة فساخت قوائم فرسه فى الارض الجلد ومسح على ظهر عناق لم ينز عليها الفحل فدرّت ودعوته لامّ معبد ودعوته لعمر ان الله يعز به الاسلام ودعوته لعلى أن يذهب عنه الحرّ والبرد وتفل فى عينيه يوم خيبر وهو أر مدفعو فى من ساعته ولم يرمد بعد ذلك وردّ عين قتادة بن النعمان بعد أن سالت على خدّه فكانت أحسن عينيه وذلك يوم أحد كذا فى المستدرك وفى رواية يوم بدر* وقال الدمياطى بالخندق قال السهيلى فكانت لا ترمد الا اذا رمدت الاخرى وعند الدارقطنى حدقتاه واستغربه كذا فى سيرة مغلطاى* ودعا لجمل جابر فصار سابقا بعد أن كان مسبوقا ودعا لانس بطول العمر وكثرة المال والولد فمات وله من العمر مائة وثلاث سنين وقيل تسع وتسعون سنة قال ابن عبد البرّ وهو أصح يقال انه ولد له مائة ولد وقيل ثمانون منهم ثمانية وسبعون ذكرا واثنتان انثى وفى تمر جابر بالبركة فأوفى غرماءه وفضل ثلاثون وسقا واستسقى صلّى الله عليه وسلم فطروا أسبوعا ثم استصحى لهم فانجاب السحاب ودعا على عتبة أو عتيبة بن أبى لهب فأكله الاسد بالزرقاء من الشام وشهدت له الشجرة بالرسالة فى خبر الاعرابى الذى دعاه الى الاسلام فقال هل من شاهد على ما تقول فقال نعم هذه الشجرة ثم دعاها فأقبلت فاستشهدها فشهدت أنه كما قال ثلاثا ثم رجعت الى منبتها وأمر شجرتين فاجتمعتا ثم افترقتا وأمر انسانا أن ينطلق الى نخلات فيقول لهنّ أمركن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تجتمعن فاجتمعن فلما قضى حاجته خلفها أمره أن يأمرهنّ بالعود الى اما كنهنّ فعدن ونام فجاءت شجرة تشق الارض حتى قامت عليه فلما استيقظ ذكر له ذلك فقال هى شجرة استأذنت ربها فى أن تسلم علىّ فأذن لها وبينما هو يسير ليلا على راحلته بواد بقرب الطائف فى منصرفه عن غزوة الطائف اذ غشى سدرة فى سواد الليل وهو فى وسن النوم فانفرجت له السدرة نصفين فمرّ بين نصفها وبقيت منفرجة على حالها وسيجىء فى غزوة الطائف وسلم عليه الشجر والحجر ليالى بعث السلام عليك يا رسول الله وقال انى لاعرف حجرا كان يسلم علىّ بمكة قبل أن أبعث انى لا عرفه الآن خرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة وقد اختلف فى هذا الحجر فقيل هو الحجر الاسود وقيل حجر غيره بزقاق يعرف به بمكة والناس يتبركون بلمسه ويقولون انه الذى كان يسلم على النبىّ صلّى الله عليه وسلم متى اجتاز به* وحكى عن أبى جعفر الميانشى أنه قال أخبرنى كل من لقيته بمكة ان هذا الحجر يعنى المذكور هو الذى كلم النبىّ صلّى الله عليه وسلم* وفى التفسير الكبير للامام النحرير فخر الدين الرازى روى أنه صلّى الله عليه وسلم كان على شط ماء وقعد عكرمة بن أبى جهل وقال ان كنت صادقا فادع

(1/220)


ذلك الحجر الذى فى الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق فأشار اليه النبىّ صلّى الله عليه وسلم فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشهد له بالرسالة فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلم يكفيك هذا فقال حتى يرجع الى مكانه* قال القسطلانى ولم أره لغيره والله أعلم بحاله كذا فى المواهب اللدنية وحنّ اليه الجذع وسبح الحصى فى كفه وكذلك الطعام كان يسمع تسبيحه وهو يؤكل وأخبرته الشاة يسمها* وفى رواية أبى داود أكل من شاة لقمة ثم قال ان هذه تخبرنى انها أخذت بغير اذن أهلها فنظر فاذا هو كما قال كذا فى سيرة مغلطاى وشكا اليه البعير قلة العلف وكثرة العمل وسألته الظبية أن يخلصها من الحبل لترضع أولادها وتعود فخلصها فنطقت بالشهادتين وأخبر عن مصارع المشركين يوم بدر فلم يعد أحد منهم مصرعه وأخبر أن طائفة من أمّته يغزون فى البحر وان أمّ حزام بنت ملحان منهم فكان كذلك وقال لعثمان تصيبه بلوى شديدة فكانت وقتل وقال للانصار انكم ستلقون بعدى أثرة فكانت زمان معاوية وقال فى الحسن هذا سيد ولعلّ الله سيصلح به بين فئتين من المسلمين وأخبر بقتل عبهلة ذى الخمار وهو الاسود العنسى الكذاب وهو بصنعاء اليمن ليلة قتل وبمن قتله* وقال لثابت ابن قيس تعيش حميدا وتقتل شهيدا فبلغه انه مات فقال ان الارض لا تقبله فكان كذلك وقال لرجل يأكل بشماله كل بيمينك فقال لا أستطيع فقال له لا استطعت فلم يطق أن يرفعها الى فيه بعد ودخل مكة عام الفتح والاصنام معلقة حول الكعبة وبيده قضيب فجعل يشير اليها ويقول جاء الحق وزهق الباطل وهى تتساقط وشهد الضب برسالته وشهد الذئب بنبوّته رواه أبو سعيد عن ابن حبان كذا فى سيرة مغلطاى وأطعم ألفا من صاع من شعير وبهيمة فى بيت جابر بالخندق فشبعوا والطعام أكثر مما كان وأطعمهم من تمر يسير وجمع فضل الازواد على النطع فدعا لها بالبركة ثم قسمها فى العسكر فقامت بهم وأتاه أبو هريرة بتمرات قد صفهنّ فى يده وقال ادع الله لى فيهنّ بالبركة ففعل* قال أبو هريرة فأخرجت من ذلك التمر كذا كذا وسقا فى سبيل الله وكنا نأكل منه ونطعم حتى انقطع فى زمن عثمان ودعا أهل الصفة لقصعة ثريد قال أبو هريرة فجعلت أتطلول ليدعونى حتى قام القوم وليس فى القصعة الا اليسير فى نواحيها فجمعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فصار لقمة فوضعها على أصابعه وقال كل بسم الله فو الذى نفسى بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت* ونبع الماء من بين أصابعه بالحديبية حتى شرب القوم وتوضأ واوهم ألف وأربعمائة وأتى بقدح فيه ماء فوضع أصابعه فى القدح فلم يسع فوضع أربعة منها وقال هلموا فتوضؤا كلهم وهم ما بين السبعين الى الثمانين ومرّة أخرى وهم ثلثمائة وحديث المزادتين اللتين لم ينقصا قال عمران شربنا منهما ونحن نحو الاربعين* وورد فى غزوة تبوك على ماء لا يروى واحدا والقوم عطاش فشكوا اليه فأخذ سهما من كنانته وأمر بغرزه فيه ففار الماء وارتوى القوم وكانوا ثلاثين ألفا وشكى القوم ملوحة فى مائهم فجاء فى نفر من أصحابه حتى وقف على بئرهم فتفل فيه فتفجر بالماء العذب المعين وأتته امرأة بصبى لها أقرع فمسح على رأسه فاستوى شعره وذهب داؤه فسمع أهل اليمامة بذلك فأتت امرأة الى مسيلمة بصبى لها فمسح على رأسه فصلع وبقى الصلع فى نسله وانكسر سيف عكاشة فى يوم بدر فأعطاه جذلا من حطب فصار فى يده سيفا ولم يزل بعد ذلك عنده وعرت كدية بالخندق وعسر أن يأخذها المعول فضربها فصارت كثيبا أهيل ومسح على رجل أبى رافع وقد انكسرت فكأنه لم يشكها قط* وفى البخارى أصيبت رجل عبد الله بن عتيك فبرأ بمسحته من حينها وجاء الطفيل بن عمرو الدوسى وكان شريفا فأسلم وقال يا رسول الله انى امرؤ مطاع فى قومى وأنا راجع اليهم وداعيهم الى الاسلام فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا عليهم فدعا له فطلع نور بين عينيه مثل المصباح حتى أشرف على
قومه قال فقلت اللهمّ فى غير وجهى انى أخشى

(1/221)


أن يظنوا انها مثلة وقعت فى وجهى لفراقى دينهم فتحوّل النور فوقع فى رأس سوطى كالقنديل المعلق فأسلم على يده ناس* ومن معجزاته احياء الموتى باذن الله واسماع الاصم وردّ الشمس وقلب الاعيان والاطلاع على الغيب وظلّ الغمام وابراء الآلام كذا ذكره فى سيرة مغلطاى ومعجزاته صلّى الله عليه وسلم أكثر من ان يحصرها كاتب أو يجمعها ديوان كذا ذكره فى سيرة اليعمرى*

(ذكر ارضاع الاظآر وعددها وما وقع عند حليمة)
* قال أهل السير أرضعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمّه آمنة ثلاثة أيام وقيل سبعة ثم أرضعته ثويبة الاسلمية جارية أبى لهب أياما قبل قدوم حليمة من قبيلتها ثم أرضعته حليمة* روى انها أرضعت النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثمان نسوة غير آمنة ثويبة وحليمة وخولة بنت المنذر ذكرها أبو الفتح اليعمرى وأم أيمن ذكرها أبو الفتح عن بعضهم والمعروف انها من الحواضن وامرأة سعدية غير حليمة ذكرها ابن القيم فى الهدى وثلاث نسوة اسم كل واحدة منهنّ عاتكة نقله السهيلى عن بعضهم فى قوله صلّى الله عليه وسلم أنا ابن العواتك من سليم كذا فى مزيل الخفا* وفى حياة الحيوان العواتك ثلاث نسوة كنّ من أمّهات النبىّ صلّى الله عليه وسلم وفى نهاية ابن الاثير العواتك جمع عاتكة وأصل العاتكة المتضمخة بالطيب والعواتك ثلاث نسوة كنّ أمّهات النبىّ صلّى الله عليه وسلم احداهنّ عاتكة بنت هلال بن فالخ بن ذكوان وهى أم عبد مناف بن قصى والثانية عاتكة بنت مرّة بن هلال بن فالخ وهى أمّ هاشم بن عبد مناف* والثالثة عاتكة بنت الاوقص ابن مرّة بن هلال وهى أمّ وهب أبى آمنة أمّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم فالاولى من العواتك عمة الثانية والثانية عمة الثالثة وبنو سليم تفخر بهذه الولادة والمشهور انه أرضعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ظئران* الظئر الاولى ثويبة الاسلمية جارية أبى لهب وفى شواهد النبوّة عن ابن عباس أرضعته ثويبة بعد مضى ثلاثة أيام من مولده الى أن قدمت حليمة من قبيلتها بعد أربعة أشهر وكانت ثويبة قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الاسد المخزومى* وفى المواهب اللدنية أرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة عتيقة أبى لهب أعتقها حين بشرته بولادته صلّى الله عليه وسلم وكانت تدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيكرمها أيضا وتكرمها خديجة وهى يومئذ أمّه* وفى الاستيعاب قال أحمد بن محمد أعتقها أبو لهب بعد ما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى المدينة فأثابه الله على ذلك بأن سقاه الله ليلة كل اثنين فى مثل نقرة الابهام كذا فى سيرة مغلطاى والمنتقى وكان صلى الله عليه وسلم يبعث اليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر* وفى سيرة مغلطاى سنة سبع من الهجرة فبلغ وفاتها النبىّ صلّى الله عليه وسلم وسأل عن ابنها مسروح فقيل مات فسأل عن قرابتها فقيل لم يبق منهم أحد ذكره أبو عمرو كذا فى ذخائر العقبى* قال أبو نعيم الاصفهانى انه قد اختلف فى اسلامها* وفى سيرة مغلطاى قال أبو نعيم لا أعلم أحدا أثبت اسلامها غير ابن مندة عن عروة لما مات أبو لهب رآه أخوه العباس فى المنام بعد سنة فقال له ماذا لقيت يا أبا لهب قال ما رأيت بعدكم روحا غير أنى سقيت من هذه يعنى من عتق ثويبة لأمر محمد وأشار الى ما بين الابهام والسبابة وفى رواية وأشار الى النقرة التى فى الابهام* وفى المواهب اللدنية وقد رؤى أبو لهب بعد موته فى النوم فقيل له ما حالك فقال فى النار الا أنه خفف عنى كل ليلة اثنين وأمص من بين اصبعىّ هاتين ماء وأشار برأس اصبعه وان ذلك باعتاقى ثويبة عند ما بشرتنى بولادة النبىّ صلّى الله عليه وسلم وبارضاعها له* وفى الاكتفاء قال ما لقيت بعدكم راحة الا ان العذاب يخفف عنى الى آخر ما ذكر قال ابن الجوزى فاذا كان هذا أبو لهب الكافر الذى أنزل القرآن بذمّه جوزى فى النار بفرحة ليلة مولد النبىّ صلّى الله عليه وسلم فما حال المسلم الموحد من أمّته عليه السلام يسرّ بمولده ويبذل ما تصل

(1/222)


اليه قدرته فى محبته صلّى الله عليه وسلم لعمرى انما يكون جزاؤه من الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم ولا يزال أهل الاسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام ويعملون الولائم ويتصدّقون فى لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور ويزيدون فى المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم* ومما جرّب من خواصه انه أمان فى ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام ولقد أطنب ابن الحاج فى المدخل فى الانكار على ما أحدثه الناس من البدع والاهواء والتغنى بالآلات المحرّمة عند عمل المولد الشريف فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل ويسلك بنا سبيل السنة فانه حسبنا ونعم الوكيل* الظئر الثانية أمّ كبشة حليمة بنت أبى ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شحنة بن جابر ابن رزام بن ناضرة بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان ابن مضر وهى التى أرضعته حتى أكملت رضاعه بلبن زوجها الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملآن بن ناضرة بن قصية بن عيلان بن مضر* وفى المواهب اللدنية لما ولد صلّى الله عليه وسلم قيل من يكفل هذه الدرّة اليتيمة التى لا يوجد لها مثل ولا قيمة قالت الطيور نحن نكفله ونغنم خدمته العظيمة وقالت الوحوش نحن أولى بذلك نثال شرفه وتعظيمه فنادى لسان القدرة أن يا جميع المخلوقات ان الله كتب فى سابق حكمته القديمة ان نبيه الكريم يكون رضيعا لحليمة الحليمة* روى عن مجاهد أنه قال قلت لابن عباس أوقد تنازعت الطيور فى ارضاع محمد صلّى الله عليه وسلم فقال اى والله وكل نساء الجنّ وذلك انه لما نادى الملك فى سماء الدنيا هذا محمد سيد الانبياء طوبى لثدى أرضعته تنافست الجنّ والطير فى ارضاعه فنوديت أن كفوا فقد أجرى الله ذلك على أيدى الانس فخص الله تعالى بتلك السعادة وشرف بذلك الشرف حليمة بنت أبى ذؤيب* روى انه كان من عادة أشراف قريش وديدن صناديدهم أن يدفعوا أولادهم الرضعاء الى المراضع ليتيسر اشتغال نسائهم بالازواج فى كل الحال بحضور القلب وفراغ البال ولازدياد النسل والاولاد وبقائهم مصونة عن مضرة الغيل والفساد ولنشوهم فى القبائل المعروفة بلادهم بطيب الهواء وقلة الرطوبة وعذوبة الماء اذ لها مدخل عظيم وتأثير بليغ فى فصاحة المولود ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم أنا أعربكم أنا من قريش واسترضعت فى بنى سعد بن بكر وكانت مشهورة بين العرب بكمال الجود وتمام الشرف وكانت نساء القبائل التى حوالى مكة ونواحي الحرم يأتينها فى كل عام مرّتين ربيعا وخريفا يلتمسن الرضعاء ويذهبن بهم الى بلادهنّ حتى تتمّ الرضاعة* وفى المواهب اللدنية قالت حليمة فيما رواه ابن اسحاق وابن راهويه وأبو يعلى والطبرانى والبيهقى وأبو نعيم قدمت مكة فى نسوة من بنى سعد بن بكر نلتمس الرضعاء فى سنة شهباء فقدمت على أتان لى ومعى صبى لى وشارف لنا والله ما تبض بقطرة لبن وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك لا يجد فى ثديى ما يغنيه ولا فى شارفنا ما يغذيه فقدمنا مكة فو الله ما علمت منا امرأة الا وقد عرض عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتأباه اذا قيل يتيم فو الله ما بقى من صواحبى امرأة الا أخذت رضيعا غيرى فلم أجد غيره قلت لزوجى والله انى لاكره أن أرجع من بين صواحبى ليس معى رضيع لانطلقنّ الى ذلك اليتيم فلآخذنه فذهبت فاذا به مدرج فى ثوب صوف أبيض من اللبن يفوح منه رائحة المسك وتحته حريرة خضراء وهو راقد على قفاه يغط فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله فدنوت منه رويدا فوضعت يدى على صدره فتبسم ضاحكا وفتح عينيه ينظر الىّ فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر اليه فقبلته بين عينيه وأعطيته ثديى الايمن فأقبل عليه بما شاء من اللبن فحوّلته الى الايسر فأبى وكانت تلك بعد عادته* قال العلماء فأعلمه الله ان له شريكا فألهمه العدل فروى وروى أخوه ثم أخذته فما هو الا أن جئت به رحلى فقام صاحبى تعنى زوجها الى شارفنا تلك فاذا انها

(1/223)


لحافل فحلب منها ما شرب وشربت حتى روينا ويتنا بخير ليلة فقال صاحبى يا حليمة والله انى لاراك أخذت نسمة مباركة ألم ترى ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه فلم يزل الله يزيدنا خيرا وفى رواية ذكرها ابن طغريك فى النطق المفهوم فلما نظر صاحبى الى هذا قال اسكتى واكتمى أمرك فن ليلة ولد هذا الغلام أصبحت الاحبار قوّاما على أقدامها لا يهنأ لها عيش النهار ولا نوم الليل* وفى شواهد النبوّة قالت حليمة فلما ذهبت بمحمد الى منزلى مكثنا بمكة ثلاث ليال انتهى قالت حليمة فودّعت النساء بعضهنّ بعضا وودّعت أنا أم النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثم ركبت أتانى وأخذت محمدا صلّى الله عليه وسلم بين يدىّ قالت فنظرت الى الاتان وقد سجدت نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها الى السماء ثم مشت حتى سبقت دواب الناس الذين كانوا معى وصار الناس يتعجبون منى وتقول النساء لى وهنّ ورائى يا بنت أبى ذؤيب أهذه أتانك التى كنت عليها وأنت جائية معنا تخفضك طور او ترفعك أخرى فأقول تالله انها هى فيتعجبن منها ويقلن ان لها لشأنا عظيما قالت فكنت أسمع أتانى تنطق وتقول والله ان لى لشأنا ثم شأنا بعثنى الله بعد موتى وردّلى سمنى بعد هزالى ويحكنّ يا نساء بنى سعد انكنّ لفى غفلة عظيمة وهل تدرين من على ظهرى على ظهرى خير النبيين وسيد المرسلين وخير الاوّلين والآخرين وحبيب رب العالمين* روى انه لما سلمته أمه الى حليمة السعدية لترضعه وقامت عكاطة انطلقت به حليمة الى عرّاف من هذيل يريه الناس صبيانهم فلما نظر اليه صاح يا معشر هذيل يا معشر العرب فاجتمع الناس من أهل الموسم فقال اقتلوا هذا الصبى فانسلت به حليمة فجعل الناس يقولون أى صبىّ فيقول هذا الصبى فلا يرون شيئا قد انطلقت به أمه فيقال ما هو فيقول رأيت غلاما والله ليقتلنّ أهل دينكم وليكسرن آلهتكم وليظهرنّ أمره عليكم فطلب بعكاظة فلم يوجد ورجعت به حليمة الى منزلها فكانت بعد لا تعرض لعرّاف كذا فى المنتقى قالت حليمة فيما ذكر ابن اسحاق وغيره ثم قدمنا منازل بنى سعد ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنيمتى تروح علىّ حين قدمنا به شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يحلب انسان قطرة لبن ولا يجدها فى ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعاتهم ويلكم ما بال أغنام حليمة تحمل وتحلب وأغنامنا لا تحمل ولا تضع ولا تأتى بخير اسرحوا حيث يسرح راعى غنم بنت أبى ذؤيب فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح أغنامى شباعا لبنا حتى انا نتفضل على قومنا وكانوا يعيشون فى أكنافنا فلله درّها من بركة كثرت بها مواشى حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت ولم تزل حليمة تتعرّف الخير والسعادة وتفوز منه بالحسنى وزيادة كما قيل
لقد بلغت بالهاشمىّ حليمة ... مقاما علا فى ذروة العز والمجد
وزادت مواشيها وأخصب ربعها ... وقد عمّ هذا السعد كل بنى سعد
وقال ابن الطرمّاح رأيت فى كتاب الترقيص لأبى عبد الله بن المعلى الازدى أنّ من شعر حليمة مما كانت ترقص به النبىّ صلّى الله عليه وسلم
يا رب اذ أعطيته فأبقه ... وأعله الى العلى وأرقه
وادحض أباطيل العدى بحقه
وعند غيره وكانت الشيماء أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه وتقول
هذا أخىّ لم تلده أمى* وليس من نسل أبى وعمى* فديته من مخول معمّ* فأنمه اللهم فيما تنمى وأخرج البيهقى فى المائتين والخطيب وابن عساكر فى تاريخهما وابن طغربك السياف فى النطق المفهوم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله دعانى للدخول فى دينك أمارة لنبوّتك رأيتك فى المهد تناغى القمر وتشير اليه بأصبعك فحيث أشرت اليه مال قال انى كنت أحدّثه ويحدّثنى ويلهينى

(1/224)


عن البكاء وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش* قال البيهقى تفرّد به أحمد بن ابراهيم الجيلى وهو مجهول وقال الصابونى وهذا حديث غريب الاسناد والمتن فى المعجزات حسن والمناغاة المحادثة وفد ناغت الامّ صبيها لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة* وفى فتح البارى عن سيرة الواقدى أنه صلّى الله عليه وسلم تكلّم فى أوائل ما ولد وذكر ابن سبع فى الخصائص ان مهده كان يتحرّك بتحريك الملائكة كذا فى المواهب اللدنية* وفى المنتقى قالت حليمة ومن العجائب انى ما رأيت له بولا ولا غسلت له وضوء اقط وكانت له طهارة ونظافة وكان له فى كل يوم وقت واحد يتوضأ فيه ولا يعود حتى يكون وقته من الغد ولم يكن شىء أبغض اليه من ان يرى جسده مكشوفا فكنت اذا كشفت عن جسده يصيح حتى أستره عليه وكان لا يبكى قط ولم يسئ خلقه* وفى شواهد النبوّة روى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما صار ابن شهرين كان يتزحلف مع الصبيان الى كل جانب وفى ثلاثة أشهر كان يقوم على قدميه وفى أربعة أشهر كان يمسك الجدار ويمشى وفى خمسة أشهر حصل له القدرة على المشى ولماتم له ستة أشهر كان يسرع فى المشى وفى سبعة أشهر كان يسعى ويعد والى كل جانب ولما مضى عليه ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يفهم كلامه وفى تسعة أشهر شرع يتكلم بكلام فصيح وفى عشرة أشهر كان يرمى السهام مع الصبيان وفى المواهب اللدنية أخرج البيهقى وابن عساكر عن ابن عباس قال كانت حليمة تحدّث انها أوّل ما فطمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكلم فقال الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا* وفى المنتقى قالت وانتبهت ليلة من الليالى فسمعته يتكلم بكلام لم أسمع كلاما قط أحسن منه يقول لا اله الا الله قدّوسا قدّوسا نامت العيون والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم وهو أوّل ما تكلم به وكنت أتعجب من ذلك فلما بلغ المنطق لم يمس شيئا الا قال بسم الله ولم يتناول بيساره وكان يتناول بيمينه وكنت قد اجتنبت الزوج لا اغتسل منه هيبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى تمت له سنتان كاملتان فبينما هو قاعد فى حجرى ذات يوم اذ مرت به غنيماتى فأقبلت شاة من الغنم حتى سجدت له وقبلت رأسه فرجعت الى صواحبها وكان ينزل عليه كل يوم نور كنور الشمس فيغشاه ثم ينجلى عنه وفى المواهب اللدنية فلما ترعرع كان يخرج فينظر الى الصبيان يلعبون فيجتنبهم* وفى المنتقى وكان أخواه من الرضاعة يخرجان فيمرّان بالغلمان فيلعبان معهم فاذا رآهم محمد صلّى الله عليه وسلم اجتنبهم وأخذ بيدى أخويه وقال لهما انا لم نخلق لهذا* وفى المواهب اللدنية وقد روى ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانا بعيدا فغفلت عنه فخرج مع أخته الشيماء فى الظهيرة الى البهم فخرجت حليمة تطلبه حتى وجدته مع أخته فقالت تخرجين به فى هذا الحر فقالت أخته يا أمه ما وجد أخى حرّا رأيت غمامة تظلّ عليه اذا وقف وقفت واذا سار سارت حتى انتهى الى هذا الموضع وكان صلّى الله عليه وسلم يشب شبابا لا يشبه الغلمان حتى كان غلاما جفرا فى سنتين*

شق صدره عليه السلام
وفى السنة الثالثة من مولده صلّى الله عليه وسلم وقع شق الصدر قالت حليمة فلما مضت سنتاه وفصلته قدمنا به على أمه ونحن أحرص شئ على مكثه فينا لما نرى من بركته وكلمنا أمّه وقلنا لو تركتيه عندنا حتى يغلظ فانا نخشى عليه وباء مكة ولم نزل بها حتى ردّته معنا فرجعنا به فو الله انه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة لفى بهم لنا وقد بعدا قدر غلوّة سهم خلف بيوتنا اذ أتانا أخوه يشتدّ فى عدوه فقال ذاك أخى القرشى قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه فخرجت أنا وأبوه نشتدّ نحوه فوجدناه قائما منتقعا لونه فاعتنقه أبوه وقال أى بنى ما شأنك قال جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى فشقا بطنى ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم ردّاه كما كان فرجعنا به معنا فقال أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابنى قد أصيب فانطلقى نردّه الى أهله قبل أن

(1/225)


يظهر به ما نتخوّف قالت حليمة فاحتملناه حتى قدمنا به الى امّه فقالت ما ردّ كما به فقد كنتما حريصين عليه قلنا نخشى عليه الاتلاف والاحداث فقالت ما ذاك بكما فأصدقانى ما شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره فقالت أخشيتما عليه الشيطان كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وانه لكائن لا بنى هذا شأن فدعاه عنكما* وفى المواهب اللدنية وقد وقع شق صدره الشريف مرّة أخرى عند مجىء جبريل له بالوحى فى غار حرا ومرّة اخرى عند الاسراء وروى الشق أيضا وهو ابن عشر ونحوها وروى فى الخامسة ولا يثبت*

رعيه عليه السلام للغنم
وفى رواية عن حليمة أنها قالت لماتم له ثلاث سنين قال لى يوما يا امّه مالى لا أرى أخوىّ بالنهار قلت له يا بنىّ انهما يرعيان غنيمات لنا فى موضع كذا قال فمالى لا أخراج معهما قلت له تحب ذلك قال نعم فلما أصبح دهنته وكحلته وعلقت فى عنقه خيطا فيه جزع يمانية فنزعها ثم قال لى مهلا يا أمه فان معى من يحفظنى قالت ثم دعوت يا بنىّ فقلت لهما أوصيكما بمحمد خيرا لا تفارقاه وليكن نصب أعينكما فخرج مع أخويه فى الغنم حتى وصلا الى مكان الرعى فبينا هو قائم معهما اذ هبط جبريل وميكائيل* وفى المنتقى فبينما هم يترامون بالجلة يعنى البعر انتهى ومعهما طست من ذهب فيه ماء وثلج فاستخرجاه من الغنم والصبية وأضجعاه وشقا بطنه وشرحا صدره واستخرجا منه نكتة سوداء فغسلاه بذلك الماء والثلج وحشوا بطنه نورا ومسحا عليه وعاد كما كان قالت فلما رأى أخواه ذلك أقبل أحدهما اسمه ضمرة يعدو وقد علاه النفس وهو يقول يا أمّه أدركى أخى محمدا وما أراك تدركينه قالت فقلت وما ذاك قال أتاه رجلان عليهما ثياب خضر فاستخرجاه من بيننا وبين الغنم فأضجعاه وشقا بطنه قالت فخرجت أنا وأبوه ونسوة من الحىّ فاذا أنا به صلّى الله عليه وسلم قائما ينظر الى السماء كانّ الشمس تطلع من وجهه فالتزمه أبوه والله لكأنما غمس فى المسك غمسة وقال له أبوه يا بنى مالك قال خير يا أبت أتانى رجلان انقضا علىّ من السماء كما ينقض الطائر فأضجعانى وشقا بطنى وحشوا بشىء كان معهما ما رأيت ألين منه ولا أطيب ريحا ومسحا على بطنى فعدت كما كنت روى أنه بقى أثر الشق ما بين مفرق صدره الى منتهى عانته كأنه الشراك* قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط فى صدره صلّى الله عليه وسلم دائما* وفى الشفاء ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمّته فوزننى فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من امّته فوزننى بهم فوزنتهم ثم قال زنه بألف من أمّته فوزننى بهم فوزنتهم ثم قال دعه عنك فلو وزنته بامّته كلها لوزنها وطارا حتى دخلا فى السماء* وفى رواية قال أحدهما لصاحبه اجعله فى كفة واجعل ألفا من امّته فى كفة فاذا أنا أنظر الى الالف فوقى أشفقت أن يخرّ علىّ بعضهم فقالوا لو أنّ أمّته وزنت به لمال بهم ثم انطلقا وتركانى* وفى رواية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان ملكين جاآنى فى صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد فشق أحدهما صدرى ومج الآخر بمنقاره فغسله* وفى حياة الحيوان عن أبى ذرّ أنه قال يا رسول الله كيف علمت انك نبىّ وبم علمت حتى استيقنت قال يا أباذرّ أتانى ملكان فوقع أحدهما بالارض وكان الآخر بين السماء والارض فقال أحدهما لصاحبه أهو هو قال هو هو قال فوزننى برجل فرجحته ثم قال زنه بعشرة فوزننى بعشرة فرجحتهم ثم قال زنه بمائة فوزننى بمائة فرجحتهم ثم قال أحدهما لصاحبه شق بطنه فشق بطنى فأخرج قلبى فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم ثم قال أحدهما لصاحبه اغسل بطنه غسل الاناء واغسل قلبه غسل الملا ثم قال أحدهما لصاحبه خط بطنه فخاط بطنى وجعل الخاتم بين كتفىّ كما هو الآن ووليا عنى فكأنى أعاين الامر معاينة* وفى الحديث ان خاتم النبوّة لم يكن قبل ذلك انتهى قالت حليمة فحملناه الى خيم لنا فقال الناس اذهبوا به الى كاهن حتى ينظر اليه ويداويه فقال محمد صلّى الله عليه وسلم ما بى شىء مما تذكرون وانى أرى نفسى سليمة وفؤادى صحيحا بحمد الله قال الناس أصابه لمم أو طائف من الجنّ قالت

(1/226)


فغلبونى على رأيى حتى انطلقت به الى الكاهن فقصصت عليه قصته من أوّلها الى آخرها قال دعينى أنا أسمع من الغلام فان الغلام أبصر بأمره منكم تكلم يا غلام قالت فقص ابنى محمد قصته من أوّلها الى آخرها فوثب الكاهن قائما على قدميه وضمه الى صدره ونادى بأعلى صوته يا آل العرب يا آل العرب من شرّ قد اقترب اقتلوا هذا الغلام واقتلونى معه فانكم ان تركتموه وأدرك مدرك الرجال ليسفهنّ أحلامكم وليبدلنّ أديانكم وليعونكم الى رب لا تعرفونه ودين تنكرونه* قالت فلما سمعت مقالته انتزعته من يده وقلت أنت أعته وأجنّ من ابنى ولو علمت ان هذا يكون منك ما أتيتك به اطلب لنفسك من يقتلك فانا لا نقتل محمدا فاحتملته فأتيت به منزلى فما بقى يومئذ بيت فى بنى سعد الّا وجد منه ريح المسك وكان ينقض عليه فى كل يوم طيران أبيضان يغيبان فى ثيابه ولا يظهران فلما رأى أبوه ذلك قال لى يا حليمة انا لا نأمن على هذا الغلام وخشيت عليه من تباع الكهنة فألحقيه بأهله قبل أن يصيبه عندنا شىء قالت فلما عزمت على ذلك سمعت صوتا فى جوف الليل ينادى ذهب ربيع الخير وأمان بنى سعد هنيئا لبطحاء مكة اذا كان مثلك فيها يا محمد فالآن قد أمنت أن تخرب أو يصيبها بؤس بدخولك اليها يا خير البشر قالت فلما أصبخت ركبت اتانى ووضعت النبىّ صلّى الله عليه وسلم بين يدى فلم أكن أقدر مما كنت انادى يمنة ويسرة حتى انتهيت الى الباب الاعظم من أبواب مكة وعليه جماعة مجتمعون فنزلت لا قضى حاجتى وأنزلت النبىّ صلّى الله عليه وسلم فغشيتنى كالسحابة البيضاء وسمعت صوتا شديدا ففرعت وجعلت ألتفت يمنة ويسرة ونظرت فلم أر النبىّ صلّى الله عليه وسلم فصحت يا معشر قريش الغلام الغلام قالوا وما الغلام قلت محمد ابن آمنة فجعلت أبكى وأنادى وا محمداه فبينا أنا كذلك اذا أنا بشيخ كبير قد استقبلنى فقال لى مالك أيتها السعدية قلت ان لى لقصة عجيبة محمد ابن آمنة أرضعته ثلاث سنين لا افارقه ليله ولا نهاره فعيشنى الله به وأنضر وجهى وجئت لأؤدّى الى امّه الامانة ليخرج من عهدى وامانتى فاختلس منى اختلاسا قبل أن يمس قدمه الارض فقال الشيخ لا تبكى أيتها السعدية ادخلى على هبل فتضرّعى اليه فلعله يردّه عليك فانّه القوى على ذلك العالم بأمره فقلت أيها الشيخ كأنك لم تشهد ولادة محمد ليلة ولد ما نزل باللات والعزى فقال لى أيتها السعدية انى أراك جزعة وأنا ادخل على هبل واذكر أمرك له فقد قطعت اكبادنا ببكائك مالا حد من الناس على هذا صبر قالت فقعدت مكانى متحيرة ودخل الشيخ على هبل وعيناه تذرفان بالدموع فسجد له طويلا وطاف به اسبوعا ثم نادى يا عظيم المنّ يا قويا فى الاموران منتك على قريش كثيرة وهذه السعدية مرضعة محمد تبكى قد قطع بكاؤها الانياط فان رأيت ان تردّه عليها ان شئت* قالت فارتج والله الصنم وتنكس ومشى على رأسه وسمعت منه صوتا يقول أيها الشيخ أنت فى غرور مالى ولمحمد وانما يكون هلاكنا على يديه وان رب محمد لم يكن ليضيعه بل يحفظه أبلغ عبدة الاوثان ان معه الذبح الاكبر الا أن يدخلوا فى دينه قالت فخرج الشيخ فزعا مرعوبا تسمع لسنه قعقعة ولركبتيه اصطكاك قال لى يا حليمة ما رأيت من هبل مثل هذا قط فاطلبى ابنك انى لأرى ان يكون لهذا الغلام شأن عظيم قالت فقلت لنفسى كم تكتمين امره من عبد المطلب اخبريه الخبر قبل أن يأتيه من غيرك قالت فدخلت على عبد المطلب فلما نظر الىّ قال لى يا حليمة مالى اراك جزعة باكية ولا ارى معك محمدا قالت فقلت يا أبا الحارث جئت بمحمد وهو أسر ما كان فلما صرت على الباب الاعظم من ابواب مكة نزلت لاقضى حاجتى فاختلس منى اختلاسا قبل ان يمس قدمه الارض فقال لى اقعدى يا حليمة ثم علا الصفا فنادى يا آل غالب يعنى آل قريش فاجتمع اليه الرجال فقالوا له قل يا أبا الحارث فقد أجبناك قال لهم ان ابنى محمدا فقد قالوا له فاركب يا أبا الحارث حتى نركب معك قالت فركب عبد المطلب وركب الناس معه فأخذ أعلا مكة وانحدر

(1/227)


بأسفلها فلما لم ير شيئا ترك الناس واتزر بثوب وارتدى بآخر واقبل الى البيت الحرام فطاف به اسبوعا وانشأ يقول
يا رب ردّ راكبى محمدا ... ردّ الىّ واتخذ عندى يدا
انت الذى جعلته لى عضدا ... يا رب ان محمد لم يوجدا
فجمع قومى كلهم تبدّدا
قال فسمعنا مناديا ينادى من جوّ الهواء يا معشر الناس لا تضجوا فان لمحمد ربا لا يضيعه ولا يخذله قال عبد المطلب يا أيها الهاتف من لنا به واين هو قال بوادى تهامة فأقبل عبد المطلب راكبا متسلحا فلما صار فى بعض الطريق تلقاه ورقة بن نوفل فصارا جميعا يسيران فبيناهم كذلك اذا النبىّ صلّى الله عليه وسلم تحت شجرة* وفى رواية بينا ابو مسعود الثقفى وعمرو بن نوفل يدوران على رواحلهما اذا هما برسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما عند شجرة الطلحة وهى الموز يتناول من ورقها فأقبل اليه عمرو وهو لا يعرفه فقال له من انت يا غلام فقال انا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى اتى به عبد المطلب* روى عن ابن عباس انه قال لما ردّ الله محمدا على عبد المطلب تصدّق بألف ناقة كوماء وخمسين رطلا من ذهب ثم جهز حليمة بأفضل الجهاز* وفى هذه السنة الثالثة من مولده عليه السلام ولد أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه بمنى كذا فى زبدة الاعمال وسيجىء فى الخاتمة ذكر خلافته وما وقع فيها وذكر وفاته ان شاء الله تعالى* وفى السنة الرابعة من مولده صلّى الله عليه وسلم ايضا وقع شق الصدر قد ذكر أن شق الصدر كان فى السنة الثالثة من مولده صلى الله عليه وسلم وقيل كان فى الرابعة على ما روى محمد بن سعد قال مكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عندهم سنتين حتى فطم فقدموا به على امّه زائرين لها به وأخبرتها حليمة خبره وما رأوا من بركته فقالت آمنة ارجعى بابنى فانى أخاف عليه وباء مكة فو الله ليكونن له شأن فرجعت به حليمة مرّة ثانية ومكث عندهم سنتين بعد الفطام أيضا فلما كان ابن أربع سنين أتاه ملكان فشقا بطنه وذكر قصة ذلك الى آخرها ثم نزلت به حليمة الى آمنة وأخبرتها ثم رجعت به مرّة ثالثة وكان عندها سنة اخرى ونحوها لا تدعه يذهب مكانا بعيد الا وهى تلخطه ثم رأت غمامة تظلله اذا وقف وقفت واذا سار سارت فأفزعها ذلك أيضا من أمره فقدمت به الى امّه لتردّه وهو ابن خمس سنين كذا فى الصفوة* وفى حياة الحيوان فأقام فى بنى سعد خمس سنين فاضلته فى الناس فالتمسته فلم تجده وذكر نحو ما تقدّم فى الاختلاس منها وفى رواية ان عبد المطلب بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى حاجة ففقد الطريق فقال اللهم أدركنى محمدا القصة كما مرّت* روى أن حليمة قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة بعد تزوّجه خديجة فشكت اليه جدب البلاد وهلاك المواشى فكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم خديجة فأعطتها بعيرا وأربعين شاة وانصرفت الى أهلها ثم قدمت عليه بعد الاسلام فأسلمت هى وزوجها وبايعهما* وفى ذخائر العقبى عن عطاء بن يسار قال جاءت حليمة بنت عبد الله أمّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم من الرضاعة اليه يوم حنين فقام اليها وبسط رداءه لها فجلست عليه* وفى المنتقى ورد فى الحديث استأذنت امرأة على النبىّ صلّى الله عليه وسلم كانت أرضعته فلما دخلت عليه قال أمى أمى وعمد الى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه وروى أنها جاءت الى أبى بكر بعده فأكرمها والى عمر فأكرمها وروت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم روى عنها عبد الله بن جعفر خرجه أبو عمرو* وفى مزيل الخفاء صحح ابن حبان وغيره حديثا دل على اسلامها وقيل لم يثبت اسلامها* قال الحافظ الدمياطى حليمة لم تعرف لها صحبة واخوته من الرضاعة حمزة وأبو سلمة بن عبد الاسد أرضعتهما مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثويبة جارية أبى لهب بلبن

(1/228)


ابنها مسروح كما تقدّم ومسروح بن ثويبة وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أرضعته ورسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية وعبيد الله وأنيسة وحذافة وتعرف بالشيماء أولاد حليمة السعدية ذكر ذلك أبو سعد وغيره* قال الطبرى لم أظفر بذكر ثويبة وابنها ولعلهما لم يسلما فلذلك لم يذكرهما أبو عمرو وكذلك لم يذكر من أولاد حليمة غير الشيماء واسمها حذاقة وانما غلب لقبها فلا تعرف فى قومها الا به وقد ذكر أنها كانت تحضن النبىّ صلّى الله عليه وسلم مع امّها قال وروى أن خيلا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أغاروا على هوازن فأخذوها فى جملة السبى فقالت لهم أنا اخت صاحبكم فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت له يا محمد أنا اختك وعرفته بعلامة عرفها فرحب بها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه ودمعت عيناه وقال صلّى الله عليه وسلم ان أحببت فأقيمى عندى مكرمة محببة وان أحببت أن ترجعى الى قومك وصلتك قالت بل أرجع الى قومى فأسلمت وأعطاها النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء كثيرا ذكره أبو عمرو وابن قتيبة كذا فى ذخائر العقبى* ومن وقائع السنة الخامسة من مولده صلّى الله عليه وسلم ما روى عن أبى حازم أنه قال قدم كاهن مكة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن خمس سنين وقدمت به ظئره الى عبد المطلب وكانت تأتيه به كل عام فنظر اليه الكاهن مع عبد المطلب فقال يا معشر قريش اقتلوا هذا الصبى فانه يفرقكم ويقتلكم فهرب به عبد المطلب فلم تزل قريش تخشى من أمره ما كان حذرهم الكاهن*

وفاة آمنة
وفى السنة السادسة من مولده صلّى الله عليه وسلم وفاة آمنة* فى المواهب اللدنية لما بلغ صلّى الله عليه وسلم ست سنين وقيل أربع وقيل خمس وقيل سبع وقيل تسع وقيل اثنتى عشرة سنة وشهر او عشرة أيام ماتت أمّه بالابواء وقيل بشعب أبى دئب بالحجون* وفى القاموس ودار رابعة بمكة فيها مدفن آمنة أمّ النبى صلّى الله عليه وسلم وفى ذخائر العقبى قال ابن سعد دفنت أمّه صلّى الله عليه وسلم بمكة وان أهل مكة يزعمون ان قبرها فى مقابر أهل مكة من الشعب المعروف بشعب أبى ذئب رجل من سراة بنى عمرو وقيل قبرها فى دار رابعة فى المعلاة بثنية أذاخر عند حائط حلما* وفى المواهب اللدنية وأخرج ابن سعد عن ابن عباس وعن الزهرى وعن عاصم بن عمر ابن قتادة دخل حديث بعضهم فى بعض قالوا لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ست سنين خرجت به أمّه الى أخواله بنى عدى بن النجار بالمدينة تزورهم ومعها أمّ أيمن فنزلت به دار التابعة وهو رجل من بنى النجار وكان قبر عبد الله أبى النبى صلّى الله عليه وسلم فى تلك الدار فأقامت به شهرا عندهم وكان صلّى الله عليه وسلم يذكر أمورا كانت فى مقامه ذلك ونظر الى الدار فقال ههنا نزلت بى امى وأحسنت العوم فى بئر بنى عدى بن النجار وكان قوم من اليهود يختلفون علىّ ينظرون الىّ قالت أمّ أيمن فسمعت أحدهم يقول هو نبى هذه الامّة وهذه دار هجرته فوعيت ذلك كله من كلامهم ثم رجعت أمّه الى مكة فلما وصلوا الابواء وهو موضع بين مكة والمدينة توفيت* وروى أبو نعيم من طريق الزهرى عن اسماء بنت رهم عن أمّها قالت شهدت آمنة امّ النبى صلّى الله عليه وسلم فى علتها التى ماتت بها ومحمد صلّى الله عليه وسلم غلام يفع له خمس سنين فنظرت الى وجهه ثم قالت
بارك فيك الله من غلام ... يا ابن الذى من حومة الحمام
نجا بعون الملك العلام ... فودى غداة الضرب بالسهام
بمائة من ابل سوام ... ان صح ما أبصرت فى المنام
فأنت مبعوث الى الانام ... من عند ذى الجلال والاكرام
تبعث فى الحل وفى الحرام ... تبعث فى التحقيق والاسلام
دين أبيك البر ابراهام ... فالله انهاك عن الاصنام
ان لا تواليها مع الاقوام

(1/229)


ثم قالت كل حىّ ميت وكل جديد بال وكل كبير يفنى وأنا ميتة وذكرى باق وقد تركت خيرا وولدت طهرا ثم ماتت قالت فكنا نصمع نوح الجنّ عليها فحفظنا من ذلك هذه الابيات
نبكى الفتاة البرّة الامينة ... ذات الجمال العفة الرزينة
زوجة عبد الله والقرينة ... امّ نبى الله ذى السكينة
وصاحب المنبر بالمدينة ... صارت لدى حفرتها رهينة

احياء أبويه صلّى الله عليه وسلم
وفى الحدائق لابن الجوزى لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالابواء في عمرة الحديبية وفى المنتقى وغيره فى غزوة بنى لحيان قال ان الله قد أذن لمحمد فى قبر أمّه فأتاه فأصلحه وبكى عنده وبكى المسلمون لبكائه فقيل له فى ذلك فقال أدركتنى رحمة رحمتها فبكيت وأخرج مسلم فى افراده من حديث أبى هريرة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال استأذنت ربى أن أستغفر لامى فلم يأذن لى واستأذنته ان أزور قبرها فأذن لى وسيجىء فى الموطن السادس* وفى الاستيعاب استرضع له صلّى الله عليه وسلم فى بنى سعد بن بكر حليمة بنت أبى ذؤيب السعدية وردّته ظئره حليمة الى أمّه آمنة بنت وهب بعد خمس سنين ويومين من مولده وذلك سنة ست من عام الفيل فأخرجته أمّه الى أخوال أبيه بنى النجار تزورهم به بعد سبع سنين من عام الفيل وتوفيت أمّه بعد ذلك بشهر بالابواء ومعها النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقدمت به أمّ أيمن مكة بعد موت أمّه بخمسة أيام روى أنها آمنت بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم بعد موتها* قال الشيخ جلال الدين السيوطى فى رسالته المسماة بالدرجة المنيفة فى الآباء الشريفة وذهب جمع كثير من الائمة الاعلام الى ان أبوى النبىّ صلّى الله عليه وسلم ناجيان محكوم لهما بالنجاة فى الآخرة وهم أعلم الناس بأقوال من خالفهم وقال بغير ذلك ولا يقصرون عنهم فى الدرجة ومن أحفظ الناس للاحاديث والآثار وانقد الناس بالادلة التى استدل بها أولئك فانهم جامعون لانواع العلوم ومتضلعون من الفنون خصوصا الاربعة التى استمدّ منها هذه المسألة فانها مبنية على ثلاث قواعد كلامية وأصولية وفقهية وقاعدة رابعة مشتركة بين الحديث واصول الفقه مع ما يحتاج اليه من سعة الحفظ فى الحديث وصحة النقل له وطول الباع فى الاطلاع على ما تقول الائمة وجمع متفرّقات كلامهم فلا يظنّ بهم انهم لم يقفوا على الاحاديث التى استدل بها أولئك معاذ الله بل وقفوا عليها وخاضوا غمرتها وأجابوا عنها بالاجوبة المرضية التى لا يردّها منصف وأقاموا لما ذهبوا اليه ادلة قاطعة كالجبال الرواسى والفريقان أئمة أكابر أجلاء* واختلف القائلون بالنجاة فى مدرك ذلك على ثلاث درجات الدرجة الاولى ان الله تعالى أحياهما له فآمنا به وذلك فى حجة الوداع لحديث فى ذلك ورد عن عائشة روى المحب الطبرى فى ذخائر العقبى بسنده عن عائشة رضى الله عنها انها قالت ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم نزل الحجون كئيبا حزينا فأقام به ما شاء الله ثم رجع مسرورا قال سألت ربى فأحيالى أمى فآمنت بى ثم ردّها ورواه أبو حفص بن شاهين فى كتاب الناسخ والمنسوخ له بلفظ قالت عائشة حج بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حجة الوداع فمرّ بى على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتمّ فبكيت لبكائه ثم انه نزل فقال يا حميراء استمسكى فاستندت الى جنب البعير فمكث مليا ثم عاد الىّ وهو متبسم فقال ذهبت لقبر أمى فسألت ربى أن يحيها فأحياها فآمنت بى وكذا روى من حديث عائشة أيضا أحيا الله أبويه حتى آمنا به أورده السهيلى فى شرح السيرة والخطيب فى السابق واللاحق وابن شاهين فى الناسخ والمنسوخ والدارقطنى وابن عساكر كلاهما فى غرائب مالك والبغوى فى تفسيره والمحب الطبرى فى خلاصة السير وأورده البيهقى فى الروض الانف من وجه آخر بلفظ واسناده ضعيف وقد مال اليه ابن شاهين والطبرى والسهيلى وكذا القرطبى وابن المنذر ونقله ابن سيد الناس عن بعض أهل العلم وقال به الصلاح الصفدى فى نظم له والحافظ

(1/230)


شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقى فى أبيات له وجعلوه ناسخا لما خالفه من الاحاديث لتأخره ولم يبالوا بضعفه لانّ الحديث الضعيف يعمل به فى الفضائل والمناقب وهذه منقبة وقد أيد بعضهم هذا الحديث بالقاعدة التى اتفق عليها الائمة انه ما أوتى نبى معجزة الا وأوتى نبينا صلّى الله عليه وسلم مثلها وقد أحيا الله لعيسى الموتى من قبورهم فلا بدّ أن يكون لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك ولم يرد من هذا النوع الا هذه القصة ولم يستبعد ثبوتها وان كان له من هذا النمط نطق الذراع وحنين الجذع الا أن هذه غير ما وقع لعيسى فهو أشبه بالمماثلة ولا شك أن من الطرق التى يعتضد بها الحديث الضعيف موافقته القواعد المقررة* قال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقى
حبا الله النبىّ مزيد فضل ... على فضل وكان به رؤفا
فأحيا امّه وكذا أباه ... لايمان به فضلا لطيفا
فسلم فالقديم بذاقدير ... وان كان الحديث به ضعيفا
قال الشيخ أحمد القسطلانى فى المواهب اللدنيه قال السهيلى ان فى اسناده مجاهيل قال ابن كثير انه حديث منكر جدا وسنده مجهول* وقال ابن دحية هذا الحديث موضوع يردّه القرآن والاجماع انتهى وتعقبه عالم آخر بأنه لم ير احدا صرّح بأن الايمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه فان ادّعى أحد الخصوصية فعليه الدليل وقد سبقه بذلك أبو الخطاب بن دحية وعبارته من مات كافرا لم ينفعه الايمان بعد الرجعة بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك فكيف بعد الاعادة انتهى وتعقبه القرطبى فى التذكرة بأن فضائله صلّى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع الى حين مماته فيكون هذا مما خصه الله به وأكرمه وليس احياؤهما وايمانهما ممتنعا عقلا ولا شرعا فقد ورد فى الكتاب العزيز احياء قتيل بنى اسرائيل واخباره بقاتله* وكان عيسى عليه السلام يحيى الموتى وكذلك نبينا صلّى الله عليه وسلم أحيا الله على يده جماعة من الموتى* وذكر المفسرون ان الله أحيا أمّ يوسف تحقيقا لرؤياه ورسول الله صلّى الله عليه وسلم أحق بذلك والله على كل شىء قدير والظنّ بالله جميل وليس تعجز قدرته عن ذلك* قال السهيلى والنبىّ صلّى الله عليه وسلم أهل لان يخصه الله تعالى بما شاء ومثل هذا ذكر ابن سيد الناس فى سيرته وأجاد واذا ثبت هذا فما يمتنع ايمانهما بعد احيائهما ويكون ذلك زيادة فى كرامته وفضيلته ثم قال وقوله من مات كافرا لم ينفعه الايمان بعد الرجعة الى آخره مردود بما روى فى الخبران الله ردّ الشمس على نبيه صلّى الله عليه وسلم بعد مغيبها ذكره الطحاوى وقال انه حديث ثابت فلو لم يكن رجوع الشمس نافعا وانه لا يتجدّد به الوقت لما ردّها عليه فكذلك يكون احياء أبوى النبىّ صلّى الله عليه وسلم نافعا لايمانهما وتصديقهما بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم انتهى وقد طعن بعضهم فى حديث ردّ الشمس* الدرجة الثانية قال السيوطى انهما لم يبلغا الدعوة لانهما كانا فى زمن فترة عم الجهل فيها المشرق والمغرب فلم يكن اذ ذاك أحد يبلغ الدعوة على وجهها ولا من يدرى شيئا من الشرائع مع ضميمة انهما قبضا فى حداثة السنّ ولم يبلغا سنا يحتمل الوقوف على الاخبار والتفحص عنها بالاسفار فان والده كما صحح الحافظ صلاح الدين العلائى انه عاش نحو ثمان عشرة سنة ووالدته عاشت نحو العشرين تقريبا مع زيادة انها مخدّرة مصونة محجوبة فى البيت لا تجتمع بالرجال ولا تجد من يخبرها واذا كان النساء اليوم مع فشو الاسلام والفقه شرقا وغربا لا يدرين غالب أحكام الشريعة لعدم مخالطتهنّ الفقهاء فما ظنك بزمان الجاهلية والفترة* وقد اختلف عبارة الاصحاب فيمن لم تبلغه الدعوة فأحسنها من قال فيها ناج وقال بعض الاصحاب مسلم وقال الغزالى التحقيق أن يقال فى معنى المسلم واستدلوا على ذلك بثمان آيات من القرآن قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وبستة أحاديث منها ما أخرجه الامام أحمد

(1/231)


واسحاق بن راهويه فى مسنديهما والبيهقى فى الاعتقاد وصححه عن الاسود بن شرح* وعن أبى هريرة أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات فى فترة الى ان قال وأما الذى مات فى الفترة فيقول رب ما أتانى لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل اليهم أن ادخلوا النار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدحلها يسحب اليها وما أخرجه البزار فى مسنده عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤتى بالهالك فى الفترة والمعتوه والمولود فيقول الهالك فى الفترة لم يأتنى كتاب ولا رسول ويقول المعتوه أى رب لم تجعل لى عقلا أعقل به خيرا ولا شرّا ويقول المولود لم أدرك العمل فيرفع لهم نار فيقال لهم ردوها فيدخلها من كان فى علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان فى علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول تبارك وتعالى اياى عصيتم فكيف برسلى بالغيب وما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبى حاتم وابن المنذر فى تفاسيرهم بسند صحيح عن أبى هريرة قال اذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والاصم والابكم والشيوخ الذين لم يدركوا الاسلام ثم أرسل اليهم رسولا أن ادخلوا النار فيقولون كيف ولم يأتنا رسل ولا كتاب وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل اليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قال أبو هريرة اقرأوا ان شئتم وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وحديث رابع أخرجه الحاكم فى مستدركه من حديث ثوبان وقال صحيح على شرط الشيخين وأقرّه الذهبى وخامس أخرجه البزار وأبو يعلى من حديث أنس وسادس أخرجه أبو نعيم من حديث معاذ بن جبل* قال العلماء هذه الآيات والاحاديث ناسخة لكل ما خالفها من الاحاديث الثابتة فى البخارى ومسلم وغيرهما كما أن الاحاديث الواردة فى أطفال المشركين انهم فى النار منسوخة بقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى والاحاديث الواردة بخلاف ذلك وقد مشى على هذا المدرك جماعة آخرهم امام الحفاظ فى زمانه قاضى القضاة شهاب الدين بن حجر فقال الظنّ بآبائه صلّى الله عليه وسلم كلهم يعنى الذين ماتوا قبل البعثة انهم يطيعونه عند الامتحان لتقرّبهم عينه صلّى الله عليه وسلم انتهى ويدل له من الحديث ما أخرجه ابن جريز فى تفسيره عن ابن عباس فى قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى قال من رضا محمد صلّى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار وما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلم سئل عن أبويه فقال ما سألتهما ربى فيعطينى فيهما وانى لقائم يومئذ المقام المحمود فهذا يلوح بأنه يترجى الشفاعة عند الامتحان ولولا عدم بلوغ الدعوة لم تكن هذه الشفاعة لان الشفاعة لا تكون لمن بلغته الدعوة وعاند وقد صرّح بهذا التلويح فى حديث أخرجه البزار فى فوائده بسند ضعيف عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اذا كان يوم القيامة شفعت لابى وأمى وعمى أبى طالب وأخ لى فى الجاهلية* أورد المحب الطبرى وهو من الحفاظ والفقهاء فى كتاب ذخائر العقبى فى مناقب ذوى القربى وقال ان ثبت فهو مؤوّل فى أبى طالب على ما ورد فى الصحيح من تخفيف العذاب عنه بشفاعته انتهى فاحتاج الى تأويله فى أبى طالب لانه أدرك البعثة ولم يسلم وقد مرّ اختلاف عبارة الاصحاب فيمن لم تبلغه الدعوة حيث قال وأحسنها من قال فيها ناج وقال بعض الاصحاب مسلم وقال الغزالى التحقيق أن يقال فى معنى المسلم قال القسطلانى فى المواهب اللدنية وفى صحيح مسلم أن رجلا قال يا رسول الله أين أبى قال فى النار فلما قفاه دعاه وقال ان أبى وأباك فى النار* قال النووى فيه أن من مات على الكفر فهو فى النار ولا تنفعه قرابة المقربين وفيه أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الاوثان فهو فى النار وليس فى هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فان هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة ابراهيم وغيره من الانبياء وقال
الامام فخر الدين الرازى من مات مشركا فهو فى النار وان مات قبل البعثة لان المشركين كانوا

(1/232)


قد عيروا الحنيفية دين ابراهيم واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به ولم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أوّلهم الى آخرهم قبح الشرك والوعيد عليه فى النار وأخبار عقوبات الله لاهله متداولة بين الامم قرنا بعد قرن فلله الحجة البالغة على المشركين فى كل وقت وحين ولو لم يكن الا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبيته لكفى فانه يستحيل فى كل فطرة وعقل أن يكون معه اله آخر وان كان الله سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها فلم تزل دعوة الرسل الى التوحيد فى الارض معلومة لاهلها فالمشرك مستحق للعذاب فى النار لمخالفته دعوى الرسل وهو مخلد فيها دائما كخلود أهل الجنة فى الجنة وقد تعقب العلامة أبو عبد الله الابوى من المالكية فيما وضعه على صحيح مسلم قول النووى وفيه أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الاوثان فى النار الى آخره بما معناه تأمّل ما فى كلامه من التنافى فان من بلغتهم الدعوة ليسوا من أهل الفترة لان أهل الفترة هم الامم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل اليهم الرسول الاوّل ولا أدركوا الثانى كالاعراب الذين لم يرسل اليهم عيسى عليه السلام ولا لحقوا النبىّ صلّى الله عليه وسلم فالفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين كالفترة بين نوح وهود ولكن الفقهاء اذا تكلموا فى الفترة فانما يعنون التى بين عيسى ونبينا عليهما السلام وذكر البخارى عن سلمان أنها كانت ستمائة سنة ولما دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة علمنا أنهم غير معذبين* فان قيل قد صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة كحديث رأيت عمرو بن لحى يجرّ قصبه فى النار ورأيت صاحب المحجن فى النار وهو الذى كان يسرق الحاج بمحجنه فاذا أبصر به قال ليس كما تقولون وانما يتعلق بمحجنى* أجيب بأجوبة أحدها أنها اخبار آحاد فلا تعارض القطع* الثانى قصر التعذيب على هؤلاء والله أعلم بالسبب* الثالث قصر التعذيب المذكور فى هذه الاحاديث على من بدّل وغير من أهل الفترة بما لا يعذر به من الضلال كعبادة الاوثان وتغيير الشرائع فان أهل الفترة ثلاثة أقسام* الاوّل من أدرك التوحيد ببصيرته ثم من هؤلاء من لم يدخل فى شريعة كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل ومنهم من دخل فى شريعة حق قائمة الرسم كتبع وقومه من حمير وأهل نجران وورقة بن نوفل وعمه عثمان بن الحويرث* القسم الثانى من أهل الفترة وهم من بدل وغير فأشرك ولم يوحد وشرع لنفسه فحلل وحرّم وهم الاكثر كعمرو بن لحى أوّل من سنّ للعرب عبادة الاصنام وشرع الاحكام فبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحام وتبعته العرب فى ذلك وغيره مما يطول ذكره* وفى أنوار التنزيل اذ انتحت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا اذنها أى شقوها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحلب* وفى المدارك ولا تطرد من ماء ولا مرعى واسمها البحيرة انتهى وكان الرجل منهم يقول ان شفيت وفى المدارك من مرضى أو قدمت من سفرى فناقتى سائبة ويجعلها كالبحيرة فى تحريم الانتفاع بها* وفى المدارك قيل كان الرجل اذا أعتق عبدا قال هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث وفى الصحاح سيبت الدابة تركتها تسيب حيث شاءت أى تجرى والسائبة الناقة التى كانت تسيب فى الجاهلية لنذر ونحوه وقد قيل هى أم البحيرة كانت الناقة فى الجاهلية اذا ولدت عشرة أبطن كلهم اناث سيبت ولم تركب ولم يشرب لبنها الا ولدها والضيف حتى تموت فاذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعا وبحرت اذن بنتها الصغيرة فتسمى البحيرة وهى بمنزلة أمّها فى أنها سائبة وفى القاموس الناقة كانت تسيب فى الجاهلية لنذر ونحوه أو كانت اذا ولدت عشرة أبطن كلهم اناث سيبت أو كان الرجل اذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابة من مشقة أو حرب قال هى سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما وكانت لا تمنع من ماء وكلأ ولا تركب* وفى أنوار التنزيل واذا ولدت الشاة انثى فهى لهم وان ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وان ولدتهما وصلت الانثى أخاها فلا يذبح لها

(1/233)


الذكر واذ انتحت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى وقالوا قد حمى ظهره* وفى المدارك وكانت الشاة اذا ولدت سبعة أبطن فان كان السابع ذكرا أكله الرجال وان كان انثى أرسلت فى الغنم وكذا ان كان ذكرا وانثى وقالوا وصلت أخاها فهى بمعنى الواصلة انتهى* (القسم الثالث من أهل الفترة) * وهم من لم يشرك ولم يوحد ولا دخل فى شريعة نبى ولا ابتكر لنفسه شريعة ولا اخترع دينا بل بقى عمره على حال غفلة من هذا كله وفى الجاهلية من كان على ذلك واذا انقسم أهل الفترة الى الثلاثة الاقسام فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثانى لكفرهم بما تعدّوا به من الخبائث والله تعالى سمى جميع هذا من القسم كفارا ومشركين فانا نجد القرآن كلما حكى حال أحد سجل عليهم بالكفر والشرك كقوله تعالى ما جعل الله من بحيرة ثم قال ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب* والقسم الثالث هم أهل الفترة حقيقة وهم غير معذبين وأما أهل القسم الاوّل كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو فقد قال عليه السلام فى كل منهما انه يبعث أمّة وحده وأما عثمان بن الحويرث وتبع وقومه وأهل نجران فحكمهم حكم أهل الدين الذى دخلوا فيه ما لم يلحق أحد منهم الاسلام الناسخ لكل دين انتهى ملخصا* الدرجة الثالثة قال الشيخ جلال الدين السيوطى ان أبوى النبىّ صلّى الله عليه وسلم كانا على التوحيد ودين ابراهيم كما كان كذلك طائفة من العرب كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل وعمير بن حبيب الجهنى وعمرو بن عنبسة فى جماعة آخرين وهذه طائفة ذكرها الامام فخر الدين الرازى وزاد أن آباء النبىّ كلهم الى آدم على التوحيد لم يكن فيهم شرك قال مما يدل على أن آباء محمد صلّى الله عليه وسلم ما كانوا مشركين قوله عليه السلام لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين الى أرحام الطاهرات وقال تعالى انما المشركون نجس فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركا* قال ومن ذلك قوله تعالى الذى يراك حين تقوم وتقلبك فى الساجدين معناه انه كان ينقل نوره من ساجد الى ساجد قال وبهذا التقرير فالآية دالة على أن جميع آباء محمد صلّى الله عليه وسلم كانوا مسلمين قال وحينئذ يجب القطع بأن والد ابراهيم ما كان من الكافرين وان آزر لم يكن والده وانما ذلك عمه أقصى ما فى الباب أن يحمل قوله وتقلبك فى الساجدين على وجوه اخرى فاذا وردت الروايات بالكل ولا منافاة بينها وجب حمل الآية على الكل وبذلك ثبت أن والد ابراهيم ما كان من عبدة الاوثان وان آزر لم يكن والده بل كان عمه انتهى ملخصا ووافقه على الاستدلال بالآية الثانية بهذا المعنى الامام الماوردى صاحب الحاوى الكبير من أئمة أصحاب الشافعى وقد وجدت ما يعضد هذه المقالة من الادلة ما بين مجمل ومفصل فالمجمل دليله مركب من مقدّمتين* احداهما أن الاحاديث الصحيحة دلت على أن كل أصل من اصوله صلّى الله عليه وسلم من آدم الى أبيه خير أهل زمانه* والثانية ان الاحاديث والآثار دلت على أنه لم تخل الارض من عهد نوح الى بعثة النبىّ صلّى الله عليه وسلم من ناس على الفطرة يعبدون الله ويوحدونه ويصلون له وبهم تحفظ الارض ولو لاهم هلكت الارض ومن عليها* ومن أدلة المقدّمة الاولى حديث بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذى كنت فيه وفى سنن البيهقى ما افترق الناس فرقتين الا جعلنى الله فى خيرهما وأخرجت من بين أبوىّ فلم يصبنى شىء من عهد الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت الى أبى وأمى فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا ولا فخر* وحديث أبى نعيم وغيره لم يزل الله ينقلنى من الاصلاب الطيبة الى الارحام الطاهرة مصفى مهذبا ما تتشعب شعبتان الا كنت فى خيرهما فى أحاديث كثيرة* ومن أدلة المقدمة الثانية ما أخرجه عبد الرزاق فى المصنف وابن المنذر فى تفسيره بسند صحيح على شرط الشيخين عن على ابن أبى طالب قال لم يزل على وجه الارض من يعبد الله عليها
وأخرج الامام أحمد ابن حنبل فى الزهد

(1/234)


والجلال فى كرامات الاولياء بسند صحيح على شرط الشيخين عن ابن عباس قال ما خلت الارض من بعد نوح من سبعة يدفع الله بهم عن أهل الارض فى آثار أخر واذا قرنت بين المقدمتين أنتج منهما قطعا ان آباء النبىّ صلّى الله عليه وسلم لم يكن فيهم مشرك لانه قد ثبت فى كل منهم أنه خير قرنه فان كان الناس الذين هم على الفطرة هم آباؤهم فهو المدّعى وان كانوا غيرهم وعلى الشرك لزم أحد أمرين اما أن يكون المشرك خيرا من المسلم وهو باطل بنص القرآن والاجماع واما أن يكون غيرهم خيرا منهم وهو باطل لمخالفته الاحاديث الصحيحة فوجب قطعا أن لا يكون فيهم مشرك ليكونوا خير أهل الارض كل فى قرنه هذا ما قاله السيوطى وقال القسطلانى فى المواهب اللدنية ويتعقب بأنه لا دلالة فى قوله تعالى وتقلبك فى الساجدين على ما ادّعاه لما ذكر البيضاوى فى تفسيره ان معنى الآية وتردّدك فى تصفح أحوال المجتهدين لما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف عليه السلام تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى وقد ورد النص بأن أبا ابراهيم عليه السلام مات على الكفر كما صرّح به البيضاوى وغيره قال الله تعالى فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرّ أمنه وأما قوله انه كان عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل انتهى* ونقل الامام أبو حيان فى البحر عند تفسير وتقلبك فى الساجدين أن الرافضة هم القائلون بأن آباء النبىّ صلّى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين مستدلين بقوله تعالى وتقلبك فى الساجدين وبقوله صلّى الله عليه وسلم لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين الحديث انتهى* وعن ابن جرير عن علقمة بن مرثد عن سليمان عن أبيه أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قبر فجلس اليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا يا رسول الله انا رأينا ما صنعت قال انى استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى فأذن لى واستأذنته فى الاستغفار فلم يأذن لى فما رؤى باكيا أكثر من يومئذ* وروى ابن أبى حاتم فى تفسيره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى الى المقابر فاتبعناه فحاء حتى جلس الى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام اليه عمر بن الخطاب فدعاه ثم دعانا فقال ما أبكاكم قلنا بكينا لبكائك فقال ان القبر الذى جلست عنده قبر آمنة وانى استأذنت ربى فى زيارتها فأذن لى واستأذنته فى الدعاء لها فلم يأذن لى وأنزل علىّ ما كان للنبىّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى فأخذنى ما يأخذ الولد عند الولد ورواه الطبرانى فى حديث ابن عباس* وفى مسلم استأذنت ربى أن أستغفر لامى فلم يأذن لى واستأذنته فى ان أزور قبرها فأذن لى فزوروا القبور فانها تذكر الآخرة* قال القاضى عياض بكاؤه عليه السلام على ما فاتهما من ادراك أيامه والايمان به انتهى كلام القسطلانى* وقال السيوطى فى الدرجة المنيفة أخرج البزار فى مسنده وابن جرير وابن أبى حاتم وابن المنذر فى تفاسيرهم والحاكم فى المستدرك وصححه عن ابن عباس فى قوله تعالى كان الناس أمّة واحدة قال بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين وأخرج ابن أبى حاتم عن قتادة فى الآية قال ذكر لنا انه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم علماء بهدى وعلى شريعة من الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله نوحا وكان أوّل رسول أرسله الله الى أهل الارض* وفى التنزيل حكاية عن نوح عليه السلام انه قال رب اغفر لى ولوالدىّ ولمن دخل بيتى مؤمنا فثبت بهذا ايمان اجداده صلّى الله عليه وسلم من آدم الى نوح وولد نوح سام مؤمن بنص القرآن والاجماع لانه نجامع أبيه فى السفينة ولم ينج فيها الا مؤمن فى التنزيل وجعلنا ذرّيته هم الباقين بل ورد فى أثر أنه كان نبيا وولده أرفخشد نص على ايمانه فى أثر عن ابن عباس أخرجه ابن سعد فى الطبقات من طريق الكلبى وأما آزر فالارجح كما قال الرازى انه عمّ ابراهيم عليه السلام لا أبوه وقد سبقه الى ذلك جماعة
من السلف* فروينا

(1/235)


بالاسانيد عن ابن عباس ومجاهد وابن جرير والسدّى قالوا ليس آزر أبا ابراهيم انما هو ابراهيم بن تارخ ووقفت على أثر فى تفسير ابن المنذر صرّح فيه بأنه عمه فثبت بما قرّرناه ان الاجداد الشريفة من آدم الى ابراهيم منصوص على ايمانهم ومتفق عليهم الا الخلاف الذى فى آزر من حيثية كونه أبا أو عما فان كان أبا استثنى من الاجداد وان كان عما خرج منها وسلمت السلسلة فأما من بعد ابراهيم واسماعيل فقد اتفقت الاحاديث الصحيحة ونصوص العلماء على أن العرب من بعد ابراهيم كلهم على دينه لم يكفر منهم أحد قط ولم يعبد صنما الى عهد عمرو بن لحىّ الخزاعى فانه أوّل من غير دين ابراهيم عليه السلام وعبد الاصنام وسيب السوائب* وأخرج البخارى ومسلم عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعى يجرّ قصبه فى النار كان أوّل من سيب السوائب وأخرج ابن جرير فى تفسيره عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه فى النار انه أوّل من غير دين ابراهيم عليه السلام* وأخرج أحمد فى مسنده عن ابن مسعود عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال ان أوّل من سيب السوائب وعبد الاصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وانى رأيته يجرّ قصبه فى النار* قال الشهرستانى فى الملل والنحل كان دين ابراهيم قائما والتوحيد فى صدر العرب شائعا وأوّل من غيره واتخذ عبادة الاصنام عمرو بن لحى* وقال الحافظ عماد الدين بن كثير كانت العرب على دين ابراهيم الى أن ولى عمرو بن عامر الخزاعى مكة وانتزع ولاية البيت من أجداد النبىّ صلّى الله عليه وسلم فأحدث عمرو المذكور عبادة الاوثان وشرع للعرب الضلالات وزاد فى التلبية بعد قوله لا شريك لك قوله الا شريكا هو لك تملكه وما ملك فهو أوّل من قال ذلك وتبعته العرب على الشرك فشابهوا بذلك قوم نوح يعنى فى احداث الكفر بعد ان كان سلفهم على الايمان وفيهم على ذلك بقايا على دين ابراهيم عليه السلام* وقد أخرج ابن حبيب فى تاريخه عن ابن عباس كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على ملة ابراهيم فلا تذكروهم الا بخير وأخرج ابن سعد فى الطبقات من مرسل عبد الله بن خالد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا مضر فانه كان قد أسلم* وفى الروض الانف للسهيلى يذكره عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا الياس فانه كان مؤمنا وذكر أنه كان يسمع فى صلبه تلبية النبىّ صلّى الله عليه وسلم بالحج وفيه أيضا ان كعب بن لؤى أوّل من جمع يوم العروبة فكانت قريش تجتمع اليه فى هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبىّ صلّى الله عليه وسلم ويعلمهم أنه من ولده ويأمرهم باتباعه والايمان به وينشد فى هذا أبياتا منها
يا ليتنى شاهد نجواء دعوته ... اذا قريش تبغى الحق خذلانا
قال السهيلى وقد ذكر الماوردى هذا الخبر عن كعب فى كتاب الاعلام له* قلت وأخرجه أبو نعيم فى دلائل النبوّة فثبت بهذا التقرير أن أجداد النبىّ صلّى الله عليه وسلم من ابراهيم الى كعب بن لؤى وولده مرّة منصوص على ايمانهم ولم يختلف فيهم اثنان وبقى بين مرّة وبين عبد المطلب أربعة آباء وهم كلاب وقصى وعبد مناف وهاشم ولم أظفر فيهم بنقل لا بهذا ولا بهذا وبقى ثلاثة أدلة متعلقة بعقب ابراهيم المنظومين فى سلسلة النسب الشريف* أحدها قوله تعالى واذ قال ابراهيم لابيه وقومه اننى براء مما تعبدون الا الذى فطرنى فانه سيهدين وجعلها كلمة باقية فى عقبه وخرج عبد بن حميد عن ابن عباس فى قوله تعالى وجعلها كلمة باقية فى عقبه قال شهادة ان لا اله الا الله والتوحيد لا يزال فى ذرّيته من يقولها من بعده* وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج فى قوله تعالى وجعلها كلمة باقية فى عقبه قال فى عقب ابراهيم فلم يزل بعد من ذرّية ابراهيم من يقول لا اله الا الله* وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة فى قوله وجعلها كلمة باقية فى عقبه قال الاخلاص والتوحيد لا يزال فى ذرّيته من يوحد الله

(1/236)


ويعبده* وثانيها قوله تعالى رب اجعلنى مقيم الصلاة ومن ذرّيتى أخرج المنذرى عن ابن جرير فى قوله تعالى رب اجعلنى مقيم الصلاة ومن ذرّيتى قال فلن يزال من ذرّية ابراهيم ناس على الفطرة يعبدون الله وثالثها قوله تعالى واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبنى وبنىّ أن نعبد الاصنام أخرج ابن جرير عن مجاهد فى هذه الآية قال فاستجاب الله لابراهيم دعوته فى ولده فلم يعبد أحد من ولده صنما فقبل دعوته واستجاب الله له وجعل هذا البلد آمنا ورزق أهله من الثمرات وجعله اماما وجعل من ذرّيته من يقيم الصلاة* وأخرج ابن أبى حاتم عن سفيان بن عيينة انه سئل هل عبد أحد من ولد اسماعيل الاصنام قال لا ألم تسمع قوله تعالى واجنبنى وبنىّ أن نعبد الاصنام قيل كيف لم يدخل ولد اسحاق وسائر ولد ابراهيم قال لانه دعاء لاهل البلد خاصة أن لا يعبدوا اذا أسكنهم فقال اجعل هذا البلد أن يخص بذلك وقال واجنبنى وبنىّ أن نعبد الاصنام فيه فقد خص أهله دون غيره وما قررناه من الادلة والنقول مصداق ما قاله فخر الدين وما أحسن قول الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقى كما ذكرنا من قوله
تنقل أحمد نورا عظيما ... تلألأ فى جباه الساجدينا
تقلب فيهم قرنا فقرنا ... الى أن جاء خير المرسلينا
ولم يبق بعد المذكورين الا عبد المطلب وفيه خلاف بين الناس والاحسن فى شأنه انه لم تبلغه الدعوة قال الشهرستانى ظهر نور النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى أسارير عبد المطلب بعض الظهور وببركة ذلك النور ألهم النذر فى ذبح ولده وببركته قال لابرهة ان لهذا البيت ربا يحفظه ومنه قال وقد صعد أبا قبيس
لا همّ ان المرء يمنع رحله فامنع رحالك ... لا يغلبنّ صليبهم
ومحالهم عدوا محالك ... فانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
قال وببركة ذلك النور كان يأمر ولده بترك الظلم والبغى ويحثهم على مكارم الاخلاق وينهاهم عن ذيئات الامور وببركة ذلك النور كان يقول فى وصاياه انه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة الى أن هلك رجل ظلوم لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطلب فى ذلك ففكر وقال والله ان وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن باحسانه ويعاقب فيها المسىء باساءته فهذا يدل على أنه لم تبلغه الدعوة على وجهها ولم يجد من يعرفه حقيقة ما جاءت به الرسل فانه لو وجد من يخبره بأن الانبياء جاءت بالبعث لم يكن فى غفلة منه حتى وقعت هذه الواقعة فتفكر فيها فاستدل بها على أن ثمة دارا أخرى وفيه قول ساقط ان الله أحياه حتى آمن بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم حكاه ابن سيد الناس فى السيرة وغيره وهو مردود ولا أعرفه عن أحد من أئمة السنة انما يحكى عن بعض الشيعة وهو قول لا دليل عليه ولم يرد فيه قط حديث لا ضعيف ولا غيره وبهذا فارق قول الامام فخر الدين فان القائل بذلك يدّعى ان عبد المطلب أحيى وآمن بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم وصار على ملته والامام فخر الدين لا يقول بهذا بل يقول انه كان فى الاصل على ملة ابراهيم من غير أن يحصل له دخول فى هذه الملة ويعضد ذلك فى أمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أخرجه أبو نعيم فى دلائل النبوّة بسند ضعيف من طريق الزهرى عن امّ سماعة بنت أبى رهم عن أمّها قالت شهدت امّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى علتها التى ماتت فيها ومحمد غلام يفع له خمس سنين عند رأسها فنظرت الى وجهه ثم قالت بارك فيك الله من غلام الى آخر ما سبق عند موتها من الابيات ومرثية الجنّ فأنت ترى هذا الكلام منها صريحا فى النهى عن موالاة الاصنام مع الاقوام والاعتراف بدين ابراهيم وببعث ولدها الى الانام من عند ذى الجلال والاكرام بالاسلام وهذه

(1/237)


الالفاظ منافية للشرك انى استقريت أمّهات الانبياء فوجدت أكثرهنّ منصوصا على ايمانها ومن لم ينص عليها سكت عنها فلم ينقل فيها شىء البتة والظاهر ان شاء الله تعالى وكانّ السرّ فى ذلك ما يرينه من النور كما ورد فى الحديث أخرج أحمد والبزار والطبرانى والحاكم والبيهقى عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال انى عبد الله خاتم النبيين وان آدم لمنجدل فى طينته وسأخبركم عن ذلك أنا دعوة ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمى التى رأت وكذلك أمّهات النبيين يرين وان أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت قصور الشام منه* قلت ولا شك أن الذى رأته أمّ النبى صلى الله عليه وسلم فى حال حملها به وولادتها من الآيات أكثر وأعظم مما رآه أمّهات الانبياء* قال السيوطى نقلت من مجموع بخط الشيخ كمال الدين السبكى والد الشيخ الامام تقىّ الدين ما نصه سئل القاضى أبو بكر بن العربى عن رجل قال ان آباء النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى النار فأجاب بأنه ملعون لان الله تعالى قال ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذابا مهينا ولا اذى أعظم من أن يقال عن أبيه فى النار انتهى بلفظه وأورد المحب الطبرى فى ذخائر العقبى عن أبى هريرة قال جاءت سفينة بنت أبى لهب الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان الناس يقولون لى أنت بنت حطب النار فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ما بال أقوام يؤذوننى فى قرابتى من آذى قرابتى فقد آذانى ومن آذانى فقد آذى الله* وفى ربيع الابرار للزمخشرى لقى رجل من المهاجرين العباس بن عبد المطلب فقال يا أبا الفضل رأيت عبد المطلب بن هاشم والقيطلة كاهنة بنى سهم جمعهما الله فى النار فصفح عنه ثم قال له فصفح عنه فلما كانت الثالثة رفع يده فوجأ انفه فانطلق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال ما هذا قال العباس فأرسل اليه وقال ما أردت برجل من المهاجرين فقص عليه القصة وقال ما ملكت نفسى وما اياه أردت ولكن أرادنى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بال أحدكم يؤذى أخاه فى شىء وان كان حقا* وأخرج أبو نعيم فى الحلية من طريق عبد الله ابن يونس قال سمعت بعض شيوخنا يذكر أن عمر بن عبد العزيز أتى بكاتب يخط بين يديه وكان مسلما وكان أبوه كافرا فقال عمر للذى جاء به لو كنت جئت به من أبناء المهاجرين فقال الكاتب قد كان أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذكر كلمة اسقطتها انا فغضب عمرو قال لا تخط بين يدىّ بقلم أبدا وأخرج شيخ الاسلام الهروى فى كتاب ذم الكلام من طريق ابن أبى جميلة قال قال عمر بن عبد العزيز لسليمان ابن سعد بلغنى أن أباك عاملنا كان كذا وكذا وهو كافر قال كان أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذكر ما بعد الكلام وأسقطته أنا فغضب عمر غضبا شديدا وعزله عن الدواوين وذكر القاضى تاج الدين السبكى فى كتابه الترشيح قال قال الشافعى رضى الله عنه فى بعض نصوصه وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لها شرف فكلم فيها فقال لو سرقت فلانة لامرأة شريفة لقطعت يدها* قال ابن السبكى فانظر الى قوله فلانة ولم يبح باسم فاطمة تأدّبا معها ان يذكرها فى هذا المعرض وان كان أبوها صلّى الله عليه وسلم قد ذكرها لانه يحسن منه ما لا يحسن منا انتهى كلام السبكى وقد جرى على الادب الامام ابو داود صاحب السنن فانه يخرج فى سننه حديثا فى آخر شىء يتعلق بعبد المطلب فلما انتهى الى ذكره قال فذكر تشديد اولم يصرح بشىء والحديث مبهم فى مسند أحمد وسنن النسائى وهذا وأمثاله ارشاد من هؤلاء الائمة وتعليم لنا ان نسكت عن التلفظ بمثل ذلك تأدّبا انتهى كلام السيوطى قيل التوفيق بين دفن امّه بالابواء وكون قبرها بها وبين كون قبرها بمكة على تقدير صحة الحديثين ان يقال يحتمل أن تكون دفنت بالابواء أوّلا وكان قبرها هناك ثم نبشت ونقلت الى مكة والله أعلم* وفى السنة
السادسة من مولده صلّى الله عليه وسلم ولد عثمان بن عفان وفى الاستيعاب ولد عثمان

(1/238)


ابن عفان فى السنة السادسة بعد الفيل وقيل غير ذلك*

كفالة عبد المطلب له عليه السلام
وفى السنة السابعة من مولده صلّى الله عليه وسلم كفالة عبد المطلب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم* روى نافع بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان مع امّه آمنة بنت وهب فلما توفيت ضمه اليه جدّه عبد المطلب ورق عليه رقة لم يرقها على ولده وكان يقربه منه ويدخل عليه اذا خلا واذا نام وكان يجلس على فراشه واولاده كانوا لا يجلسون عليه* قال ابن اسحاق حدّثنى العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض اهله قال كان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة وكان لا يجلس عليه احد من بنيه اجلالا له وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتى حتى يجلس عليه فتذهب أعمامه يؤخرونه فيقول عبد المطلب دعوا ابنى ويمسح على ظهره ويقول انّ لابنى هذا الشأنا كذا قال ابن الاثير فى أسد الغابة وقال قوم من بنى مدلج وهم مشهورون بالقيافة يا عبد المطلب احتفظ به فانا لم نر قد ما أشبه بالقدم التى فى مقام ابراهيم منه فقال عبد المطلب لابى طالب اسمع ما يقول هؤلاء فى ابن أخيك وقال لأمّ أيمن وكانت تحضنه لا تغفلى عن ابنى فان أهل الكتاب يزعمون انه نبى هذه الامّة وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما الا قال عليّ با بنى فيؤتى به اليه فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم*

رمده عليه السلام
ومن وقائع هذه السنة ما روى انه أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم رمد شديد فعولج بمكة فلم يغن عنه فقيل لعبد المطلب ان فى ناحية عكاظ راهبا يعالج الاعين فركب اليه فناداه وديره مغلق فكان لا يجيبه فتزلزل به ديره حتى خاف أن يسقط عليه فخرج مبادرا وقال يا عبد المطلب ان هذا الغلام نبى هذه الامّة ولو لم أخرج اليك لخرّديرى وارجع به واحفظوه لا يغتاله بعض أهل الكتاب ثم عالج*

استسقاء عبد المطلب
وفى هذه السنة استسقى عبد المطلب مع قريش روى عن رقيقة بنت صيفى بن هاشم أنها قالت تتابعت على قريش سنون حتى يبست الضروع ودقت العظام فبينا أنا راقدة فاذا بهاتف صيت يصرخ بصوت ضخم يقول يا معشر قريش ان هذا النبىّ المبعوث منكم هذا ابان نجومه فحىّ هلا بالحيا والخصب ألا فانظروا منكم رجلا طوالا عظاما أبيض وضاء أشم العرنين سهل الخدّين له فخر يكظم عليه ويروى رجلا وسيطا عظاما جساما أوطف الاهداب ألا فليخلص هو وولده وليد لف اليه من كل بطن رجل ألا فليشنوا من الماء وليسموا من الطيب وليطوفوا بالبيت سبعا وفيهم الطيب الطاهر لذاته ألا فليستسق الرجل وليؤمّن القوم ألا فغثتم اذا ما شئتم قالت فأصبحت مذعورة قدقف جلدى ووله عقلى وقصصت رؤياى على أهل الحرم ان بقى أبطحى الا قال هذا شيبة الحمد وشيبة الحمد اسم عبد المطلب وتتاءمت عنده قريش وانقض اليه من كل بطن رجل فشنوا الماء ومسوا من الطيب وطافوا بالبيت سبعا ورفع ابنه محمدا صلّى الله عليه وسلم على عاتقه وهو يومئذ ابن سبع سنين وارتقوا أبا قبيس فدعا واستسقى وأمّن القوم قالت فما وصلوا البيت حتى انفجرت السماء بمائها وامتلأ الوادى قالت سمعت شيوخ العرب يقولون لعبد المطلب هنيئا لك يا أبا البطحاء وفى ذلك تقول رقيقة
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لما فقدنا الحيا واجلوّذ المطر
فجاء بالماء جوبى له سبل ... سحا فعاشت به الانعام والشجر
كذا فى الحدائق لابن الجوزى قولها اجلوّذ المطر أى امتدّ وقت تأخره وانقطاعه والجوبة هى الحفيرة المستديرة الواسعة وكل منفتق بلا بناء جوبة كذا فى نهاية ابن الاثير*

تبشير سيف الحميرى عبد المطلب
وفى هذه السنة خروج عبد المطلب لتهنئة سيف بن ذى يزن الحميرى بالملك وتبشير سيف عبد المطلب بأنه سيظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نسله* روى عن زرعة بن سيف بن ذى يزن الحميرى أنه قال لما ظهر جدّى سيف على الحبشة وذلك بعد مولد النبىّ صلّى الله عليه وسلم بسنتين أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتنهئته وأتاه

(1/239)


وفود قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس وعبد الله بن جذعان وأسد بن عبد العزى ووهب بن عبد مناف وقصى بن عبد الدار وهو فى رأس قصر يقال له غمدان* وفى القاموس غمدان كعثمان قصر باليمن بناه ليشرخ بن الحارث بن صيفى بن سبأ جدّ بلقيس بأربعة وجوه أحمر وأصفر وأبيض وأخضر وبنى داخله قصرا بسبعة سقوف بين كل سقف أربعون ذراعا وسيجىء ذكر سليمان وبلقيس وذكر الحصون الثلاثة فى آخر الباب وغمدان هو الذى يقول فيه أمية بن أبى الصلت الثقفى يمدح ابن ذى يزن الحميرى
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... فى رأس غمدان دارا منك مجلالا
اشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم فى برديك اسبالا
تلك المكارم لاقعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وكان الملك يومئذ فى أعظم هيئاته متضمخا بالعنبر ينطف وبيص المسك فى مفرق رأسه وعليه بردان من برود اليمن أخضر ان مرتد بأحدهما متزر بالآخر عن يمينه الملوك وعن شماله الملوك وأبناء الملوك والمقاول فأخبر بمكانهم فأذن لهم فدخلوا عليه فدنا عبد المطلب فاستأذنه فى الكلام فقال ان كنت ممن يتكلم بين يدى الملوك فقد أذناك فقال ان الله عز وجل أحلك أيها الملك محلا رفيعا باذخا شامخا منيعا وأنبتك نباتا طابت أرومته وعظمت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه فى أطيب موطن وأكرم معدن وأنت أبيت اللعن ملك العرب ونابها وربيعها الذى به تخصب وأنت أيها الملك ملك العرب وفى رواية رأس العرب الذى ينقاد وعمودها الذى عليه العماد ومعقلها الذى يلجأ اليه العباد سلفك خير سلف وأنت لنا منه خير خلف فلن يهلك من أنت خلفه ولن يخمد ذكر من أنت سلفه نحن أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا اليك الذى أبهجنا لكشفك الكرب الذى قدحنا فنحن وفد التهنية لا وفد التعزية* فقال له الملك من أنت أيها المتكلم فقال انا عبد المطلب ابن هاشم قال ابن أختنا قال نعم قال ادن ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال مرحبا وأهلا وناقة ورحلا فأرسلها مثلا وكان أوّل من تكلم بها ومستناخا سهلا وملكا ربحلا يعطى عطاء جزلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم وأنتم أهل الليل والنهار لكم الكرامة ما أقمتم والحباء اذا ظعنتم انهضوا الى دار الضيافة والوفود وأجرى عليهم الانزال وأقاموا بعد ذلك شهرا لا يصلون اليه ولا يؤذن لهم بالانصراف ثم ان الملك انتبه لهم انتباهة فأرسل الى عبد المطلب فأدناه ثم قال له يا عبد المطلب انى مفوّض اليك من سر علمى أمرا لو غيرك يكون لم أبح له به ولكن رأيتك معدنه فأطلعتك طلعته فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله عز وجل فيه انى أجد فى الكتاب المكنون والعلم المخزون فليكن الدى أخرناه لا نفسنا واحتجبناه دون غيرنا خيرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة فقال عبد المطلب لقد أبت بخير ما آب أيها الملك بمثله وافد قوم ولولا هيبة الملك واجلاله واعظامه لسألته من سرّه اياه ما أزداد به سرورا فقال الملك هذا حينه الذى يولد فيه ولد اسمه محمد يموت أبوه وامّه ويكفله جدّه وعمه وقد ولدناه مرارا والله عز وجل باعثه جهارا وجاعل له منا انصارا يعزبهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويضرب لهم الناس عن عرض ويستبيح بهم كرائم أهل الارض تخمد به النيران ويعبد به الرحمن ويزجر الشيطان وتكسر الاوثان قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله* فقال عبد المطلب عز جارك ودام ملكك وعلا كعبك فهل الملك سارّى بافصاح فقد أوضح لى بعض الايضاح فقال له ابن ذى يزن والبيت ذى الحجب والعلامات على

(1/240)


النصب انك جدّه يا عبد المطلب من غير كذب* قال فخرّ عبد المطلب ساجدا لاجل هذا الخبر فقال له ابن ذى يزن ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا كعبك فهل أحسست بشىء مما ذكرت لك قال نعم أيها الملك كان لى ابن وكنت به معجيا وعليه رفيقا وبه شفيقا وانى زوّجته كريمة من كرائم قومى آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فجاءت بغلام سميته محمدا مات أبوه وامّه وكفلته أنا وعمه فقال له الملك ان هذا الغلام هو الذى قلت لك عليه فاحفظ ابنك واحذر عليه من اليهود فانهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فانى لست آمن أن تدخلهم النفاسة فى أن تكون لك الرياسة فينصبون لك الحبائل ويبتغون لك الغوائل وهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم من غير شك ولو انى أعلم ان الموت غير مجتاحى قبل مبعثه لسرت اليه بخيلى ورجلى حتى أجعل يثرب دار ملكى فانى أجد فى الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره ولولا انى أقيه الآفات وأحذر عليه العاهات لا علنت على حداثة سنه أمره ولا وطأت أسنان العرب كعبه ولكنى صارف ذلك اليك بمن معك ثم دعا بالقوم وأمر لكل واحد بعشرة أعبد سود وعشرا ماء سود وحلتين من حلل البرود وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضة وكرش مملوء عنبرا ومائة من الابل وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال اذا كان الحول فانبئنى بما يكون منه فمات سيف بن ذى يزن قبل ان يحول عليه الحول قال عبد الله اسناد هذا متصل مشهور من حديث اولاد سيف بحمص وعقبهم بها*

(ذكر سليمان وبلقيس ملكة اليمن وسنبأ ونبذ من أخبارهما)
* روى أنه كان لداود عليه السلام تسعة عشر ابنا وأوتى سليمان عليه السلام النبوّة والحكم والعلم دون سائر أولاده* ومن معجزاته انه علم منطق الطير وكان يفهم عنها كما يفهم بعضها عن بعض* وفى أنوار التنزيل النطق والمنطق فى المتعارف كل لفظ يعبر به عما فى الضمير مفردا كان أو مركبا وقد يطلق لكل ما يصوت به على التسبب أو التصوّت كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد فان الاصوات الحيوانية من حيث انها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الاغراض بحيث يفهمها ما من جنسه ولعل سليمان عليه السلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوّته القدسية التخيل الذى صوّته والغرض الذى توخاه به* ومن ذلك ما روى انه صاحت فاختة فأخبر أنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا ومر ببلبل يصوّت ويترقص فقال يقول اذا أنا اكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا* وفى انوار التنزيل فلعله كان صياح الفاختة من مقاساة شدّة وتألم قلب وصوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصاح طاوس فقال يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال انه يقول من لا يرحم لا يرحم وصاح صرد فقال يقول استغفروا الله يا مذنبين وصاح خطاف فقال يقول قدّموا خيرا تجدوه وصاحت رخمة فقال تقول سبحان ربى الاعلى ملأ سمائه وارضه وصاح ورشان فقال يقول لدوا للموت وابنوا للخراب وصاح قمرى فأخبر انه يقول سبحان ربى الاعلى الوهاب وقال ان الحدأة تقول كل شىء هالك الا وجهه والقطاة تقول من سكت سلم والديك يقول اذكروا الله يا غافلين والنسر يقول يا ابن آدم عش ما شئت آخرك للموت والعقاب يقول فى البعد من الناس انس والضفدع يقول سبحا ربى القدّوس* روى ان معسكر سليمان عليه السلام كان مائة فرسخ فى مائة فرسخ خمسة وعشرون للجنّ وخمسة وعشرون للانس وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحوش وكان له بيت من قوارير مرتفع على الخشب فيه ثلثمائة منكوحة وسبعمائة سرية وقد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب وابريسم فرسخ فى فرسخ وكان يوضع منبر فى وسطه وكراسى من ذهب وفضة فيقعد الانبياء على كراسى الذهب والعلماء على كراسى الفضة وحولهم الناس والجنّ والشياطين وتظلله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط

(1/241)


فتسير به مسيرة شهر بالغداة ومسيرة شهر بالعشىّ قال الله تعالى غدوّها شهر ورواحها شهر أى جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشىّ كذلك فكان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر فارس وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع ويروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل كان يتغدّى بالرى ويتعشى بسمرقند كذا فى المدارك ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء تسيره فأوحى الله اليه وهو يسير بين السماء والارض انى قد زدت فى ملكك لا يتكلم أحد بشىء الا ألقته الريح فى سمعك وكانت الريح تحمله من مسافة ثلاثة اميال فيحكى أنه مرّ بحرّاث فقال لقد اوتى آل داود ملكا عظيما فألقته الريح فى اذنه فنزل ومشى الى الحراث وقال انما مشيت اليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتى آل داود* وفى معالم التنزيل روى عن وهب بن منبه وعن كعب الاحبار قالا كان سليمان اذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه وقد اتخذ مطابخ ومخابز تحمل فيها تنانير الحديد وقدور عظام يسع كل قدر عشر جزائر وقد اتخذ ميادين الدواب أمامه فيطبخ الطباخون ويخبز الخبازون وتجرى الدواب بين يديه بين السماء والارض والريح تهوى بهم* وفى المدارك وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والارض فسار من اصطخر الى اليمن فسلك مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم فقال هذه دار هجرة نبى يخرج فى آخر الزمان طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادى السرير وهو واد من الطائف فأتى على وادى النمل هكذا قال كعب قال انه واد بالطائف* وقال قتادة ومقاتل هو أرض بالشام وقيل واد كان تسكنه الجنّ وأولئك النمل مراكبهم* وقال أيوب الحموى كان نمل ذلك الوادى كأمثال الذئاب وقيل كالبخاتى والمشهور أنه النمل الصغير* وقال الشعبى كانت تلك النملة ذات جناحين وقيل كانت نملة عرجاء اسمها طاخية قاله الضحاك أو منذرة قاله فى المدارك* وقال مقاتل اسمها خرما ويقال شاهدة عن قتادة أنه دخل الكوفة فالتفت عليه الناس فقال سلوا ما شئتم فسأله أبو حنيفة وهو شاب عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم انثى فأفحم فقال أبو حنيفة كانت انثى فقيل له بم عرفت قال بقوله تعالى قالت نملة ولو كانت ذكرا لقال قال نملة وذلك ان النملة مثل الحمامة فى وقوعها على الذكر والانثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة انثى أو هو أوهى فقالت النملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم أى لا يكسرنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فألقت الريح قولها فى سمع سليمان من ثلاثة أميال فتبسم متعجبا من حذرها واهتدائها لمصالحها ونصيحتها للنمل روى ان النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم فى الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعر حتى دخلن مساكنهنّ روى أن سليمان لما أتى اليها قال لها حذرت أيها النملة ظلمى أما علمت أنى نبى عادل حيث قلت لا يحطمنكم سليمان وجنوده فقالت أما سمعت قولى وهم لا يشعرون مع انى لم أرد حطم النفوس وانما أردت حطم القلوب حيث يتمنين ما أعطيت فيشتغلن بالنظر اليك عن التسبيح فقال لها عظينى قالت هل علمت لم سمى أبوك داود قال لا قالت لانه داوى جرحه فزاد وهل تدرى لم سميت سليمان قال لا قالت لانك سليم الصدر وكنت بسلامة صدرك وآن لك أن تلحق بأبيك داود وهل تدرى لم سخر الله لك الريح قال لا قالت أخبرك الله ان الدنيا كلها ريح وهل تدرى لم جعل ملكك فى فص الخاتم قال لا قالت أعلمك الله ان الدنيا لا تساوى بقطعة حجر ثم قال لها سليمان يا نملة جندى أكثر أم جندك قالت جندى قال سليمان أرينى جندك فنادت جنسا واحدا من جندها فخرجوا سبعين يوما حتى امتلأت البرارى والجبال والاودية قال هل بقى من جندك شىء قالت يا سليمان ما خرج بعد جنس واحد وان لى مثل هذا سبعين جنسا* وفى معالم التنزيل ذكر العلماء ان سليمان لما فرغ

(1/242)


من بناء بيت المقدس عزم الى الخروج الى أرض الحرم فتجهز للمير واستصحب من الانس والجنّ والشياطين والطيور والوحوش ما يبلغ معسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فوافى الحرم وحج وأقام به ما شاء الله وكان ينحر كل يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن حضره من أشراف قومه هذا مكان يخرج منه نبى عربى صفته كذا وكذا يعطى النصرة على جميع من ناواه وتبلغ هيبته مسيرة شهر القريب والبعيد فى الحق عنده سواء لا تأخذه فى الله لومة لائم قال فقالوا فبأىّ دين يدين يا نبىّ الله فقال يدين بدين الحنيفية وطوبى لمن أدركه وآمن به فقالوا كم بين خروجه وبين زماننا يا نبىّ الله قال مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فانه سيد الانبياء وخاتم الرسل قال فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة صباحا وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الظهيرة والزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فأعجبته نزاهتها فأحب النزول ليصلى يتغدّى فنزل سليمان ودخل وقت الصلاة وكان نزل على غير ماء فسأل الانس والجنّ والشياطين عن الماء فلم يعلموا فتفقد الهدهد وكان الهدهد رائده وقافيه لانه يحسن طلب الماء*

قصة الهدهد
عن ابن عباس الهدهد يرى الماء من تحت الارض كما يرى الماء فى الزجاجة ويعرف قربه وبعده فينقر الارض ثم تجىء الشياطين فيلجونه فيستخرجون الماء فتفقده لذلك* قال سعيد بن جبير فلما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الازرق يا وصاف انظر ما تقول ان الصبى منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب فيجىء الهدهد ولا ينظر الفخ حتى يقع فى عنقه فقال له ابن عباس ويحك ان القدر اذا جاء حال دون البصر* وفى رواية اذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمى البصر وكان الهدهد حين نزل سليمان قال ان سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع الى السماء وانظر الى طول الارض وعرضها فارتفع فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا لبلقيس فمال الى الخضرة فوقع فيه فاذا بهدهد فهبط عنده وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وأين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبى سليمان ابن داود قال ومن سليمان قال ملك الجنّ والانس والشياطين والطير والوحوش والرياح فمن أين أنت قال أنا من هذه البلاد قال ومن ملكها قال امرأة يقال لها بلقيس فان كان لصاحبك ملك عظيم فليس ملك بلقيس دونه فانها ملكة اليمن كلها وتحت يدها اثنا عشر قائدا تحت كل قائد مائة ألف مقاتل فهل أنت منطلق معى حتى تنظر الى ملكها قال أخاف أن يتفقدنى سليمان فى وقت الصلاة اذا احتاج الى الماء* قال الهدهد اليمانى ان صاحبك يسرّه أن تأتيه بخبر هذه الملكة فانطلق ونظر الى بلقيس وملكها وما رجع الى سليمان الا وقت العصر* وفى رواية كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه اخلاله بالنوبة وذلك ان سليمان كان اذا نزل منزلا يظله وجنده الطير من الشمس فأصابته الشمس من موضع الهدهد* وفى المدارك وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فرأى موضع الهدهد خاليا فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله فقال أصلح الله الملك ما أدرى أين هو وما أرسلته مكانا فغضب سليمان عند ذلك وقال لا عذبنه عذابا شديدا الآية* واختلفوا فى العذاب الذى أوعده به فأظهر الاقاويل بنتف ريشه وذنبه والقائه فى الشمس أو حيث النمل تأكله* وقال مقاتل بن حبان بتطليته بالقطران وتشميه وقيل بالتفريق بينه وبين الفه وقيل بالزامه خدمة أقرانه وقيل بالحبس مع أضداده وقيل أضيق السجون معاشرة الاضداد وقيل بايداعه القفص وحل له تعذيب الهدهد لما رأى فيه من المصلحة ثم دعا سليمان العقاب سيد الطير فقال علىّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الى الدنيا كالقصعة بين يدى أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فاذا هو بالهدهد مقبل من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء

(1/243)


فنا شده فقال بحق الذى قوّاك وأقدرك علىّ الا رحمتنى ولم تتعرّض لى بسوء فولى عنه العقاب وقال له ويلك ثكلتك امّك ان نبىّ الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهيا الى المعسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت فى يومك هذا فلقد توعدك نبىّ الله وأخبروه بما قال سليمان فقال الهدهد وما استثنى رسول الله قالوا بلى قال أو ليأتينى بسلطان مبين قال نجوت اذا ثم انطلق العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبىّ الله فلما قرب الهدهد منه طأطأ رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرّها على الارض تواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه اليه وقال أين كنت لا عذبنك عذابا شديدا قال له الهدهد يا نبىّ الله اذكر وقوفك بين يدى الله عز وجل فلما سمع سليمان ذلك ارتعد فرقا وعفا عنه ثم سأله فقال ما الذى أبطأك عنى فقال الهدهد أحطت بما لم تحط به أى علمت شيئا من جميع جهاته يعنى حال سبأ ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام مع ما أوتى من فضل النبوّة والعلوم الجمة ابتلاء له فى علمه وفيه دليل على ابطال قول الرافضة ان الامام لا يخفى عليه شىء ولا يكون فى زمانه أعلم منه كذا فى المدارك* وفى أنوار التنزيل مخاطبته اياه بذلك تنبيه على أن فى أدنى خلق الله من أحاط علما بما لم يحط به أعلاه ليتحاقر اليه نفسه ويتصاغر لديه علمه قال وجئتك من سبأ بنبأ يقبن السبأ أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وفى أنوار التنزيل مواضع سكنى سبأ باليمن يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ولما قال الهدهد وجئتك من سبأ بنبأ يقين قال سليمان وما ذاك قال انى وجدت امرأة يعنى بلقيس بنت شرحبيل بن مالك ابن الريان كذا فى أنوار التنزيل والمدارك* وفى لباب التأويل وتفسير الثعالبى من نسل يعرب بن قحطان وكان أبوها ملكا عظيم الشان قد ولد له أربعون ملكا هى آخرهم وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الاطراف ليس أحد منكم كفوالى وأبى أن يتزوّج فيهم فخطب الى الجنّ فزوّجوه امرأة منهم يقال لها ريحانة بنت السكن* قيل فى سبب وصوله الى الجنّ حين خطب اليهم أنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجنّ وهم على صور الظباء فيخلى عنهم فظهر له ملك الجنّ وشكره على ذلك واتخذه صديقا فخطب ابنته فزوّجه اياها وقيل انه خرج متصيدا فرأى حيتين تقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت فأطلقها فلما رجع الى داره وجلس وحده فاذا معه شاب جميل فخاف منه فقال لا تخف انا الحية البيضاء التى أحيبتنى والاسود الذى قتلته هو عبد لنا تمرّد علينا وقتل عدّة منا وعرض عليه المال فقال المال لا حاجة لى فيه ولكن ان كان لك بنت فزوّجنيها فزوّجه ابنته فولدت له بلقيس وجاء فى الحديث ان أحد أبوى بلقيس كان جنيا فلما مات أبو بلقيس طمعت فى الملك ولم يكن له ولد غيرها فطلبت من قومها أن يبايعوها فاطاعها قوم وأبى آخرون وملكوا عليهم رجلا آخر يقال انه ابن أخى الملك وكان خبيثا أساء السيرة فى أهل مملكته حتى كان يمدّيده الى حرم رعيته ويفجر بهنّ فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت اليه تعرض نفسها فأجابها وقال ما منعنى أن أبتدئك بالخطبة الا اليأس منك فقالت لا أرغب عنك لانك كفؤ كريم فاجمع رجال أهلى واخطبنى فجمعهم وخطبها فقالوا لا نرى تفعل فقال بلى انها قد رغبت فىّ فذكروا ذلك لها فقالت نعم فزوّجوها منه فلما زفت اليه خرجت فى أناس كثيرة من حشمها وخدمها ولما خلت سقته الخمر حتى سكر ثم قتلته وحزت رأسه وانصرفت الى منزلها من الليل فلما أصبحت أرسلت الى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم وقالت لهم أما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته ثم أرتهم اياه قتيلا وقالت اختاروا رجلا تملكونه عليكم فقالوا لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا

(1/244)


وخديعة منها* وعن أبى بكرة قال لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة*

قصة ملك اليمن أبى بلقيس وسبب وصوله الى الجنّ
وفى الينابيع أورد فى قصة المهاجرين ان الملك خرج يوما الى القنص فرأى شابا جميلا واقفا على الطريق فقال للملك هل تعرفنى قال لا قال أنا الحية البيضاء الذى أنجيتنى والاسود الذى قتلته كان عبدا لنا تمرّد علينا فأنا أريد أن أكافئك بما فعلت قيل عرض على الملك تعليم علم الطب فأبى فقال أدلك على الدفائن والكنوز فلم يقبل فقال ان أبيت هذين فلى بنت جميلة لم يكن فى بنى آدم مثلها فى الجمال فان شئت أزوّجكها لكن بشرط أن لا تسألها عما تفعل هى فانك ان سألتها عما فعلت ثلاث مرّات غابت عنك ولم ترها بعد ذلك فقبل الملك الشرط فتزوّجها ورجع بها الى منزله فحملت منه ببنت ولما ولدتها ظهرت نار فقذفتها فيها فقال الملك لم فعلت هذا قالت أما شرطت أن لا تسألنى عما أفعل فهذه واحدة من الثلاث فاحفظها ثم ولدت له ابنا فجاء كلب فوضعته فى فيه فذهب به الكلب فصاح الملك وقال لم فعلت فقالت ألم نشترط أن لا تسألنى عما أفعل فهاتان ثنتان وكان فى ذلك الزمان ملك وفى غير الينابيع اسم هذا الملك ذو عوان واسم أبى بلقيس بو شرح وكان بينهما عداوة وشرّ ولم يظفر أحدهما على الآخر فاحتال ذوعوان واصطلح مع الملك بو شرح وصنع له طعاما فدعاه اليه فحضره بوشرح ومعه امرأته الجنية فلما وضع الطعام بين يدى الملك ألقت المرأة فيه الروث فرفع الملك يده عن الطعام وقال لم فعلت فقالت أما شرطت أن لا تسألنى عما أفعل فهذه الثالثة وسأخبرك بتأويل ما فعلت* أما النار والكلب اللذان رأيتهما فهما ظئران فسلمت اليهما الولدين لئلا يكون لى تعب فى تربيتهما فاذا كبرا يردّ انهما عليك وأما الروث الذى ألقيت فى طعامك ففعلته لئلا تأكل من ذلك الطعام المسموم فتهلك فانهم قد سموه فقالت ذلك تأويل ما فعلت وغابت يقال مات الابن عند ظئره والبنت لما ترعرعت ردّت الى أبيها وهى بلقيس* وذكر فى القصص هذه القصة بوجه آخر وقال اسم الملك يعنى أبا بلقيس بو شرح وكان له عدوّ من الملوك اسمه ذوعوان فقصد ملكه وتقدّم اليه مسافة عشرين منزلا فلم يكن للملك بوشرح بدّ من حربه فخرج اليه وسلك مفازة كانت مسيرة ستة أيام ولم يكن فيها ماء وكان سبب قصد ذى عوان مملكة بوشرح انه كان له وزير من أهل بلاد ذى عوان متفق معه كلمتهما واحدة فبعث الوزير اليه أن سر الى هذه البلاد حتى يخرج اليك الملك بو شرح فأسلمه اليك فتقتله فتكون بلاد اليونان خالصة لك من دونه فقبل ذوعوان قول الوزير وبعث اليه بقارورة من السم الناقع ليجعله فى طعام بوشرح وعسكره ومياههم حين سلكوا المفازة فيهلكوا ففعله الوزير فعلمت به المرأة الجنية ولم يطلع عليه غيرها فلما سلك بوشرح وعسكره الجبانة منزلا عمدت المرأة الى القرب فصبت المياه والى الدقيق فذرته فى الرياح والى سائر الازواد فضيعتها فغضب عليها الملك وقال لم فعلت هذا قالت أما شرطت أن لا تسألنى عما أفعل فهذه الثالثة فأخبرته بأنها كانت مسمومة وقالت فان شئت أن يظهر لك صدق ما قلته فاجمع شيئا مما بقى فى القرب ثم اسقه وزيرك ففعل فمات الوزير من ساعته ثم دعت المرأة بالبنت فأحضرت فدفعتها الى أبيها وكان الابن مات عند ظئرها ثم غابت المرأة وسمى الملك هذه البنت بلقيس واستخلفها على ملكه بعد موته* وفى الينابيع فنشأت بلقيس وصارت امرأة ذات جمال ورأى وتدبير فجلست على سرير الملك مكان أبيها فأطاعها الملوك فكانت تجلس من كل أسبوع يوما للحكومة وتحجب عن الناس ترخى ستورا رقيقة دون الناس بحيث تراهم ولا يرونها والناس وقوف فى حضرتها مطرقين رؤسهم من هيبتها واذا كان لاحد عندها حاجة يسجد لها أوّلا ثم يعرض حاجته فى حضرتها فتحكم بها بلقيس واذ فرغت من الحكومة وانصاف المظلوم من الظالم تدخل بيتها السابع وتغلق عليها الابواب وتحرسها ألوف من الحرس انتهى* وكانت بلقيس

(1/245)


وقومها مجوسيين يعبدون الشمس ولها عرش أى سرير عظيم ضخم* قال ابن عباس كان ثلاثين ذراعا فى ثلاثين ذراعا عرضا وسمكا* وقال مقاتل ثمانين ذراعا فى ثمانين طولا وعرضا وطوله فى الهواء ثمانين ذراعا وقيل كان طوله ثمانين ذراعا وعرضه أربعين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا وكان من ذهب وفضة مرصعا بأنواع الجواهر بالدر والياقوت الاحمر والزبرجد الاخضر وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد عليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق*

بقية قصة الهدهد
فلما فرغ الهدهد من كلامه قال له سليمان سننظر أصدقت فيما أخبرت أم كنت من الكاذبين ثم كتب سليمان كتابا صورته من عبد الله سليمان ابن داود الى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علىّ وأتونى مسلمين وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه وقال للهدهد اذهب بكتابى هذا فألقه الى بلقيس وقومها ثم تول وتنح عنهم الى مكان قريب بحيث تراهم ولا يرونك ليكون ما يقولون بمسمع منك ومرأى فأخذ الهدهد الكتاب بمنقاره وطار به وكانت بلقيس بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة ايام فوافاها فى قصرها وقد غلقت الابواب وكانت اذا رقدت غلقت الابواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها فأتاها الهدهد وهى مستلقية على قفاها راقدة فدخل الهدهد عليها من كوّة وألقى الكتاب على نحرها بحيث لم تشعر به وتوارى فى الكوّة فانتبهت بلقيس فزعة هذا قول قتادة* وقال مقاتل حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب فى حجرها* وقال ابن منبه وابن زيد كانت لها كوّة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع فاذا نظرت اليها سجدت لها فجاء الهدهد الكوّة فسدّها بجناحيه فارتفعت الشمس ولم تعلم فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى بالصحيفة اليها فأخذت بلقيس الكتاب وكانت قارئة فلما رأت الختم ارتعدت لان ملك سليمان كانت فى خاتمه وعرفت أن الذى أرسل الكتاب أعظم ملكا منها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل* وعن ابن عباس قال كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل قيل مائة ألف مقاتل والقيل الملك دون الملك الاعظم وقال قتادة ومقاتل كان أهل مشورتها ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف فجاؤا وأخذوا مجالسهم فقالت لهم بلقيس خاضعة خائفة يأيها الملأ انى القى الىّ كتاب كريم حسن مضمونه وما فيه أو مرسله أو لغرابة شأنه أو مختوم عن ابن عباس عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم كرامة الكتاب ختمه وكذا قال عكرمة ولذا قيل من كتب الى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به أو مصدّر بالبسملة قالت يأيها الملأ أفتونى واشيروا علىّ فى أمرى قالوا نحن أولو قوّة وأولو بأس شديد والامر اليك فانظرى ماذا تأمرين قالت انى مرسلة اليهم بهدية فناظرة أى منتظرة بم يرجع المرسلون بقبولها أو ردّها لانها عرفت عادة الملوك وحسن مواقعة الهدايا عندهم فان كان ملكا قبلها وانصرف عنا وان كان نبيا ردّها ولم يرض منا الا أن نتبعه على دينه فبعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجوارى وزيهنّ وحليهنّ وجعلت فى سواعدهم أساور من ذهب وفى أعناقهم أطواقا من ذهب وفى آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر راكبى خيل برذون مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسرج بالذهب المرصع بالجواهر وخمسمائة جارية على رماك فى زى الغلمان من الاقبية والمناطق وخمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت وأرسلت اليه المسك والعنبر والعود وحقة فيها درة ثمينة عذراء غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوجة الثقب وبعثت رسلا من قومها أصحاب رأى وعقل وامرت عليهم رجلا من اشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وكتبت كتابا فيه نسخة الهدايا وقالت فيه ان كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف وأخبر بما فى الحقة قبل أن تفتحها واثقب الدرة ثقبا مستويا

(1/246)


واسلك فى الخرزة خيطا من غير علاج انس ولا جنّ* وامرت بلقيس الغلمان فقالت اذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء وامرت الجوارى ان يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال ثم قالت للمنذر ان نظر اليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظره وان رأيته بشاشا لطيفا فهو نبىّ فأقبل الهدهد مسرعا فأخبر سليمان الخبر كله وفى انوار التنزيل وقد سبق جبريل بالحال فأمر سليمان الجنّ فضربوا لبنات الذهب والفضة وفرشوا فى ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ* وفى معالم التنزيل أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذى هو فيه الى تسعة فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة وأمر الشياطين فأتوا بأحسن الدواب فى البرّ والبحر فربطوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا علوفتها فيها وأمر بأولاد الجنّ وهم خلق كثير فأقاموا عن اليمين وعن اليسار* ثم قعد سليمان فى مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسى عن يمينه ومثله عن يساره واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والانس صفوفا فراسخ والوحوش والسباع والطير والهوام كذلك فلما دنا الرسل ووصلوا معسكره والميدان ورأوا عظمة شأن سليمان وملكه ورأوا الدواب التى لم ترعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت اليهم أنفسهم فرموا بما معهم من الهدايا وفى بعض الروايات ان سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر اللبنات التى معهم فلما رأت الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الارض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا كل ما معهم فى ذلك المكان فلما نظروا الى الشياطين رأوا منظرا عجيبا ففزعوا فقال لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم وكانوا يمرّون على كردوس من الجنّ والانس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدى سليمان فنظر اليهم نظرا حسنا بوجه طلق فقال ما وراءكم فأخبره رئيس القوم وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه ثم قال أين الحقة فأتى بها فحركها فجاء جبريل وأخبره بما فى الحقة فقال ان فيها درّة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوجة الثقب فقال الرسول صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط فى الخرزة فقال سليمان من لى بثقبها فسأل سليمان الانس والجنّ فلم يكن عندهم علم ذلك ثم سأل الشياطين فقالوا أرسل الى الارضة فجاءت الارضة فأخذت شعرة فى فيها ودخلت فيها ثم خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان ما حاجتك فقالت تصير رزقى فى الشجر فقال لك ذلك وروى أنه جاءت دودة تكون فى الصفصاف فقالت أنا أدخل الخيط فى الثقب على أن يكون رزقى فى الصفصاف فجعل لها ذلك فأخذت الخيط بفيها فدخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر ثم قال من لهذا الخرزة يسلكها فى الخيط فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط بفيها وثقبتها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان ما حاجتك قالت تجعل رزقى فى الفواكه قال لك ذلك ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء فى يدها وتجعله فى الاخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه ثم ردّ الهدية وقال للمنذر ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولا طاقة ولنخرجنهم منها من سبأ أذلة بذهاب عزهم وهم صاغرون أسراء مهانون فلما رجع اليها رسولها بالهدايا وقص عليها القصة قالت هو نبى وما لنا به طاقة وبعثت الى سليمان انى قادمة اليك بملوك قومى لا نظر ما الذى تدعو اليه ثم جعلت عرشها فى آخر سبعة أبيات بعضها فى بعض فى آخر قصر من سبعة قصور لها ثم أغلقت دونه الابواب ووكلت به حرسا يحفظونه فشخصت اليه فى اثنى عشر ألف قيل تحت كل قيل الوف كثيرة حتى بلغت على رأس فراسخ قال ابن عباس كان سليمان عليه السلام رجلا مهيبا لا يبتدأ بشىء حتى يكون هو الذى سأل عنه فخرج يوما فجلس على سرير ملكه فرأى رهجا أى غبارا

(1/247)


قريبا منه فقال ما هذا قالوا بلقيس نزلت منا بهذا المكان وكانت على مسيرة فرسخ من سليمان* قال ابن عباس وكان بين الحيرة والكوفة فأقبل سليمان حينئذ على جنده فقال يأيها الملأ أيكم يأتبنى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين أراد بذلك أن يريها بعض العجائب الدالة على عظيم القدرة وصدقه فى دعوى النبوّة ويختبر عقلها بأن تنكر أو أراد أن يأخذه قبل أن تسلم فانها اذا أتت مسلمة لم يحل أخذه الا برضاها قال عفريت من الجنّ خبيث مارد قوى* قال وهب اسمه كوذى وقيل ذكوان وقيل هو صخر الجنى وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك مجلسك للحكومة وكان يجلس الى نصف النهار وانى على حمله لقوىّ أمين لا اختزل منه شيئا ولا أبد له فقال سليمان أريد أسرع من هذا قال الذى عنده علم من الكتاب أى ملك بيده كتاب المقادير أرسله الله عند قول العفريت* وفى معالم التنزيل هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان أو جبريل أو الخضر أو سليمان نفسه أو آصف بن برخيا وزيره أو كاتبه هو الاصح وعليه الجمهور وكان صدّيقا يعلم الاسم الاعظم الذى اذا دعى به أجاب وهو يا حىّ يا قيوم قاله الكلبى أو ياذ الجلال والاكرام قاله مجاهد ومقاتل أويا الهنا واله كل شىء الها واحدا لا اله الا أنت ائتنى بعرشها وقوله أنا آتيك به قبل أن يرتدّ اليك طرفك أى انك ترسل طرفك الى شىء فقبل ان تردّه أحضر عرشها فتبصره بين يديك قال مجاهد يعنى ادامة النظر حتى يرتدّ الطرف خاسئا* يروى ان آصف قال لسليمان حين صلّى مدّ عينيك حتى ينتهى طرفك فمدّ سليمان عينيه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الارض يخدون خدّا حتى انخرقت الارض بالسرير بين يدى سليمان* قال الكلبى خرّ آصف ساجدا ودعا باسم الله الاعظم فغار عرشها فى مكانه تحت الارض ثم نبع عند كرسى سليمان بقدرة الله تعالى قبل أن يرتدّ طرفه قيل كانت المسافة مقدار شهرين كذا فى معالم التنزيل وقال محمد بن المنكدر لما قال عالم بنى اسرائيل الذى آتاه الله علما وفهما أنا آتيك به قبل أن يرتدّ اليك طرفك قال سليمان هات قال أنت النبىّ ابن النبىّ وليس أحد أوجه عند الله منك فان دعوت الله وطلبت اليه كان عندك قال صدقت ففعل ذلك فجىء بالعرش فى الوقت فلما رأى العرش مستقرّا عنده حاصلا بين يديه ثابتا لديه غير مضطرب قال هذا من فضل ربى أى التمكن من احضار العرش فى مدّة ارتداد الطرف من مأرب الى الشام كذا فى معالم التنزيل وقال فى أنوار التنزيل من مسيرة شهرين بنفسه أو بغيره ثم قال سليمان نكروا لها عرشها غيروا هيئته وشكله أى اجعلوا مقدّمه مؤخره وأعلاه أسفله واجعلوا مكان الجوهر الاحمر أخضر ومكان الاخضر أحمر ننظر أتهتدى الى معرفة عرشها وقد خلفته فى مأرب وراءها مغلقة عليه الابواب موكلة عليه الحراس أوالى الجواب الصواب اذا سئلت عنه أم لا* فلما جاءت بلقيس قيل لها أهكذا عرشك قالت كأنه هو فأجابت أحسن جواب ولم تقل هو لاحتمال أن يكون مثله وذلك من كمال عقلها* وفى المدارك ولم تقل هو ولا ليس به وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع فى المحتمل للامرين أو لما شبهوا عليها بقولهم أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها كأنه هو مع أنها علمت أنه عرشها قيل لها ادخلى الصرح أى القصر أو صحن الدار فلما رأته ظنته ماء راكدا فكشفت عن ساقيها* روى أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى على طريقها قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر من السمك وغيره وقيل اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع فكان الواحد اذا رآه ظنه ماء كذا فى معالم التنزيل ووضع سريره فى صدره فجلس عليه وعكف الطير عليه والجنّ والانس وانما فعل ذلك ليزيدها اعظاما لامره وتحقيقا لنبوّته وقيل ان الجنّ كرهوا أن يتزوّجها سليمان فتفشى اليه بأسرارهم لان أمّها كانت جنية وقيل خافوا أن يولد منها ولد فيجتمع له فطنة الجنّ والانس فيخرجوا من ملك سليمان الى ملك أشدّ

(1/248)


منه* وفى معالم التنزيل واذا ولدت له ولدا لا ينفكون من تسخير سليمان وذرّيته من بعده فقالوا له ان فى عقلها شيئا وهى شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فاختبر سليمان عقلها بتنكيرا العرش كما فعلت هى بالوصفاء والوصائف واتخذ الصرح ليتعرّف ساقها ورجلها فكشف عنهما فاذا هى أحسن الناس ساقا وقدما الا أنها شعراء الساقين* ولما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها ثم قال لها ان ما تظنينه ماء صرح ممرّد مملس مستو من الزجاج ومنه الامرد فأراد سليمان أن يتزوّجها فكره شعرها فعملت له الشياطين النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ كذا فى معالم التنزيل وعن أبى موسى أوّل من اتخذ الحمامات سليمان بن داود كذا قاله الثعلبى فلما تزوّجها سليمان أقرّها على ملكها وأمر الجنّ فابتنوا له بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير مثلها ارتفاعا وحسنا وهى بينون وسلحين وغمدان* فى معجم ما استعجم سلحين بكسر أوّله واسكان ثانيه بعده حاء مهملة مكسورة على وزن فعلين موضع باليمن وهو قصر سبأ بالمأرب ثم كان سليمان يزورها فى كل شهر مرّة بعد أن ردّها الى ملكها ويقيم عندها ثلاثة أيام يبكر من الشام الى اليمن ومن اليمن الى الشام وولدت له فيما ذكر* وفى حياة الحيوان فولدت له غلاما سماه داود ومات فى حياته* وروى عن وهب أنه قال زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختارى رجلا من قومك أزوّجك اياه قالت ومثلى يا نبىّ الله ينكح الرجال وقد كان لى فى قومى من الملك والسلطان ما كان قال نعم انه لا يكون فى الاسلام الا ذلك ولا ينبغى لك أن تحرّمى ما أحل الله لك فقالت زوّجنى ان كان ولا بدّ من ذلك ذا تبع ملك همدان فزوّجه اياها ثم ردّها الى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا زوبعة أمير جنّ اليمن وقال اعمل لذى تبع ما استعملك فيه فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان فلما أن جاء الحول وتبينت الجنّ موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى اذا كان فى جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجنّ ان الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرّقوا وانقضى ملك ذى تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان* وفى أنوار التنزيل قد اختلف فى أنه تزوّجها أو زوّجها من ذى تبع ملك همدان والله أعلم*

(حديث وفاة بلقيس)
* قال وهب أقامت بلقيس سبع سنين وسبعة أشهر ثم توفيت فدفنت تحت حائط بمدينة تدمر من أرض الشام ولم يعلم أحد بموضع قبرها الى أيام الوليد ابن عبد الملك بن مروان قال أبو موسى بن نصر بعثت فى خلافته الى مدينة تدمر ومعى العباس بن الوليد ابن عبد الملك فجاء مطر عظيم فانهار بعض حائط بمدينة تدمر فانكشفت الارض عن تابوت طوله ستون ذراعا متخذ من حجر أصفر كأنه الزعفران مكتوب عليه هذا مدفن تابوت بلقيس الصالحة زوجة سليمان ابن داود أسلمت لسنة عشرين خلت من ملكه وتزوّج بها يوم عاشوراء وتوفيت يوم الاثنين من شهر ربيع سنة سبع وعشرين خلت من ملكه ودفنت ليلا تحت حائط بمدينة تدمر لم يطلع على دفنها انس ولا جان الا من دفنها قال فرفعنا غطاء التابوت واذا هى غضة كأنها دفنت فى ليلتها فكتبنا بذلك الى الوليد فأمر بتركه فى مكانه وأن يبنى عليه بالصخر والمرمر كذا فى كتاب قصص الانبياء تأليف الامام أبى الحسين محمد ابن عبد الله الكسائى*

(ذكر صفة كرسى سليمان عليه السلام)
* روى أن سليمان أمر الجنّ باتخاذ كرسى له ليجلس عليه للقضاء وأمر أن يعمل بديعا مهولا مهيبا بحيث لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتعد من الهيبة فعملوه له من أنياب الفيل وزينوه باليواقيت واللؤلؤ والزبرجد وحفوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الاحمر والزبرجد الاخضر وعلى رأس نخلتين منها طاوسان من ذهب وعلى الاخر بين نسران من ذهب وجعلوا بين جنبى الكرسى فى أسفله أسدين من ذهب على رأس كل واحد منهما عمود من الزبرجد الاخضر وعقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الاحمر فاذا

(1/249)


أراد أن يصعد بسط الاسدان له ذراعيهما كذا فى أنوار التنزيل والمدارك واذا وضع رجله على الدرجة السفلى يستدير الكرسى بما فيه دوران الرحى وينشر النسران والطاوسان أجنحتهما ويبسط الاسدان ذراعيهما ويضربان الارض بأذنابهما وكذا يفعلان فى كل درجة يصعدها فاذا استوى بأعلاه أخذ النسران تاجه فوضعاه على رأسه واذا قعد أظله النسران بأجنحتهما ثم يستدير الكرسى بما فيه والنسران والطاوسان والاسدان ينضحان على رأسه المسك والعنبر ثم يتناول حمامة من ذهب فيه التوراة فيفتحها سليمان فيقرأها على الناس وكان التصوير مباحا حينئذ كذا فى المدارك ويجلس علماء بنى اسرائيل على كراسى الذهب وعظماء الجنّ على كراسى الفضة ويتقدّم الناس اليه للقضاء واذا دعا بالبينات وتقدّمت الشهود لاقامة الشهادات دار الكرسى بما فيه دوران الرحى والذى يدير الكرسى تنين عظيم من ذهب فاذا دار الكرسى بسط الاسدان أيديهما يضربان الارض بأذنابهما وينشر النسران والطاوسان أجنحتهما فتفزع الشهود فلا يشهدون الا بالحق* وهذا شأن كرسى سليمان وعجائبه وهو مما عمله صخر الجنى* وفى المدارك روى أن افريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الاسدان ساقه فكسراها فلم يجترئ أحد بعده أن يدنو منه* وفى رواية لما مات سليمان أخذ ذلك الكرسى بخت نصر فأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم بالصعود عليه فلما وضع قدمه على الدرجة رفع الا سديده اليمنى وضرب ساقه ودق قدمه فلم يزل يتوجع منها حتى مات وبقى الكرسى بانطاكية حتى غزا أكداس ابن كداس فهزم خليفة بخت نصر وردّ الكرسى الى بيت المقدس فلم يستطع أحد من الملوك الجلوس عليه والاستمتاع به فوضع تحت الصخرة وغاب فلا يعرف له خبر ولا أثر ولا يدرى أين هو*

سبب سلب ملك سليمان
وفى معالم التنزيل كان سبب سلب ملك سليمان ما ذكره محمد بن اسحاق وغيره عن وهب بن منبه أنه قال لما سمع سليمان بمدينة فى جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون بها ملك عظيم الشان لم يكن للناس اليه سبيل لمكانه فى البحر وكان الله قد آتى سليمان فى ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شىء فى برّ ولا بحر الا يركب اليه الريح فخرج الى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجنّ والانس فقتل ملكها واستأصل ما فيها وأصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسنا ولا جمالا فاصطفاها لنفسه ودعاها الى الاسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة وفق وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشق ذلك على سليمان فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذى لا يذهب والدمع الذى لا يرقأ قالت انى أذكر أبى واذكر ملكه وأذكر ما كان فيه وما أصابنى فيحزننى ذلك فقال سليمان قد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه وسلطانا هو أعظم من سلطانه وهداك للاسلام وهو خير من ذلك كله قالت انه كذلك ولكنى اذا ذكرته أصابنى ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوّر واصورته فى دارى التى أنا فيها أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزنى وأن أتسلى برؤيته عن بعض ما أجد فى نفسى فأمر سليمان عليه السلام الشياطين فقال مثلوا لها صورة أبيها فى دارها حتى لا تنكر منه شيئا فمثلوها لها حتى نظرت الى أبيها بعينه الا انه لا روح فيه فعمدت اليه حين صنعوه فأزرته وقمصته وعممته بمثل ثيابه التى كان يلبس ثم كانت اذا خرج سليمان من دارها تغدو اليه فى ولائدها حتى تسجد له ويسجدون له كما كانت تصنع به فى ملكه وتروح كل عشية وصباح بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشىء من ذلك أربعين صباحا وبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صدّيقا وكان لا يردّ عن أبواب سليمان أىّ وقت أراد دخول بيت من بيوته دخل كان حاضرا سليمان أو كان غائبا فأتاه فقال يا نبىّ الله كبر سنى ودق عظمى ونفد عمرى وقد حان منى ذهاب أيامى وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه ما مضى من أنبياء الله واثنى عليهم بعلمى فيهم وأعلم الناس بما كانوا يجهلون من كثير

(1/250)


أمورهم فقال افعل فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء الله واثنى على كل نبىّ بما فيه وذكر ما فضله الله به حتى انتهى الى سليمان فقال ما كان أحلك وأورعك فى صغرك وأفضلك فى صغرك وأحكم أمرك فى صغرك وأبعدك عن كل ما يكره فى صغرك ثم انصرف فوجد سليمان فى نفسه من ذلك شيئا ملأه غضبا وغيظا فلما دخل سليمان داره أرسل اليه فقال يا آصف ذكرت من مضى من انبياء الله بما اثنيت عليهم خيرا فى كل زمان وعلى كل حال من أمرهم فلما ذكرتنى جعلت تثنى علىّ خيرا فى صغرى وسكت عما سوى ذلك من أمرى فى كبرى فما الذى حدث فى آخر أمرى فقال ان غير الله ليعبد فى دارك منذ أربعين صباحا فى هوى امرأة فقال فى دارى قال فى دارك فقال انا لله وانا اليه راجعون لقد عرفت انك ما قلت الذى قلت الا عن شىء بلغك فرجع سليمان الى داره وكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها ثم أمر بثياب الطهارة فأتى بثياب لا يغزلها الا الابكار ولا ينسجها الا الابكار ولا يغسلها الا الابكار ولم تمسها امرأة قد رأت الدم فلبسها ثم خرج الى فلاة من الارض وحده فأمر برماد ففرش له ثم أقبل تائبا الى الله عز وجل حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله عز وجل وتضرعا اليه يبكى ويدعو الله ويستغفر مما كان فى داره فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ثم رجع الى داره وكانت له أمّ ولد يقال لها الامينة كان اذا دخل مذهبه أو أراد اصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يمس خاتمه الا وهو طاهر وكان ملكه فى خاتمه فوضعه يوما عندها ثم دخل مذهبه فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة سليمان لا تنكر منه شيئا فقال خاتمى يا أمينة فناولته اياه فجعله فى يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والجنّ والانس وخرج سليمان فأتى الامينة وقد غيرت حالته وهيئته عند كل من رآه فقال يا أمينة خاتمى قالت له من أنت قال أنا سليمان بن داود قالت كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان ان خطيئته قد أدركته فخرج وهو خائف وجعل يقف على الدار من دور بنى اسرائيل ويقول أنا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون انظروا الى هذا المجنون أى شىء يقول يزعم انه سليمان فلما رأى سليمان ذلك عمد الى البحر فكان ينقل الحيتان لاصحاب البحر الى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين فاذا أمسى باع احدى سمكتيه بأرغفة وشوى الاخرى فأكلها فمكث كذلك أربعين صباحا عدّة ما كان الوثن يعبد فى داره وانكر آصف وعظماء بنى اسرائيل حكم عدوّ الله الشيطان فى تلك الاربعين يوما فقال آصف يا معشر بنى اسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم نبىّ الله سليمان بن داود ما رأيت قالوا نعم قال أمهلونى حتى أدخل على نسائه فأسألهنّ هل انكرن شيئا منه من خاصة أمره ما أنكرنا فى عامة أمر الناس وعلانيته فدخل على نسائه فقال ويحكنّ هل أنكرتن من أمر ابن داود اليه راجعون ان هذا لهو البلاء المبين ثم خرج على بنى اسرائيل فقال ما فى الخاصة أكثر مما فى العامة فلما مضى أربعون صباحا طار ذلك الشيطان من مجلسه ثم مرّ بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتى اذا كان العشى أعطاه سمكتيه فأعطى السمكة التى بلعت الخاتم وخرج سليمان بسمكتيه فباع التى ليس فى بطنها الخاتم بالارغفة ثمّ عمد الى السمكة الاخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه فى جوفها فأخذه وجعله فى يده ووقع ساجد الله تعالى فعكفت عليه الطير والجنّ وأقبل عليه الناس وعرف الذى قد كان دخل عليه مما كان أحدث فى داره ورجع اليه ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين فقال ائتونى بصخر فأتوه به فأخذه بعد أن جاؤا به اليه فجاب له صخرة فأدخله فيها ثم سدّ عليه بأخرى ثم أوثقه فيها بالحديد وسبك عليه بالرصاص

(1/251)


ثم أمر به فقذف فى البحر* هذا خديث وهب بن منبه وقال الحسن ما كان الله ليسلط الشياطين على نساء الانبياء* وفى أنوار التنزيل نفذ حكمه فى كل شىء الا فيه وفى نسائه* وفى كتاب أبى المعين النسفى وما يروى أن سليمان زال ملكه أربعين يوما وان الشياطين تواصلوا الى نسائه وجواريه فتولد الاكراد الذين يسكنون الجبال فلما عاد اليه ملكه عزلهم عن نفسه قلنا غير صحيح والصحيح انه ماتوا صلوا الى نسائه وجواريه انتهى وكان سليمان يدور على البيوت ويتكفف الى آخر ما ذكر* قال السدّى كان سبب فتنة سليمان انه كانت له امرأة منهنّ يقال لها جرادة هى أبر نسائه وآمنهنّ عنده وكان يأتمنها على خاتمه اذا أتى الى حاجته فقالت له يوما ان أخى بينه وبين فلان خصومة وانا احب ان تقضى له اذا جاءك فقال نعم فلما تحاكما عنده أحب أن يكون الحق لاهل جرادة فابتلى بقوله فأعطاها خاتمه ودخل المخرج فجاء الشيطان فى صورته فأخذه وجلس على مجلس سليمان وخرج سليمان فسألها خاتمه قالت ألم تأخذه قال لا فخرج مكانه ومكث الشيطان يحكم بين الناس اربعين يوما فأنكر الناس حكمه فاجتمع قراء بنى اسرائيل وعلماؤهم حتى دخلوا على نسائه فقالوا انا قد انكرنا هذا فان كان سليمان فقد ذهب عقله فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا حتى أحدقوا به ونشروا التوراة فقرؤها فطار من بين ايديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب الى البحر فوقع الخاتم منه فى البحر فابتلعه حوت واقبل سليمان حتى انتهى الى صياد فى البحر وهو جائع فاشتدّ جوعه فاستطعمه من صيده وقال انا سليمان فقام اليه بعضهم بعصا فضربه فشجه فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذى ضربه وأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم فشق بطنهما وجعل يغسلهما فوجد خاتمه فى بطن احداهما فلبسه فردّ الله عليه ملكه وبهاءه وحامت عليه الطير فعرف القوم انه سليمان فقاموا يعتذرون اليه مما صنعوا فقال ما احمدكم على عذركم ولا الومكم على ما كان منكم هذا امر كان لا بدّ منه ثم جاء حتى اتى ملكه وامر فأتى بالشيطان الذى اخذ خاتمه وجعله فى صندوق من حديد واطبق عليه واقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه وامر به فألقى فى البحر فهو حىّ كذلك حتى تقوم الساعة* وفى بعض الروايات ان سليمان عليه السلام لما افتتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه فأخذه سليمان ليجعله فى يده فسقط فأيقن سليمان بالفتنة فبينما هو كذلك مفكر اذ دخل آصف فذكر له قصته فقال له آصف انك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك فى يدك أربعين يوما ففرّ الى الله تائبا فانى اقوم مقامك وأسير بسيرتك الى ان يتوب الله عليك ففرّ سليمان هاربا الى ربه واخذ آصف الخاتم فوضعه فى اصبعه فثبت فأقام آصف فى ملكه يسير بسيرته اربعين يوما الى أن ردّ الله على سليمان ملكه فجلس على كرسيه واعاد الخاتم فى يده فثبت* وفى انوار التنزيل خطيئة سليمان تغافله عن حال اهله لان اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ وسجود الصورة بغير علمه لا يضرّه* وفى المدارك اما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن فى بيت سليمان فمن اباطيل اليهود*

وفاة سليمان
وروى ان داود ملك اربعين سنة وأسس بناء بيت المقدس فى موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات يوم السبت أواخر سنة وأسس بناء بيت المقدس فى موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات يوم السبت أواخر سنة خمس وثلاثين وخمسمائة لوفاة موسى قبل تمام بيت المقدس فوصى به سليمان فاستعمل الجنّ فى عمارته فلم يتم بعد اذ علم بدنوّ أجله* وفى معالم التنزيل كان لا يصبح سليمان يوما الا نبتت فى محرابه ببيت المقدس شجرة فسألها ما اسمك فتقول اسمى كذا فيقول لاىّ شىء انت فتقول لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع فان كانت نبتت لغرس غرسها وان كانت لدواء كتبت حتى نبتت الخرّوبة فقال لها ما انت قالت الخروبة قال لاى شىء نبت قالت لخراب مسجدك قال سليمان ما كان الله ليخربه وانا حىّ انت الذى على منبتك هلاكى وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها فى حائط له فأرادان يعمى

(1/252)


على الجنّ موته ليتموا المسجد فقال اللهم عمّ على الجنّ موتى حتى يعلم الانس ان الجنّ لا يعلمون الغيب وكانت الجنّ تخبر الانس انهم يعلمون من الغيب اشياء ويعلمون ما فى غد ودعا الجنّ فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلى متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقى كذلك حتى اكلتها الارضة فخرّ ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الارضة على العصا فأكلت يوما وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة* ذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثا وخمسين سنة ومدّة ملكه أربعون سنة* وفى المدارك قيل فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة وملك بعد وفاة أبيه داود وهو ابن ثلاث عشرة سنة وروى عمره اثنتا عشرة سنة وكان مولده بغزة وابتداؤه فى بناء بيت المقدس لا ربع مضين من ملكه وأقام فى عمارة بيت المقدس سبع سنين وفرغ منه فى السنة الحادية عشر من ملكه وهذا ينافى ما تقدّم آنفا من قوله فلم يتم بعد اذ علم بدنوّ أجله وكان من هبوط آدم الى الطوفان الفان ومائتان واثنتان وأربعون سنة ومن الطوفان الى وفاة سام بن نوح خمسمائة سنة ومن وفاة سام الى بناء سليمان بيت المقدس ألف وستمائة واثنتان وسبعون سنة فيكون من هبوط آدم الى ابتداء سليمان بناء بيت المقدس أربعة آلاف وأربعمائة وأربع عشرة سنة وبين عمارة بيت المقدس والهجرة النبوية ألف وثمانمائة وقريب من ستين سنة*

وفاة عبد المطلب
ومن وقائع السنة الثامنة وفاة عبد المطلب واختلف فى سن عبد المطلب حين مات فقال السهيلى ان عبد المطلب مات وعمره مائة وعشرون سنة* وقال ابن جبير عمره خمس وتسعون سنة وقيل مائة وعشر سنين وقيل مائة وأربعون سنة وقيل ثنتان وثمانون سنة ذكر هذه الاقاويل الاربعة الاخيرة مغلطاى فى سيرته وقد عمى قبل موته ودفن على ما ذكره ابن عساكر بالحجون كذا فى شفاء الغرام ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثمان سنين وشهر وعشرة أيام كذا فى نور العيون لليعمرى* وفى سيرة مغلطاى وقيل ثمان سنين وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتذكر موت عبد المطلب قال نعم انا يومئذ ابن ثمان سنين* وفى المواهب اللدنية وسيرة مغلطاى قيل كان ابن تسع سنين وقيل عشر وقيل ست وقيل ثلاث وفيه نظر قالت أمّ أيمن رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبكى خلف جنازة عبد المطلب وفى المنتقى توفى عبد المطلب فى ملك كسرى هرمز بن أنوشروان*

كفالة أبى طالب له صلّى الله عليه وسلم
ومن وقائع السنة الثامنة كفالة أبى طالب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم روى أنه لما مات عبد المطلب كفل أبو طالب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وضمه اليه وذلك لان أبا طالب وعبد الله أبا النبىّ صلّى الله عليه وسلم كانا من أمّ واحدة وهى فاطمة بنت عمرو وكان الزبير عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيضا من أمّهما لكن كفالة أبى طالب اما بوصية عبد المطلب واما لانّ الزبير وأبا طالب اقترعا فخرجت القرعة لابى طالب واما لانّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اختار أبا طالب لكثرة مؤانسته وشفقته قيل بل كفله الزبير حتى مات ثم كفله أبو طالب وهذا غلط لان الزبير شهد حلف الفضول بعد موت عبد المطلب ولرسول الله صلّى الله عليه وسلم نيف وعشرون سنة وأجمع العلماء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم شخص مع عمه أبى طالب الى الشام بعد موت عبد المطلب بأقل من خمس سنين فهذا يدل على أن أبا طالب كفله ذكره ابن الاثير فى أسد الغابة* وروى أن أبا طالب كان فقيرا وكان يحبه حبا شديدا وكان لا يحب أولاده كذلك وكان لا ينام الا الى جنسه ويخرج معه متى يخرج* وفى المواهب اللدنية وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفة قال قدمت مكة وهم فى قحط فقالت قريش يا أبا طالب أقحط الوادى وأجدب العيال وهلكت المواشى فهلم استسق فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجنّ تجلت عنه سحابة قتماء وما زال يسعى والغلام معه فلما صارا بازاء الكعبة وحوله اعيلمة فألصق الغلام ظهره

(1/253)


بالكعبة ولا زال يشير بأصبعه وما فى السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغدودق وانفجر الوادى وأخصب النادى والبادى وفى ذلك يقول أبو طالب
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للارامل
الثمال بكسر المثلثة الملجأ والغياث وعصمة الارامل أى يمنعهم من الضياع والحاجة والارامل المساكين من الرجال والنساء ويقال لكل واحد من الفريقين على انفراده أرمل وهو بالنساء أخص وأكثر استعمالا والواحد أرمل وأرملة وهذا البيت من أبيات قصيدة لابى طالب ذكرها ابن اسحاق بطولها وهى أكثر من ثمانين بيتا انتهى* وانشأ أبو طالب فى مدح النبىّ صلّى الله عليه وسلم أبياتا منها هذا البيت
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وحسان بن ثابت ضمن شعره هذا البيت فقال
ألم تر أن الله أرسل عبده ... بآياته والله أعلى وأمجد
أغر عليه للنبوّة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الا له اسم النبىّ الى اسمه ... اذا قال فى الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
نبىّ أتانا بعد يأس وفترة ... من الدين والاوثان فى الارض تعبد
وأرسله ضوأ منيرا وهاديا ... يلوح كما لاح الصقيل المهند
وكان اذا أكل عيال أبى طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا واذا أكل معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم شبعوا وكان الصبيان يصبحون رمصا شعثا ويصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم صقيلا دهينا كحيلا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبغض حضور الاصنام والاعياد مع قومه* روى ان بوانة كانت صنما يحضره قريش فى كل سنة يوما ويعظمونه ويعبدونه ويجعلونه عيدا وتنسك له النسائك ويحلقون رؤسهم عنده ويعكفون عنده الى الليل وكان أبو طالب يحضره مع قومه وكان يكلم النبىّ صلّى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه فيأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فغضب أبو طالب وأعمامه عليه فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع اليهم مرعوبا فزعا فقالوا له ما الذى رأيت قال انى كل ما دنوت من صنم منها تمثل لى رجل أبيض طويل يصيح بى وراءك يا محمد لا تمسه فاعاد الى عيدهم بعد ذلك وكان لم يأكل مما ذبح على النصب وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعبد الله وحده قبل أن يوحى اليه لانه كان من ورثة دعوة ابراهيم واسماعيل عليهما السلام* قال العلامة الدوانى فى تفسير قل يأيها الكافرون اختلف الاصوليون فى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم هل كان متعبدا بشريعة من قبله أولا فقيل انه كان متعبدا بشريعة موسى وقيل بشريعة عيسى وقيل بشريعة ابراهيم وقيل بشريعة نوح عليهم السلام وقيل انه لم يكن متعبدا فالمختار انه كان متعبدا قبل البعث لما ثبت أنه كان متعبدا فى غار حراء والتعبد لا يكون الا بشريعة لان الحاكم هو الشرع عند أهل الحق وعلى مذهب المعتزلة القائلين بحكم العقل الامر أظهر اذ العبادة لا تتوقف على هذا التقدير على شريعة والحاصل انه كان يتحنث فى غار حراء أى يتعبد الليالى ذوات العدد فلا جرم تكون هذه العبادة لله تعالى لا غير اذ الانبياء معصومون عن الكفر قبل البعثة بالاتفاق* روى عن علىّ رضى الله عنه أنه قال قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يا رسول الله هل عبدت غير الله قال لا قيل فهل شربت خمرا قط قال لا ثم قال ما زلت أعرف ان الذى هم عليه كفر

(1/254)


وما كنت أدرى ما الكتاب ولا الايمان وكذلك سائر الانبياء اذ لم ينقل ناقل من المسلمين ولا من أهل الكتاب ان أحدا من الانبياء كان يعبد سوى الله تعالى قبل أن يوحى اليه* وورد فى تفسير قوله تعالى ووجدك ضالا فهدى أى غير مهتد الى تفاصيل الملة الحنيفية وكان يسمع بأنها ملة أبيه ابراهيم الخليل فطفق يطلبها ولا يهتدى الى تفاصيلها فهداه الله منها الى سواء السبيل وكان موسى مؤمنا حين قتل القبطى باخبار الله ايانا فقال تعالى قال رب انى ظلمت نفسى فاغفرلى فغفر له وقال رب بما أنعمت علىّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ثم أخبر عنه قال فعلتها اذا وأنا من الضالين فعلمنا ان ضلاله كان من شرائع الاحكام الحلال والحرام والتكاليف التى لا تعرف الا بتوفيق وكان العلم بتفاصيل الشرائع قد درس فى عصر النبىّ صلّى الله عليه وسلم ولم يذهب بالتوحيد على جماعة منهم ورقة بن نوفل وزيد بن نفيل وأبو ذرّ الغفارى وكان منهم أمية بن أبى الصلت فارتدّ وعتبة بن ربيعة ثم ارتدّ وأبو عامر الراهب بن صيفى ثم ارتدّ حسدا للنبىّ صلّى الله عليه وسلم*

موت حاتم الطائى وموت كسرى أنوشروان
ومن وقائع هذه السنة موت حاتم الطائى وهو حاتم بن عبد الله ابن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس وهو حاتم المشهور الذى يضرب به المثل فى الجود والكرم* ومن وقائع هذه السنة موت كسرى أنوشروان وولاية ابنه هرمز السلطنة* وفى نظام التواريخ كان هرمز بن أنوشروان ملكا ذا عدل ورأى ولكن كان يستحقر الناس ذوى الحسب والنسب ويولى الاراذل والدون وكان ملكه احدى عشرة سنة وأربعة أشهر وقيل قبر أنوشران بالجبل الاحمر* ومن وقائع السنة التاسعة من مولده صلّى الله عليه وسلم ما جاء فى بعض الروايات أن أبا طالب خرج برسول الله صلّى الله عليه وسلم الى بصرى من الشام وهو ابن تسع سنين* وفى معجم ما استعجم بصرى بضم أوّله واسكان ثانيه وفتح الراء المهملة مدينة حوران*

ذكر حرب الفجار
ومن وقائع السنة العاشرة من مولده صلّى الله عليه وسلم الفجار الاوّل وهو قتال بعكاظ وكان الحرب فيه ثلاثة أيام وفى دلائل النبوّة الفجار اثنان أما الفجار الاوّل فكانت وقعته ولرسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين وكانت الحرب فيه ثلاث مرات أما المرّة الاولى فسببها ان بدر بن مغيث الغفارى ممن كان يفخر على الناس فبسط يوما رجله وقال أنا أعز العرب فمن زعم أنه أعز منى فليضربها بالسيف فوثب رجل من بنى نضر بن معاوية يقال له الاحمر بن مازن فضربه بالسيف على ركبته واندرها فاقتتلوا* وأما المرّة الثانية فكان سببها ان امرأة من بنى عامر كانت جالسة بسوق عكاظ فطاف بها شاب من قريش من بنى كنانة وكان معه وفقة فسألوها أن تكشف عن وجهها فأبت فقام أحدهم فجلس خلفها فعقد طرف درعها الى ما فوق عجزها بشوكة فلما قامت انكشف دبرها فضحكوا منها فقالوا منعتينا النظر الى وجهك وجدت لنا بالنظر الى دبرك وجاء مثلها فى سبب غزوة بنى قينقاع أيضا كما سيجىء فى الموطن الثانى فنادت المرأة يا آل عامر فثاروا بالسلاح واقتتلوا مع بنى كنانة فوقع بينهما دم فتوسطها حرب بن أمية وأرضى بنى كنانة من مثلة صاحبهم* وأما المرّة الثالثة فكان سببها انه كان لرجل من بنى جشم بن عامر دين على رجل من بنى كنانة فلواه به فجرت بينهما خصومة فاقتتل الحيان وحمل بن جدعان ذلك فى ماله وكان ذا مال وثروة وسنذكر سبب ثروته وهذه الايام لم يحضرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأما الفجار الآخر فحضر النبىّ صلّى الله عليه وسلم بعض أيامه كما سيجىء فى الباب الثانى فى حوادث السنة الرابعة عشر من مولده صلى الله عليه وسلم*

سبب ثروة عبد الله بن جدعان
وأما سبب ثروة عبد الله بن جدعان فانه كان فى ابتداء أمره صعلوكا ترب اليدين وكان مع ذلك شريرا فاتكا لا يزال يجنى الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه وحلف أن لا يؤويه أبدا فخرج فى شعاب مكة حائرا مائرا يتمنى الموت أن ينزل به فرأى شقا فى جبل فظنّ أنّ فيه حية فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح فلم ير شيئا فدخل فيه فاذا فيه ثعبان

(1/255)


عظيم له عينان يتقد ان كالسراج فحمل عليه الثعبان فتقدّم فأفرج اليه فانساب اليه مستديرا بدارة عند بيت ثم خطا خطوة أخرى فصفر به الثعبان فأقبل اليه كالسهم فأفرج له فانساب عنه فوقف ينظر ويتفكر فى أمره فوقع فى نفسه انه مصنوع فأمسكه بيده فاذا هو مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت فاذا جثث طوال على سرير لم ير مثلهم طولا ولا عظما وعند رؤسهم لوح من فضة فيه تاريخهم فاذاهم رجال من ملوك حمير وآخرهم موتا الحارث بن مضاض صاحب العذبة الطويلة فاذا عليهم ثياب من وشى لا يمس منها شىء الا انتثر كالهباء من طول الزمان مكتوب فى اللوح عظات* قال ابن هشام كان اللوح من رخام وكان فيه آنا نفيلة بن عبد المدان ابن حشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن فحطان بن نبىّ الله هود عشت خمسمائة عام وقطعت غور الارض باطنها وظاهرها فى طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك ينجينى من الموت واذا فى وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذ ثم علم الشق بعلامة وأغلق بابه بالحجارة وأرسل الى أبيه بالمال الذى خرج به منه يسترضيه ويستعطفه ووصل عشيرته كلهم فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف وكانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير وسقط فيها صبى فغرق ومات*

نفيسة
وفى غريب الحديث لابن قتيبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كنت استظل بجفنة عبد الله بن جدعان صكة عمى يعنى فى الهاجرة وسميت الهاجرة صكة عمى لخبر ذكره أبو حنيفة وهو أن عميا رجل من عدوان وقيل من اياد وكان فقيه العرب فى الجاهلية فقدم فى قوم معتمرا أو حاجا فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم فى وسط الظهيرة من أتى مكة غدا فى مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكوا الابل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد وعمى تصغير أعمى على الترخيم وحذف الزائدة فسميت الظهيرة صكة عمى وعبد الله بن جدعان تيمى يكنى أبا زهير وهو ابن عمّ عائشة أمّ المؤمنين قالت عائشة رضى الله عنها يا رسول الله انه كان يطعم الطعام ويقرى الضيف ويفعل المعروف هل ينفعه ذلك يوم القيامة قال صلّى الله عليه وسلم انه لم يقل يوما رب اغفرلى خطيئتى يوم الدين كذا قاله السهيلى فى الروض الانف* وفى كتاب رىّ العاطش وأنس الواحش لاحمد بن عمار أن ابن جدعان ممن حرّم الخمر فى الجاهلية بعد ان كان بها مغرى وذلك انه سكر ليلة فصار يمدّيده ويقبض على ضوء القمر ليأخذه فضحك منه جلساؤه فأخبر بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا فلما كبر وهرم أراد بنو تيم أن يمنعوه من تبذير ماله ولاموه فى العطاء فكان يدعو الرجل فيدنو فاذا دنا منه لطمه لطمة خفيفة ثم يقول له قم فانشد لطمتك واطلب ديتها فاذا فعل ذلك أعطته بنو تيم من مال ابن جدعان كذا فى حياة الحيوان* ومما يناسب صكة عمى رمى البعرة على رأس الحول عن أمّ سلمة تقول جاءت امرأة الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان ابنتى توفى عنها زوجها وقد اشتكت عيها أفنكحلها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا مرّتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انما هى أربعة أشهر وعشر وقد كانت احدا كنّ فى الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول قالت زينب كانت المرأة اذا توفى عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شرى ثيابها ولم تمس طيبا حتى تمرّ بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة فتقتض به فقلما تقتض بشىء الا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره الحفش بكسر الحاء وسكون الفاء البيت الصغير جدّا سئل مالك ما معنى تقتض قال تمسح به جلدها كذا فى صحيح البخارى*

أول ما رأى عليه السلام من أمر النبوّة
ومن وقائع السنة الحادية عشر من مولده صلّى الله عليه وسلم ما روى عن أبى بن كعب ان أبا هريرة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جريا أن يسأل عن أشياء لا يسأله عنها غيره فقال يا رسول الله ما أوّل ما رأيت

(1/256)


من أمر النبوّة فاستوى جالسا وقال قد سألت يا أبا هريرة انى لفى صحراء ابن عشر سنين وأشهر واذا بكلام فوق رأسى فاذا برجل يقول لرجل هو هو فاستقبلانى بوجوه لم أرها لخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط وثياب لم أرها على خلق قط فأقبلا الىّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدى لا أجد لاحدهما مسا فقال أحدهما لصاحبه اضجعه فأضجعانى بلا قصر ولا هصر فقال أحدهما لصاحبه افلق صدره فنجد أحدهما الى صدرى ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع فقال له أخرج الغل والحسد فأخرج شيئا كرضة العلقة ثم نبذها فقال له أدخل الرأفة والرحمة فاذا مثل الذى اخرج شبه الفضة ثم هز ابهام رجلى فقال اعد واسلم فرجعت أعدو رأفة على الصغير ورحمة على الكبير والله أعلم