تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس

(الموطن السابع فى وقائع السنة السابعة من الهجرة
من اتخاذ الخاتم وارسال الرسل الى الملوك وسحره وبعث أبان بن سعيد قبل نجد واسلام أبى هريرة وغزوة خيبر وسمه بها واستصفاء صفية وفتح فدك وطلوع الشمس بعد غروبها وفتح وادى القرى وليلة التعريس والبناء بأمّ حبيبة وسرية عمر بن الخطاب الى تربة وبعث أبى بكر الى بنى كلاب بناحية الضرية وبعث بشر بن سعد الى بنى مرّة بفدك وبعث غالب بن عبد الله الى الميفعة وسرية بشر بن سعد الى اليمن وجبار وبعث سرية قبل نجد وكتابه الى جبلة بن الايهم وقتل شيرويه أباه كسرى برويز ووصول هدية المقوقس وعمرة القضاء وتزوّج ميمونة وسرية ابن أبى العوجاء الى بنى سليم) *
*

ذكر اتخاذ الخاتم
وفى هذه السنة اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاتم* ثبت فى صحاح الاحاديث أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الى كسرى وقيصر والنجاشى وغيرهم من الملوك يدعوهم الى الاسلام قيل انهم لا يقبلون كتابا الا بخاتم أو مختوما فصاغ النبىّ صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب واقتدى به ذو واليسار من أصحابه فصنعوا خواتيم من ذهب فلما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه لبسوا أيضا خواتيمهم فجاء جبريل عليه السلام من الغد وقال لبس الذهب حرام لذكور أمتك فطرح النبىّ صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح أصحابه أيضا خواتيمهم ثم اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقه وفصه من فضة ونقش فيه محمد رسول الله فى ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر ونهى أن ينقش عليه أحد واقتدى به أصحابه فاتخذوا خواتيمهم من فضة*

ارسال الرسل الى الملوك
وفى هذه السنة كان ارسال الرسل الى الملوك* فى الوفاء وفى أوّل السنة السابعة كتب الى الملوك* وفى أسد الغابة فى سنة سبع بعث الرسل الى الملوك بغير لفظ الاوّل وقيل كان ارسال الرسل فى آخر سنة ست وجمع بعضهم بين القولين بان ارسال الرسل كان فى السنة السادسة ووصولهم الى المرسل اليهم كان فى السابعة* وفى المواهب اللدنية بعث ستة نفر فى يوم واحد فى المحرم سنة سبع وذكر القاضى عياض فى الشفاء مما عزاه الى الواقدى انه أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه اليهم انتهى وكان ذلك معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم* وفى المنتقى خرجوا مصطحبين فى ذى الحجة الحرام* وفى شواهد النبوّة ومن أواخر ذى الحجة الحرام من السنة السادسة على القول الاظهر الى أوّل المحرم من السنة السابعة بعث الرسل الى أرباب الاديان* وفى الاكتفاء ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التى صدّ عنها يوم الحديبية فقال يا أيها الناس ان الله بعثنى رحمة وكافة فأدّوا

(2/29)


عنى يرحمكم الله ولا تختلفوا علىّ كما اختلف الحواريون على عيسى فقال أصحابه وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله فقال دعاهم الى الذى دعوتكم اليه فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضى وسلم وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل فشكا ذلك عيسى الى الله تعالى فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الامّة التى بعث اليها* وروى انه صلى الله عليه وسلم بعد ما صاغ الخاتم دعا بالكاتبين فكتبوا ستة كتب الى ستة ملوك وأسماؤهم هذه* النجاشى ملك الحبشة وقيصر ويقال هرقل عظيم الروم وكسرى حاكم فارس والمدائن والمقوقس صاحب الاسكندرية ومصر والحارث والى تخوم الشام ودمشق وثمامة بن أثال وهوذة بن على الحنفيين ملكى اليمامة وقائديها ودعا ستة من أصحابه ودفع الى كل واحد منهم كتابا وبعثه الى واحد من هؤلاء الملوك فبعث عمرو بن أمية الضمرى الى النجاشى ودحية بن خليفة الكلبى الى قيصر وعبد الله بن حذافة السهمى الى كسرى وحاطب بن أبى بلتعة اللخمى الى المقوقس والشجاع بن وهب الاسدى الى الحارث بن أبى شمر الغسانى وسليط بن عمرو العامرى الى ثمامسة وهوذة*

(ذكر كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم الى النجاشى مع عمرو بن أمية الضمرى)
* روى ان النبىّ صلى الله عليه وسلم بعث عمرا الى النجاشى فى شأن جعفر بن أبى طالب وأصحابه وكتب اليه كتابين أحدهما يدعوه فيه الى الاسلام ويتلو عليه القرآن فكتب فيه* بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الى النجاشى ملك الحبشة أما بعد فانى أحمد اليك الله الذى لا اله الا هو الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد ان عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها الى مريم البتول الطاهرة المطهرة الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده وانى أدعوك الى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته فان تابعتنى وتؤمن بالذى جاءنى فانى رسول الله وانى أدعوك وجنودك الى الله تعالى وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحى وقد بعثت اليك ابن عمى جعفرا ومعه نفر من المسلمين والسلام على من اتبع الهدى* فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه على عينيه ونزل من سريره وجلس على الارض تواضعا فقال أشهد بالله انه النبىّ الامىّ الذى ينتظره أهل الكتاب وان بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل فأسلم النجاشى وشهد شهادة الحق وقال لو كنت استطيع ان آتيه لاتيته وكتب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم* بسم الله الرحمن الرحيم من النجاشى أصحمة سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الله الذى لا اله الا هو الذى هدانى للاسلام* أما بعد فقد بلغنى كتابك يا رسول الله فما ذكرت من امر عيسى عليه السلام فو رب السماء والارض ان عيسى عليه السلام لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا انه كما قلت وقد عرفنا ما بعثت به الينا وقدم ابن عمك وأصحابه وأشهد انك رسول الله صادقا مصدّقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين وقد بعثت اليك ابنى أرها فان شئت أن آتيك بنفسى فعلت يا رسول الله فانى أشهد ان ما تقول حق والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته* وذكر الواقدى عن سلمة بن الاكوع ان النجاشى توفى فى رجب سنة تسع كما سيجىء منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبوك قال سلمة صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم قال ان أصحمة النجاشى قد توفى فى هذه الساعة فاخرجوا بنا الى المصلى حتى نصلى عليه قال سلمة فحشد الناس وخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمنا وانا لصفوف خلفه وأنا فى الصف الرابع فكبر بنا أربعا كذا فى الاكتفاء* وقال فى المواهب اللدنية وهذا هو أصحمة الذى هاجر اليه المسلمون فى رجب سنة خمس من النبوّة وكتب اليه النبىّ صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه الى الاسلام مع عمرو بن أمية الضمرى سنة ست من

(2/30)


الهجرة وأسلم على يد جعفر بن أبى طالب وتوفى فى رجب سنة تسع من الهجرة ونعاه النبىّ صلى الله عليه وسلم يوم توفى وصلى عليه بالمدينة وأما النجاشى الذى ولى بعده وكتب اليه النبىّ صلى الله عليه وسلم يدعوه الى الاسلام فكان كافرا لم يعرف اسلامه ولا اسمه وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما* وفى صحيح مسلم عن قتادة أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كتب الى كسرى والى قيصر والى النجاشى والى كل جبار يدعوهم الى الاسلام والى دين الله وليس بالنجاشى الذى صلى عليه* قال ابن اسحاق فذكر لى انه بعث النجاشى بعد قدوم جعفر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرها ابن النجاشى من البحر فى ستين رجلا من الحبشة فركبوا سفينة فى اثر جعفر وأصحابه حتى اذا كانوا فى وسط البحر غرقوا ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سبعين رجلا وعليهم ثياب من الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس الى آخرها فبكوا حين سمعوا القرآن فأسلموا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فأنزل الله تعالى ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى يعنى وفد النجاشى الذين قدموا مع جعفر وهم سبعون وكانوا أصحاب الصوامع* وقال مقاتل كانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وقال عطاء كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران من بنى الحارث واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام كذا فى معالم التنزيل* وفى الكتاب الاخر يأمره أن يزوّجه أم حبيبة ابنة أبى سفيان وكانت قد هاجرت الى الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش الاسدى فتنصر هناك ومات كما سيجىء فى هذا الموطن وأمره فى الكتاب بأن يبعث اليه بمن قبله من أصحابه فجهز النجاشى مهاجرى الحبشة وبعثهم فى سفينتين مع عمرو بن أمية الضمرى الى المدينة* روى انّ النجاشى دعا بحقة من عاج فجعل فيها مكتوبى النبىّ صلى الله عليه وسلم وقال لا يزال فى أهل الحبشة خير وبركة ما دام فيهم هذان المكتوبان* وأورد صاحب الاعلام ان كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم فى أيدى ملوك الحبشة باق الى الان يعظمونه*

(ذكر كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم الى قيصر مع دحية بن خليفة الكلبى)
* قيل ان اسم قيصر هرقل وقيل أغطس وقيصر كلمة افر نجية معناه شق عنه* وسببه على ما قاله المؤرخون ان أم قيصر ماتت فى المخاض فشق بطنها وأخرج فسمى قيصر وكان يفتخر بذلك على الملوك ويقال انه لم يخرج من الرحم ثم وضع هذا اللقب لكل من ملك الروم كما لقبوا ملك الترك خاقان وملك فارس كسرى وملك الشام هرقل وملك القبط فرعون وملك اليمن تبع وملك الحبشة النجاشى وملك فرغانة اخشيد وملك مصر فى الاسلام سلطان فأخذ دحية كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجه الى بصرى لان النبىّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يدفع الكتاب الى عظيم بصرى وهو الحارث ملك غسان ليدفعه الى قيصر ولما انتهى دحية الى بصرى وكان حينئذ عظيم بصرى فى حمص فبعث رجلا مع دحية ليبلغه الى قيصر وقيصر ذاهب الى ايليا وهو بيت المقدس لانه لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص الى ايليا شكرا لله عز وجل فيما أولاه من ذلك* فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال التمسوا أحدا من قومه وكان أبو سفيان حينئذ بالشام فى رجال من قريش قدموا تجارا فى زمان الهدنة فأتى بأبى سفيان وأصحابه فسألهم عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيجىء ذكره الواقدى من حديث ابن عباس* وفى حديث غير هذا ذكره أيضا الواقدى عن محمد بن كعب القرظى ان دحية الكلبى لقى قيصر بحمص لما بعثه اليه رسول الله وقيصر ماش من قسطنطينية الى ايليا فى نذر كان عليه لئن أظهر الله الروم على فارس ليمشين حافيا من قسطنطينية الى ايليا وليصلين فيه

(2/31)


ففرشوا له بسطا ونثروا عليها الرياحين وهو يمشى عليها حتى بلغ ايليا ووفى بنذره فقال لدحية قومه لما بلغ قيصر اذا رأيته فاسجد له ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك قال دحية لا أفعل هذا أبدا ولا أسجد لغير الله أبدا قالوا اذا لا يأخذ كتابك ولا يكتب جوابك قال وان لم يأخذه فقال له رجل منهم أدلك على أمر يأخذ فيه كتابك ولا يكلفك فيه السجود قال دحية وما هو قال ان له على كل عقبة منبرا يجلس عليه فضع صحيفتك تجاه المنبر فانّ أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ثم يدعو صاحبها فيأتيه قال أما هذا فسأفعل فعمد الى منبر من تلك المنابر التى يستريح عليها قيصر فألقى الصحيفة فدعا بها فاذا عنوانها كتاب العرب فدعا بالترجمان الذى يقرأ بالعربية فاذا فيه من محمد رسول الله الى قيصر صاحب الروم فغضب أخ لقيصر يقال له نباق فضرب فى صدر الترجمان ضربة شديدة ونزع الصحيفة من يده فقال له قيصر ما شأنك فقال تنظر فى كتاب رجل بدأ بنفسه قبلك وسماك قيصر صاحب الروم ما ذكر لك ملكا فقال له قيصر انك والله ما علمت أحمق صغيرا مجنون كبيرا تريدان تخرق كتاب رجل قبل ان أنظر فيه فلعمرى لئن كان رسول الله كما يقول لنفسه أحق أن يبدأ بها منى وان كان سمانى صاحب الروم لقد صدق ما أنا الا صاحبهم وما أملكهم ولكن الله عز وجل سخرهم لى ولو شاء لسلطهم علىّ كما سلط فارس على كسرى فقتلوه ثم فتح الصحيفة فاذا فيها* بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الى قيصر صاحب الروم سلام على من اتبع الهدى* أما بعد* يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فى آيات من كتاب الله يدعوه الى الله ويزهده فى ملكه ويرغبه فيما رغبه الله من الاخرة ويحذره بطش الله وبأسه كذا فى الاكتفاء* وفى الصحيح وكان ابن الناطور صاحب ايليا وهرقلة أسقفا على نصارى الشام يحدّث ان هرقل حين قدم ايليا أصبح يوما خبيث النفس مهموما فقال له بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناطور وكان هرقل حزاء ينظر فى النجوم ماهرا فى الاحكام النجومية يستخرج أحكام الاجسام السفلية من آثار الاجرام العلوية عالما بسائر القواعد النجومية فقال لهم حين سألوه أجل انى رأيت الليلة حين نظرت فى النجوم أن ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الامة قالوا ما نعلم يختتن الا اليهود فلا يهمنك شأنهم وهم فى حكمك وسلطانك واكتب الى مدائن ملكك فليقتلوا من فيها من اليهود فتستريح من الهم فبينماهم على أمرهم اذ أتى هرقل رجل اسمه عدى بن حاتم وهو رسول عظيم بصرى برجل من العرب يقوده وهو دحية بن خليفة الكلبى فقال أيها الملك ان هذا من العرب يحدّث عن أمر عجيب قد حدث ببلاده فقال هرقل لترجمانه سله ما هذا الحدث الذى ببلاده فسأله فقال دحية خرج من بين أظهرنا رجل يزعم انه نبىّ فاتبعه اناس وخالفه آخرون فكانت بينهم ملاحم فتركتهم على ذلك فلما أخبره قال هرقل اذهبوا به فجردوه فانظروا أمختون هو أم لا فجرّدوه ونظروا اليه فاذا هو مختون فحدّثوه انه مختون وسألوه عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا والله الذى رأيته هذا ملك هذه الامة قد ظهر أعطوه ثوبه ثم دعا صاحب شرطته فقال له قلب لى الشام ظهر او بطنا حتى تأتينى برجل من قوم هذا الرجل يعنى النبىّ صلى الله عليه وسلم* قال أبو سفيان ان هرقل أرسل اليه فى ركب من قريش صاحب شرطته وكان أبو سفيان وأصحابه حينئذ تجارا بالشام بمدينة غزة فى المدّة التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن فيها أبا سفيان وكفار قريش اى فى زمان الهدنة فأتوهم بايليا وهو بيت المقدس وكان هرقل حينئذ فيه فدعاهم الى مجلسه وحوله عظماء الروم ودعا ترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم انه نبىّ فقال أبو سفيان أنا أقربهم نسبا فقال ادنوه منى وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره

(2/32)


ثم قال لترجمانه انى سائل هذا أى أبا سفيان عن هذا الرجل يعنى النبىّ صلى الله عليه وسلم فان كذبنى فكذبوه قال ابو سفيان فو الله لولا الحياء من ان يأثروا علىّ كذبا لكذبت عنه قال ثم كان أوّل ما سألنى عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط قلت لا قال فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال فاشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتدّ منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن فى هدنة لا ندرى ما هو فاعل فيها قال أبو سفيان ولم يمكنى أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال كيف كان قتالكم اياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال بماذا يأمركم قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدقة والصدق والعفاف والصلة والطهارة فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت انه ذو نسب وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت لو قال أحد هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد علمت انه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك اشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم اتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت انهم يزيدون وكذلك أمر الايمان حتى يتم وسألتك أيرتدّ أحد سخطة لدينه بعد ان يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بما يأمركم فذكرت انه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الاوثان ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف فان كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمىّ هاتين وقد كنت أعلم انه خارج ولم أكن أظنّ انه منكم فلو أنى أخلص اليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى بعث به دحية الى عظيم بصرى فدفعه الى هرقل ملك الروم كما تقدّم آنفا فاذا مكتوب فيه*

صورة كتاب النبى الى هرقل
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فانى أدعوك بداعية الاسلام اسلم تسلم اسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فان توليت فعليك اثم الاريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون* قال أبو سفيان فلما قال هرقل ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم فلا أدرى ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا من عنده فقلت لاصحابى حين أخرجنا لقد عظم أمر ابن أبى كبشة انه يخافه ملك بنى الاصفر فما زلت موقنا انه سيظهر حتى أدخل الله علىّ الاسلام* وفى الاكتفاء وفى هذا الحديث عن أبى سفيان انه قال لقيصر لما سأله عن النبىّ صلى الله عليه وسلم جملة ما أجابه به أيها الملك ألا أخبرك عنه خبرا تعرف به انه كاذب قال وما هو قلت زعم انه خرج من أرضنا أرض الحرم فى ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد ايليا ورجع الينا فى تلك الليلة قبل الصباح قال وبطريق ايليا عند رأس قيصر قال قد علمت تلك الليلة قال فنظر اليه قيصر وقال ما علمك بهذا قال انى كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الابواب كلها غير باب واحد غلبنى فاستعنت عليه بعمالى ومن يحضرنى فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول جبلا فدعوت النجارين فنظروا اليه فقالوا

(2/33)


هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر اليه من أين أتى فرجعت وتركت البابين مفتوحين فلما أصبحت غدوت عليهما فاذا الحجر الذى فى زاوية المسجد مثقوب واذا فيه أثر رباط الدابة فقلت لاصحابى ما حبس هذا الليلة الباب الاعلى نبىّ وقد صلى الليلة فى مسجدنا هذا فقال قيصر لقومه يا معشر الروم ألستم تعلمون ان بين عيسى وبين الساعة نبىّ بشركم به عيسى ابن مريم ترجون أن يجعله الله فيكم قالوا بلى قال فان الله قد جعله فى غيركم فى أقل منكم عددا وأضيق منكم بلدا وهى رحمة الله عز وجل يضعها حيث شاء* وفى رواية ان هرقل لما قرأ الكتاب أى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بدحية وقال له والله انا لنعلم انه نبىّ مرسل وهو الذى كنا ننتظره وقرأنا نعته فى الكتب السماوية وانى أخاف الروم أن يقصدوا هلاكى والا تابعته فاذهب الى رومة فلن بها رجلا اسمه ضفاطر وكان رجلا عظيما من علماء النصارى وكان نظير هرقل فى العلم قال فأخبره بهذا الخبر* وفى رواية كتب اليه هرقل كتابا وقال لدحية ان ضفا طرفى الروم أعظم منى واعتقادهم لكلامه أكثر فانظر ماذا يقول فذهب دحية الى رومة وبلغ ضفاطر كتاب هرقل وأخبره بخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم وأوصافه قال ضفاطر والله انه لنبىّ على الحق ونحن وجدناه فى كتابنا بالصفة التى ذكرت وقرأنا اسمه فى التوراة والانجيل ثم دخل ضفاطر بيته ونزع ثيابه السود ولبس ثيابا بيضا وأخذ بيده العصا وذهب الى كنيسة النصارى حين كان فيها جمع من أشرافهم وقال يا معشر الروم اعلموا انه جاءنا كتاب من عند أحمد العربى ودعانا فى ذلك الكتاب الى الحق* وأنا أشهد أن لا اله الا الله وأن أحمد عبده ورسوله* فلما سمعت الروم منه هذا الكلام وثبت عليه بأجمعها فضربته حتى قتلته فرجع دحية الى هرقل وأخبره بما رأى قال له هرقل أما قلت لك انى أخاف من الروم والله ان ضفاطر عند قومه أعظم منى عند هؤلاء القوم واعتقاد أهل الروم لكلامه أكثر من اعتقادهم لكلامى وقد ثبت ان هرقل لما بلغه خبر ضفاطر انتقل من ايليا الى حمص دار ملكه وسلطنته وكانت له هناك دسكرة أى قصر عظيم فأذن لعظماء الروم فى دسكرته ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم فى الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتابعوا هذا النبىّ فحاصوا حيصة حمر الوحش الى الابواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من ايمانهم قال ردّوهم علىّ فقال انى قلت مقالتى آنفا أختبر بها شدّتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل* رواه صالح بن كيسان ومعمر عن الزهرى كذا فى البخارى* وفى المنتقى وهرقل عظيم الروم ملك احدى وثلاثين سنة واختلف فى اسلامه* وفى ملكه توفى النبىّ صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم*

(ذكر كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم الى كسرى ملك فارس)
* وهذا هو كسرى برويز بن هرمز بن أنو شروان ومعنى برويز بالعربية المظفر فيما ذكره المسعودى وهو الذى كان غلب الروم فأنزل الله فى قصتهم* ألم غلبت الروم فى أدنى الارض وأدنى الارض فيما ذكره الطبرى هى بصرى وفلسطين وأذرعات من أرض الشام* ذكر الواقدى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة السهمى منصرفه من الحديبية الى كسرى وبعث معه كتابا مختوما وفيه مكتوب* (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأنّ محمدا عبده ورسوله وأدعوك بداعية الله عز وجل فانى أنا رسول الله عز وجل الى الناس كافة لانذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فان أبيت فعليك اثم المجوس فلما قرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه ومزّقه وشققه وقال يكتب الىّ بهذا الكتاب

(2/34)


وهو عبدى ثم قال لى ملك هنىء لا أخشى أن أغلب عليه ولا أشارك فيه وقد ملك فرعون بنى اسرائيل ولستم بخير منهم فما يمنعنى أن أملككم وانا خير منه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ كسرى شقق كتابه قال مزّق الله ملكه) * وفى المنتقى دعا عليه أن يمزّقوا كل ممزّق فقال مزّق كتابى مزّق الله ملكه* وفى رواية قال اللهم مزّق ملكه فانصرف عبد الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم* وفى نظام التواريخ بلغ برويز فى الملك والتبختر والتنعم الى مرتبة لم يكن أحد من الملوك مثله ثمانيا وعشرين سنه وأعظم الاسباب فى زوال ملكه تمزيق كتاب رسول الله لما كتب الى ملوك الاطراف يدعوهم الى الاسلام* قال ابن هشام فى سيرته بلغنى أنه قال كتب كسرى الى باذان أنه بلغنى أنّ رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبىّ فسر اليه فاستتبه فان تاب والا فابعث الىّ برأسه فبعث باذان كتاب كسرى الى النبىّ صلى الله عليه وسلم فكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم انّ الله وعدنى أن يقتل كسرى يوم كذا من شهر كذا فلما أتى باذان الكتاب توقف وقال ان كان نبيا فسيكون ما قال فقتل الله كسرى فى اليوم الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل على يد ولده شيرويه* وفى المنتقى كتب كسرى الى باذان وهو على اليمن من قبله أن ابعث الى هذا الرجل الذى بالحجاز من عندك رجلين جلدين فليأتيانى به* وفى رواية كتب الى باذان بلغنى أن فى أرضك رجلا تنبأ فاربطه وابعث به الىّ فبعث باذان قهرمانه وهو بانويه وكان كاتبا حاسبا وبعث معه برجل من الفرس يقال له خرخسره وفكتب معهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما الى كسرى وقال لبانويه ويلك انظر ما الرجل وكلمه وائتنى بخبره فخرجا فلما بلغا الطائف وكان فيه حينئذ جمع من أشراف قريش مثل أبى سفيان وصفوان بن أمية وغيرهما فسألا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم فقالوا انه بيثرب فلما سمع أبو سفيان وصفوان بن أمية مضمون كتاب باذان فرحا وقالا مثل كسرى قام بعداوته وقدم بانويه وخرخسره المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قد ما عليه أنزلهما وأمرهما بالمقام أياما ثم أرسل لهما صلى الله عليه وسلم ذات غداة ولما دخلا عليه قال لهما اجلسا فبركا على ركبهما وكلمه بانويه وقال انّ شهنشاه ملك الملوك كسرى كتب الى الملك باذان يأمره أن يبعث اليك من يأتيه بك وقد بعثنى اليك لتنطلق معى فان فعلت كتب فيك الى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به وان أبيت فهو ممن قد علمت وهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك وأعطياه كتاب باذان ولما اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضمون الكتاب وسمع حكايتهم المزخرفة تبسم ودعاهما الى الاسلام* وفى رواية أنهما حين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا قد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما حتى وارت شفاههما فكره النظر اليهما وقال ويلكما من أمركما بهذا قالا أمرنا بهذا ربنا يعنيان كسرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن ربى أمرنى باعفاء لحيتى وقص شواربى* وفى المشكاة عن زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لم يأخذ من شار به فليس منا رواه أحمد والترمذى والنسائى وأورد الكرمانى فى مناسكه اثم تطويل الشوارب وعقوبته فقال قال النبىّ صلى الله عليه وسلم من طوّل شاربه عوقب بأربعة أشياء لا يجد شفاعتى ولا يشرب من حوضى ويعذب فى قبره ويبعث الله اليه المنكر والنكير فى غضب انتهى* روى أنهما كانا يتكلمان بالتجلد وترجف بوادرهما من هيبة مجلس رسول الله فقالا له ان لم تأت معنا فاكتب جواب كتاب الملك باذان فقال لهما ارجعا حتى تأتيانى غدا فلما خرجا من عنده قال أحدهما لصاحبه لو مكثنا فى مجلس هذا الرجل أكثر مما جلسنا لخفت على نفسى الهلاك وقال صاحبه وانى أيضا ما لقيت قط مثل ما وقع لى اليوم فى محضر هذا الرجل من الخوف فيعلم أنّ له

(2/35)


شأنا فأتى جبريل عليه السلام الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنّ الله عز وجل قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله فى شهر كذا وكذا ليلة كذا وكذا بعد ما مضى من الليل كذا وكذا ساعة فلما أتيا الى النبىّ صلى الله عليه وسلم من الغد قال انّ ربى قد قتل الليلة ربكما بعد ما مضى من الليل سبع ساعات سلط عليه ابنه شيرويه حتى بقربطنه وكانت تلك الليلة ليلة الثلاثاء العاشرة من جمادى الاولى من السنة السابعة من الهجرة قال اذهبا وأخبرا صاحبكما يعنى باذان بهذا الخبر فقالا هل تدرى ما تقول انا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا أفنكتب بها عنك ونخبر الملك قال نعم أخبراه ذلك عنى وقولا له انّ دينى وسلطانى سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهى منتهى الخف والحافر وقولا له انك ان أسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكتك على قومك من الابناء* وفى الاكتفاء يروى أنّ كسرى رأى فى النوم بعد أن أخبر بخروج النبىّ صلى الله عليه وسلم من مكة ونزوله بيثرب ان سلما وضع فى الارض الى السماء وحشر الناس حوله اذ أقبل رجل عليه عمامة وازار ورداء فصعد السلم حتى اذا كان بمكان منه نودى اين فارس ورجالها ونساؤها ولامتها وكنوزها فأقبلوا فجعلوا فى جوالق ثم دفع الجوالق الى ذلك الرجل فأصبح كسرى تعس النفس محزونا لتلك الرؤيا وذكرها لاساورته فجعلوا يهوّنون عليه الامر فيقول كسرى هذا أمر يراد به فارس فلم يزل مهموما حتى قدم عليه عبد الله بن حذافة بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه الى الاسلام* وفى المنتقى ان كسرى كان اذا ركب ركب أمامه رجلان يقولان له ساعة فساعة أنت عبد ولست برب فيشير برأسه نعم قال فركب يوما فقالا له ذلك ولم يشر برأسه فشكوا الى صاحب شرطته ليعاتبه وكان كسرى قد نام فلما وقع صوت حوافر الدواب فى سمعه استيقظ فدخل عليه صاحب شرطته فقال أيقظتمونى ولم تدعونى أنام انى رأيت انه رقى بى فوق سبع سموات فوقفت بين يدى الله تعالى فاذا رجل بين يديه عليه ازار ورداء وقال لى سلم مفاتيح خزائن أرضى الى هذا فأيقظتمونى قال وصاحب الرداء والازار يعنى به النبىّ صلى الله عليه وسلم* وعن سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال بعث الله ملكا الى كسرى وهو فى بيت من بيوت ايوانه الذى لا يدخل عليه فيه فلم يرع الا به قائما على رأسه فى يده عصا بالهاجرة وفى ساعته التى كان يقيل فيها فقال له يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا فقال بهل بهل بالفارسية معناه خل خل وأمهل ولا تكسر فانصرف عنه ثم دعا حرّاسه وحجابه فتغيظ عليهم فقال من أدخل هذا الرجل علىّ قالوا ما دخل عليك أحد ولا رأيناه حتى اذا كان العام القابل أتاه فى الساعة التى أتاه فيها فقال له كما قال له ثم قال له أتسلم أم أكسر هذه العصا فقال بهل بهل فخرج عنه فدعا كسرى حجابه وبوّابيه فتغيظ عليهم فقال لهم كما قال أوّل مرّة فقالوا ما رأينا أحدا دخل عليك حتى اذا كان العام الثالث أتاه فى الساعة التى جاء فيها وقال له كما قال ثم قال أتسلم أو أكسر هذه العصا فقال بهل بهل فكسر العصا ثم خرج فهلك كسرى عند ذلك* وفى الاكتفاء ذكر الواقدى من حديث أبى هريرة وغيره ان كسرى بينما هو فى بيت كان يخلو فيه واذا رجل خرج اليه فى يده عصا فقال يا كسرى ان الله بعث رسولا وأنزل عليه كتابا فأسلم تسلم واتبعه يبق لك ملكك قال كسرى أخر عنى أثرا ما فدعا حجابه وبوّابيه فتوعدهم وقال من هذا الذى دخل علىّ قالوا له والله ما دخل عليك أحد وما ضيعنا لك بابا حتى اذا كان العام المقبل أتاه فقال له مثل ذلك وقال له ان لم تسلم أكسر العصا قال لا تفعل أخر ذلك أثرا ما ثم جاءه العام المقبل ففعل مثل ذلك وضرب بالعصا على رأسه فكسرها وخرج من عنده ويقال ان ابنه قتله تلك الليلة فأعلم الله بذلك رسوله فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رسل باذان اليه ثم أعطى خرخسره منطقة فيها ذهب وفضة كان أهدا
هاله

(2/36)


بعض الملوك فخرجا من عنده وانطلقا حتى قدما على باذان وأخبراه الخبر فقال والله ما هذا بكلام ملك وانى لارى الرجل نبيا كما يقول ولننظرنّ ما قد قال فلئن كان ما قد قاله حقا سيأتى الخبر الىّ يوم كذا ولا كلام أنه نبىّ مرسل ولا يسبق علىّ أحد من الملوك فى الايمان به وان لم يكن فسنرى فيه رأينا فلم يلبث باذان ان قدم عليه كتاب شيرويه* أما بعد فانى قد قتلت كسرى ولم أقتله الا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم فتفرق الناس فاذا جاءك كتابى هذا فحذلى الطاعة ممن قبلك وانظر الرجل الذى كان كسرى كتب اليك فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمرى فيه* فلما انتهى كتاب شيرويه الى باذان قال ان هذا الرجل لرسول الله حقا فأسلم وأسلمت الابناء من فارس من كان منهم باليمن فبعث باذان باسلامه واسلام من كان معه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال ان الخبر أتاه بمقتل كسرى وهو مريض فاجتمعت اليه أساورته فقالوا له من تؤمّر علينا فقال لهم ملك مقبل وملك مدبر فاتبعوا هذا الرجل وادخلوا فى دينه وأسلموا ومات باذان فبعث رؤسهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدهم يعرّفونه باسلامهم* روى ان أهل اليمن كانوا يقولون لخرخسره ذو المفخرة ويقال لاولاده أيضا الان ذو المفخرة والمفخرة بلغة حمير المنطقة*

(ذكر كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم الى المقوقس)
* فى حياة الحيوان هو لقب لجريج بن مينا القبطى وكان من قبل هرقل ويقال ان هرقل عز له لما رأى ميله الى الاسلام انتهى* بعثه مختوما مع حاطب بن أبى بلتعة وانه لما انتهى الى الاسكندرية أتى أوّلا حاجب المقوقس وأخبره الخبر فأكرمه الحاجب وأدخله على المقوقس من غير توقف فأكرمه المقوقس* عبارة الاكتفاء فلم يلبث أن وصل الى المقوقس كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقيه حاطب وأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيه* بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله رسول الله الى المقوقس عظيم القبط سلام على من اتبع الهدى* أما بعد فانى ادعوك بداعية الى الاسلام أسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فان توليت فانّ عليك اثم القبط* يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون* فكلمه حاطب فقال له انه قد كان قبلك رجل يزعم انه الرب الاعلى فأخذه الله نكال الاخرة والاولى فانتقم به ثم انتقم منه فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك الى غير ذلك من النصائح والمواعظ وأخذ كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم فجعله فى حقة من عاج وختم عليه ودفعه الى جارية له ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية فكتب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرّم* بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو اليه وقد علمت ان نبيا بقى وكنت أظنّ انه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك وبعثت اليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم وبكسوة وأهديت اليك بغلة لتركبها والسلام عليك* ولم يزد على هذا ولم يسلم وهاتان الجاريتان اللتان ذكرهما احداهما مارية أمّ ابراهيم ابن النبىّ صلى الله عليه وسلم والثانية أختها سيرين وهى التى وهبها النبى صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت فولدت له ابنه عبد الرحمن والبغلة هى الدلدل وكانت بيضاء وقيل انه لم تكن يومئذ فى العرب بغلة غيرها وانها بقيت الى زمان معاوية وذكر الواقدى باسناد له ان المقوقس أرسل الى حاطب ليلة وليس عنده الا ترجمان له يترجم بالعربية فقال له ألا تخبرنى عن أمور أسألك عنها وتصدقنى فانى أعلم ان صاحبك قد تخيرك من بين أصحابه حيث بعثك فقال له حاطب لا تسألنى عن شئ الاصدقتك فسأله عن ماذا يدعو اليه النبى صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه وهل يقاتل قومه فأجابه

(2/37)


حاطب عن ذلك كله ثم سأله عن صفته فوصفه حاطب ولم يستوف فقال له بقيت أشياء لم أرك تذكرها فى عينيه حمرة قلما تفارقه وبين كتفيه خاتم النبوّة ويركب الحمار ويلبس الشملة ويجتزى بالتمرات والكسرة ولا يبالى من لاقى من عم وابن عم قال حاطب فهذه صفته قال قد كنت أعلم انه قد بقى نبىّ وكنت أظنّ انّ مخرجه ومنبته بالشام وهناك تخرج الانبياء من قبله فأراه قد خرج فى العرب فى أرض جهد وبؤس والقبط لا يطاوعونى فى اتباعه ولا أحب ان تعلم محاورتى اياك وأنا أضن بملكى أن أفارقه وسيظهر على البلاد وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده حتى يظهر على ماههنا فارجع الى صاحبك فقد أمرت له بهدايا وجاريتين أختين فارهتين وبغلة من مراكبى وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا من لين وغير ذلك وأمرت لك بمائة دينار وخمسة أثواب فارحل من عندى ولا يسمع منك القبط حرفا واحدا* قال حاطب فرجعت من عنده وقد كان لى مكرما فى الضيافة وقلة اللبث ببابه انى ما أقمت عنده الا خمسة أيام وان فى الوفود وفود العجم من ببابه منذ شهر وأكثر* قال حاطب فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه هذا ما فى الاكتفاء* وفى غيره أهدى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار تركية منها مارية القبطية أمّ ابراهيم وأختها سيرين وكانت مارية من قرية يقال لها حفن من قرى كورة أنصنا بفتح أوّله واسكان ثانيه بعده صاد مهملة مكسورة ونون وألف ذكره فى معجم ما استعجم وجاريتين أخريين اسمهما غير معلوم وغلاما خصيا كان أخا لمارية وسيرين كذا فى بعض كتب السير* وفى حياة الحيوان اسمه مأبور وكان ابن عم مارية وكان يأوى اليها فقال الناس علج يدخل على علجة فبلغ ذلك النبىّ صلى الله عليه وسلم فبعث عليا ليقتله فقال يا رسول الله أقتله أو أرى فيه رأيى فقال بل ترى رأيك فيه فلما رأى الخصى عليا ورأى السيف تكشف فاذا هو مجبوب ممسوح فرجع علىّ الى النبىّ صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال عليه السلام ان الشاهد يرى مالا يرى الغائب* وفى سح السحابة ان رجلا كان يتهم بأمّ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام لعلىّ رضى الله عنه اذهب اليه فاضرب عنقه فأتاه علىّ فاذا هو فى ركى يتبرز فقال له علىّ اخرج فناوله يده فأخرجه فاذا هو مجبوب ماله ذكر ومات الخصى فى زمن عمر وكان عمر رضى الله عنه جمع الناس لشهود جنازته وصلى عليه ودفنه بالبقيع* قال الدميرى فى حياة الحيوان ذكر ابن مندة وأبو نعيم مأبور القبطى فى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلطا فى ذلك فانه لم يسلم وما زال نصرانيا وفى زمنه فتح المسلمون مصر فى خلافة عمر رضى الله عنه وأهدى أيضا قدحا من قوارير كان عليه السلام يشرب فيه وثيابا من قباطى مصر وألف مثقال ذهبا وعسلا من عسل بنها فأعجب النبىّ صلى الله عليه وسلم العسل ودعا فى عسله بالبركة وفرسا يقال له لزاز وبغلة يقال لها الدلدل وحمارا يقال له عفير أو يعفور ووصلت تلك الهدايا سنة سبع وقيل سنة ثمان فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته فاختار مارية لنفسه وكان صلى الله عليه وسلم معجبا بمارية وكانت بيضاء جميلة وضرب عليها الحجاب وكان يطؤها بملك اليمين فلما حملت بابراهيم ووضعته قبلته سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو رافع زوج سلمى فبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بابراهيم فوهب له عبدا وذلك فى ذى الحجة من السنة الثامنة من الهجرة كما سيجىء* ووهب سيرين لحسان بن ثابت ووهب احدى الجاريتين لابى جهم بن حذيفة وبقيت البغلة الى زمان معاوية وهلك الحمار مرجعه من حجة الوداع ومات المقوقس فى خلافة عمر بن الخطاب على نصرانيته ودفن فى كنيسة أبى مجلس والله تعالى أعلم

* (ذكر كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم الى الحارث بن أبى شمر الغسانى)
* ذكر الواقدى ان رسول الله

(2/38)


صلى الله عليه وسلم بعث شجاع بن وهب الى الحارث بن أبى شمر فانتهى اليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيه* بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الى الحارث بن أبى شمر سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدّق وانى أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبق لك ملكك* وختم الكتاب وأخذه شجاع وخرج به الى الحارث وهو بغوطة دمشق فوجده وهو مشغول بتهيئة الانزال والالطاف لقيصر وهو جاء من حمص الشام الى ايليا حيث كشف الله عنه جنود فارس شكر الله تعالى* قال شجاع فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه انى رسول من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال انك لا تصل اليه حتى يخرج يوم كذا وكذا وجعل حاجبه وكان روميا اسمه مرى يسألنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو اليه فكنت أحدّثه عن صفته وما يدعو اليه فيرق حتى يغلبه البكاء ويقول انى قرأت الانجيل فأجد صفته وما يدعو اليه بعينه فكنت أراه يخرج بالشام وأراه قد خرج بأرض القرظ وأنا أو من به وأصدّقه وأخاف من الحارث أن يقتلنى وكان الحاجب يكرمنى ويحسن ضيافتى ويخبرنى عن الحارث باليأس منه ويقول هو يخاف قيصر وخرج الحارث يوما فجلس على سريره ووضع التاج على رأسه وأذن لى عليه فدخلت عليه ودفعت اليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ثم رمى به وقال من ينتزع منى ملكى وأنا سائر اليه ولو كان باليمن جئته فلم يزل جالسا يتعرّض حتى الليل ثم قام وأمر بالخيل أن تنعل ثم قال أخبر صاحبك بما ترى وكتب الى قيصر يخبره بخبرى وما عزم عليه فصادف رسوله قيصر بايليا وعنده دحية الكلبى وقد بعثه اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب اليه أن لا تسر اليه واله عنه ووافنى بايليا قال ورجع الكتاب وأنا مقيم ولما جاء جواب كتابه دعانى فقال متى تريد أن تخرج الى صاحبك فقلت غدا فأمر لى بمائة مثقال من الذهب ووصلنى حاجبه مرىء بنفقة وكسوة وقال اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منى السلام واخبره أنى متبع دينه فقدمت على النبىّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته به فقال باد ملكه وأقرأته من مرى السلام وأخبرته بما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق* ومات الحارث عام الفتح وكان نازلا بجلق وانتقل ملكه الى جبلة بن الايهم الغسانى آخر ملوك بنى غسان وكان ينزل الجابية أدركه عمر بن الخطاب بالجابية فأسلم ثم انه لاحى رجلا من مزينة فلطم عينه فجاء به المزنى الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقال خذلى بحقى فقال له عمر الطم وجهه فأنف جبلة وقال عينى وعينه سواء قال عمر نعم فقال جبلة لا أقيم بهذه الدار أبدا ولحق بعمورية مرتدّا فمات هناك على ردّته هكذا ذكر الواقدى أنّ توجه شجاع بن وهب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الى الحارث بن أبى شمر وكذلك ابن اسحاق وأمّا ابن هشام فقال انما توجه الى جبلة بن الايهم وقد قال ذلك غيره والله أعلم وسيجىء فى هذا الموطن فى كتاب جبلة بن الايهم بعض ما يخالف هذا وبعض أهل السير على أنّ الحارث أسلم ولكن قال أخاف أن أظهر اسلامى فيقتلنى قيصر والله أعلم*

(ذكر كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم الى ثمامة ابن أثال وهوذة بن على الحنفيين ملكى عمان مع سليط بن عمرو العامرىّ)
* ويقال لهوذة المتوّج وكان كسرى قد تؤجه وذكر الواقدى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب الى هوذة مع سليط حين بعثه اليه* بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الى هوذة بن على سلام على من اتبع الهدى واعلم أنّ دينى سيظهر الى منتهى الخف والحافر فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يدك* فلما قدم عليه سليط بكتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم مختوما أكرمه وأنزله وحياه وقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هوذة من الملوك العقلاء ولكن لم يوفق وكتب اليه ما أحسن ما تدعو اليه وأجمله وأنا شاعر قومى وخطيبهم والعرب تهاب مكانى

(2/39)


فاجعل لى بعض ملكك أتبعك وأجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر فقدم بذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قال فقرأ كتابه وقال لو سألنى سيابة من الارض ما فعلت باد وباد ما فى يده فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة جاءه جبريل فأخبره أنّ هوذة قد مات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما انّ اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدى فقال قائل يا رسول الله فمن يقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وأصحابك فكان من أمر مسيلمة وتكذيبه ما كان وظهر عليه المسلمون فقتلوه فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه وكان ذلك القائل من قتلته وفق ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وبركاته عليه* ذكر الواقدى باسناد له عن عبد الله بن مالك أنه قال قدمت اليمامة فى خلافة عثمان بن عفان فجلست فى مجلس بهجر فقال رجل فى المجلس انى لعند ذى التاج الحنفى يعنى هوذة يوم الفصح اذ جاءه حاجبه فاستأذن لاركون دمشق وهو عظيم من عظماء النصارى فقال ائذن له فدخل فرحب به فتحدّثا فقال الاركون ما أطيب بلاد الملك وأبرأها من الاوجاع قال ذو التاج هى أصح بلاد العرب وهى ريف بلادهم قال الاركون وما قرب محمد منك قال ذو التاج هو بيثرب وقد جاءنى كتابه يدعونى الى الاسلام فلم أجبه قال الاركون لم لا تجيبه قال ضننت يدينى وأنا ملك قومى فان تبعته لم أملك قال بلى والله لئن تبعته ليملكنك وانّ الخيرة لك فى اتباعه وانه للنبىّ العربىّ الذى بشربه عيسى ابن مريم والمكتوب عندنا فى الانجيل محمد رسول الله* قال ذو التاج قد قرأت فى الانجيل ما تذكر ثم قال للاركون فما لك لا تتبعه قال الحسد له والضنّ بالخمر وشربها قال فما فعل هرقل قال هو على دينه ويظهر لرسله أنه معه وقد سبر أهل مملكته فأبوا أشدّ الاباء فضنّ بملكه أن يفارقه قال ذو التاج فما أرانى الا متبعه وداخلا فى دينه فانى فى بيت العرب وهو مقرّى على ما تحت يدى قال البطريق هو فاعل فاتبعه فدعا رسولا وكتب معه كتابا وسمى هدايا فجاءه قومه فقالوا تتبع محمدا وتترك دينك لا تملكنّ علينا أبدا فرفض الكتاب قال فأقام الاركون عنده فى حباء وكرامة ثم وصله ووجهه راجعا الى الشام قال الرجل وتبعته حين خرج فقلت أحق ما أخبرت ذا التاج قال نعم والله فاتبعه قال فرجعت الى أهلى فتكلفت الشخوص الى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه مسلما وأخبرته بكل ما كان فالحمد لله الذى هدانى ولم يسم فى حديث الواقدى هذا الرجل الا أنّ فيه أنه كان من طئ من بنى نبهان* روى انّ عامر بن سلمة من بنى حنيفة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعوام ولاء فى الموسم بعكاظ وبمجنة وبذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم الى الله والى أن ينصروه حتى يبلغ عن الله فلا يستجيب له أحد وانّ هوذة بن على سأل عامرا بعد انصرافه عن الموسم الى اليمامة فى أوّل عام عما كان فى موسمهم من خبر فأخبره خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رجل من قريش فسأله هوذة من أىّ قريش فقال له عامر من أوسطهم نسبا من بنى عبد المطلب فقال له هوذة انما أمره سيظهر على ما هاهنا وغير هاهنا ثم ذكر تكرّر سؤال هوذة له عنه حتى ذكر له فى السنة الثالثة أنه رآه وأمره قد أمر فقال هوذة هو الذى قلت لك ولو أنا اتبعناه لكان خيرا لنا ولكنا نضنّ بملكنا وأخبر عامر بذلك كله سليط بن عمرو وقد مرّ به منصرفا اد بعثه اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم عامر آخر حياة النبىّ صلى الله عليه وسلم ومات هوذة كافرا على نصرانيته ذكر هذا الكلام كله الكلاعى فى الاكتفاء*

سحر النبى صلى الله عليه وسلم
وفى هذه السنة سحر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم* فى المواهب اللدنية قد بين الواقدى السنة التى وقع فيها السحر كما أخرجه عنه ابن سعد بسند له الى عمر بن الحكم مرسل قال لما رجع صلى الله عليه وسلم من الحديبية فى ذى الحجة الحرام ودخل المحرّم سنة سبع جاءت رؤساء اليهود الى لبيد بن الاعصم وكان حليفا فى بنى زريق

(2/40)


وكان ساحرا فقالوا له يا أبا الاعصم أنت أسحرنا وقد سحرنا محمدا فلم يصنع شيئا ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحر لنا سحرا ينكاءه فجعلوا له ثلاثة دنانير ووقع فى رواية أبى ضمرة عند الاسماعيلى فأقام يعنى فى السحر أربعين يوما* وفى رواية وهب عن هشام عن أحمد ستة أشهر ويمكن الجمع بأن يكون ستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والاربعين يوما من استحكامه وقال السهيلى لم أقف فى شئ من الاحاديث المشهورة على قدر المدّة التى مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فى السحر حتى ظفرت به فى جامع معمر عن الزهرى أنه لبث سنة* قال الحافظ ابن حجر وقد وجدناه موصولا بالاسناد الصحيح فهو المعتمد* وفى كنز العباد أنّ بنات لبيد بن الاعصم اليهودى سحرنه فمرض حتى انه لم يقدر على قربان أهله ستة أشهر وذكر السنة والاربعين يوما فى الوفاء وفى البخارى عن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى أن كان ليخيل اليه أنه يفعل الشئ وما فعله* وفى معالم التنزيل قال ابن عباس وعائشة كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبت اليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ من مشاطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدّة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروا فيها فتولى ذلك لبيد ابن الاعصم رجل من اليهود واشتدّ عليه ثلاث ليال فجاءه ملكان وهو نائم فقال أحدهما لصاحبه ما باله فقال طب قال من طبه قال لبيد بن الاعصم اليهودى قال وبما طبه قال بمشط ومشاطة فى جف طلعة ذكر وعقد فى وتردسه تحت راعونة* وفى رواية تحت صخرة فى ذروان وذروان بئر بمنازل بنى زريق قبلى الدور التى فى جهة قبلة المسجد كذا فى خلاصة الوفاء* وفى رواية فى بئر ذى أروان كذا فى كتاب مسلم وكذا وقع فى بعض روايات البخارى وفى معظمها ذروان وكلاهما صحيح مشهور والاوّل أصح وأجود وهى بئر فى المدينة فى بستان أبى زريق كذا ذكره الطيبى فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب فى أناس من أصحابه الى البئر وقال هذه البئر التى أريتها وكانّ ماءها نقاعة الحناء وكأنّ نخلها رؤس الشياطين فاستخرجه كذا ذكره الشيخان* وفى فتح البارى فنزل رجل واستخرجه وانه وجد فى الطلعة تمثالا من الشمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذا فيه ابر مغروزة واذا وترفيه احدى عشرة عقدة فنزل جبريل بالمعوّذتين فكلما قرأ آية انحلت عقدة وكلما نزع ابرة وجد لها ألما ثم يجد بعدها راحة كذا فى المواهب اللدنية* وفى رواية بعث عليا وزبيرا وعمارا فنزحوا ماء البئر واخرجوا جف الطلعة وكانت تحت صخرة فاذا مشاطة رأسه وأسنان من مشطه واذا فيه وتر معقد فيه احدى عشرة عقدة مغروزة بالابر فلم يقدروا على حل العقد فنزلت المعوّذتان فكلما قرأ جبريل آية انحلت عقدة ووجد بعض الخفة حتى قام عند انحلال العقدة الاخيرة فكأنما أنشط من عقاله وجعل جبريل يقول بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك فلهذا جوّز الاسترقاء بما كان من كتاب الله وكلام رسوله لا بما كان بالسريانية والعبرية والهندية فانه لا يحلّ اعتقاده والاعتماد عليه ثم أمر بها النبىّ صلى الله عليه وسلم فدفنت فقيل قتل النبىّ صلى الله عليه وسلم من سحره وقيل عفا عنه قال الواقدى عفوه عنه أثبت عندنا وروى قتله*

سرية أبان بن سعيد قبل نجد
وفى هذه السنة بعث صلى الله عليه وسلم أبان بن سعيد فى سرية من المدينة قبل نجد فقدم أبان فى أصحابه على النبىّ صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما افتتحها وانّ جزم خيلهم الليف ولم يقسم لهم من غنائم خيبر وكان اسلام أبان بين الحديبية وخيبر وهو الذى أجار عثمان يوم الحديبية حين بعثه النبىّ صلى الله عليه وسلم الى مكة كذا فى حياة الحيوان
*

اسلام أبى هريرة
وفى هذه السنة أسلم أبو هريرة* وفى المنتقى كان اسلامه بين الحديبية وخيبر واختلفوا فى اسمه واسم أبيه على ثمانية عشر قولا ذكرها ابن الجوزى فى التلقيح أشهرها عبد شمس بن عامر فسمى فى الاسلام عبد الله* وفى التذنيب الاظهر أنّ اسمه عبد الرحمن واسم أبيه صخر وكانت له هريرة

(2/41)


صغيرة فكنى بها وكانت كنيته فى الجاهلية أبا الاسود* وفى المنتقى قيل له لم كنوك بأبى هريرة قال كنت أرعى غنم قومى وكانت لى هريرة صغيرة ألعب بها فكنونى بأبى هريرة وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يكنيه أبا هرّ قدم المدينة سنة سبع مهاجرا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فسار اليه حتى قدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كذا فى الصفوة وكان أحفظ الصحابة لاخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ولم يشتغل بالبيع ولا بالغرس ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين مختارا للعدم والفقر ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم حبب عبيدك هذا وأمّه الى عبادك المؤمنين وحبب اليهما المؤمنين وقال أبو هريرة حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس جرب من العلم فاخرجت جرابين ولو أخرجت الثالث لرجمونى بالحجارة وعن يزيد بن الاصم قال سمعت أبا هريرة يقول يقولون لى أكثرت يا أبا هريرة والذى نفسى بيده لو حدّثتكم بكل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرميتمونى بالقشع وهى النخامة وقيل الجلد اليابس ثم ما ناظرتمونى* وعن أبى هريرة قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأمّا أحدهما فبثثته فيكم وأمّا الاخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم يعنى مجرى الطعام وعن سعيد بن المسيب أنّ أبا هريرة قال انكم تقولون ان أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والانصار لا يحدّثون عن النبىّ صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبى هريرة وان اخوانى من المهاجرين كان يشغلهم الصفق فى الاسواق واخوانى من الانصار يشغلهم عمل أموالهم وكنت امر أمسكينا من مساكين الصفة ألزم النبىّ صلى الله عليه وسلم على ملء بطنى فأحضر حين يغيبون وأعى حين ينسون* روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ألا تسألنى عن هذه الغنائم التى يسألنى أصحابك فقال أسئلك أن تعلمنى مما علمك الله وخرج النبىّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم وقال لن يبسط أحدثو به حتى أقضى مقالتى هذه ثم يجمع اليه ثوبه الاوعى ما أقول قال أبو هريرة فبسطت نمرة لى حتى اذا قضى النبىّ صلى الله عليه وسلم* وفى رواية فنزع نمرة عن ظهرى فبسطها بينى وبينه حتى كأنى أنظر الى القمل يدب عليها حتى اذا استوعب حديثه قال اجمعها فجمعتها الى صدرى فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم* وروى عن الامام أحمد بن حنبل قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام فقلت يا رسول الله ما روى أبو هريرة عنك حق قال نعم

قصة جراب أبى هريرة
وأبو هريرة كان من أهل الصفة واختلف فى صفة جرابه والصحيح ما روى عنه أنه قال أتيت النبىّ صلى الله عليه وسلم بتمرات فقلت يا رسول الله ادع لى فيهنّ بالبركة قضمهن ثم دعا فيهنّ بالبركة وقال خذهنّ واجعلهنّ فى مزودك كلما أردت منه شيئا فأدخل فيه يدك فخذه ولا تنثره نثرا قال فحملت من تلك التمرات كذا وكذا من وسق فى سبيل الله وكنا نأكل منه ونطعم وكان لا يفارق حقوى حتى كان يوم الدار يوم قتل عثمان انقطع فذهب* وفى رواية عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة فأصاب الناس مخمصة فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة هل من شئ قلت نعم شىء من تمر فى المزود فقال ائتنى به فأتيته به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ثم قال ادع لى عشرة فدعوت عشرة فأكلوا حتى شبعوا فما زال يصنع ذلك حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا ثم قال خذ ما جئت به وأدخل يدك فاقبض ولا تكبه قال فقبضت على أكثر مما جئت به ثم قال ألا أحدّثكم كم أكلت أكلت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبى بكر وأطعمت وحياة عمر وأطعمت وحياة عثمان وأطعمت فلما قتل عثمان انتهب يعنى الجراب فذهب* وفى المنتقى انتهبت يعنى المدينة وذهب المزود وكان يقول
للناس همّ ولى فى اليوم همان ... همّ الجراب وهمّ الشيخ عثمان

(2/42)


توفى أبو هريرة بالمدينة ويقال بالعقيق سنة سبع وقيل ثمان وقيل تسع وخمسين من الهجرة فى آخر خلافة معاوية وله ثمان وسبعون سنة كذا فى الصفوة وسيجئ فى الخاتمة مروياته فى كتب الاحاديث خمسة آلاف وثلثمائة وأربعة وسبعون حديثا*

غزوة خيبر
وفى هذه السنة وقعت غزوة خيبر* فى الاكتفاء لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية فى ذى الحجة مكث بهاذا الحجة منسلخ سنة ست وبعض المحرم من سنة سبع* وفى رواية قريبا من عشرين يوما ثم خرج فى بقية منه الى خيبر غازيا وكان الله وعده اياها وهو بالحديبية بقوله* وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه يعنى بالمعجل صلح الحديبية وبالمغانم الموعود بها فتح خيبر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اليها مستنجزا ميعاد ربه وواثقا بكفايته ونصرته* وفى رواية أقام يحاصر خيبر بضع عشرة ليلة الى أن فتحها وقيل كانت فى آخر سنة ست وهو منقول عن مالك وبه جزم ابن حزم قال الحافظ ابن حجر والراجح ما ذكره ابن اسحاق ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على ان ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقى وهو ربيع الاوّل كذا فى المواهب اللدنية* وفى المنتقى كانت غزوة خيبر فى جمادى الاولى وكان معه ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس ومعه أمّ سلمة زوجته* وفى خلاصة الوفاء خيبر اسم ولاية مشتملة على حصون ومزارع ونخل كثير على ثلاثة أيام من المدينة على يسار خارج الشام وخيبر بلسان اليهود الحصن* وفى معجم ما استعجم بينها وبين المدينة ثمانية برد الى جهة الشام مشى ثلاثة أيام* وفى مزيل الخفاء كل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال وكل ميل أربعة آلاف خطوة وكل خطوة ثلاثة أقدام يوضع قدم أمام قدم ويلصق به* وأمر أن لا يخرج معه الا من رغب فى الجهاد لا من غرضه عرض الدنيا واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى واستعمل على مقدمة الجيش عكاشة بن محصن الاسدى وعلى الميمنة عمر بن الخطاب وعلى الميسرة واحدا من أصحابه وفى بعض الكتب على بن أبى طالب وهو غير صحيح لان الروايات الصحيحة تدل على ان عليا فى أوائل الحال لم يكن فى العسكر وكان به رمد شديد ولما لحق بالعسكر أعطاه الراية وأمّره على الجيش ووقع الفتح على يده كما سيجئ وكان دليله رجلين من أشجع ماهرين بالطريق اسم أحدهما حسبل وأرسل ابن أبى بن سلول الى يهود خيبر يخبرها بأن محمدا فى قصدكم وتوجه اليكم فخذوا حذركم وأدخلوا أموالكم فى الحصون واخرجوا الى قتاله ولا تخافوا منه فان عددكم وعددكم كثيرة وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح فيهم الا قليل فلما علم بذلك أهل خيبر أرسلوا كنانة بن أبى الحقيق وهوذة بن قيس الوائلى الى غطفان يستمدونهم لانهم كانوا حلفاء يهود خيبر وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر ان غلبوا على المسلمين ولم تقبل غطفان خوفا من أهل الاسلام* وفى رواية قبلوا ولما نزل المسلمون منزل الرجيع وكان بينهم وبين غطفان مسيرة يوم وليلة تهيأ غطفان وتوجهوا الى خيبر لامداد اليهود ولما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حسا ولغطا فظنوا ان المسلمين أغاروا على أهليهم وأموالهم فرجعوا وتركوا أهل خيبر مخذولين وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر كما سيجئ* وفى معجم ما استعجم قال محمد بن اسحاق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة الى خيبر سلك على عصر هكذا روى بفتح العين واسكان الصاد المهملة وفى بعض النسخ عصر بفتح الصاد قال فبنى له فيها مسجد ثم سلك على الصهباء التى أعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى من خيبر على بريد* روى انه صلى الله عليه وسلم لما ورد الصهباء وصلى بها العصر دعا بالازواد فلم يأتوا بغير التمر والسويق فأكلوا وصلى المغرب فى الجماعة بوضوء العصر وبعد ما صلى العشاء دعا بالدليلين ليدلاه على أحسن طرق خيبر حتى يحول بين أهل خيبر وغطفان فقال أحد

(2/43)


الدليلين واسمه حسبل انا أدلك يا رسول الله فأقبل حتى انتهوا الى مفرق الطريق المتعدّدة قال حسبل يا رسول الله هذه طرق يمكن الوصول من كل منها الى المقصد فأمر بأن يسميها له واحدا واحدا قال حسبل اسم واحد منها احزن فأبى النبىّ صلى الله عليه وسلم من سلوكه وقال اسم الاخر شأس فامتنع منه أيضا وقال اسم الاخر حاطب فامتنع منه أيضا قال حسبل فما بقى الا واحد قال عمر ما اسمه قال مرحب فاختار النبىّ صلى الله عليه وسلم سلوكه فقال عمر يا حسبل هلا قلت هذا أوّل مرة* وفى خلاصة الوفاء مرحب بالحاء المهملة كمقعد طريق اختار النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يسلكه لخيبر بعد ان ذكر له طرق غيره فأبى أن يسلكها فأقبل حتى نزل بواد يقال له الرجيع كأمير فنزله بين أهل خيبر وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مرّ وقد كان النبىّ صلى الله عليه وسلم قدّم عباد بن بشر فى جماعة من الركبان أمامه طليعة فأصابوا عينا اليهود خيبر فأخذوه فسأله عباد من أنت قال جمال فاقدا بل خرجت أطلبها قال ما الخبر من أهل خيبر قال هم أرسلوا هوذة بن قيس وكنانة بن أبى الحقيق الى حلفائهم يستمدونهم وأدخلوا عيينة بن بدر مع جمع كثير فى حصونهم لامدادهم فالان فيها ألف مقاتل يترقبون حرب محمد وأصحابه قال له عباد كأنك عينهم فأنكر فضربه وعذبه وخوّفه بالقتل فقال اذا أدخلتنى فى جوارك أصدقتك ففعل فقال اعلموا ان أهل خيبر خائفون منكم خوفا شديدا واستولى على قلوبهم خوف عظيم مما فعلتم بيهود بنى قريظة والنضير ومنافقو المدينة بعثوا الى أهل خيبر يخبرونهم ان محمدا يقصدكم فلا تخافوهم فانهم قليلون فأرسلونى لا تجسس أخباركم وأحرز أعدادكم ومقداركم فجاء به عباد الى النبىّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بما سمع منه فقال عمر ينبغى أن يضرب عنقه فقال عباد هو فى جوارى فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم عبادا بحفظه حتى يتبين الامر وبعد ما دخل النبىّ صلى الله عليه وسلم خيبر أسلم العين وعن سلمة بن الاكوع أنه قال خرجنا من المدينة مع النبىّ صلى الله عليه وسلم الى خيبر فقال رجل من القوم لعامر بن الاكوع ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا فشرع يحد وللقوم يقول رجز ابن رواحة
اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلينا
فاغفر فدى لك لما أبقينا ... وثبت الاقدام ان لاقينا
وألقين سكينة علينا ... انا اذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عوّلوا علينا
وفى رواية اياس بن أبى سلمة عن أبيه عن الضبى فى هذا الرجز من الزيادة وهو قوله
ان الذين قد بغوا علينا ... اذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا
فأعجب القوم ذلك وفرحوا وأسرع الابل فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم كما فى رواية البخارى من هذا السائق قالوا عامر بن الاكوع فقال يرحمه الله* وفى رواية لما قال من هذا السائق قال أنا عامر ابن الاكوع فقال غفر لك ربك وكان معلوما عندهم انه ما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لانسان يخصه الا استشهد فقال عمر بن الخطاب وجبت له الشهادة فنادى عمر وهو على جمل له يا رسول الله هلا أمتعتنا به فاستشهد فى خيبر كما سيجئ* وفى صحيح البخارى فأصيب صبيحة ليلته* وفى بعض الكتب لما سكت عامر عن الحداء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة أن يسوق الابل فشرع عبد الله فى الحداء وأنشد ما أنشد عامر وزاد عليه فقال صلى الله عليه وسلم اللهمّ ارحمه فاستشهد هو أيضا بمؤتة كما سيجئ* وروى انه كان لسلام بن مشكم حصن

(2/44)


صعب فذهب جماعة من أعيان يهود الى منزله وشاوروه فى الخروج الى حرب محمد والتحصن فى حصونهم فحرضهم سلام على الخروج* وفى رواية قال الرأى ما أشار اليكم عبد الله بن أبى على سبيل النصيحة ولكن لم يقدّر لهم الخروج فبقوا فى حصونهم* وروى ان النبىّ صلى الله عليه وسلم دخل حصونها من طريق وادى خرصه ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لاصحابه قفوا ثم قال اللهمّ رب السموات وما أظللن ورب الارضين وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين* وفى رواية ورب البحار وماجرين فانا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها ثم قال اقدموا بسم الله وكان يقولها لكل قرية دخلها فساروا حتى انتهوا الى موضع يسمى المنزلة وعرّس بها ساعة من الليل فصلى فيها نافلته فبنى له ثمة له مسجد بالحجارة وهذا المسجد يسمى المنزلة وفيه تصلى الاعياد اليوم كذا فى معجم ما استعجم فقامت راحلته تجرّ زمامها فأدركت لتردّ فقال دعوها فانها مأمورة فلما انتهت الى موضع الصخرة بركت عندها فتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الصخرة وتحوّل الناس اليها واتخذوا ذلك الموضع معسكرا وابتنى هناك مسجدا وهو مسجدهم اليوم وهو المسجد الاعظم الذى كان طول مقامه بخيبر يصلى فيه وبنى عيسى بن موسى هذا المسجد وانفق عليه ما لا جزيلا وهو على طاقات معقودة وله رحاب واسعة وفيها الصخرة التى يصلى اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم طول مقامه بخيبر وكان قد استولى ليلتئذ نوم الغفلة على أهل خيبر فلم يشعروا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع انهم كانوا قبل ذلك يبعثون كل ليلة من رجالهم ركبانا متسلحة للتجسس والاستخبار عن جيش الاسلام فانهم كانوا قد سمعوا بخروجهم من المدينة وتوجههم الى خيبر وفى تلك الليلة لم يتحرّك أحد منهم حتى ان ديوكهم لم تصح ودوابهم لم تتحرّك* وفى البخارى من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا وكان اذا أتى قوما بليل لم يغزهم حتى يصبح فان سمع أذانا أمسك والا أغار فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح ولم يسمع أذانا فركب وركبنا معه وركبت خلف أبى طلحة وان قدمى لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم* وفى رواية فلما أصبحوا وأفئدتهم تخفق فانتبهوا قريبا من طلوع الشمس وفتحوا حصونهم وغدوا الى أعمالهم فخرجوا بمساحيهم ومدافلهم ومكاتلهم فلما رأوه قالوا والله محمد والخميس معه فولوا هاربين الى حصونهم وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله أكبر خربت خيبر فانا اذا انزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين والخميس الجيش سمى به لانه مقسوم بخمسة أقسام التامّة؟؟؟ والساقة والميمنة والميسرة والقلب ومحمد خبر مبتدأ أى هذا محمد قال السهيلى ويؤخذ من هذا الحديث التفاؤل لانه عليه السلام لما رأى آلة الهدم تفاءل ان مدينتهم ستخرب انتهى ويحتمل كما قاله فى فتح البارى أن يكون قال خربت خيبر بطريق الوحى ويؤيده قوله انا اذ انزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين فدخلت اليهود حصونهم وأخبر واسلام بن مشكم بأنه قددهمهم جيش محمد قال ما سمعتم كلامى وقصرتم فى الخروج اليه فلا تقصروا فى الحرب لأن تقتلوا فى الحرب خير من أن توتروا فعزموا على الحرب فأدخلوا أموالهم وعيالهم فى حصن كثيبة وأدخلوا ذخائرهم فى حصن ناعم وجمع المقاتلة وأهل الحرب فى حصن نطاة وسلام بن مشكم مع انه كان مريضا جاء ودخل نطاة معهم وحرض الناس على الحرب ومات فى ذلك الحصن ولما تيقن النبىّ صلى الله عليه وسلم ان اليهود تحارب وعظ أصحابه ونصحهم وحرضهم على الجهاد ورغبهم فى الثواب وبشرهم بأن من صبر فله الظفر والغنيمة وقال مغلطاى وغيره وفرّق عليه السلام الرايات ولم تكن الرايات الا بخيبر وانما كانت الالوية وقال الدمياطى وكانت

(2/45)


راية النبىّ صلى الله عليه وسلم سوداء من برد لعائشة* وفى رواية عقد النبىّ صلى الله عليه وسلم رايتين احداهما سوداء من ستر باب عائشة وتسمى العقاب والآخرى بيضاء وكانت الوية غيرهما وكان شعار المسلمين يا منصور أمت أمت* روى ان خباب بن المنذر أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله أم هو الرأى فى الحرب قال بل هو الرأى فقال يا رسول الله ان هذا المنزل قريب جدّا من حصن نطاه وجميع مقاتل خيبر فيها وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندرى أحوالهم وسهامهم تصل الينا وسهامنا لا تصل اليهم ولا نأمن بياتهم وأيضا هذا منزل بين النخلات ومكان غائر وأرض وخيمة لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد يتخذ معسكرا قال صلى الله عليه وسلم الراى ما أشرت اليه وقد مرّ مثل هذا فى غزوة بدر فدعا محمد بن مسلمة فأمره أن يرتاد منزلا يصلح لأن يتخذ معسكرا كما قاله خباب فذهب محمد بن مسلمة يلتمس ويدور حتى انتهى الى موضع يقال له الرجيع فرأى ذلك الموضع صالحا للمعسكر فرجع الى النبىّ صلى الله عليه وسلم وأخبره به فنهضوا اليه بالليل فيومئذ فى ذلك الموضع شرعوا فى حرب حصن نطاة وكانت اليهود ترمى بالسهام الى عسكر الاسلام ويلتقطها المسلمون ويرمونها فى وجوههم الى الحصن ثم انهم قطعوا من نخيل نطاة أربعمائة نخلة وما قطع فى خيبر غير نخيلها* وفى تلخيص المغازى وبعض كتب السير أوّل ما فتح من حصون خيبر نطاة ثم الشق وقال ابن اسحاق كان أوّل حصن افتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة وكان قد حارب حتى أعياه الحرب وثقل السلاح وكان الحرّ يومئذ شديدا فانحاز محمود بن مسلمة الى ظل حصن ناعم يظنّ ان ليس فيه أحد وكان مرحب اليهودى أو كنانة بن أبى الحقيق يراه فأتى بحجر الرحا وألقاه على رأسه فهشمت البيضة على رأسه ونزل جلد جبهته على وجهه فأدركه المسلمون فارتثوه الى النبىّ صلى الله عليه وسلم فسوّى جلده بيده الى مكانه وعصبه بخرقة فمات من هذه الجراحة ثم افتتح صلى الله عليه وسلم القموص حصن بنى أبى الحقيق فأصاب صلى الله عليه وسلم سبايا منهم صفية ابنة حيى بن أخطب وكانت زوجة كنانة بن الربيع ابن أبى الحقيق وبنتاعم لها فاصطفى صفية لنفسه بعد أن سأله اياها دحية بن خليفة الكلبى فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتى عمها وكان بلال هو الذى جاء بصفية وبأخرى معها فمرّ بهما على قتلى يهود فلما رأتهم التى مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اعزبوا عنى هذه الشيطانه فذكر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال حين رأى بتلك اليهودية ما رأى أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حصن القموص وأتى اليه بكنانة بن الربيع وهو من رؤساء يهود خيبر وكان عنده كنز بنى النضير وأبى الحقيق وكان ملأ مسك جمل بالجيم وقيل حمار ذهبا وعقودا من الدر والجوهر واذا كان لاعيان أهل مكة ورؤسائهم وليمة أو عرس يبعثون اليه بالرهن ويستعيرون منه فيعطيهم من ذلك الحلى والجواهر ما أرادوه وكان الكنز فى الاوائل ملأ مسلك حمل بالحاء المهملة ولما ازدادت ثروة أبى الحقيق زادها حتى لا يسعها مسك شاة فجعلها فى مسك ثور هكذا كان يزيد عليها حتى جعلها ملأ مسك بعير ولما سأل النبىّ صلى الله عليه وسلم كنانة عن الكنز قال يا أبا القاسم صرفناها فى الحروب ونوائب الدهر حتى فنيت وما بقى منها شئ وحلف على ذلك فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم ان ظهر خلاف ذلك أبحت دماءكم قالوا نعم فأشهد النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك أبا بكر وعمر وعليا وعشرة من رجال يهود فقام يهودى وقال لكنانة ان كان ما يطلبه محمد عندك أو تعلم أين هو فأخبره تبق فى أمانه والا فو الله ليطلعنه الله عليه فتفتضح فزجره كنانة ولم يسمع كلامه

(2/46)


فأطلع الله نبيه على موضع الكنز فطلب كنانة فأخبره بكذبه وانه أخبر به من السماء وكان كنانة حين رأى النبىّ صلى الله عليه وسلم فتح حصن نطاة وتيقن بظهوره عليهم دفنه فى خربة* وفى رواية سأل صلى الله عليه وسلم ثعلبة بن سلام بن أبى الحقيق عن الكنز قال لا أدرى غير انى رأيت كنانة يطيف كل غداة حول تلك الخربة فأرسل صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوّام مع جماعة الى تلك الخربة فحفروها ووجدوا الكنز فرفع عنهم الامان وأبيحت دماؤهم* وفى الاكتفاء فسأل النبىّ صلى الله عليه وسلم كنانة عن الكنز فجحد ان يكون يعلم مكانه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من اليهود فقال انى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت ان وجدناه عندك أقتلك قال نعم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقى فأبى أن يريه فأمر به الزبير بن العوّام فقال عذبه حتى تستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم الى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة* وفى المواهب اللدنية وفتح الله عليه خيبر حصنا حصنا وهى نطاة وحصن الصعب وحصن ناعم وحصن قلعة الزبير والشق وحصن أبى وحصن البراء والقموص والرطيح والسلالم وهو حصن آل أبى الحقيق* وفى خلاصة الوفاء الوطيح بالفتح وكسر الطاء المهملة ومثناة تحتية وحاء مهملة من أعظم حصون خيبر وفى كتاب أبى عبيدة الوطيحة بزيادة هاء وفى بعض الكتب اللغوية عدّ السطيح بفتح السين المهملة من حصون خيبر مما فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما وجدته فى كتب السير والله أعلم بذلك والسلالم بضم السين وكسر اللام الثانية أحرز حصون خيبر أو موضع به حصن من حصونها وروى الواقدى ان من حصون خيبر البزار كان أهله أشدّ رميا للمسلمين من؟؟؟ حصاره فحصبه النبىّ صلى الله عليه وسلم بكف من حصى فرجف بهم وساخ* وفى تلخيص المغازى فى أيام محاصرة حصن صعب خرج من الحصن عشرون أو ثلاثون حمارا فأخذها رهط من المسلمين فذبحوها وجعلوا لحومها فى قدور وجعلوا يطبخونها للاكل من شدّة الجوع فمرّ بهم النبىّ صلى الله عليه وسلم فسأل عما فى القدور والبرام قالوا لحم الحمر الانسية قأمر المنادى حتى نادى ألا ان لحم الحمار الانسى ولحم كل حيوان ذى ناب من السباع وذى مخلب من الطيور ونكاح المتعة حرام المشهور فى الانسية كسر الهمزة نسبة الى الانس وهم بنو آدم وحكى ضم الهمزة ضدّ الوخشية ويجوز فتحها والنون أيضا مصدر أنست به انسا وانسة* وفى المواهب اللدنية نهى يوم خيبر عن أكل الثؤم وعن لحم الحمر الاهلية وعن سلمة بن الاكوع لما امسوا يوم فتحوا خيبر أو قدوا النيران قال صلى الله عليه وسلم علا أو قدتم هذه النيران قالوا على لحم الحمر الاهلية قال أهريقوا ما فيها فكسر واقدورها فقام رجل من القوم فقال أنهريق ما فيها ونغسلها فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم أو ذلك كذا فى الصحيحين* وفى الاكتفاء قال ابن عقبة كانت خيبر أرضا وخيمة شديدة الحرّ فجهد المسلمون جهدا شديدا وأصابتهم مسغبة شديدة فوجدوا أحمرة انسية ليهود لم يكونوا أدخلوها فى الحصن فانتحروها ثم وجدوا فى أنفسهم من ذلك فذكروها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن أكلها* وعن جابر بن عبد الله و؟؟؟ خيبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم فى لحوم الحيل وعن معتب بن قش الاسلمى أنه قال حين محاصرة نطاة بلغ حالنا أيها الاسلميون المخمصة فأرسلنا الى النبىّ صلى الله عليه وسلم نشكو اليه الجوع فقلنا له ادع لنا بالفتح فقال اللهمّ افتح للمسلمين أعظم الحصون وأكثرها طعاما فجمع الجيش وأعطى الراية خباب بن المنذر وأمرهم أن يحملوا جملة واحدة ففعلوا فأوّل جماعة وصلوا الى باب

(2/47)


حصن الصعب أسلم وكانوا يحاربون حتى فتح الحصن فأصابوا أقمشة وأمتعة وأطعمة كثيرة* وفى الاكتفاء ولما أصاب المسلمين بخيبر ما أصابهم من الجهد أتى بنو سهم من أسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا من شئ فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم اياه فقال اللهمّ انك قد عرفت حالهم وان ليست بهم قوّة وان ليس بيدى شئ أعطيهم اياه فافتح عليهم أعظم حصونها غناء وأكثرها طعاما وودكا فغدا الناس ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه* وفى معجم ما استعجم نطاة وشق واديان بينهما أرض تسمى السبخة وفى نطاة حصن مرحب وقصره وقع فى سهم الزبير بن العوّام وفى نطاة عين تسمى اللجيجة وأوّل دار فتحت بخيبر دار بنى قمة وهى بنطاة وهى منزل لياسر أخى مرحب وهى التى قالت فيها عائشة رضى الله عنها ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير والتمر حتى فتحت دار بنى قمة قال كل ذلك من كتاب السكونى ثم قال بالشق عين تسمى الحمة وهى التى سماها النبىّ صلى الله عليه وسلم قسمة الملائكة يذهب ثلثا مائها فى فلج بالفاء والجيم وهو النهر الصغير كذا فى الصحاح والثلث الاخر فى فلج والمسلك واحد وقد اعتبرت منذ زمان النبىّ صلى الله عليه وسلم الى اليوم يطرح فيها ثلاث خشبات أو ثلاث تمرات فيذهب اثنان فى الفلج الذى له ثلثا مائها وواحدة فى الفلج الثانى ولا يقدر أحد أن يأخذ من ذلك الفلج أكثر من الثلث ومن قام فى الفلج الذى يأخذ الثلثين ليردّ الماء الى الفلج الثانى غلبه الماء وفاض ولم يرجع الى الفلج الثانى بشئ يزيد على الثلث* قال الواقدى بعد فتح الشق ونطاة تحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى كثيبة* وفى خلاصة الوفاء الكثيبة بلفظ كتيبة الجيش قاله أبو عبيدة بالمثلثة حصن بخيبر خمس الله ورسوله وذى القربى واليتامى والمساكين وجاء أهل الشق ونطاة فتحصنوا معهم فى القموص وهو حصن خيبر الاعظم والقموص بالصاد المهملة كصبور جبل عليه حصن لبنى أبى الحقيق بخيبر وقيل الحصن بالغين والضاد المعجمتين وكان حصنا حصينا حاصره النبىّ صلى الله عليه وسلم قريبا من عشرين ليلة وحين حاصره كانت به شقيقة لم يقدر أن يحضر بنفسه الكريمة معركة المحاربة وكان يعطى الراية كل يوم واحدا من أصحابه ويبعثه الى المحاربة فأعطاها يوما أبا بكر ووجهه اليه فأتاه وقاتل مقاتلة شديدة ورجع من غير فتح وأخذ الراية فى اليوم الثانى عمر فقاتل أشدّ من اليوم السابق ولم يفتح له* وفى رواية فى اليوم الاوّل قاتل عمر وفى الثانى أبو بكر وفى الثالث عمر ولم يفتح الحصن فلما أمسى قال النبىّ صلى الله عليه وسلم اما والله لأعطين الراية غدا رجلا كرارا غير فرّار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه* وفى رواية قال ابشر يا محمد بن مسلمة تقتل غدا قاتل أخيك وبات الناس يدوكون ليلتهم أى يحرصون ويتحدّثون أيهم يعطاها غدا ولم يكن أحد من الصحابة الذين لهم منزلة من النبىّ صلى الله عليه وسلم الا يرجو أن يعطاها روى ان عليا لما بلغه ما قاله النبىّ صلى الله عليه وسلم قال اللهمّ لا معطى لما منعت ولا مانع لما أعطيت* روى ان الناس لما أصبحوا غدوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على بابه* وفى المنتقى لما كان من الغد تطاول لها أبو بكر وعمر وقريش يرجو كل واحد أن يكون هو صاحب ذلك وعن سعد بن أبى وقاص قال جئت فبركت بحذاء النبىّ صلى الله عليه وسلم ثم قمت ووقفت بين يديه وعن عمر بن الخطاب أنه قال ما أحببت الامارة الا ذلك اليوم ثم خرج النبىّ صلى الله عليه وسلم من خيمته وقال أين على بن أبى طالب فقيل هو يشتكى عينيه وعن سلمة بن الاكوع أنه قال كان علىّ تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر خيبر بالمدينة
أوّلا وكان به رمد شديد حتى انه كان لا يرى شيئا ثم قال أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأهب وخرج فى أثره ولحق به فى الطريق أو بعد وصوله الى خيبر

(2/48)


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلوا اليه من يأتى به فذهب اليه سلمة بن الاكوع وأخذ بيده يقوده حتى أتى به الى النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو أرمد وكان قد عصب عينيه بشقة برد قطرى فتفل فى عينيه ودعا له فبرىء حتى كأن لم يكن به رمد ولا وجع فأعطاه الراية وعن علىّ أنه قال لما انتهيت الى النبىّ صلى الله عليه وسلم وضع رأسى فى حجره فبصق فى عينى وفى رواية عنه بصق فى كفه ومسح به عينى فشفيت فى الحال وما اشتكيتهما بعد اليوم أبدا وفى رواية فما وجعاه بعد حتى مضى لسبيله وفى رواية عن علىّ دعا له النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال اللهمّ أذهب عنه الحر والقر فما وجد بعده الحر والبرد وكان يلبس ثياب الصيف فى الشتاء ولا يبالى وثياب الشتاء فى الصيف ولا يبالى وفى رواية ألبسه النبىّ صلى الله عليه وسلم درعه الحديد وشدّ ذا الفقار أعنى السيف فى وسطه وأعطاه الراية ووجهه الى الحصن فقال علىّ يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا يعنى مسلمين فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم الى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فو الله لان يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من ان يكون لك حمر النعم يعنى تصدّقت بها فى سبيل الله أخرجاه فى الصحيحين* وفى معالم التنزيل قال امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك وفى الاكتفاء قال خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك قال سلمة ابن عمرو بن الاكوع فخرج علىّ والله يهرول هرولة وانا خلفه نتبع أثره حتى ركز رايته فى ربض من حجارة تحت الحصن فاطلع اليه يهودى من فوق الحصن قال من أنت فقال على بن أبى طالب فقال اليهودى غلبتم وما أنزل على موسى أو كما قال قال فما رجع حتى فتح الله على يديه وفى المواهب اللدنية ولما تصاف القوم كان سيف عامر قصيرا فتناول ساق يهودى ليضربه ورجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه فلما قفلوا قال سلمة قلت يا رسول الله فداك أبى وأمّى زعموا ان عامرا قد حبط عمله قال النبىّ صلى الله عليه وسلم كذب من قاله وان له أجرين وجمع بين اصبعيه انه لجاهد مجاهد رواه البخارى وفى بعض كتب السير روى انه لما حاربوا على حصن صعب خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول شعرا
قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرب
اذا الحروب أقبلت تلتهب
فبرز له عامر بن الاكوع وقال
قد علمت خيبر انى عامر ... شاكى السلاح بطل مغامر
فاختلفا ضربتين فاوّلا سلّ مرحب سيفه وضرب به عامرا فاتقى عامر بترسه فنشب السيف فى الترس فسل عامر سيفه وذهب يسفل فتناول به ساق مرحب ليضربه وكان فى سيفه قصر فرجع سيفه على نفسه فأصاب ذباب السيف ركبة نفسه فقطع أكحله فكانت فيها موته فدفنوه فى منزل رجيع مع محمود بن مسلمة فى غار واحد قال سلمة بن الاكوع لما رجعنا من خيبر رآنى النبىّ صلى الله عليه وسلم فى الطريق محزونا* وفى رواية قال أتيت النبىّ صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله يزعم أسيد بن حضير وجماعة من أصحابك ان عامرا حبط عمله اذ قتل بسيفه قال كذب من قاله ان له لأجرين اثنين وجمع بين اصبعيه وقال انه لجاهد مجاهد كما مرّ* وفى رواية قال انه ليعوم فى الجنة عوم الدعموص* وعن زيد بن ابى عبيد قال رأيت أثر ضربة بساق سلمة بن الاكوع فقلت ما هذه الضربة قال هذه ضربة أصابتنى يوم خيبر فأتيت النبىّ صلى الله عليه وسلم فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة أخرجه البخارى وعنه أيضا شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدّعى الاسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل أشدّ

(2/49)


القتال حتى كثرت به الجراحة فكاد بعض الناس يرتاب فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده الى كنانته فاستخرج منها سهما فنحر نفسه فاشتدّ رجال من المسلمين فقالوا يا رسول الله صدّق الله حديثك انتحر فلان فقتل نفسه فقال قم يا فلان فناد لا يدخل الجنة الا مؤمن وان الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر* وفى رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة كذا فى المواهب اللدنية* وروى ان عليا لما انتهى الى حصن قموص كان أوّل من خرج اليه من الحصن الحارث اليهودى أخو مرحب مع اتباعه وباشهر الحرب وقتل رجلين من المسلمين فقتله علىّ فلما رأى مرحب أن أخاه قد قتل خرج من الحصن سريعا مع اتباعه وهو يرتجز ويقول
قد علمت خيبر انى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرّب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... اذا الحروب أقبلت تلهب
ان حماى للحمى لا يقرب
روى أنه لم يكن فى أهل خيبر أشجع من مرحب وكان يومئذ قد لبس درعين وتقلد بسيفين واعتمّ بعمامتين ولبس فوقهما مغفرا وحجرا قد ثقبه قدر البيضة* وفى معالم التنزيل كهيئة البيضة على رأسه وله رمح سنانه ثلاثة أسنان ولم يقدر أحد من أهل الاسلام أن يقاومه فى الحرب فبرز له علىّ وهو يرتجز ويقول
أنا الذى سمتنى أمى حيدره ... ضرغام آجام وليث قسوره
وفى الكشاف كانت أمّه فاطمة بنت أسد رضى الله عنها سمته أسدا باسم أبيها وكان أبو طالب غائبا فلما رجع كره ذلك وسماه عليا* وفى معالم التنزيل والكشف* كليث غابات كريه المنظره* بدل* ضرغام آجام وليث قسوره* عبل الذراعين غليظ القصره* أو فيهم وفى رواية* أكيلكم بالصاع كيل السندره* قوله عبل الذراعين أى ضخمهما والقصرة أصل العنق والسندرة ضرب من الكيل كبير واسم امرأة كانت تبيع القمح وتوفى الكيل كذا فى القاموس قيل لعلّ النكتة فى ارتجاز علىّ بهذا الرجز أنّ مرحبا كان قد رأى فى المنام أنّ أسدا يفترسه فلعلّ الله أطلع عليا على رؤيا مرحب فأراد أن بذكره رؤياه ليقذف فى قلبه الرعب فيجبن جبن الرباح ولا تقوى يده على حمل السلاح* وفى حياة الحيوان الرباح بفتح الراء والباء المخففة دويبة كالسنور وهى التى يجلب منها الزباد وذكر القرود وفى الامثال قالوا أجبن من الرباح* فلما اختلطا أراد مرحب أن يضرب عليا فسبقه علىّ فعلاه بالسيف وهو ذو الفقار فتترس مرحب فوقع السيف على الترس فقدّه والحجر والمغفر والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف فى الاضراس كذا فى معالم التنزيل* قيل هذا أى قتل علىّ مرحبا هو الصحيح وما نظمه بعض الشعراء يؤيده وهو
علىّ حمى الاسلام من قتل مرحب ... غداة اعتلاه بالحسام المضخم
وفى رواية قتله محمد بن مسلمة* فى الاكتفاء ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح وحاز من الاموال ما حاز انتهوا الى حصنيهم الوطيح والسلالم وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة وخرج مرحب اليهودى من حصنهم قد جمع سلاحه وهو ينادى من يبارز ويرتجز ويقول
قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرّب

(2/50)


أطعن أحيانا وحينا أضرب ... اذا الليوث أقبلت تحزب
انّ حماى للحمى لا يقرب
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لهذا قال محمد بن مسلمة أنا يا رسول الله أنا والله الموتور الثائر دم أخى بالامس قال فقم اليه اللهم أعنه عليه فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة غمرته من شجر العشر فجعل أحدهما يلوذبها من صاحبه كلما لا ذبها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فانقاه بدرقته فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله* وفى معالم التنزيل ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز فخرج اليه الزبير بن العوّام فقالت له أمّه صفية بنت عبد المطلب وكانت فى الجيش أيقتل ابنى يا رسول الله قال بل ابنك يقتله ان شاء الله ثم التقيا فقتله الزبير يفهم من هذا أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم حضر المعركة بنفسه الكريمة وهو مخالف لما سبق ثم حمل المسلمون على اليهود فقتلوا اليهود قتلا ذريعا وقتل على يومئذ ثمانية من رؤساء اليهود وفرّ الباقون الى الحصن فتبعهم المسلمون فبينما علىّ يشتدّ فى أثرهم اذ ضربه يهودى على يده ضربة سقط منها الترس فبادر يهودى آخر فأخذ الترس فغضب علىّ فتناول باب الحصن وكان من حديد فقلعه وتترّس به عن نفسه وفى المنتقى والتوضيح فتناول علىّ بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل فى يده وهو يقاتل* وفى شواهد النبوّة روى أنّ عليا بعد ذلك حمله على ظهره وجعله قنطرة حتى دخل المسلمون الحصن انتهى ثم لما وضعت الحرب أوزارها ألقى علىّ ذلك الباب الحديد وراء ظهره ثمانين شبرا وفى هذا الباب قال الشاعر
علىّ رمى باب المدينة خيبر ... ثمانين شبرا وافيا لم يثلم
وفى المنتقى والتوضيح روى عن أبى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فلقد رأيتنى فى سبعة نفر وأناثا منهم نجهد أن نقلب ذلك الباب فما نستطيع أن نقلبه* وفى التوضيح رواه الطبرانى وأخرجه أحمد* وفى المواهب اللدنية قلع علىّ باب خيبر ولم يحرّكه سبعون رجلا الا بعد جهد* وفى رواية ابن اسحاق سبعة وأخرجه من طريقة البيهقى فى الدلائل ورواه الحاكم عن البيهقى من جهة ليث بن أبى سليم عن أبى جعفر محمد بن على بن الحسين عن جابر أنّ عليا حمل الباب يوم خيبر وانه جرب بعد ذلك ولم يحمله أربعون رجلا وليث ضعيف* وفى رواية البيهقى أنّ عليا لما انتهى الى الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالارض فاجتمع عليه بعده سبعون رجلا منا فكان جهدا أن أعادوا الباب مكانه* قال القسطلانى قال شيخنا وكلها واهية ولذا أنكره بعض العلماء كذا فى المواهب اللدنية* وفى شرح المواقف قلع علىّ باب خيبر بيده وقال ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانية ولكن بقوّة الهية وحدث أبو اليسر بن كعب بن عمرو قال انا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية اذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ونحن محاصرون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يطعمنا من هذه الغنم قال أبو اليسر أنا يا رسول الله قال فافعل قال فخرجت أشتدّ مثل الظليم فلما رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا قال اللهم أمتعنا به قال فأدركت الغنم وقد دخلت أولاها الحصن فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدى ثم أقبلت أشتدّ كأن ليس معى شىء حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما وأكلوهما فكان أبو اليسر من آخر أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم موتا اذا حدّث بهذا الحديث بكى ثم قال أمتعونى بعمرى حتى كنت من آخرهم وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فى حصنيهم الوطيح والسلالم حتى اذا

(2/51)


أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ففعل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الاموال كلها والشق والنطاة والكثيبة وجميع حصونهم الا ما كان من ذينك الحصنين الوطيح والسلالم فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم وأن يخلوا له الاموال ففعل فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم فى الاموال على النصف وقالوا نحن أعلم بها منكم وأعمر لها فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على انا اذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم* وفى رواية قال نقرّكم على ذلك ما شئنا فصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكان خيبر فيئا للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لانهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب*

سم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشاة
وفى هذه الغزوة سمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها سمته زينب بنت الحارث زوجة سلام بن مشكم أخت مرحب اليهودى قاله ابن اسحاق وذلك بعد ما دخل النبىّ صلى الله عليه وسلم حصن القموص واطمأنّ أهدت له زينب شاة مصلية أى مشوية مسمومة كلها لكن جعلت السمّ فى الذراع أكثر مما فى باقى الاعضاء لانها سألت أى عضو من الشاة أحب الى محمد فقيل لها الذراع كذا فى معالم التنزيل* وفى الاكتفاء فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمّا بشر فأساغها وأمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ومات بشر بن البراء من أكلته التى أكلها من تلك الشاة* وفى المنتقى فلاكها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها فأخذها بشر بن البراء فمات من ساعته وقيل بعد سنة* وفى الاكتفاء فلفظها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال انّ هذا العظم ليخبرنى أنه مسموم ثم دعا بها فاعترفت فقال ما حملك على ذلك قالت بلغت من قومى ما لم يخف عليك فقلت ان كان ملكا استرحت منه وان كان نبيا فسيخبر فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بشر بن البراء من أكلته* وفى مغازى سليمان التيمى أنها قالت ان كنت كاذبا أرحت الناس منك وقد استبان لى الان أنك صادق وأنى أشهدك ومن حضر أنى على دينك وأن لا اله الا الله وأنّ محمدا رسول الله فانصرف عنها حين أسلمت وفيه موافقة الزهرى على اسلامها* وفى المواهب اللدنية عمدت زينب الى عنزلها فذبحتها وصلتها ثم عمدت الى سمّ لا يطنى يعنى لا يلبث أن يقتل من ساعته وقد شاورت يهود فى سموم فاجتمعوا لها فى هذا السمّ بعينه فسمت الشاة وأكثرت فى الذراعين والكتف فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه وفيهم بشر بن البراء فتناول صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهش منها وتناول بشر بن البراء عظما آخر فلما ازدرد صلى الله عليه وسلم لقمته ازدرد بشر بن البراء ما فى فيه وأكل القوم فقال صلى الله عليه وسلم ارفعوا أيديكم فانّ هذه الذراع تخبرنى أنها مسمومة وفيه أن بشر بن البراء مات فيه وفيه دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أولياء بشر فقتلوها رواه الدمياطى* وفى سيرة مغلطاى لم يقتلها وأمر بلحم الشاة فأحرق* وفى حديث جابر عن أبى داود توفى أصحابه الذين أكلوا من الشاة واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذى أكله من الشاة كذا فى المواهب اللدنية* وفى الاكتفاء ذكر ابن عقبة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الكتف من تلك الشاة فانتهش منها وتناول بشر عظما فانتهش منه فلما استرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته استرط بشر ما فى فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعوا أيديكم فانّ كتف هذه الشاة تخبرنى انى بغيت فيها فقال بشر بن البراء والذى أكرمك لقد وجدت ذلك فى أكلتى التى أكلت فما منعنى أن ألفظها الا انّى أعظمت أن أبغضك طعامك فلما أسغت ما فى فيك لم أكن لأرغب بنفسى عن نفسك ورجوت أن لا تكون

(2/52)


استرطتها وفيها بغى فلم يقم بشر من مكانه حتى عادلونه مثل الطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحوّل الا ما حوّل قال جابر بن عبد الله واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ على الكاهل حجمه أبو طيبة مولى بنى بياضة* وفى المشكاة احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذى أكل من الشاة حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبنى بياضة من الانصار رواه أبو داود والدارمى وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذى توفى منه فدخلت عليه أمّ بشر بنت البراء بن معرور تعوذه فيما ذكره ابن اسحاق فقال لها يا أمّ بشر انّ هذا الاوان وجدت انقطاع أبهرى من الاكلة التى أكلت مع أخيك بخيبر* وفى نهاية ابن الاثير قال صلى الله عليه وسلم ما زالت اكلة خيبر تعاودنى فهذا أو ان قطعت أبهرى والابهر عرق فى الظهر وهما أبهران وقيل هما الا كحلان اللذات فى الذراعين وقيل هو عرق مستبطن القلب فاذا انقطع لم تبق بعده حياة وقيل الابهر عرق منشأه من الرأس ويمتدّ الى القدم وله شرايين تتصل بأكثر أطراف البدن فالذى فى الرأس منه يسمى النامة ومنه قولهم أسكت الله نامته أى أماته ويمتدّ الى الحلق ويسمى فيه الوريد ويمتدّ الى الصدر فيسمى الابهر ويمتدّ الى الظهر فيسمى الوتين والفؤاد معلق به ويمتدّ الى الفخذين فيسمى النسا ويمتدّ الى الساق فيسمى الصافن والهمزة فى الابهر زائدة ويجوز فى أوان الضم والفتح فالضم لانه خبر لمبتدا والفتح على البناء لاضافته الى مبنى* قال فان كان المسلمون ليرون أنّ رسول الله الله عليه وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوّة وفى قتلها اختلاف فقيل قتلها وقيل بل عفا عنها* وفى رواية أنس دفعها الى أولياء بشر بن البراء فقتلوها كما مرّ وقال الدميرى فى حياة الحيوان جمع البيهقى بينهما بأنه لم يقتلها فى الابتداء فلما مات بشر أمر بقتلها وكذلك اختلف فى قتل من سحره ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف الى وادى القرى فحاصر أهله ليالى ثم انصرف راجعا الى المدينة وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عمر بن الخطاب قال لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبىّ صلى الله عليه وسلم فقالوا فلان شهيد وفلان شهيد حتى مرّوا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا انى رأيته فى النار فى بردة غلها أو عباءة ثم قال يا ابن الخطاب اذهب فناد فى الناس أنه لا يدخل الجنة الا المؤمنون قال فخرجت فناديت ألا انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون* وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء من النساء المسلمات فرضخ لهنّ عليه السلام من الفئ ولم يضرب لهنّ بسهم وقيل ضرب لهنّ أيضا بسهم كامل وكانت قد خرجت معهم عشرون امرأة وفى حديث ابن أبى الصلت عن امرأة غفارية سماها قالت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نسوة من غفار وهو يسير الى خيبر فقلنا يا رسول الله قد أردنا الخروج معك الى وجهك هذا فنداوى الجرحى ونعين المسلمين ما استطعنا فقال على بركة الله قالت فخرجنا معه فلما افتتح خيبر رضخ لنا من الفئ وأخذ هذه القلادة التى ترين فى عنقى فأعطانيها وعلقها بيده فى عنقى فو الله لا تفارقنى أبدا قالت فكانت فى عنقها حتى ماتت ثم أوصت أن تدفن معها واستشهد بخيبر من المسلمين نحو من عشرين رجلا منهم عامر بن الاكوع عمّ سلمة بن الاكوع وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له فى مسيره الى خيبر انزل يا ابن الاكوع فاحد لنا من هناتك فنزل يرتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال* والله لولا الله ما اهتدينا* ولا تصدّقنا ولا صلينا* الى آخر ما ذكر فى أوّل مسيره الى خيبر من قوله عليه السلام لعامر يرحمك الله وقول عمر وجبت والله يا رسول الله لو أمتعتنا به فقتل يوم خيبر شهيدا بسيف نفسه رجع عليه وهو يقاتل فكلمه كلما شديدا فمات منه وكان المسلمون قد شكوا فيه وقالوا انما قتله سلاحه حتى سأل ابن أخيه سلمة رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك

(2/53)


وأخبره بقول الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انه لشهيد وصلى عليه فصلى عليه المسلمون وقد مرّ ومنهم الاسود الراعى من أهل خيبر وكان من حديثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم وكان فيها أجيرا لرجل يهودى فقال يا رسول الله اعرض علىّ الاسلام فعرضه عليه فأسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه الى الاسلام فيعرضه عليه فلما أسلم قال يا رسول الله انى كنت أجير الصاحب هذه الغنم وهى أمانة عندى فكيف أصنع بها قال اضرب فى وجوهها فانها سترجع الى ربها أو كما قال فقام الاسود فأخذ حفنة من الحصباء فرمى بها فى وجوهها وقال ارجعى الى صاحبك فو الله لا أصحبك وخرجت مجتمعة كأنّ سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن ثم تقدّم الاسود الى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله وما صلى لله صلاة قط فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع خلفه وسجى بشملة كانت عليه فالتفت اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه ثم أعرض عنه فقالوا يا رسول الله لم أعرضت عنه قال انّ معه الان زوجتيه من الحور العين* وذكر ابن اسحاق عن عبد الله بن نجيح أنّ الشهيد اذا أصيب نزلت زوجتاه من الحور العين عليه ينفضان التراب عن وجهه ويقولان ترّب الله وجه من ترّبك وقتل من قتلك قال ولما افتتحت خيبر كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاج بن علاط السلمى ثم البهزى فقال يا رسول الله انّ لى بمكة مالا عند صاحبتى أمّ شيبة بنت أبى طلحة ومالا متفرّقا فى تجار أهل مكة فائذن لى يا رسول الله فأذن له قال لا بدّ لى يا رسول الله من أن أقول قال قل قال الحجاج فخرجت حتى اذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يتسمعون الاخبار ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغهم أنه سار الى خيبر وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة ورجالا فهم يتجسون الاخبار من الركبان فلما رأونى ولم يكونوا علموا باسلامى قالوا الحجاج بن علاط عنده والله الخبر أخبرنا يا أبا محمد فانه قد بلغنا أنّ القاطع سار الى خيبر وهى بلد يهود وريف الحجاز قلت قد بلغنى ذلك وعندى من الخبر ما يسرّكم قال فالتبطوا بجنبى ناقتى يقولون ايه يا حجاج قلت هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط وأسر محمد أسرا وقالوا لا نقتله حتى نبعث به الى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم قال فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا قد جاءكم الخبر وهذا محمد انما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم قال قلت أعينونى على جمع مالى بمكة على غرمائى فانى اريد أن أقدم خيبر فاصيب من فلّ محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار الى ما هنا لك فقاموا فجمعوا لى مالى كأحث جمع سمعت به وجئت صاحبتى فقلت مالى وقد كان لى عندها مال موضوع لعلى ألحق بخيبر فاصيب من فرص البيع قبل أن يسبقنى التجار قال فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر أو جاءه عنى أقبل حتى وقف الى جنبى وأنا فى خيمة من خيام التجار فقال يا حجاج ما هذا الذى جئت به قلت وهل عندك حفظ لما وضعت عندك قال نعم قلت فاستأخر عنى حتى ألقاك على خلاء فانى فى جمع مالى كما ترى فانصرف عنى حتى أفرغ قال حتى اذا فرغت من جمع كل شئ كان لى بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت احفظ علىّ حديثى يا أبا الفضل فانى أخشى الطلب ثلاثا ثم قل ما شئت قال افعل قال فانى والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم يعنى صفية بنت حيى ولقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولاصحابه قال ما تقول يا حجاج قلت اى والله فاكتم عنى ولقد أسلمت وما جئت الا لاخذ مالى فرقا من أن أغلب عليه فاذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب قال حتى اذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها فلما رأوه قالوا
يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحرّ المصيبة قال كلا والله

(2/54)


الذى حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولاصحابه قالوا من جاء بهذا الخبر قال الذى جاءكم بما جاءكم ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ ماله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه قالوا يا لعباد الله انفلت عدوّ الله أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك* ذكر ابن عقبة أنّ بنى فزارة قدموا على خيبر فى أوّل أمرهم ليعينوهم فراسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم فأبوا عليه وقالوا جيراننا وحلفاؤنا فلما افتتح الله خيبر أتاه من كان هناك من بنى فزارة فقالوا الذى وعدتنا فقال لكم ذو الرقيبة لجبل من جبال خيبر قالوا اذا نقاتلك قال موعدكم جنفاء فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا هاربين*

قسمة غنائم خيبر
وروى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أمر فروة بن عمرو البياضى أن يجمع غنائم خيبر فى حصن نطاة فجمع وكان فى أثناء الغنائم صحائف متعدّدة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بدفعها اليهم ويوم جمع غنائم خيبر وأخذ سباياها أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم مناديا ينادى أن من آمن بالله واليوم الاخر لا يسق بمائه زرع الغير ولا يطأ امرأة حتى تنقضى عدتها وأمر فروة ببيع الغنائم ودعا لها فقال اللهم ألق عليها النفاق وقال فروة فلما عرضناها على البيع رغب فيها الناس رغبة تامّة حتى بيعت كلها فى يومين وكنا نقدر الفراغ عنها بمدة مديدة وذلك ببركة دعاء النبىّ صلى الله عليه وسلم* وفى معجم ما استعجم لما أفاء الله خيبر قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة وثلاثين سهما عزل نصفها لنوائبه وما ينزل به وقسم النصف الباقى بين المسلمين وسهم النبىّ صلى الله عليه وسلم فيها قسم نطاة والشق وما حيز معهما وكان فيما وقف الكثيبة والوطيحة والسلالم ولما أراد القسمة أمر زيد بن ثابت حتى أحصى أهل العسكر وأفراسهم وقسم الشق ونطاة الى ثمانية عشر سهما نطاة من ذلك خمسة أسهم والشق ثلاثة عشر سهما ثم قسم كل قسم من هذه الثمانية عشر الى مائة سهم لكل رجل سهم ولكل فرس سهمان وكانت عدّة الذين قسمت عليهم ألف رجل وأربعمائة رجل ومائتى فرس فذلك ألف وثمانمائة سهم* قال ابن اسحاق وكانت المقاسم فى أموال خيبر على الشق ونطاة والكثيبة وكان الشق ونطاة فى سهمان المسلمين وكانت الكثيبة خمس الله وسهم النبىّ صلى الله عليه وسلم وسهم ذوى القربى والمساكين وطعم أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل فدك بالصلح وقسمت خيبر على أهل الحديبية من شهد خيبر لا من غاب عنها الا جابر ابن عبد الله بن عمرو بن حرام فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضرها* وفى هذه الغزوة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمان الخيل والرجال فجعل للفرس سهمين ولفارسه سهما وللرّاجل سهما فجرت المقاسم فيما بعد على ذلك ويومئذ عرّب العربى من الخيل وهجن الهجين وذكر ابن عقبة أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر نفر من الاشعريين فيهم أبو عامر الاشعرى قدموا المدينة مع مهاجرة الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فمضوا اليه وفيهم أبان بن سعيد ابن العاص والطفيل بن عمر والدوسى وذو النون وأبو هريرة ونفر من دوس فرأى النبىّ صلى الله عليه وسلم ورأيه الحق أن لا يخيب مسيرهم ولا يبطل سفرهم فشركهم فى مقاسم خيبر وسأل أصحابه ذلك فطابوا به نفسا ولم يذكر ابن عقبة جعفر بن أبى طالب فى هؤلاء القادمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر من أرض الحبشة وهو أوّلهم وأفضلهم وما مثل جعفر يتخطى ذكره ومن البعيد أن يغيب عن ابن عقبة فالله أعلم بعذره* وفى سح السحابة عن أبى موسى أنه قال بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين اليه فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا الى النجاشى

(2/55)


بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبى طالب وأصحابه فقال جعفر انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا وأمرنا بالاقامة فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا* وقد ذكر ابن اسحاق أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث عمرو بن أمية الضمرى الى النجاشى فيمن كان أقام بأرض الحبشة من أصحابه فحملهم فى سفينتين فقدم بهم عليه وهو بخيبر بعد الحديبية فذكر جعفرا أوّلهم وذكر معه ستة عشر رجلا قدموا فى السفينتين صحبته وذكر ابن هشام عن الشعبى أنّ جعفرا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين عينيه والتزمه وقال ما أدرى بأيهما أنا أسرّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ولما جرت المقاسم فى أموال خيبر أشبع فيها المسلمون ووجدوا بها مرفقا لم يكونوا وجدوه قبل حتى قال عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما فيما خرج له البخارى فى صحيحه ما شبعنا حتى فتحنا خيبر وأقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر فى أموالهم يعملون فيها للمسلمين على النصف مما يخرج منها كما تقدّم* قال ابن اسحاق وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا بين المسلمين وبين يهود خيبر فيخرص عليهم فاذا قالوا تعدّيت علينا قال ان شئتم فلكم وان شئتم فلنا فيقول يهود خيبر بهذا قامت السموات والارض قال وانما خرص عليهم عبد الله عاما واحدا ثم أصيب بمؤتة رحمه الله فكان جبار بن صخر أخو بنى سلمة هو الذى يخرص عليهم بعده فأقامت اليهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسافى معاملتهم حتى عدوا فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن سهل أخى بنى حارثة فقتلوه فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عليه وكتب اليهم أن يدوه أو يأذنوا بحرب فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده وأقرّهم على ما سبق من معاملته اياهم فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّهم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه على مثل ذلك حتى توفى ثم أقرّهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه صدرا من امارته ثم بلغ عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى وجعه الذى قبضه الله فيه لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت فارسل الى يهود فقال انّ الله قد أذن فى اجلائكم قد بلغنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتنى به أنفذه له ومن لم يكن له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتجهز للجلاء فأجلى عمر رضى الله عنه منهم من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عبد الله بن عمر خرجت أنا والزبير والمقداد بن الاسود الى أموالنا بخيبر نتعاهدها فلما قدمنا تفرّقنا فى أموالنا فعدى علىّ تحت الليل ففدعت يداى من مرفقىّ فلما أصبحت استصرخ علىّ صاحباى فأتيانى فأصالحا من يدى ثم قدما بى على عمر فقال هذا عمل يهود ثم قام فى الناس خطيبا فقال أيها الناس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على انا نخرجهم اذا شئنا وقد عدوا على عبد الله بن عمر ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الانصار قبله قد لا نشك انهم أصحابه ليس لنا هناك عدوّ غيرهم فمن كان له مال بخيبر فليلحق به فانى مخرج يهود فأخرجهم ولما أخرج عمر يهود خيبر ركب فى المهاجرين والانصار وخرج معه بجبار بن صخر وكان خارص أهل المدينة وحاسبهم وبزيد بن ثابت فهما قسما خيبر على أصحاب السهمان التى كانت عليها كما قسمت فى الاصل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مرّ*

استصفاء صفية
وفى هذه الغزوة استصفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيى ابن أخطب بن يحيى بن كعب بن الخزرج النضرى من بنى اسرائيل من سبط هرون بن عمران وتزوّجها فى مقفله من خيبر وكانت من جملة سبايا خيبر فاصطفاها لنفسه فأسلمت فأعتقها وجعل

(2/56)


عتقها صداقها وقيل وقعت فى سهم دحية الكلبى فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس كذا فى الصفوة ودفعها الى أمّ سلمة تصيغها وتهيؤها وكانت أوّلا زوجة سلام بن مشكم ثم وقعت الفرقة بينهما فتزوّجها كنانة بن ربيعة بن أبى الحقيق وكانت عروسا به حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فرأت فى المنام كأنّ الشمس قد نزلت حتى وقعت على صدرها فقصت ذلك على زوجها فقال والله ما تتمنين الا هذا الملك الذى نزل بنا ففتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب عنق زوجها كما مرّ* وفى رواية انّ صفية رأت فى المنام وهى عروس بكنانة أنّ القمر قد وقع فى حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال ما هذا الا انك تتمنين ملك الحجاز فلطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها فاتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها فسألها ما هو فأخبرت بهذا الخبر وأتى بزوجها كنانة وسأله عن الكنز فجحده فأمر الزبير بتعذيبه ثم دفعه الى محمد بن مسلمة الاوسى فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة وقد قتل فى خيبر كما مرّ* وفى الصفوة عن جابر انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بصفية يوم خيبر فاخذ بيدها فمرّ بها بين القتلى فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رئى فى وجهه ثم قام صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فنزعت شيئا كانت عليه جالسة فألقته للنبىّ صلى الله عليه وسلم ثم خيرها بين أن يعتقها فترجع الى من بقى من أهلها أو تسلم فيتخذها لنفسه فقالت اختار الله ورسوله فلما كان عند رواحه أحقب بعيره ثم خرجت معه تمشى حتى ثنى لها ركبته فوضعت ركبتها على فخذه فركبت ثم ركب النبىّ صلى الله عليه وسلم فألقى عليها كساء ثم سار حتى اذا كانا على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها فأبت صفية فوجد النبىّ صلى الله عليه وسلم عليها فى نفسه ولما كان بالصهباء مال الى دومة هناك فطاوعته فقال ما حملك على ابائك حين أردت المنزل الاوّل قالت يا رسول الله خشيت عليك قرب يهود فأعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصهباء* وفى الاكتفاء أعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر أو ببعض الطرق وبات بها فى قبلة له انتهى وبات أبو أيوب ليلة متوشحا بالسيف يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور حول خبائه فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوطء قال من هذا قال خالد بن يزيد فقال مالك قال ما نمت هذه الليلة مخافة هذه الجارية عليك فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع كذا فى الصفوة* وفى الاكتفاء قال أبو أيوب يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك فزعموا انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهمّ احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى* وعن أنس انّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لابى طلحة التمس لى غلاما من غلمانكم يخدمنى حتى أخرج الى خيبر فخرج بى أبو طلحة مردفى وأنا غلام راهقت الحلم فكنت أخدم النبىّ صلى الله عليه وسلم اذا نزل ثم قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيى بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروسا واصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فخرج حتى بلغنا سد الصهباء بين خيبر والمدينة أقام ثلاثة أيام يا بنى عليه بصفية ثم صنع حيسا فى نطع صغير ثم قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم آذن من حولك فدعوت الناس الى وليمته على صفية وما كان فيها خبز ولا لحم وما كان فيها الا أن أمر بلالا بالانطاع فبسطت فألقى عليها التمر والاقط والسمن وهو الحيس فقال المسلمون احدى امهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه فقالوا ان حجبها فهى احدى امهات المؤمنين والا فهى مما ملكت يمينه فلما ارتحلت ثم خرجنا الى المدينة فرأيت النبىّ صلى الله عليه وسلم يحوى لها وراءه بعباءة وطاء لها خلفه ثم جلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته وقد مدّ الحجاب بينها وبين الناس* وفى رواية ابن عباس
لما أراد أن يركب أدلى رسول الله صلى الله

(2/57)


عليه وسلم فخذه منها لتركب عليها فأبت ووضعت ركبتها على فخذه ثم حملها كما سبق قال أنس فسرنا حتى اذا أشرفنا على المدينة نظر الى احد فقال هذا جبل يجبنا ونحبه ثم نظر الى المدينة فقال اللهمّ انى احرم ما بين لا بيتها بمثل ما حرم ابراهيم* وفى رواية كتحريم ابراهيم اللهمّ بارك لهم فى مدّهم وصاعهم* وفى رواية ولما أشرف على المدينة قال آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون فلم يزل يقول ذلك حتى دخل المدينة وكانت صفية عند النبىّ صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين وأشهر او توفيت سنة خمسين ومروياتها فى الكتب عشرة أحاديث المتفق عليه منها حديث واحد والباقى فى سائر الكتب وقيل اثنين وخمسين ودفنت بالبقيع كذا فى الصفوة*

فتح فدك
وفى هذه السنة فتح فدك وهى قرية بينها وبين مدينة النبىّ صلى الله عليه وسلم مرحلتان وقيل ثلاث مراحل وفى شرح المواقف وهى قرية بخيبر كانت للنبى صلى الله عليه وسلم قال أهل السير لما أتى النبى صلى الله عليه وسلم حوالى خيبر بعث محيصة بن مسعود الحارثى الى فدك يدعو أهلها الى الاسلام فدعاهم اليه فخوّفهم انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء الى حربهم كما أتى الى حرب أهل خيبر وقالوا انّ عامر او ياسر او حارثا وسيد اليهود مرحبا فى حصن نطاة ومعهم ألف مقاتل وما نظنّ أن يقاومهم محمد فمكث محيصة فيهم يومين ولما رأى ان لا ميل لهم فى الصلح أراد أن يرجع فقالوا له اصبر حتى نستشير أكابر قومنا ونبعث معك من يصالح محمدا وبينماهم فى ذلك الرأى اذ أتاهم خبر حصن الناعم انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحه فوقع فى قلوبهم خوف عظيم فأرسلوا جماعة من يهود فدك الى النبى صلى الله عليه وسلم حتى يصالحوه فبعد القيل والقال الكثير استقرّ الامر على أن يعطوا النبى صلى الله عليه وسلم نصف أرض فدك ولهم نصفها فرضى النبى صلى الله عليه وسلم فصالحهم على ذلك وكانوا يعملون على ذلك حتى أخرجهم عمر وأهل خيبر الى الشام واشترى منهم حصتهم النصف بمال بيت المال* وفى رواية ولما سمع أهل فدك ان المسلمين قد صنعوا ما صنعوا بأهل خيبر بعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم أيضا ويتركوا له الاموال ففعل*

طلوع الشمس بعد غروبها لعلى رضى الله عنه
وفى هذه السنة طلعت الشمس بعد ما غربت لعلىّ رضى الله عنه على ما أورده الطحاوى فى مشكلات الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يوحى اليه ورأسه فى حجر على رضى الله عنه ولم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصليت يا على قال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم انه كان فى طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قالت أسماء فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقعت على الجبل والارض وذلك فى الصهباء فى خيبر وهذا حديث ثابت الرواية عن ثقات* وحكى الطحاوى ان أحمد بن صالح كان يقول لا ينبغى لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لانه من علامات النبوّة كذا فى المنتقى قال ابن الجوزى فى الموضوعات حديث ردّ الشمس فى قصة علىّ موضوع بلا شك*

فتح وادى القرى
وفى هذه السنة فتح وادى القرى* وفى المواهب اللدنية ثم فتح وادى القرى فى جمادى الاخرة بعد ما أقام بها اربعا فحاصرهم ويقال أكثر من ذلك* وفى الوفاء فى جمادى الاخرة قال أصحاب السير لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف الى وادى القرى فلما سمع أهل وادى القرى بمجيئه تهيئوا للحرب وخرجوا الى القتال فسوّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه للقتال ودفع لواءه الى سعد بن عبادة وقيل الى حباب بن المنذر وقيل الى سهل بن حنيف وقيل الى عباد بن بشر ثم دعاهم الى الاسلام وأعلمهم انهم ان أسلموا تبق دماؤهم مصونة وأموالهم محفوظة مضمومة وحسابهم على الله فأبوا وقاتلوا ذلك اليوم الى الليل فقتل من اليهود عشرة رجال* وفى الوفاء حاصر أهل وادى القرى ليالى وأصاب غلامه مدعما سهم غرب فقتله

(2/58)


قال أبو هريرة لما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر الى وادى القرى نزلناها أصلا مع غروب الشمس ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذامى ثم الضبى فو الله انه ليضع رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ أتاه سهم غرب فقتله فقلنا هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا والذى نفسى بيده ان شملته الان لتحترق عليه فى النار كان غلها من فىء المسلمين يوم خيبر فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال له يا رسول الله أصبت شراكين لنعلين لى فقال لقد قدّ لك مثلهما فى النار كذا فى الاكتفاء* وفى رواية وفتح صبيحة اليوم الثانى وغلبهم المسلمون وأصابوا أموالا كثيرة وأثاثا وأمتعة وفيرة ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود وترك فى أيديهم أراضى وادى القرى والبساتين والحدائق حتى يعملوا فيها ويأخذوا الاجرة ولما بلغ خبر يهود خيبر وفدك ووادى القرى يهود تيماء خافوا وصالحوا وقبلوا الجزية قاله الحافظ مغلطاى فرجع النبىّ صلى الله عليه وسلم الى المدينة كذا فى المواهب اللدنية
*

نوم الرسول عن صلاة الصبح
وفى هذا السفر فى الرجوع الى المدينة نام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح الى الشمس وعن أبى هريرة أن النبىّ صلى الله عليه وسلم حين قفل عن غزوة خيبر سار من أوّل الليل حتى اذا أدركه الكرى عرس وقال لبلال اكلأ لنا الليل فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسند بلال قريب الفجر الى راحلته مواجه الفجر فغلبته عيناه ونام فلم يستيقظ أحد حتى ضربتهم الشمس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّلهم استيقاظا ففزع وقال أى بلال فقال بلال أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك بأبى أنت وأمى يا رسول الله فاقتادوا رواحلهم من ذلك المكان شيئا ثم توضأ فأمر بلالا فأقام الصلاة وصلى بهم الصبح فلما قضى الصلاة قال من نسى الصلاة فليصلها اذا ذكرها فان الله تعالى قال أقم الصلاة لذكرى* وروى انه كان فى الرجوع من غزوة تبوك كذا فى المواهب اللدنية*

بناء الرسول عليه السلام بأم حبيبة
وفى هذه السنة بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمّ حبيبة رملة بنت أبى سفيان صخر ابن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وكانت قبله تحت عبيد الله بن جحش ووقع التزوّج فى السنة السادسة من الهجرة* وفى هذه السنة وقع الزفاف كما مرّ وقصتها انها كانت قد خرجت مهاجرة الى أرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش فى الهجرة الثانية ثم ارتدّ عن الاسلام وتنصر ومات هناك وثبتت أم حبيبة على الاسلام قالت رأيت فى المنام كأن آتيا يقول يا أمّ المؤمنين ففزعت فأوّلها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوّجنى فلما انقضت عدّتى فما شعرت الا برسول النحاشى على بابى يستأذن فاذا بجارية له يقال لها ابرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علىّ فقالت ان الملك يقول لك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب الىّ أن أزوّجك منه قلت بشرك الله بالخير قالت يقول الملك وكلى من يزوّجك فأرسلت الى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته وفى سيرة اليعمرى ولى نكاح أم حبيبة عثمان بن عفان وقيل خالد بن سعيد بن العاص فأعطت ابرهة سوارين من فضة وخدمتين كانتا فى رجليها وخواتم من فضة فى أصابع رجليها سرورا بما بشرت به فلما كان العشىّ أمر النجاشى جعفر بن أبى طالب ومن كان هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشى فقال الحمد لله الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار وأشهد أن لا اله الا الله وحده وأن محمدا عبده ورسوله وانه الذى بشر به عيسى ابن مريم* أما بعد فان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب الىّ أن أزوّجه أمّ حبيبة بنت أبى سفيان فأجبت الى ما دعا اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقتها أربعمائة دينار* وفى روضة الاحباب أربعمائة مثقال من الذهب ثم سكب الدنانير بين يدى القوم فتكلم خالد بن سعيد بن العاص فقال الحمد لله أحمده واستعنه واستغفره وأشهد أن

(2/59)


لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أما بعد فقد أجبت الى ما دعا اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أمّ حبيبة بنت أبى سفيان فبارك الله لرسوله ودفع النجاشى الدنانير الى خالد بن سعيد فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا فقال النجاشى اجلسوا فان من سنن الانبياء اذا تزوّجوا أن يؤكل طعام على التزويج فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرّقوا وذلك سنة سبع من الهجرة كذا فى الصفوة قالت أمّ حبيبة لما أتانى المال أرسلت الى ابرهة التى بشرتنى فقلت لها انى كنت أعطيتك ما أعطيتك ولا مال بيدى فهذه خمسون مثقالا فخذيها واستعينى بها* وفى معالم التنزيل أنفذ اليها النجاشى أربعمائة دينار على يد ابرهة فلما جاءتها بها أعطتها خمسين دينارا انتهى قالت فأخرجت ابرهة كل ما كنت أعطيتها فردّته علىّ وقالت عزم على الملك أن لا أرزأك وأنا التى أقوم على ثيابه ودهنه وقد اتبعت دين محمد رسول الله وأسلمت لله وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن اليك بكل ما عندهن من العطر* فلما كان من الغد جاءتنى بعداد ورس وعنبر وزباد كثير فقدمت بكله على النبىّ صلى الله عليه وسلم وكان يراه علىّ وعندى ولا ينكره ثم قالت ابرهة حاجتى اليك أن تقرئى على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منى السلام وتعلميه انى اتبعت دينه قالت وكانت هى التى جهزتنى وكانت كلما دخلت علىّ تقول لا تنسى حاجتى اليك فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت بى ابرهة فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأته منها السلام فقال وعليها السلام ورحمة الله وبركاته وبعث النجاشى أمّ حبيبة الى النبىّ صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة ولما بلغ أبا سفيان خبر تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمّ حبيبة قال ذاك الفحل لا يقرع أنفه وكان لامّ حبيبة حين قدم بها الى المدينة بضع وثلاثون سنة ومكثت عند النبىّ صلى الله عليه وسلم قريبا من أربع سنين وتوفيت فى زمان معاوية سنة ثنتين أو أربع وأربعين من الهجرة فى المدينة على القول الصحيح وصلى عليها مروان بن الحكم وقيل توفيت بالشام ومروياتها فى الكتب المتداولة خمسة وستون حديثا المتفق عليه حديثان وفرد مسلم حديث واحد والبقية فى سائر الكتب*

سرية عمر بن الخطاب الى تربة
وفى شعبان هذه السنة كانت سرية عمر بن الخطاب الى تربة ومعه ثلاثون رجلا ومعه دليل من بنى هلال فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار فأتى الخبر الى هوازن فهربوا وجاء عمر الى محلهم فلم يلق منهم أحدا فانصرف راجعا الى المدينة* ثم فى شعبان هذه السنة بعث أبا بكر الصدّيق الى بنى كلاب فى ناحية ضرية ويقال الى فزارة كما فى صحيح مسلم وهو الصواب وكان سلمة بن الاكوع فى تلك السرية فساروا اليهم وقاتلوهم وكان شعارهم أمت أمت فقتلوا طائفة وأسروا طائفة ولقى سلمة جماعة يهربون الى الجبل مع ذراريهم فخشى أن يسبقوه الى الجبل فرمى بسهم بينهم وبين الجبل فلما رأوا السهم وقفوا فأتى بهم الى أبى بكر يسوقهم وفيهم امرأة من بنى فزارة مع ابنة لها من أحسن العرب فأخذ أبو بكر ابنتها وقدموا المدينة وما كشف لها ثوبا فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السوق مرّتين فى يومين فقال يا سلمة هب لى المرأة فقال هى لك يا رسول الله فبعث الى مكة ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسرى بمكة*

سرية بشر بن سعد الى بنى مرّة
وفى شعبان هذه السنة بعث بشر بن سعد الانصارى فى ثلاثين رجلا الى بنى مرّة بفدك فسار بشر الى ذلك الموضع ولقى الرعاة واستخبرهم عن القوم قالواهم فى الوادى فساقوا دوابهم ومواشيهم فأخبروا القوم فتعاقبوا المسلمين فأدركوهم فوقع بينهم قتال عظيم وقتل كثير من الصحابة وجرح بشر وضرب كعبه فوقع فى القتلى وقيل قد مات فرجعوا عنه وقدم ابن زيد الحارثى بخبرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتث بشر وانسل من بين القوم ولحق بفدك فمكث هناك حتى برأت جراحته ثم قدم المدينة وذكر ذلك للنبىّ صلى الله عليه وسلم

(2/60)


وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم قبل قدوم بشر أخبر الناس بتلك القصة*

بعث غالب الليثى الى الميفعة
وفى رمضان هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثى فى مائة وثلاثين رجلا الى الميفعة بناحية نجد من المدينة على ثمانية برد على جمع من بنى عوال وبنى عبد بن ثعلبة فهجموا عليهم فى وسط محالهم فقتلوا من أشرف لهم واستاقوا نعما وشاء الى المدينة* قالوا وفى هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيك بن مرداس بعد أن قال لا اله الا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا شققت قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب فقال أسامة لا أقاتل أحدا يشهد أن لا اله الا الله* وفى الاكليل فعل ذلك أسامة فى سرية كان هو أميرا عليها سنة ثمان وفى البخارى عن أبى ظبيان قال سمعت أسامة بن زيد يقول بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الانصار رجلا منهم فلما غشيناه قال لا اله الا الله فكف الانصارى عنه وطعنته برمحى حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا اله الا الله قلت كان متعوّذا فما زال يكرّرها حتى تمنيت انى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم أورده فى المواهب اللدنية وستجىء هذه القصة فى الموطن الثامن فى سرية غالب بن عبد الله الليثى الى فدك*

سرية بشر بن سعد الى يمن وجبار
وفى شوّال هذه السنة كانت سرية بشر بن سعد الانصارى الى يمن وجبار بفتح الجيم وهى أرض لغطفان ويقال لفزارة وعذرة وبعث معه ثلثمائة رجل لجمع تجمعوا للاغارة على المدينة فساروا الليل وكمنوا النهار فلما بلغهم مسير بشر هربوا وأصاب لهم نعما كثيرة فغنمها وأسر رجلين وقدم بهما المدينة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما

سرية ابن عمر الى قبل نجد
وبعث صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد وفيها ابن عمر رضى الله عنهما قال فبلغت سهماننا اثنى عشر بعيرا ونفلنا بعيرا فرجعنا بثلاثة عشر بعيرا يحتمل ان تكون هذه السرية هى سرية ابان بن سعيد المذكورة وأن تكون غيرها*

كتابه الى جبلة بن الايهم
وفى هذه السنة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى جبلة بن الايهم آخر ملوك غسان ودعاه الى الاسلام قال فلما وصل اليه الكتاب أسلم وكتب جواب كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمه باسلامه وأرسل الهدية وكان ثابتا على اسلامه الى زمان عمر بن الخطاب* وفى خلافته قدم مكة للحج وحين كان يطوف فى المطاف وطئ رجل من فزارة ازاره فانحلّ فلطم الفزارى لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه فشكا الفزارى الى عمر واستغاثه فطلب عمر جبلة وحكم بأحد الامرين امّا العفو وامّا القصاص قال جبلة أتقتص له منى سواء وأنا ملك وهو سوقى قال عمر الاسلام سوّى بينكما ولا فضل لك عليه الا بالتقوى قال فان كنت أنا وهذا الرجل سواء فى هذا الدين فسأتنصر قال عمر اذا أضرب عنقك قال فأمهلنى الليلة حتى أنظر فى أمرى فلما كان الليل ركب فى بنى عمه وهرب الى قسطنطينية وتنصر هناك ومات مرتدّا نعوذ بالله من ادراك الشقاوة وسوء الخاتمة قيل اليه أشار الشاعر بقوله
أخذت بالجمة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا جيذرا ... كما اشترى المسلم اذ تنصرا
وبعض أهل الاسلام على أنّ جبلة عاد الى الاسلام ومات مسلما والله أعلم وقد مرّ فى هذا الموطن فى ذكر كتابه الى الحارث بعض ما يخالف هذا*

قتل شيرويه اباه
وفى هذه السنة قتل شيرويه اباه على ما سبق ذكره قال الواقدى كان قتله ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الاخرة أو جمادى الاولى سنة سبع من الهجرة لست أو سبع ساعات مضين* روى أنه لما قتل أباه كان الملك لا يستقرّ عليه حتى قتل سبعة عشر أخاله ذوى أدب وشجاعة فابتلى بالاسقام فبقى بعده ثمانية أشهر وقيل ستة أشهر ثم مات ويقال مدّة عمر شيرويه اثنان وعشرون سنة*

هدية المقوقس
وفى هذه السنة وصلت هدية المقوقس ملك الاسكندرية

(2/61)


ومصر واسمه جريج بن مينا وهى مارية وسيرين أختها وجاريتان أخريان وخصى يقال له مأبور وقدح من قوارير وثياب من قباطى مصر وألف مثقال من الذهب وعسل وفرس يقال له لزاز وبغلة يقال لها الدلدل وحمار يقال له يعفور كما مرّ فى الموطن السادس وبعث المقوقس كل ذلك مع حاطب بن أبى بلتعة فعرض حاطب الاسلام على مارية ورغبها فيه فأسلمت هى وأختها وأقام الخصى على دينه حتى أسلم بالمدينة فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل لم يسلم وقد مرّ فى الموطن السادس*

الكلام فى عمرة القضاء
وفى ذى القعدة من هذه السنة وقعت عمرة القضاء ويقال لها عمرة القضية وغزوة الا من أيضا أما تسميتها عمرة القضاء فلانها قضاء عن العمرة التى صدّ عنها بالحديبية فانها فسدت بالتحلل عنها وانما عدوّها عمرة لثبوت الاجر فيها لانها كملت كما هو مذهب الحنفية وذكر ابن هشام أنها يقال لها عمرة القضاء لانهم صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام من سنة ست فاقتص منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل مكة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام الذى صدّوا فيه من سنة سبع قال موسى بن عقبة وذكر انّ الله تعالى أنزل فى تلك العمرة الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص وأمّا تسميتها عمرة القضية فلانه عليه السلام قاضى قريشا فيها لا لانها قضاء عن العمرة التى صدّ عنها لانها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها بل كانت عمرة تامة كما هو مذهب الشافعية ولذا عدّوا عمر النبىّ صلى الله عليه وسلم أربعا وهذا الخلاف مبنى على الاختلاف فى وجوب القضاء أو الهدى على من أحرم معتمرا وصدّ عن البيت فعند أبى حنيفة يجب القضاء عليه لا الهدى وعند الشافعية يجب عليه الهدى لا القضاء وكانت عمرة القضاء بعد غزوة خيبر بستة أشهر وعشرة أيام وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من خيبر الى المدينة أقام بها شهرى ربيع وما بعده الى شوّال وهو يبعث فيما بين ذلك سرايا ثم خرج فى ذى القعدة فى الشهر الذى صدّه فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التى صدّوه عنها وخرج معه المسلمون ممن كان صدّ معه فى عمرته تلك وهى سنة سبع فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنها كذا فى الاكتفاء وقال غيره انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه حين رأوا هلال ذى القعدة أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التى صدّهم المشركون عنها بالحديبية وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف منهم أحد الا من استشهد منهم بخيبر ومن مات وخرج معه صلى الله عليه وسلم قوم من المسلمين عمارا غير الذين شهدوا الحديبية وكانوا فى عمرة القضاء ألفين واستخلف على المدينة أبارهم الغفارى* وفى القاموس عويف بن الاضبط وأحرم من ذى الحليفة وساق صلى الله عليه وسلم ستين بدنة وجعل على هديه ناجية ابن جندب الاسلمى وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه السلاح والدروع والرماح وقاد مائة فرس* وفى المواهب اللدنية فلما انتهى الى ذى الحليفة قدم الخيل أمامه عليها محمد بن مسلمة وقدّم السلاح واستعمل عليه بشر بن سعد وأحرم صلى الله عليه وسلم ولبى والمسلمون يلبون معه ومضى محمد ابن مسلمة فى الخيل الى مرّ الظهران فوجد بها نفرا من قريش فسألوه فقال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح هذا المنزل غدا ان شاء الله تعالى فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ الظهران وقدّم السلاح الى بطن يأجج كيسمع وينصر ويضرب موضع بمكة حيث ينظر الى أنصاب الحرم وخلف عليه أوس بن خولى الانصارى فى مائتى رجل وخرج قريش من مكة الى رؤس الجبال وأخلوا مكة ثلاثة أيام* وفى الاكتفاء قال ابن عقبة وتغيب رجال من أشرافهم وخرجوا الى بوادى مكة كراهية أن ينظروا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظا وحنفا ونفاسة وحسدا انتهى وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدى أمامه فحبس بذى طوى

(2/62)


وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصوى والمسلمون متوشحون السيوف محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون فدخل النبىّ صلى الله عليه وسلم من ثنية كداء بفتح أوّله والمدّ وهى طلعة الحجون التى بأعلى مكة ينحدر منها الى المقابر على درب المعلاة على طريق الابطح ومنى وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام راحلته وهو يمشى بين يديه ويقول
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... اليوم نضر بكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
* فقال له عمر يا ابن رواحة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى حرم الله تقول شعرا* فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر فلهى أسرع فيهم من نصح النبل رواه الترمذى ورواه عبد الرزاق من وجهين بلفظ
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... قد أنزل الرحمن فى تنزيله
بأنّ خير القتل فى سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله
وفى الاكتفاء
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير فى رسوله
يا رب انى مؤمن بقيله ... أعرف حق الله فى قبوله
فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبى حتى استلم الركن بمعجنه مضطبعا بثوبه وطاف على راحلته والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم وأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن على ظهر الكعبة* وفى البخارى عن ابن عباس قال المشركون انهم يقدمون عليكم وقد أوهنتهم حمى يثرب فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يرملوا فى الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين ولم يمنعه أن يرملوا الاشواط كلها الا الابقاء شفقة عليهم أى لم يمنعه من أمرهم بالرمل فى جميع الطوفات الا الرفق بهم والاشفاق عليهم* وفى رواية قال ارملوا ايرى المشركون قوّتكم والمشركون من قبل قيقعان* وفى أسد الغابة اضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ورملوا وهو أوّل اضطباع ورمل فى الاسلام* وفى الاكتفاء تحدّثت قريش بينها فيما ذكره ابن اسحاق أنّ محمدا وأصحابه فى عسرة وجهد وشدّة فصفوا له عند دار الندوة لينظروا اليه والى أصحابه فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال رحم الله امرآ أراهم اليوم من نفسه قوّة ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى اذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليمانى مشى حتى يستلم الاسود ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها فكان ابن عباس يقول كان الناس يظنون أنها ليست سنة عليهم وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انما صنعها لهذا الحى من قريش للذى بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فدل أنها سنة ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدى عند المروة قال هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر فنحر عند المروة وحلق هناك وكذلك فعل المسلمون وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه أن يقيموا على السلاح ببطن يأجج ويأتى آخرون فقضوا نسكهم ففعلوا كذا فى المواهب اللدنية وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا فلما كان عند الظهر من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى فقالا قد انقضى أجلك فاخرج عنا* وفى رواية أتوا عليا فقالوا له قل لصاحبك يخرج عنا فقد انقضى الاجل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادى

(2/63)


يا عمّ يا عمّ فتناولها علىّ فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك فحملتها فاختصم فيها علىّ وزيد وجعفر فقال علىّ أنا أحذتها وهى ابنة عمى وقال جعفر بنت عمى وخالتها تحتى وقال زيد بنت أخى فقضى بها النبىّ صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال الخالة بمنزلة الامّ قال وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بسرف بفتح أوّله وكسر ثانيه بعده فاء على عشرة أميال من مكة أو سبعة* وفى شفاء الغرام فى سرف أربعة أقوال ستة أميال وسبعة بتقديم السين وتسعة بتقديم التاء على السين واثنا عشر ميلا وهو الموضع الذى بنى النبىّ صلى الله عليه وسلم بميمونة فيه حين تزوّجها* وفى معجم ما استعجم قال ابن وفد بلغنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غربت عليه الشمس بسرف وصلى المغرب بمكة وبينهما سبعة أميال وفى موضع آخر منه على ستة أميال من مكة وليس بجامع اليوم*

تزوّجه عليه السلام بميمونة رضى الله عنها
وفى هذه السنة تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بن حرب بن بجير بن هدن بن رؤبة بن عبد الله بن هلال ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان الهلالية* قال أبو عمر وقال أبو عبيدة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر توجه الى مكة معتمرا سنة سبع وقدم عليه جعفر بن أبى طالب من أرض الحبشة فبعثه بين يديه فخطب عليه ميمونة بنت الحارث الهلالية وكانت أختها لامها أسماء بنت عميس تحت جعفر وسلمى بنت عميس تحت حمزة وأم الفضل بنت الحارث تحت العباس فجعلت أمرها الى العباس فأنكحها النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو محرم وقيل جعلت أمرها الى أم الفضل فجعلت أمّ الفضل أمرها الى العباس فزوّجها العباس من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه وأقام بمكة ثلاث ليال وكان ذلك أجل القضية يوم الحديبية فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وهو يخالف ما مرّ من أنهما أتياه عند الظهر من اليوم الرابع انتهى ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى مجلس الانصار يتحدّث مع سعد بن عبادة فصاح حويطب نناشدك الله والعقد الا خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاثة فقال سعد كذبت لا أم لك انها ليست بأرضك ولا بأرض أبيك والله لا يخرج الا راضيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك يا سعد لا تؤذ قوما زارونا فى رحالنا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تركتمونى فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه قالوا لا حاجة لنا بطعامك فاخرج فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع مولاه فاذن بالرحيل وخلف أبا رافع على ميمونة حتى أتاه بسرف ولقد لقيت هى ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين وصبيانهم كذا فى الاكتفاء* وروى فى تزويجها أنّ العباس لقى النبىّ صلى الله عليه وسلم بالجحفة حين اعتمر عمرة القضية فقال له العباس يا رسول الله أيمت ميمونة بنت الحارث بن أبى رهم بن عبد العزى هل لك فى تزويجها فتزوّجها صلى الله عليه وسلم وهو محرم فلما قدم مكة أقام ثلاثا فجاء سهيل بن عمرو فى نفر من أصحابه من أهل مكة فقال يا محمدا خرج عنا فقال له سعديا عاضّ بظر أمه أهى أرضك وأرض أمّك دونه لا يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يشاء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهم فخرج فبنى بها بسرف حلالا أخرجه أبو عمرو وكذا رواه ابن عباس أنّ النبى صلى الله عليه وسلم تزوّجها وهو محرم أخرجه الشيخان والنساءى وروت ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم تزوّجها بسرف وهو حلال أخرجه أبو داود* وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من عمرته أقام بمكة ثلاثة أيام التى اشترطها على أهل مكة ثم بعث بها عثمان وقال ان شئتم أقمت عندكم ثلاثا أخر وعرست بأهلى وأولمت لكم وكان صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة الهلالية قبل عمرته ولم يدخل بها فقالوا لا حاجة لنا فى وليمتك اخرج عنا وهذا يعضد قول من قال

(2/64)


انه صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة وهو محرم وكانت ميمونة رضى الله عنها قبل النبىّ صلى الله عليه وسلم عند أبى رهم بن عبد العزى ويقال عند عبد الله بن أبى رهم وقيل بل عند حويطب بن عبد العزى وقيل فروة بن عبد العزى وقيل أبى سبرة العامرى* قال ابن اسحاق ويقال انها رضى الله عنها وهبت نفسها للنبىّ صلى الله عليه وسلم وذلك أنّ خطبة النبىّ صلى الله عليه وسلم انتهت اليها وهى على بعيرها فقالت البعير وما عليه لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبىّ ويقال التى وهبت نفسها للنبىّ صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ويقال أمّ شريك غزية بنت جابر بن وهب ويقال غيرها والله أعلم ذكره ابن اسحاق وقد سبق فى الباب الثالث فى حوادث السنة الخامسة والعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم وكانت ميمونة آخر امرأة تزوّج بها النبىّ صلى الله عليه وسلم وآخر من توفيت منهنّ حكاه المنذرى صاحب الترغيب والترهيب توفيت سنة ثلاث وستين* وفى معجم ما استعجم أنها ماتت بسرف لانها اعتلت بمكة وقالت أخرجونى من مكة لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنى أنى لا أموت بها فحملوها حتى أتوابها سرف الى الشجرة التى بنى بها رسول الله تحتها فى موضع القبة فماتت هناك سنة ثمان وثلاثين وهناك عند قبرها سقاية* وفى خلاصة الوفاء تزوّجها بسرف وبنى بها فيه وماتت فيه ودفنت فيه* ومروياتها ستة وسبعون حديثا المتفق عليه منها سبعة أحاديث وأفرد البخارى بحديث واحد وأفرد مسلم بخمسة أحاديث والباقية فى سائر الكتب* وفى ذى الحجة من هذه السنة كانت سرية ابن أبى العوجاء السلمى واسمه أحزم الى بنى سليم فى خمسين رجلا فأحدق بهم الكفار من كل ناحية وقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامتهم وأصيب ابن أبى العوجاء وصار جريحا مع القتلى ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أوّل صفر سنة ثمان والله تعالى أعلم تمّ الموطن السابع بحمد الله
*