تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس

(الموطن التاسع فى حوادث السنة التاسعة من الهجرة
من بعث عيينة بن حصن الفزارى الى بنى تميم وبعث الوليد بن عقبة بن أبى معيط الى بنى المصطلق وسرية قطبة بن عامر الى خثعم وسرية الضحاك ابن سفيان الكلابى الى بنى كلاب وسرية علقمة بن مجزز الى الحبشة وبعث علىّ الى الفلس وبعث عكاشة بن محصن الى الحباب واسلام كعب بن زهير وتتابع الوفود وهجرته عن نسائه وغزوة تبوك وسرية خالد بن الوليد من تبوك الى اكيدر وكتابه من تبوك الى هرقل وموت عبد الله ذى النجادين وهدم مسجد الضرار وقصة كعب بن مالك وصاحبيه وارجاء أمرهم وقصة اللعان واسلام ثقيف وقدوم كتاب ملوك حمير ورجم المرأة الغامدية ووفاة النجاشى ووفاة أمّ كلثوم وموت عبد الله ابن أبى ابن سلول وحج أبى بكر رضى الله عنه وقتل فارس ملكهم شهريار بن شيرويه وتمليكهم بوران بنت كسرى) *

* بعث عيينة بن حصن الى بنى تميم
وفى هذه السنة بعث عيينة بن حصن الفزارى الى بنى تميم وسببه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث فى محرم هذه السنة بشر بن سفيان الكعبى الى بنى كعب من خزاعة لأخذ صدقاتهم فسار الى هؤلاء القوم ونزل بساحتهم وهم مع بنى تميم مجتمعون على ماء يقال له ذات الاشطاط فأخذ بشر صدقات بنى كعب فلما رأى بنو تميم ذلك المال استكثروه لكونهم لئاما فقالوا لبنى كعب لم تعطونهم أموالكم فاجتمعوا وشهروا السلاح فمنعوا عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ الصدقات فقال بنو كعب نحن أسلمنا ولا بدّ فى ديننا من أداء الزكاة قال بنو تميم والله لا ندع أن يخرجوا عنا بعيرا واحدا* وفى رواية

(2/118)


أنّ خزاعة وبنى العنبر أعانوا بنى تميم ولما رأى العامل ذلك رجع الى المدينة وأخبر به النبىّ صلى الله عليه وسلم فبعث اليهم عيينة بن حصن الفزارى فى خمسين راكبا من العرب ليس فيهم مهاجرىّ ولا انصارىّ وكان عيينة يسير بالليل ويختفى بالنهار حتى هجم عليهم فى صحراء فدخلوا وسرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع هربوا وأخذ المسلمون منهم احد عشر رجلا ووجدوا فى محلهم احدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا وقدموا بهم المدينة وحبسوا بها وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم منهم قيس بن عاصم وعطارد ابن حاجب والزبرقان بن بدر والاقرع بن حابس ولما رأوهم بكى اليهم النساء والذرارى فعجلوا فجاؤا الى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا يا محمد اخرج الينا نفاخرك ونشاعرك فانّ مدحنازين وذمّنا شين قيل كانوا تسعين أو ثمانين رجلا ونزل فيهم انّ الذين ينّادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بلال الصلاة فتعلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر ثم جلس فى صحن المسجد فلم يزد فى جوابهم على أن قال ذلك الله اذا مدح زان واذا ذمّ شان انى لم أبعث بالشعر ولم أومر بالفخر ولكن هاتوا فقدّموا خطيبهم عطارد بن حاجب فتكلم وخطب فأمر عليه السلام ثابت بن قيس بن شماس أن يجيب خطيبهم فغلبه فقام شاعرهم الاقرع بن حابس فقال
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... اذا خالفونا عند ذكر المكارم
وانا رؤس الناس فى كل معشر ... وأن ليس فى أرض الحجاز كدارم
فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم حسانا أن يجيبه فقام وقال
بنى دارم لا تفخروا انّ فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتمو ... لنا خول ما بين قنّ وخادم
فكان أوّل من اسلم شاعرهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قيس بن عاصم هذا سيد أهل الوبر وردّ عليهم السبى وأمر لهم بالجوائز كما كان يجيز الوفود وثابت بن قيس بن شماس بمعجمة وميم مشدّدة وآخره مهملة وهو خزرجى شهد له النبىّ صلى الله عليه وسلم بالجنة وكان خطيبه وخطيب الانصار واستشهد يوم اليمامة سنة اثنتى عشرة فى خلافة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه وسيجىء فى الفصل الثانى من الخاتمة فى خلافة أبى بكر*

بعث الوليد بن عقبة الى بنى المصطلق
وفى هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبى معيط الى بنى المصطلق من خزاعة مصدّقا وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد وكان بينه وبينهم عداوة فى الجاهلية فلما سمعوا بدنوه خزج منهم عشرون رجلا يتلقونه بالجزر والغنم فرحا بقدومه وتعظيما لامر الله وأمر رسوله فحدّثه الشيطان انهم يريدون قتله فخافهم ورجع من الطريق قبل أن يصل اليهم فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم انهم تلقوه بالسلاح وأرادوا قتله* وفى المواهب اللدنية يحولون بينه وبين الصدقة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يبعث اليهم من يغزوهم فلما بلغهم خبر رجوع الوليد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله سمعنا بمجىء رسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه فرجع فخشينا أن يكون ردّه بلوغ كتاب منك لغضب غضبته علينا وانا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد فى عسكر خفية وأمره أن يخفى عليهم قدومه وقال له انظر فان رأيت منهم ما يدل على ايمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وان لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل فى الكفار فأتاهم خالد فسمع منهم أذان صلاتى المغرب والعشاء فأخذ صدقاتهم ولم ير منهم الا الطاعة والخير وانصرف خالد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الاية فقرأ عليهم

(2/119)


صلى الله عليه وسلم القرآن وبعث معهم عباد بن بشر يأخذ الصدقات من أموالهم ويعلمهم شرائع الاسلام ويقرئهم القرآن* وفى الكشاف كان الوليد بن عقبة أخا عثمان لامه وهو الذى ولاه عثمان رضى الله عنه فى خلافته الكوفة بعد سعد بن أبى وقاص فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا ثم قال هل أزيدكم فعزله عثمان رضى الله عنه*

بعث قطبة بن عامر الى خثعم
وفى هذه السنة أمر قطبة بن عامر بن حديدة على عشرين رجلا وبعثه الى قبيلة خثعم بناحية بيشة قريبا من تربة بضم التاء وفتح الراء من أعمال مكة سنة تسع وأمره أن يشن الغارة عليهم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى فى الفريقين جميعا وقتل قطبة من قتل وساقوا الابل والغنم والسبى الى المدينة وقسموا الغنيمة بعد اخراج الخمس فوقع فى سهم كل واحد منهم أربع ابل وكل ابل بعشرة من الغنم*

بعث الضحاك بن سفيان الكلابى الى بنى كلاب
وفى ربيع الاوّل من هذه السنة بعث الضحاك بن سفيان الكلابى الى بنى كلاب الى القرطا فدعاهم الى الاسلام فأبوا فقاتلوهم وهزموهم وغنموا كذا فى المواهب اللدنية* وفى شواهد النبوّة بعث صلى الله عليه وسلم سرية الى بنى كلاب وكتب اليهم فى رق فلم ينقادوا وغسلوا الخط عن الرق وخاطوه تحت دلوهم فلما بلغ النبىّ صلى الله عليه وسلم الخبر قال مالهم أذهب الله عقولهم فلذا لا يوجد من بنى كلاب الا مختل العقل ومختلط الكلام وبعضهم بحيث لا يفهم كلامه* وفى شرف المصطفى للنيسابورى كما ذكره مغلطاى أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن عوسجة الى بنى عمرو بن حارثة وقيل حارثة بن عمرو وقال وهو الاصح فى مستهل صفر سنة تسع يدعوهم الى الاسلام فأبوا أن يجيبوا واستخفوا بالصحيفة فدعا عليهم النبىّ صلى الله عليه وسلم بذهاب العقل فهم اليوم أهل رعدة وعجلة وكلام مختلط كذا فى المواهب اللدنية*

بعث علقمة بن مجزز الى الحبشة
وفى ربيع الاخر وقال الحاكم فى صفر هذه السنة بعث علقمة بن مجزز المدلجى الى أهل الحبشة وقد أتوا الى نواحى جدة* ذكر ابن سعد ان سبب ذلك أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدّة فبعث اليهم علقمة بن مجزز فى ثلثمائة فانتهى بهم الى جزيرة فى البحر قيل هى كانت مسكن أولئك القوم فلما خاض البحر اليهم هربوا فلما رجع الى المدينة استعجل بعض الاصحاب وتقدّموا وكان عبد الله بن حذافة السهمى من المستعجلين وأمّره علقمة عليهم وكان امرأ فيه شىء من الهزل والمزاح فنزلوا منزلا فأوقدوا نارا يصطلون بها كذا فى بعض الكتب* وفى الاكتفاء بعث علقمة بن مجزز المدلجى لما قتل وقاص بن مجزز أخوه يوم ذى قرد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعثه فى آثار القوم ليدرك ثاره فيهم فبعثه فى نفر من المسلمين* قال أبو سعيد الخدرى وأنا فيهم حتى اذا بلغنا رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش وأمّر عليهم عبد الله بن حذافة السهمى وكان فيه دعابة فلما كان ببعض الطريق أو قد نارا ثم قال أليس لى عليكم السمع والطاعة قالوا بلى قال فما آمركم بشىء الا فعلتموه قالوا نعم قال فانى أعزم عليكم بحقى وطاعتى الا تواثبتم فى هذه النار فقام بعض القوم يحتجز حتى ظنّ انهم واثبون فيها فقال لهم اجلسوا فانما كنت أضحك معكم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه* وفى رواية قال لا طاعة فى معصية الله انما الطاعة فى المعروف ويقال ان علقمة بن مجزز رجع هو وأصحابه ولم يلق كيدا* وفى رواية بعث صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليها رجلا من الانصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب يوما وأمرهم بالدخول فى نار أوقدوها فلم يطيعوه فبلغه صلى الله عليه وسلم فقال لو دخلوها ما خرجوا منها الى يوم القيامة الطاعة فى المعروف*

بعث على بن أبى طالب الى الفلس
وفى ربيع الاخر من هذه السنة بعث علىّ بن أبى طالب الى الفلس بضم الفاء وسكون اللام وهو صنم لطى يهدمه وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الانصار على مائة بعير وخمسين فرسا وعند ابن سعد مائتى رجل فهدمه وغنم سبيا ونعما وشاء وسيد القبيلة عدى بن حاتم هرب الى الشام

(2/120)


وسبيت أخته سنانة بنت حاتم فى السبايا فأطلقها النبىّ صلى الله عليه وسلم فكان ذلك سبب اسلام عدى* وعند ابن سعد ان الذى سباها خالد بن الوليد ووجد علىّ فى خزانة الصنم ثلاثة أسياف يقال لأحدها الرسوب وللثانى المخذم وللثالث اليمانى فاصطفى الرسوب وأعطى المخذم للنبىّ صلى الله عليه وسلم صفى المغنم ثم قسم الباقى على أهل السرية* وفى هذه السنة بعث عكاشة بن محصن الى الحباب وهو موضع بالحجاز من أرض عذرة وبلى وقيل أرض فزارة وكلب ولعذرة فيها شركة كذا فى المواهب اللدنية*

إسلام كعب بن زهير
وفى هذه السنة أسلم كعب بن زهير وكان اسلامه فيما بين رجوع النبىّ صلى الله عليه وسلم من الطائف وغزوة تبوك وكان كعب ممن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم فتح مكة هرب ثم جاء فأسلم قال ابن اسحاق لما قدم النبىّ صلى الله عليه وسلم كتب بجير بن زهير الى أخيه كعب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه وانه قال من لقى منكم كعب بن زهير فليقتله فان كان لك فى نفسك حاجة فطر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانه لا يقتل أحدا جاءه وان أنت لا تفعل فانح الى نجاتك فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الارض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان فى حاضره من عدوّه فقال مقتول فلما لم يجد بدّا من شئ قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر خوفه وارجاف الوشاة به من عدوّه ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل من جهينة كانت بينه وبينه معرفة فغدا به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له هذا رسول الله قم اليه واستأمنه فقام وجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده فى يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال يا رسول الله ان كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه ان أنا جئتك به قال نعم قال أنا يا رسول الله كعب بن زهير قال ابن اسحاق فحدّثنى عاصم بن عمرو بن قتادة انه وثب عليه رجل من الانصار فقال يا رسول الله دعنى وعدوّ الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه عنك فانه قد جاءنا تائبا نازعا ثم قال قصيدته اللامية التى أوّلها
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيم اثرها لم يفد مكبول
ومنها
أنبئت ان رسول الله أوعدنى ... والعفو عند رسول الله مأمول
ان الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
وفى نهاية ابن الاثير عندها بدل اثرها وفى رواية أبى بكر بن الانبارى لما وصل الى قوله
ان الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
رمى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه وان معاوية بذل له فيها عشرة آلاف مثقال فقال ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا فلما مات كعب بعث معاوية الى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم قال وهى البردة التى عند السلاطين الى اليوم وكان كعب بن زهير من فحول الشعراء وأبوه زهير وابنه عقبة وابن ابنه العوّام بن عقبة كذا ذكره فى المواهب اللدنية
*

تتابع الوفود
وفى هذه السنة تتابع الوفود وفى الاكتفاء ما زال آحاد الوافدين وافداد الوفود من العرب يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أظهر الله دينه وقهر أعداءه ولكن انبعاث جماهيرهم الى ذلك انما كان بعد فتح مكة ومعظمه فى سنة تسع ولذلك كانت تسمى سنة الوفود كما قاله ابن هشام وذلك ان العرب كانت تتربص بالاسلام ما يكون من قريش فيه اذهم الذين كانوا نصبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه وكانوا امام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد اسماعيل وقادة العرب لا ينكرهم ذلك ولا ينازعون فيه فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودانت له

(2/121)


قريش وأذعنت للاسلام عرفت العرب انهم لا طاقة لهم بحربه وعداوته فدخلوا فى دين الله أفواجا يضربون اليه من كل وجه بقول الله تعالى لنبيه اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا جماعات فسبح بحمد ربك أى فاحمد الله على ما ظهر من دينك واستغفره انه كان توابا اشارة الى انقضاء أجله واقتراب لحاقه برحمة ربه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا كذلك قال ابن عباس وقد سأله عمر بن الخطاب عن هذه السورة فلما اجابه بنحو هذا المعنى قال عموما أعلم منها الا ما تعلم*

هجره صلى الله عليه وسلم نساءه
وفى هذه السنة هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وقال ما أنا بداخل عليكنّ شهرا وفى المواهب اللدنية وجحش شقه أى خدش وجلس فى مشربة له درجها من جذوع النخل وأتاه أصحابه يعودونه يصلى بهم جالسا وهم جلوس* وفى المنتقى وفى سبب ذلك قولان أحدهما ما روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى بيت حفصة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى زيارة أبيها فأذن لها فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مارية وأدخلها فى بيت حفصة وواقعها فلما رجعت حفصة أبصرت مارية فى بيتها مع النبىّ صلى الله عليه وسلم فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت وقالت انى رأيت من كانت معك فى البيت فغضبت وبكت فلما رأى النبىّ صلى الله عليه وسلم فى وجهها الغيرة قال لها اسكتى فهى علىّ حرام أبتغى بذلك رضاك وحلف أن لا يقربها وقال لها لا تخبرى أحدا بما أسررت اليك فأخبرت بذلك عائشة وقالت قد أراحنا الله من مارية فان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّمها على نفسه وقصت عليها القصة وكانت بينهما مصافاة وتظاهر فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعا وعشرين ليلة فى بيت مارية فنزل جبريل عليه السلام وقال له راجعها فانها صوّامة قوّامة وانها لمن نسائك فى الجنة* وفى رواية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية فى يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها اكتمى علىّ وقد حرّمت مارية على نفسى وأبشرك ان أبا بكر وعمر يملكان بعدى أمر أمتى فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين وقيل شرب عسلا عند حفصة فواطأت عائشة سودة وصفية فقلن له انما نشم منك ريح مغافير فحرم العسل فنزلت هذه الاية وهى يا أيها النبىّ لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغى مرضاة أزواجك الاية والثانى انه ذبح ذبحا فقسمته عائشة بين أزواجه فأرسلت الى زينب بنت جحش بنصيبها فردّته فقال لها زيديها فزادته ثلاث مرّات وكل مرّة تردّه فقال لا أدخل عليكنّ شهرا فاعتزل فى مشربة ثم نزل بعد تسع وعشرين ليلة فبدأ بعائشة فقالت له يا رسول الله كنت أقسمت ان لا تدخل علينا شهرا وانما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدّها عدّا فقال الشهر تسع وعشرون ليلة وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين*

غزوة تبوك
وفى رجب هذه السنة لستة أشهر وخمسة أيام خلت منها وقعت غزوة تبوك وهى آخر غزواته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ابن اسحاق وتبوك مكان معروف وهو نصف طريق المدينة الى دمشق وهى غزوة العسرة وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها وكانت يوم الخميس فى رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف وذكر البخارى لها بعد حجة الوداع خطأ من النساخ كذا فى المواهب اللدنية* وقصتها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزوة الطائف وعمرة الجعرانة مكث بالمدينة ما بين ذى الحجة الى رجب ثم أمر أصحابه بالتهيؤ الى غزوة الروم وذلك أنه قدم المدينة جماعة من الانباط بالدرمك والزيت وغير ذلك من متاع الشام فذكروا ان الروم قد جمعت بالشام جموعا كثيرة لقتال المسلمين وان هرقل قد رزق أصحابه لسنة وكان معهم بنو لخم وجذام وغسان وعاملة واجتمعوا وقدموا مقدّماتهم الى البلقاء وعسكروا بها وتخلف هرقل بحمص وكانوا كاذبين فى ذلك ولم يكن من ذلك شئ وانما ذلك شئ قيل لهم فأرجفوا به* وروى

(2/122)


الطبرانى من حديث عمران بن الحصين قال كانت النصارى كتبت الى هرقل ان هذا الرجل الذى خرج يدّعى النبوّة قد هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم فبعث رجلا من عظمائه وجهز معه أربعين ألفا كذا فى المواهب اللدنية فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمر الناس بالتأهب للشام والتجهز للمسير اليها وكان الزمان زمان حرّ وعسرة عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة المال وكان العشرة يتعقبون على بعير واحد وربما يمص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها وكانوا يعصرون الفرث ويشربونه من شدّة العطش وعن عمر بن الخطاب قال نزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ان الرجل لينحر بعيرا فيعصر فرثه ويشربه ويجعل ما بقى على كبده كذا فى معالم التنزيل وفى تفسير عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل قال فخرجوا فى قلة من الظهر فى حرّ شديد حتى انهم كانوا ينحرون البعير ويشربون ما فى كرشه من الماء فكان ذلك الوقت عسرة فى الماء والظهر والنفقة فسميت غزوة العسرة ولم يقع فى هذه الغزوة قتال ولكن فتحوا فى هذا السفر دومة الجندل وكانت الروم والشام من أعظم أعداء المسلمين وأهيبهم عندهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا غزا غزوة ورّى بغيرها الا غزوة تبوك فانه أخبر الناس بها وأظهر ليتأهبوا لها الاهبة ويستعدّوا لبعد السفر وشدّة الزمان وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الى القبائل من العرب والى أهل مكة وكانوا كلهم مسلمين فى هذا الوقت يستنفرهم الى الغزو وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده من المسلمين على الجهاد ورغبهم فيه وأمرهم بالصدقة فجاؤا بصدقات كثيرة وكان أوّل من جاء بها أبو بكر جاء بماله كله أربعة آلاف درهم وجاء عمر بنصف ماله وجاء العباس بن عبد المطلب بمال كثير وجاء طلحة بمال وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتى أوقية من الفضة وجاء سعد بن عبادة بمال وجاء محمد بن مسلمة بمال وجاء عاصم بن عدى بتسعين وسقا من تمر وجهز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش وكفاهم مؤنتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يضرّ عثمان بن عفان ما فعل بعد اليوم* وفى المواهب اللدنية وكان عثمان بن عفان قد جهز عيرا الى الشام فقال يا رسول الله هذه مائتا بعير باقتابها واحلاسها ومائتا أوقية فضة قال فسمعته يقول لا يضرّ عثمان ما فعل بعدها* وروى عن قتادة أنه قال حمل عثمان فى جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا وعن عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان بن عفان بألف دينار فى كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها فى حجره عليه الصلاة والسلام فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها فى حجره ويقول ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم خرجه الترمذى وقال حديث غريب وعند الفضائلى والملافى سيرته كما ذكره الطبرى فى الرياض النضرة من حديث حذيفة بعث عثمان يعنى فى جيش العسرة بعشرة آلاف دينار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصبت بين يديه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيديه ويقلبها ظهرا لبطن ويقول غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما هو كائن الى يوم القيامة ما يبالى ما عمل بعدها وجعل الرجل من ذوى اليسار يحمل الرهط من فقراء قومه ويكفيهم مؤنتهم وبعثت النساء بكل ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرطة وخواتيم والناس فى عسرة شديدة وقد طابت الثمار وأحنت الظلال والناس يحبون المقام ويكرهون الخروج لشدة الزمان وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالانكماش والجدّ وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم معسكره بثنية الوداع وكانوا ثلاثين ألفا وقال صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو فى جهازه للجدّ بن قيس وهو أحد بنى سلمة يا أبا قيس هل لك أن تخرج معنا لعلك تحتقب من بنات الاصفر الاحتقاب هو الاحتمال والمحتقب المردف كذا فى الصحاح فقال الجدّ لقد علم قومى انى من أشدّهم عجبا بالنساء وانى اذا رأيتهنّ لم أصبر عنهنّ فأذن لى فى المقام ولا تفتنى فأعرض رسول الله صلى الله
عليه

(2/123)


وسلم عنه وقال أذنت لك كذا فى الاكتفاء فجاء ابنه عبد الله بن الجدّ وكان بدريا وكان أخا معاذ بن جبل لأمّه وجعل يلوم أباه على ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال انت أكثر بنى سلمة مالا فما منعك أن تخرج فقال مالى وللخروج الى بنى الاصفر والله ما آمنهم وأنا فى منزلى هذا وانى عالم بالدوائر فقال له ابنه لا والله ما بك الا النفاق والله لينزلنّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك قرآن نفتضح به فأخذ نعله فضرب به وجه ابنه فلما نزلت فيه هذه الاية وهى قوله تعالى ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى الاية جاءه ابنه فقال له ألم أقل لك انه سوف ينزل فيك قرآن يقرؤه المسلمون فقال له أبوه اسكت يالكع والله لا أنفعك بنافعة أبدا والله لأنت أشدّ علىّ من محمد ثم جعل الجدّ يثبط قومه عن الجهاد ويمنعهم من الخروج ويقول لهم لا تنفروا فى الحرّ وفى الاكتفاء وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض لا تنفروا فى الحرّ زهادة فى الجهاد وشكافى الحق وارجافا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم وقالوا لا تنفروا فى الحرّ قل نار جهنم أشدّ حرّا لو كانوا يفقهون وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سليم اليهودى يثبطون الناس عنه فى غزوة تبوك فبعث اليهم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه وأمر أن يحرق البيت عليهم وفعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله واقتحم أصحابه فأفلتوا فقال الضحاك فى ذلك
وكادت وبيت الله نار محمد ... يشيط بها الضحاك وابن الأبيرق
وظلت وقد طبقت كبش سويلم ... انوء على رجلىّ كسرا ومرفقى
سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف ومن تشمل به النار يحرق
كذا فى الاكتفاء وجاء البكاؤن وهم سالم بن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى وعبد الرحمن بن كعب المازنى والعرباض بن سارية الفزارى وهرمى بن عبد الله وعمرو بن غنمة وعبد الله بن مغفل المزنى ويقال عبد الله بن عمرو المزنى وعمرو بن خمام ومعقل بن يسار المزنى وحضرمى بن مازن والنعمان بن سويد ومعقل وعقيل وسنان وعبد الرحمن بنو مقرن وهم الذين قال الله فيهم تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون قاله مغلطاى كذا فى المواهب اللدنية* وفى الاكتفاء وأنوار التنزيل اوردهم سبعة لكن على الاختلاف فى أسماء بعضهم ففى الاكتفاء سالم ابن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى وعبد الرحمن بن كعب المازنى وعمرو بن حمام وهرمى بن عبد الله وعبد الله بن مغفل المزنى ويقال عبد الله بن عمر والمزنى وعرباض بن سارية الفزارى* وفى أنوار التنزيل سبعة من الانصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلبة بن زيد وقيل هم ابناء مقرن مغفل وسويد والنعمان وقيل أبو موسى وأصحابه جاؤا يستحملون النبىّ صلى الله عليه وسلم وكانوا صالحاء وأهل فقر وحاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع الاية* وفى الاكتفاء ذكر أن يامين بن عمير النضرى لقى أبا ليلى بن كعب وابن مغفل وهما يبكيان فقال وما يبكيكما قالا جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوّى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه وزوّدهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم* وفى المنتقى زوّد كل واحد منهما صاعين من تمر وحمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثا بعد الذى كان جهز من الجيش وجاء أناس من المنافقين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى القعود عن الغزو فأذن لهم وهم بضعة وثمانون نفرا وجاء المعذرون من الاعراب فاعتذروا اليه فلم يعذرهم الله وذكر أنهم نفر من غفار فلما خرج رسول الله صلى الله

(2/124)


عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع فأقبل عبد الله بن أبى ابن سلول معه على حدة وضرب عسكره أسفل منه نحوذ باب جبل بالمدينة كذا فى القاموس وكان فيما يزعمون ليس بأقلّ العسركين ومعه حلفاؤه من اليهود والمنافقين ممن اجتمع اليه فأقام ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سار تخلف عنه فيمن تخلف من المنافقين ورجع الى المدينة وقال يغزو محمد مع جهد الحال والحرّ والبلد البعيد الى ما لا قبل له به يحسب قتال بنى الاصفر اللعب والله لكأنى أنظر الى أصحابه غدا مقرّنين فى الحبال وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب على أهله وأمره بالاقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا ما خلفه الا استثقالا له وتخفيفا منه فلما قالوا ذلك أخذ علىّ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال يا نبىّ الله زعم المنافقون انك انما خلفتنى انك استثقلتنى وتخففت منى فقال كذبوا ولكنى خلفتك لما تركت ورائى فارجع واخلفنى فى أهلى وأهلك أفلا ترضى يا على أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبىّ بعدى فرجع علىّ الى المدينة ومضى رسول الله صل يالله عليه وسلم على سفره كذا فى الاكتفاء وشرح المواقف وقال الشيخ أبو اسحاق الفيروزابادى فى عقائده أى حين توجه موسى الى ميقات ربه استخلف هارون فى قومه* وفى المنتقى استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى وقيل محمد بن مسلمة انتهى وقال الدمياطى استخلاف محمد بن مسلمة هو أثبت عندنا ممن قال استخلف غيره وقال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح التقريب لم يتخلف علىّ عن المشاهد الا فى تبوك فانّ النبىّ صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة وعلى عياله وقال له يومئذ أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبىّ بعدى وهو فى الصحيحين من حديث سعد بن أبى وقاص انتهى ورجحه ابن عبد البرّ واستخلف على العسكر أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه فلما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثنية الوداع متوجها الى تبوك عقد الالوية والرايات فدفع لواءه الاعظم الى أبى بكر ورايته العظمى الى الزبير ودفع راية الاوس الى أسيد بن حضير ولواء الخزرج الى أبى دجانة وقيل الى الحباب بن المنذر بن الجموح فساروا وهم ثلاثون ألفا وفيهم عشرة آلاف من الافراس* وفى المواهب اللدنية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل بطن من الانصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية وكان معه ثلاثون ألفا وعند أبى زرعة سبعون ألفا وفى رواية عنه أيضا أربعون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس وتخلف نفر من المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نفاق ولا ارتياب منهم كعب بن مالك أخو بنى سلمة ومرارة بن الربيع أخو بنى عمرو بن عوف وهلال بن أمية أخو بنى واقف وفيهم نزل وعلى الثلاثة الذين خلفوا وتخلف أبو ذرّ وأبو خيثمة ثم لحقاه بعد ذلك وسيجىء ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصبح ذا خشب فنزل تحت الدومة* وفى خلاصة الوفاء وذو خشب على مرحلة من المدينة تحت الدومة وكان دليله الى تبوك علقمة بن القعواء الخزاعى فقال صلى الله عليه وسلم تحت الدومة فراح منها ممسيا حيث أبرد وكان فى حرّ شديد وكان يجمع من يوم نزل ذا خشب بين الظهر والعصر فى منزله يؤخر الظهر حتى يبرد ويعجل العصر ثم يجمع بينهما وكان ذلك فعله حتى رجع من تبوك وفى كل منزل نزله اتخذ مسجدا وجميعها معروفة الى مسجد تبوك ثم انّ أبا خيثمة بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما رجع الى أهله فى يوم حارّ فوجد امرأتين له فى عريشين لهما فى حائط له رشت كل واحدة منهما عريشها وبرّدت له فيه ماء وهيأت له طعاما فلما دخل قام على باب العريش ونظر الى امرأتيه وما صنعتا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الضح والريح والحرّ وأبو خيثمة فى ظلّ بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء
فى ماله مقيم ما هذا بالنصف ثم قال والله لا أدخل على عريش واحدة منكما

(2/125)


حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا لى زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج فى طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك وقد كان أدرك أبا خيثمة فى الطريق عمير بن وهب الجمحى يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى اذا دنوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو خيثمة لعمير انّ لى ذنبا فلا عليك أن تخلف عنى حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى اذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة قالوا هو والله أبو خيثمة يا رسول الله فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى لك يا أبا خيثمة ثم أخبره خبره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ولما مضى من ثنية الوداع سائرا جعل يتخلف عنه رجال فيقال يا رسول الله تخلف فلان فيقول دعوه فان يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم وان يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرّ بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تشربوا من مائها ولا يتوضأ منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الابل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجنّ أحد منكم الليلة الا ومعه صاحب له ففعل الناس ما امرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أنّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الاخر فى طلب بعير له فأمّا الذى ذهب لحاجته فانه خنق على مذهبه وأمّا الذى ذهب فى طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلى طىء اللذين يقال لاحدهما أجأ ويقال للاخر سلمى فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألم أنهكم عن أن يخرج منكم أحد الا ومعه صاحبه ثم دعا للذى أصيب على مذهبه فشفى وأمّا الذى وقع بجبلى طىء فان طيئا أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة* وفى المنتقى لما وصل وادى القرى وقد أمسى بالحجر قال انها ستهب الليلة ريح شديدة لا يقومنّ منكم أحد الا مع صاحبه ومن كان له بعير فليوثقه بعقاله فهاجت ريح شديدة قد أفزعت الناس فلم يقم أحد الا مع صاحبه الا رجلين الى آخر ما ذكر ولما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم الا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم كذا فى الاكتفاء والمواهب اللدنية وقال فيه رواه الشيخان وكذا فى المنتقى عن ابن عمر وعبارته ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادى والحجر وادى قوم صالح وديارهم وهم ثمود الذين سكنوا ذلك الوادى وهو وادى القرى وهو بين المدينة والشام ولما ارتحل من الحجر أصبح ولا ماء معه ولا مع أصحابه وقد نزلوا على غير ماء فشكوا اليه العطش فاستقبل القبلة ودعا ولم يكن فى السماء سحابة فما زال يدعو حتى اجتمعت السحب من كل ناحية فما برح من مقامه حتى سحت السماء بالرواء فانكشفت السحابة من ساعتها فسقى الناس وارتووا عن آخرهم وملأوا الاسقية قيل لبعض المنافقين ويحك أبعد هذا شئ هل بقى عندك شئ من الريب فقال انما هى سحابة مارّة فارتحل النبىّ صلى الله عليه وسلم متوجها الى تبوك فأصبح فى منزل فضلت ناقته وهى القصوى فخرج أصحابه فى طلبها وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه يقال له عمارة بن حزم وكان عقبيا بدريا وهو عمّ ابن عمرو بن حزم وفى رحله زيد بن الصلت القينقاعى وكان يهوديا فأسلم ونافق فقال زيد وهو فى رحل عمارة وعمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس محمد يزعم أنه نبىّ ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده ان
رجلا قال هذا محمد يخبركم أنه نبىّ ويزعم أنه يخبر بأمر السماء وهو لا يدرى أين ناقته وانى والله لا أعلم الا ما علمنى

(2/126)


الله وقد دلنى الله عليها وهى فى الوادى من شعب كذا وكذا وأشار الى الشعب وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتونى بها فذهبوا فجاؤا بها رواه البيهقى وأبو نعيم فرجع عمارة بن حزم الى رحله فقال والله لعجب من شئ حدّثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه للذى قال زيد بن الصلت فقال رجل ممن كان فى رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتى فأقبل عمارة على زيد يجأ فى عنقه ويقول يا عباد الله انّ فى رحلى الداهية وما أشعر اخرج أى عدوّ الله من رحلى فلا تصاحبنى فزعم بعض الناس أنّ زيد اتاب بعد ذلك وقال بعضهم لم يزل متهما بشر حتى مات كذا فى الاكتفاء* وفى معالم التنزيل أوردها فى غزوة المر يسيع ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون يا رسول الله تخلف فلان فيقول دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وان يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه كما مرّ آنفا حتى قيل يا رسول الله تخلف أبو ذرّ وأبطأ به بعيره فقال دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه وتلوّم أبو ذرّ على بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال يا رسول الله هذا رجل يمشى فى الطريق وحده فقال صلى الله عليه وسلم كن أبا ذرّ فلما تأمّله القوم قالوا يا رسول الله هو والله أبو ذرّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله أبا ذرّ يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده فقضى الله سبحانه وتعالى انّ أبا ذرّ لما أخرجه عثمان رضى الله عنه الى الربدة وأدركته بها منيته لم يكن معه أحد الا امرأته وغلامه فأوصاهما أن غسلانى وكفنانى ثم ضعانى على قارعة الطريق فأوّل ركب يمرّ بكم فقولا هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا به كما أوصى فأقبل عبد الله بن مسعود فى رهط من العراق عمار فلم يرعهم الا بالجنازة على قارعة الطريق قد كادت الابل تطؤها فقام اليهم الغلام وقال هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه فاستهلّ عبد الله بن مسعود وهو يبكى ويقول صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشى وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه بالتراب ثم حدّثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره الى تبوك* وفى المنتقى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انكم ستأتون غدا ان شاء الله تعالى عين تبوك وانكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتى قال معاذ فجئناها وقد سبقنا اليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشئ قليل من الماء فسألهما النبىّ صلى الله عليه وسلم هل مستما من مائها شيئا فقالا نعم فقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم أمر برفع ماء منها فرفعوا له من تلك العين قليلا قليلا حتى اجتمع شىء ثم غسل صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجاءت العين بعد ذلك بماء كثير ببركة النبىّ صلى الله عليه وسلم فاستقى الناس وكفاهم* فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الجزية وأتاه أهل جرباء بالجيم وأذرح بالذال المعجمة والراء والحاء المهملة وهما بلدتان بالشام بينهما ثلاثة أيام فأعطوه الجزية وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم وفيه* بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبىّ رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم فى البرّ والبحر لهم ذمّة الله ومحمد النبىّ ومن كان معهم من أهل الشام وأهل
اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فانه لا يجوز ماله دون نفسه وانه لطيبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يسلكونه من برّ أو بحر*

سرية خالد بن الوليد الى اكيدر
وفى رجب هذه

(2/127)


السنة كانت سرية خالد بن الوليد الى اكيدر* روى أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من تبوك فى أربعمائة وعشرين فارسا الى اكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل وكان اكيدر ملكهم وكان من كندة وكان نصرانيا قال سعد دومة الجندل طرف من الشام بينها وبين دمشق خمس ليال وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة كما مرّ فى غزوة دومة الجندل وفى خلاصة الوفا قال أبو عبيدة دومة الجندل حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طىء ودومة الجندل من القريات من وادى القرى وذكران عليها حصنا حصينا يقال له مازن وهو حصن أكيدر الملك وجه اليه النبىّ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من تبوك فقال خالد بن الوليد يا رسول الله كيف لى به وسط بلاد كلب وانما أنا فى أناس يسير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستلقاه يصيد الوحش أو قال البقر فتأخذه فخرج خالد من تبوك وانصرف صلى الله عليه وسلم من تبوك راجعا الى المدينة فلما بلغ خالد قريبا من حصنه بمنظر العين وكانت ليلة مقمرة والوقت صيفا وكان أكيدر على سطح فى الحصن ومعه امرأته الرباب الكندية أقبلت البقر تحك بقرونها باب الحصن وأشرفت امرأته على باب الحصن فرأت البقر قالت ما رأيت كالليلة فأبصرها أكيدر* وفى الاكتفاء قالت امرأته هل رأيت مثل هذا قط قال لا والله قالت فمن يترك هذه قال لا أحد انتهى وكان يضمر لها الخيل شهرا فلما أبصرها نزل فأمر بفرسه فأسرج وأمر بخيل فأسرجت فركب معه نفر من أهل بيته ومعه أخوه حسان فخرجوا من حصنهم ومعهم مطاردهم فلحقهم خالد وخيله فاستأسر أكيدر وامتنع حسان فقاتل حتى قتل وهرب من كان معه فدخلوا الحصن وكان على حسان قباء مخوّص بالذهب فاستلبه خالد وبعث به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمناديل سعد فى الجنة خير من هذا وكان صلى الله عليه وسلم قال لخالد ان ظفرت بأكيدر لا تقتله وائت به الىّ فان أبى فاقتله فطاوعه أكيدر وقال له خالد هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم على ان تفتح لى دومة الجندل قال نعم لك ذلك فلما صالح خالد أكيدر وأكيدر فى وثاق ومصاد أخو أكيدر فى الحصن أبى مصاد أن يفتح باب الحصن لما رأى أخاه فى الوثاق فطلب أكيدر من خالد أن يصالحه على شئ حتى يفتح له باب الحصن وينطلق به وبأخيه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهما بما شاء فرضى خالد بذلك فصالحه أكيدر على ألفى بعير وثمانمائة فرس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح ففعل خالد وخلى سبيله ففتح له باب الحصن فدخله وحقن دمه ودم أخيه وانطلق بهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبىّ بالمدينة فلما قدم بهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحه على اعطاء الجزية وخلى سبيلهما وكتب لهما كتاب أمان* قال ابن منده وأبو نعيم كان أكيدر نصرانيا فأسلم وقال ابن الاثير بل مات نصرانيا بلا خلاف بين أهل السير فانه لما صالحه خالد عاد الى حصنه وبقى فيه وان خالدا حاصره زمن أبى بكر فقتله مشركا لنقضه العهد فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ثم انصرف الى المدينة كذا فى الاكتفاء* وفى المواهب اللدنية قال الدمياطى ومن قبله ابن سعد عشرين ليلة يصلى بها ركعتين ولم يلق كيدا وفى مسند أحمد ان هرقل كتب الى النبىّ صلى الله عليه وسلم انى مسلم فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم كذب هو على نصرانيته ولابى عبيدة بسند صحيح نحوه ولفظه فقال كذب عدوّ الله ليس بمسلم* وفى المواهب اللدنية كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا من تبوك الى هرقل يدعوه الى الاسلام فقارب الاجابة ولم يجب رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث أنس وفى المنتقى أقام بتبوك شهرين وكان ما أخبر به النبىّ صلى الله عليه وسلم

(2/128)


من تعبية هرقل جيشه ودنوّه الى أدنى الشام وعزمه على قتال النبىّ صلى الله عليه وسلم باطلا كذبا وبعث هرقل رجلا من غسان الى النبىّ صلى الله عليه وسلم ينظر الى صفته وعلامته والى حمرة عينيه والى خاتم النبوّة الذى بين كتفيه وسأل فاذا هو لا يقبل الصدقة فوعى الرجل أشياء من صفته صلى الله عليه وسلم ثم انصرف الى هرقل فأخبره بها فدعا هرقل قومه الى التصديق فأبوا عليه حتى خافهم على ملكه وأسلم هو سرّا منهم وامتنع من قتاله صلى الله عليه وسلم*

موت عبد الله ذى البجادين
وفى هذه السنة فى هذه الغزوة بتبوك مات عبد الله ذو البجادين المزنى وهو من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى الاكتفاء انما سمى ذا البجادين لانه كان ينازع الى الاسلام فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه حتى تركوه فى بجاد وليس عليه غيره والبجاد هو الكساء الغليظ الجافى فهرب منهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنتين فاتزر بواحدة واشتمل بالاخرى ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له ذو البجادين لذلك وفى القاموس البجاد ككتاب كساء مخطط وفى رواية كان قبل الاسلام بورقاء وهو جبل من جبال مزينة وكان فقيرا فقطعت أمه بجادا باثنتين فاتزر بواحدة وارتدى بالاخرى ثم أقبل الى المدينة فاضطجع فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السحر وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فأبصره فقال من أنت فقال عبد العزى وكان اسمه ذلك فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم أنت عبد الله ذو البجادين ثم قال له انزل منى قريبا وكان يكون فى أضيافه ويعلمه القرآن حتى قرأ قرآنا كثيرا وكان رجلا صيتا وكان يقوم فى المسجد فيرفع صوته بالقرآن فقال عمر يا رسول الله ألا تسمع الى هذا الاعرابى يرفع صوته بالقرآن فيمنع الناس القراءة فقال دعه يا عمر فانه خرج مهاجرا الى الله والى رسوله فلما خرجوا الى تبوك خرج معه وقال يا رسول الله ادع الله لى بالشهادة فقال ائتنى بلحاء سمرة أى قشرها كذا فى القاموس فأتاه بها فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربطها على عضده فقال اللهمّ انى أحرّم أو قال حرم دمه على الكفار قال يا رسول الله ليس هذا ما أردت قال انك اذا خرجت فى سبيل الله فأخذتك الحمى وقتلتك فأنت شهيد ولا تبال بأيه كان فلما نزلوا تبوك وأقاموا بها أياما أخذته الحمى فتوفى بها ودفن هناك بالليل وأخذ بلال شعلة من نار فوقف بها على القبر فكان عبد الله بن مسعود يحدّث قال قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك فرأيت شعلة من نار فى ناحية العسكر فاتبعتها أنظر اليها فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر واذا عبد الله ذو البجادين قدمات فاذاهم قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه وسلم نزل فى حفرته وأبو بكر وعمر يد ليانه اليه وهو يقول أدليا الىّ أخاكما فدلياه اليه فلما هيأه لشقه ووضعه فى اللحد قال اللهمّ انى قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه يقول عبد الله بن مسعود يا ليتنى كنت أنا صاحب هذه الحفرة* وفى المنتقى وهاجت ريح شديدة ليلا بتبوك فقال صلى الله عليه وسلم هذا لموت منافق عظيم النفاق ولما قدموا المدينة وجدوا منافقا عظيم النفاق قدمات* وفى المنتقى أيضا شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فى التقدّم والمسير اليهم فقال عمران كنت أمرت بالمسير فسر فقال صلى الله عليه وسلم لو أمرت به ما استشرتكم فيه فقال عمر يا رسول الله ان للروم جموعا كثيرة وليس بها أحد من أهل الاسلام وقد دنوت منه وأفزعهم دنوّك لو رجعت هذه السنة حتى ترى أو يحدث الله فى ذلك لك أمرا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيدا وكان فى الطريق ماء يخرج من وشل يروى الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادى المشفق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبقنا الى الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه فسبقه اليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه فلما أتاه رسول الله

(2/129)


صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئا فقال من سبقنا الى هذا فقيل يا رسول الله فلان وفلان قال أو لم أنهكم أن تستقوا منه شيئا حتى آتيه ثم لعنهم ودعا عليهم ثم نزل ووضع يده تحت الوشل فجعل يصب فى يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسح بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو به فانخرق من الماء يقول من سمعه ما ان له حسا كحس الصواعق فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بقيتم أو بقى منكم لتسمعن بهذا الوادى وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه وروى ان اثنى عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا من المنافقين فى مقفله صلى الله عليه وسلم من تبوك وقفوا على العقبة فى الطريق ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه جبريل وأمره أن يرسل اليهم من يضرب وجوه راحلتهم فأرسل حذيفة لذلك ففعل*

هدم مسجد الضرار
وفى هذه السنة كان هدم مسجد الضرار قال ابن اسحاق ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حتى نزل بذى أوان بفتح الهمزة بلفظ اوان الحين والزمان وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار كذا ذكره الطبرى وقال البكرى ما أحسب الا ان الراء سقطت من بين الواو والالف وأنه أروان منسوب الى البئر المشهورة جاءه خبر مسجد الضرار من السماء فبعث اليه من خرّبه وحرّقه وقصته ما روى انه لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء فبعثوا الى النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدهم اخوتهم بنو غنم بن عوف ابن غنم وكانوا من منافقى الانصار فقالوا نبنى مسجدا ونرسل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلى فيه كما صلى فى مسجد اخواننا وليصلى فيه أبو عامر الراهب اذا قدم من الشام وكان أبو عامر رجلا منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان قد ترهب فى الجاهلية وتنصر ولبس المسوح فلما قدم النبىّ صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر ما هذا الذى جئت به قال جئت بالحنيفية دين ابراهيم قال أبو عامر فانا عليها قال النبىّ صلى الله عليه وسلم فانك لست عليها قال بلى ولكنك أدخلت فى الحنيفية ما ليس منها فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم ما فعلت ولكنى جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر أمات الله الكاذب مناطر يدا وحيدا غريبا فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم نعم وسماه أبا عامر الفاسق فلما كان يوم أحد جاء أبو عامر فى خمسين رجلا من قومه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا أجد قوما يقاتلونك الا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله الى يوم حنين فلما انهزمت هوازن نكص وخرج هاربا الى الشام وأرسل الى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة وسلاح وابنو الى مسجدا فانى ذاهب الى قيصر ملك الروم فاتى بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فبنوا مسجدا الى جنب مسجد قباء وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلا جذام ابن خالد هو الذى من داره قد أخرج المسجد وثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وأبو حبيبة بن الازعر وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وحارثة بن عامر وابناه مجمع وزيد ونيتل بن الحارث ومجرح وبجاد ابنا عثمان ووديعة بن ثابت وكان يصلى فيه مجمع بن حارثة قال فلما فرغوا منه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز الى تبوك فقالوا يا رسول الله انا بنينا مسجدا الذى العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية وانا نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه وتدعو لنا بالبركة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا ان شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذى أو ان أتاه المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار فسألوه اتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن وأخبره الله عز وجل بخبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ابن الدخشم ومعن بن عدى وعامر بن السكن ووحشى قاتل حمزة وقال لهم انطلقوا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا اسراعا حتى أتوا سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال

(2/130)


لهم مالك أنظرونى حتى أخرج اليكم بنار من أهلى فأخذ سعفا من النخل وأشعل فيه نارا ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد فحرقوه وهدموه وتفرّق أهله عنه وأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك الموضع كناسا تلقى فيه الجيف والنتن والقمامة ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا طريدا غريبا وسأل عمر بن الخطاب رجلا منهم ماذا أعنت فى هذا المسجد فقال أعنت فيه بسارية فقال عمر أبشر بها فى عنقك فى نار جهنم* وروى ان بنى عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب فى خلافته ليأذن مجمع بن حارثة فيأمّهم فى مسجدهم فقال أليس بامام مسجد الضرار فقال له مجمع يا أمير المؤمنين لا تعجل علىّ فو الله لقد صليت فيه وانى لا أعلم ما أضمروا عليه فلو علمت ما صليت فيه معهم وكنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد غشوا نفاقهم وكانوا لا يقرؤن من القرآن شيئا فصليت ولا أحببت مما صنعوا شيئا الا انهم يتقرّبون الى الله ولا أعلم ما فى أنفسهم فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصلاة فى مسجد قباء فهذه قصة مسجد الضرار ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعى
وقد وهم بعض الرواة كما تقدّم وقال انما كان هذا فى مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من مكة وهو وهم ظاهر لان ثنيات الوداع انما هى من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة الى المدينة بل اذا توجه منها الى الشام وقد سبق البحث عنها فى أوّل مجيئه المدينة وفى البخارى لما رجع النبىّ صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال ان بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم حبسهم العذر ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على المدينة قال هذه طابة وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه فلما دخل المدينة جاءه من كان تخلف عنه فحلفوا له فعذرهم واستغفر لهم وأرجى أمر كعب وصاحبيه حتى نزلت توبتهم فى قوله تعالى لقد تاب الله على النبىّ والمهاجرين والانصار الى قوله وعلى الثلاثة الذين خلفوا وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة ابن الربيع وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك فى رمضان كذا فى الاكتفاء والله سبحانه وتعالى أعلم*

قصة كعب بن مالك
قصة كعب بن مالك وارجاء أمره* فى الاكتفاء قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك وقد كان تخلف عنه من تخلف من المنافقين وأولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كما مرّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعذرهم الله ولا رسوله فاعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة فحدّث كعب بن مالك قال ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة غزاها قط غير انى كنت تخلفت عنه فى غزوة بدر وكانت غزوة لم يعاتب الله فيها ولا رسوله أحدا تخلف عنها وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم انما خرج يريد عير قريش فجمع الله بينه وبين عدوّه على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة حين تواثقنا على الاسلام وما أحب أن لى بها مشهد بدر وان كانت غزوة بدر هى أذكر فى الناس منها وكان من خبرى حين تخلفت عنه فى غزوة تبوك انى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه تلك الغزوة والله ما اجتمعت لى راحلتان قط حتى اجتمعتا لى فى تلك الغزوة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها الا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حرّ شديد واستقبل غزو عدوّ كثير فجلا للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة وأخبرهم خبره بوجهه الذى يريد والمسلمون من تبع

(2/131)


رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يعنى بذلك الديوان وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار وأحنت الظلال والناس اليها صفر فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه وجعلت أغد ولأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة فأقول فى نفسى انى قادر على ذلك ان أردت فلم يزل ذلك يتمادى بى حتى شمر الناس بالجدّ وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازى شيئا فقلت لعلى أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق بهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بى حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليتنى فعلت فلم أفعل وجعلت اذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم يحزننى اننى لا أرى الا رجلا معموها عليه فى النفاق أو رجلا ممن عذره الله من الضعفاء ولم يذكرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس فى القوم بتبوك ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بنى سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر فى عطفيه فقال له معاذ بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا منه الا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلا حضرنى بثىّ فجعلت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا وأستعين على ذلك كل ذى رأى من اهلى فلما قيل لى انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما راح عنى الباطل وعرفت أنى لا أنجو منه الا بالصدق فأجمعت أن أصدقه وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان اذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المخلفون من الاعراب فجعلوا يحلفون له ويعتذرون وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم الى الله تعالى حتى جئت اليه فسلمت عليه فتبسم تبسم المغضب ثم قال لى تعال فجئت أمشى حتى جلست بين يديه فقال لى ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك فقلت بلى والله كنت اشتريت ظهرا وما كان لى من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عندك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضى الله فيك فقمت ثم سألت الناس هل وقع لاحد مثل ما وقع لى قالوا نعم رجلان كان حالهما مثل حالك فقالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع الضمرى وهلال بن أمية الواقفى فذكر والى رجلين صالحين فيهما اسوة ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبتنا الناس وتغيروا علينا فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فامّا صاحباى فاستكنا وقعدا فى بيوتهما يبكيان وأمّا أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف فى الاسواق ولا يكلمنى أحد وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة فأقول فى نفسى هل حرّك شفتيه بردّ السلام علىّ أم لا فبينما أنا أمشى بسوق المدينة اذا نبطى من أنباط أهل الشام ممن قدم المدينة بالطعام يبيعه يقول من يدلنى على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى اذا جاءنى فدفع الىّ كتابا من ملك غسان فاذا فيه أمّا بعد فانه قد بلغنى أنّ صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فألحق بنا نواسك فقلت بعد ما قرأت ذلك الكتاب هذا ايضا من البلاء فألقيته فى التنور وأحرقته حتى مضت أربعون من الخمسين فاذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانى فقال انّ رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل فقال لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل الى صاحبىّ مثل ذلك فقلت لامرأتى ألحقى بأهلك فتكونى عندهم حتى يقضى الله
فى هذا الامر فجاءت امرأة هلال

(2/132)


ابن أمية الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربنك فقالت والله انه ما به حركة الى شئ فو الله ما زال يبكى منذ كان من أمره ما كان الى يومه هذا فقال لى بعض أهلى لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدرينى ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا استأذنته وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كمل لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينما أنا جالس على الحالة التى ذكرها الله قد ضاقت علىّ نفسى وضاقت علىّ الارض بما رحبت سمعت صوت صارخ أو فى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أنه قد جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فلما جاء الذى سمعت صوته يبشرنى نزعت له ثوبىّ وكسوته اياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين غيرهما فلبستهما وانطلقت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقانى الناس فوجا فوجا يهنونى بالتوبة ودخلت المسجد فاذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحوله الناس فقام الىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنانى وما قام الىّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يبرق من السرور قال لى أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك فقلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال لا بل من عند الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا سرّ استنار وجهه حتى كأنه القمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله انّ من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة الى الله والى رسوله فقال صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فانى أمسك سهمى الذى بخيبر فقلت يا رسول الله انّ الله انما نجانى بالصدق وانّ من توبتى أن لا أحدّث الاصدقا ما بقيت وأنزل الله على رسوله لقد تاب الله على النبىّ والمهاجرين الى قوله وكونوا مع الصادقين فو الله ما أنعم الله علىّ من نعمة قط بعد أن هدانى للاسلام أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فانّ الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحى شرّ ما قال لاحد فقال سيحلفون بالله لكم اذا انقلبتم اليهم الى قوله فانّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين* قال كعب وكنا تخلفنا نحن الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه بذلك* قال الله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذى ذكر الله من تخلفنا التخلفنا عن الغزو وانما هو تخليفه ايانا وارجاؤه أمرنا وفى الاكتفاء ولكن لتخليفه ايانا وارجائه أمرنا عمن حلف له واعتذر اليه فقبل منه*

قصة اللعان
وفى هذه السنة كان اللعان وفى المواهب اللدنية ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وجد عويمرا بزيادة الراء بعد الميم هو عويمر بن ابيض العجلانى الانصارى صاحب اللعان كذا فى أسد الغابة وفى المنتقى عويمر ابن الحارث العجلانى امرأته حبلى فلا عن عليه السلام بينهما بعد العصر فى مسجده وقد كان قذفها بشريك بن سمحاء وعن ابن عباس لما نزلت والذين يرمون المحصنات الاية قرأها النبىّ صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدى الانصارى فقال جعلنى الله فداك ان رأى رجل منامع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين وسماه المسلمون فاسقا ولا تقبل شهادته أبدا فكيف لنا بالشهداء ونحن اذا التمسنا الشهداء كان الرجل قد فرغ من حاجته ومرّ وكان لعاصم هذا ابن عمّ

(2/133)


يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس فأتى عويمر عاصما وقال قد رأيت شريك بن السمحاء على بطن امرأتى خولة بنت قيس فاسترجع عاصم وأتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فى الجمعة الآخرى فقال يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذى سألت فى الجمعة الماضية فى أهل بيتى وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عمّ لعاصم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعا قال لعويمر اتق الله فى زوجتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان فقال يا رسول الله أقسم بالله انى رأيت شريكا على بطنها وانى ما قربتها منذ أربعة أشهر وانها حبلى من غيرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة اتقى الله ولا تخبرينى الا بما صنعت فقالت يا رسول الله ان عويمرا رجل غيور وانه رآنى وشريكا نطيل السهر ونتحدّث فحملته الغيرة على ما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لشريك ما تقول فقال مثل ما قالت المرأة فأنزل الله والذين يرمون أزواجهم الاية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودى الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر قم فقام فقال اشهد بالله انّ خولة لزانية وانى لمن الصادقين ثم قال فى الثانية أشهد بالله انى رأيت شريكا على بطنها وانى لمن الصادقين ثم قال فى الثالثة أشهد بالله بأنها حبلى من غيرى وانى لمن الصادقين ثم قال فى الرابعة أشهد بالله انى ما قربتها منذ أربعة أشهر وانى لمن الصادقين ثم قال فى الخامسة لعنة الله على عويمر يعنى نفسه ان كان من الكاذبين فيما قال ثم أمره بالقعود وقال لخولة قومى فقامت وقالت أشهد بالله ما أنا بزانية وانّ عويمرا لمن الكاذبين ثم قالت فى الثانية أشهد بالله أنه ما رأى شريكا على بطنى وانه لمن الكاذبين ثم قالت فى الثالثة أشهد بالله انى حبلى منه وانه لمن الكاذبين ثم قالت فى الرابعة أشهد بالله انه ما رآنى قط على فاحشة وانه لمن الكاذبين ثم قالت فى الخامسة أنّ غضب الله على خولة تعنى نفسها ان كان من الصادقين ففرّق صلى الله عليه وسلم بينهما وقال لولا هذه الأيمان لكان فى أمرهما رأى ثم قال تربصوا بها الى حين الولادة فان جاءت بأصيهب أثيج يضرب الى السواد فهو لشريك بن السمحاء وان جاءت بأورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذى رميت به* الا صيهب تصغير الاصهب وهو الاحمر الاثيج بالجيم تصغير الاثج وهو واسع الظهر وفى الصحاح الثج ما بين الكاهل الى الظهر يقال رجل جمالى وامرأة جمالية عظيم الخلق تشبيها بالجمل عظما وبدانة كذا فى الصحاح الخدلج العظيم الخدلجة المرأة الممتلئة الذراعين والساقين* قال ابن عباس فجاءت بأشبه خلق بشريك وفى رواية فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انظروا فان جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الاليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا الاصدق عليها وان جاءت به أحيمر كأنه وجرة فلا أحسب عويمرا الا كذب عليها فجاءت به على النعت الذى نعته صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر فكان بعد ذلك ينسب الى أمّه رواه محيى السنة*

اسلام ثقيف
وفى هذه السنة كان اسلام ثقيف فى الاكتفاء قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك فى رمضان وقدم فى ذلك الشهر وفد ثقيف وكانت ثقيف بعد قتلهم عروة بن مسعود أقامت أشهرا ثم انهم ائتمروا بينهم ورأوا انهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا فمشى عمرو بن أمية أخو بنى علاج وكان من أدهى العرب الى عبد ياليل بن عمرو حتى دخل داره وكان قبل مهاجرا له للذى بينهما ثم أرسل اليه أنّ عمرو بن أمية يقول لك اخرج الىّ فقال عبد ياليل للرّسول ويلك أعمر وأرسلك الىّ قال نعم وها هو ذا واقفا فى دارك قال انّ هذا شئ ما كنت أظنه لعمرو وكان أمنع فى نفسه من ذلك فخرج اليه فلما رآه رحب به فقال له عمرو انه قد نزل بنا ما ليست معه هجرة انه قد كان من هذا الرجل ما قد رأيت وقد أسلمت العرب كلها وليس لكم بحربهم طاقة فانظروا فى أمركم فعند ذلك ائتمرت ثقيف

(2/134)


بينها وقال بعضهم لبعض ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج لكم أحد الا اقتطع فائتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرسلوا عروة فكلموا عبد ياليل وكان سنّ عروة وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل وخشى أن يصنع به اذا رجع كما صنع بعروة فقال لست فاعلا حتى ترسلوا معى رجالا فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الاحلاف وثلاثة من بنى مالك فيكونون ستة فبعثوا مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب ومن بنى مالك عثمان بن أبى العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة فخرج بهم عبد ياليل وهو ناب القوم وصاحب أمرهم ولم يخرج بهم الا خشية من مثل ما صنعوا بعروة بن مسعود لكى يشغل كل رجل منهم اذا رجعوا الى الطائف رهطه فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة يرعى فى نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت رعيتها نوبا عليهم فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيين وصار يشتد يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم فلقيه أبو بكر الصدّيق قبل أن يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم يريدون البيعة والاسلام وأن يشترطوا شروطا ويكتبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فقال أبو بكر للمغيرة رضى الله عنهما أقسمت عليك بالله لا تسبقنى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدّثه ففعل المغيرة فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ثم خرج المغيرة الى أصحابه فروّح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفعلوا الا بتحية الجاهلية ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة فى ناحية مسجده كما يزعمون وكان خالد بن سعيد هو الذى يمشى بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اكتتبوا كتابهم كتبه خالد بيده وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية وهى اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى وانما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدمانها وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما كسر أوثانكم فسنعفيكم منها وأما الصلاة فانه لا خير فى دين لا صلاة فيه فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّر عليهم عثمان بن أبى العاص وكان من أحدثهم سنا فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله انى قد رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه فى الاسلام وتعلم القرآن فحدث عثمان بن أبى العاص قال كان من آخر ما عهد الىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثنى على ثقيف أن قال يا عثمان تجاوز فى صلاتك واقدر الناس بأضعفهم فانّ فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا راجعين الى بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية فحرجا مع القوم حتى اذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدّم أبا سفيان فأبى ذلك أبو سفيان وقال ادخل أنت على قومك وأقام أبو سفيان بماله بذى الهرم فلما دخل علاها يضربها بالمعول وقام دونه قومه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقلن* لتبكين دفاع* أسلمها الرضاع* لم يحسنوا المصاع* فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل الى أبى سفيان وحليها مجموع ومالها من
الذهب والجزع وقد كان أبو مليح بن عروة

(2/135)


وقارب بن الاسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريد ان فراق ثقيف وأن لا يجامعهم على شىء أبدا فأسلما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم توليا من شئتما فقالا لا نتولى الا الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالكما أبا سفيان بن حرب فقالا وخالنا أبا سفيان فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان والمغيرة الى هدم الطاغية سأل أبو مليح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضى عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فقال له قارب بن الاسود وعن الاسود يا رسول الله فاقضه وعروة والاسود أخوان لأب وأمّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انّ الاسود مات مشركا فقال قارب يا رسول الله لكن تصل مسلما ذا قرابة يعنى نفسه انما الدين علىّ وأنا الذى أطالب به فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان ان يقضى دين عروة والاسود من مال الطاغية فلما جمع المغيرة مالها ذكر أبا سفيان بذلك فقضى منه عنهما* هكذا ذكر ابن اسحاق اسلام أهل الطائف بعقب غزوة تبوك فى رمضان من سنة تسع قبل حج أبى بكر بالناس آخر تلك السنة وجعل ابن عقبة قدوم عروة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتله فى قومه واسلام ثقيف كل ذلك بعد صدر أبى بكر رضى الله عنه من حجه وبين حديثه وحديث ابن اسحاق بعض اختلاف رأيت ذكر حديث ابن عقبة وان كان أكثره معادا لاجل ذلك الاختلاف ثم أذكر بعده حجة أبى بكر فى الموضع الذى ذكرها فيه ابن اسحاق* قال موسى ابن عقبة فلما صدر أبو بكر من حجه بالناس قدم عروة بن مسعود الثقفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرجوع الى قومه فقال له انى أخاف أن يقتلوك قال لو وجدونى نائما ما أيقظونى فأذن له فرجع الى الطائف وقدمها عشاء فجاءته ثقيف يسلمون عليه فدعاهم الى الاسلام ونصح لهم فاتهموه وأغصوه وأسمعوه من الاذى ما لم يكن يخشاه منهم فخرجوا من عنده حتى اذا سحر وسطع الفجر قام عروة على غرفة فى داره وتشهد فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتله مثل عروة مثل صاحب يس دعا قومه الى الله فقتلوه وأقبل بعد قتله وفد من ثقيف بضعة عشر رجلاهم أشراف ثقيف وفيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ وفيهم عثمان بن أبى العاص وهو أصغر القوم حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يريدون الصلح حين رأوا أن قد فتحت مكة وأسلمت عامة العرب فقال المغيرة بن شعبة يا رسول الله أنزل علىّ قومى أكرمهم بذلك فانى الحازم فيهم قال لا أمنعك أن تكرم قومك ولكن تنزلهم حيث يسمعون القرآن ويرون الناس فأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد وبنى لهم خياما لكى يستمعوا القرآن ويروا الناس اذا صلوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا خطب لم يذكر نفسه فلما سمعه وفد ثقيف قالوا يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهد به فى خطبته فلما بلغه قولهم قال فانى أوّل من يشهد أنى رسول الله وكانوا يغدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم ويخلفون عثمان بن أبى العاص على رحالهم لانه أصغرهم وكان عثمان كلما رجع الوفد اليه وقالوا بالهاجرة عمد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الدين واستقرأه القرآن فاختلف اليه عثمان مرارا حتى فقه فى الدين وعلم وكان اذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد الى أبى بكر وكان يكتم ذلك من أصحابه فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبه ومكث الوفد يختلفون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم الى الاسلام فقال له كنانة بن عبد ياليل هل أنت تقاضينا حتى نرجع الى قومنا ثم نرجع اليه فقال نعم ان أنتم أقررتم
بالاسلام قاضيتكم والا فلا قضية ولا صلح بينى وبينكم قالوا رأيت الزنا فانا قوم نغترب ولا بدّ لنا منه قال هو عليكم حرام فانّ الله تعالى يقول ولا تقربوا الزنا انه

(2/136)


كان فاحشة وساء سبيلا قالوا فالربا قال والربا قالوا انه أموالنا كلها قال فلكم رؤس أموالكم فقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا ان كنتم مؤمنين قالوا فالخمر فانها عصير أرضنا فلا بدّ لنا منها قال فانّ الله تعالى حرّمها فقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون فارتفع القوم وخلا بعضهم الى بعض فقالوا ويحكم انا نخاف ان خالفناه يوما كيوم مكة انطلقوا فأعطوه ما سأل وأجيبوه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لك ما سألت أرأيت الربة ماذا نصنع فيها قال اهدموها فقالوا هيهات لو تعلم الربة انا نريد هدمها لقتلت أهلنا فقال عمر ويحك يا ابن عبد ياليل ما أحمقك انما الربة حجر قال انا لم نأتك يا ابن الخطاب ثم قال يا رسول الله تول أنت هدمها فانا نخاف أن نهدمها فقال كنانة ائذن لنا قبل يا رسول الله ثم ابعث فى آثارنا فانى أعلم بقومى فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمهم فقالوا يا رسول الله أمّر علينا رجلا يؤمّنا فأمّر عليهم عثمان بن ابى العاص لما رأى من حرصه على الاسلام وقد كان علم سورا من القرآن قبل أن يخرج* قال كنانة لاصحابه أنا أعلمكم بثقيف فاكتموهم اسلامكم وخوّفوهم الحرب والقتال وأخبروهم أنّ محمدا سألنا أمورا أبيناها عليه سألنا أن ن

هدم اللات ونبطل أموالنا فى الربا ونحرّم الخمر فخرجوا حتى اذا دنوا من الطائف خرجت اليهم ثقيف يتلقونهم فلما رأوهم قد ساروا العنق وقطروا الابل وتغشوا ثيابهم كهيئة القوم قد حربوا وكربوا قالت ثقيف بعضهم لبعض ما جاؤكم بخير فلما دخلوا حصنهم عمدوا اللات فجلسوا عندها واللات بيت كانوا يتعبدونه ويسترونه ويهدون له الهدى يضاهون به البيت الحرام ثم رجع كل واحد منهم الى أهله فجاء كل رجل حاميته من ثقيف فسألوه ماذا جئتم به قالوا أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما شاء قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودان الناس له فعرض علينا أمورا شدادا هدم اللات وترك الاموال فى الربا الا رؤس أموالكم وحرّم الخمر والزنا قالت ثقيف والله لا نقبل هذا أبدا فقال الوفد أصلحوا السلاح وتهيئوا للقتال وشيدوا حصونكم ورمّوها أى عمروها فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة تريد القتال ثم ألقى الله الرعب فى قلوبهم فقالوا والله ما لنا به طاقة أداخ العرب كلها فارجعوا اليه فأعطوه ما سأل وصالحوا عليه فلما رأى الوفد أنهم قد رغبوا واختاروا الأمن على الخوف وعلى الحرب قالوا لهم انا قد فرغنا من ذلك قد قاضيناه وأسلمنا وأعطانا ما أحببنا واشترطنا ما أردنا ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لكم ولنا فى سفرنا ومسيرنا اليه وفيما قاضيناه عليه فقالت ثقيف فلم كتمتم علينا هذا الحديث وغممتمونا بذلك أشدّ الغمّ قالوا أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان فأسلموا مكانهم واستسلموا
هدم اللات
فمكثوا أياما ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمّر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة فلما قدموا عليهم عمدوا اللات ليهدموها فتكفأت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال وهم لا يرون أنها تهدم ويظنون أنها ستمنع فقام المغيرة بن شعبة فقال لاصحابه لا ضحكنكم من ثقيف فأخذ الكرزن فضرب به ثم أخذ يرتكض فارتج أهل الطائف بضجة واحدة وقالوا أبعد الله المغيرة قد قتلته الربة وفرحوا حين رأوه ساقطا وقالوا من شاء منكم فليقرب وليجهد على هدمها والله لا تستطاع أبدا فوثب المغيرة فقال قبحكم الله يا معشر ثقيف انما هى لكاع حجارة ومدر ثم ضرب الباب فكسره ثم علا على سورها وعلا الرجال معه فمازالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالارض وجعل صاحب المفاتيح يقول ليغضبن الاساس فليخسفن بهم فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد عنى أحفر أساسها فحفروها حتى أخرجوا ترابها وأخذوا حليها وثيابها فبهتت ثقيف وانصرف الوفد الى رسول الله صلى الله عليه

(2/137)


وسلم بحليها وكسوتها فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه وحمد الله على نصرة نبيه واعزاز دينه
*

كتاب ملوك حمير
وفى هذه السنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك سنة تسع وهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذى رعين وهمدان ومعافر ورسولهم اليه صلى الله عليه وسلم مالك بن مرّة الرهاوى فى الصحاح القيل ملك من ملوك حمير دون الملك الاعظم* وفى القاموس أصله قيل كفيعل سمى به لانه يقول ما شاء فينفذ* وفى القاموس أيضا وذورعين ملك حمير ورعين كزبير حصن له أو جبل فيه حصن ومخلاف آخر باليمن قال الواقدى بعث زرعة ذى يزن الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن مرّة الرهاوى باسلام حمير ومفارقتهم الشرك وأهله وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره الى تبوك يقول انى بشرت بالكنزين فارس والروم وأمددت بالملوك ملوك حمير يأكلون فىء الله ويجاهدون فى سبيل الله فلما قدم مالك بن مرّة باسلامهم كتب اليهم* بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله النبىّ الى الحارث بن كلال والى نعيم بن كلال والى النعمان قيل ذى رعين ومعافر وهمدان أمّا بعد ذلكم فانى أحمد اليكم الله الذى لا اله الا هو أمّا بعد فانه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة فبلغ ما أرسلتم به وخبر ما قبلكم وأنبأنا باسلامكم وقتلكم المشركين وانّ الله قد هداكم بهداه ان أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم النبىّ صلى الله عليه وسلم وصفيه وما كتب على المؤمنين من الصدقة وبين لهم صدقة الزرع والابل والبقر والغنم ثم قال فمن زاد خيرا فهو خير له ومن أدّى ذلك وأشهد على اسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فانه من المؤمنين له مالهم وعليه ما عليهم ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فانه لا يردّ عنها وعليه الحزية على كل حال ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار واف من قيمة المعافر أو عوضه ثيابا فمن أدّى ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فان له ذمة الله وذمة رسوله ومن منعه فانه عدوّ لله ولرسوله أما بعد فانّ محمدا النبىّ أرسل الى زرعة ذى يزن أن اذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر ومالك بن مرّة وأصحابهم واذا جمعوا عندكم من الصدقة أو الجزية من مخاليفكم فأبلغوها رسلى فان أميرهم ابن جبل فلا ينقلبن الا راضيا أمّا بعد فانّ محمدا يشهد أن لا اله الا الله وأنه عبده ورسوله ثم انّ مالك بن مرّة الرهاوى قد حدّثنى انك قد أسلمت من أوّل حمير وقتلت المشركين فأبشر بخبر وآمرك بحمير خيرا ولا تخاونوا و* لا تخاذلوا فانّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مولى غنيكم وفقيركم وانّ الصدقة لا تحلّ لمحمد ولا لأهل بيته انما هى زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل وان مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الطيب وآمركم به خيرا وانى قد أرسلت اليكم من صالحى أهلى وخيرتهم وأولى علمهم وآمركم بهم حيرا فانه منظور اليهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته* فهذا ما ذكره ابن اسحاق من شأن ملوك حمير وما كتبوا به وكتب اليهم وذكر الواقدى أيضا نحوه ولا ذكر للمهاجرين أبى أمية فى شئ من ذلك الا أنّ ابن اسحاق والواقدى ذكرا أن قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقدمه من تبوك وذلك فى سنة تسع وتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل الى الملوك انما كان بعد انصرافه من الحديبية آخر سنة ست فلعلّ المهاجر والله أعلم كان توجهه حينئذ الى الحارث بن عبد كلال فصادف منه عامئذ تردّدا واستنظارا ثم جلا الله عنه العمى فيما بعد وآثره بهدايته فاستبان له القصد فعند ذلك أرسل هو وأصحابه باسلامهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك يجتمع الامران ويصح الخبران اذ لا خلاف بين أهل العلم بالاخبار والعناية بالسير أنّ ملوك حمير أسلموا وكتبوا باسلامهم
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما انه لا خلاف بينهم أيضا فى توجيه

(2/138)


المهاجرين أبى أمية المخزومى وهو شقيق أمّ سلمة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم الى الحارث بن عبد كلال ويقول بعض من ذكر ذلك أنّ المهاجر لما قدم عليه قال له يا حارث انك كنت أوّل من عرض عليه النبىّ صلى الله عليه وسلم نفسه فخطئت عنه وأنت أعظم الملوك قدرا فاذا نظرت فى غلبة الملوك فانظر فى غالب الملوك واذا سرّك يومك فخف غدك وقد كانت قبلك ملوك ذهبت آثارها وبقيت أخبارها عاشوا دهرا طويلا وأملوا أملا بعيدا وتزوّدوا قليلا منهم من أدركه الموت ومنهم من أكلته النقم وانى أدعوك الى الرب الذى ان أردت الهدى لم يمنعك وان أرادك لم يمنعك منه أحد وأدعوك الى النبىّ الأمىّ الذى ليس شئ أحسن مما يأمر به ولا أقبح مما ينهى عنه واعلم انّ لك ربا يميت الحىّ ويحيى الميت ويعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور فقال الحارث قد كان هذا النبىّ عرض علىّ نفسه فخطئت وقد كان ذخرا لمن صار اليه وكان أمره أمر اسبق فحصره اليأس وغاب عنه الطمع ولم تكن لى قرابة أحتمله عليها ولا لى فيه هوى أتبعه له غير أنى أرى أمرا لم يؤسسه الكذب ولم يسنده الباطل له بدء سارّ وعاقبة نافعة وسأنظر*

رجم الغامدية
وفى هذه السنة رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة الغامدية روى ان امرأة من غامد من أزد جاءت الى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبىّ الله انى قد زنيت وأنا أريد أن تطهرنى فقال لها النبىّ صلى الله عليه وسلم ارجعى فلما كان من الغدأتته أيضا واعترفت عنده بالزنا كما قالت له أوّل يوم فقال لها النبىّ صلى الله عليه وسلم ارجعى فلما كان من الغدأتته ايضا فاعترفت عنده بالزنا وقالت يا نبىّ الله طهرنى فلعلك تردّنى كما رددت ماعز بن مالك فو الله انى لحبلى من الزنا* وقصة ماعز بن مالك أنه جاء الى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله طهرنى فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم ويحك ارجع فاستغفر الله وتب اليه فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرنى فقال له النبى صلى الله عليه وسلم مثل ذلك حتى اذا كانت الرابعة قال له النبىّ صلى الله عليه وسلم مم أطهرك قال من الزنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبه جنون فأخبر انه ليس بمجنون قال أشرب الخمر فقام رجل واستنكه فمه فلم يجد منه ريح خمر قط فقال أزنيت قال نعم* وعن ابن عباس أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال له لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال لا قال أنكتها لا يكنى قال نعم فأمر برجمه فرجم فلبثوا يومين أو ثلاثة أيام ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال استغفروا لما عز بن مالك لقد تاب توبة لو قسمت بين أمّة محمد لوسعتهم* ولما قالت الغامدية انى لحبلى من الزنا قال لها النبىّ صلى الله عليه وسلم ارجعى حتى تلدى فلما ولدت جاءت بالصبىّ تحمله فقالت يا نبىّ الله هذا الولد ولدته فقال لها اذهبى به فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته جاءت بالصبىّ فى يده كسرة خبز قالت يا نبىّ الله هذا فطمته فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بالصبىّ فدفع الى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها حفرة وجعلت فيها الى صدرها ثم أمر الناس أن يرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها فسمع النبىّ صلى الله عليه وسلم سبه اياها فقال مهلا يا خالد لا تسبها فو الذى نفسى بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له فأمر بها فصلى عليها ودفنت*

وفاة النجاشى
وفى رجب هذه السنة توفى النجاشى* فى المغرب النجاشى ملك الحبشة بتخفيف الياء سماعا من الثقات وهو اختيار الفاريابى وعن صاحب التكملة بالتشديد وعن الغورى كلتا اللغتين وأما تشديد الجيم فخطأ واسمه أصحمة وهو الذى هاجر اليه المسلمون وأسلم وله الافعال الجميلة والاعانة للمسلمين فنعاه النبى صلى الله عليه وسلم الى المسلمين وخرج الى المصلى وصف أصحابه خلفه وكبر عليه أربع تكبيرات* روى أنه رفع الحجاب حتى يراه الصحابة على سريره بالحبشة وهم بالمدينة* وروى انه لما مات النجاشى لا يزال يرى على قبره نور وقد مرّ فى الموطن السادس* وفى سيرة مغلطاى قد روى الصلاة على الغائب تسعة من الصحابة

(2/139)


أو هريرة وابن عباس وأنس وبريدة وزيد بن ثابت وعامر بن ربيعة وأبو قتادة وسهيل بن حنيف وعبيدة ابن الصامت وحديثه مرسل كذا قال السهيلى وزيد عليه يزيد بن ثابت وعقبة بن عامر وأبو سعيد الخدرى وسعيد بن المسيب وان كان حديثه مرسلا فقد أسند*

وفاة أم كلثوم
وفى هذه السنة توفيت أمّ كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوّلا تزوّجها عتيبة بن أبى لهب قبل النبوّة فلما نزلت تبت يدا أبى لهب وتب قال له أبوه رأسى من رأسك حرام ان لم تطلق ابنته ففارقها ولم يكن دخل بها بعد وقد مرّ فى الباب الثالث فى السنة الخامسة والعشرين من المولد ولم تزل أم كلثوم بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم هاجرت الى المدينة فلما توفيت رقية خلف عليها عثمان أم كلثوم فى السنة الثالثة من الهجرة وماتت عنده فى هذه السنة التاسعة فغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب وأم عطية* روى انه لما توفيت أمّ كلثوم حزن عثمان حزنا شديدا قال صلى الله عليه وسلم لو كانت عندى ثالثة لزوّجتكها يا عثمان وجلس صلى الله عليه وسلم على قبرها وقال محمد بن عبد الرحمن بن زرارة رأيت عينيه تدمعان وقال صلى الله عليه وسلم هل منكم أحد لم يقارف الليلة أهله فقال أبو طلحة أنا يا رسول الله فقال انزل يعنى وارها فنزل فى قبرها أبو طلحة*

وفاة ابن سلول
وفى هذه السنة مات عبد الله بن أبى بن الحارث بن عبيد المشهور بابن سلول امرأة من خزاعة وهى أمّ أبى بن مالك بن سالم بن غنم بن عمرو بن الخزرج كان عبد الله سيد الخزرج فى آخر جاهليتهم فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد جمعوا له خرزا يتوجّونه فحسد ابن أبى ابن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم ونافق فاتضع شرفه وهو ابن خالة أبى عامر الراهب وكان لعبد الله بن أبى ابن اسمه عبد الله أيضا فأسلم وشهد بدرا وكان يغمه حال أبيه وتثقل عليه صحبة المنافقين فمرض ابن أبى عشرين يوما بعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ومات فى ذى القعدة وقد مرّ فى الموطن الخامس انه مات فى السنة الخامسة فأتاه النبىّ صلى الله عليه وسلم فشهده وصلى عليه ووقف على قبره وعزى ابنه عليه عند القبر* وروى انه بعث عبد الله ابن أبى ابن سلول الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه فلما دخل عليه قال أهلكك حب يهود قال يا رسول الله انى لم أبعث اليك لتؤذينى ولكنى بعثت اليك لتستغفرلى فسأله أن يكفنه فى قميصه ويصلى عليه* وروى انه لما مات ابن أبى دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه وثب اليه عمر وقال يا رسول الله أتصلى على ابن أبى وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا وعدّد قوله فتبسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخر عنى يا عمر فلما أكثر عليه قال انى خيرت فاخترت ولو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث الا يسيرا حتى نزلت الايتان من براءة ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره الى قوله وهم فاسقون قال عمر فعجبت من جراءتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم* وعن جابر بن عبد الله قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبى بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضع على ركبتيه ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه وكان كسا عباسا قميصا* وعن أبى هريرة كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال له ابن عبد الله يا رسول الله ألبسه قميصك الذى يلى جسدك* وعن جابر قال لما كان يوم بدر وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبى يقدر عليه كساه النبىّ صلى الله عليه وسلم اياه فلذلك نزع النبىّ صلى الله عليه وسلم قميصه الذى لبسه وألبسه له* وقال ابن عيينة كانت له عند النبىّ صلى الله عليه وسلم يد وأحب أن يكافئه* وروى ان النبىّ صلى الله عليه وسلم كلمه أصحابه فيما فعل لعبد الله بن أبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يغنى عنه قميصى وصلاتى والله انى كنت أرجو أن يسلم به ألف من

(2/140)


قومه وكان كما رجا صلى الله عليه وسلم فان الخزرج لما رأوه عند وفاته يستشفى بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم ألف رجل منهم*

حج أبى بكر بالناس
وفى ذى القعدة الحرام من هذه السنة على القول الاصح حج أبو بكر ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد ووافقه عكرمة بن خالد فيما أخرجه الحاكم فى الاكليل وقال قوم فى ذى الحجة الحرام وبه قال الداودى والثعلبى والماوردى ومحمد بن سعد ويؤيده ان ابن اسحاق صرّح بأن النبىّ صلى الله عليه وسلم أقام بعد ما رجع من تبوك رمضان وشوّالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر على الحج فهو ظاهر فى أن بعث أبى بكر كان بعد انسلاخ ذى القعدة فيكون حجه فى ذى الحجة على هذا والله أعلم ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العام القابل فى ذى الحجة فذلك حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض وذلك ان العرب كانوا يستعملون النسىء فيؤخرون الحج الى صفر ثم كذلك حتى تتدافع الشهور فيستدير التحريم على السنة كلها وقد مرّ فى الركن الاوّل فى تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم* وفى أنوار التنزيل النسىء تأخير حرمة الشهر الى شهر آخر كانوا اذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الشهر واعتبروا مجرّد العدد ولما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج خرج فى ثلثمائة رجل من المدينة وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بدنة فلما كان بالعرج لحقه على بن أبى طالب* روى النسائى عن جابر ان النبىّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه حتى اذا كنا بالعرج ثوّب بالصبح فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره فوقف عن التكبير وقال هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجذعاء لقد بدا لرسول صلى الله عليه وسلم فى الحج فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلى معه فاذا علىّ عليها فقال أبو بكر أمير أم رسول قال لا بل رسول أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرأها على الناس فى موقف الحج* وفى الاكتفاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم ونزلت بعد بعثه اياه سورة براءة فى نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذى كانوا عليه فيما بينهم وبينه أن لا يصدّ عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد فى الشهر الحرام وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين أهل الشرك وكان بين ذلك عهود خصائص بينه وبين قبائل العرب الى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عن تبوك وفى قول من قال منهم فكشف الله سرائر قوم كانوا يستخفون بغير ما يظهرون فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو بعثت بها الى أبى بكر فقال لا يؤدّى عنى الا رجل من أهل بيتى ثم دعا بعلى بن أبى طالب فقال اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن فى الناس بالحج يوم النحر اذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو الى مدّته فخرج علىّ رضى الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصدّيق فى الطريق فلما رآه أبو بكر قال أمير أو مأمور قال بل مأمور فمضيا حتى قدما مكة فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدّثهم عن مناسكهم حتى اذا فرغ قام علىّ فقرأ على الناس البراءة التى أرسلها معه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها* وفى الوفاء فمضى أبو بكر فحج بالناس* وفى الاكتفاء فأقام أبو بكر للناس الحج والعرب فى تلك السنة على منازلهم من الحج التى كانوا عليها فى زمن الجاهلية حتى اذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن فى الناس بالذى أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيه ليرجع كل قوم الى مأمنهم وبلادهم ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة الا أحد كان له

(2/141)


عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد انى مدّة فهو الى مدّته فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان وكانت البراءة تسمى فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس ثم رجعا اى أبو بكر وعلى قافلين الى المدينة* وفى هذه السنة قتلت فارس ملكهم شهريار ابو شيرويه وملكوا عليهم بوران بنت كسرى كذا فى مورد اللطافة والله أعلم
*