تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس

(الفصل الثانى فى ذكر الخلفاء الراشدين وخلفاء بنى أمية والعباسيين)
** (ذكر أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه) *
يقال كان اسمه فى الجاهلية عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله كذا فى المواهب اللدنية والمختصر الجامع وغيرهما وقيل اسمه عتيق بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرّة يلتقى هو ورسول الله فى مرّة بن كعب بين كل منهما وبين مرّة ستة أشخاص وأمّه أمّ الخير سلمى بنت صخر بن عامر وهى بنت عمّ أبى قحافة وقيل اسمها ليلى بنت صخر بن عامر قاله محمد ابن سعد كذا فى أسد الغابة أسلمت قديما حين كان المسلمون فى دار الارقم* وفى الكشاف وأنوار التنزيل فى تفسير قوله تعالى رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىّ وعلى والدىّ الى آخرها قيل نزلت فى أبى بكر وفى أبيه أبى قحافة وأمّه أمّ الخير وفى أولاده واستجابة دعائه فيهم وقيل لم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين والانصار أسلم هو ووالده وبنوه وبناته غير أبى بكر* وفى تسميته بعتيق خمسة أقوال* أحدها ما روى عن عائشة انّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نظر اليه فقال هذا عتيق من النار* الثانى لجمال وجهه العتق الجمال قاله الليث بن سعد وقتيبة* الثالث أنه اسم سمته به أمّه قاله موسى بن طلحة بن عبيد الله قال كانت أمّه لا يعيش لها ولد فلما ولدته استقبلت به البيت ثم قالت اللهمّ هذا عتيقك من الموت فهبه لى فعاش فسمته عتيقا وكان يعرف به رواه الخجندى فى الاربعينية وغيره* قال الازدى وكانت أمّه اذا هزته قالت عتيق وما عتيق ذو المنظر الانيق رشفت منه ريق كالزرنب الفتيق كذا فى سيرة مغلطاى وقيل كان له أخوان عتق وعتيق فسمى باسم أحدهما ذكره البغوى فى معجمه* الرابع قال مصعب وطائفة من أهل النسب انما سمى عتيقا لانه لم يكن فى نسبه شئ يعاب به* الخامس قال أبو نعيم الفضل بن دكين سمى بذلك لأنه قديم الخير والعتيق القديم كذا فى الرياض النضرة وسماه النبىّ صلى الله عليه وسلم صديقا فقال يكون بعدى اثنتا عشرة خليفة أبو بكر الصدّيق لا يلبث الا قليلا وكان على بن أبى طالب يحلف بالله انّ الله أنزل اسم أبى بكر من السماء الصدّيق كذا فى الصفوة وغيره لتصديقه خبر الاسراء* وفى سيرة مغلطاى لتصديقه النبىّ عليه الصلاة والسلام وقيل انّ الله صدّقه* قال ابن دريد وكان يلقب ذا الخلال لعباءة كان يخللها على صدره*

(ذكر صفته)
* كان رجلا نحيفا خفيف اللحم أبيض خفيف العارضين معروق الوجه ناتئ الجبهة غائر العينين اجنأ لا يستمسك ازاره يسترخى عن حفّوه عارى الاشاجع يخضب بالحناء والكتم كذا فى الصفوة وغيرها* وعن قيس بن أبى حازم قال قدمت على أبى بكر مع أبى فى مرضه الذى مات فيه فرأيته رجلا أسمر خفيف اللحم خرجه أبو بكر بن مخلد والمشهور ما تقدّم من أنه كان أبيض كذا فى الرياض النضرة* وفى رواية كان آدم طويلا وكان أصغر من النبىّ صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث أسلم وهو ابن سبع وثلاثين أو ثمان وثلاثين وعاش فى الاسلام ستا وعشرين سنة وكانت ولادته بمنى بعد الفيل* قال أبو اسحاق الشيرازى فى طبقاته لم يكن أحد يفتى بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم غيره ومع ما به من العناية أنه تنزه عن شرب المسكر فى الجاهلية والاسلام* قوله معروق الوجه أى قليل اللحم حتى ينبين حجم العظم أجنأ بالجيم والهمزة أى منحنيا وأحنى بالحاء غير مهموز بمعناه الحقو الكشح وقد يسمى الازار حقوا للمجاورة لانه يشدّ على الحقو الاشاجع جمع أشجع كأحمد واصبع وهى أصول الاصابع التى تتصل بعصب ظاهر الكف والكتم بالتحريك نبت كذا فى الرياض النضرة والقاموس*

(ذكر خلافته)
* فى شرح العقائد العضدية للشيخ جلال الدين الدوانى روى أنّ بعض الصحابة قد اجتمعوا يوم وفاة رسول الله فى سقيفة بنى ساعدة قال الانصار للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير فقال لهم أبو بكر منا

(2/199)


الامراء ومنكم الوزراء واحتج عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش فاستقرّ رأى الصحابة بعد المشاورة والمراجعة على خلافة أبى بكر وأجمعوا على ذلك وبايعه على ذلك علىّ ولقبه بخليفة رسول الله بعد توقف منه فصارت امامته مجمعا عليها غير مدافع* وفى مورد اللطافة قيل انّ الذين أطلق عليهم اسم الخليفة ثلاثة آدم وداود عليهما السلام بلفظ القرآن وأبو بكر باجماع المسلمين ولم ينص رسول الله صلى الله عليه وسلم على امامة أحد وفوّض أمرها الى الأمّة وقوله عليه السلام اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر ليس نصا عليهما وقوله عليه السلام لعلىّ أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبىّ بعدى لا يدل على كونه خليفة له بعد وفاته بل المراد به أنه خليفة له حين غيبته فى غزوة تبوك كما كان هارون خليفة لموسى حين غيبته عن قومه* وفى الصفوة والرياض النضرة ذكر الواقدى عن أشياخه أنّ أبا بكر بويع يوم قبض رسول الله يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الاوّل سنة احدى عشرة من مهاجره عليه السلام* وفى التذنيب للرّافعى تولى الخلافة اليوم الثانى من وفاة النبىّ صلى الله عليه وسلم لاثنتى عشرة ليلة خلت من أوّل سنة احدى عشرة من الهجرة* وفى الرياض النضرة قال ابن قتيبة بويع أبو بكر بالخلافة يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سقيفة بنى ساعدة وبويع بيعة العامّة على المنبر يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم* وفى شرح العقائد العضدية للشيخ جلال الدين الدوانى مدّة خلافته سنتان وأربعة أشهر وقيل سنتان وثلاثة أشهر وسبعة أو ستة أيام وقيل عشرة أيام* وفى سيرة مغلطاى ولى الخلافة سنتين ونصفا وقيل أربعة أشهر الا عشرة أيام وقيل الا أربعة أيام وقيل غير ذلك وبعث عمر بالحج فحج بالناس سنة احدى عشرة وحج بالناس أبو بكر سنة ثنتى عشرة كذا فى الرياض النضرة* وفى البحر العميق عن الواقدى عن أشياخه أنّ أبا بكر استعمل عمر على الحج سنة احدى عشرة فحج بالناس ثم اعتمر أبو بكر فى رجب سنة ثنتى عشرة ثم حج فيها بالناس واستخلف على المدينة عثمان* وفى الرياض النضرة ذكر صاحب الصفوة أنه اعتمر فى رجب سنة ثنتى عشرة فدخل مكة ضحوة وأتى منزله وأبو قحافة جالس على باب داره ومعه فتيان يحدّثهم فقيل له هذا ابنك فنهض قائما وعجل أبو بكر أن ينيخ راحلته فنزل عنها فجعل يقول يا أبت لا تقم ثم التزمه وقبل بين عينى أبى قحافة وجعل أبو قحافة يبكى فرحا بقدومه وجاء أهل مكة عتاب ابن أسيد وسهيل بن عمرو وعقبة وعكرمة بن أبى جهل والحارث بن هشام فسلموا عليه سلام عليك يا خليفة رسول الله وصافحوه جميعا فجعل أبو بكر يبكى حين يذكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على أبى قحافة فقال أبو قحافة يا عتيق هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم* الملأ الجماعة ويطلق على أشراف القوم لانهم يملأون القلب والعين فقال أبو بكر يا أبت لا حول ولا قوّة الا بالله طوّقت عظيما من الامر لا قوّة لى به ولا يدان الا بالله وقال هل أحد يشتكى ظلامته فما أتاه أحد وأثنى الناس على واليهم وكان حاجبه سديدا مولاه وكاتبه عثمان بن عفان وعبد الله بن الارقم قاله ابن عباس* وفى رواية وكان قاضيه عمر بن الخطاب وكاتبه عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وحاجبه سديدا مولاه وصاحب شرطته أبا عبيدة ابن الجرّاح وهو أوّل من اتخذ الحاجب وصاحب الشرطة فى الاسلام وكان فى يده خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورق نقشه محمد رسول الله وكان بعد فى يد عمر ثم كان فى يد عثمان حتى وقع من معيقيب فى بئر أريس وفى مدّة خلافته اليسيرة فتح فتوحات كثيرة فأوّل ما بدأ به بعد خلافته أنه نفذ جيش أسامة وأمره بالانتهاء الى ما أمر به رسول الله وشيعه ماشيا وأسامة راكب لانه أقسم عليه أن لا ينزل وسأله أن يأذن لعمر فى الرجوع معه فأذن له فى ذلك ومضى أسامة وبث الخيل فى قبائل قضاعة وعاد سالما
وكان فراغه فى أربعين يوما وفتح أبو بكر اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب وقاتل جموع أهل الردّة الى أن رجعوا الى دين الله وفتح أطراف العراق وبعض الشام

(2/200)


* (ذكر بدء الردّة بعد وفاة رسول الله وما كان من تأييد الله لخليفة رسول الله فيها)
* فى الاكتفاء قال ابن اسحاق ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين وكانت عائشة فيما بلغنى تقول لما توفى رسول الله ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية وعم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة فى الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبى بكر فلقد نزل بأبى ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها* قوله اشرأب اليه مدعينيه لينظر اليه وارتفع كذا فى القاموس قدور راسية لا تبرح مكانها لعظمها هاض العظم يهيضه كسره بعد الجبور* وذكر ابن هشام عن أبى عبيدة وغيره من أهل العلم ان أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بالرجوع عن الاسلام وأرادوا ذلك حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله وقال ان ذلك لم يزد الاسلام الا قوّة فمن رابنا ضربنا عنقه فتراجع الناس وكفوا عما هموا فظهر عتاب بن أسيد وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سهيل بن عمرو لعمر بن الخطاب وقد قال له انزع ثنيتى سهيل بن عمرو بلدغ لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انه عسى ان يقوم مقاما لا تذمه فكان هذا المقام المتقدّم هو الذى أراده رسول الله عليه السلام* وفى سيرة مغلطاى ارتدت فى أيامه العرب فأرسل اليهم الجيوش فأبادوا من استمر منهم على كفره وأرسل خالدا الى العراق وعمرو بن العاص الى فلسطين ويزيد بن أبى سفيان وأبا عبيدة وشرحبيل بن حسنة الى الشأم وتوفى أبو بكر مسموما واستخلف عمر* وفى معالم التنزيل لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر خبر وفاته ارتد عامّة العرب الا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس ومنع بعضهم الزكاة وهمّ أبو بكر بقتالهم فكره ذلك أصحاب رسول الله وقال عمر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله فاذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم قال له أبو بكر أليس قد قال الا بحقها ومن حقها اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والله لو منعونى عقالا* وفى رواية عناقا كانوا يؤدّونه الى رسول الله لقاتلتهم على منعه ولو خذلنى الناس كلهم لجاهدتهم بنفسى فقال عمر بن الخطاب فو الله ما هو الا ان رأيت انّ الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت انه الحق قال عمر بن الخطاب والله لقد رجح ايمان أبى بكر بايمان هذه الامّة جميعا فى قتال أهل الردّة* قال أبو بكر بن العياش سمعت أبا حصين يقول ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبى بكر لقد قام مقام نبى من الانبياء فى قتال أهل الردّة* وقال أنس بن مالك كرهت الصحابة قتال مانعى الزكاة وقالوا أهل القبلة فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره وهذا دليل على شجاعة أبى بكر* وقال ابن مسعود كرهنا ذلك فى الابتداء ثم حمدنا عليه فى الانتهاء* وذكر يعقوب ابن محمد الزهرى ان العرب افترقت فى ردّتها فقالت فرقة لو كان نبيا ما مات وقال بعضهم انقضت النبوّة بموته فلا نطيع أحدا بعده* وقال بعضهم نؤمن بالله وقال بعضهم نؤمن بالله ونشهد أن محمدا رسول الله ونصلى ولكن لا نعطيكم أموالنا فأبى أبو بكر الا قتالهم وجادل أبو بكر أصحابه فى جهادهم وكان من أشدّهم عليه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبى حذيفة وقالوا له احبس جيش أسامة بن زيد فيكون عمارة وأمانا بالمدينة وارفق بالعرب حتى ينفرج هذا الامر فان هذا الامر شديد غوره ومهلكة من غير وجه فلو ان طائفة من العرب ارتدت قلنا قاتل بمن معك ممن ثبت من ارتد وقد أصفقت العرب على الارتداد فهم بين مرتد ومانع صدقة فهو مثل المرتد وبين واقف ينظر ما تصنع أنت وعدوّك قد قدّم رجلا وأخر رجلا وفى المشكاة قال عمر فقلت يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم فقال لى أجبار فى الجاهلية وخوار فى الاسلام قد انقطع الوحى وتم الدين

(2/201)


أينقص وأنا حى رواه رزين فى كتاب الواقدى من قول عمر لابى بكر وانما شحت العرب على أموالها وأنت لا تصنع بتفريق العرب عنك شيئا فلو تركت للناس صدقة هذه السنة* وقدم على أبى بكر عبينة بن حصن والاقرع بن حابس فى رجال من أشراف العرب فدخلوا على رجال من المهاجرين فقالوا انه قد ارتدّ عامّة من وراءنا عن الاسلام وليس فى أنفسهم ان يؤدّوا اليكم من أموالهم ما كانوا يؤدّون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فان تجعلوا لنا جعلا نرجع فنكفيكم من وراءنا فدخل المهاجرون والانصار على أبى بكر فعرضوا عليه الذى عرضوا عليهم وقالوا نرى ان تطعم الاقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ويكفيانك من وراءهما حتى يرجع اليك أسامة وجيشه ويشتدّ أمرك فانا اليوم قليل فى كثير ولا طاقة لنا بقتال العرب* قال أبو بكر هل ترون غير ذلك قالوا لا قال أبو بكر انكم قد علمتم انه كان من عهد رسول الله اليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم وانّ الله لن يجمعكم على ضلالة وانى سأشير عليكم وانما أنا رجل منكم تنظرون فيما اشرته عليكم وفيما أشرتم به فتجتمعون على أرشد ذلك فانّ الله يوفقكم أما انا فأرى ان نشد الى عدوّنا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وان لا ترشوا على الاسلام أحدا وان تتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فنجاهد عدوّه كما جاهدهم والله لو منعونى عقالا لرأيت ان أجاهدهم عليه حتى آخذه من اهله وأدفعه الى مستحقه فأتمروا يرشدكم الله فهذا رأيى فقالوا لابى بكر لما سمعوا رأيه أنت أفضلنا رأيا ورأينا لرأيك تبع فأمر أبو بكر الناس بالتجهيز وأجمع على المسير بنفسه لقتال أهل الردّة وكانت أسد وغطفان من أهل الضاحية قد ارتدّت ولم ترتدّ عبس ولا بعض أشجع وارتدّت عامّة بنى تميم وطوائف من بنى سليم وعصية وعميرة وخفاف وبنو عوف بن امرئ القيس وذكوان وبنو حارثة وارتدّ أهل اليمامة كلهم وأهل البحرين وبكر بن وائل وأهل دباء من أزد عمان والنمر بن قاسط وكليب ومن قاربهم من قضاعة وعامّة بنى عامر بن صعصعة وفيهم علقمة بن علاثة وقيل انها تربصت مع قادتها وسادتها ينظرون لمن تكون الدبرة وقدّموا رجلا وأخروا أخرى وارتدّت فزارة وجمعها عيينة بن حصن وتمسك بالاسلام ما بين المسجدين وأسلم وغفار وجهينة ومزينة وكعب وثقيف قام فيهم عثمان بن أبى العاص من بنى مالك وقام فى الاحلاف رجل منهم فقال يا معشر ثقيف نشدتكم الله أن تكونوا أوّل العرب ارتدادا وآخرهم اسلاما وأقامت طئ كلها على الاسلام وهذيل وأهل السراة وبجيلة وخثعم ومن قارب تهامة من هوازن نصر وجشم وسعد بن بكر وعبد القيس قام فيهم الجلرود فثبتوا على الاسلام وارتدّت كندة وحضرموت وعنس وقال أبو هريرة لم يرجع واحد من دوس ولا من أهل السراة كلها وقال أبو مرزوق التجيبى لم يرجع رجل واحد منا من تجيب وهمدان ولا من الابناء بصنعاء ولقد جاء الابناء وفاة رسول الله فشق نساؤهم الجيوب وضربن الخدود وفيهم المرزبانة فشقت درعها من بين يديها ومن خلفها وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدر من الحج سنة عشر وقدم المدينة أقام حتى رأى هلال المحرم سنة احدى عشرة وبعث المصدّقين فى العرب فبعث على عجز هوازن عكرمة بن أبى جهل وبعث حامية بن سبيع الاسدى على صدقات قومه وعلى بنى كلاب الضحاك بن أبى سفيان وعلى أسد وطىء عدى بن حاتم وعلى بنى يربوع مالك بن نويرة وعلى بنى دارم وقبائل من حنظلة الاقرع بن حابس وبعث الزبرقان بن بدر على صدقات قومه وقيس بن عاصم المنقرى على صدقة قومه فلما بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فمنهم من رجع ومنهم من أدّى الى ابى بكر وكان الذين حبسوا صدقات قومهم وفرّقوها بين قومهم مالك بن نويرة وقيس بن عاصم والاقرع بن حابس التميمى وأما بنو كلاب فتربصوا ولم يمنعوا
منعا بينا ولم يعطوا كانوا بين ذلك وكان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على فزارة نوفل بن معاوية الديلمى فلقيه خارجة بن

(2/202)


حصن بن حذيفة بن بدر الفزارى بالشربة فقال اما ترضى ان تغنم نفسك فرجع نوفل بن معاوية هاربا حتى قدم على أبى بكر الصديق بسوطه وقد كان جمع فرائض فأخذها منه خارجة فردها على أربابها وكذلك فعلت سليم بعرباض بن سارية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على صدقاتهم فلما بلغتهم وفاة النبىّ صلى الله عليه وسلم أبوا أن يعطوه شيئا وأخذوا منه ما كان جمع فانصرف من عندهم بسوطه وأما أسلم وغفار ومزينة وجهينة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث اليهم كعب بن مالك الانصارى فسلموا اليه صدقاتهم لما بلغتهم وفاته وتأدّت الى أبى بكر فاستعان بها على قتال أهل الردّة وكذلك فعل بنو كعب مع أمير صدقاتهم بشر بن سفيان الكعبى وأشجع مع مسعود ابن رخيلة الاشجعى فقدم بذلك كله على أبى بكر وكان عدى بن حاتم قد حبس ابل الصدقة يريد أن يبعث بها الى أبى بكر اذا وجد فرصة والزبرقان بن بدر مثل ذلك فجعل قومهما يكلمونهما فيأبيان وكانا أحرم رأيا وأفضل فى الاسلام رغبة ممن كان فرّق الصدقة فى قومه فقالا لقومهما لا تعجلوا فانه ان قام بهذا الامر قائم ألفاكم لم تفرّقوا الصدقة وان كان الذى تظنون فلعمرى انّ اموالكم لبأيديكم فلا يغلبنكم عليها احد فسكنوهم حتى أتاهم خبر القوم فلما اجتمع الناس على أبى بكر جاءهم أنه قد قطع البعوث وسار بعث اسامة بن زيد الى الشأم وابو بكر يحرج اليهم وكان عدى بن حاتم يأمر ابنه ان يسرح مع نعم الصدقة فاذا كان المساء روّحها وانه جاء بها ليلة عشاء فضربه وقال ألا عجلت بها ثم راح بها الليلة الثانية فوق ذلك قليلا فجعل يضربه وجعلوا يكلمونه فيه فلما كان اليوم الثالث قال يا بنى اذا سرحتها فصح فى أذنابها وأمّ بها المدينة فان لقيك لاق من قومك أو من غيرهم فقل أريد الكلأ تعذر علينا ما حولنا فلما ان جاء الوقت الذى كان يروح فيه لم يأت الغلام فجعل أبوه يتوقعه ويقول لاصحابه العجب لحبس ابنى فيقول بعضهم نخرج يا أبا طريف فنتبعه فيقول لا والله فلما أصبح تهيأ ليغدو فقال قومه نغد ومعك فقال لا يغد ومعى منكم أحد انكم ان رأيتموه حلتم بينى وبين ضربه وقد عصى امرى كما ترون فخرج على بعير له سراعا حتى لحق ابنه ثم حدر النعم الى المدينة فلما كان ببطن قناة لقيه خيل لابى بكر عليها ابن مسعود وقيل محمد بن مسلمة وهو أثبت عندنا فلما نظروا اليه ابتدروه وما كان معه وقالوا له أين الفوارس الذين كانوا معك قال ما معى أحد قالوا بلى لقد كان معك فوارس فلما رأونا تغيبوا فقال ابن مسعود خلوا عنه فما كذب ولا كذبتم جنود الله معه ولم يرهم فقدم على أبى بكر بثلثمائة بعير وكانت أوّل صدقة قدم بها على أبى بكر* وذكر بعض من ألف فى الردّة انّ الزبرقان بن بدر هو الذى فعل هذا الفعل المنسوب فى هذا الحديث الى عدى بن حاتم فاما ان يكونا فعلاه معا توفيقا من الله لهما وامّا ان يكون هذا مما يعرض فى النقل من الاختلاف* وذكر ابن اسحاق ان عدى بن حاتم كانت عنده ابل عظيمة اجتمعت له من صدقات قومه عند ما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ارتدّ من ارتدّ من الناس وارتجعوا صدقاتهم وارتدّ بنو أسد وهم جيرانه اجتمعت طى الى عدى بن حاتم فقالوا ان هذا الرجل قد مات وقد انتقض الناس بعده وقبض كل قوم ما كان فيهم من صدقاتهم فنحن أحق بأموالنا من شذاذ الناس فقال ألم تعطوا من أنفسكم العهد والميثاق على الوفاء طائعين غير مكرهين قالوا بلى ولكن قد حدث ما ترى وقد ترى ما صنع الناس* قال والذى نفس عدى بيده لا أحبس بها أبدا ولو كنت جعلتها لرجل من المدلج لوفيت له بها فان أبيتم لا قاتلنكم يعنى على ما فى يديه وما فى أيديهم فيكون أوّل قتيل يقتل على وفاء ذمّته عدى بن حاتم أو يسلمها فلا تطمعوا ان يسب حاتما فى قبره ابنه عدى من بعده فلا يدعونكم غدر غادر الى ان تغدروا فان للشيطان قادة عند موت كل نبى يستخف بها

(2/203)


أهل الجهل حتى يحملهم على قلائص الفتنة وانما هى عجاجة لاثبات لها ولاثبات فيها ان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة من بعده يلى هذا الامر وان لدين الله أقواما سينهضون ويقومون به بعد رسول الله كما قاموا بعهده ولئن فعلتم لينازعنكم على أموالكم ونسائكم بعد قتل عدى وغدركم فأىّ قوم أنتم عند ذلك فلما رأوا منه الجدّ كفوا عنه وسلموا له* ويروى ان مما قال له قومه أمسك ما فى يديك فانك ان تفعل تسد الحليفين يعنون طيا وأسدا فقال ما كنت لا فعل حتى أدفعها الى أبى بكر فجاء بها حتى دفعها اليه فلما كان زمن عمر بن الخطاب رأى من عمر جفوة فقال له عدى ما أراك تعرفنى قال عمر بلى والله يعرفك من فى السماء أعرفك والله أسلمت اذ كفروا ووفيت اذ غدروا وأقبلت اذ أدبروا بلى وهايم الله أعرفك وفى القاموس هيم الله وقدم أيضا الزبرقان بن بدر بصدقات قومه على أبى بكر فلم يزل لعدى والزبرقان بذلك شرف وفضل على من سواهما وأعطى أبو بكر عديا ثلاثين بعيرا من ابل الصدقة وذلك ان عديا لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرانيا فأسلم وأراد الرجوع الى بلاده أرسل اليه رسول الله يعتذر من الزاد ويقول والله ما أصبح عند آل محمد سفة من الطعام لكن ترجع ويكون خيرا فلذلك أعطاه ابو بكر تلك الفرائض ولما كان من العرب ما كان من التوائهم عن الدين ومنع من منع منهم الصدقة جدّ بأبى بكر الجدّ فى قتالهم وأراه الله رشده فيهم وعزم على الخروج بنفسه اليهم وأمر الناس بالجهاد وخرج هو فى مائة من المهاجرين وقيل فى مائة من المهاجرين والانصار وخالد بن الوليد يحمل اللواء حتى نزل بقعاء وهو ذو القصة يريد أبو بكر أن يتلاحق الناس من خلفه ويكون أسرع لخروجهم ووكل بالناس محمد بن مسلمة يستحثهم فانتهى الى بقعاء عند غروب الشمس فصلى يها المغرب وأمر بنار عظيمة فأوقدت وأقبل خارجة بن حصن بن حذيفة ابن بدر وكان ممن ارتدّ فى خيل من قومه الى المدينة يريد أن يخذل الناس عن الخروج أو يصيب غرّة فيغير قأغار على أبى بكر ومن معه وهم غافلون فاقتتلوا شيئا من قتال وتحيز المسلمون ولاذ أبو بكر بشجرة وكره أن يعرف فأوفى طلحة بن عبيد الله على شرف فصاح بأعلى صوته لا بأس هذه الخيل قد جاءتكم فتراجع الناس وجاءت الامداد وتلاحق المسلمون فانكشف خارجة بن حصن وأصحابه وتبعه طلحة ابن عبيد الله فيمن خف معه فلحقوه فى أسفل ثنايا عوسجة وهو هارب لا يألو فيدرك اخريات أصحابه فحمل طلحة على رجل بالرمح فدق ظهره ووقع ميتا وهرب من بقى ورجع طلحة الى أبى بكر فأخبره ان قدولوا منهزمين هاربين وأقام أبو بكر ببقعاء أياما ينتظر الناس وبعث الى من كان حوله من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد؟؟؟ الردّة والحفوف اليهم فتحلب الناس اليه من هذه النواحى حتى شحنت منهم المدينة* قال سبرة الجهنى قدمنا معشر جهينة أربعمائة معنا الظهر والخيل وساق عمرو بن مرّة الجهنى مائه بعير عونا للمسلمين فوزعها أبو بكر فى الناس وجعل عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب يكلمان أبا بكر فى الرجوع الى المدينة لما رأيا عزمه على المسير بنفسه وقد توافى المسلمون وحشدوا فلم يبق أحد من أصحاب رسول الله من المهاجرين والانصار من أهل بدر الآخرج* وقال عمر ارجع يا خليفة رسول الله تكن للمسلمين فئة وردئا فانك ان تقتل يرتدّ الناس ويعلو الباطل على الحق وابو بكر مظهر المسير بنفسه وسألهم بمن نبدأ من أهل الردّة فاختلفوا عليه فقال ابو بكر نعمد لهذا الكذاب على الله وعلى كتابه طليحة ولما ألحوا على ابى بكر فى الرجوع وعزم هو عليه أراد أن يستخلف على الناس فدعا زيد بن الخطاب لذلك فقال يا خليفة رسول الله كنت ارجو أن ارزق الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أرزقها وانا ارجو أن ارزقها فى هذا الوجه وانّ امير الجيش لا ينبغى ان يباشر القتال بنفسه فدعا ابا حذيفة بن عتبة بن ربيعة فعرض عليه
ذلك فقال مثل

(2/204)


ما قال زيد فدعا سالما مولى ابى حذيفة ليستعمله فأبى عليه فدعا ابو بكر خالد بن الوليد فامره على الناس وقال لهم وقد توافى المسلمون قبله وبعث مقدّمته أمام الجيش أيها الناس سيروا على اسم الله وبركته فأميركم خالد بن الوليد الى ان ألقاكم فانى خارج فيمن معى الى ناحية خيبر حتى ألاقيكم* ويروى أنه قال للجيش سيروا فان لقيتكم بعد غد فالامر الىّ وانا أميركم والا فخالد بن الوليد عليكم فاسمعوا له وأطيعوا وانما قال ذلك أبو بكر لان تذهب كلمته فى الناس وتهاب العرب خروجه* ثم خلا بخالد ابن الوليد فقال يا خالد عليك بتقوى الله وايثاره على من سواه والجهاد فى سبيله فقد وليتك على من ترى من أهل بدر من المهاجرين والانصار فسار خالد ورجع أبو بكر وعمر وعلىّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص فى نفر من المهاجرين والانصار من أهل بدر الى المدينة* وفى الصفوة لما خرج أبو بكر الى أهل الردّة كان خالد بن الوليد يحمل لواءه فلما تلاحق الناس به استعمل خالد او رجع الى المدينة*

(ذكر وصية أبى بكر الصديق خالد بن الوليد حين بعثه فى هذا الوجه)
* قال حنظلة الاسلمى بعث أبو بكر خالد بن الوليد الى أهل الردّة وأمره أن يقاتلهم على خمس خصال فمن ترك واحدة من الخمس قاتله شهادة أن لا اله الا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله واقام الصلاة وايتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت وأمره بأن يمضى بمن معه من المسلمين حتى يقدم اليمامة فيبدأ ببنى حنيفة ومسيلمتهم الكذاب فيدعوهم ويدعوه الى الاسلام وينصح لهم فى الدين ويحرص على هداهم فان أجابوا الى ما دعاهم اليه من رعاية الاسلام قبل منهم وكتب بذلك الىّ وأقام بين أظهرهم حتى يأتيه أمرى وان هم لم يجيبوا ولم يرجعوا عن كفرهم واتباع كذابهم على كذبه على الله عز وجل قاتلهم أشدّ القتال بنفسه وبمن معه فان الله ناصر دينه ومظهره على الدين كله كما قضى فى كتابه ولو كره الكافرون فان أظهره الله عليهم ان شاء الله تعالى وأمكنه منهم فليقتلهم بالسلاح وليحرقهم بالنار ولا يستبق منهم أحدا قدر على أن يستبقيه وليقسم أموالهم وما أفاء الله عليه وعلى المسلمين الا خمسه فليرسل به الىّ أضعه حيث أمر الله به أن يوضع ان شاء الله تعالى* وعن عروة بن الزبير قال جعل أبو بكر يوصى خالد بن الوليد ويقول يا خالد عليك بتقوى الله والرفق بمن معك من رعيتك فان معك أصحاب رسول الله أهل السابقة من المهاجرين والانصار فشاورهم فيما نزل بك ثم لا تخالفهم وقدّم أمامك الطلائع ترتد لك المنازل وسر فى أصحابك على تعبية جيدة فاذا لقيت اسدا وغطفان فبعضهم لك وبعضهم عليك وبعضهم لا عليك ولا لك متربص دائرة السوء ينظر لمن تكون الدبرة فيميل مع من تكون له الغلبة ولكن الخوف عندى من أهل اليمامة فاستعن بالله على قتالهم فانه بلغنى أنهم رجعوا باسرهم فان كفاك الله الضاحية فامض الى أهل اليمامة سر على بركة الله*

(ذكر مسير خالد الى بزاخة وغيرها)
* قالوا وسار خالد بن الوليد ومعه عدى بن حاتم وقد انضم اليه من طىء ألف رجل فنزل بزاخة وكانت جديلة معرضة عن الاسلام وهى بطن من طىّ وكان عدى بن حاتم من الغوث وقد همت جديلة أن ترتد فجاءهم مكيث بن زيد الخيل الطائى فقال أتريدون أن تكونوا سبة على قومكم لم يرجع رجل واحد من طىّ وهذا أبو طريف عدى بن حاتم معه ألف رجل من طىّ فكسرهم فلما نزل خالد ابن الوليد قال لعدى يا أبا طريف الا نسير الى جديلة فقال يا أبا سليمان لا تفعل أقاتل معك بيدين أحب اليك أم بيد واحدة فقال خالد بل بيدين قال عدى فان جديلة احدى يدىّ فكف خالد عنهم فحاءهم عدى فدعاهم الى الاسلام فأسلموا فحمد الله وساربهم الى خالد فلما رآهم خالد فزع منهم وظنّ أنهم أتوا للقتال فصاح فى أصحابه السلاح فقيل له انما هى جديلة أتت تقاتل معك فلما جاؤا حلوا ناحية وجاءهم خالد فرحب بهم وفرح بهم واعتذروا اليه من اعتزالهم وقالوا نحن لك حيث أحببت فجزاهم خيرا فلم يرتد

(2/205)


من طىّ رجل واحد فسار خالد على تعبيته وطلب اليه عدى أن يجعل قومه مقدّمة أصحابه فقال يا أبا طريف انّ الامر قد اقترب وأنا أخاف ان أقدّم قومك فاذا لحمهم القتال انكشفوا فانكشف من معنا ولكن دعنى أقدّم قوما صبرا لهم سوابق وثبات وهم من قومك* قال عدى الرأى ما رأيت فقدم المهاجرين والانصار ولم يزل خالد يقدم طليعة منذ خرج من بقعاء حتى قدم اليمامة وأمر عيونه أن يختبروا كل من مروا به عند مواقيت الصلاة بالاذان لها فيكون ذلك أمانا لهم ودليلا على اسلامهم وانتهى خالد والمسلمون الى طليحة وقد ضربت لطليحة قبة من أدم واصحابه حوله معسكرون فانتهى خالد ممسيا فضرب عسكره على ميل أو نحوه من عسكر طليحة وخرج يسير على فرس معه نفر من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم فوقف من عسكر طليحة غير بعيد ثم قال يخرج اليه طليحة فقال أصحابه لا تصغروا اسم نبينا وهو طلحة فخرج طلحة فوقف فقال خالد انّ من عهد خليفتنا الينا أن ندعوك الى الله وحده لا شريك له وأنّ محمدا عبده ورسوله وأن تعود الى ما خرجت منه فنقبل منك ونغمد سيوفنا عنك فقال يا خالد أنا أشهد أن لا اله الا الله وأنى رسول الله وانى نبىّ مرسل يأتينى ذو النون كما كان جبريل يأتى محمدا وقد كان ادّعى هذا فى عهد النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم لقد ذكر ملكا عظيما فى السماء يقال له ذو النون وكان عيينة بن حصن قد قال له لا ابا لك فهل أنت مرينا بعض نبوّتك فقد رأيت ورأينا ما كان يأتى محمدا قال نعم فبعث عيونا له حيث سار خالد بن الوليد من المدينة مقبلا اليهم قبل أن يسمع بذكر خالد وقال ان بعثتم فارسين على فرسين أغرين محجلين من بنى نضر بن قعين أتوكم من القوم بعين فهيؤا فارسين فبعثوهما فخرجا يركضان فلقيا عينا لخالد بن الوليد فقالا ما وراءك فقال هذا خالد بن الوليد فى المسلمين قد أقبلوا فأتوا به اليه فزادهم فتنة وقال ألم أقل لكم فلما أبى طليحة على خالد أن يقرّ بما دعاه اليه انصرف الى معسكره فاستعمل تلك الليلة على حرسه مكيث بن زيد الخيل وعدىّ بن حاتم وكان لهما صدق نية ودين فباتا يحرسان فى جماعة من المسلمين* فلما كان فى السحر نهض خالد فعبى أصحابه ووضع ألويته مواضعها ودفع اللواء الاعظم الى زيد بن الخطاب فتقدّم بها وتقدّم ثابت بن قيس ابن شماس بلواء الانصار وطلبت طىّ لواء يعقد لها فعقد خالد لواء ودفعه الى عدىّ بن حاتم فلما سمع طليحة حركة القوم عبى أصحابه وجعل خالد يسوّى الصفوف على رجليه وطليحة يسوّى أصحابه على راحلته حتى اذا استوت الصفوف زحف بهم خالد حتى دنا من طليحة فلما انتهى اليه خرج اليه طليحة بأربعين غلاما جلدا من جنوده مردا فأقامهم فى الميمنة فقال اضربوا حتى تأتوا الميسرة فتضعضع الناس ولم يقتل أحد منهم ثم أقامهم فى الميسرة ففعلوا مثل ذلك وانهزم المسلمون فقال رجل من هوازن حضرهم يومئذ انّ خالدا لما كان ذلك قال يا معشر الانصار الله الله واقتحم وسط القوم وكرّ علينا أصحابه فاختلطت الصفوف واختلفت السيوف بينهم وضرس خالد فى القتال فجعل يقحم فرسه ويقولون له الله الله فانك أمير القوم ولا ينبغى لك أن تقدم فيقول والله انى لا عرف ما تقولون ولكنى والله ما رأيتنى أصبر وأخاف هزيمة المسلمين* وفيما ذكر الكلبى عن بعض الطائيين أنه نادى يومئذ مناد من طىّ يعنى عند ما حمل أولئك الاربعون غلاما على المسلمين يا خالد عليك سلمى وأجأ فقال بل الى الله الملجأ قال ثم حمل فو الله ما رجع حتى لم يبق من اولئك الاربعين رجل واحد وقاتل خالد يومئذ بسيفين حتى قطعهما وترادّ الناس بعد الهزيمة واشتدّ القتال وأسر حبال بن أبى حبال فأرادوا أن يبعثوا به الى أبى بكر فقال اضربوا عنقى ولا ترونى محمديكم هذا فضربوا عنقه* وذكر الواقدى عن ابن عمر قال نظرت الى راية طليحة يومئذ حمراء يحملها رجل منهم لا يزول بها فترا فنظرت الى خالد أتاه فحمل عليه فقتله فكانت هزيمتهم فنظرت الى الراية تطؤها الخيل والابل والرجال حتى تقطعت ولقد
رأيته يوم طليحة يباشر

(2/206)


الحرب بنفسه حتى ليم فى ذلك ولقد رأيته يوم اليمامة يقاتل أشدّ القتال ان كان مكانه ليتقى حتى يطلع الينا منبهرا ولما تراجع المسلمون وضرس القتال تزمل طليحة بكساء له ينتظر بزعمه أن ينزل عليه الوحى فلما طال ذلك على أصحابه وهدّتهم الحرب جعل عيينة بن حصن يقاتل ويذمر الناس* قال ابن اسحاق قاتل عيينة يومئذ فى سبعمائة من فزارة قتالا شديدا حتى اذا ألح المسلمون عليهم بالسيف وقد صبروا لهم أتى طليحة وهو ملتثم فى كسائه فقال لا ابا لك هل أتاك جبريل بعد ذلك قال يقول طليحة وهو تحت الكساء لا والله ما جاء بعد فقال عيينة تبالك سائر اليوم ثم رجع عيينة فقاتل وجعل يحض أصحابه وقد ضجوا من وضع السيوف* فلما طال ذلك على عيينة جاء طليحة وهو مستلق متشح بكسائه فجبذه جبذة جلس منها وقال له قبح الله هذه من نبوّة ما قيل لك بعد شئ فقال طليحة قد قيل لى ان لك رحا كرحاه وأمرا لن تنساه فقال عيينة أظن قد علم الله أن سيكون لك أمر لن تنساه يا فزارة هكذا وأشار لها تحت الشمس هذا والله كذاب ما بورك له ولا لنا فيما يطالب فانصرفت فزارة وذهب عيينة وأخوه فى آثارها فأدرك عيينة فأسرو أفلت أخوه ويقال أسر عيينة عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائى فأراد خالد قتله حتى كلمه فيه رجل من بنى مخزوم وترك قتله* ولما رأى طليحة أنّ الناس يؤسرون ويقتلون خرج منهزما وأسلمه الشيطان فاعجزهم هو وأخوه فجعل أصحابه يقولون له ماذا ترى وقد كان أعدّ فرسه وهيأ امرأته النوار فوثب على فرسه وحمل امرأته وراءه فنجابها وقال من استطاع منكم أن يفعل كما فعلت فليفعل ولينج بأهله ثم هرب حتى قدم الشأم وأقام عند بنى جفنة الغسانيين وفى كتاب ابى يعقوب الزهرى انّ طليحة قال لاصحابه لما رأى انهزامهم ويلكم ما يهزمكم فقال له رجل منهم أنا أخبركم أنه ليس منا رجل الا وهو يحب أنّ صاحبه يموت قبله وانا نلقى أقواما كلهم يحب ان يموت قبل صاحبه* وذكر ابن اسحاق أنّ طليحة لما ولى هاربا تبعه عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم وقد كان طليحة أعطى الله عهدا أن لا يسأله أحد النزول الا فعل فلما أدبرنا داه عكاشة يا طليحة فعطف عليه فقتل عكاشة ثم أدركه ثابت فقتله ايضا طليحة ثم لحق بالشأم وقد قيل فى قتلهما غير هذا وهو ما ذكره الواقدى عن عميلة الفزارى وكان عالما بردّتهم انّ خالد بن الوليد لما دنا من القوم بعث عكاشة وثابتا طليعة أمامه وكانا فارسين فلقيا طليحة واخاه مسلمة ابنى خويلد طليعة لمن وراءهما من الناس وخلفوا عسكرهم من ورائهم فلما التقوا انفرد طليحة بعكاشة ومسلمة بثابت فلم يلبث مسلمة ان قتل ثابتا وصرخ طليحة بمسلمة أعنى على الرجل فانه قاتلى فكرّ معه على عكاشة فقاتلاه ثم كرّا راجعين الى من وراءهما وأقبل خالد معه المسلمون فلم يرعهم الا ثابت بن أقرم قتيلا تطؤه المطىّ فعظم ذلك على المسلمين ثم لم يسيروا الا يسيرا حتى وطئوا عكاشة قتيلا فثقل القوم على المطىّ كما وصف واصفهم حتى ما تكاد المطىّ ترفع أخفافها وفى كتاب الزهرى ثم لحقوا أصحاب طليحة فقتلوا وأسروا وصاح خالد لا يطبخن رجل قدرا ولا يسخنن ماء الا أثفيته رأس رجل وأمر خالد بالحظائر أن تبنى ثم أوقد فيها النار ثم أمر بالاسرى فألقيت فيها وألقى يومئذ حامية بن سبيع بن الخشخاش الاسدى وهو الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على صدقات قومه فارتدّ عن الاسلام وأخذت أم طليحة أحد نساء بنى اسد فعرص عليها الاسلام فأبت ووثبت فاقتحمت النار وهى تقول
يا موت عم صباحا ... كافحته كفاحا
اذ لم أجد براحا
وذكر الواقدى عن يعقوب بن يزيد بن طلحة أنّ خالدا جمع الاسارى فى الحظائر ثم أصرمها عليهم فاحترقوا وهم أحياء ولم يحرق أحد من بنى فزارة فقلت لبعض أهل العلم لم حرق هؤلاء من بين أهل الردّة فقال بلغت عنهم مقالة سيئة شتموا النبى صلى الله عليه وسلم وثبتوا على ردّتهم* وذكر غير يعقوب أنّ

(2/207)


خالدا أمر بالاخدود تحفر فقيل له ماذا تريد بهذه الاخدود قال أحرقهم بالنار فكلم فى ذلك فقال هذا عهد أبى بكر الصدّيق الىّ اقرؤه فى كل مجمع ان أظفرك الله بهم فأحرقهم بالنار وعن عبد الله بن عمر قال شهدت بزاخة فأظفرنا الله على طليحة وكنا كلما أعزنا الله على القوم سبينا الذرارى وقسمنا أموالهم ولما انفلت طليحة مضى على وجهه هاربا نحو الشأم فأقام بها الى أن توفى أبو بكر وعاد القبائل الى الاسلام ثم أسلم وحسن اسلامه وحج فى خلافة عمر وله آثار جميلة فى قتال الفرس بالقادسية فى العراق فى زمن عمر بن الخطاب وكتب عمر الى النعمان بن المقرن أن استعن فى حربك بطليحة وعمرو بن معدى كرب واستشهد طليحة فى حرب نهاوند*

(ذكر رجوع بنى عامر وغيرهم الى الاسلام)
* ولما أوقع الله ببنى أسد وفرارة ما أوقع ببزاخة بث خالد بن الوليد السرايا ليصيبوا ما قدروا عليه ممن هو على ردّته وجعلت العرب تسير الى خالد راغبة فى الاسلام أو خائفة من السيف فمنهم من أصابته السرية فيقول جئت راغبا فى الاسلام وقد رجعت الى ما خرجت منه ومنهم من يقول ما رجعنا ولكن منعنا أموالنا وشححنا عليها فقد سلمناها فليأخذ منها حقه ومنهم من لم تظفر به السرايا فانتهى الى خالد مقرّا بالاسلام ومنهم من مضى الى أبى بكر الصديق ولم يقرب خالدا وكان عمرو بن العاص عاملا للنبى صلى الله عليه وسلم على عمان فجاءه يوما يهودى من يهود عمان فقال أرأيتك ان سألتك عن شىء أأخشى علىّ منك قال لا قال اليهودى أنشدك بالله من أرسلك الينا قال اللهم رسول الله قال اليهودى الله انك لتعلم أنه رسول الله قال عمرو اللهم نعم فقال اليهودى لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم فلما رأى عمرو ذلك جمع أصحابه وحواشيه وكتب ذلك اليوم الذى قال له اليهودى فيه ما قال ثم خرج بخفراء من الازد وعبد القيس يأمن بهم فجاءته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجر ووجد ذكر ذلك عند المنذر بن ساوى فسار حتى قدم أرض بنى حنيفة فأخذ منهم خفراء حتى جاء أرض بنى عامر فنزل على قرّة بن هبيرة القشيرى ويقال خرج قرّة مع عمرو فى مائة من قومه خفراء له وأقبل عمرو بن العاص يلقى الناس مرتدّين حتى أتى على ذى القصة فلقى عيينة بن حصن خارجا من المدينة وذلك حين قدم على أبى بكر يقول ان جعلت لنا شيئا كفيناك ما وراءنا فقال له عمرو بن العاص ما وراءك يا عيينة من ولى الناس أمورهم قال أبا بكر فقال عمرو الله أكبر قال عيينة يا عمرو استوينا نحن وأنتم فقال عمرو كذبت يا ابن الاخابث من مضر وسار عيينة فجعل يقول لمن لقيه من الناس احبسوا عليكم أموالكم قالوا فأنت ما تصنع قال لا يدفع اليه رجل من فزارة عناقا واحدة ولحق عند ذلك بطليحة الاسدى فكان معه ولما فرغ خالد من بيعة بنى عامر أوثق عيينة بن حصن وقرّة بن هبيرة القشيرى وبعث بهما الى أبى بكر الصدّيق قال ابن عباس فقدم بهما المدينة فى وثاق فنظرت الى عيينة مجموعة يداه الى عنقه بحبل ينخسه غلمان المدينة بالجريد ويضربونه ويقولون أى عدوّ الله أكفرت بالله بعد ايمانك فيقول والله ما كنت آمنت بالله فلم يعاقب أبو بكر قرة وعفا عنه وكتب له أمانا وكتب لعيينة أمانا وقبل منه وكان فيمن ارتدّ من بنى عامر ولم يرجع معهم علقمة بن علاثة بن عوف فبعث أبو بكر الى ابنته وامرأته ليأخذهما فقالت امرأته مالى ولابى بكر ان كان علقمة قد كفر فانى لم أكفر فتركها ثم راجع علقمة الاسلام زمن عمر وردّ عليه زوجته وأخذ خالد بن الوليد من بنى عامر وغيرهم من أهل الردّة ممن جاء منهم وبايعه على الاسلام كل ما ظهر من سلاحهم واستحلفهم على ما غيبوا عنه فان حلفوا تركهم وان أبوا شدّهم أسرا حتى أتوا بما عندهم من السلاح فأخذ منهم سلاحا كثيرا فأعطاه أقواما يحتاجون اليه فى قتال عدوّهم وكتبه عليهم فلقوا به العدوّ ثم ردّوه بعد فقدم به على أبى بكر وقبض أبو بكر من اسد وغطفان كل ما قدر عليه من الخلفة والكراع فلما توفى راى عمر أن الاسلام قد ضرب بجرانه فدفعه الى أهله أو الى عصبة من مات منهم ولما فرغ خالد من بزاخة

(2/208)


وبنى عامر ومن يليهم أظهر ان أبا بكر عهد اليه أن يسير الى أرض بنى تميم والى اليمامة فقال ثابت بن قيس ابن شماس وهو على الانصار وخالد على جماعة المسلمين ما عهد الينا ذلك وما نحن بسائرين وليست بنا قوّة وقد كل المسلمون وعجف كراعهم فقال خالد أمّا أنا فلست بمستكره أحدا منكم فان شئتم فسيروا وان شئتم فأقيموا فسار خالد ومن تبعه من المهاجرين وأبناء العرب عامدا لارض بنى تميم واليمامة وأقامت الانصار يوما أو يومين ثم تلاومت فيما بينها وقالوا والله ما صنعنا شيئا والله لئن اصيب القوم ليقولنّ خذلتموه وأسلمتموه وانها لسبة باق عارها الى آخر الدهر ولئن أصابوا خيرا وفتح الله فتحا انه لخير منعتموه فابعثوا الى خالد يقيم لكم حتى تلحقوه فبعثوا اليه مسعود بن سنان ويقال ثعلبة بن غنمة فلما جاءه الخبر أقام حتى لحقوه فاستقبلهم فى كثرة من معه من المسلمين لما أظلوا على العسكر حتى نزلوا وساروا جميعا حتى انتهى خالد بهم الى البطاح من أرض بنى تميم فلم يجد بها جمعا ففرّق السرايا فى نواحيها وكان فى سرية فيها أبو قتادة الانصارى فلقوا اثنى عشر رجلا فيهم مالك بن نويرة فأخذوهم فجاؤا بهم خالدا وكان مالك بن نويرة قد بعثه النبى صلى الله عليه وسلم مصدّقا الى قومه بنى حنظلة وكان سيدهم فجمع صدقاتهم فلما بلغته وفاة النبى صلى الله عليه وسلم جفل ابل الصدقة أى ردّها من حيث جاءت فلذلك سمى الجفول* ولما بلغ ذلك أبا بكر والمسلمين حنقوا على مالك وعاهد الله خالد بن الوليد لئن أخذه ليقتلنه ثم ليجعلنّ هامته أثفية للقدر فلما أتى به أسيرا فى نفر من قومه أخذوا معه كما تقدّم اختلف فيه الذين أخذوهم فقال بعضهم قد والله أسلموا فما لنا عليهم من سبيل وفيمن شهد بذلك أبو قتادة الانصارى وكان معهم فى تلك السرية وشهد بعض من كان فى تلك السرية أنهم لم يسلموا وان قتلهم وسبيهم حلال وكان ذلك رأى خالد فيه فأمر بهم خالد فقتلوا وقتل مالك بن نويرة فتزوّج امرأته أم متمم من ليلته وكانت جميلة قيل لعلها كانت مطلقة قد انقضت عدّتها الا أنها كانت محبوسة عنده فاشتدّ فى ذلك عمر وقال لابى بكر ارجم خالدا فانه قد استحل ذلك فقال أبو بكر والله لا أفعل ان كان خالد تأوّل أمرا فأخطأه* وفى شرح المواقف فأشار عمر على أبى بكر بقتل خالد قصاصا فقال أبو بكر لا أغمد سيفا شهره الله على الكفار وقال عمر لخالد لئن وليت الامر لاقيدنك به* وفى بعض الروايات انّ خالدا أمر برأس مالك فجعل أثفية لقدر حسبما تقدّم من نذره وكان من أكثر الناس شعرا فكانت القدر على رأسه فراحوا وان شعره ليدخن وما خلصت النار الى شواء رأسه وعاتب أبو بكر خالدا لما قدم عليه فى قتل مالك بن نويرة فاعتذر اليه خالد وزعم أنه سمع منه كلاما استحل به قتله فعذره أبو بكر وقبل منه يقال ان كلاما سمعه من مالك أنه حين كان يكلم خالدا قال انّ صاحبكم قد توفى فعلم خالد أنه أراد أنه صلى الله عليه وسلم ليس بصاحب له فتيقن ردّته فقتله* وفى الاكتفاء كان أبو بكر الصدّيق قد عاهد خالدا اذا فرغ من اسد وغطفان والضاحية أن يقصد اليمامة واكد عليه فى ذلك فلما أظهر الله خالدا باولئك تسلل بعضهم الى المدينة يسألون أبا بكر أن يبايعهم على الاسلام ويؤمنهم فقال لهم بيعتى اياكم وأمانى لكم أن تلحقوا بخالد بن الوليد ومن معه من المسلمين فمن كتب الىّ خالد بأنه حضر معه اليمامة فهو آمن فليبلغ شاهدكم غائبكم ولا تقدموا علىّ اجعلوا وجوهكم الى خالد* قال أبو بكر بن أبى الجهم اولئك الذين لحقوا بخالد بن الوليد من الضاحية هم الذين كانوا انهزموا بالمسلمين يوم اليمامة ثلاث مرّات وكانوا على المسلمين بلاء قال شريك الفزارى كنت ممن حضر بزاخة مع عيينة بن حصن فرزقنى الله الانابة فجئت أبا بكر فأمرنى بالمسير الى خالد وكتب معى اليه بوصايا وفى آخرها ان أظفرك الله بأهل اليمامة فاياك والابقاء عليهم أجهز على جريحهم واطلب مدبرهم واحمل أسيرهم على السيف وهوّل فيهم القتل وأحرقهم بالنار واياك أن تخالف أمرى
والسلام عليك فلما انتهى الكتاب الى خالد اقترأه وقال سمعا

(2/209)


وطاعة ولما اتصل بأهل اليمامة مسير خالد اليهم بعد الذى صنع الله له فى امثالهم حيرهم ذلك وجزع له محكم بن الطفيل سيد أهل اليمامة وهمّ أن يرجع الى الاسلام فبات يلتوى على فراشه وكان محكم صديقا لزياد بن لبيد بن بياضة من الانصار فقال له خالد فى بعض الطريق لو ألقيت الى محكم شيئا تكسره به فانه سيد أهل اليمامة وطاعة القوم فبعث اليه مع راكب ويقال بل بعث بها اليه مع حسان بن ثابت من المدينة
يا محكم بن طفيل قد اتيح لكم ... لله درّ أبيكم حية الوادى
بامحكم بن طفيل انكم نفر ... كالشاء أسلمها الراعى لاساد
ما فى مسيلمة الكذاب من عوض ... من دار قوم واخوان وأولاد
فاكفف حنيفة يوما قبل نائحة ... تنعى فوارس شاج شجوها باد
لا تأمنوا خالدا بالبرد معتجرا ... تحت العجاجة مثل الاغضف العادى
ويل اليمامة ويلا لا فراق له ... ان جالت الخيل فيها بالقنا الصادى
والله لا تنثنى عنكم أعنتها ... حتى تكونوا كأهل الحجر أو عاد
ووردت على محكم وقيل له هذا خالد بن الوليد فى المسلمين فقال رضى خالد أمرا ورضينا غيره وما ينكر خالد أن يكون فى بنى حنيفة من أشرك فى الامر فسيرى خالد ان قدم علينا يلق قوما ليسوا كمن لقى ثم خطب أهل اليمامة فقال يا معشر أهل اليمامة انكم تلقون قوما يبذلون أنفسهم دون صاحبهم فابذلوا أنفسكم دون صاحبكم فان أسدا وغطفان انما أشار اليهم خالد بذباب السيف فكانوا كالنعام الشارد وقد اظهر خالد بن الوليد نارا حيث أوقع ببزاخة ما أوقع وقال هل حنيفة الاكمن لقينا وكان عمير بن صالى اليشكرى فى اصحاب خالد وكان من سادات اليمامة ولم يكن من اهل حجر كان من ملمم وهى لبنى يشكر فقال له خالد تقدّم الى قومك فاكسرهم فأتاهم ولم يكونوا علموا باسلامه وكان مجتهدا فارسا سيدا فقال يا معشر أهل اليمامة أظلكم خالد فى المهاجرين والانصار تركت القوم يتبايعون الى فتح اليمامة وقد قضوا وطرا من أسد وغطفان وعليا هوازن وأنتم فى أكفهم وقولهم لا قوّة الا بالله انى رأيت أقوامان غلبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر وان غلبتموهم على الحياة غلبوكم على الموت وان غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد لستم والقوم سواء الاسلام مقبل والشرك مدبر وصاحبهم نبىّ وصاحبكم كذاب ومعهم السرور ومعكم الغرور فالان والسيف فى غمده والنبل فى جفيره قبل أن يسل السيف ويرمى بالسهم سرت اليكم مع القوم عشرا فكذبوه واتهموه فرجع عنهم وقام ثمامة بن أثال الحنفىّ فى بنى حنيفة فقال اسمعوا منى وأطيعوا امرى ترشدوا انه لا يجتمع نبيان بأمر واحدان محمدا صلى الله عليه وسلم لا نبىّ بعده ولا نبىّ مرسل معه ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا اله الا هو اليه المصير هذا كلام الله عز وجل اين هذا من يا ضفدع نقى كم تنقين لا الشرب تمنعين ولا الماء تكدّرين والله انكم لترون ان هذا الكلام ما يخرج من ال؟؟؟ وتوفى رسول الله وقام بهذا الامر من بعده رجل هو أفقههم فى انفسهم لا تأخذه فى الله لومة لائم ثم بعث اليكم رجلا لا يسمى باسمه ولا باسم ابيه يقال له سيف الله معه سيوف الله كثيرة فانظروا فى امركم فاذاه القوم جميعا أو من آذاه منهم وقال ثمامة
مسيلمة ارجع ولا تمحك ... فانك فى الامر لم تشرك
كذبت على الله فى وحيه ... فكان هواك هو الانوك
ومناك قومك أن يمنعوك ... وان يأتهم خالد تترك

(2/210)


فما لك من مصعد فى السماء ... ولا لك فى الارض من مسلك
*

(ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع امامه من البطاح)
ولما سار خالد من البطاح ووقع فى أرض بنى تميم قدّم أمامه مائتى فارس عليهم معن بن عدى العجلانى وبعث معه فرات بن حبان العجلى دليلا وقدّم عينين له أمامه مكيث بن زيد الخيل الطائى وأخاه* وذكر الواقدى أنّ خالدا لما نزل العرض قدّم مائتى فارس وقال من أصبتم من الناس فخذوه فانطلقوا حتى أخذوا مجاعة بن مرارة الحنفى فى ثلاث وعشرين رجلا من قومه قد خرجوا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فيهم دما فخرجوا وهم لا يشعرون بمقبل خالد فسألوهم ممن أنتم قالوا من بنى حنيفة فظنّ المسلمون أنهم رسل من مسيلمة فقال ما تقولون يا بنى حنيفة فى صاحبكم فشهدوا أنه رسول الله فقال لمجاعة ما تقول أنت فقال والله ما خرجت الا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فينادما وما كنت أقرب مسيلمة ولقد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت وما غيرت ولا بدّلت فقدّم القوم فضرب أعناقهم على دم واحد حتى اذا بقى سارية بن مسيلمة بن عامر فقال يا خالد ان كنت تريد بأهل اليمامة خيرا أو شرا فاستبق هذا يعنى مجاعة فانه عون لك على حربك وسلمك وكان مجاعة شريفا فلم يقتله وأعجب بسارية وبكلامه فتركه أيضا وأمر بهما فأوثقا فى جوامع حديد وكان يدعو بمجاعة وهو كذلك فيتحدّث معه ومجاعة يظنّ أنّ خالدا يقتله ودفعه الى أم متمم امرأته التى تزوّجها لما قتل زوجها مالك بن نويرة وأمرها أن تحسن أساره وكان خالد كلما نزل منزلا واستقرّ به دعا مجاعة فأكل معه وحدّثه فقال له ذات يوم أخبرنى عن صاحبك يعنى مسيلمة ما الذى كان يقرئكم هل تحفظ منه شيئا قال نعم فذكر له شيئا من رجزه قال خالد وضرب باحدى يديه على الآخرى يا معشر المسلمين اسمعوا الى عدوّ الله كيف يعارض القرآن ثم قال هات زدنا من كذب الخبيث فقال مجاعة أخرج لكم حنطة وزوانا ورطبا وتمرانا فى رجز له قال خالد وهذا كان عندكم حقا وكنتم تصدّقونه قال مجاعة لو لم يكن عندنا حقا لما لقيتك غدا اكثر من عشرة آلاف سيف يضاربونك فيه حتى يموت الاعجل قال خالد اذا يكفيناهم الله ويعز دينه فاياه يقاتلون ودينه يريدون* وفى كتاب الاموى ثم مضى خالد حتى نزل منزلة من اليمامة ببعض أوديتها وخرج الناس مع مسيلمة وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لما أشرف خالد بن الوليد وأجمع أن ينزل عقرباء دفع الطلائع أمامه فرجعوا اليه فخبروه أنّ مسيلمة ومن معه خرجوا فنزلوا عقرباء فزحف خالد بالمسلمين حتى نزلوا عقرباء وضرب عسكره وقد قيل انّ خالدا سبق عقرباء وضرب عسكره ويقال توافيا اليها جميعا قال وكان المسلمون يسألون عن الدجال بن عنفوة فاذا الدجال على مقدّمة مسيلمة فلعنوه وشتموه فلما فرغ خالد من ضرب عسكره وبنو حنيفة تسوّى صفوفها نهض خالد الى صفوفه فصفها وقدّم رايته مع زيد بن الخطاب ودفع راية الانصار الى ثابت ابن قيس بن شماس فتقدّم بها وجعل على ميمنته أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعلى ميسرته شجاع ابن وهب واستعمل على الخيل البراء بن مالك ثم عزله واستعمل عليها اسامة بن زيد وأمر بسرير فوضع فى فسطاطه واضطجع عليه يتحدّث مع مجاعة ومعه ام متمم وأشراف أصحاب رسول الله يتحدّث معهم وأقبلت بنو حنيفة قد سلت السيوف فلم تزل مسللة وهم يسيرون نهارا طويلا فقال خالد يا معشر المسلمين أبشروا فقد كفاكم الله عدوّكم وما سلوا السيوف من بعيد الا ليرهبونا وانّ هذا منهم لجبن وفشل فقال مجاعة ونظر اليهم كلا والله يا أبا سليمان ولكنها الهندوانية خشوا من تحطمها وهى غداة باردة فأبرزوها للشمس لان تسخن متونها فلما دنوا من المسلمين نادوا انا لنعتذر من سلنا سيوفنا حين سللناها والله ما سللناها ترهيبا لكم ولاجبنا عنكم ولكنها كانت الهندوانية وكانت غداة باردة فخشينا تحطمها فأردنا أن نسخن متونها الى أن نلقاكم فسترون قال فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر

(2/211)


الفريقان جميعا صبرا طويلا حتى كثرت القتلى والجراح فى الفريقين وكان أوّل قتيل من المسلمين مالك بن أوس من بنى زعوراء قتله محكم بن الطفيل واستلحم من المسلمين حملة القرآن حتى فنوا جميعا الا قليلا وهزم كلا الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر المشركين والمشركون عسكر المسلمين مرارا فاذا اجلى المسلمون عن عسكرهم فدخل المشركون أرادوا حمل مجاعة فلا يستطيعون لما هو فيه من الحديد ولانه لا تزال تناوثهم خيل المسلمين فاذا رجع المسلمون وثبوا على مجاعة ليقتلوه وقالوا اقتلوا عدوّ الله فانه رأسهم وانهم ان دخلوا عليه أخرجوه فاذا شهروا عليه سيوفهم ليقتلوه حنت عليه أم متمم امرأة خالد وردّت عنه وقالت انى له جار حتى أجارته منهم وكان مجاعة أيضا قد أجارها من المشركين مرارا أن يقتلوها على هذا الوجه وقد كان مجاعة قال لها لما دفعه اليها خالد لتحسن أساره يا أمّ متمم هل لك ان أحالفك ان غلب أصحابى كنت لك جارا وأنت كذلك فقالت نعم فتحالفا على ذلك وقال عكرمة حملت بنو حنيفة أوّل مرّة كانت لها الحملة وخالد على سريره حتى خلص اليه فجرّد سيفه وجعل يسوق بنى حنيفة سوقا حتى ردّهم وقتل منهم قتلى كثيرة ثم كرت بنو حنيفة حتى انتهوا الى فسطاط خالد فجعلوا يضربون الفسطاط بالسيوف قال الواقدى وبلغنا أن رجلا منهم لما دخلوا الفسطاط أراد قتل أم متمم ورفع السيف عليها فاستجارت بمجاعة فألقى عليها رداءه وقال انى جار لها فنعمت الحرة كانت وعيرهم وسبهم وقال تركتم الرجال وجئتم الى امرأة تقتلونها عليكم بالرجال فانصرفوا وجعل ثابت بن قيس يومئذ يقول وكانت معه راية الانصار بئس ما عوّدتم أنفسكم الفرار يا معشر المسلمين وقد انكشف المسلمون حتى غلب بنو حنيفة على الرجال فجعل زيد بن الخطاب ينادى وكانت عنده راية خالد امّا الرجال فلا رجال اللهم انى أعتذر اليك من فرار أصحابى وأبرأ اليك مما جاء به مسيلمة ومحكم بن الطفيل وجعل يشتد بالراية يتقدّم بها فى نحر العدوّ ثم ضارب بسيفه حتى قتل وفى الصفوة زيد بن الخطاب كان أسن من اخيه عمر ابن الخطاب وكان أسلم قبل عمر وكان طوالا أسمر فلما رجع عبد الله بن عمر قال له عمر ألا هلكت قبل زيد فقال قد كنت حريصا على ذلك ولكن الله اكرمه بالشهادة وفى رواية اخرى قال له عمر ما جاء بك وقد هلك زيد ألاواريت وجهك عنى قال فلما قتل زيد وقعت الراية فأخذها سالم مولى أبى حذيفة قال المسلمون يا سالم انا نخاف أن نؤتى من قبلك فقال بئس حامل القرآن أنا اذا اتيتم من قبلى قالوا ونادت الانصار ثابت بن قيس وهو يحمل رايتهم الزمها فانما ملاك القوم الراية فتقدّم سالم مولى أبى حذيفة فحفر لرجليه حتى بلغ أنصاف ساقيه ومعه راية المهاجرين وحفر ثابت لنفسه مثل ذلك ثم لزما رايتهما ولقد كان الناس يتفرّقون وان سالما وثابتا لقائمان ثابتان برايتيهما حتى قتل سالم وقتل أبو حذيفة مولاه فوجد رأس أبى حذيفة عند رجلى سالم ورأس سالم عند رجلى أبى حذيفة لقرب مصرع كل واحد منهما من صاحبه وفى الصفوة استشهد سالم يوم اليمامة آخذ اللواء بيمينه فقطعت ثم تناولها بشماله فقطعت ثم اعتنق اللواء وجعل يقرأ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الى أن قتل قال ابن عمر كان سالم يؤم المهاجرين من مكة حتى قدم المدينة لانه كان أقرأ وفيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر سالما فقال انّ سالما شديد الحب لله عز وجلّ وعن شهر بن حوشب قال قال عمر بن الخطاب لو استخلفت سالما مولى أبى حذيفة فسالنى عنه ربى ما حملك على ذلك لقلت رب سمعت نبيك يقول يحب الله عز وجل حقا من قلبه وقتل يومئذ ثابت بن قيس بن شماس وكان قد ضرب فقطعت رجله فرمى بها قاتله فقتله وعن عبد الله بن عبيد الله الانصارى قال كنت فيمن دفن ثابت بن قيس بن شماس وكان قتل باليمامة فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول محمد رسول الله أبو بكر الصدّيق عمر الشهيد عثمان البر الرحيم فنظرنا فاذا هو ميت أورده

(2/212)


فى الشفاء وفى الاكتفاء ولما قتل ثابت بن قيس بن شماس يوم اليمامة ومعه راية الانصار يومئذ وهو خطيبهم وسيد من ساداتهم أرى رجل من المسلمين فى منامه ثابت بن قيس يقول له انى موصيك بوصية فاياك ان تقول هذا حلم فتضيعه انى لما قتلت بالامس جاء رجل من ضاحية نجد وعلىّ درعى فأخذها واتى بها منزله فاكفأ عليها برمة وجعل على البرمة رحلا وخباؤه فى اقصى العسكر الى جنب خبائه فرس ابلق يستن فى طوله فأت خالد بن الوليد فأخبره فليبعث الى درعى فليأخذها واذا قدمت على خليفة رسول الله فأخبره انّ علىّ من الدين كذا ولى من الدين كذا وسعد ومبارك غلاماى حرّان فاياك أن تقول هذا حلم فتضيعه فلما اصبح الرجل اتى خالد بن الوليد فأخبره فبعث خالد الى الدرع فوجدها كما قال وأخبره بوصيته فأجازها ولا نعلم أحدا من المسلمين اجيزت وصيته بعد موته الا ثابت ابن قيس بن شماس* وقد روى انّ بلال بن الحارث كان صاحب الرؤيا رواه الواقدى عن عبد الله ابن جعفر بن عبد الواحد بن أبى عون قال قال بلال رأيت فى منامى سالما مولى أبى حذيفة قال لى ونحن منحدرون من اليمامة الى المدينة انّ درعى مع الرفقة الذين معهم الفرس الابلق تحت قدرهم فاذا اصبحت فخذها من تحت قدرهم فاذهب بها الى أهلى وانّ علىّ شيئا من دين فمرهم يقضونه* قال بلال فأقبلت الى تلك الرفقة وقدرهم على النار فألقيتها وأخذت الدرع وجئت أبا بكر فحدّثته الحديث فقال نصدّق قولك ونقضى دينه الذى قلت* قال فلما قتل سالم مكثت الراية ساعة لا يرفعها أحد فأقبل يزيد بن قيس وكان بدريا فحملها حتى قتل ثم حملها الحكم بن سعيد بن العاص فقاتل دونها نهارا طويلا ثم قتل* وقال وحشى اقتتلنا قتالا شديدا فهزموا المسلمين ثلاث مرّات وكرّ المسلمون فى الرابعة وتاب الله عليهم وثبت اقدامهم وصبروا لوقع السيوف واختلفت بينهم وبين بنى حنيفة السيوف حتى رأيت شهب النار تخرج من خلالها حتى سمعت أصواتا كالاجراس وانزل الله علينا نصره وهزم الله بنى حنيفة فقتل الله مسيلمة قال ولقد ضربت بسيفى يومئذ حتى غرى قائمته فى كفى من دمائهم* وقال ابن عمر لقد رأيت عمارا على صخرة قد اشرف يصيح يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرّون أنا عمار بن ياسر هلموا الىّ وأنا انظر الى اذنه تذبذب وقد قطعت* وقال سعد القرظى لقد رأيته يومئذ يقاتل قتال عشرة* وقال شريك الفزارى لما التقينا والقوم صبر الفريقان صبرا لم أر مثله قط ما تزول الاقدام فترا واختلفت السيوف بينهم وجعل يقبل أهل السوابق والنيات فيتقدّمون فيقتلون حتى فنوا ودلفت فينا سيوفهم نهارا طويلا فانهزمنا ولقد أحصيت لنا ثلاث انهزامات وما أحصيت لبنى حنيفة الا انهزامة واحدة وهى التى الجأناهم فيها الى الحديقة يعنى حديقة لمسيلمة كانت يقال لها حديقة الرحمن وبعد ذلك سميت حديقة الموت* وقال رافع بن خديج شهدنا اليمامة سبعين من اللتب فلاقينا عدوّا صبر الوقع السلاح وجماعة الناس أربعة آلاف وبنو حنيفة مثل ذلك أو نحوه فلما التقينا أذّن الله للسيوف فينا وفيهم فجعلت السيوف فينا وفيهم تجتلى هام الرجال واكفهم وجراحا لم أر جراحا قط أبعد غورا منها فينا وفيهم انى لا نظر الى عباد بن بشر قد ضرب بسيفه حتى انحنى كأنه منجل فيقيمه على ركبتيه فعرض له رجل من بنى حنيفة فلما اختلفا ضربات ضربه عباد بن بشر على العاتق مستمكنا فو الله لرأيت سحره باديا ومضى عنه عباد ومررت بالحنفى وبه رمق فأجهزت عليه وأنظر بعد الى عباد وقد اختلفت السيوف عليه وهو يبضع بها ويبعج بها بطنه فوقع وما أعلم به مصحا وكانوا حنقوا عليه لانه اكثر القتل فيهم قال وحرصت على قتلته فناديت أصحابنا من اللتب فقمنا عليه وقتلنا قتلته فرأيتهم حوله مقتلين فقلت بعدا لكم* وقال ضمرة بن سعيد المازنى وذكر ردّة بنى حنيفة لم يلق المسلمون عدوّا أشدّ لهم نكاية منهم لقوهم بالموت الناقع وبالسيوف قد أصلتوها قبل

(2/213)


النبل وقبل الرماح وقد صبر المسلمون لهم فكان المعول يومئذ على أهل السوابق ونادى عباد بن بشر يومئذ وهو يضرب بالسيف قد قطع من الجراح وما هو الا كالنمر الجرب فيلقى رجلا من بنى حنيفة كأنه جمل صؤل فقال هلم يا أخا الخزرج اتحسب قتالنا مثل من لاقيت فيعمد له عباد ويبدره الحنفى ويضربه ضربة بالسيف فانكسر سيفه ولم يصنع شيئا وضربه عباد فقطع رجليه وجاوزه وتركه ينوء على ركبتيه فناداه يا ابن الاكارم أجهز علىّ فكرّ عليه عباد فضرب عنقه ثم قام آخر فى ذلك المقام فاختلفا ضربات وتجاولا وعباد على ذلك كثير الجراح فضربه عباد ضربة أبدى سحره وقال خذها وأنا ابن وقش ثم جاوزه يفرى فى بنى حنيفة ضربا فريا فكان يقال قتل عباد يومئذ من بنى حنيفة بالسيف اكثر من عشرين رجلا واكثر فيهم الجراح قال ضمرة فحدّثنى رجل من بنى حنيفة قديم قال انّ بنى حنيفة لتذكر عباد بن بشر فاذا رأت الجراح بالرجل منهم تقول هذا ضرب محرب القوم عباد بن بشر وفى بعض الروايات عن حديث رافع بن خديج قال خرجنا من المدينة ونحن أربعة آلاف وأصحابنا من الانصار ما بين خمسمائة الى اربعمائة وعلى الانصار ثابت بن قيس ويحمل رايتنا أبو لبابة فانتهينا الى اليمامة فننتهى الى قوم هم الذين قال الله تعالى ستدعون الى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فلما صففنا صفوفنا ووضعنا الرايات مواضعها لم يلبثوا أن حملوا علينا فهزمونا مرارا فنعود الى مصافنا وفيها خلل وذلك انّ صفوفنا كانت مختلطة فيها حشو كثير من الاعراب فى خلال صفوفنا فينهزم أولئك بالناس فيستخفون أهل البصائر والنيات حتى كثر ذلك منهم ثم انّ الله بمنه وكرمه وفضله رزقنا عليهم الظفر وذلك انّ ثابت بن قيس نادى خالد بن الوليد أخلصنا فقال ذلك اليك فناد فى أصحابك قال فأخذ الراية ونادى يا للانصار فتسللت اليه رجلا رجلا فنادى خالديا للمهاجرين فأحدقوا به ونادى عدى بن حاتم ومكنف بن زيد الخيل بطى فثابت اليهما طىّ وكانوا أهل بلاء حسن وعزلت الاعراب عنا ناحية فقاموا من ورائنا غلوة أو اكثر وانما كنا نؤتى من الاعراب قال رافع وأجهضهم أهل السوابق والبصائر فهم فى نحورهم ما يجد أحد مدخلا الا أن يقتل رجلا منهم أو يخرج فيقع فيخلف مقامه آخر حتى أوجعنا فيهم وبان خلل صفوفهم وضجوا من السيف ثم اقتحمنا الحديقة فضاربوا فيها وغلقنا الحديقة وأقمنا على بابها رجلا لئلا يهرب منهم أحد فلما رأوا ذلك عرفوا أنه الموت فجدّوا فى القتال ودكت السيوف بيننا وبينهم ما فيها رمى بسهم ولا حجر ولا طعن برمح حتى قتلنا عدوّ الله مسيلمة* قيل لرافع يا أبا عبد الله أى القتلى كان اكثر قتلاكم أو قتلاهم قال قتلاهم اكثر من قتلانا أحسبنا قتلنا منهم ضعف ما قتلوا منا مرّتين فقد قتل من الانصار يومئذ زيادة على السبعين وجرح منهم مائتان ولقد لاقينا بنى سليم بالجواء وانهم لمجروحون فأبلوا بلاء حسنا قالت نسيبة أم عمارة لقد رأيت عديا يومئذ يصيح بطىّ صبرا فداكم أبى وأمى لوقع الاسل وانّ ابنى زيد الخيل ليقاتلان يومئذ قتالا شديدا وكان أبو خيثمة النجارى يقول لما انكشف المسلمون يوم اليمامة تنحيت ناحية وكأنى أنظر الى أبى دجانة يومئذ ما يولى ظهره منهزما وما هو الا فى نحور القوم حتى قتل وكان يختال فى مشيته عند الحرب شجية ما يستطيع غير ذلك قال وكرّت عليه طائفة من بنى حنيفة فما زال يضرب بالسيف أمامه وعن يمينه وعن شماله فحمل على رجل فصرعه وما ينبس بكلمة حتى انفرجوا عنه ونكصوا على أعقابهم والمسلمون مولون وقد ابيض ما بينهم وبينه فما ترى الا المهاجرين والانصار لا والله ما أرى أحدا يخالطهم فقاموا ناحية وتلاحق الناس فدفعوا بنى حنيفة دفعة واحدة فانتهينا بهم الى الحديقة فأقحمناهم اياها* قال أبو دجانة ألقونى على الترسة حتى أشغلهم وكانوا قد أغلقوا الحديقة فأخذوه فألقوه على الترسة ورفعوها على رؤس الرماح حتى وقع فى الحديقة وهو يقول لا ينجيكم منا الفرار

(2/214)


فضاربهم حتى فتحها ودخلنا عليه مقتولا وقد روى انّ البراء بن مالك هو المرمى به فى الحديقة والاوّل أثبت قال ثابت بن قيس يومئذ يا معشر الانصار الله الله ودينكم علمنا هؤلاء أمر اما كنا نحسنه ثم أقبل على المسلمين فقال أف لكم ولما تعملون ثم قال خلوا بيننا وبينهم أخلصونا فأخلصت الانصار فلم تكن لهم ناهية حتى انتهوا الى محكم بن الطفيل فقتلوه ثم انتهوا الى الحديقة فدخلوها فقاتلوا أشدّ القتال حتى اختلطوا فيها فما يعرف بعضهم بعضا الا بالشعار وشعارهم أمت أمت ثم صاح ثابت صيحة يستجلب بها المسلمين يا أصحاب سورة البقرة يقول رجل من طى والله ما معى منها آية وانما يريد ثابت يا أهل القرآن* قال واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ لما ازحف المسلمون انكشفوا أقبح الانكشاف حتى ظنّ ظانهم أن لا تكون لهم فئة فى ذلك اليوم والناس أوزاع قد هدأ حسهم وأشرت بنو حنيفة وأظهروا البغى وأو فى عباد بن بشر على نشز من الارض ثم صاح بأعلى صوته أنا عباد بن بشريا للانصار يا للانصار ألا الىّ ألا الىّ فأقبلوا اليه جميعا وأجابوه لبيك لبيك حتى توافوا عنده فقال فداكم أبى وأمى حطموا جفون السيوف ثم حطم جفن سيفه فألقاه وحطمت الانصار جفون سيوفهم ثم قال حملة صادقة اتبعونى فخرج أمامهم حتى ساقوا بنى حنيفة منهزمين حتى انتهوا بهم الى الحديقة فأغلقوا عليهم فأوفى عباد بن بشر على الحديقة وهم فيها فقال للرماة ارموا فرموا أهل الحديقة بالنبل حتى ألجأوهم أن اجتمعوا فى ناحية منها لا يطلع النبل عليهم ثم انّ الله فتح الحديقة فاقتحم عليهم المسلمون فضاربوهم ساعة ثم أغلق عباد باب الحديقة لما كل اصحابه وكره أن يفرّ بنو حنيفة وجعل يقول اللهم انى أبرأ اليك مما جاءت به بنو حنيفة* قال واقد بن عمرو فحدّثنى من رأى عباد بن بشر ألقى درعه على باب الحديقة ثم دخل بالسيف صلتا فجالدهم حتى قتل* وقال أبو سعيد الخدرى سمعت عباد بن بشر يقول حين فرغنا من بزاخة يا أبا سعيد رأيت الليلة كأنّ السماء فرجت ثم أطبقت علىّ فهى ان شاء الله الشهادة قال قلت خيرا والله قال أبو سعيد فأنظر اليه يوم اليمامة وانه ليصيح بالانصار يقول أخلصونا أخلصونا فأخلصوا أربعمائة رجل لا يخالطهم أحد يقدمهم البراء بن مالك وأبو دجانة سماك بن خرشة وعباد بن بشر حتى انتهوا الى باب الحديقة* قال أبو سعيد فرأيت بوجه عباد يعنى بعد قتله ضربا كثيرا وما عرفته الا بعلامة كانت فى جسده وكان أبو بكر الصدّيق لما انصرف اليه أسامة بن زيد من بعثه الى الشام بعثه فى اربعمائة مدد الخالد بن الوليد فأدرك خالدا قبل أن يدخل اليمامة بثلاث فاستعمله خالد على الخيل مكان البراء بن مالك وأمر البراء أن يقاتل راجلا فاقتحم عن فرسه وكان راجلا لا راحلة له فلما انكشف الناس يوم اليمامة وانكشف أسامة بأصحاب الخيل صاح المسلمون يا خالد ولّ البراء بن مالك فعزل أسامة وردّ الخيل الى البراء فقال له اركب فى الخيل فقال البراء وهل لنا من خيل قد عزلتنى وفرّقت الناس عنى فقال له خالد ليس حين عتاب اركب أيها الرجل فى خيلك ألا ترى ما لحم من الامر فركب البراء فرسه وان الخيل لاوزاع فى كل ناحية وما هى الا الهزيمة فجعل يليح بسيفه وينادى بأصحابه يا للانصار يا خيلاه يا خيلاه أنا البراء بن مالك فثابت اليه الخيل من كل ناحية وثابت اليه الانصار فارسها وراجلها* قال أبو سعيد الخدرى فقال لنا احملوا عليهم فداكم أبى وأمى حملة صادقة تريدون فيها الموت ثم أظهر التكبير وكبرنا معه فما كان لنا ناهية الا باب الحديقة وقد غلقت دوننا وازدحمنا عليهم فلم نزل حتى فتح الله وظفرنا وله الحمد* وقال عبد الله بن أبى بكر بن حزم كان البراء فارسا وكان اذا حضرته الحرب أخذته رعدة وانتفض حتى يضبطه الرجال مليا ثم يفيق فيبول بولا أحمر كأنه نقاعة الحناء فلما رأى ما يصنع الناس يومئذ من الهزيمة أخذه ما كان يأخذه فانتفض وضبطه أصحابه وجعل يقول طدونى الى الارض فلمّا أفاق سرى عنه مثل

(2/215)


الاسد وهو يقول
أسعدنى ربى على الانصار ... كانوا يدا طرّا على الكفار
فى كل يوم ساطع الغبار ... فاستبدلوا النجاة بالفرار
قال وضرب بسيفه قدما حتى انفرجوا له وخاض غمرتهم وثابت اليه الانصار كأنها النحل تأوى الى يعسوبها وتلاومت الانصار فيما صنعت وحدث عن خالد بن الوليد من سمعه يقول شهدت عشرين زحفا فلم أرقو ما أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداما من بنى حنيفة يوم اليمامة انا لما فرغنا من طليحة الكذاب ولم تكن له شوكة قلت كلمة والبلاء موكل بالقول وما بنو حنيفة ما هى الاكمن لقينا فلقينا قوما ليسوا يشبهون أحدا ولقد صبروا لنا من حين طلعت الشمس الى صلاة العصر حتى قتل عدوّ الله فما ضرب أحد من بنى حنيفة بعده بسيف ولقد رأيتنى فى الحديقة وعانقنى رجل منهم وأنا فارس وهو فارس فوقعنا عن فرسينا ثم تعانقنا بالارض فأجأه بخنجر فى سيفى وجعل يجأنى بمعول فى سيفه فجرحنى سبع جراحات وقد جرحته جرحا أثبته فاسترخى فى يدى وما بى حركة من الجراح وقد نزفت من الدم الا أنه سبقنى بالاجل فالحمد لله على ذلك* وحدّث ضمرة بن سعيد انه خلص يومئذ الى محكم بن الطفيل وهو يقول يا بنى حنيفة قاتلوا قبل أن تستحقب الكرائم غير راضيات وينكحن غير حظيات وما كان عندكم من حسب فأخرجوه فقد لحم الامر واحتيج الى ذلك منكم وجعل يقول يا بنى حنيفة ادخلوا الحديقة سأمنع دابركم وجعل يرتجز
لبئسما أوردنا مسيلمه ... أورثنا من بعده أغيلمه
فدخلوا الحديقة وغلقوها عليهم ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر محكما بسهم فقتله فقام مقامه المعترض ابن عمه فقاتل ساعة حتى قتله الله* وفى غير حديث ضمرة انّ خالد بن الوليد هو الذى قتل محكما حدّث الحارث بن الفضيل قال لما رأى محكم بن الطفيل من قتل قومه ما رأى جعل يصيح ادن يا أبا سليمان فقد جاءك الموت الناقع قد جاءك قوم لا يحسنون الفرار فبلغت خالدا كلمته وهو فى مؤخر الناس فأقبل وهو يقول ها أنا ذا أبو سليمان وكشف المغفر عن وجهه ثم حمل على ناحية محكم يخوض بنى حنيفة فاقحم عليه خالد فضربه ضربة أرعش منها ثم ثنى له باخرى وهو يقول خذها وأنا أبو سليمان فوقع ميتا وكان عبد الرحمن بن أبى بكر قدر ماه بسهم قبل ذلك ومنهم من يقول رماه عبد الرحمن بعد ضربة خالد ومنهم من يقول لم يكن من سهم عبد الرحمن شئ وقاتلت بنو حنيفة بعد قتل محكم بن الطفيل أشدّ القتال وهم يقولون لا بقاء بعد قتل محكم* وقال قائل لمسيلمة يا ابا ثمامة أين ما كنت وعدتنا قال أما الدين فلا دين ولكن قاتلوا عن أحسابكم فاستيقن القوم أنهم على غير شئ* وقال وحشى لما اختلط الناس فى الحديقة وأخذت السيوف بعضها بعضا نظرت الى مسيلمة وما أعرفه ورجل من الانصار يريده وأنا من ناحية اخرى أريده فهززت من حربتى حتى رضيت منها ثم دفعتها عليه وضربه الانصارى فربكم أعلم أينا قتله الا أنى سمعت امرأة فوق الدير تقول قتله العبد الحبشى* وفى البخارى قال وحشى خرجت مع الناس فاذا رجل قائم فى ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس فرميته بحربتى فوضعتها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه ووثب اليه رجل من الانصار فضربه بالسيف على هامته فقالت جارية على ظهر بيت وا أمير المؤمنين قتله العبد الاسود* وفى المنتقى وأما الانصارى فلا يشك انه أبو دجانة سماك بن خرشة وكان وحشى يقول قتلت خير الناس فى الجاهلية وشرّ الناس فى الاسلام يعنى حمزة ومسيلمة قيل قتل مسيلمة بحربة قتل بها حمزة وكان معاوية بن أبى سفيان يقول أنا قتلته وقال أبو الحويرث ما رأيت أحدا قط يشك انّ عبد الله بن زيد الانصارى ضرب مسيلمة وزرقه

(2/216)


وحشىّ فقاتلاه جميعا وذكر عمر بن يحيى المازنى عن عبد الله بن زيد انه كان يقول أنا قتلته وكانت أم عبد الله بن زيد وهى أم عمارة نسيبة بنت كعب تقول انّ ابنها عبد الله هو الذى قتله وكانت ممن شهد ذلك اليوم وقطعت فيه يدها وذلك انّ ابنها حبيب بن زيد كان مع عمرو بن العاص بعمان عند ما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغ ذلك عمروا أقبل من عمان يريد المدينة فسمع به مسيلمة فاعترض له فسبقه عمرو وكان حبيب بن زيد وعبد الله بن وهب الاسلمى فى الساقة فأصابهما مسيلمة فقال لهما أتشهد ان انى رسول الله فقال له الاسلمى نعم فأمر به فحبس فى حديد وقال له حبيب لا أسمع فقال اتشهد ان محمدا رسول الله قال نعم فأمر به فقطع وكلما قال له اتشهد انى رسول الله قال لا اسمع فاذا قال أتشهد ان محمدا رسول الله قال نعم حتى قطعه عضوا عضوا حتى قطع يديه من المنكبين ورجليه من الوركين ثم أحرقه بالنار وهو فى كل ذلك لا ينزع عن قوله ولا يرجع عما بدأ به حتى مات فى النار* فلما تهيأ بعث خالد ابن الوليد الى اليمامة جاءت أم عمارة الى أبى بكر الصديق فاستأذنته فى الخروج فقال لها أبو بكر ما مثلك يحال بينه وبين الخروج قد عرفناك وعرفنا جراءتك فى الحرب فاخرجى على اسم الله قالت فلما انتهوا الى اليمامة واقتتلوا تداعت الانصار أخلصونا فأخلصوا قالت فلما انتهينا الى الحديقة ازدحمنا على الباب وأهل النجدة من عدوّنا فى الحديقة قد انحازوا يكونون فئة لمسلمة فاقتحمنا فضاربناهم ساعة والله ما رأيت أبذل لمهج أنفسهم منهم وجعلث أقصد عدوّ الله مسيلمة لان أراه ولقد عاهدت الله لئن رأيته لا أكذب عنه أو اقتل دونه وجعلت الرجال تختلط والسيوف بينهم تختلف وخرس القوم فلا صوت الا وقع السيوف حتى بصرت بعدوّ الله فشددت عليه وعرض لى منهم رجل فضرب يدى فقطعها فو الله ما عرّجت عليها حتى انتهيت الى الخبيث وهو صريع وأجدا بنى عبد الله قد قتله* وفى رواية وابنى يمسح سيفه بثيابه فقلت أقتلته قال نعم يا أمه فسجدت لله شكرا وقطع الله دابرهم فلما انقطعت الحرب ورجعت الى منزلى جاءنى خالد بن الوليد بطبيب من العرب فداوانى بالزيت المغلى وكان والله أشدّ علىّ من القطع وكان خالد كثير التعاهد لى حسن الصحبة لنا يعرف لنا حقنا ويحفظ فينا وصية نبينا* قال عباد قلت يا جدّة كثرت الجراح فى المسلمين فقالت يا بنى لقد نحاجز الناس وقتل عدوّ الله وانّ المسلمين لجرحى كلهم لقد رأيت ابنى أبى مجروحين ما بهم حركة ولقد رأيت بنى مالك بن النجار بضعة عشر رجلا لهم أنين يكمدون ليلتهم بالنار ولقد أقام الناس باليمامة خمس عشرة ليلة وقد وضعت الحرب أوزارها وما يصلى مع خالد بن الوليد من المهاجرين والانصار الانفر يسير* وعن محمد بن يحيى بن حبان قال جرحت أم عمارة يوم اليمامة أحد عشر جرحابين ضربة بسيف أورمية بسهم أو طعنة برمح وقطعت يدها سوى ذلك وكان أبو بكر يأتيها ويسأل عنها وهو يومئذ خليفة وقتل يوم اليمامة حاجب بن زيد بن تميم الاشهلى وأبو عقيل الازرقى وبشر بن عبد الله وعامر بن ثابت العجلانى* وعن محمد بن محمود بن لبيد قال لما قتل خالد بن الوليد من أهل اليمامة من قتل كانت لهم فى المسلمين أيضا مقتلة عظيمة حتى أبيح أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل لا تغمد السيوف بيننا وبينهم مادام عين تطرف وكان فيمن بقى من المسلمين جراحات كثيرة فلما امسى مجاعة بن مرارة ارسل الى قومه ليلا أن ألبسوا السلاح النساء والذرية والعبيد ثم اذا أصبحتم فقوموا مستقبلى الشمس على حصونكم حتى يأتيكم أمرى وبات خالد والمسلمون يدفنون قتلاهم فلما فرغوا رجعوا الى منازلهم وباتوا يتكمدون بالنار من الجراح فلما أصبح خالد أمر بمجاعة فسيق معه فى الحديد فجعل يسبر القتلى وهو يريد مسيلمة فمرّ برجل وسيم فقال يا مجاعة أهو هذا قال لا هذا والله أكرم منه هذا محكم بن الطفيل ثم قال مجاعة انّ الذى تبتغون رجل ضخم أشعر البطن والظهر أبجر بجرته مثل القدح مطرف احدى

(2/217)


العينين ويقال هو اريحل اصيغرا خينس قال وامر خالد بالقتلى فكشفوا حتى وجد الخبيث فوقف عليه خالد فحمد الله كثيرا وأمر به فألقى فى البئر التى كان يشرب منها قالوا ولما أمسينا أخذنا شغل السعف ثم جعلنا نحفر لقتلانا حتى دفناهم جميعا بدمائهم وثيابهم وما صلينا عليهم وتركنا قتلى بنى حنيفة فلما صالحوا خالدا طرحوهم فى الابار وكان خالد يرى انه لم يبق من بنى حنيفة احد الا من لا ذكر له ولا قتال عنده فقال خالد لما وقف على مسيلمة مقتولا يا مجاعة هذا صاحبكم الذى فعل بكم الافاعيل ما رأيت عقولا أضعف من عقول اصحابكم مثل هذا فعل بكم ما فعل فقال مجاعة قد كان ذلك يا خالد ولا تظنّ انّ الحرب انقطعت بينك وبين بنى حنيفة وان قتلت صاحبهم انه والله ما جاءك الاسرعان الناس وانّ جماعة الناس واهل البيوتات لفى الحصون فانظر فرفع خالد بن الوليد رأسه وهو يقول قاتلك الله ما تقول قال أقول والله الحق فنظر خالد فاذا السلاح واذا الخلق على الحصون فرأى امرا غمه ثم تشدّد ساعتئذ وأدركته الرجولية فقال لاصحابه يا خيل الله اركبوا وجعل يدعو بسلاحه ويقول يا صاحب الراية قدّمها والمسلمون كارهون لقتالهم قدملوا الحرب وقتل من قتل وعامة من بقى جريح* وقال مجاعة أيها الرجل انى لك ناصح انّ السيف قد أفناك وأفنى غيرك فتعال أصالحك عن قومى وقد أخل بخالد مصاب اهل السابقة ومن كان يعرف عند العناء فرق وأحب الموادعة مع عجف الكراع واصطلحا على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع ونصف السبى ثم قال مجاعة آتى القوم فأعرض عليهم ما صنعت قال فانطلق فذهب ثم رجع فأخبره انهم قد أجازوه فلما بان لخالد أنه انما هو نصف السبى قال ويلك يا مجاعة خدعتنى فى يوم مرتين قال مجاعة قومى فما أصنع وما وجدت من ذلك بدّا* وقال أسيد بن حضير وأبو نائلة لخالد لما صالح يا خالد اتق الله ولا تقبل الصلح قال خالد والله قد أفناكم السيف قال أسيد وانه قد أفنى غيرنا أيضا قال فمن بقى منكم جريح قال وكذلك من بقى من القوم جرحى لا ندخل فى الصلح أبدا أغدبنا عليهم حتى يظفرنا الله بهم أو نبيد عن آخرنا احملنا على كتاب أبى بكر ان أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تبق عليهم فقد أظفرنا الله وقتلنا رأسهم فمن بقى منهم أكل شوكه فبيناهم على ذلك اذ جاء كتاب أبى بكر يقطر الدم ويقال انهم لم يمسوا حتى قدم مسلمة بن سلامة بن وقش من عند أبى بكر بكتابين فى أحدهما* بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فاذا جاءك كتابى فانظر فان أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تستبق منهم رجلا جرت عليه الموسى فتكلمت الانصار فى ذلك وقالوا أمر أبى بكر فوق أمرك فلا تستبق منهم فقال خالد انى والله ما صالحت القوم الا لما رأيت من رقتكم ولما نهكت الحرب منكم وقوم قد صالحتهم ومضى الصلح فيما بينى وبينهم والله لو لم يعطونا شيئا ما قاتلتهم وقد أسلموا* قال أسيد بن حضير قد قتلت مالك بن نويرة وهو مسلم فسكت عنه خالد فلم يجبه وكان خالد قد خطب الى مجاعة ابنته وكانت اجمل أهل اليمامة فقال له مجاعة مهلا انك قاطع ظهرى وظهرك عند صاحبك انّ القالة عليك كثيرة وما أقول هذا رغبة عنك فقال له خالد زوّجنى أيها الرجل فانه ان كان أمرى عند صاحبى على ما أحب فلن يفسده ما تخاف علىّ وان كان على ما أكره فليس هذا بأعظم الامور فقال له مجاعة قد نصحتك ولعل هذا الامر لا يكون عيبه الا عليك ثم زوّجه فلما بلغ ذلك أبا بكر غضب وقال لعمر بن الخطاب انّ خالدا لحريص على النساء حين يصاهر عدوّه وينسى مصيبته فوقع عمر فى خالد وعظم الامر ما استطاع فكتب أبو بكر الى خالد مع مسلمة بن سلامة يا خالد بن أم خالد انك لفارغ تنكح النساء وتعرّس بهنّ وببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين لم تجف بعد ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك عن قومه وقد أمكنك الله منهم* فلما نظر خالد فى الكتاب قال هذا عمل عمر وكتب الى أبى بكر جواب كتابه مع أبى برزة الاسلمى أما بعد
فلعمرى ما تزوّجت النساء حتى تم لى السرور وقرّت بى الدار وما تزوّجت الا الى امرئ

(2/218)


لو عملت اليه من المدينة خاطبا لم ابل دع انى استثرت خطبتى اليه من تحت قدمىّ فان كنت قد كرهت لى ذلك لدين أو دنيا أعتبتك وأما حسن عزائى على قتلى المسلمين فو الله لو كان الحزن يبقى حيا أو يردّ ميتا لأبقى حزنى الحى وردّ الميت ولقد اقتحمت فى طلب الشهادة حتى أيست من الحياة وأيقنت بالموت وأما خدعة مجاعة اياى عن رأيى فانى لم أخطئ رأى يومى ولم يكن لى علم بالغيب وقد صنع الله للمسلمين خيرا أورثهم الارض وجعل لهم عاقبة المتقين* فلما قدم الكتاب على أبى بكر رق بعض الرقة وتم عمر على رأيه الاوّل فى عيب خالد بما صنع ووافقه على ذلك رهط من قريش فقام أبو برزة الاسلمى فعذر خالدا وقال يا خليفة رسول الله مايؤ بن خالد بجبن ولا خيانة ولقد اقتحم حتى أعذر وصبر حتى ظفر وما صالح القوم الاعلى رضاه وما أخطأ رأيه بصلح القوم اذ لا يرى النساء فى الحصون الا رجالا فقال أبو بكر صدقت لكلامك هذا أولى بعذر خالد من كتابه الىّ* ولما فرغ خالد من الصلح أمر بالحصون فألزمها الرجال وحلف مجاعة بالله لا يغيب عنه شيئا مما صالحه عليه ولا يعلم أحدا غيبه الا رفعه الى خالد ثم فتحت الحصون فأخرج سلاحا كثيرا فجمعه خالد على حدة وأخرج ما وجد فيها من دنانير ودراهم فجمعه على حدة وجمع كراعهم وترك الخف ولم يحرّكه ولا الرثة ثم أخرج السبى فقسمه قسمين ثم أقرع على القسمين فخرج سهمه على أحدهما وفيه مكتوب لله ثم جزأ الذى صار له من السبى على خمسة أجزاء ثم كتب على سهم منها لله وجزأ الكراع والحلقة هكذا ووزن الذهب والفضة فعزل الخمس وقسم على الناس الاربعة الاخماس وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما وعزل الخمس من ذلك كله حتى قدم به على أبى بكر ولما انقطعت الحرب بين خالد وبين أهل اليمامة تحوّل من منزله الذى كان فيه الى منزل آخر ينتظر كتاب أبى بكر يأمره ان ينصرف اليه بالمدينة* وحدث زيد بن أسلم عن أبيه قال كان أبو بكر حين وجه خالدا الى اليمامة رأى فى النوم كأنه أتى بتمر من هجر فأكل منها تمرة واحدة وجدها نواة على خلقة التمرة فلاكها ساعة ثم رمى بها فتأوّلها فقال ليلقين خالد من أهل اليمامة شدّة وليفتحن الله على يديه ان شاء الله فكان أبو بكر يستروح الخبر من اليمامة بقدر ما يجئ رسول خالد فخرج أبو بكر يوما بالعشى الى ظهر الحرّة يريد أن يبلغ صرارا ومعه عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله ونفر من المهاجرين والانصار فلقى أبا خيثمة النجارى قد أرسله خالد فلما رآه أبو بكر قال له ما وراءك يا أبا خيثمة قال خيرا يا خليفة رسول الله قد فتح الله علينا اليمامة قال فسجد أبو بكر قال أبو خيثمة وهذا كتاب خالد اليك فحمد الله أبو بكر وأصحابه ثم قال أخبرنى عن الوقعة كيف كانت فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع خالد وكيف صف أصحابه وكيف انهزم المسلمون ومن قتل منهم فجعل أبو بكر يسترجع ويترحم عليهم وجعل أبو خيثمة يقول يا خليفة رسول الله أتينا من قبل الاعراب انهزموا بنا وعوّدونا ما لم نكن نحسن حتى أظفرنا الله بعد ثم قال أبو بكر كرهت رؤيا رأيتها كراهية شديدة ووقع فى نفسى انّ خالدا سيلقى مهم شدّة وليت خالدا لم يصالحهم وانه حملهم على السيف فما بعد هؤلاء المقتولين يستبقى أهل اليمامة ولن يزالوا من كذابهم فى بلية الى يوم القيامة الا أن يعصمهم الله ثم قدم بعد ذلك وفد اليمامة مع خالد على أبى بكر* وقال أبو بكر لخالد سم لى أهل البلاء فقال يا خليفة رسول الله كان البلاء للبراء بن مالك والناس له تبع ولما قدم خالد المدينة لم يبق بها دار الا وفيها باكية لكثرة من قتل معه من الناس فبكى أبو بكر لما رأى ذلك وكانت وقعة اليمامة فى ربيع الاوّل من سنة ثنتى عشرة واختلف فى عدد من استشهد فيها من المسلمين فأكثر ما فى ذلك ما وقع فى كتاب أبى بكر الى خالد انّ يبايك دماء ألف ومائتين من المسلمين* وقال سالم بن عبد الله
بن عمر قتل يوم اليمامة ستمائة من المهاجرين والانصار وغير ذلك* وقال زيد بن طلحة قتل يوم اليمامة من قريش سبعون ومن الانصار سبعون ومن سائر الناس خمسمائة* وعن أبى سعيد

(2/219)


الخدرى قال قتلت الانصار فى مواطن أربعة سبعين سبعين يوم أحد سبعين ويوم بئر معونة سبعين ويوم اليمامة سبعين ويوم جسر أبى عبيدة سبعين وقتل الله من بنى حنظلة يوم اليمامة عددا كثيرا ففى كتاب يعقوب الزهرى انه قتل منهم أكثر من سبعة الاف وعن غيره انه أصيب يومئذ من صميم بنى حنيفة سبعمائة مقاتل كذا فى الاكتفاء* وفى المنتقى كان عدد بنى حنيفة يومئذ أربعين ألف مقاتل فقتل من المسلمين ألف ومائتان وقيل ألف وثمانمائة ومن المشركين نحو عشرين ألفا وقيل عشرة آلاف* وفى شواهد النبوّة كان النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ انه سيملك سبية من سبايا بنى حنيفة فوصاه ان رزق منها ولدا أن يسميه باسمه ويكنيه بكنيته فلما فتحت اليمامة فى خلافة أبى بكر وأتى بالسبايا من بنى حنيفة أعطى أبو بكر عليا الحنفية فولدت له محمد المشهور بابن الحنفية* وفى المشكاة عن محمد بن الحنفية عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت ان ولدلى بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك قال نعم رواه أبو داود*

قصة زرقاء اليمامة
وفى الفوائد بلد مسيلمة الكذاب مدينة الان اسمها اليمامة ويقال لها حجر اليمامة ويقال لها جوّ اليمامة وهى بلد معروف فى اليمن واليمامة فى الاصل اسم امرأة زرقاء يقال لها زرقاء اليمامة يضرب بها الامثال فى حدّة البصر فيقال أبصر من زرقاء اليمامة وهى اليمامة بنت مرّة من ذرّية ارم بن سام بن نوح فسميت تلك المدينة باسم تلك المرأة* وفى القاموس وبلاد الجوّ تنسب اليها سميت باسمها وهى أكثر نخيلا من سائر الحجاز وبها تنبأ مسيلمة الكذاب وهى دون المدينة فى وسط الشرق عن مكة على ست عشرة مرحلة من البصرة وعن الكوفة نحوها* وفى الفوائد وقد روى ان تبع بن بنان بن تبع لما جيش الجيوش لحصر هذه المدينة التى هى اليمامة فسار حتى بقى بينه وبين هذه المدينة مسيرة ثلاثة أيام فقال رباح بن مرّة أخو اليمامة بنت مرّة المذكورة لتبع أيها الملك انّ لى أختا مزوّجة ليس على وجه الارض أبصر منها فانها تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة ايام وأخاف أن تنذر قومها فقال تبع وما الرأى فى ذلك فقال له رباح بن مرّة الرأى فى ذلك ان تأمر أهل العسكر أن يقلعوا أشجارا ويحملوها أمامهم فأمرهم تبع بذلك ففعلوا فنظرت اليمامة فرأتهم فقالت يا قوم رأيت عجبا قالوا وما هو قالت لهم انى رأيت الاشجار تمشى على وجه الارض يحملها الرجال وانى لارى رجلا خلف شجرة ينهش كتفا أو يخصف نعلا فكذبوها فأنشدت أبياتا تحرّضهم فيها على القتال
انى أرى شجرا من خلفها بشر ... فكيف تجتمع الاشجار والبشر
ثوروا بأجمعكم فى صدر أوّلهم ... فان ذلك منكم فاعلموا ظفر
فلم يعبأ القوم بما قالت حتى صبح العدوّ عليهم فقتلوهم وسبوا ذراريهم فلما فرغوا دعا الملك باليمامة بنت مرّة فنزعت عيناها ووجدوا فى عينيها عروقا سودا فسألها الملك عن ذلك فقالت انى كنت اكتحل بحجر أسود يقال له الاثمد فبقى فى عينىّ وهى أوّل من اكتحل بالاثمد فاتخذه الناس كحلا من ذلك الوقت الى الان* وروى انّ هذه المرأة كانت ذات يوم قاعدة فى قصرها فنظرت فى الجوّ فرأت حماما يطير فتمنت أن يكون لها مثل ذلك الحمام ومثل نصفه الى حمامة كانت عندها فيكون عدد الحمام مائة فقالت هذا البيت
ليت الحمام ليه ... الى حمامتيه
أو نصفه قديه ... تم الحمام ميه
هذا البيت من بحر البسيط وكان عدة الحمام التى رأتها هذه المرأة ستة وستين ونصفه ثلاثة وثلاثون مجموع ذلك تسعة وتسعون فاذا انضم الى حمامتها يكون جملته مائة حمامة كاملة والى هذه المرأة وقولها أشار النابغة بقوله حيث قال
واحكم كحكم فتاة الحىّ اذ نظرت ... الى حمام سراع وارد الثمد

(2/220)


قالت الاليتما هذا الحمام لنا ... الى حمامتنا أو نصفه فقد
فحسبوه فلا قوه كما حسبت ... تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فكملت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة فى ذلك العدد
انتهى ما فى الفوائد* وبعث أبو بكر خالد بن الوليد فسار الى الحيرة وصالح أهلها ثم سار الى أمغيشا وخربها وكان بها أملاك لاهل الحيرة فلما رأوا خالدا خرب أملاكهم نقضوا العهد وحاربوه فقتل رئيسهم وانهزم الباقون ثم سار خالد الى الخورنق وبعث مثنى بن حارثة الى حرب الحيرة فحاصرهم وضيق عليهم الامر وكان رئيسهم عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة وانما سمى بقيلة لانه خرج على قومه فى بردين أخضرين فقالوا له يا حارث ما أنت الا بقيلة خضراء فاشتهر بذلك قال فخرج عمر والى خالد فصالحه قالوا وكان مع عمرو منصف له معلق كيسا فى حقوه فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه فى راحته وقال ما هذا يا عمر وقال هذا وأمانة الله سم ساعة قال ولم تحتقنه قال خشيت ان تكونوا على غير ما رأيت وقد أتيت على أجلى والموت أحب الىّ من مكروه أدخله على قومى فقال خالد لن تموت نفس حتى تأتى على أجلها وقال بسم الله خير الاسماء ورب الارض والسماء ليس يضرّ مع اسمه داء فأهووا اليه ليمنعوه فبادرهم وابتلع السم فقال عمرو والله يا معشر العرب لتملكنّ ما أردتم مادام منكم أحد أيها القرن وأقبل على أهل الحيرة وقال لم أر كاليوم أوضح اقيالا كذا فى الاكتفاء* وفى المنتقى روى عن على بن حرب انه قال انّ عبد المسيح بن بقيلة هو الذى صالح خالد بن الوليد على أهل الحيرة وقد كان له أربعمائة سنة وكان ذلك المال أوّل مال ورد على أبى بكر*

بعث أبى بكر العلاء الحضرمى الى البجرين
وبعث أبو بكر العلاء الحضرمى الى البحرين الى أهل الردّة* وفى حياة الحيوان بعث العلاء الحضرمى الى البحرين فسلكوا مفازة وعطشوا عطشا شديدا حتى خافوا الهلاك فنزل وصلى ركعتين ثم قال يا حليم يا عليم يا علىّ يا عظيم اسقنا فجاءت سحابة كأنها جناح طائر فقعقعت عايهم وأمطرت حتى ملؤا الانية وسقوا الركاب قال ثم انطلقنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا وبينهم* وفى رواية أتينا على خليج من البحر ما خيض فيه قبل ذلك اليوم ولا خيض بعد فلم نجد سفنا وكان المرتدون قد أحرقوا السفن فصلى ركعتين ثم قال يا حليم يا عليم يا علىّ يا عظيم أجزنا ثم أخذ بعنان فرسه ثم قال جوزوا بسم الله* قال أبو هريرة فمشينا على الماء فو الله ما ابتل لنا قدم ولا خف ولا حافر وكان الجيش أربعة آلاف* وفى رواية وكان البحر مسيرة يوم وسخر هجر* وفى الاكتفاء سار العلاء بن الحضرمى الى الخط حتى نزل على الساحل فجاءه نصرانى فقال له مالى ان دللتك على مخاضة تخوض منها الخيل الى ذارين قال وما تسألنى قال أهل بيت بدارين قال هم لك فخاض به وبالخيل اليهم فظهر عليهم عنوة وسبى أهلها ثم رجع الى عسكره* وقال ابراهيم بن أبى حبيبة حبس لهم البحر حتى خاضوا اليهم وجاوزه العلاء وأصحابه مشيا على أرجلهم وكانت تجرى فيه السفن قبل ثم جرت فيه بعد فقاتلهم فأظفره الله بهم وسلموا له ما كانوا منعوا من الجزية التى صالحهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم* ويروى انه كان للعلاء بن الحضرمى ومن كان معه جؤار الى الله تعالى فى خوض هذا البحر فأجاب الله دعاءهم وفى ذلك يقول عفيف بن المنذر وكان شاهدا معهم
ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار احدى الجلائل
دعانا الذى شق البحار فجاءنا ... بأعظم من فلق البحار الاوائل
وفى حديث غيره لما رأى ذلك أهل الردّة من أهل البحرين سألوه الصلح على ما صالحه عليه أهل هجر وفى الصفوة عن سهم بن سنجاب فى غزوة دارين قال يا عليم يا حليم يا علىّ يا عظيم انا عبيدك فى سبيلك نقاتل عدوّك اللهمّ اجعل لنا اليهم سبيلا فنقتحم البحر فخضنا ما يبلغ لبودنا فخرجنا اليهم فلما رجع أخذه

(2/221)


وجع البطن فمات فطلبنا الماء نغسله فلم نجده فلففناه فى ثيابه فدفناه فسرنا غير بعيد فاذا نحن بماء كثير فقال بعضنا لبعض لو رجعنا فاستخرجناه ثم غسلناه فرجعنا فطلبناه فلم نجده فقال رجل من القوم سمعته يقول يا علىّ يا عظيم يا حليم يا عليم أخف موتى أو كلمة نحوها ولا تطلع على عورتى أحدا فرجعنا وتركناه* وفى الصفوة عن عمرو بن ثابت قال دخلت فى أذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الاطباء فلم يقدروا عليها حتى وصلت الى صماخه فأسهرت ليله ونغصت عيش نهاره فأتى رجلا من أصحاب الحسن فشكى ذلك اليه فقال ويحك ان كان شئ ينفعك الله به فدعوة العلاء الحضرمى التى دعا بها فى البحرين وفى المفازة قال وما هى رحمك الله قال يا علىّ يا عظيم يا حليم يا عليم فدعا بها فو الله ما برحنا حتى خرجت من أذنه لها طنين حتى صكت الحائط وبرأ*

(ذكر الغزو الى الشام وما وقع فى نفس أبى بكر من ذلك وما قوّى عزمه عليه)
* فى الاكتفاء حدّث سهل بن سعد الساعدى قال لما فرغ أبو بكر من أهل الردّة واستقامت له العرب حدّث نفسه بغزو الروم ولم يطلع عليه أحد فبينما هو كذلك اذ رأى شرحبيل بن حسنة فى المنام صورة غزو الشام وبعث أبى بكر جندا فجاءه شرحبيل وجلس اليه فقال يا خليفة رسول الله أحدّثت نفسك أن تبعث الى الشأم جندا قال نعم حدثت نفسى بذلك وما يطلع عليه أحد وما سألتنى الا لشئ فأخبره شرحبيل بما رأى فأوّل أبو بكر ببعثه جندا الى الشام وفتحها عليهم ثم انه بعد ذلك أمر الامراء وبعث الى الشام البعوث* وعن عبد الله بن أبى أوفى الخزاعى وكانت له صحبة قال لما أراد أبو بكر أن يجهز الجنود الى الشام دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبى وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ووجوه المهاجرين والانصار من أهل بدر وغيرهم وشاورهم وكلهم استصوبوا رأى أبى بكر وقالوا ما رأيت من الرأى فأمضه فانا سامعون لك مطيعون لا نخالف أمرك وعلىّ فى القوم لا يتكلم فقال له أبو بكر ماذا ترى يا أبا الحسن فقال ارى انك مبارك الامر ميمون النقيبة فانك ان سرت اليهم بنفسك أو بعثت اليهم نصرت ان شاء الله تعالى قال بشرك الله بخير ومن أين علمت هذا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يزال هذا الدين ظاهرا على كل من ناواه حتى تقوم الساعة وأهله ظاهرون فقال أبو بكر سبحان الله ما أحسن هذا الحديث لقد سررتنى سرّك الله فى الدنيا والاخرة ثم انه قام فى الناس خطيبا ورغب الناس فى الجهاد ثم أمر بلالا فأذن فى الناس انفروا أيها الناس الى جهاد عدوّكم الروم بالشأم وأمير الناس خالد بن سعيد وكان خالد بن سعيد من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن فلما ولاه أبو بكر الجند الذى استنفر الى الشام أتى عمر أبا بكر ومنعه من ذلك وكان أبو بكر لا يخالف عمر ولا يعصيه فدعا يزيد بن أبى سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة فقال انى باعثكم فى هذا الوجه ومؤمركم على هذا الجند وانى باعث على كل رجل منكم من الرجال ما قدرت عليه فاذا قدمتم البلد ولقيتم العدوّ فاجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة بن الجراح وان أبو عبيدة لم يلقكما وجمعتكما حرب فيزيد بن أبى سفيان الامير وأمروا بالعسكر مع هؤلاء الثلاثة وبلغ ذلك خالد بن سعيد فتهيأ بأحسن هيئة ثم أقبل الى أبى بكر وسلم عليه وعلى المسلمين ثم جلس فقال لابى بكر أما انك كنت وليتنى أمر الناس وأنت غير متهم ورأيك فىّ حسن افعل ما ترى فخرج هو واخوته وغلمته ومن معه فكانوا أوّل خلق الله عسكر ثم خرج الناس الى معسكرهم وكتب أبو بكر الى اليمن يستنفرهم يدعوهم الى الجهاد ويرغبهم فى ثوابه وبعث الكتاب مع انس بن مالك فبلغ اليمن وقرأ الكتاب على أهلها فأجابوا حتى انتهى الى ذى الكلاع فلما قرأ عليه الكتاب دعا بفرسه وسلاحه ونهض فى قومه وأمر بالعسكر فعسكر معه جموع كثيرة من اهل اليمن وسارعوا فنفر فى ناس كثير وأقبل بهم الى أبى بكر فرجع انس فسبقه بأيام فوجد

(2/222)


أبا بكر بالمدينة ووجد ذلك العسكر على حاله وأبو عبيدة يصلى بذلك العسكر فلما قدمت حمير معها أولادها ونساؤها فرح بهم أبو بكر وقام وقال عباد الله ألم نكن نتحدّث فنقول اذا مرت حمير معها أولادها نصر الله المسلمين وخذل المشركين فأبشروا أيها المسلمون قد جاءكم النصر* قال وجاء قيس ابن هبيرة بن مكشوح المرادى معه جموع كثيرة حتى سلم على أبى بكر ثم جلس فقال له ما تنتظر ببعثة هذه الجنود قال ما كنا ننتظر الا قذومكم قال فقد قدمنا فابعث الناس الاوّل فالاوّل فانّ هذه البلدة ليست ببلدة خف ولا كراع قال فعند ذلك خرج فدعا يزيد بن أبى سفيان فعقد له ودعا ربيعة بن عامر من بنى عامر بن لؤى فعقد له ثم قال له أنت مع يزيد بن أبى سفيان لا تعصه ولا تخالفه ثم قال ليزيد ان رأيت ان توليه مقدّمتك فافعل فانه من فرسان العرب وصالحاء قومك وأرجو أن يكون من عباد الله الصالحين ثم خرج أبو بكر يمشى ويزيد راكب فقال له يزيد يا خليفة رسول الله اما أن تركب واما أن تأذن لى فأمشى معك فانى أكره أن أركب وأنت تمشى فقال أبو بكر ما أنا براكب وما أنت بنازل انى أحتسب خطاى هذه فى سبيل الله* وفى الرياض النضرة عن ابن عمر أنّ أبا بكر مشى مع يزيد بن أبى سفيان نحوا من ميلين فقيل له يا خليفة رسول الله لو انصرفت فقال لا انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اغبرت قدماه فى سبيل الله عز وجل حرمهما الله على النار ثم أوصاه بوصايا ثم أخذ بيده وودّعه فخرج يزيد فى جيشه قبل الشأم وكان أبو بكر كل غدوة وعشية يدعو فى دبر صلاة الغداة ويدعو بعد العصر* قال انس لما بعث أبو بكر يزيد بن أبى سفيان الى الشام لم يسر من المدينة حتى جاءه شرحبيل بن حسنة وأخبره برؤيا رآها فقال أبو بكر نامت عينك هذه بشرى وهو الفتح ان شاء الله لا شك فيه وانت احد أمرائى فاذا سار يزيد بن أبى سفيان فأقم ثلاثا ثم تيسر للمسير ففعل فلما مضى اليوم الثالث أتاه من الغد يودّعه فأوصاه بمثل ما اوصى به يزيد بن ابى سفيان ثم ودّع ابا بكر وخرج فى جيشه قبل الشأم وبقى معظم الناس مع ابى عبيدة فى العسكر يصلى بهم وابو عبيدة ينتظر فى كل يوم أن يدعوه ابو بكر فيسرّحه وابو بكر ينتظر به قدوم العرب عليه من كل مكان يريد أن يشحن أرض الشام ويريد ان زحفت الروم عليهم أن يكونوا مجتمعين فقدمت عليهم حمير فيها ذو الكلاع واسمه أيفع وجاءت مذحج فيها قيس بن هبيرة المرادى معه جمع عظيم من قومه وفيهم الحجاج بن عبد يغوث الزبيدى وجاء حابس بن سعد الطائى وعدد كثير من طى وجاءت الازد فيهم جندب بن عمرو بن جمزة الدوسى وفيهم أبو هريرة وجاء جماعة من قبائل قيس فعقد أبو بكر لميسرة بن مسروق العبسى عليهم وجاء قباث بن أشيم فى بنى كنانة فأما ربيعة وأسد وتميم فانهم كانوا بالعراق قال فخرج أبو بكر فى رجال من المسلمين على رواحلهم حتى أتى أبا عبيدة بن الجراح فسار معه حتى بلغ ثنية الوداع فأوصاه وناصحه ثم انه تأخر وتقدّم اليه معاذ بن جبل فأوصى كل واحد منهما صاحبه ثم أخذ كل واحد منهما بيد صاحبه فودّعه ودعا له ثم تفرّقا وانصرف أبو بكر ومضى ذلك الجيش وقال رجل من المسلمين لخالد بن سعيد وقد تهيأ للخروج مع أبى عبيدة لو كنت خرجت مع ابن عمك يزيد بن أبى سفيان كان أمثل من خروجك مع غيره فقال ابن عمى أحب الىّ من هذا فى قرابته وهذا أحب الىّ من ابن عمى فى دينه هذا كان أخى فى دينى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليى وناصرى على ابن عمى قبل اليوم فأنا به أشدّ استئناسا واليه أشدّ طمأنينة فلما أراد أن يغد وسائرا الى الشأم لبس سلاحا وأمر اخوته فلبسوا أسلحتهم عمرا وأبانا والحكم وغلمته ومواليه ثم أقبل الى أبى بكر عند صلاة الغداة فصلى معه فلما انصرفوا قام اليه هو واخوته فجلسوا اليه فحمد الله خالد وأثنى عليه
وصلى على رسوله ثم أوصى أبا بكر بالوصايا الحسنة ثم قال هات يدك يا أبا بكر فانا لا ندرى أنلتقى فى الدنيا أم لا فان قضى الله لنا فى الدنيا التقاء فنسأل عفوه وغفرانه

(2/223)


وان كانت هى الفرقة التى ليس بعدها لقاء فعرّفنا الله واياك وجه النبىّ صلى الله عليه وسلم فى جنات النعيم فأخذ أبو بكر بيده فبكى وبكى خالد وبكى المسلمون وظنوا انه يريد الشهادة وطال بكاؤهم ثم انّ أبا بكر قال انتظر نمش معك قال ما أريد أن تفعل قال لكنى أريد ذلك فقام وقام الناس معه حتى خرج من بيوت المدينة فما رأيت أحدا من المسلمين شيعه أكثر ممن شيع خالد بن سعيد يومئذ واخوته* فلما خرج من المدينة قال له أبو بكر انك قد أوصيتنى برشدى وقد وعيت وانى موصيك فاسمع وصايتى وعها فأوصاه بوصايا ثم اخذ بيده فودّعه ثم أخذ بأيدى اخوته بعد ذلك فودّعهم واحدا واحدا ثم ودّعهم المسلمون ثم انهم دعوا بابلهم فركبوها وكانوا قبل ذلك يمشون مع أبى بكر ثم قيدت معهم خيلهم فخرجوا بهيئة حسنة فلما أدبروا قال ابو بكر اللهمّ احفظهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم واحطط أوزارهم وأعظم اجورهم ثم انصرف ابو بكر ومن معه من المسلمين* وعن محمد بن خليفة أن ملحان بن زياد الطائى اخا عدىّ بن حاتم لأمه أتى ابا بكر فى جماعة من قومه من طى نحو ستمائة فقالوا له سرّحنا فى اثر الناس واخترلنا واليا صالحا نكن معه وكان قدومهم على أبى بكر بعد مسير الامراء كلهم الى الشأم فقال ابو بكر قد اخترت لك افضل امرائنا اميرا وأقدم المهاجرين هجرة ألحق بأبى عبيدة بن الجراح فقد رضيت لك صحبته وحمدت لك أدبه فنعم الرفيق فى السفر والصاحب فى الحضر قال فقلت لابى بكر قد رضيت بخيرتك التى اخترت لى فاتبعته حتى لحقته بالشأم فشهدت معه مواطنه كلها لم أغب عن يوم منها* وعن ابى سعيد المقبرى قال قدم ابن ذى السهم الخثعمى على ابى بكر وجماعة من خثعم فوق تسعمائة ودون الف بنسائهم واولادهم فشاوروا ابا بكر فى أن يخلفوهم عنده ام يخرجوا معهم فقال ابو بكر قد مضى معظم الناس ومعهم ذراريهم ولك بجماعة المسلمين أسوة فسر فى حفظ الله وفى كنفه فانّ بالشام امراء قد وجهناهم اليها فأيهم احببت ان تصحبه فاصحبه فسار حتى لقى يزيد بن ابى سفيان فصحبه* وعن يحيى بن هانئ بن عروة ان ابا بكر كان أوصى ابا عبيدة بقيس بن مكشوح وقال له انه قد صحبك رجل عظيم الشرف فارس من فرسان العرب لا أظنّ له عظم حسبة ولا كثيرنية فى الجهاد وليس بالمسلمين غنى عن مشورته ورأيه وبأسه فى الحرب فأدنه وألطفه وأره انك غير مستغن ولا مستهين بأمره فانك تستخرج منه بذلك نصيحته لك وجهده ووجده على عدوّك ودعا ابو بكر قيسا فقال له انى بعثتك مع أبى عبيدة الامين الذى اذا ظلم كظم واذا أسيئ اليه غفر واذا قطع وصل رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين فلا تعصين له أمرا ولا تخالفنّ له رأيا فانه لن يأمرك الا بخير وقد أمرته أن يسمع منك ولا تأمره الا بتقوى الله فقد كنا نسمع أنك شريف بئيس مجرّب وذلك فى زمان الشرك والجاهلية الجهلاء فاجعل بأسك وشدّتك ونجدتك اليوم فى الاسلام على من كفر بالله وعبد غيره فقد جعل الله فيه الاجر العظيم والعز للمسلمين فقال ان بقيت ولقيت فسيبلغك من حيطتى على المسلم وجهدى على الكافر ما يسرّك ويرضيك فقال أبو بكر افعل ذلك فلما بلغه مبارزته البطر يقين بالجابية وقتله اياهما قال صدق قيس ووفى وبرّ* وعن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص قال لما مضت جنود أبى بكر الى الشأم بلغ ذلك هرقل ملك الروم وهو بفلسطين وقيل له قد أتتك العرب وجمعت لك جموعا عظيمة وهم يزعمون انّ نبيهم الذى بعث اليهم أخبرهم انهم يظهرون على أهل هذه البلاد وقد جاؤك وهم لا يشكون انّ هذا يكون وجاؤك بأبنائهم ونسائهم تصديقا لمقالة نبيهم يقولون لو دخلناها وافتتحناها نزلناها بأولادنا ونسائنا فقال هرقل ذلك أشدّ لشوكتهم اذا قاتل القوم على تصديق فما أشدّ على من كايدهم أن يزيلهم أو يصدّهم قال فجمع اليه أهل البلاد وأشراف الروم ومن كان على دينه من العرب فقال يا أهل هذا الدين انّ الله قد كان اليكم محسنا وكان لدينكم معزا
وله ناصرا على الامم الخالية

(2/224)


وعلى كسرى والمجوس وعلى الترك الذين لا يعلمون وعلى من سواهم من الامم كلها وذلك انكم كنتم تعملون بكتاب ربكم وسنة نبيكم الذى كان أمره رشدا وفعله هدى فلما بدّلتم وغيرتم ذلك أطمع فيكم قوما والله ما كنا نعبأ بهم ولا نخاف ان نبتلى بهم وقد ساروا اليكم حفاة عراة جياعا قد اضطرّهم الى بلادكم قحط المطر وجدوبة الارض وسوء الحال فسيروا اليهم فقاتلوهم عن دينكم وعن بلادكم وعن أبنائكم وعن نسائكم وانا شاخص عنكم وممدّكم بالخيول والرجال وقد أمرت عليكم أمراء فاسمعوا لهم وأطيعوا ثم خرج حتى أتى دمشق فقام فيها مثل هذا المقام وقال فيها مثل هذا المقال ثم خرج حتى أتى حمص ففعل مثل ذلك ثم أتى انطاكية فأقام بها وبعث الى الروم فحشدهم اليه فجاءه منهم مالا يحصى عدده ونفر اليه مقاتلتهم وشبانهم وأتباعهم وأعظموا دخول العرب عليهم وخافوا ان يسكنوا ملكهم ثم أقبل أبو عبيدة حتى مرّ بوادى القرى ثم أخذ على الحجر أرض صالح النبى عليه السلام ثم على ذات المنار ثم على زبراء ثم ساروا الى ماب بعمان فخرج عليهم الروم فلم يلبثهم المسلمون ان هزموهم حتى دخلوا مدينتهم فحاصروهم فيها وصالح أهل ماب عليها فكانت أوّل مدائن الشأم صالح أهلها*

كتاب أبى عبيدة الى أبى بكر
ثم سار أبو عبيدة حتى اذا دنا من الجابية أتاه آت فأخبره أنّ هرقل بانطاكية وأنه قد جمع لكم من الجموع ما لم يجمعه أحد كان قبله من آبائه لاحد من الامم قبلكم فكتب أبو عبيدة الى أبى بكر الصدّيق لعبد الله أبى بكر خليفة رسول الله من أبى عبيدة بن الجرّاح سلام عليك فانى أحمد اليك الله الذى لا اله الا هو أمّا بعد فانا نسأل الله أن يعز الاسلام وأهله عزا مبينا وأن يفتح لهم فتحا يسيرا فانه بلغنى أنّ هرقل ملك الروم نزل قرية من قرى الشأم تدعى انطاكية وأنه بعث الى أهل مملكته فحشدهم اليه وأنهم نفروا اليه على الصعب والذلول وقد رأيت أن أعلمك ذلك فترى فيه رأيك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته* فكتب اليه أبو بكر أمّا بعد فقد بلغنى كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر هرقل ملك الروم فامّا منزله بانطاكية فهزيمة له ولاصحابه وفتح من الله عليك وعلى المسلمين وأمّا حشده أهل مملكته وجمعه لكم الجموع فان ذلك ما قد كنا وكنتم تعلمون أنه سيكون منهم ما كان قوم أن يدعوا سلطانهم ويخرجوا من مملكتهم بغير قتال ولقد علمت والحمد لله أن قد غزاهم رجال كثير من المسلمين يحبون الموت حب عدوّهم الحياة يحتسبون من الله فى قتالهم الاجر العظيم ويحبون الجهاد فى سبيل الله أشدّ من حبهم أبكار نسائهم وعقائل أموالهم الرجل منهم عند الهيج خير من ألف رجل من المشركين فالقهم بجندك ولا تستوحش لمن غاب عنك من المسلمين فان الله تعالى ذكره معك وأنا مع ذلك ممدّك بالرجال بعد الرجال حتى تكتفى ولا تريد أن تزداد والسلام عليك* وبعث هذا الكتاب مع دارم العبسى وكتب يزيد بن أبى سفيان الى أبى بكر أمّا بعد فانّ هرقل ملك الروم لما بلغ مسيرنا اليه ألقى الله الرعب فى قلبه فتحوّل ونزل انطاكية وخلف امراء من جنده على جند الشأم وأمرهم بقتالنا وقد تسيروا لنا واستعدّوا وقد نبأنا مسالمة الشأم أنّ هرقل استنفر أهل مملكته وأنهم جاؤا يجرون الشوك والشجر فمرنا بأمرك وعجل علينا فى ذلك برأيك نتبعه نسأل الله النصر والصبر والفتح وعاقبة المسلمين والسلام عليك وبعث بهذا الكتاب مع عبد الله بن قرط الثمالى* وكتب أبو بكر معه بهذا الكتاب أمّا بعد فقد بلغنى كتابك تذكر فيه تحوّل ملك الروم الى انطاكية والقاء الله الرعب فى قلبه من جموع المسلمين فانّ الله تبارك وتعالى وله الحمد قد نصرنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب وأيدنا بملائكته الكرام وان ذلك الدين الذى نصرنا الله فيه بالرعب هو هذا الدين الذى ندعو الناس اليه اليوم فو ربك لا يجعل الله المسلمين كالمجرمين ولا من يشهد أنه لا اله غيره كمن يعبد معه آلهة أخرى ويدين بعبادة آلهة شتى فاذا لقيتهم فانبذ اليهم بمن معك وقاتلهم فانّ الله لن يخذلك وقد نبأنا الله أنّ الفئة القليلة مما تغلب الفئة الكثيرة باذن الله وأنا مع ما هنالك ممدّكم بالرجال فى

(2/225)


أثر الرجال حتى تكتفوا ولا تحتاجوا الى زيادة انسان ان شاء الله تعالى والسلام* ولما ردّ أبو بكر عبد الله بن قرط بهذا الكتاب الى يزيد قال له أخبره والمسلمين أنّ مدد المسلمين آتيهم مع هاشم بن عتبة وسعيد بن عامر بن جذيم فخرج عبد الله بكتابه حتى قدم به على يزيد وقرأه على المسلمين فتباشروا وفرحوا وان أبا بكر دعا هاشم بن عتبة وبعثه فى ألف من المسلمين فسلم على أبى بكر وودّعه ثم خرج من غده فلزم طريق أبى عبيدة حتى قدم عليه فسر المسلمون بقدومه وتباشروا به وبلغ سعيد بن عامر بن جذيم أن أبا بكر يريد أن يبعثه فلما أبطأ ذلك عليه ومكث أياما لا يذكر له ذلك أتاه فقال يا أبا بكر والله لقد بلغنى أنك كنت أردت أن تبعثنى فى هذا الوجه ثم رأيتك قد سكت فما أدرى ما بدا لك فىّ فان كنت تريد أن تبعث غيرى فابعثنى معه وان كنت لا تريد أن تبعث أحدا فانى راغب فى الجهاد فأذن لى رحمك الله كيما ألحق بالمسلمين فقد ذكر لى أنّ الروم جمعت لهم جمعا عظيما فقال أبو بكر رحمك الله أرحم الراحمين يا سعيد فأمر بلالا فنادى فى الناس أن انتدبوا أيها المسلمون مع سعيد بن عامر الى الشأم فانتدب معه سبعمائة رجل فى أيام فلما أراد سعيد الشخوص جاء بلال فقال يا خليفة رسول الله ان كنت انما أعتقتنى لله تعالى لا ملك نفسى وأتصرف فيما ينفعنى فخل سبيلى حتى أجاهد فى سبيل ربى فانّ الجهاد أحب الىّ من المقام* قال أبو بكر فان الله يشهد انى لم أعتقك الا له وانى لا أريد منك جزاء ولا شكورا فهذه الارض ذات الطول والعرض فاسلك أىّ فجاجها أحببت فقال كأنك أيها الصدّيق عتبت علىّ فى مقالتى ووجدت فى نفسك منها قال لا والله ما وجدت فى نفسى من ذلك وانى لا أحب ان تدع هواك لهواى ما دعاك هواك الى طاعة ربك قال فان شئت أقمت معك قال امّا اذ هواك فى الجهاد فلم اكن لامرك بالمقام وانما اردتك للاذان ولأجدن لفراقك وحشة يا بلال ولا بدّ من التفرق فرقة لا التقاء بعدها حتى يوم البعث فاعمل صالحا يا بلال وليكن زادك من الدنيا ما يذكرك الله ما حييت ويحسن لك به الثواب اذا توفيت فقال له بلال جزاك الله من ولىّ نعمة ومن أخ فى الاسلام خيرا فو الله ما أمرك لنا بالصبر على الحق والمداومة على العمل بالطاعة ببدع وما كنت لأؤذن لاحد بعد النبىّ صلى الله عليه وسلم وخرج بلال مع سعيد بن عامر وكان أبو بكر أمر سعيد بن عامر مع توابعه وهم اكثر من خمسين رجلا أن يلحق بيزيد بن ابى سفيان فلحق به وشهد معه وقعة العربة والدثنة* وقدم على ابى بكر حمزة بن مالك الهمدانى فى جمع عظيم زها الف رجل أو اكثر فلما رآى ابو بكر عددهم وعدّتهم سرّه ذلك فقال الحمد لله على صنعه للمسلمين ما يزال الله تعالى يرتاح لهم بمدد من انفسهم يشدّ به ظهورهم ويقصم به ظهور عدوّهم ثم قال حمزة لابى بكر علىّ امير دونك قال نعم ثلاثة امراء قد أمرناهم فأيهم شئت فكن معه فلما لحق بالمسلمين سألهم اى الامراء افضل وأيهم كان افضل عند النبىّ صلى الله عليه وسلم صحبة فقيل له ابو عبيدة بن الجرّاح فجاءه فكان معه* قال عمرو ابن محصن لم يكن ابو بكر رضى الله عنه يسأم توجيه الجنود الى الشأم وامداد الامراء الذين بعثهم بالرجال بعد الرجال ارادة اعزاز الاسلام واذلال اهل الشرك* وعن ابى سعيد المقبرى قال لما بلغ أبا بكر جمع الاعاجم لم يكن شئ أعجب اليه من قدوم المجاهدين عليه من ارض العرب فكانوا كلما قدموا عليه سرح الاوّل فالاوّل فقدم عليه فيمن قدم ابو الاعور السّلمى فبعثه ابو بكر فسار حتى قدم على ابى عبيدة وقدم على ابى بكر معن بن يزيد بن الاخنس فى رجال من بنى سليم نحو مائة فقال ابو بكر لو كان هؤلاء اكثر مماهم أمضيناهم فقال عمر والله لو كانوا عشرة لرأيت لك أن تمدّبهم اخوانهم اى والله وأرى ان نمدّهم بالرجل الواحد اذا كان ذا اجزاء وغناء فقال حبيب بن مسلمة الفهرى عندى نحو من عدّتهم رجال من ابناء القبائل ذو ورغبة
فى الجهاد فأخرجنا وهؤلاء جميعا يا خليفة رسول الله فقال له امّا الان فاخرج بهم جميعا حتى تقدم بهم على اخوانهم فخرج فعسكر معهم ثم جمع اصحابه اليهم ثم مضى بهم حتى

(2/226)


قدم على يزيد بن ابى سفيان قال واجتمعت رجال من كعب واسلم وغفار ومزينة نحوا من مائتين فأتوا ابا بكر فقالوا ابعث علينا رجلا وسرّحنا الى اخواننا فبعث عليهم الضحاك بن قيس فسار حتى أتى يزيد فنزل معه* وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال لما رأى اهل مدائن الشأم انّ العرب قد جاشت عليهم من كل وجه وكثرت جموعهم بعثوا الرسل الى ملكهم يعلمونه ذلك ويسألونه المدد فكتب اليهم انى عجبت لكم حين تستمدّوننى وحين تكثرون علىّ عدّة من جاءكم وانا أعلم بكم وبمن جاءكم منهم ولأهل مدينة واحدة من مدائنكم اكثر ممن جاءكم منهم أضعافا فالقوهم وقاتلوهم ولا تحسبوا انى كتب اليكم بهذا وأنا لا اريد ان أمدّكم لأبعثن اليكم من الجنود ما تضيق به الارض الفضاء وكان اهل مدائن الشأم قد ارسلوا الى كل من كان على دينهم من العرب فأطمعهم أكثرهم فى النصر ومنهم من حمى العرب فكان ظهور العرب أحب اليه وذلك من لم يكن فى دينه راسخا منهم وبلغ خبرهم وتراسلهم أبا عبيدة بن الجراح فكتب بذلك الى أبى بكر

مكالمة عمرو بن العاص مع أبى بكر
فجمع أبو بكر أشراف قريش من المهاجرين وغيرهم من أهل مكة ثم دعا باشراف الانصار وذوى السابقة منهم ثم دعا عمرو بن العاص فقال يا عمرو هؤلاء اشراف قومك يخرجون مجاهدين فاخرج فعسكر حتى أندب الناس معك فقال يا خليفة رسول الله انا وال على الناس فقال نعم أنت الوالى على من أبعثه معك من هاهنا قال لابل وال على من أقدم عليه من المسلمين قال لا ولكنك أحد الامراء فان جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم فسكت عنه ثم خرج فعسكر فاجتمع اليه ناس كثير وكان معه أشراف قريش فلما حضر خروجه جاء الى عمر فقال يا أبا حفص انك قد عرفت بصرى بالحرب ويمن نقيبتى فى الغزو وقد رأيت منزلتى عند رسول الله وقد علمت انّ أبا بكر ليس يعصيك فأشر عليه أن يولينى هذه الجنود التى بالشام فانى أرجو أن يفتح الله على يدىّ هذه البلاد وأن يريكم والمسلمين من ذلك ما تسرّون به فقال له عمر لا أكذبك ما كنت أكلمه فى ذلك لانه لا يوافقنى أن يبعثك على ابى عبيدة وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك قال فانه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألى عليه فقال له ويحك يا عمرو انك والله ما تطلب بهذه الرياسة الاشرف الدنيا فاتق الله ولا تطلب بشئ من سعيك الا وجه الله واخرج فى هذا الجيش فانه ان يكن عليك أمير فى هذه المرّة فما أسرع ما تكون ان شاء الله أميرا ليس فوقك أحد فقال قد رضيت فخرج واستتب له المسير* فلما أراد الشخوص خرج معه أبو بكر يشيعه وقال يا عمرو انك ذو رأى وتجربة للامور وبصير بالحرب وقد خرجت فى اشراف قومك ورجال من صالحاء المسلمين وأنت قادم على اخوانك فلا تألهم نصيحة ولا تدخر عنهم صالح مشورة فرب رأى لك محمود فى الحرب مبارك فى عواقب الامور فقال له عمرو ما خلتنى ان أصدق ظنك ولا أقبل رأيك ثم ودّعه وانصرف عنه فقدم الشام فعظم غناؤه وبلاؤه عند المسلمين* وكتب أبو بكر الى أبى عبيدة أما بعد فقد جاءنى كتابك تذكر فيه تيسر عدوّكم لمواقعتكم وما كتب به اليهم ملكهم من عدته اياهم أن يمدّهم من الجنود بما تضيق به الارض الفضاء ولعمر الله لقد أصبحت الارض ضيقة عليه برحبها وأيم الله ما أنا بيائس أن تزيلوه من مكانه الذى هو به عاجلا ان شاء الله تعالى فبث خيلك فى القرى والسواد وضيق عليهم بقطع الميرة ولا تحاصر المدائن حتى يأتيك أمرى فان ناهدوك فانهض اليهم واستعن بالله عليهم فانه ليس يأتيهم مدد الامددناكم بمثله أو ضعفه وليس بكم بحمد الله قلة ولا ذلة ولا أعرفنّ ما جبنتم عنهم فانّ الله فاتح لكم ومظهركم على عدوّكم ومعزكم بالنصر وملتمس منكم الشكر لينظر كيف تعملون وجاءك عمرو فأوصيك به خيرا فقد أوصيته ان لا يضيع لك حقا والسلام عليك* وجاء عمرو بالناس حتى نزل بأبى عبيدة وكان عمرو فى مسيره ذلك الى الشأم فيما حدّث به عمرو بن شعيب يستنفر من مرّ به من الاعراب فتبعه منهم ناس كثير فلما اجتمعواهم ومن كان قد قدم معه من المدينة كانوا نحوا من ألفين فلما قدم بهم

(2/227)


على أبى عبيدة سرّ بهم هو والناس الذين معه واستأنس بهم وكان عمرو ذا رأى فى الحرب وبصر بالاشياء فقال له أبو عبيدة أبا عبد الله رب يوم شهدته فبورك للمسلمين فيه برأيك ومحضرك انما أنا رجل منكم لست وان كنت الوالى عليكم بقاطع أمرا دونكم فاحضرنى رايك فى كل يوم بما ترى فانه ليس لى عنك غنى فقال له افعل والله يوفقك لما يصلح المسلمين* وقال سهل بن سعد ما زال أبو بكر يبعث الامراء الى الشام أمير أميرا ويبعث القبائل قبيلة قبيلة حتى ظنّ انهم قد اكتفوا وأنهم لا يريدون ان يزدادوا رجلا* وذكر ابو جعفر الطبرى عن محمد بن اسحاق انّ تجهيز ابى بكر الجيوش الى الشام كان بعد قفوله من الحج سنة اثنتى عشرة وانه حينئذ بعث عمرو بن العاص قبل فلسطين* وقيل انّ ابا بكر جعل سعيد بن العاص ردئا بتيماء وأمره أن لا يبرحها وان يدعو من حوله بالانضمام اليه وان لا يقبل الا ممن لا يرتدّ ولا يقاتل الا من قاتله حتى يأتيه أمره فأقام فاجتمعت اليه جموع كثيرة وبلغ الروم عظم ذلك العسكر فضربوا على العرب الضاحية بالشام البعوث اليهم* فكتب خالد بن سعيد بذلك الى أبى بكر فكتب اليه أبو بكر أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله فسار اليه خالد فلما دنا منهم تفرّقوا وأعروا منزلهم ودخل من كان يجمع له فى الاسلام* وكتب الى أبى بكر بذلك فكتب اليه أبو بكر أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل* فسار اليه بطريق من بطارقة الروم يدعى ماهان فهزمه وقتل جنده وكتب بذلك الى أبى بكر واستمدّه* وقد قدم على أبى بكر أوائل مستنفرى اليمن ومن بين مكة واليمن فساروا فقدموا على خالد بن سعيد وعند ذلك اهتاج أبو بكر للشام وعناه أمره* وقد كان أبو بكر ردّ عمرو بن العاص على عمالته التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه اياها من صدقات سعد وعذرة وما كان معهما قبل ذهابه الى عمان فخرج الى عمان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على عدة من عمله اذا هو رجع فأنجز له ذلك أبو بكر ثم كتب اليه أبو بكر عند اهتياجه الى الشام انى كنت قد رددتك على العمل الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرّة وسماه لك أخرى اذ بعثتك الى عمان انجاز الموعد رسول الله فقد وليته ثم وليته وقد أحببت أبا عبد الله ان أفرغك لما هو خير لك فى حياتك ومعادك منه الا ان يكون الذى أنت فيه أحب اليك* فكتب اليه عمرو انى سهم من سهام الاسلام وانت بعد الله الرامى بها والجامع فانظر أسدّها وأحسنها وأفضلها فارم به شيئا ان جاءك من ناحية من النواحى* وكتب أبو بكر الى الوليد بن عقبة بنحو ذلك فأجابه الى ايثار الجهاد* وعن أبى أمامة الباهلى قال كنت فيمن سرح أبو بكر مع أبى عبيدة وأوصانى به وأوصاه بى*

أوّل وقعة فى الشام
فكانت أوّل وقعة بالشام يوم العربة ثم يوم الدثنة وليسا من الايام العظام خرج ستة قوّاد من الروم مع كل قائد خمسمائة فكانوا ثلاثة آلاف فلمّا رأيناهم أقبلوا حتى انتهوا الى العربة بعث يزيد بن أبى سفيان الى أبى عبيدة يعلمه فبعثنى اليه فى خمسمائة فلما أتيته بعث معى رجلا فى خمسمائة فلما رأيناهم يعنى قوّادهم أولئك حملنا عليهم فهزمناهم وقتلنا قائدا من قوّادهم ثم مضوا واتبعناهم فجمعوا لنا بالدثنة فسرنا اليهم فقدّمنى يزيد وصاحبى فى عدّتنا فهزمناهم فعند ذلك فزعوا واجتمعوا وأمدّهم ملكهم* وذكر ابن اسحاق عن صالح بن كيسان أن عمرو بن العاص خرج حتى نزل بعمير العربات ونزل الروم بثنية جلق بأعلا فلسطين فى سبعين ألفا عليهم تدارق اخو هرقل لابيه وأمّه* فكتب عمرو الى أبى بكر يستمدّه وخرج خالد بن سعيد بن العاص وهو بمرج الصفر من أرض الشأم فى يوم مطير يستمطر فيه فعدى عليه أعلاج الروم فقتلوه وقيل أتاهم ادريحا وهم فى أربعة آلاف وهم غارون فاستشهد خالد بن سعيد وعدّة من المسلمين* قال أبو جعفر الطبرى قيل انّ المقتول فى هذه الغزوة ابن لخالد بن سعيد وانّ خالدا انحاز حين قتل ابنه* وذكر سيف انّ الوليد بن عقبة لما قدم على خالد بن سعيد فسانده وقدمت جنود المسلمين

(2/228)


الذين كان أبو بكر امدّه بهم وبلغه عن الامراء يعنى أمراء المسلمين الذين امدّهم ابو بكر وتوجههم اليه اقتحم على الروم وطلب الحظوة وأعرى ظهره وبادر الامراء لقتال الروم واستطرد له ماهان فارّاهو ومن معه الى دمشق واقتحم خالد فى الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى نزل مرج الصفر ما بين الواقصة ودمشق فانطوت مشايخ ماهان عليه واخذوا عليه الطرق ولا يشعر وزحف له ماهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمطر فى الناس فقتلوه فأتى الخبز خالدا فخرج هاربا فى جريدة خيل ولم تنته بخالد الهزيمة عن ذى المروة وأقام عكرمة فى الناس ردئا لهم فردّ عنهم ماهان وجنوده أن يطلبوهم وأقام من الشام على قرب منها* وذكر ابن اسحاق مسير الامراء ومنازلهم وان يزيد بن أبى سفيان نزل البلقاء ونزل شرحبيل بن حسنة الاردن ويقال بصرى ونزل أبو عبيدة الجابية* وعن غير ابن اسحاق انه لما نزل أبو عبيدة بالجابية كتب الى أبى بكر* أما بعد فانّ الروم وأهل البلد ومن كان على دينهم من العرب قد أجمعوا على حرب المسلمين ونحن نرجو النصر وانجاز موعد الرب تبارك وتعالى وعادته الحسنى واحببت اعلام ذلك لترينا رأيك*

توجه خالد بن الوليد من العراق الى الشام
فقال أبو بكر والله لانسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد وكان خالد اذ ذاك يلى حرب العراق فكتب اليه أبو بكر* أما بعد فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه وامض مختفيا فى أهل القوّة من اصحابك الذين قدموا معك العراق من اليمامة وصحبوك فى الطريق وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتى الشام فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين فاذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام* ويروى انه كان فيما كتب اليه به أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجوا وأشجوا واياك أن تعود لمثل ما فعلت فانه لم يشج الجموع بعون الله سبحانه أحد من الناس اشجاءك ولم ينزع الشجا أحد من الناس نزعك فلتهنك أبا سليمان النعمة والحظوة فأتمم يتمم الله لك ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل واياك أن تدل بعمل فانّ الله تعالى له المنّ وهو ولىّ الجزاء ووافى حالدا كتاب أبى بكر هذا وهو بالحيرة منصرفا من حجة حجها مكتتما بها وذلك انه لما فرغ من ايقاعه بالروم ومن انضوى اليهم مغيثا لهم من مشايخ فارس بالفراض والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة أقام بالفراض عشرا ثم اذن بالقفل الى الحيرة لخمس بقين من ذى القعدة وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم وأمر شجرة بن الاغر أن يسوقهم وأظهر خالد أنه فى الساقة وخرج من الحيرة ومعه عدّة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت فتأتى له فى ذلك ما لم يتأت لدليل ومرسال فسار طريقا من طرق الجزيرة لم ير طريق أعجب منه فكانت غيبته عن الجند يسيرة ما توا فى الى الحيرة آخرهم حتى واماهم مع صاحب الساقة الذى وضعه وقدما جميعا وخالد وأصحابه مخلفون ولم يعلم بحجه الا من أفضى اليه بذلك من الساقة ولم يعلم أبو بكر بذلك الا بعد فهو الذى يعنيه بما تقدم فى كتابه اليه من معاتبته اياه وقدم على خالد بالكتاب عبد الرحمن بن حنبل الجمعى فقال له خالد قبل أن يقرأ كتابه ما وراءك فقال خير تسير الى الشام فشق عليه ذلك وقال هذا عمل عمر نفسى علىّ أن يفتح الله علىّ العراق وكانوا هابوه هيبة شديدة وكان خالد اذا نزل بقوم عذابا من عذاب الله عليهم وليثا من الليوث فلما قرأ كتاب أبى بكر فرأى أن قد ولاه على أبى عبيدة وعلى الشام تسخى بنفسه وقال أما اذولانى فانّ فى الشام من العراق خلفا فقام اليه النسر بن ديسم العجلى وكان من أشراف بنى عجل وفرسان بكر بن وائل ومن رؤس أصحاب المثنى بن حارثة فقال لخالد أصلحك الله والله ما جعل الله فى الشام من العراق خلفا للعراق اكثر حنطة وشعيرا وديباجا وحريرا وفضة وذهبا وأوسع سعة وأعرض عرضا والله ما الشام كله الا كجانب من العراق فكره المثنى مشورته عليه وكان يحب أن يخرج من العراق ويخليه واياها فقال خالد انّ بالشأم أهل الاسلام وقد

(2/229)


تهيأت لهم الروم وتسيرت فانما أنا مغيث وليس لهم مدد فكونوا أنتم ههنا على حالتكم التى كنتم عليها فان نفرغ مما أشخصنا اليه عاجلا عجلنا اليكم وان أبطأت رجوت أن لا تعجزوا ولا تهنوا وليس خليفة رسول الله بتارك امدادكم بالرجال حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد ان شاء الله تعالى* ويروى انّ أبا بكر أمر خالدا بالخروج فى شطر الناس وأن يخلف على الشطر الثانى المثنى بن حارثة وقال له لا تأخذ مجدا الا خلفت لهم مجدا فاذا فتح الله عليك فارددهم الى العراق وأنت معهم ثم أنت على عملك وأحضر خالد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأثر بهم على المثنى وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغباء ممن لم يكن له صحبة ثم نظر فيمن بقى فاختلج من كان قدم على النبى صلى الله عليه وسلم وافدا أو غير وافد وترك للمثنى اعدادهم من أهل الغباء ثم قسم الجند نصفين فقال المثنى والله لا اقيم الا على انفاذ أمر أبى بكر كله فى استصحاب نصف الصحابة وابقاء النصف وبعض النصف فو الله ما أرجو النصر الا بهم فانى تعرينى منهم فلما رأى ذلك خالد بعد ما تكلما عليه أعاضه منهم حتى رضى وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلى وبشر بن الخصاصية والحارث بن حسان الدهليان ومعبد بن أم معبد الاسلمى وبلال بن الحارث المزنى وعاصم بن عمرو التيمى حتى اذا رضى المثنى واخذ حاجته انحدر خالد ومضى لوجهه وشيعه المثنى الى قراقر فقال له خالد انصرف الى سلطانك غير مقصر ولا ملوم ولا وان*

كيفية سلوك خالد فى القفار
وذكر الطبرى انّ خالدا لما أراد المسير الى الشام دعا بالادلة فارتحل من الحيرة سائرا الى دومة ثم طعن فى البر الى قراقر ثم قال كيف لى بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم فانى ان استقبلتها حبستنى عن غياث المسلمين فكلهم قالوا لا نعرف الا طريقا لا يحمل الجيش فاياك أن تغرر بالمسلمين فعزم عليه فلم يجبه الى ذلك الا رافع بن عميرة على تهيب شديد فقام فيهم فقال لا تختلفنّ هدتكم ولا تضعفن تعبيتكم واعلموا انّ المعونة تأتى على قدر النية والاجر على قدر الحسبة وانّ المسلم لا ينبغى له أن يكترث بشىء يقع فيه مع معونة الله له فقالوا له أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك فطابقوه ونووا واحتسبوا* وذكر غير الطبرى انّ خالدا حين أراد المسير الى الشام قال له محرز بن حريش وكان يتجر بالحيرة ويسافر الى الشام اجعل كوكب الصبح على حاجبك الايمن ثم أمّه حتى تصبح فانك لا تحور فجرّب ذلك فوجده كذلك ثم أخذ فى السماوة حتى انتهى الى قراقر فقوّر من قراقر الى سوى وهما منزلان بينهما خمس ليال فلم يهتدوا للطريق فدل على رافع بن عميرة الطائى فقال له خفف الاثقال واسلك هذه المفازة ان كنت فاعلا فكره خالد أن يخلف احدا فقال قد أتانى أمر لابد من انفاذه وان تكون جميعا قال فو الله انّ الراكب المنفرد ليخافها على نفسه لا يسلكها الا مغررا فكيف انت بمن معك فقال انه لا بدّ من ذلك فقدأتنى؟؟؟ عزمة قال فمن استطاع منكم أن يصرّ اذن راحلته على ماء فليفعل فانها المهالك الا ما وقى الله ثم قال لخالد ابغنى عشرين جزورا عظاما سمانا مسانّ فأتاه بهنّ فظمأهنّ حتى اذا جهدهنّ عطشا سقاهنّ حتى أرواهنّ ثم قطع مشافرهنّ ثم عكمهنّ ثم قال لخالد سر بالخيول والاثقال فكلما نزل منزلا نحر من تلك الشرف اربعا فافتظ ماءهنّ فسقاه الخيول وشرب الناس مما تزوّدوا حتى اذا كان آخر ذلك قال خالد لرافع ويحك ما عندك يا رافع فقال أدركك الرى ان شاء الله انظروا هل تجدون شجرة عوسج على ظهر الطريق قالوا لا قال انا لله اذا والله هلكت وأهلكت لا أبالكم نظروا فنظروا فوجدوها فكبر وكبروا وقال احفروا فى أصلها فاحتفروا فوجدوا عينا فشربوا وارتووا فقال رافع والله ما وردت هذا الماء قط الا مرّة مع أبى وأنا غلام قال راجز من المسلمين
لله درّ رافع أنى اهتدى ... قوّر من قراقر الى سوى
أرضا اذا ما سارها الجيش بكى ... ما سارها من قبله انس أرى

(2/230)


لكن بأسباب متينات الهدى ... نكبها الله ثنيات الردى
وعن عبد الله بن قرط الثمالى قال لما خرج خالد من عين التمر مقبلا الى الشام كتب الى المسلمين مع عمرو ابن الطفيل بن عمرو الازدى وهو ابن ذى النور* أما بعد فانّ كتاب خليفة رسول الله أتانى بالمسير اليكم وقد شمرت وانكمشت وكأن قد أظلت عليكم خيلى ورجالى فابشروا بانجاز موعد الله وحسن ثواب الله عصمنا لله واياكم باليقين وأثابنا أحسن ثواب المجاهدين والسلام عليكم*

كتاب خالد الى أبى عبيدة
وكتب معه الى أبى عبيدة أما بعد فانى اسأل الله لنا ولك الا من يوم الخوف والعصمة فى دار الدنيا من كل سوء وقد اتانى كتاب خليفة رسول الله يأمرنى بالمسير الى الشأم وبالقيام على جندها والتولى لامرها والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته اذ وليته فأنت على حالك التى كنت عليها لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع دونك أمرا فأنت سيد المسلمين لا ننكر فضلك ولا نستغنى عن رأيك تمم الله بنا وبك من احسان ورحمنا واياك من صلىّ النار والسلام عليك ورحمة الله* قال فلما قدم علينا عمرو بن الطفيل وقرأ كتاب خالد على الناس وهم بالجابية ودفع الى أبى عبيدة كتابه فقرأه قال بارك الله لخليفة رسول الله فيما رأى وحيا الله خالدا قال وشق على المسلمين أن ولى خالدا على أبى عبيدة ولم أره على احد أشق منه على بنى سعيد بن العاص وانما كانوا متطوّعين حبسوا انفسهم فى سبيل الله حتى يظهر الله الاسلام فأما ابو عبيدة فانا لم نتبين فى وجهه ولا فى شئ من منطقه الكراهة لامر خالد* وعن سهل بن سعد أنّ أبا بكر كتب الى أبى عبيدة أما بعد فانى قد وليت خالدا قتال العدوّ بالشام فلا تخالفه واسمع له وأطع أمره فانى لم أبعثه عليك أن لا تكون عندى خيرا منه ولكنى ظننت أن له فطنة فى الحرب ليست لك أراد الله بنا وبك خيرا والسلام*

اغارة خالد على بنى تغلب
ثم انّ خالدا خرج من عين التمر حتى أغار على بنى تغلب والنمر بالبشر فقتلهم وهزمهم وأصاب من أموالهم طرفا قال وانّ رجلا منهم ليشرب من شراب له فى جفنة وهو يقول
* الاعللانى قبل جيش أبى بكر ... لعل منايانا قريب وما ندرى*
فما هو الا أن فرغ من قوله اذ شدّ عليه رجل من المسلمين فضرب عنقه فاذا رأسه فى الجفنة* وعن عدى ابن حاتم قال أغرنا يعنى مع خالد على أهل المصيخ واذا رجل من النمر يدعى حرقوص بن النعمان حوله بنوه وبينهم جفنة من خمروهم عليها عكوف يقولون له ومن يشرب هذه الساعة فى أعجاز الليل فقال اشربوا شرب وداع فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها أبدا هذا خالد بالعين وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا ثم قال
الا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر ... وقبل انتقاص القوم بالعسكر الدثر
وقيل منايانا المصيبة بالقدر ... بحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى
فسبق اليه وهو فى ذلك بعض الخيل فضرب رأسه فاذا هو فى جفنته فأخذنا بناته وقتلنا بنيه* وفى كتاب سيف قال ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها واغارته على مصيخ بهراء وانتسافها اجتمعوا بمرج راهط وبلغ ذلك خالدا وقد خلف ثغور الشام وجنودها مما يلى العراق فصار بينهم وبين اليرموك صمد لهم فخرج من سوى بعد ما رجع اليها بسبى بهراء فنزل علمين على الطريق ثم نزل الليث حتى صار الى دمشق ثم مرج الصفر فلقى عليه غسان وعليهم الحارث بن الايهم فانتسف عسكرهم ونزل بالمرج أياما وبعث الى أبى بكر بالأخماس ثم خرج من المرج حتى نزل مياه بصرى فكانت أوّل مدينة افتتحت بالشام على يدى خالد فيمن معه من جنود العراق وخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة* وعن غير سيف أنّ خالدا أغار على غسان فى يوم فصبحهم فقتل وسبى وخرج على أهل الغوطة حتى أغار عليهم فقتل ما شاء وغنم ثم انّ العدوّ دخلوا دمشق فتحصنوا وأقبل أبو عبيدة وكان بالجابية مقيما حتى نزل معه بالغوطة فحاصر أهل دمشق*

عدّة الجيش الذى دخل الشام مع خالد
وعن قيس بن أبى حازم قال كان خرج مع خالد من بجيلة وعظيمهم أحمس نحو من

(2/231)


مائتى رجل ومن طى نحو من مائة وخمسين قال وكان معنا المسيب بن نجيبة فى نحو من مائتى فارس من بنى ذبيان وكان خالد فى نحو من تلثمائة من المهاجرين والانصار فكان أصحابه الذين دخلوا معه الشام ثمانمائة وخمسين رجلا كلهم ذونية وبصيرة لانه كان يقحم أمورا يعلمون انه لا يقوى على ذلك الاكل قوىّ جلد فأقبل بنا حتى مرّ بأروكة فأغار عليها وأخذ الاموال وتحصن منه أهلها فلم يبارحهم حتى صالحهم* قال ومرّ بتدمر فتحصنوا منه فأحاط بهم من كل جانب وأخذهم من كل مأخذ فلم يقدر عليهم فلما لم يطقهم ترحل عنهم وقال لهم حين أراد أن يرتحل فيما يروى عن عبد الله بن قرط والله لو كنتم فى السحاب لاستنزلناكم وظهرنا عليكم ما جئناكم الا ونحن نعلم انكم ستفتحون علينا وان أنتم لم تصالحونا هذه المرّة لارجعنّ اليكم لو قد انصرفت من وجهى هذا ثم لا أرحل عنكم حتى أقتل مقاتلتكم وأسبى ذراريكم فلما فصل قال علماؤهم واجتمعوا انا لا نرى هؤلاء القوم الا الذين كنا نتحدّث انهم يظهرون علينا فافتحوا لهم فبعثوا الى خالد فجاء ففتحوا له وصالحوه* وعن سراقة بن عبد الاعلى أن خالدا فى طريقه ذلك مرّ على حوران فهابوه فتحرز أكثرهم منه وأغار عليهم فاستاق الاموال وقتل الرجال وأقام عليهم أياما فبعثوا الى ما حولهم ليمدّوهم فأمدّوهم من مكانين من بعلبك وهى أرض دمشق ومن قبل بصرى وبصرى مدينة حوران وهى من أرض دمشق أيضا فلما رأى المددين قد أقبلا خرج وصف بالمسلمين ثم تجرّد فى مائتى فارس فحمل على مدد بعلبك وهم أكثر من ألفين فما وقفوا حتى انهزموا ودخلوا المدينة ثم انصرف يوجف فى أصحابه وجيفا حتى اذا كان بحذاء مدد بصرى وانهم لاكثر من ألفين حمل عليهم فما ثبتوا له فواقا حتى هزمهم فدخلوا المدينة وخرج أهل المدينة فرموا المسلمين بالنشاب فانصرف عنهم خالد وأصحابه حتى اذا كان من الغد خرجوا اليه ليقاتلوه فعجزوا وأظهره الله عليهم فصالحوهم* وعن عمرو بن محصن حدّثنى علج من أهل حوران كان يتشجع قال والله لخرجنا اليهم بعد ما جاءنا مدد أهل بعلبك وأهل بصرى بيوم فخرجنا وانا لاكثر من خالد وأصحابه بعشرة أضعافهم وأكثر فما هو الا أن دنونا منهم فثاروا فى وجوهنا بالسيوف كأنهم الاسد فانهزمنا أقبح الهزيمة وقتلونا أشر القتلة فما عدنا نخرج اليهم حتى صالحناهم ولقد رأيت رجلا منا كنا نعدّه بالف رجل قال لئن رأيت أميرهم لا قتلته فلما رأى خالدا قيل له هذا خالد أمير القوم فحمل عليه وانا لنرجو لبأسه أن يقتله فما هو الا أن دنا منه فضرب خالد فرسه فأقدمه عليه ثم استعرض وجهه بالسيف فأطار قحف رأسه ودخلنا مدينتنا فما كان لنا هم الا الصلح حتى صالحناهم* وعن قيس بن أبى حازم قال كنت مع خالد حين مرّ بالشام فأقبل حتى نزل بقناة بصرى من أرض حوران وهى مدينتها فلما نزلنا واطمأننا خرج الينا الدرنجال فى خمسة آلاف فارس من الروم فأقبل الينا وما يظنّ هو وأصحابه الا أنا فى أكفهم فخرج خالد فصفنا ثم جعل على ميمنتنا رافع بن عميرة الطائى وعلى ميسرتنا ضرار بن الازور وعلى الرجال عبد الرحمن بن حنبل الجمحى وقسم خيله فجعل على شطرها المسيب بن نجيبة وعلى الشطر الاخر رجلا كان معه من بكر بن وائل ولم يسمه وأمرهما خالد حين قسم الخيل بينهما أن يرتفعا من فوق القوم عن يمين وشمال ثم ينصبا على القوم ففعلا ذلك وأمرنا خالد أن نزحف الى القلب فزحفنا اليهم والله ما نحن الاثمانمائة وخمسون رجلا وأربعمائة رجل من مشجعة من قضاعة استقبلنا بهم يعبوب رجل منهم فكنا ألفا ومائتين ونيفا قال وكنا نظنّ انّ الكثير من المشركين والقليل عند خالد سواء لانه كان لا يملأ صدره منهم شىء ولا يبالى بمن لقى منهم لجراءته عليهم فلما دنوا منا شدّوا علينا شدّتين فلم نبرح ثم انّ خالدا نادى بصوت له جهورى شديد عال فقال يا أهل الاسلام الشدّة الشدّة احملوا رحمكم الله عليهم فانكم ان قاتلتموهم محتسبين بذلك وجه الله فليس لهم أن يواقفوكم ساعة* ثم انّ خالدا شدّ عليهم فشددنا معه فو الله

(2/232)


الذى لا اله الا هو ما ثبتوا لنا فواقا حتى انهزموا فقتلنا منهم فى المعركة مقتلة عظيمة ثم اتبعناهم نكردهم ونصيب الطرف منهم ونقطعهم عن أصحابهم ثم نقتلهم فلم نزل كذلك حتى انتهبنا الى مدينة بصرى فأخرج لنا أهلها الاسواق واستقبلوا المسلمين بكل ما يحبون ثم سألوا الصلح فصالحناهم فخرج خالد من فوره ذلك وأغار على غسان فى جانب من مرج راهط فى يوم فصبحهم فقتل وسبى* وعن أبى الخزرج الغسانى قال كانت أمى فى ذلك السبى فلما رأت هدى المسلمين وصلاحهم وصلاتهم وقع الاسلام فى قلبها فأسلمت فطلبها أبى فى السبى فعرفها فجاء المسلمين فقال يا أهل الاسلام انى رجل مسلم وهذه امرأتى قد أصبتموها فان رأيتم أن تصلونى وتحفظوا حقى وتردّوا علىّ أهلى فعلتم فقال لها المسلمون ما تقولين فى زوجك فقد جاء يطلبك وهو مسلم قالت ان كان مسلما رجعت اليه والا فلا حاجة لى فيه ولست براجعة اليه*

(وقعة أجنادين)
* ذكر سعد بن الفضل وأبو اسمعيل وغيرهما انّ خالد بن الوليد لما دخل الغوطة كان قد مرّ بثنية فجزعها ومعه راية ببضاء تدعى العقاب فسميت بذلك تلك الثنية ثنية العقاب ثم نزل ديرا يقال له دير خالد لنزوله به وهو مما يلى الباب الشرقى يعنى من دمشق وجاء أبو عبيدة من قبل الجابية ثم شنا الغارات فى الغوطة وبيناهما كذلك أتاهما أن وردان صاحب حمص قد جمع الجموع يريد أن يقتطع شرحبيل بن حسنة وهو ببصرى وانّ جموعا من الروم قد نزلت أجنادين وانّ أهل البلد ومن مرّوابه من نصارى العرب قد سارعوا اليهم فأتاهما خبر أقطعهما وهما مقيمان على عدوّ يقاتلا به فالتقيا فتشاورا فى ذلك فقال أبو عبيدة أرى أن نسير حتى نقدم على شرحبيل قبل أن ينتهى اليه العدوّ الذى صمد صمده فاذا اجتمعنا سرنا اليه حتى نلقاه فقال له خالد ان جمع الروم هذا بأجنادين وان نحن سرنا الى شرحبيل تبعنا هؤلاء من قريب ولكن أرى أن نصمد صمد عظيمهم وأن نبعث الى شرحبيل فنحذره مسير العدوّ اليه ونأمره فيوا فينا بأجنادين ونبعث الى يزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص فيوا فيانا باجنادين ثم نناهض عدوّنا فقال له أبو عبيدة هذا رأى حسن فأمضه على بركة الله وكان خالد مبارك الولاية ميمون النقيبة مجرّبا بصيرا بالحروب مظفرا فلما أراد الشخوص من أرض دمشق الى الروم الذين اجتمعوا بأجنادين كتب نسخة واحدة الى الامراء* أما بعد فانه قد نزل بأجنادين جمع من جموع الروم غير ذى قوّة ولا عدّة والله قاصمهم وقاطع دابرهم وجاعل دائرة السوء عليهم وشخصت اليكم يوم سرحت رسولى اليكم فاذا قدم عليكم فانهضوا الى عدوّكم بأحسن عدّتكم وأصح نيتكم ضاعف الله لكم أجوركم وحط أوزاركم والسلام ووجه بهذه النسخة مع انباط كانوا مع المسلمين عيونا لهم وفيوجا وكان المسلمون يرضخون لهم* ودعا خالد الرسول الذى بعثه منهم الى شرحبيل فقال له كيف علمك بالطريق قال كما تريد قال فادفع اليه هذا الكتاب وحذره الجيش الذى ذكر لنا انه يريده وخذ به وبأصحابه طريقا تعدل به عن طريق العدوّ الذى شخص اليه وتأتى به حتى تقدمه علينا بأجنادين قال نعم فخرج الرسول الى شرحبيل ورسول آخر الى عمرو بن العاص ورسول آخر الى يزيد بن أبى سفيان وخرج خالد وأبو عبيدة بالناس الى أهل أجنادين والمسلمون سراعا اليهم جرآء عليهم فلما شخصوا لم يرعهم الا أهل دمشق فى آثارهم فلحقوا أبا عبيدة وهو فى أخريات الناس فلما رآهم قد لحقوا به نزل فأحاطوا به وهو فى نحو من مائتى رجل من أصحابه وأهل دمشق فى عدد كثير فقاتلهم أبو عبيدة قتالا شديدا وأتى الخبر خالدا وهو فى أمام الناس فى الفرسان والخيل فعطف راجعا ورجع الناس معه وتعجل خالد فى الخيل وأهل القوّة فانتهوا الى أبى عبيدة وأصحابه وهم يقاتلون الروم قتالا حسنا فحمل الخيل على الروم فقذف بعضهم على بعض وتعقبهم ثلاثة أميال حتى دخلوا دمشق ثم انصرف ومضى الناس نحو الجابية وأخذ يلتفت وينتظر قدوم أصحابه ومضى رسول خالد الى شرحبيل فوافاه ليس بينه وبين الجيش الذى

(2/233)


سار اليه من حمص مع وردان الا مسيرة يوم وهو لا يشعر فدفع اليه الرسول الكتاب وأخبره الخبر واستحثه بالشخوص* فقام شرحبيل فى الناس فقال أيها الناس اشخصوا الى أميركم فانه قد توجه الى عدوّ المسلمين بأجنادين وقد كتب الىّ يأمرنى بموافاته هناك ثم خرج بالناس ومضى بهم الدليل وبلغ ذلك الجيش الذى جاء فى طلبهم فعجل المسير فى آثارهم وجاء وردان كتاب من الروم الذين بأجنادين أن عجل الينا فانا مؤمروك علينا ومقاتلون معك العرب حتى ننفيهم من بلادنا فأقبل فى آثار هؤلاء رجاء أن يستأصلهم أو يصيب طرفا منهم فيكون قد نكب طائفة من المسلمين فأسرع المسير فلم يلحقهم وجاؤا حتى قدموا على المسلمين وجاء وردان فيمن معه حتى وافى جمع الروم بأجنادين فأمروه عليهم واشتدّ أمرهم وأقبل يزيد بن أبى سفيان حتى وافى أبا عبيدة وخالدا ثم انهم ساروا حتى نزلوا بأجنادين وجاء عمرو بن العاص فيمن معه فاجتمع المسلمون جميعا بأجنادين وتزاحف الناس غداة السبت فخرج خالد فأنزل أبا عبيدة فى الرجال وبعث معاذ بن جبل على الميمنة وسعد بن عامر على الميسرة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على الخيل وأقبل خالد يسير فى الناس لا يقرّ فى مكان واحد يحرّض الناس وقد أمر نساء المسلمين فاحتزمن وقمن وراء الناس يدعون الله ويستغثنه وكلما مرّ بهنّ رجل من المسلمين رفعن أولادهنّ اليه وقلن لهم قاتلوا دون أولادكم ونسائكم* وأقبل خالد يقف على كل قبيلة فيقول اتقوا الله عباد الله وقاتلوا فى الله من كفر بالله ولا تنكصوا على أعقابكم ولا تهابوا من عدوّكم ولكن أقدموا كاقدام الاسد أو ينجلى الرعب وأنتم أحرار كرام قد أوتيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الاخرة ولا يهولنكم ما ترون من كثرتهم فانّ الله منزل رجزه وعقابه بهم وقال للناس اذا حملت فاحملوا* وقال معاذ بن جبل يا معشر المسلمين اشروا أنفسكم اليوم لله فانكم ان هزمتموهم اليوم كانت لكم دار الاسلام أبدا مع رضوان الله والثواب العظيم من الله وكان من رأى خالد مدافعتهم وان يؤخر القتال الى صلاة الظهر عند مهب الارياح وتلك الساعة التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب القتال فيها فأعجله الروم فحملوا عليهم مرّتين من قبل الميمنة على معاذ بن جبل ومن قبل الميسرة على سعيد بن عامر فلم يتخلخل أحد منهم ورموا المسلمين بالنشاب فنادى سعيد بن زيد وكان من أشدّ الناس يا خالد علام نستهدف لهؤلاء الا علاج وقد رشقونا بالنشاب حتى شمست الخيل فقال خالد للمسلمين احملوا رحمكم الله على اسم الله فحمل خالد والناس بأجمعهم فما واقفوهم فوقا فهزمهم الله فقتلهم المسلمون كيف شاؤا وأصابوا عسكرهم وما فيه وأصابت أبان بن سعيد بن العاص نشابة فنزعها وعصبها بعمامته فحمله اخوته فقال لا تنزعوا عما متى عن جرحى فلو قد نزعتموها تبعتها نفسى أم والله ما أحب ان لى بها معجرا من خمر النساء فمات منها رحمه الله وأبلى يومئذ بلاء حسنا وقاتل قتالا شديدا عظم فيه عناؤه وعرف به مكانه وكان قد تزوّج أم أبان بنت عتبة بن ربيعة وبنى عليها فباتت عنده الليلة التى زحفوا للعدوّ فى غدها فاصيب فقالت امّ أبان هذه لما مات ما كان أغنانى عن ليلة أبان وقتل اليعبوب بن عمرو بن ضريس المشجعى يومئذ سبعة من المشركين وكان شديدا جليدا فطعن طعنة كان يرجى أن يبرأ منها فمكث أربعة أيام أو خمسة ثم انتقضت به فاستأذن أبا عبيدة أن يأذن له فى المسير الى أهله فان يبرأ رجع اليهم فأذن له فرجع الى أهله بالعمر عمر المدائن فمات رحمه الله فدفن هناك وقتل سلمة بن هشام المخزومى ونعيم بن عدى بن صخر العدوى وهشام بن العاص السهمى أخو عمرو بن العاص وهبار بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن الطفيل الدوسى وهو ابن ذى النور وكان من فرسان المسلمين فقتلوا يومئذ رحمهم الله وقتل المسلمون منهم يومئذ فى المعركة ثلاثة آلاف واتبعوهم يأسرون ويقتلون فخرج فان الروم الى ايليا وقيسارية ودمشق وحمص فتحصنوا فى المدائن العظام*

كتاب خالد بالفتح الى أبى بكر رضى الله عنهما
وكتب خالد الى أبى بكر لعبد الله

(2/234)


أبى بكر خليفة رسول الله من خالد بن الوليد سيف الله المصبوب على المشركين سلام عليك فانى أخبرك أيها الصديق انا التقينا نحن والمشركون وقد جمعوا لنا جموعا جمة بأجنادين وقد رفعوا صليبهم ونشروا كتبهم وتقاسموا بالله لا يفرّون حتى يفنونا أو يخرجونا من بلادهم فخرجنا واثقين بالله متوكلين على الله فطاعناهم بالرماح شيئا ثم صرنا الى السيوف فقا رعناهم بها مقدار نحر جزور ثم انّ الله أنزل نصره وأنجز وعده وهزم الكافرين فقتلناهم فى كل فج وشعب وغائط فالحمد لله على اعزاز دينه واذلال عدوّه وحسن الصنيع لاوليائه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته* وبعث خالد بكتابه هذا مع عبد الرحمن ابن حنبل الجمحى فلما قرئ على أبى بكر وهو مريض مرضه الذى توفاه الله فيه أعجبه ذلك وقال الحمد لله الذى نصر المسلمين وأقرّ عينى بذلك* قال سهل بن سعد وكانت وقعة أجنادين هذه أوّل وقعة عظيمة كانت بالشأم وكانت سنة ثلاث عشرة فى جمادى الاولى لليلتين بقيتا منه يوم السبت نصف النهار قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه بأربع وعشرين ليلة* وذكر الطبرى عن ابن اسحاق انّ الذى كان على الروم تدارق أخو هرقل لابيه وأمه ثم ذكر عنه عن عروة بن الزبير قال كان على الروم رجل منهم يقال له القلقنار وكان استخلفه على امراء الشأم حين سار الى القسطنطينية واليه انصرف تدارق ومن معه من الروم* قال ابن اسحاق فأما علماء الشأم فيزعمون انه كان على الروم تدارق والله أعلم وعنه لما ترا آى العسكران بعث القلنقار رجلا عربيا فقال له ادخل فى هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة ثم ائتنى بخبرهم فدخل فى الناس رجل عربى لا ينكر عليه فأقام فيهم يوما وليلة ثم أتاه فقال له ما وراءك فقال له بالليل رهبان وبالنهار فرسان ولو سرق ابن ملكهم لقطعوا يده ولوزنى لرجم لاقامة الحق فيهم فقال له القلنقار لئن كنت صدقتنى لبطن الارض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها ولوددت أن الله يخلى بينى وبينهم فلا ينصرنى عليهم ولا ينصرهم علىّ ثم تزاحف الناس فاقتتلوا فلما رأى القلنقار ما رأى من قتالهم للروم قال للروم لفوا رأسى بثوب قالوا له لم قال هذا يوم بئيس ما أحب ان أراه ما رأيت لى من الدنيا يوما أشدّ من هذا قال فاحتز المسلمون رأسه وانه للملفف* وعن غير ابن اسحاق قال ثم ان خالد بن الوليد أمر الناس أن يسيروا الى دمشق وأقبل بهم حتى نزلها وقصد الى ديره الذى كان ينزل به وهو من دمشق على ميل مما يلى الباب الشرقى وبخالد يعرف ذلك الدير الى اليوم وجاء أبو عبيدة حتى نزل على باب الجابية ونزل يزيد بن أبى سفيان على باب آخر من دمشق فأحاطوا بها فكثروا حولها وحاصروا أهلها حصارا شديدا وقدم عبد الرحمن بن حنبل من عند أبى بكر بكتابه الى خالد والى يزيد قال فخرج خالد بالمسلمين ذات يوم فأحاطوا بمدينة دمشق ودنوا من أبوابها فرماهم أهلها بالحجارة ورشقوهم من فوق السور بالنشاب* قال ابن حنبل
فبلغ أبا سفيان عنا بأننا ... على خير حال كان جيش يكونها
فانا على بابى دمشق نرتمى ... وقدحان من بابى دمشق حينها
*

(وقعة مرج الصفر)
* سنة أربع عشرة قال فان المسلمين لكذلك يقاتلونهم ويرجون فتح مدينتهم أتاهم آت فأخبر انّ هذا جبش قد أتاكم من قبل الروم فنهض خالد بالناس على تعبيته وهينته فقدّم الاثقال والنساء وخرج معهن يزيد بن أبى سفيان ووقف خالد وأبو عبيدة من وراء الناس ثم أقبلوا نحو ذلك الجيش فاذا هو درنجان بعثه ملك الروم فى خمسة آلاف رجل من أهل القوّة والشدّة ليغيث أهل دمشق فصمد المسلمون صمدهم وخرج اليهم أهل القوّة من أهل دمشق وناس كثير من أهل حمص فالقوم نحو من خمسة عشر ألفا فلما نظر اليهم خالد عبىّ لهم أصحابه كتعبيته يوم أجنادين فجعل على ميمنته معاذ بن جبل وعلى ميسرته هاشم بن عتبة وعلى الخيل سعيد بن زيد وأبا عبيدة على الرجال وذهب خالد فوقف فى أوّل

(2/235)


الصف يريد أن يحرض الناس ثم نظر الى الصف من أوّله الى آخره حتى حملت خيل لهم على خالد بن سعيد وكان واقفا فى جماعة من المسلمين فى ميمنة الناس يدعون الله وانقض عليهم فحملت طائفة منهم عليه فقاتلهم حتى قتل رحمه الله وحمل عليهم معاذ بن جبل من الميمنة فهزمهم وحمل عليهم خالد بن الوليد من الميسرة فهزم من يليه منهم وحمل سعيد بن زيد بالخيل على معظم جمعهم فهزمهم الله وقتلهم واجتث عسكرهم ورجع الناس وقد ظفروا وقتلوهم كل قتلة وذهب المشركون على وجوههم فمنهم من دخل دمشق مع أهلا ومنهم من رجع الى حمص ومنهم من لحق بقيصر* وعن عمرو بن محصن ان قتلاهم يومئذ وهو يوم مرج الصفر كانت خمسمائة من المعركة وقد قتلوا وأسروا نحوا من خمسمائة أخرى* وقال أبو أمامة فيما رواه عنه يزيد بن زيد بن جابر كان بين أجنادين وبين يوم مرج الصفر عشرون يوما قال فحسبت ذلك فوجدته يوم الخميس اثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الاخرة قبل وفاة أبى بكر بأربعة أيام ثم انّ الناس أقبلوا عودهم على بدئهم حتى نزلوا دمشق فحاصروا أهلها وضيقوا عليهم وعجز أهلها عن قتال المسلمين ونزل خالد منزله الذى كان ينزل به على الباب الشرقى ونزل أبو عبيدة منزله على باب الجابية ونزل يزيد بن أبى سفيان جانبا آخر وكان المسلمون يغزون فكلما أصاب رجل نفلا جاء بنفله حتى يلقيه فى القيض لا يستحل أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا حتى انّ الرجل منهم ليجىء بالكبة الغزل أو بالكبة الصوف أو الشعر أو المسلة أو الابرة فيلقيها فى القيض لا يستحل أن يأخذها فسأل صاحب دمشق بعض عيونه عن أعمالهم وسيرتهم فوصفهم له بهذه الصفة بالامانة ووصفهم بالصلاة بالليل وطول القيام فقال هؤلاء رهبان بالليل أسد بالنهار والله مالى بهؤلاء طاقة ومالى فى قتالهم خير قال فراود المسلمين على الصلح فأخذ لا يعطيهم ما يرضيهم ولا يتابعونه على ما يسأل وهو فى ذلك لا يمنعه من الصلح والفراغ الا انه قد بلغه أن قيصر يجمع الجموع للمسلمين يريد غزوهم فكان ذلك مما يمنعه من تعجيل الصلح وعلى تعبيته تلك بلغ المسلمين الخبر بوفاة أبى بكر الصديق واستخلافه عمر بن الخطاب وما يتبعه ذلك من صرف خالد بن الوليد بأبى عبيدة بن الجراح وستجىء فى خلافة عمر رضى الله عنه*

(ذكر مرض أبى بكر ووفاته رضى الله عنه)
* عن عبد الله بن عمر قال كان سبب موت أبى بكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كمد فما زال جسمه يحرى حتى مات الكمد الحزن المكتوم* قال ابن شهاب انّ أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان حريرة أهديت لابى بكر فقال الحارث لابى بكر ارفع يدك يا خليفة رسول الله والله انّ فيها لسم سنة وأنا وأنت نموت فى يوم فرفع أبو بكر يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا فى يوم واحد عند انقضاء السنة كذا فى الصفوة* وفى الاكتفاء اختلف أهل العلم فى السبب الذى توفى منه أبو بكر فذكر الواقدى انه اغتسل فى يوم بارد فحمّ ومرض خمسة عشر يوما لا يخرج الى الصلاة وكان يأمر عمر بن الخطاب يصلى بالناس كذا فى الرياض النضرة* وقال الزبير بن بكار كان به طرف من السل وقال غيره أصل ابتداء ذلك السل به الوجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبضه الله اليه فما زال ذلك به حتى قضى منه* وروى عن سلام بن أبى مطيع انه رضى الله عنه سم وبعض من ذكر ذلك يقول انّ اليهود سمته فى أرزة وقيل فى حريرة فمات بعد سنة كما مرّ وقيل له لو أرسلت الى طبيب فقال قد رآنى قالوا فما قال لك قال قال انى أفعل ما أريد وكذلك اختلف فى حين وفاته* قال ابن اسحاق توفى يوم الجمعة لليال بقين من جمادى الاخرة سنة ثلاث عشرة* وقال غيره من أهل السير انه مات عشاء يوم الاثنين وقيل ليلة الثلاثاء وقيل عشاء الثلاثاء وهذا هو الاكثر فى وفاته* وفى الصفوة قيل ليلة الاثنين بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جمادى الاخرة* وفى التذنيب وشرح العقائد العضدية من جمادى الاولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة* وفى بعض الكتب بعد

(2/236)


مضى سنتين وستة أشهر من وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة وستة أشهر وأسلم وهو ابن سبع وثلاثين سنة وعاش فى الاسلام ستا وعشرين سنة وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس فغسلته فصى أوّل امرأة غسلت زوجها فى الاسلام وأوصى أن يدفن الى جنب رسول الله وقال اذا أنامت فحيئوابى على الباب يعنى باب البيت الذى فيه قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فادفعوه فان فتح لكم فادفنونى قال جابر فانطلقنا فدفعنا الباب وقلنا هذا أبو بكر الصديق قد اشتهى ان يدفن عند النبىّ صلى الله عليه وسلم ففتح الباب ولا ندرى من فتح لنا وقال لنا ادخلوا ادفنوه كرامة ولا نرى شخصا ولا نرى شيئا كذا فى الصفوة* وفى شواهد النبوّة سمعوا صوتا يقول ضموا الحبيب الى الحبيب* وفى الاكتفاء آخر ما تكلم به أبو بكر رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين* ولما توفى أبو بكر ارتجت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى عليه عمر بن الخطاب فى مسجد رسول الله بين القبر والمنبر وحمل على السرير الذى حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فى قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر ودفن ليلا فى بيت عائشة مع النبىّ صلى الله عليه وسلم وجعل رأسه عند كتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم* وفى الصفوة ولحده بلحده وجعل قبره مسطحا مثل قبر النبىّ صلى الله عليه وسلم ورش عليه بالماء كذا فى الاكتفاء* مروياته فى كتب الحديث مائة واثنان وأربعون حديثا* حكى ابن النجار انّ أبا قحافة حين توفى أبو بكر كان حيا بمكة نعى اليه قال رزء جليل وعاش بعده ستة أشهر وأياما وتوفى فى المحرم سنة أربع عشرة بمكة لسبع وتسعين سنة كذا فى الرياض النضرة*

(ذكر أولاد أبى بكر)
* وكان له من الولد ستة ثلاثة بنين وثلاث بنات أما البنون فعبد الله وهو أكبر ولده الذكور امه قتيلة ويقال قتلة دون تصغير من بنى عامر بن لؤى شهد فتح مكة وحنينا والطائف مع النبىّ صلى الله عليه وسلم وجرح بالطائف رمى بسهم رماه أبو محجن الثقفى واندمل جرحه الى خلافة أبيه بعد وفاة النبىّ صلى الله عليه وسلم وانتقض به فمات فى أوّل خلافة أبيه أبى بكر وذلك فى شوّال من سنة احدى عشرة ودفن بعد الظهر وصلى عليه أبوه ونزل فى قبره أخوه عبد الرحمن وعمر وطلحة بن عبيد الله اخرجه أبو نعيم وابن منده وأبو عمر وكذا فى أسد الغابة وترك سبعة دنانير فاستنكرها أبو بكر ولا عقب له كذا فى الرياض النضرة وعبد الرحمن ويكنى أبا عبد الله وقيل أبا محمد بابنه محمد الذى يقال له أبو عتيق وقيل أبو عثمان أمّه أم رومان بنت الحارث من بنى فراس بن غنم بن كنانة أسلمت وهاجرت وكان عبد الرحمن شقيق عائشة شهد بدرا وأحدا مع المشركين وكان من الشجعان وكان راميا حسن الرمى وله مواقف فى الجاهلية والاسلام مشهورة دعا الى البراز يوم بدر فقام اليه أبوه أبو بكر ليبارزه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متعنى بنفسك ثم منّ الله عليه فأسلم فى هدنة الحديبية وكان اسمه عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن وقيل كان اسمه عبد العزى وله عقب* وفى الاستيعاب ذكر الزبير عن سفيان بن عيينة عن على بن زيد بن جدعان انّ عبد الرحمن بن أبى بكر فى فئة من قريش هاجروا الى النبىّ صلى الله عليه وسلم قبل الفتح وأحسبه قال ان معاوية كان منهم وكذا فى أسد الغابة وشهد اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل سبعة من أكابرهم وهو الذى قتل محكم اليمامة بن الطفيل رماه فى نحره فقتله وكان محكم اليمامة فى ثلمة فى الحصن فلما قتل دخل المسلمون منها* قال الزبير بن بكار كان عبد الرحمن أسن ولد أبى بكر وكان فيه دعابة أى مزاح وشهد وقعة الجمل مع أخته عائشة* روى الزبير بن بكار انه بعث معاوية الى عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية فردّها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها وقال لا أبيع دينى

(2/237)


بدنياى وخرج الى مكة ومات بها قبل ان تتم البيعة ليزيد وكان موته فجأة سنة ثلاث وخمسين فى نومة نامها بمكان اسمه حبشى كصلبى جبل باسفل مكة قريب منها وقيل على نحو عشرة اميال من مكة وحمل على أعناق الرجال الى مكة* وفى الرياض النضرة أدخلته أخته عائشة الحرم ودفنته* وفى أسد الغابة ولما اتصل خبر موته باخته عائشة ظعنت الى مكة حاجة فوقفت على قبره فبكت عليه وتمثلت بقول متمم بن نويرة فى أخيه مالك
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
ولما تفرّقنا كأنى وملكا ... لطول افتراق لم نبت ليلة معا
أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث مت ولو حضرتك ما بكيتك وهذا يغاير ما سبق آنفا من رواية الرياض النضرة أدخلته أخته عائشة الحرم ودفنته وكان موته سنة ثلاث وخمسين كما مرّ وقيل سنة خمس وخمسين وقيل سنة ست وخمسين والاوّل أكثر* مروياته فى كتب الاحاديث ثمانية أحاديث ولا يعرف فى الصحابة أربعة ولاء أب وبنوه والذى بعد كل منهم ابن الذى قبله أسلموا وصحبوا النبىّ صلى الله عليه وسلم الا فى بيت أبى بكر الاوّل أبو قحافة اسمه عثمان بن عامر وابنه أبو بكر الصدّيق وابنه عبد الرحمن ابن أبى بكر وابنه محمد بن عبد الرحمن أبو عتيق وكذلك ثبت هذا فى ولد أسماء* ومحمد بن أبى بكر ويكنى أبا القاسم وكان من نساك قريش الا انه أعان على عثمان يوم الدار أمه أسماء بنت عميس الخثعمية وكانت من المهاجرات الاول وكانت تحت جعفر بن أبى طالب وهاجرت معه الى الحبشه ولما استشهد جعفر بمؤتة من أرض الشأم تزوّجها بعده أبو بكر فولدت له محمدا هذا بذى الحليفة لخمس ليال بقين من ذى القعدة سنة عشر من الهجرة وهى شاخصة الى الحج فى حجة الوداع مع النبىّ صلى الله عليه وسلم هى وأبو بكر فأمرها النبىّ عليه السلام أن تغتسل وترجل ثم تهل بالحج وتصنع ما يصنع الحاج الا انها لا تطوف بالبيت فكانت سببا لحكم شرعى الى قيام الساعة وزكاها النبىّ صلى الله عليه وسلم وبرأها من الفحشاء* ولما توفى أبو بكر عنها تزوّجها على بن أبى طالب فنشأ محمد بن أبى بكر فى حجر على بن أبى طالب وكان على راحلته يوم الجمل وشهد معه صفين وولاه عثمان فى أيامه مصر وكتب له العهد ثم اتفق مقتل عثمان قبل وصوله اليها وولاه أيضا علىّ مصر مكان قيس بن سعد بعد مرجعه من صفين*

ذكر مقتل محمد بن أبى بكر
وذكر فى تاريخ ابن خلكان وغيره انّ على بن أبى طالب ولى محمد بن أبى بكر الصدّيق مصر فدخلها سنة سبع وثلاثين من الهجرة وأقام بها الى ان بعث معاوية بن أبى سفيان عمرو بن العاص فى جيوش أهل الشأم ومعهم معاوية بن حديج بحاء مهملة مضمومة ودال مهملة مفتوحة وبالجيم فى آخره كذا ضبطه السمعانى فى الانساب وابن عبد البر وابن قتيبه* ووقع فى كثير من نسخ تاريخ ابن خلكان معاوية بن خديج بخاء معجمة مفتوحة ودال مكسورة وآخره جيم وهو غلط والصواب ما تقدّم فالتقى هو ومعاوية ابن خديج وأصحابه فاقتتلوا وانهزم محمد بن أبى بكر واختبى فى بيت مجنونة فمرّ أصحاب معاوية بن حديج بالمجنونه وهى قاعدة على الطريق وكان لها أخ فى الجيش فقالت تريد قتل أخى قال لا ما أقتله قالت فهذا محمد بن أبى بكر داخل بيتى فامر معاوية أصحابه فدخلوا اليه وربطوه بالحبال وجرّوه على الارض وأتوا به الى معاوية فقال محمدا حفظنى لابى بكر فقال له قتلت من قومى فى قصة عثمان ثمانين رجلا وأتركك وأنت صاحبه لا والله فقتله فى صفر سنة ثمان وثلاثين وأمر به معاوية انّ يجر فى الطريق ويمرّ على دار عمرو بن العاص لما يعلم من كراهته لقتله وأمر به أن يحرق بالنار فى جيفة حمار وعليه أكثر المؤرّخين* وقال غيره بل وضعه حيا فى جيفة حمار ميت وأحرقه وكان ذلك قتله وسبب ذلك دعوة اخته عائشة لما أدخل يده فى هودجها يوم وقعة الجمل وهى لا تعرفه فظنته اجنبيا فقالت من هذا الذى

(2/238)


يتعرّض لحرم رسول الله أحرقه الله بالنار قال يا اختاه قولى بنار الدنيا قالت بنار الدنيا ودفن فى الموضع الدى قتل فيه فلما كان بعد سنة من مدفنه أتى غلامه وحفر قبره فلم يجد فيه سوى الرأس فأخرجه ودفنه فى المسجد تحت المنارة ويقال انّ الرأس فى القبلة* قال وكانت عائشة قد أنفذت أخاها عبد الرحمن الى عمرو بن العاص فى شأن محمد فاعتذر بانّ الامر لمعاوية بن حديج ولما قتل رضى الله عنه ووصل خبره الى المدينة مع مولاه سالم ومعه قميصه فدخل به داره رجال ونساء فامرت أم حبيبة بنت أبى سفيان بكبش فشوى فبعثت به الى عائشة وقالت هكذا شوى أخوك فلم تأكل عائشة بعد ذلك شوى حتى ماتت* وقالت هند بنت شمس الحضرمية رأيت نائلة امرأة عثمان بن عفان تقبل رجل معاوية بن حديج وتقول بك أدركت ثارى ولما سمعت أمّه أسماء بنت عميس بقتله كظمت الغيظ حتى شخبت ثدياها دما ووجد عليه على بن أبى طالب وجدا عظيما وقال كان لى ربيبا وكنت أعدّه ولدا ولى أخا وذلك انّ عليا قد تزوّج امّه أسماء بنت عميس بعد وفاة الصدّيق ورباه كذا فى حياة الحيوان* وأما البنات فعائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها شقيقة عبد الرحمن تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبت لابى بكر بذلك أشرف الشرف فكانت احدى أمّهات المؤمنين وحظوتها عنده وشرف منزلتها وعظم رتبتها على سائر النساء مشهور حتى بلغ ذلك منه الى ان قيل من أحب الناس اليك يا رسول الله قال عائشة فقيل ومن الرجال فقال أبوها فكانت أحب الناس اليه مطلقا بنت أحب الناس اليه من الرجال وكيفية تزويجها وزفافها قد سبقت فى الركن الثانى والثالث وأسماء بنت أبى بكر شقيقة عبد الله وهى أكبر بناته وهى ذات النطاقين وقد تقدّم سبب تسميتها بذلك فى هجرة أبى بكر مع رسول الله وتزوّجها الزبير بن العوام بمكة وولدت له عدّة أولاد ثلاثة ذكور المنذر وعروة وهو احد الفقهاء السبعة المدنيين والمهاجر وثلاث اناث خديجة الكبرى وأمّ الحسن وعائشة ثم طلقها فكانت مع ولدها عبد الله بن الزبير بمكة حتى قتل وعاشت بعده قليلا وكانت من المعمرين بلغ عمرها مائة سنة ولم يسقط لها سنّ وعميت وماتت بمكة وقد تقدّم ما ثبت برؤية ولدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وروايته عنه لبيت أبى بكر من الشرف بوجود أربعة فيه بعضهم ولد بعض رأوا رسول الله ورووا عنه وأمّ كلثوم وهى أصغر بناته وفى المختصر أمّها نصرانية وهى التى قال أبو بكر فيها ذو بطن بنت خارجة أمّها حبيبة بنت خارجة بن زيد كان أبو بكر قد نزل عليه فى الهجرة وتزوّج ابنته وتوفى عنها وتركها حبلى فولدت بعده أمّ كلثوم هذه ولما كبرت خطبها عمر بن الخطاب الى عائشة فانعمت له وكرهت أمّ كلثوم بنت علىّ فاحتالت له حتى أمسك عنها وتزوّجها طلحة بن عبيد الله ذكره ابن قتيبه وغيره وجميع ما ذكر من كتاب المعارف ومن الصفوة لابى الفرج بن الجوزى ومن الاستيعاب لابى عمرو بن عبد البر ومن كتاب فضائل أبى بكر كل منهم خرج طائفة كذا فى الرياض النضرة*